العودة إلى فهرس المقدمة والتمهيد


تمهيد عن بداية الخلق ونهايته:

وفيما يلي نبدأ حديثنا في هذه المقدمة لكتاب “تسهيل فهم وتدبّر القرآن” بعد بسم الله الرحمن الرحيم، بتمهيد عن بداية الخلق وخلق الكون ومراحل وجود الإنسان، ولماذا خُلق، كما ذكر في القرآن، ثم يليه نظرة عامّة إلى القرآن كاملاً، ثم ندخل في الجزء الأوّل حول بيان أبواب تسهيل فهم القرآن الثمانية ككل وبشكل عام لكي نرى الصورة الكاملة لموضوعات القرآن ومقاصده قبل أن ندخل في تفاصيلها من خلال السّور في الجزء الثاني وهو كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن. وقد صيغت هذه المقدمة مع الجزء الأول بطريقة موجزة لكنّها شاملة لكلّ موضوعات الكتاب تغني قارئها عن قراءة التفاصيل في الجزء الثاني “تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن” إن شاء ذلك، وبنفس الوقت تعينه على قراءة كامل كتاب “تسهيل فهم وتدبّر القرآن” بجزئيه كاملين بأسلوب محفّز ومشوّق ومرشد في آن واحد.

من المناسب قبل أن نبدأ بيان أبواب تسهيل فهم وتدبّر القرآن الثمانية أن نقدم تمهيداً موجزاً عن مراحل خلق الكون وخلق الإنسان وتكوينه وصفاته وخصائصه ومميزاته، ومقصد وجود الإنسان وماضيه وحاضره ومستقبله (الذي هو موضوع القرآن)، ثم ندخل مباشرة في صلب الموضوع.

0.5.0- بداية الخلق ونهايته:

0.5.0.1- بداية خلق الكون والإنسان: قال صلى الله عليه وسلم: “كانَ اللَّهُ ولَمْ يَكُنْ شَيءٌ قَبْلَهُ” ، وفي رواية “ولَمْ يَكُنْ شَيءٌ غَيْرُهُ” رواهما البخاري. قضى الله سبحانه الذي: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} الأنبياء، أن يخلق هذ الكون من العدم، فقال له كن فكان. وأوّل مخلوقات الله القلم، الذي كتبت به مقادير الخلق، لحديث عبادة بن الصامت، قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ أولَ ما خلق اللهُ القلمُ، فقال لهُ: اكتبْ، قال: ربِّ وماذا أكتبُ؟ قال: اكتُبْ مقاديرَ كلِّ شيءٍ حتى تقومَ الساعةُ” رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وخلق الله الماء والعرش، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال صلى الله عليه وسلم: “كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ” صحيح مسلم، أي كتب المقادير بعد خلق العرش، وقال ابن حجر: فيجمع بين هذا الحديث وبين ما قبله بأن أوليّة القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة. ثم خلق الله السماوات والأرض ليبلو النّاس أيّهم أحسن عملاً، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)} هود، أي خلق السماوات والأرض ليبتليهم بأعمالهم. وهذا يؤكّد بأن الله تعالى ما خلق كلّ هذه المخلوقات العظيمة إلا ليختبر وهو أعلم عمل الناس بطاعته وعبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات. فالماء والعرش والقلم هي أوّل ما ابتدأ الله سبحانه بها الخلق، كما أخبرنا بذلك القرآن والحديث الصحيح، ثم تلاه خلق السماوات والأرض وغيرهما من المخلوقات لتعبد الله وحده وتسجد له، فكان الماء هو بداية الحياة، والاستواء على العرش بداية كشف ومعرفة الأسماء الحسنى والصفات وآيات الرحمة والتدبير، والقلم بداية علم الغيب والحفظ والبيان، كما يلي:

– الماء: الله تعالى جعل من الماء كلّ شيء حي، فلا حياة بدون ماء، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} الأنبياء، وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} النور.

– العرش: قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} طه، {الرَّحْمَن} ذي الرحمة العامة، {عَلَى الْعَرْشِ} بأسمائه الحسنى لا إله إلا هو وصفات كماله وجماله وجلاله ليس كمثله شيء، {استوى} لا إله إلا هو رب العرش العظيم، ورب العرش الكريم، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أخذ في تدبير ذلك منفرداً، فكشف بهذا لمخلوقاته عن علمه وحلمه وحكمته وخلقه وملكه ورحماته وتدبيره وأسمائه الحسنى وصفاته، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3)} يونس، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} الأعراف، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} الحديد.

– القلم: قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} العلق، وأوّل ما نزل من القرآن قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} العلق، أشارت بذلك إلى مقصد خلق الإنسان، وهو تكريمه بنعمة العلم بالقلم، وهي أوّل أمر بالتعلّم، وأوّل تكليف بقراءة القرآن مفتتحاً ومستعيناً {بِاسْمِ رَبِّكَ}، وأوّل تعريف على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى بأنه الخالق، لا خالق إلا هو خلق الإنسان، وأنّه الربّ ربّاه منذ كان علقاً، وأنّه الأكرم أكرمه بنعمة العلم لا لعوض أو حاجة دعتهُ إلى ذلك، وعلّمه بالقلم: القراءة والكتابة وأسمائه تعالى الحسنى وعلوم الغيب وصفات الإنسان ومصائر الأمم وغيره، فبلغ بعلمه مبلغاً لم يبلغهُ سواه، وهي نعمة بعد القرآن من أعظم النعم. وثاني ما نزل من القرآن هو: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} القلم، أقسمت بالقلم الدّال على العلم وما يسطرون به من أنواع الكلام، على براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون، بل هو يستحق الأجر على تبليغ رسالة ربّه، وخُلقه العظيم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} القلم. وبالقلم والقرآن علمنا أن الله تعالى عرض الأمانة على كلّ مخلوقاته وحملها الإنسان ليحاسب ويجازى على ذلك، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} الأحزاب.

0.5.0.2- الحياة على هذه الأرض والعوالم الأخرى | مقصد الوجود ومقصد خلق الإنسان: كان الله تعالى ولم يكن معه شيء، وخلق هذه العوالم ليُعرف ويُعبد، لا لاحتياجه لأحد منها، وخلق الإنسان في أحسن تقويم ليُسعده ويرفع درجته فوق مخلوقاته بعمل العقل والقلب والجسد مجتمعة. ابتدأ تعالى الخلق بالماء والعرش والقلم، ثمّ خلق الملائكة والسماوات والأرض والجبال وما بينهما والإنس والجنّ، فأطاعت كلّ المخلوقات وسبّحت بحمد ربها وسجدت، وأبت الإنس (والجنّ) إلا أن تحمل أمانة الطاعة والعمل باختيارها، وهو أعلم بما هم فاعلون، فابتلاهم بالتكاليف والأعمال اختباراً ليقيم عليهم الحجّة وليعلم أيّهم أحسن عملاً، ثمّ يجازيهم بأعمالهم، فمن عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وعبده وأطاعه وعمل صالحاً فهو خير ما خلق الله وله الثواب والفضل والرّضى باختياره، ومن بقي على الجهل وعبد غيره وعصى وأفسد فهو شرّ ما خلق الله وعليه العقاب العادل واللعنة باختياره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} البينة. صدق الله العظيم.

الله الذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيام، ويدبّر الأمر من السّماء إلى الأرض، عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم، الذي أحسن كلّ شيء خلقه، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)} السجدة، الذي خلق العوالم كلّها التي نعلمها والتي لا نعلمها، ولا يحيط بعلمها كلّها إلّا هو سبحانه ربّ العالمين. كلّ العوالم والمخلوقات خُلقت لتعرفه فتطيعه وتسبّحه وتعبده وحده لا شريك له وتسجد له، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} الإسراء، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} النحل، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ (18)} الحج، {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)} الرحمن.

كل ما على هذه البسيطة يعرف الله تعالى ويطيعه ويعبده ويسبّحه ويسجد له طوعاً وامتثالاً لأمره، إلّا الإنس (والجانّ)، أرادا العبادة والتسبيح والسجود اختياراً، وقد عرض سبحانه وتعالى الأمانة على المخلوقات وهي دخان بعد اليوم الرابع ، قال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} فصلت. وقد قبل الإنسان هذه الأمانة لأنّ طبيعته التي خلقه الله عليها والمركّبة من العقل والقلب والجوارح تتناسب مع قبول تكاليفها، فعرضت عليه عرض تخيير، وكذلك الجانّ (لكن لا نعلم متى وكيف) وعرضت على غيرهم عرض إلزام، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)} الأحزاب، أي خلق هذه العوالم ليُعرف ويطاع ويُعبد، ثمّ يجازيها بالعدل، والفضل، والثواب، والعقاب.

لذلك فالعوالم كلّها والمخلوقات كانت على نفس المستوى من الالتزام بالطّاعة والتّسبيح والسّجود لله تعالى كما أمرها، راضية بطاعته وسعيدة بتسخيره، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} فصلت، لكن مع بعض الاختلاف في ما وهبها تعالى من الخلق والفطرة والعمل والتسخير، وبما فضّل الله به بعضها على بعض، وكذلك الإنسان والجانّ، فقد علمنا من القرآن بأنّ الإنسان تميّز عن كل ما عداه بانّه مخيّر باتباع الصراط المستقيم (أي: طاعة الله) فترتفع درجاته بصدق نيّته وتوجهه وعمله، أو تهبط باتباع سبل الضلال، ما بين أعلى عليّيّن وهم خير ما خلق الله {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} البيّنة، أو أسفل سافلين وهم شرّ ما خلق الله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} البيّنة.

اللهم ارفع درجاتنا إلى أعلى عليّين مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، آمين.

0.5.0.3- نهاية الدنيا وبداية الآخرة | نهاية العالم وهذا الكون المنظور: ثم بعد اكتمال هذا الخلق العظيم وانتهاء مقصد وجوده، وهو الابتلاء بالعبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات، يفنيه الله تعالى فلا يكون شيئاً، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} القصص، وقال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} الأنبياء، قال ابن عباس: نهلك كلّ شيء ونفنيه كما كان أوّل مرة، قيل أنه فناء إلى العدم كما كان عدماً أوّل مرة، وقيل أنّ الأجزاء المتفرّقة تبقى موجودة ثم تركّب تركيباً آخر، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} الزمر، فحال كونها مطويّة تكون موجودة. ثمّ يعيد الله الخلق إلى الوجود مرّة أخرى بعد الفناء للحساب والجزاء، قال تعالى: {وَنُفِخَ في الصور فَصَعِقَ مَن في السموات وَمَن في الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68)} الزمر، وقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} إبراهيم، فيعاد الخلق مرّة ثانية لكن على غير ما كان عليه في المرّة الأولى، لتَبدّل وظيفته وغرض وجوده، الزّمان غير الزّمان، والأرض غير الأرض بلا جبال ولا أودية ولا معالم، بيضاء عفراء لم يسفك عليها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة، وكذلك تبدّل الأجساد فلا تفنى ولا تمرض ولا تموت، تعود للحساب والجزاء والخلود إما في الجنّة أو النّار، قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)} الزمر. ثمّ يؤتى بالموت ثمّ يذبح وعندها يكون المستقر النهائي للناس والخلود أبداً إما في الجنّة أو في النّار، قال صلى الله عليه وسلم: “إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ” رواه البخاري ومسلم.

وبهذا نعلم أنّ الله تعالى قد خلق الكون لمقصد واحد وهو اختبار الإنسان بالعلم والعمل، مصداقاً لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)} هود. بدأ الخلق بثلاثة مخلوقات، هي: الماء والعرش والقلم، وخلق الإنسان من ثلاثة مكوّنات، هي: الجسد والقلب والعقل، اكتسبت الحياة بنفخ الروح التي هي من أمر الله والتي احتفظ تعالى بعلمها عنده ولم يكشف لأحد سرّها، وبوجودها وجدت الحياة. وبهذه المكوّنات مجتمعة يعبد الإنسان الله تعالى، ويتعلّم أسماءه الحسنى وصفاته، ويؤمن بالغيب فيطيع الله ربّه ويعمل بما أمره به ليترقّى ويتزكّى في الدنيا وينال الجزاء العادل الخالد يوم القيامة. كلّ هذا كان بما قضى به الله قبل أن يخلق الخلق، يوم قال كن فكان، ووضعت به المقادير وجرى به القلم وثبت في اللوح المحفوظ، وعلمناه بما أوحى به سبحانه في قرآنه المجيد، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} الأنعام، وقال: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} البروج. صدق الله العظيم.

0.5.0.4- مادّة الكون: يتألّف هذا الكون الذي نعيش فيه من ثلاثة أشياء مختلفة، وهي: معنويّة يعلمها العقل بالعلم بالقلم، ومادّية حسّيّة نراها ونلمسها في خلق الحياة من الماء، ومعنويّة ومادّية وهي خلق السّماوات والأرض وما بينهما من أحياء وجمادات وأشياء نتجت عن خلق العرش ويتحقّق بمشاهدتها ومراقبتها والتعايش معها معرفة الأشياء والأسماء والصّفات ويطمئن لرؤيتها القلب. عندئذ يختار القلب ما يريد، ثمّ يزن العقل الأمور ويحسّنها لتتناسب مع اختيار القلب، ثمّ تعمل الجوارح بما اختاره القلب وحسّنه العقل. (وهذا لا يشمل الرّوح التي تحصل بها الحياة ولا يعلم كنهها إلا الله)

الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليُعرف ويُعبد على علم واختيار، والعملية الاختيارية تحتاج إلى معرفة وتجربة وبصيرة، فبدأ الخلق بثلاثة أشياء: القلم والماء والعرش، القلم للعلم والماء لخلق الدّواب وكل شيء حيّ والعرش لما هو ليس بالقلم ولا بالماء، أي أنّ العرش منه الأشياء التي لا هي من القلم ولا من الماء، نحن لا نعلم ما هي مادّة العرش لكن نعلم بعض صفات الأشياء التي نتجت عن العرش، كخلق السّموات والأرض وما بينهما من الأشياء المادّية والمحسوسة، ومنها بدأ الإنسان يتعرّف على أسماء الله وصفاته. فالعرش هو شيء مادّي أو أشياء مادّية، وهي كلّ ما دون الماء والقلم، وهو ما بدأ منه خلق السّماوات والأرض وما بينهما من مخلوقات حيّة وغير حيّة وطاقة وزمان ومادّة معتمة وجميع الأشياء في هذا الوجود، ومن خلال تسخيرها وتدبّرها يعرف الإنسان صفات الله: أنّه الله الرّب الخالق الرّازق الرّحيم العزيز الكريم المدبّر العادل وغيره، إذن خلق الله العرش ليعلم القلب ويرى بالبصيرة أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته عن طريق تجربة عمليّة وممارسة حقيقيّة أو تجربة مادّية يصل منها إلى الأسماء والصّفات المعنويّة. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)} الروم، أي أنّ تفكّرهم في أنفسهم دليل على خلق السّماوات والأرض (ويكمن فيه كذلك دليل على خلق العرش) وكلّ ذلك دليل على أنه لا بدّ بعد هذا التكليف وهذه الحياة المؤقتة إلى أجل مسمّى من لقاء وبقاء بالحق وحساب وجزاء، وسورة الرّوم تحثّ على التفكر والنظر في الأنفس والسماوات والأرض والخلق وإعادة الخلق وهكذا، وقد قدّمت الآية هنا دليل الأنفس على دليل الآفاق، وفي قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53)} فصلت، قدّمت دليل الآفاق على دليل الأنفس (ويكمن فيه كذلك تقدّم دليل أو آية العرش على آية الآفاق وعلى آية الأنفس) وعلى لقاء ربّهم بالحقّ، والحق هو الخلود في النعيم ومحبّة الله وهو نقيض الباطل الذي هو الفناء والعبث، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} المؤمنون.

الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى العرش ولا القلم ولا الماء، هذه الأشياء خلقها لأنه سبق في علمه أنّ الإنسان يحتاج في وجوده إلى وجودها ليحيا ويتعلم ويتزكّى ويعرف الله تعالى ويحبّه، فيصير بذلك خير البريّة لا شرّ البريّة. يحتاج أن يتعلم بالقلم وأن يجرّب ويعمل بنفسه ويرى أسماء وصفات الله بقلبه، العرش والقلم والماء نشأت منها الحياة وهي نفسها مصادر العلم والمعرفة ومحبّة الله وبها مجتمعة تتحقق سعادته بالحياة ومعرفة أسماء الله وعبادته ومحبّته والقرب منه. فالعلم والإيمان الغيبي بالعقل فقط، والعلم اليقين يحصل بالممارسة والتجربة، فيطمئن القلب لأنّه يحتاج إلى التجربة ورؤية الأحداث، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي (260)} البقرة، أي القلب حاسّة تؤمن برؤية الأشياء وتعقل بالممارسة وتفقه بالتجربة وتبصر الحقائق بعين بصيرتها، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} الحج، ولأنّ القلب هو مكان الاختيار فبدون رؤية كيفيّة تحقق أسماء الله وصفاته فسوف يعجز عن اختيار الحق. والواقع أنّ السّماوات والأرض وما بينهما هي ميدان العمل والتجربة التي يبصر بها القلب تحقق أسماء الله وصفاته عين اليقين، فيحبّ منها ويكره ثمّ يختار ما يشاء من الصّلاح أو الفساد ثم يحاسب ويجازى بحسب اختياره.

مقصد خلق الإنسان هو السّعادة بثلاثة أشياء: الحياة ومعرفة أسماء الله وعبادته ومحبّته والقرب منه، ولتحقيق هذا المقصد خلق الله ابتداءاً في هذا الكون ثلاثة أشياء: الماء والعرش والقلم، ثمّ خلق ما يقابلها في الإنسان ثلاثة أشياء: الجسد والقلب والعقل. فبالقلم يسعد الإنسان بمعرفة ربه (عقلاً) وبالماء يسعد بنعمة وجوده حيّاً وعبداً لله (جسداً) وبالعرش يسعد بمحبّة ما يراه ويدركه من الأشياء والأسماء والصفات (قلباً). وجعل الله الدّين (والصراط المستقيم) طريقاً للسّعادة من ثلاث مراحل أو درجات وهي الإسلام (عمل الجوارح) والإيمان (بالغيب عمل العقل) والإحسان (عمل القلب). ولأن الإنسان رضي بأن يحمل أمانة التكليف اختياراً واختباراً، أمره الله في الدّنيا بثلاثة أعمال: العلم (بالعقل) والعمل (بالجسد) والحبّ (بالقلب)، وسخّر له ثلاثة مخلوقات يحفظونه من أمر الله: الملائكة والسّماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وسلّط عليه ثلاثة أعداء: الجهل والنفس والشيطان.

مادّة الماء يدركها الإنسان بحواسّه ويدرك أنّ الحياة لا تحدث إلا بالماء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} الأنبياء، ومادّة القلم يدركها بالكلام الصّادر عنها، قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} العلق، وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} الكهف، وقد تكون مادّة القلم من مداد أو نور يكتب على اللوح المحفوظ أو على عقل الإنسان وقلبه أو على الصبغات الوراثية أو غير ذلك أو كلّه، والكلام يحكي ويصف واقع محسوس في الماضي والحاضر والمستقبل وهو معنوي وهو عمل العقل، ومادّة العرش يدركها من الوجود والكون المحيط، منها أسباب محسوسة أو موصوفة بحجم العرش وأنه سقف الجنّة وتحمله ثمانية ومنها أسباب معنويّة تظهر بوجودها أسماء الله تعالى وصفاته، والقلب يرى الأسماء والصفات، قال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)} الحشر، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)} البقرة، فإبراهيم عليه السّلام آمن بعقله بعلم الغيب وهو إحياء الموتى لكن قلبه لا يطمئن حتى يرى ذلك عمليّاً ومادّياً بتجربة إحياء الموتى، وهكذا. والله أعلم.

اللَّهمَّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً. اللَّهمَّ إنّا نسألُكَ عِلماً نافعاً وقلباً خاشعاً ورزقاً طيِّباً وعملاً متقبَّلاً.

0.5.0.5 – الفرق بين المشيئة والإرادة:

المشيئة: تعني الإيجاد، فمن شاء أوجد أو فعل؛ أمّا الإرادة: فتعني طلب الشيء، ومن أراد طلب. والمشيئة كذلك تقتضي الوجود بمعنى: “مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ”، وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} التكوير، وهي ليست كالإرادة فالإرادة لا تقتضي الوجود لأنّ الله يريد من النّاس أن يعبدوه ولكنهم لا يفعلون، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} النساء.

ولأنّ الله خالق كلّ شيء فهو خالق ما أراد، أمّا الإنسان المخلوق ففعله يتحقق بمشيئة الله، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99)} يونس، أي لو كان خَلق ربّك الإيمان في النّاس جميعاً لآمنوا، غير أنّه من سنّته أن لا يجبرهم بل أعطاهم حريّة الإختيار، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} إبراهيم، أي: بعد البيان وإقامة الحجّة عليهم يُضل من يختار الضلالة، ويهدي من يختار الهداية، وقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} الأنعام، يقول المشركون لو أوجد الله فيهم الهداية ما أشركوا ولا آباؤهم، وهم يعرفون أنّ الهداية مرتبطة بإرادة الإنسان فلو عزموا لآمنوا، فالله لم يمنعهم من الهدى لأنهم مخيّرون، لذا كان كلامهم كذباً، ولا يحصلون عليه حتّى يوجده الله، قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} التكوير، والنّاس تعلم أنه لا شيء إلا بمشيئة الله تعالى أي بصنعه وإيجاده، قال تعالى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)}، الصّافات، وقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا (69)} الكهف.

الإرادة: هي الطلب، ومن الممكن أن تكون إرادة الإنسان على عكس إرادة الله تعالى، فليس الطلب كالفعل أو الإيجاد، وإذا أراد الله تعالى أن يفعل ما يريد إنما يقول له كن فيكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} يس، يريد الله من النّاس أشياء ولكنهم يخالفون ولا يريدون، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)} الأنفال، وقال {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} النساء، أي أنّ الله تعالى يريد أن يهدي جميع النّاس، ولكنّ النّاس قلّما اهتدوا وتابوا مع وجود إرادة الله تعالى، لذلك قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} يوسف. لكن هذه الإرادة المخالفة لا يستطيعونها ولا تقع إلا بمشيئة الله تعالى خالق كلّ شيء وإرادته الكونيّة القدرّية، فما يقع فيهم وما يقع منهم كلّه بمشيئة الله وقدره السّابق، والله تعالى يفعل ويحكم ما يريد، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} هود، وقال {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} المائدة.

والإرادة عند النّاس قسمان، في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)} الإسراء.

القسم الأوّل: يريد بعمله الدّنيا ومنافعها فيؤتيه الله في الدّنيا منها قدراً لا كما يشاء الإنسان، بل كما يشاء الله، إلا أنّ عاقبته جهنّم يصلاها مذموماً مدحوراً، لأنّ سعي الدّنيا مناقض لسعي الآخرة وهو الكفر والتكذيب والظلم بالإفساد وسفك الدّماء.

القسم الثاني: يريد الآخرة ويسعى لها سعيها وهو مؤمن، فسعيه مشكور وعمله مبرور، ويتحقق ذلك بثلاثة أعمال مجتمعة ومتكاملة، كما يلي:

عمل القلب: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ} أي أراد بعمله ثواب الآخرة، والإرادة والنيّة محلّها القلب فينتفع بذلك العمل، قال صلّى الله عليه وسلّم: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى” متّفق عليه.

عمل الجسد: {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} أي سعيها الذي شرعه الله وهو اتّباع دين الإسلام بأركانه الخمسة، وهي “أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأَنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكاةَ، وتصُومَ رَمضَانَ، وتحُجَّ الْبيْتَ إِنِ استَطَعتَ إِلَيْهِ سَبيلاً”.

عمل العقل: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي الإيمان بالغيب بأركانه الستّة وهي “أَنْ تُؤْمِن بِاللَّهِ، وملائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ”.

لقد ميّز الله تعالى الإنسان حين خلقه عن غيره من المخلوقات غير المكلّفة بالإرادة، ولا حدود لإرادة الإنسان إلا أن تكون في إطار ما خلق الله فيه من إمكانيات وقدرات، ولا تكفي الإرادة وحدها لتحقيق المراد، فلا بدّ له من بذل الجهد ساعياً إليها ومؤمن بأسبابها. ومن أجل ذلك شاء الله تعالى أن يحصل بالأسباب والمسببات: الخير والشر، والمعروف والمنكر، والصلاح والفساد؛ وشاء أن يكونوا مختلفين: مؤمنين وكافرين، ومهتدين وضالّين، ومصلحين ومفسدين؛ وشاء للنّاس وأقدرهم على أن يكونوا مؤمنين أو كافرين، وأراد أن يعطي من أراد الدنيا ما يشاء لمن يريد ثمّ عاقبته جهنّم، ومن أراد الآخرة فسعيه مشكور وعمله مبرور وعاقبته الجنّة.

ومن الآيات نعلم كذلك أنّ الإنسان هو ما يريده لنفسه، فمن أراد السّوء والفساد وسلك طريقه، أعطاه الله الفرص إلى كِلا السبيلين، فيسلك سبيل السّوء والفساد ويترك سبيل الخير والصّلاح، ويواظب على ذلك ويكرّره حتى يتمرّس عليه ويصير ملَكة له لا يستطيع الفكاك منها، فيمدّ له الله على هذا الطريق ويسهّل له مراده حتى يزداد ضلالاً وانحرافاً لتقوم الحجّة البالغة عليه متلبّساً بإرادة السّوء والفساد فيهوي في جهنّم وهو يعلم أنّه مستحقّ للعقاب والعذاب في النّار. وفي المقابل من أراد الخير والصّلاح والدّين وسعى له سعيه وهو مؤمن وواظب عليه وكرّره حتى صار ملَكة له، فيمدّ له الله بالهدى والمعونة والتوفيق ويسهّل طريقه حتى يدخل الجنّة وهو يعلم أنه أهل لرحمة الرّحمن وفي درجات الجنان على قدر سعيه. قالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: “تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ” صحيح مسلم.

انظر أيضاً 7.1.5.8.3.2.2- نهاية الإنسان هو الذي يحددها، وهي التي يريدها ويختارها بنفسه.

خَلق الإنسان ومقصد وجوده:

0.5.1- الإنسان: لقد خلق الله الإنسان من طين، فهو هذا الجسد المادّي، ثم نفخ فيه من روحه فصار إنساناً حياً فاعلاً تتأثر بأفعاله كل مخلوقات الله، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} السجدة. جعل فيه قابليّة الرّقي والزّكاة والنّماء، بالإيمان والعمل الصّالح إلى ما لا نهاية، وقابليّة الانحدار إلى أسفل سافلين، بالكفر والفساد المخالف لفطرته التي خلق عليها، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} التّين. هذا الإنسان الذي نعرفه هو مجموعة العقل والقلب والجسد، صارت بعد نفخ الروح فيها: النّفس الإنسانية، التي حملت الأمانة، والمقصودة بالهداية، والتّكليف بالخلافة في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30)} البقرة. وتتميّز النّفس بأنّها تبقى حيّة مكلّفة، وقد كلّفها الله وجعلها بسبب وجود العقل خليفته في الأرض؛ فإذا ما ذهب عنها العقل بالنّوم أو الجنون أو غيره فقد رفع عنها التّكليف، وتبقى النّفس على الحياة حتى لو غاب العقل عنها، الذي هو مكان الإدراك، ولكنّها تفقد هذا الإدراك، فلا تتأثر أو تتألم حتى لو قطعت قطعاً، أما إذا انتزعت الرّوح بالوفاة فسوف تموت وتعود بأجزائها الثلاثة، العقل والقلب والجسد، كما كانت إلى التراب. والله أعلم.

مراحل خَلق الإنسان: لقد قضى الله سبحانه وتعالى أن يخلق الإنسان ويجعله شيئاً مذكوراً في الخلق، بعد أن كان شيئاً مقدّراً في علم الله غير مذكور، قال تعالى: {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)} الإنسان. كما قضى سبحانه وتعالى أن يُعرِّف النّاس على نفسه بأنّه هو الله ربّهم قبل أن يعرض عليهم الأمانة وقبل أن يأتوا إلى هذه الدّنيا، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف. وبهذا نعلم أنّ الإنسان قد مرّ قبل وجوده المادّي في الحياة بمرحلتين، الأولى عالم التّقدير في علم الله، والثانية عالم الخلق بأن جعله الله شيئاً غير مذكور، أي عالم الذرّ أو النشأة، وذلك قبل التقاء الجسد المادّي بالرّوح لينشأ عنهما النّفس، أي قبل أن يأمر سبحانه الملائكة بالسّجود، قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} ص، والله أعلم.

أسباب خَلق الإنسان: وسبب خلقه تعالى للإنسان أنّه تعالى أراد أن يجعله بإيمانه وبأعماله الصّالحة خير خلقه على الإطلاق، ويسعده وينعّمه بمعرفة ربّه عقلاً وقلباً وجسداً، وقد هيّأ له أسباب السّعادة والنّعيم في كلّ مرحلة من مراحل خلقه، ثمّ هداه بأن جعل سعادته بمعرفة أسمائه وبطاعته وعبادته، مجرّد الفضل والإحسان منه إليه من غير موجب، ولن يكافئ فضله شكر ولا عمل أو عبادة أو طاعة، لأن عطاءه سابق على الهداية والمعرفة والعبادة والطّاعة. لقد كتب القلم في الّلوح المحفوظ قبل أن يخلق الإنسان: بأنّ الإنسان سينعَم بوجوده مخلوقاً حيّاً من طين وروح، ثمّ سينعم بمعرفة ربّه، ويشهد على نفسه بذلك، وكتب بأنّه سيحمل الأمانة ظلماً وجهلاً، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب، وستكون بينه وبين الشيطان عداوة، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا (6)} فاطر، وأنّ الله خلق الجنّة لأهل طاعته والنّار لأهل معصيته، وأنّهم سيفترقون إلى فئتين: خير البريّة في الجنّة وشرّ البريّة في النّار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)} البينة.

حالات وجود الإنسان الأربعة: وممّا سبق نستطيع أن نقول إنّ الإنسان له أربعة حالات وجوديّة الأولى: موجود في علم الله لا حيّ ولا ميّت (قبل أن يُخلق القلم ويَكتُب بما هو كائن إلى يوم القيامة)، الثانية: موجود شيء غير مذكور، الثالثة: موجود حيّ، والرابعة: موجود ميّت. وهذه الحالات الأربعة مرّت بثمانية مراحل: الأولى: وجوده في علم الله؛ الثانية: وجوده شيء غير مذكور، في عالم الذّر أو النشأة، وأشهدهم على أنفسهم بأنّه ربّهم؛ الثالثة: خلقهم وإخراجهم إلى الحياة، في عالم الرّوح والمادّة، وعرض عليهم الأمانة، وأدخلهم الجنّة؛ الرابعة: ثمّ أماتهم، وهذه الإماتة حصلت في الجنّة بدليل الآية: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)} الدخان، والتي تعني أنّ الموتة الأولى، أو أنّ إحدى الموتتين حصلت في الجنّة، ولأنّ الموت لم يكن موجود قبل ذلك، فالله خلق الموت والحياة بقصد الابتلاء في الدّنيا، بعد عصيان آدم في الجنّة، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2)} الملك، والله أعلم؛ الخامسة: إعادتهم إلى هذه الحياة الدّنيا التي ندركها بقصد الابتلاء، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} هود، ليكونوا خلفاء الله في الأرض، ليعملوا بأمره ونهيه ابتلاءً، فالدّنيا لم تكن موجودة من قبل؛ السادسة: ثمّ الموت بقبض الرّوح في هذه الدّنيا التي نعرفها؛ السابعة: ثمّ الخروج للحشر وانتظار الحساب والجزاء على الأعمال في الآخرة، فلا تدري كلّ نفس ماذا يفعل بها، على أرض غير هذه الأرض التي نعرفها، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} إبراهيم؛ الثامنة: المستقرّ النهائي والخلود أبداً إمّا في الجنّة أو في النّار، حيث يؤتى بالموت ثمّ يذبح، قال صلّى الله عليه وسلّم: “إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ” رواه البخاري ومسلم. قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} البقرة، وهذه هي المراحل الأربعة في الآية هي التي يعيها كلّ إنسان، وقال: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11)} غافر. فالموتتين في الآية والله أعلم هما: الأولى بعد الإشهاد في عالم الذرّ بأنّ الله ربهم ثمّ عصيان آدم في الجنّة، والثانية بعد حياة التكليف في الدّنيا؛ والحياتين هما الولادة في الحياة الدّنيا على الأرض في عالم التكليف، ويوم البعث والخلود في الحياة الآخرة، والله أعلم. أما الكفّار فهم من جهلهم يظنّون أنّها حياة واحدة في الدّنيا وموت واحد في الدّنيا، ولن يكون بعد الموت عودة أو نشور، قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)} الدّخان، والله أعلم.

الفرق بين الروح والنفس:

0.5.2-  إنّ الرّوح لا يمكن رؤيتها، وهي من أمر الله وحده، وبها حصلت الحياة، ولا سبيل لمعرفة أي شيء عنها أو عن صفاتها إلا بإذنه، قال تعالى: {‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏ (85)}‏ الإسراء، وهي سرٌّ من الأسرار، ومن معجزات القرآن، التي تحدّى بها علم الإنسان، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} الإسراء، ولا تزال سراً، لم ولن يعرف الإنسان شيئاً عن حقيقتها. أما النّفس فهي الجزء المادّي المشاهد، والمدرك أجزاءها في البدن، وهي مجموعة العقل والقلب والجسد، اكتسبت الحياة بنفخ الرّوح فيها، وهي النّفس المُدركة العاقلة لأفعالها قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها} الشّمس، وأفعالها في الخير والشّرّ ثلاثة هي أنّها: النّفس المطمئنّة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} الفجر، والنّفس اللّوامة {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} القيامة، والنّفس الأمّارة بالسّوء، واتّباع الهوى والشّهوات {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (53)} يوسف، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} النّازعات. فالنّفس تبقى على الحياة باتّصال الرّوح، ثّم يحصل لهذه الحياة نوعان من الموت كما سنبيّنه في الفقرة التي ستلي، وهما موت أصغر وموت أكبر: فالأصغر يحصل به غياب الإحساس والإدراك تماماً وانقطاع العمل، مع بقاء الحياة في الجسد، كما يحصل عند النّوم العميق، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)} النبأ، ومعنى السّبات: راحة البدن وانقطاع العمل، وانقطاع العمل ناتج عن غياب العقل الذي يأمر، لذلك في الحديث: “رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ” إلى آخر الحديث؛ والموت الأكبر يحصل عند تحلّل الجسد وغياب مكوّناته. فالرّوح من أسرار الله، والحياة سرّ آخر، فقد تغادر الرّوح الجسد فيموت الإنسان على الرّغم من بقاء الحياة في جسده أو في بعض أجزائه، ووجود الحياة لا يدل على وجود الرّوح لرفع القلم أي التّكليف عن النّفس النّائمة كما في الحديث، والله أعلم.

الموت والحياة:

0.5.3- وقد جعل الله لموت النّفس حالتين: الأولى هي موتة النّوم، تتكرّر في الإنسان كلّ يوم، مرّات ومرّات طوال حياته، حتى يأذن الله بوفاتها وخروج الرّوح نهائياً من الجسد المادّي، بقبضها أو إمساكها، فتموت موتة الدّنيا الأخيرة، وهي الحالة (الموتة) الثانية، ولن تحيا مرّة أخرى إلا يوم القيامة للحساب من أجل إكمال المشوار في المستقر النهائي، في حياة خالدة لا موت بعدها أبداً، فإمّا في الجنّة أو في النّار. قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} الزّمر، فموت النّفس المتكرّر بالنّوم يسمّى الوفاة، وقبض الرّوح أو إمساكها هو الموت الذي تنتهي به حياة الدّنيا لتبدأ بعدها حياة الآخرة؛ فذكر الوفاتين الكبرى ثم الصغرى، وفي الآية التي تلي ذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَم مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَل مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِر فَوْق عِبَاده وَيُرْسِل عَلَيْكُمْ حَفَظَة حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدكُمْ الْمَوْت تَوَفَّتْهُ رُسُلنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} الأنعام، قال ابن كثير وفيه دلالة على أنّها تجتمع في الملأ الأعلى؛ وفي الحديث المرفوع في البخاري ومسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إِذَا أَوَى أَحَدكُمْ إِلَى فِرَاشه ….. لِيَقُلْ بِاسْمِك رَبِّي وَضَعْت جَنْبِي وَبِك أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظ بِهِ عِبَادك الصَّالِحِينَ”، وقال بعض السلف يُقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف {فَيُمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت} التي قد ماتت، {وَيُرْسِل الْأُخْرَى إِلَى أَجَل مُسَمًّى} قاله السدي وابن عباس. وكلا الوفاتين تسمّيان موتاً، ففي البخاري عن حُذَيْفة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذ مضجعه من اللّيل وضع يده تحت خدّه؛ ثم يقول: “اللهمّ باسمك أموت وأحيا” وإذا استيقظ قال: “الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النّشور”. والنّفس في النّوم أو الموت لها من وسائل الإدراك غير الوسائل التي نعرفها في الحياة، فهي ترى بغير العيون وتسمع بغير الآذان وتحس بغير الحواس التي نعرفها، حيث يختفي الزّمان ويتغيّر المكان ويلتقي الأحياء والأموات وتصير المعاني غير المعاني، فربّما ينام اثنان في نفس الفراش فيرى أحدهما أنّه في الجنّة، ويرى الآخر أنّه في النّار، ولا يحسّ أحدهما بما عند الآخر، ولا يحسّ الصّاحي القريب منهما بما عندهما، والله أعلم.

صفات الإنسان في مراحل وجوده الأربعة:

0.5.4- وكذلك تختلف تركيبة النّفس الإنسانية وصفاتها (بمكوناتها الثلاث المذكورة أعلاه)، ويختلف إدراك الإنسان الحي للأشياء في كل من مراحل وجوده الأربعة إخلافاً كبيراً، كما يلي:

0.5.4.1- مرحلة الذّر وأخذ الميثاق وإقرارهم بالتّوحيد وحمل الأمانة، وهي مدّة قصيرة، والله أعلم، تقتصر على الإقرار بالربوبية وأخذ الميثاق: فقد أخرجهم ربّهم من ظهور آبائهم مرّة واحدة بغير تكاثر وخاطبهم، فأشهدهم على أنفسهم، في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف؛ وهذه المرحلة اتّصف فيها الإنسان بالظلم والجهل، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب.

0.5.4.2- مرحلة خلق آدم من طين ونفخ الرّوح فيه: وهي مرحلة التّكليف والابتلاء والاختبار التي نعيشها الآن، ابتدأت في الجنّة وتنتهي في الدّنيا؛ وتعمل فيها كل مكوّنات الإنسان معاً، العقل والقلب والجسد، في آن واحد وفي تكامل وتناغم عجيب، مع فرق بين حياة الجنّة التي لا موت فيها، الا الموتة الأولى التي حصلت بعد أن أشهدهم على أنفسهم ثم عرض الأمانة عليهم كما ذكرنا أعلاه، وحياة الأرض التي يتكرّر فيها الموت والحياة، وتتّصل الرّوح بالجسد كل يوم، تذهب بعيداً أثناء النّوم فتلتقي بأرواح المخلوقات الأخرى الحيّة والميّتة، وتعود في الحياة وتنحبس (تتغطّى) في الجسد، في موت وحياة متكررة، إلى أجل مسمّى، ثمّ تبدأ بعده مرحلة البرزخ عندما تخرج الرّوح من الجسد ويتحلّل ويعود إلى التراب؛ وفي هذه المرحلة يتّصف الإنسان بالتّكاثر وإخراج الفضلات والمرض والموت والحياة والسّمع والبّصر والعمل، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} الملك؛ إمكانيات نفس الإنسان وقدراته في هذه المرحلة محدودة، محبوسة (مغطاة) في قدرات عقله وسمعه وبصر وقلبه المقدورة له؛ فيها تختبر النّفس بالعلم والعمل والزّكاة والنّماء، يولد الإنسان جاهلاً ضالاً فيهديه الله ويعلّمه ليرى ما هو فاعل بعلمه، وضعيفاً فيقوّيه الله ويشتد عوده ليرى ما هو فاعل بقوّته، وبلا مأوى فيؤيه الله ليرى ما هو فاعل بحق الفقراء والضّعفاء والأيتام، فيُسأل عن ذلك في الآخرة، قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لا تَزُولُ قَدَمَا الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ”، أي: زمان، وقوّة، ومال، وعلم.

0.5.4.3- مرحلة البرزخ: تبدأ بالموت وقبض الرّوح في الدّنيا، ومن ثمّ العروج بها والرّحيل إلى الدّار الآخرة، وتنتهي بدخول الجنّة أو النّار؛ يكشف فيها غطاء كان في الدّنيا، قال تعالى: {لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} ق؛ وهي مرحلة الحساب على ما أسلفه الإنسان في الحياة الدّنيا، تنقطع فيها الأعمال والعلائق الاجتماعية، وشعار النّاس فيها ” نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي”، وأوّل منازلها القبر تبدأ بضمّة القبر وسماع قرع نعال من هم من حوله وسؤال الملكين، ثمّ يرى مقعده من الجنّة ويفسح له في قبره مدد البصر إن كان عبداً صالحاً، ويضيّق عليه ويكون حفرة من حفرة النيران فيرى النّار وعذابها حتى يلقى ربه إن كان غير صالحاً، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} غافر؛ وعذاب القبر ونعيمة تحسّ به النّفس بالرّغم من خروج الرّوح وتحلّل الجسد؛ وقد استعاذ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم من عذاب القبر؛ وتنتهي هذه المرحلة بالبعث وهو إخراج النّاس من قبورهم، بعد جمع الأجزاء الأصليّة وإرجاع الأرواح إليها يوم القيامة، على أرض غير هذه الأرض، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ (48)} إبراهيم؛ ثمّ بشفاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما في حديث الشّفاعة الطّويل: “ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ. فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ” ثمّ حساب جميع الأمم على ما أسلفته من العمل في الدّنيا، فتحاسب على أربع نعم أنعمها الله عليها في الدّنيا، واستخلفها عليها، وهي: العمر، والقوّة، والمال، والعلم.

0.5.4.4- مرحلة الخلود والمستقرّ النّهائي في الجنّة أو في النّار: والجنّة هي الجزاء العظيم والثّواب الجزيل، الذي أعدّه الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر؛ وهو نعيم لا يمكن تصوّر عظمته ويعجز العقل عن إدراكه واستيعابه، قال صلّى الله عليه وسلّم: “إنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ تدخلُ الجَنةَ على صُورةِ القمر ليلةَ البدْرِ، ثم الذينَ يلونَهُمُ على أشَدِّ نجمِ في السماءِ إضاءةً، ثم همْ بعَدَ ذلك منازلُ لا يتَغَوَّطُونَ، ولا يبولُونَ، ولا يمتخِطون، ولا يبصُقون، أمشاطُهُم الذهبُ، ومجامِرُهم الأُلوَّة، ورشْحُهمُ المِسْكُ، أخلاقُهم على خَلْقِ رجلٍ واحدٍ على طولِ أبيْهم آدمَ ستُون ذِراعا”؛ والنّار هي مكان تعذيب وانتقام الله من الكافرين وممّن عصاه، يدخلها من كُتِب عليه الشّقاء بعد الحساب يوم القيامة، وجوههم سود عليها غبرة وعيونهم زرقاء وقد وصف القرآن الكريم عذاب جهنّم بأنّه عذاب عظيم أليم مهين وأنّ عليها ملائكة شداد غلاظ، وفي الحديث الصّحيح: ” إنَّ أهّوَنَ أهّلِ النَّار عذاباً يومَ القيامة رَجُل يُوضَعُ في أخْمَص قدَميّهِ جمرتان، يغلي منهما دماغُهُ، كما يغلي المرْجلُ بالقمقم”؛ وآيات القرآن التي تصف نعيم الجنّة وعذاب النّار وأهوال يوم القيامة كثيرة تتجاوز الألف آية (15%) من عدد آيات القرآن، كما سيأتي بيانه، انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.1.3.2- إحصاء عدد آيات القصص في القرآن.

فالحياة الدّنيا مؤقتة وهي دار اختبار، أما دار القرار فهي الدّار الآخرة، إما في الجنّةِ أو في النّار. فيجب أن نعلم أو نتذكّر بأنّ هذه الحياة الدّنيا ما هي إلا الخطوة الثانية، القصيرة جداً، في مشوار الحياة الطويل نحو القرار والخلود الأبدي في الآخرة، وما هي إلا ساعة من نهار فلا يُركن إليها، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)} الأحقاف، وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} يونس. والمرحلة الأولى من مراحل وجود الإنسان هي مرحلة الذّر، هي مدّة قصيرة فيها إقرار بالرّبوبيّة وأخذ الميثاق وحمل الأمانة، ثمّ دخول الجنّة والخروج منها. والمرحلة الثانية وهي أيضاً قصيرة جداً بمقياس الزّمان، مدّتها عمر الإنسان بمعدّل 60 إلى 70 سنة، لكنها أطول من الأولى، والله أعلم، فيها اختبار وابتلاء لإقامة الحجّة على النّاس، وفيها العلم والزّكاة والنّماء، فيجب أن لا يبالي المؤمن بما سُوى الله، وألا يبالي بنصيبه منها، ولا بما قدّرَ الله له فيها، لأنّها متاع المسافر، وأن تكون عينه دائماً على الخلود، قال صلّى الله عليه وسلّم: “مَالِي وَلِلدُّنْيَا، إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا”. والمرحلة الثالثة أطول من المرحلتين السّابقتين، وهي مرحلة البرزخ، والبعث والحشر، مدّتها آلاف ربّما ملايين السّنين، لا يعلم عدَدُها إلا الله؛ تدنو الشّمس من الخلق حتّى تكون منهم كمقدار ميل، ويعرق النّاس حتّى يَذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمُهُم حتى يبلغَ آذانهم، وفيها الحساب وانتظار الجزاء. والمرحلة الرابعة والأخيرة وهي المستقرّ الدائم إلى مالا نهاية، فيها الخلود في السّعادة في الجنّة أو في التّعاسة في النّار، اللهمّ اجعلنا من السّعداء، الخالدين في الجنّة.

إبليس والشيطان والجن:

0.5.5- وهذه المخلوقات خلقت قبل الإنسان ولها تأثير كبير وخطير في عمله وفي طاعته لله واتباعه لدينه وخلافته في الأرض كما سيأتي بيانه؛ وقد خلق الله الجن من النار قبل أن يخلق الإنسان، وإبليس هو من الجن، وقيل هو أبو الجن، وهو كآدم للإنس، بدليل أن الذي أبى واستكبر أن يسجد لآدم هو إبليس، في كل آيات القرآن، أمّا الذي يوسوس ويغوي ويضل فهو الشيطان؛ وهو مخلوق مكلف بعبادة الله اختياراً كالإنسان. كان مع الملائكة يتعبد معهم، وعندما ابتلاه الله وأمره بأن يسجد هو والملائكة لآدم، لأنه كان معهم وقد صحبهم بالعبادة، فسجدت الملائكة كلهم أجمعين، وعصى إبليس استكباراً، فعاقبه الله باللعنة والطرد بسبب عصيانه لأمر الله له بالسجود، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} الكهف. (انظر المزيد من التفصيل عن الجن في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في الباب السابع، الفرع 7.1.5.8.2- الجنّ في القرآن، وأيضاً التفصيل عن الملائكة في الفرع 7.1.5.8.1- الملائكة في القرآن)، (وانظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، في الفصل: 015.8.3- تناسب مقاصد وموضوعات وسياق السور السبع التي ذكرت فيها قصة خلق آدم وعداوة إبليس في القرآن (وهي سور: البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وص).

 

0.5.6- لماذا أوجد الله الإنسان في هذه الحياة الدّنيا:

لقد خلق الله النّاس ليسعدوا بمعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته، ثمّ محبّته وعبادته، ثمّ معرفة فعله تعالى فيهم، وأنّه خلقَهُم ليكرمَهُم ويسعدهم، فيستمتعوا بإكرامه لهم، وبنعمته وفضله عليهم في الإيجاد والهداية إلى الصّراط المستقيم. لقد خلق الله النّاس تفضّلاً منه لأنّه غنيّ رزّاق كريم وهّاب، ولم يخلقهم لأنّه يحتاج أن يُعرفَ أو يُعبد، فهو غنيٌ حميد، وإنّما فائدةُ المعرفة والعبادة تعود على النّاس أنفسهم. وقد اختارَ الإنسان لنفسه أن يَعبُد الله طائعاً مختاراً، فكلّ مخلوقات الله تعبدُ الله جبراً، إلا أنّ الإنسانَ (والجانّ) أراد أن يطيع الله مختاراً؛ فأدخله الله في نعيم الجنّة يأكل منها حيث يشاء، وابتلاه بأن لا يقرب شجرة واحدةً من بين كلّ أشجار الجنّة الكثيرة، قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)} البقرة، لكن، آدم عصى ربّه فغوى، فتابَ عليه وهدى، قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)} طه، وأهبطه من الجنّة بسبب عصيانه، بعد أن بينَ لهُ وأنذره، قال تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} طه. ثمّ أكرمه مرّة أخرى بأن جعلَهُ على الأرض خليفة، وليبتليَ صدقَ إرادته، في العبادة طائعاً باتباع الصراط المستقيم في الحياة الدّنيا، ثمّ سوف يميتُه، ثمّ يبعثُه في الحياة الآخرة فيحاسبه ويجازيه على عمله الذي أراده لنفسه غير مكرهاً. لأجل هذا خلق الله الإنسان، ولم يتركه بغير هدى، بل أرسل إليه المرسلين، وأنزل عليه الكتب، ليهديه إلى طريق العبادة وهو الصّراط المستقيم، ويذكّره بما خُلق لأجله وهو العبادة طائعاً. وهذه حقيقة واضحة موجزة سهلة يفهمها الأمّي ناهيك عن العالِم؛ تكرّر ذكرها، وجعلها الله في كتابه، يفهمها كلّ من يتدبرها. وهو ما قصدنا إلى بيانه في هذا الكتاب، وعلى الإشارة إليه وتسهيل فهمه، نسأل الله التسديد والتوفيق.

 

0.5.7- مراحل الابتلاء وحمل الأمانة التي حملها الإنسان، ومقصد وجوده منذ بدئ الخليقة إلى المستقر والخلود: (وهو النّعيم المادّي بدخول الجنّة والمعنوي بمحبّة الله ورؤية وجهه الكريم)

0.5.7.0- مراحل تكليف الإنسان وتحديد مصيره ومستقبله مرّ بأربعة مراحل مصيريّة: هي عالم الذرّ وفيه أقرّ وشهد بأنّ الله ربّه وحمل الأمانة، ثمّ دخول الجنّة حيث عصى أمر ربّه فأكل من الشّجرة؛ ثمّ الهبوط إلى الأرض، حيث ابتُليَ بالخلافة فيها واستعمارِها بالعمل الصّالح؛ ثمّ الحياة الآخرة والحساب على الأعمال، وفيها المستقرّ النّهائي إمّا الجنّة أو النّار. نحن الآن نعيش المرحلة الثالثة من مراحل التّكليف الأربعة: وهي مرحلة الابتلاء في الدّنيا، بعد أن انقضت مرحلتان عظيمتان هما مرحلتا عالم الذّر وحمل الأمانة، ودخول الجنّة. وقد تفضّل الله علينا في كلٍّ من تلكما المرحلتين بنعمتين: مادّية ومعنويّة، تتناسب مع ظروف كلّ من المرحلتين؛ ففي مرحلة عالم الذّر، أنعم الله علينا بنعمة الإيجاد ومعرفته تعالى والإقرار بأنّه ربّنا، وأنّه جعلنا أحراراً مختارين، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف. وأنعم علينا في المرحلة الثانية بأن أدخلنا الجنّة وعرّفنا على أسمائه الحسنى وصفاته. وفي المرحلة الثالثة حيث ولّانا خلافة الأرض، فقد فضّلنا الله ورزقنا نعمة التّكريم في البرّ والبحر، والرّزق والعبادة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} الإسراء، أرسل إلينا المرسلين مبشرين ومنذرين، ووعدنا بالأجر العظيم في الدّنيا والآخرة جزاءً على صالح أعمالنا، قال تعالى: {جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)} النّبأ، وتوعّد بالعذاب الأليم في الدّارين من اقترفَ المعاصي، قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} النّبأ. وينعمُ الله على الإنسان في المرحلة الرابعة والأخيرة من مراحل التّكليف، بالتّكريم العظيمِ والخلود في النّعيم المقيم في الجنّة، دار القرار، وبرؤية الله تعالى، قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} سورة ق، أي زيادةً على ما يشاؤون مما لم يخطر على بالهم، وذلك زيادةً في كرامتهم عند الله، ومزيداً من مفاجَأتِهِم بالخيرات والأنعام، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما سيأتي بيانه.

والآيات التي تتحدّث عن نعم الدّنيا والآخرة كثيرة. ففي الدّنيا، يعدنا الله نعمتيّ الهدى وعدم الشّقاء، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)} طه. وفي الآخرة، يعدنا الله نعمتيّ دخول الجنّة والخلود، قال تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} هود.

 

0.5.7.1- مقصد وجود الإنسان هو معرفة الله، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف. ومعرفة الله وأسمائه وصفاته تُفضي إلى محبّته، ومحبّةُ اللهِ هي غاية مقصود وجود الإنسان وقمّة سعادته، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)} المائدة، يحبّهم الله ابتداءً لعلمه بصدق إقبالهم عليه، ويحبّونه بعد أن يكشف لهم أسماءه وصفاته. يحبّونه بداية بعقولهم، ثمّ يتغلغل حبّه في قلوبهم، ثمّ يظهر حبّه على جوارحهم بعبادته وطاعتهم لأمره واتّباعهم لرسوله، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} آل عمران.

0.5.7.2- معرفة الله سبحانه وتعالى، تتطلّب معرفة أسمائه وصفاته، لذلك خلق سبحانه وتعالى الإنسان على صورته، قال صلّى الله عليه وسلّم: “خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا” رواه البخاري ومسلم، وقال: “إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبْ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ” رواه مسلم؛ خلقه على صورته، بمعنى أنّه خلقه: مريداً، قادراً، حراً، يفعل ما يشاء، سميعاً، بصيراً، عالماً، متكلّماً، يكتب بالقلم، رحيماً، كريماً، مؤمناً، وغيرها من أسماء الله وصفاته التي جعلها الله تعالى في الإنسان ليعرف بمعرفتها أسماء ربّه سبحانه وتعالى وصفاته؛ فكون الإنسان سميع بصير، يؤهّله ليعرف حقيقة ومعنى أسماء الله السّميع البصير، فيسعد بمقدار ما يصل إليه من هذه المعرفة. وليس معنى على صورته التّشبيهَ والتّمثيل، بل لله جل وعلا صفاتُه التي تليق بجلاله وعظمته، وللعبد صفاتُه التي تليق به، صفاتٌ يعتريها الفناء والنقص، وصفاتُ الله سبحانه كاملة لا يعتريها نقص ولا زوال ولا فناء، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} الشّورى، وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)} الإخلاص، يوجد فرق كبير لا يمكن مقارنتُه، بين مخلوقٍ محدودِ القدُرات، وخالقٍ كاملٍ مطلقِ الكمالِ، لا حدودَ لكماله، وهو الفرق بين الله الخالق ذي الكمال والجمال والجلال وبين الإنسان الضّعيف المخلوق المحدود الذي لا حول له ولا قوّة إلا بالله.

0.5.7.3- هذه الصفات التي خلقها الله في الإنسان، قال تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} المؤمنون، في أكمل هيئة وأحسن تقويم، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} التّين، وميّزه بها وفضّله بها على كثير من خلقه تفضيلاً، وأسجد له الملائكة، وامتنع إبليس بسببها عن السّجود حسداً؛ هي صفات مستمدّة من كمال الله، صفاتٌ لا نهائيّة، تحبّ الكمال، وتسعى إليه دون توقّف؛ ويصلُ الإنسانُ بهذه الصفاتِ والخصائص، عن طريق التّزكية والتعلّم إلى معرفة الله خالقه، ومحبّته وطاعته وعبادته، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشّمس.

 

0.5.7.4- الله تعالى خلق السّماوات والأرض، وخلق الموت والحياة في الدّنيا، فقط ليبلو النّاس أيّهم أحسن عملاً، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} هود. فإذا انقضى غرض الابتلاء، فنيت الدّنيا واستبدلت، ثمّ يؤتى بالموت ثمّ يذبح، قال صلّى الله عليه وسلّم: “إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ” رواه البخاري ومسلم.

وسبب الابتلاء هو أنّ آدم عليه السّلام، أطاع إبليس وعصى ربّه الذي أكرمه في الجنّة، فسعى إلى الكمال بالمعصية، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120)} طه. ثم تاب الله عليه، وأهبطه إلى الأرض، سخّر له فيها كلّ شيء، وجعله فيها خليفة، يبتليه بالعمل الصّالح، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا (7)} الكهف، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} الملك. لقد أخطأ آدمُ في حقّ ربّه الذي أكرمه وأدخله الجنّة، فلم يطع أمره، بعد أن حذّره بأنّ في المعصية الشّقاء، قال تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)} طه، فتاب عليه لأنّ الله غفور، يغفر الذنوب جميعاً، ولأنّ آدم خطّاء، يتعلّم من أخطائه وتجاربه، فيتوب ويتوب الله عليه.

0.5.7.5- هذه المراحل الأربعة في مسيرة التّكليف، والتي بينّا فيها مقصد وجود الإنسان من البدئ إلى الخلود، نستطيع أن نقول بأنّها مرّت بثمانية مراحل، وهي: الأولى: أوجدهم في عالم الذّرّ وأشهدهم على أنفسهم بأنّه ربّهم (ربوبيّة العطاء والتّربية، والفطرة على التّوحيد ومحبّة الله الخالق، التي فطر عليها كل ذرّة وكلّ خلية من خلاياهم، وهي سابقة لمرحلتي الخلق من طين ثم التّعليم وعرض الأمانة)، الثانية: أنّ الله تعالى خلق الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه، ثمّ أسجد الملائكة، والثالثة: علّمه الأسماء، ففي تفسير ابن كثير هذا كان بعد سجودهم له، والرابعة: خيّرهم فحملوا الأمانة، فظلموا بذلك أنفسهم (ولو لم يحملوها لبقوا موحّدين حامدين ومسبّحين على فطرتهم كباقي المخلوقات التي لم تحمل الأمانة)، والخامسة: دخلوا الجنّة، السادسة: استخلفوا على الأرض، السابعة: الموت والحشر يوم القيامة والحساب بالقسط والميزان على ما قدّموه من عمل في الدّنيا، والثامنة: أدخلوا الجنّة أو النّار خلود بلا موت. وبهذا التدرّج المنطقي لهذه المراحل، نعلم أنّه حصل ترقّي وتطوّر في معارف وعلوم الإنسان في كلّ مرحلة أكثر من سابقتها، وبِصُورة تختلف عن التي قبلها: أوّلها أشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا (172)} الأعراف، ثانيها: علّم آدم الأسماء كلّها، وثالثها: التقرّب إلى الله بالعبادات ومحبّته {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)} المائدة، والرابعة: رؤية الله تعالى في الجنّة، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} القيامة. هذا اجتهاد، والله أعلم.

أعلى الصفحة Top