العودة إلى فهرس المقدمة والتمهيد


الحمد لله على نعمة الخلق والهدى والقرآن:

بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربّ العالمين، لا شريك له ولا وسيط؛ الحمد له بذاته، وبجميع صفاته، وبربوبيته ورحمته للعالمين، الذي أحسن كلّ شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين. نحمده، ونستعينه، ونستغفره، مالك الملك، وخالق الخلق، الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية، والظاهر والباطن، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم، وهو على كل شيء قدير، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، والخير كلّه بيديه، والشرُّ ليس إليه. بعث النّبييّن وأرسَل المرسَلين، بشراً يوحى إليهم مبلّغين وشهداء، لا شافعين إلا بإذنه، لو شاء لجعل النّاس أمَّة واحدة، ولكن جعلهم مختلفين، وأحراراً مختارين، وبإرادتهم متسابقين، يَنعمُون إن شاؤوا بمعرفة وجوده بوجودهم، وأسمائه الحسنى بدعائهم، وصفاته الفضلى بفعله فيهم وفي العالمين. هيّأ لهم أسباب السّعادة قبل إيجادهم، ووعدهم بواسع النعيم، وابتلاهم بمعرفة الحقّ، وصاحب الفضل عليهم وطاعته، وتحدَّاهم باختبار صدق وعده ووعيده، وبشائره ونذره، وبالحفاظ على دوام فضله عليهم، بذكره وشكره والمسارعة إلى طلب المزيد، ليبلُوَهم أيُّهم أحسن عملاً؛ ثمّ إليه مرجعهم جميعاً في يوم الدّين، فرادى بلا أنساب بينهم ولا يتساءلون، فيحاسبهم بلا وسيط ولا شفيع، إلا مِن بعد إذنه، كلُّ نفس بما كسبت رهينة، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} الزلزلة؛ وقد قدّم إليهم بالوعيد، وأمرهم بالعمل الصّالح لأنفسهم، وبالعبادة التي فيها سعادتهم، وأن يستبقوا الخيرات استعداداً ليوم معادهم وخلودهم ومستقرّهم الأبدي، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} الأحزاب.

اللهمّ صلّ على محمّد وعلى وآل محمّد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنّك حميد مجيد. وارض اللهمّ عن أصحاب رسول الله والتابعين وتابعيهم، وعن إخوانه الذين يأتون مِن بعده، واجعلنا منهم ومعهم في رضوانك ورحمتك إلى يوم الدّين، وأدخِلنا معهم في جنّات النّعيم خالدين.

أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار، وبعد.

 

فإن ما أردنا قوله في هذا الكتاب هو: إن القرآن الكريم هو أحسن الكتب المنزّلة مِن كلام الله، وهو أحسن الحديث على الإطلاق، في لفظه ومعناه، وفصاحته وتأليفه وتشابهه في الحسن والمناسبة الوضوح، وعدم الاختلاف بوجه مِن الوجوه، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ (23)} الزّمر. وهو كلامٌ مبارك، وعطاؤه مستمرّ لا ينتهي إلى قيام السّاعة، وكلّما ازداد علمُ الإنسان ومعرفتُه، وارتقَت أحواله، ازداد طرديّاً عطاء القرآن، وارتقى خطابه. أنزلَه على رسوله ليُخرج به النّاس من الظّلمات إلى النّور، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} البقرة. ومن معجزات كمال كلام الله أنّه يسّره للفهم، قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)} الدّخان، فهو سهل الفهم على كلِّ مَن خاطبه إلى قيام السّاعة، وهو كلامٌ مُبين سهل الفهم والتدبّر على مَن سهّل الله عليه، وفتح له قلبه، واتّخَذ أسبابه، واتّبع سُبُلَه، كسهولة الحصول على كلّ الأشياء التي خلقها الله في هذه الحياة وسخّرها للإنسان إذا اتُخِذَت أسبابها، واتُّبِعت سُبُلها التي جعلها الله لها وفطرَها عليها. وهو خطابٌ ميسّر لكلّ النّاس صغيرهم وكبيرهم، جاهلهم وعالمهم، عربيِّهم وأعجميِّهم، أسودهم وأبيضهم، ذكرهم وأنثاهم، لا يُستثنَى منهم أحد، فجميعُهم مأمورون بقراءة كلامه صباح مساء، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، وأن يتَدبّروا آياته، فيعلَموا منها مُراد ربِّهم، وأنّه ما خلق هذا الوجود باطلاً، قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} آل عمران. وسيجد قارئ القرآن فيه من الأدلّة الوفيرة التي ساقها في ثناياه على سهولة كلامه، وواسع عطائه، وتكرار معانيه، وتجديد خطابه لكلِّ جيل، وكلِّ عقل وقلب وجسم حيّ، إلى قيام السّاعة، ما تقَرّ به عينُه وينشرح له صدره ويهتدي به قلبُه، ويعلمُ أنّ إعجاز القرآن بتجدُّد وتعدُّد طُرق فهمِه وتدبّر آياته وتفسيره، ودوام عطائه بلا نهاية، بإذن الله تعالى.

الفرق بين التّفسير والتّدبّر ثمّ العمل:

التفسير: في الّلغة من الفَسْرِ، وهو: الكشف والبيان عن المعاني باستعمال قواعد التفسير المعروفة عند أهل التفسير وهو عمل العقل، ومكانه وآلته العقل الرشيد المفكّر الذي يستخدم قواعد القرآن والّلغة والحديث ومناسبة النزول والآيات والحجج والبراهين العقلية، من أجل فهم وبيان وشرح المعنى، ويحتاج إلى علماء راسخون في العلم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} آل عمران، يعلمون براهينه بعقولهم ويتذكّرون أنّه من عند ربّهم المربّي لهم، له الأسماء الحسنى، وأنّه إله واحد، ثمّ يتدبّرون آياته بقلوبهم فيتّعظون، ويعملون بجوارحهم.

التدبّر: في اللغة هو: النظر إلى دُبُرِ الشيء، أي التأمّل في دَوَابِرِ الأمور المتوقّعة، بمعنى النّظر إلى عاقبتها، وما يمكن أن تؤول إليه، كما يدخل فيه النظر في دوابر الأمور الواقعة من قبل، لمعرفة أسبابها ومقدّماتها، ومكانه وآلته القلب المبصر غير المقفل، مأمور به كلّ النّاس، مؤمنهم وكافرهم، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} محمّد، فيُعرض الكافر ويتّبع المؤمن المتدبّر، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} النساء، فيجد المؤمن أنّ هُدى القرآن وآياته وعلومه وتعاليمه وأوامره ونواهيه وشرائعه واضحة لا لبس فيها ولا اختلاف ولا تعارض بينها وأنها الحقّ، فيؤمن بقلبه المبصر فيتّعظ، ويعمل بجوارحه باتباع الهدى لينال الجزاء.

وبعد ان يفسّر العقل المعاني، ويتدبّر القلب العواقب، وتعمل الجوارح بأمر العقل ومشيئة القلب، يقع الجزاء، فيكون لكلّ امريء ما نوى واختار من الصلاح والخير، أو الفساد والشرّ، ثمّ ما نال من الجزاء. فالعمل: مكانه الجسد، وآلته الجوارح، التي تعمل بأوامر العقل وقراره، وبمشيئة القلب ونيّته واختياره: وبالعمل الصالح أو الفاسد، والتجربة الصائبة أو الخاطئة. ويقع الجزاء على الأعمال، وتتحمل النفس الحيّة باجزائها الثلاثة (العقل والقلب والجسد) مجتمعة العواقب والنتائج.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

مقصد تنزيل القرآن الكريم:

 

ثمّ إن مقصد تنزيل القرآن الكريم هو تعريف الإنسان بخالقه، لكي يسعد بمعرفته، وبمعرفة أسمائه وصفاته. أنزله الله تعالى برحمته ورعايته وإنعامه ليعمل به قومٌ يُحبّهم ويحبّونه، فيهتدوا بهداه، ولا يخافوا مِن العمل في حبّه لومة لائم. وإنّ مقصد القرآن أيضاً أن يَعرِف الإنسان نفسَه، وأن يعلَم أنّ الله جعل سعادتَه في عبادَتِه، فقد هيّأ له أسباب السّعادة في الأزل قبل دخوله في الوجود، وقد أنعم عليه برعايته ورحماته جنيناً، ورفع عنه القلم طفلاً، فلمّا نَضجَ عقله وبلَغ الحُلم، تلا عليه آياته، وعلّمه الكتاب والحكمة، وفرض عليه العبادة ليُزكّيه، ويرفع في العلييّن درجته، كلّ ذلك بمجرّد الفضل والإحسان منه إليه من غير موجب، ولن يكافئ فضله شكر ولا عبادة أو طاعة، لأنّ عطاءه سابق على الهداية والطاعة، قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ (50)} طه، أي خلقه ثمّ هداه لما فيه صلاحه وسعادته؛ فالسّعيد من عرف الله فاتّقاه حتّى اجتباه، وسار على هديه فارتقى بنفسه حتّى أفلح بأن زكّاها، والشّقِيُّ مَن أعرض عن الهدى وبقي على جهله وفي الضّلالة، واتّبَع هواه، قد زيّن له الشّيطان سوء عمله، وزيّنَت له نفسه حبّ الشّهوات حتّى خاب بأن دسّاها.

وقد أمرنا تعالى أن نفهم كلامه العظيم، ونعلم مراده فيما يرضيه، وأن نسعد بمعرفته، ونستعين باسمه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ونستعيذ به ونلجأ إليه، ونتّصِف بجميل الصّفات، ونشكره على فضله الواسع المبارَك الكريم، حتّى ننجو برحمته فلا نهلك؛ فالقرآن هو الكلام الفصل وما هو بالهزل، كلام ميسّر سهل لمن أقبل عليه بقلبه يطلب الهدى، قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)} الدّخان، سهًّل لفظه ومعانيه ويسَّر فَهمه لعلَّهم يتَّعظون فيؤمنون، ونحن في هذا الكتاب عقدنا العزم بعد أن قطعنا مشواراً طويلاً في تعلّم هذا العلم الحقّ، على أن نشارك إخواننا ما تعلّمناه في مشوارنا هذا، مِن وسائل تدبّر القرآن، الذي فيه معرفة الله الحقّ كما وصف نفسه، فنسعد بوجوده، ونثني عليه، ونسبّح بحمده، ونعظّمه، ونسير على هديه إلى الصّراط المستقيم، ونعبده وحده كما أمرنا بعبادته، وننتهي عن الشّرك وعن معصيته، وعن طاعة الشّيطان الرّجيم كما نهانا، ثمّ نعمل على تسهيل فهم كتابه وكشف أسراره، وفتح الأبواب التي تعين على تدبّره وتفسيره؛ ندعو الله أن يعيننا على ما قصدناه مِن خدمة كتابه، وتشجيع النّاس على الإقبال على الاستمتاع بتلاوته وتدبّر معانيه وآياته، إنّه قريب مجيب.

الأمر بتدبّر القرآن وتوبيخ من لا يتدبّره:

ثمّ إنّ عِلم تدبّر وفهم معاني القرآن هو مِن أعظم العلوم المقصودة لذاتها، يتطلّع النّاس بأمر الله تعالى إلى تحصيلها على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم وتعليمهم وثقافاتهم ولغاتهم، فقد أمرنا الله تعالى جميعنا بتدبّر كتابه وآياته، فقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (29)} ص، كما وبّخ سـبحانـه مَن يقرأ القرآن ولا يتدبـَّره، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} محمد. إنّ فهم القرآن الكريم هو أعظم عِلم يتعلَّمه الإنسان، فهو كلام الله العليم، وهُداه إلى الصّراط المستقيم، وهو حبلُه المتين، والنّور المبين والشّفاء النّافع، عصمة لمن تمسّك به ونجاة لمَن اتّبعه، أنزله على رسوله، فيه تذكرة للمتّقين، وإنذار للكافرين، وفيه الفطرة التي فطر الله النّاس عليها، وفيه حبّ الخير وكراهية المنكر، وفيه الأمر بالمعروف والنّهي عن الشّرّ، وهو الحق المصدِّق لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه، وهو النّبأ العظيم والخبر اليقين، فيه قصّة خلق آدم ونفخ الرّوح فيه، وفيه نبأ عداوة إبليس، وخبر الأوَّلين والآخِرين، أنزله الخبير بشؤون عباده، الحكيم بتدبير أمورهم، السّميع لكلامهم، البصير بأعمالهم، سيحاسبهم ويجازيهم على ما اقترفَته أيديهم، مَن تمسّك بما فيه نجا مِن المهالك، ومن اهتدى بهديه اهتدى إلى النّعيم.

 

وقد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات، أي: إنما خلقتُهم لآمرَهم بعبادتي، لا لاحتياجي لهم؛ وقال ابن جُرَيج: إلا ليعرفون؛ ففسّر العبادة بالمعرفة. فإنّما يعبدُ الله حقّ عبادته من يكون عارفاً به، وأمّا من لا يعرِفُه فكأنّه يعبُد ربّاً سِواه. لقد خلق الله الإنسان وخلق فيه صفة التعلّمِ وعلّمه، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31)} البقرة؛ ثم هداهُ فعرف ربّه تعالى فأحبّه وأطاعه. أحبّه بعقله فاختار الحق وترك الباطل، وتحرّكت أشواقه بحبّه فتعلّق قلبه بعبادته، ثمّ أتْبَعَ محبّتَه بطاعته والعمل بما يرضيه بجوارحه؛ وعبده وأحسن خلافته في أرضه، باتّباع هدي رسوله وتقليد عظيم صفاته، واتّباع أمره سبحانه بالرحمة والهدى والإبداع وحسن الخلق والعدل والعون والجزاء والإحسان وغيرُها مما يحبّه تعالى من صفات الكمال والجمال وجليل صفاته، وبالإعراض عن كل ما نهى عنه سبحانه من صفات الظّلم والبغي والفساد في الأرض وغيرها مما يُبغضه تعالى من صفات الشرك والكفر والإثم وكلّ ما فيه سَخطُه تعالى والبعد عن رضوانه.

 

إن عُمْر الإنسان في خلافته على الأرض هو زمان محدود ووقت قصير معلوم وأجل مسمى: وأنّ الله سبحانه لم يخلقه فيها عبثاً ولا لعباً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} الأنبياء. فكلّ دقيقة بل كلّ ثانية من ثواني حياة الإنسان لها قيمة، إذا استغلّها في مراد الله ملكها وارتقى بها إلى ما بعدَها من الدّرجات العلى، إلى أعلى علييّن، وإذا أهدرها ضاعت منه، وهوى بضياعها إلى الدّركات الدّنيا، وما بعدها إلى أسفل سافلين. يولد الإنسان لا يعلم شيئاً فيعلّمُه الله ليرتقي، ثم يموت وعندَه من العلم الكثير، أو قد يبقى غارقاً في أهوائه وشهواته لا يعلم شيئاً كالحيَوانات؛ ويولد عارياً ولا يملك من أمر نفسه شيئاً، ثم يموت تاركاً خلفه البيوت والقصور والأموال والأولاد؛ ويولد على الفطرة بين الخير والشّرّ ثمّ يموت إما خيّراً وإما شرّيراً؛ فالوقت للإنسان هو: علم ومعرفة للحق، وبناء واستعمار للأرض، ونماء وزكاة في الأخلاق.

إن أردت أن يرحمك الرحمن فأطع الله والرسول، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} آل عمران، فالله اختار لك الحقّ وهداك إلى الصّراط المستقيم، ونهاك عن الباطل وعن اتّباع سبُل الهوى والضّلال؛ النّعيم والسّعادة والفلاح باختيار الله وهو الحقّ، والجحيم والشّقاء والخسران باتّباع سبُل الضّلال وهي الباطل؛ أنت أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن تختارَ الحقّ فتزكو وتنمو علماً وبناءً وأخلاقاً، أو تختارَ الباطل فتدسو أو تهبط جهلاً وفساداً ودماراً، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس.

ثمّ إنّي لأدعو وأرجو أن يجعل الله للنّاس ولي في هذا الكتاب الخير الكثير، وقد جاء تبويبه (عن غير قصد منّي) على ثمانية أبواب، وفي هذا العدد والتّبويب استبشاراً بالعدد ثمانية: الذي جعل الله فيه الخير لأوليائه، والشرّ على أعداءه، لأنّ عدد أبواب الجنّة ثمانية، كما في الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنّ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنّ عِيسَىَ عَبْدُ اللّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنّ الْجَنّةَ حَقّ، وَأَنّ النّارَ حَقّ، أَدْخَلَهُ الله مِنْ أَيّ أَبْوَابِ الْجَنّةِ الثّمَانِيَةِ شَاءَ” رواه البخاري ومسلم. ووصف تعالى نفسه بأنّه {رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وقد اجتمعت صفتي الرأفة ثم الرحمة في القرآن ثمان مرّات، وهي ثمانية أحرف؛ ولأنّ عدد حملة العرش ثمانية، قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)} الحاقّة؛ والصِفات التي يحبها الله تعالى في عباده هي ثمانية: وهي المحسنين، والمتّقين، والتّوابين، والمطهّرين، والصّابرين، والمتوكّلين، والمقسطين، والذين يقاتلون في سبيل الله صفاً؛ وأنزل الله من الأنعام ثمانية أزواج، قال تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ (6)} الزّمر؛ وأنزل الله الخير على موسى في الأمان والزّواج والرّزق بأن يعمل ثماني حجج، قال تعالى: {أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (27)} القصص؛ وتكرّر قوله تعالى: {كُن فَيَكُونُ} ثمان مرّات، أي إذا أراد الله شيئاً فإنمّا يقول له {كُن فَيَكُونُ}؛ وأهلك الله قوم عاد في ثمانية أيّام، قال تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)} الحاقّة.

أعلى الصفحة Top