العودة إلى فهرس القرآن: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر القرآن)


7.4 الخلاصة: ملخّص جامع يبيّن سياق وأسلوب القرآن في بيان كلّ مقاصده


ملاحظة 1: لقد تمّ تأليف هذه الكتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، كما ذكرنا في المقدّمة والتمهيد على ثمانية أبواب، (انظر: 0.3- لقد أنشأنا هذا الكتاب على ثمانية أبواب).

ملاحظة 2: هذا الكتاب مكوّن من مقدّمة وخاتمة وجزأين متكاملين، كما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– الجزء الأول: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن” ويتناول القرآن كاملاً وبشكل عام. انظر الفهرس هنا
– الجزء الثاني: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن” ويتحدث عن كل سورة من سور القرآن منفردة وبنفس الأبواب الرئيسية الثمانية المشار إليها أعلاه. انظر الفهرس هنا
– الملخص والخاتمة: اضغط هنا


7.4- الخلاصة: ملخّص جامع يبيّن سياق القرآن في بيان كلّ مقاصد القرآن، وأهم هذه الأساليب التي ذكرناها في هذا الباب. وباختصار نستطيع أن نلخّص كل ما ذكرناه أعلاه فيما يلي:

7.4.1- الله تعالى: هو الخالق الحقّ يهدي بالقرآن إلى الحقّ وإلى صراط مستقيم، وما دونه (أو غيره) هو المخلوق الزّائل والباطل ولا يهدي إلى شيء سوى إلى الجهل والضّلال، قال تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)} يونس.

7.4.2- الإنسان: مخلوق مكلّف بعبادة الله محاسب على أفعاله، ميّزه الله عن باقي المخلوقات بقدرته على التعلّم بلا حدود، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ (31)} البقرة، وبقدرته على حمل الأمانة، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ (72)} الأحزاب. والأمانة هي التّكليف بالاستقامة على الدّين والعمل الصالح.

7.4.3-الجانّ: مخلوق مكلّف محاسب على أفعاله كالإنسان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات.

7.4.4- الملائكة: فطرها الله على طاعته فهي لا تعصي له أمراً ، قال تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} التحريم.

7.4.5- المخلوقات الأخرى: فطرها الله على طاعته وسخّرها لخدمة الإنسان يستعين بها على قضاء حوائجه، وعبادة الله، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} الجاثية.

 

7.4.6- ما يهمنا معرفته بعد أن أهبط الله أدم من الجنّة، هو ما أراده الله لهذا الإنسان المكلّف اختياراً، وهو الإهتداء إلى دينه الحقّ وإلى الصّراط المستقيم. فالله تعالى يريد للنّاس أن يطهّرهم ويتمّ نعمته عليهم لعلّهم يشكرون، قال تعالى: {يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} المائدة. فبعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم الآيات ويطهّرهم من الشّرك والأخلاق الفاسدة ويعلّمهم الكتاب والحكمة، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (164)} آل عمران. سعادة الإنسان هي بابتغاء وجه الله، وبالعمل لله والعمل الصّالح، وبالعبادة وبالتّزكية وبالشّكر لله، وشقاء الإنسان هو بمخالفة الفطرة، واتّباع الهوى والشّهوات وتفضيل الدّنيا على الآخرة، قال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} الإسراء.

7.4.7- وتمام نعمة الله على النّاس هي بكمال الدّين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)} المائدة، ولا يمكن أن تتحقّق سعادة الإنسان دون إشباع حاجات عقله وقلبه وجسده في آن واحد، فإذا اهتم بالعقل وترك القلب والجسد فلن تتحقّق سعادته، وإذا أشبع حاجتي العقل والقلب وأهمل الجسد كذلك لن تكتمل سعادته، يجب أن يشبع حاجات مكوّنات وجوده الثلاثة، وكما في حديث سلمان في البخاري: “إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”، وفي حديث آخر: “أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي” متفق عليه. انظر أيضاً سورة الضحى (في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن) وكيف خاطبت عقل وقلب وجسد الإنسان.

 

7.4.8- وملخّص ما قاله القرآن الكريم عن الإنسان هو أنّه عقل: يعقل ويدرك الأشياء والأمور ويستطيع التوصّل إلى حقيقتها بالدراسة والبحث والتفكّر؛ وقلب: يعقل ويدرك بعين بصيرته، فيرى الحقّ من الباطل ويحبّ ويكره؛ وجسم: يتحرك فيعمل أو لا يعمل. العقل غذاؤه العلم، والقلب غذاؤه الحبّ، والجسم غذاؤه الطعام والشراب. وما لم تلبَّ هذه الحاجات الضروريّة الثّلاث، فالإنسان في شقاء وفي ضنك وشدّة وكآبة. ولا يُعقل تأخير أو تأجيل تلبية أي حاجة من هذه الحاجات لأيّ سبب من الأسباب، فهي حاجات فطريّة مُلحّة تعاني النّفس بفقدها، ولا تحتاج إلى تعليل لضرورتها.

7.4.8.1- هذه التركيبة التي خلقها الله في الإنسان، ليعبده بمطلق العلم والاختيار والعمل اللامحدود، لتصل به إلى قمّة العبادة الحقيقية، بالمعرفة والاختيار والعمل. العقل بالتعلّم والمعرفة والوعي، والقلب بالاطمئنان إلى رحمة الله وتكريمه وعدله، والجسد بالممارسة الصّالحة الحقّة المتّفقة والمنسجمة مع فطرة الله. ولسابق علم الله تعالى باللامحدودية في فطرة الإنسان، ومن ثمّ الحاجة إلى الزّكاة أو الرّقي الأبديّ في النتائج المتوخّاة من هذا الإنسان، خيّره الله، وهو العليم بجبلّته وفطرته، بين اختيار الطّاعة جبراً، كباقي المخلوقات، أو طوعاً، فخالف إجماع المخلوقات واختار الطّاعة اختياراً، ظلماً وجهلاً منه كما وصفه الله تعالى، فظلم نفسه لعدم قدرته على النّجاة والفلاح بعمله، إلا أن يرحمه الله، وجهلاً بأنّ اختياره قد يقوده أيضاً إلى الخطأ، كما حصل فعلاً، ومن ثمّ الخيبة والخسران بالتدسية بالبقاء في الجهل، وإهمال العقل واتّباع الهوى والضّلال والممارسة الباطلة.

 

7.4.8.2- بعد أن خلق الله الإنسان بهذه التركيبة الفريدة المعجزة، السّاعية إلى الخلود والملك المتجدّد الذي لا يَبلى، أكرمه فأسكنه في جنّة لا يجوع فيها ولا يعرى ولا يظمأ ولا يضحى، قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (119)} طه، لكنّه نسي عهد ربّه، فعصى أمره، فأخرجه من الجنّة وأهبطه إلى الأرض، عقاباً على هذه الزلّة، بمخالفته أمر ربّه. ثم وعده تعالى بأن يأتيِه بالهدى فإن اتّبع الهدى فلا ضلالَ ولا شقاء، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)} طه. كان الله تعالى قادراً على أن يبقي جميع بني آدم في الجنّة، ومن ثمّ يُهبِطُ من أخطأَ منهم إلى الأرض، ثمّ يأتيهِ بالهدى ليتعلّم فيعود إلى الجنّة، كآدم عليه السلام، لكن سبق في علم الله أنّ أكثر النّاس في الجنة سيخالفون أمر ربهم، وأكثرهم في الأرض لن يهتدوا، فجعل من دخول آدم الجنّة ثمّ هبوطه إلى الأرض، درساً لكلّ من أراد أن يبقى على العهد مع الله. فكانت قصّةً وتجرُبةً ومثالاً، وجُزءاً أساسياً من الهدى، الذي تكرّر ذكره في القرآن، وبأنّ طاعةَ الله فيها الفوز والفلاح، وأنّ معصيتُه فيها الخسران والعذاب، والله أعلم. وقد تكررت قصّة خلق آدم عليه السّلام، والأمرُ بسجود الملائكة وعداوةُ إبليسَ له، ثم زلّتُه بعصيانه أمر ربه، في القرآن سبع مرات، في الآيات: (30-38) سورة البقرة، (11-25) الأعراف، (26-44) الحجر، (61-65) الإسراء، (50) الكهف، (115-126) طه، (67-88) ص. انظر أيضاً سورة الحجر، 015.8.3- تناسب مقاصد وموضوعات وسياق السور السبع التي ذكرت فيها قصة خلق آدم وعداوة إبليس في القرآن.

 

7.4.9- جدول يلخّص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السّعادة والزّكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأنّ النّاس فريقين شقي وسعيد:

في هذا الجدول قمنا بتلخيص موضوعات الكتاب بشكل يسهّل فهم تركيبة الإنسان، واختلاف استجابته للحقّ والهدى، وعداوة الشّيطان، ويسهّل فهم مقصد القرآن في بيان طريق الهداية ثمّ يليه مزيد من التعليق والشرح والتفصيل عن محتويات الجدول، (كما تمّ بيانه وشرحه في كلّ هذا الكتاب، وكما تمّ تفصيله في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن). وذلك ببيان ثلاثة أشياء رئيسيّة: الأوّل هو كيف أنّ الله خلق الإنسان ليُسعده بثلاثة أشياء مجتمعة، هي: العقل والقلب والجسد، وأنّ النّاس بعمل هذه المكوّنات مجتمعة، فريقان: شقيٌّ وسعيد؛ والثّاني أنّ الله هَدى إلى الصّراط المستقيم الموصِّل إلى السّعادة، وأنّ المؤمنين سعدوا والكافرين شقُوا؛ والثّالث أنّ للإنسان عدوّاً متربّصاً وهو الشّيطان، من أطاعه ضلّ، كما يلي:

الوصف: العقل القلب الجسد
وظائف العقل والقلب والجسد: (لم نذكر الرّوح، فبالرّوح يحصل الموت والحياة لأعضاء الإنسان كما في المقدّمة، وعلمها عند الله). وبه العلوم والتحاليل والأسباب، وهو مكان التكليف؛ لأنه يميز الحق من الباطل. وقد رُفِع القلم عن المجنون والنّائم والصّغير الذي لم يكتمل عقله.

انظر 7.4.9.1

وبه العقل والوعي، واختيار الحقّ من الباطل، فيأمر بالحقّ أو بالباطل، كما في الحديث: ألا إنّ في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه.

انظر 7.4.9.2

وبه العمل والبطش والتنفيذ، وما يعمل من مثقال ذرّة إلا ويحاسَب عليها، وفي الحديث: إنّ الله تجاوز عن أمّتي ما حدّثَت به أنفسها ما لَم تعمل أو تتكلّم.

انظر 7.4.9.3

سعادة الإنسان: بعقله وقلبه وجسده تتحقّق عن طريق العلم والفكر بالعقل والوعي بالقلب والعمل بالجسد، فإذا كان بما يرضي الله حقّق الشّهوات في الدّنيا بالحلال، وفاز بالآخرة بالجنّة. السّعادة بالعلم والمعرفة: فالعقل يحبّ تعلّم ومعرفة موازين الحق والعدل والأسباب، فالله تعالى هو خالق العدل والأسباب وغيرها، فبالعلم وتدبّر الآيات ومعرفة صفات الله تتحقّق سعادة العقل، (وقمّة العلم هي معرفة الله). القلب يحبّ الخير والمعروف ومكارم الأخلاق، ويحبّ صفات الكمال، فسعادته بممارسة الأخلاق الكريمة والسعي نحو الكمال، (وأعلاها حبّ الله، بأسمائه وصفاته، وحبّ كلّ خُلق كريم). السّعادة باتّباع وتطبيق الدين وبتلبية حاجات الجسد وشهواته بالحلال: للحفاظ على البقاء بالغذاء والتكاثر، فالجسد يحبّ الشّهوات ويحبّ البقاء، (وأعلاها الصّبر وانتظار الوعد بالخلود والنعيم في الجنّة).
شقاء الإنسان: بجهله وضلاله واتّباعه الهوى يشقى بظلمه لنفسه ولغيره، ويُعذّب بالنّار. الجهل يقود الإنسان إلى اتّباع الهوى والظلم والهلاك، وأشقى الشقاء وأعظم الظّلم هو الشّرك بالله. الشّقاء حبّ المنكرات، وممارسة الكره والكبر والحسد، وغيرها من مساوئ الأخلاق. اتّباع ما حرّم الله فيه الشّقاء والخوف والحرمان بسبب الظلم والعدوان، وهدم للجسد بأكل الحرام، ومخالفة الفطرة واتّباع الشّهوات، والعمل الباطل.
دين الله ودعوة الهدى: تختلف استجابة العقل والقلب والجسد مع دعوة الهدى إلى صراط الله المستقيم، أي دينه وشرائعه وقوانينه. العلم والقراءة باسْم الله يهدي إلى معرفة الله، ثمّ إسلام وإيمان وإحسان، ثمّ التخلّق بأخلاق القرآن، والجهل يردي الإنسان إلى اتّباع هواه ونفسه الأمّارة بالسّوء، واتّباع غواية وضلالات وسبل الشّيطان. القلب بصلاحه صلاح الجسد كلّه، وبفساده فساد الجسد كلّه؛ يقود النّفس بأن تكون مطمئنّة بالحق، أو أمّارةٌ بالسّوء باتّباع الهوى، أو نفس لوّامة؛ فالبرّ ما اطمأن له القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردّد في الصدر. النّاس في استجابتهم وطاعتهم لأمر الله ونهيه فريقان: فريق مؤمن يعبد الله حقّ عبادته، ويتّبع الصّراط المستقيم، ويعمل الصّالحات، وفريق كافر مشرك منافق، يعصي الله ويعمل الموبقات.
أنواع النّاس باعتبار الدّين واتّباع الهدى: نجد أن أكثر النّاس كفروا، وعبدوا الأصنام، وأشركوا بالله، واتّبعوا الشّهوات وأمروا بالمنكر، وقليل منهم آمنوا وعملوا الصّالحات وأمروا بالمعروف. أكثر النّاس كفروا بنعمة العقل التي أنعم الله بها عليهم، فلَم يتعلّموا ولَم يتفكّروا ولَم يتدبّروا، فصاروا كالأنعام بل هم أضلّ، واستمعوا أمر الشّيطان، وقليل منهم مَن استمع كلام الله، وتعلّم الكتاب والحكمة. أكثر النّاس اتّبعوا أهواءهم وشهواتهم، وأغواهم الشّيطان بأمانيه وأضلّهم بأمره لهم بعمل الباطل، وظلّوا في طغيانهم ورجسهم يتردّدون، وقليل منهم مَن اتّبع الحقّ فتطهّر من الذّنوب وتزكّى باتّباع الكتاب والحكمة. أكثرهم اتّبعوا أهواءهم وشهواتهم، وسفكوا الدّماء وأفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وقليل منهم أطاعوا الله واتّبعوا الرّسول، وعملوا صالحاً.
المصير النّهائي لجميع النّاس ، مؤمنهم وكافرهم في الدّنيا والآخرة، إمّا في الجنّة أو في النّار. المؤمن سعادته في الدّنيا بمعرفة الحقّ والهدى، واتّباع الصّراط المستقيم؛ وفي الآخرة فوز وخلود في الجنّة يُلهَمون التسبيح والتحميد، يرَون ربّهم وينالون رضوانه، أمّا الكافر فشقاء وضلال في الدّنيا، وغضب وسخط من الله، وطرد مِن رحمته في الآخرة. للمؤمن فلاح وزكاة وتطهير وقرب ومحبّة مِن الله في الدّنيا والآخرة، وللكافر خسارة وانحدار إلى أسفل سافلين، وخيبة وخسارة وبغض وبُعد مِن الله في الدّنيا والآخرة. للمؤمن أمن وأمان ورزق وعطاء مِن الله باتّباعه الرّسول وقربه من الله، وفي الآخرة نعيم مقيم ومُلك لا يبلى في الجنّة، وللكافر شقاء وخوف وضنك وشدّة، أهلكهم الله بذنوبهم واقترافهم الموبقات في الدّنيا، وفي الآخرة عذاب أليم وخلود في النّار.
عداوة الشّيطان:

عمل الشّيطان في الإنسان، أو دعوة الشّيطان.

أمرٌ بالباطل، وصدٌّ عن الحقّ وعن الصّراط المستقيم، وإضلال بالكذب والخداع. وسوسة في القلب، وفتنة عن الدّين، وإغواء، وأمر باتّباع الأماني، وتزيين للباطل، وحبّ الشّهوات. الأمر بالإعراض وتقليد الآباء، وبمخالفة الدّين، وعصيان أمر الله، واتخاذ الشّياطين أولياء من دون الله، وعبادة الأوثان.
النتيجة باتّباع دعوة الشّيطان. جهل، وضلال، وبُعد عن الحقّ، واتّباع للباطل. ممارسة الكره والكِبر، والحسد، والبغضاء، وغيرها من مساوئ الأخلاق. اتّباع خطوات الشّيطان، والهوى، والكفر والشّرك وعبادة الأوثان، والتّنافس على الدّنيا، والجري خلف الشّهوات، والتّنازع، والقتال، ممّا يؤدّي إلى الخوف والعداوات وأكل أموال النّاس بالباطل، والحرمان مِن الشّهوات.

 

7.4.9.1- العقل: هو آلة العلم، وهو أداة التفكير الذي يزِن الأمور بالأسباب والحساب والمعادلات والمنطق الحكيم، ويُصدر بناءً عليها الأوامر ويُظهر النتائج. فيدرك الأشياء كما يلي: 1- أسباب فطرية (عقلية / قلبية تُعارِض أو توافق الفطرة والقلب الغلبة فيها للعقل): كالتي تأمر المريض بالحمية عن الطعام أو بالدواء المرّ الذي يكرهه لأنّه سبب العافية؛ 2- أسباب فكريّة بالحجّة والمنطق والدليل كالإيمان بالله، قال تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88)} المؤمنون؛ 3- أسباب مِن التنزيل كالأمر بإقامة الدّين لأنّه مِن الله، قال تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} الأعراف.

7.4.9.2- القلب: هو آلة العقل، وأداة التدبّر والتبصّر في عواقب الشيء ونهاياته، وفهم المشاعر والعواطف، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} الحج. وهو أداة الإرادة والأمر بالعمل، وإرادة الإنسان في الحبّ والكره. فيدرك الأشياء كما يلي: 1- أسباب فطرية (قلبية / عقلية قد تتعارض أو تتوافق مع العقل أو الفطرة الغلبة فيها للقلب): وهو كالذي يعقل بأن هذا حُبّ أو كره، كُفر أو إيمان، بقناعات فطرية غريزية. فهذه عواطف ومشاعر في فطرة الإنسان وليسَت أسباباً حسابيّة. كالتعصّب للقبيلة، أو كما تحبّ الأمّ ابنها حتى لو كان شقيّاً، وتكره ابن عدوّتها حتى لو كان خلوقاً؛ 2- أسباب عقلية بالتعلّم، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} العنكبوت، كأن يرى وهنَ مَن يتّخذ أولياء مِن دون الله كوهَن بيت العنكبوت؛ 3- أسباب مِن التنزيل تأمرهم باتّباع ما أنزل الله من آيات واضحة ظاهرة محسوسة، لكن قلوبهم عمياء لا تدرك ما ادركَته حواسّهم، قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون (171)} البقرة، فهؤلاء ليس لهم قلوب تعقل، كالدّواب السّارحة التي لا تعقل ما يقال لها.

7.4.9.3- الجسد: هو وعاء الشّهوات، وهو آلة العمل وتحقيق إرادة الإنسان، وهو المتعة والشهوة والهوى كما في الحيوان، فلا عقل له ولا بصيرة ولا مشاعر سِوى إشباع الشّهوات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12)} محمّد، فتشبع شهواتها بِ: 1- أسباب فطريّة (قلبية وغريزيّة قد تتعارض أو تتوافق مع العقل أو الفطرة، الغلبة فيها للغريزة): هي تنافس على الدّنيا وصراع على البقاء بالطعام والشراب والتكاثر التي لن تتحقّق بكمالها إلا في الجنّة، قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ (119)} طه؛ 2- أسباب عقلية وقلبية، وهي تعلُّمية تجريبيّة تراكميّة في التخزين والإكثار والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة وتنويع طرق الاستمتاع وتحقيق الشهوات واللهو واللعب، فقد يفني الإنسان جسده لاهثاً يجري خلف الدّنيا، أو في الحرص على العبادة والأعمال الصّالحة وطلب الآخرة؛ 3- أسباب من التنزيل تأمر بالحلال وتنهى عن الحرام، وتبيح الطيّبات، وتنهى عن الخبائث.

 

7.4.9.4- طبعاً هذا التقسيم هو تقسيم مجازي مِن أجل تسهيل فهم وظائف أعضاء الإنسان كي نستطيع فهمها، وفهم عملها، لكن علمها الحقيقي عند الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} الإسراء. ولأنّ ذاكرة الإنسان موجودة في كلّ مكوّناته، في العقل والقلب وفي الجسد، وكذلك الشّقاء والسّعادة، والأحاسيس والمشاعر، يدركها بعقله وقلبه وجسمه، كل عضو بطريقته. والتّنافس على الدّنيا والشّهوات يشترك فيها العقل بالفكر، والقلب بالحبّ، والجسم بالعمل والاستمتاع؛ فالتّقسيم هنا للتّمييز بين ثلاثة أشياء مختلفة ومتكاملة يعملها الإنسان: فالتّكليف بوجود العقل لأنّ فاقد العقل لا يحاسَب، أما القلب فهو مكان إدراك الحقّ والباطل، فيختار أيّهما شاء، وبصلاحه صلاحُ الجسدِ كلِّه، وبفساده فساد الجسد كلِّه، فهو مشاعر وأحاسيس لإرادة الإنسان ومشيئته، إن شاء زكّاها وإن شاء دسّاها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس. والجسد يعمل في الخير أو الشّرّ، تدفعه غرائزه بحبّ البّقاء وشهواته بحبّ المتع، أما الحساب والجزاء فهو على المكوّنات الثلاثة: الفكر والإرادة والعمل، كما في الحديث “إنَّمَا الأعْمَالُ بَالْنيَاتِ، وَإنَّمَا لِكل امرئ مَا نَوَى، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرتُهُ لِدُنيا يُصيبُهَا، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُه إلَى مَا هَاجَرَ إليهِ “، أي نيّة بالهجرة إلى مصلحة، وتوجّه بالقلب، يريد الله أو الدّنيا، وعمل بالجوارح، العقل والقلب وعمل الجوارح معاً، فالعقل يحدّد الأسباب والمقاصد. والنّاس ثلاث فئات: المؤمن يحبّ الصّلاح بعقله وقلبه ويعمل به، والكافر يحبّ الفساد بعقله وقلبه ويعمل به، والمنافق متردّد في عقله وقلبه وجسده، مخادع لا يدري أين يذهب، قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ (142)} النساء، وفي تذبذب، قال تعالى: {لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ (143)} النساء.

 

7.4.9.5- إنّ مَن يتدبرُ آيات الله ويتأمل معجزاته في خلق ذاكرة وعقل وإحساس وأفعال الإنسان، سوف يعجب مِن لا نهائية هذا الإعجاز العجيب الذي جعله فيه؛ لأنّ آثار ووظائف العقل والقلب والجسد تتكرّر في كلّ تفاصيله، وفي كلّ خليّة مِن خلاياه، وليس فقط في جزء منه، أو في أجهزته وحسب، بل نجده في خلق الإنسان ككلّ، ومِن ذلك أننا نجد أيضاً في كل خلايا الإنسان – التي عددها مائة ترليون ولا تُرى بالعين المجرّدة – آثار ذاكرة وعقل وإحساس وكأنّها كائن مستقلّ، فالخليّة تستقبل طعامها وشرابها وأوكسجينها وكلّ احتياجاتها عن طريق الدّم، ثمّ تعمل باستقلالية تامّة على إعادة مزجها وتحويلها وإنضاجها والاستفادة مِن مكوّناتها، ثمّ بعد ذلك تطرح فضلاتها وما لا تحتاجه منها خارجاً إلى الدّم، وتتعلّم بالتجربة فتصنع مقاومة الأمراض وتتغيّر ردّات أفعالها، ولها أيضاً موت وحياة، وذاكرة وحافِظة، ثمّ في الآخرة تشهد على الإنسان بما عمل بها، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)} فصّلت. بل والأعجب منه أنّ كامل جسد الإنسان يبدأ بخلية واحدة فقط، فيها ذاكرة واسعة تكاد أن تكون لانهائيّة ومُبهرة، ينشأ عنها آلاف الأنواع من الخلايا التي لم تكن موجودة أصلاً، كالعظام والعضلات والألياف والأعصاب والدّماغ والقلب والشّعر والدّم والسّوائل والأنزيمات والهرمونات وغيرها الكثير. والأعجب أيضاً الاختلاف الكبير بين النّاس، فلا يوجد أبداً شخصان متطابقان في بصماتهما وأشكالهما وأصواتهما وصفاتهما وقلوبهما وأفكارهما وعقولهما ورغباتهما وغيره، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} الذاريات، سبحان الله!

 

7.4.9.6- قد يستخرج عقل الإنسان مِن القصّة أو الموعظة أو الآية الكثير من الفوائد، لكن القلب لا يلتزم، بل وقد يخالف ما استخرجه هذا العقل من الفائدة، وفي المقابل قد يسمع القلب الآيات أو القصص، لا يعقل لها أسباباً أو قواعد أو سُنناً، فتقشعرّ الجلود وتبكي العيون وتتأثّر الجوارح، ثمّ يطيع ويعمل الجسد لِمَا عرَفه وعقله هذا القلب من الحق فيها.

وعلى مثله نجد حال النّاس في عصرنا هذا، عندهم عقول وصلت بهم إلى آفاق لم يصل إليها مَن كان قبلهم، وعندهم أجسام قد أشبعوا رغباتها وشهواتها حتى التخمة، ووصل فيهم الإنسان العادي إلى رفاهيّة لَم يصل الملوك مِن قَبلهم إلى بعضها، لكنّهم للأسف ليست عندهم قلوب يبصرون بها، فأشعلوا الحروب التي لَم يحدث مثلها في أيام بدائيّتهم وجاهليّتهم. ملايين مِن النّاس يموتون بلا سبب، واقتصاد يُهدم، ومدن تُدمّر، وضعفاء يُعذّبون، ومجاعات تحدث، وغيرها مِن المصائب والكوارث التي سببها الإنسان، صحيح أنّ الكفّار لهم قلوب كسائر البشر، لكنّهم لا يعقلون بها؛ الحقّ والعدل موجودان منذ أن خُلق الإنسان، والحلال بيّن والحرام بيّن، لكنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور. كيف لا وإنّ الكثير من العامّة الذين لا حجّة عندهم، ولا أسباب بمقاييس العصر، ولم يذهبوا إلى الجامعات، ولا دراهم عندهم ولا دنانير بمقاييس أصحاب رؤوس الأموال، لكنّهم يتراحمون ويتزاورون ويعيشون بسلام، ولا يتحاربون. النّاس اليوم عندهم العقول، ولكن ليست عندهم القلوب، صاحب القوّة والحجّة والأسباب يأخذ الأشياء بغير حقّها ولا يعمل، فما قيمة المعرفة دون أن تعمل؟ الإنسان هو نفسه على مرّ الزّمان، مفسد في الأرض، ويسفك الدّماء، مَن يقرأ القصص في القرآن يجد الإجرام في كلّ زمان، لقد صدّق عليهم إبليس ظنَّه، فاتّبعوا خطوات الشّيطان، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)} سبأ. العرب في مكّة صدّقوا الرّسول وآمنوا بعقولهم، لكنّهم أرادوا الكفر، فكفروا بقلوبهم وجوارحهم وعصبيّتهم. الله تعالى خلق الإنسان ليكرمه ويسعده، أمّا إذا اختار هو المهانة والشّقاء فمِن عمل يده.

وقد ذكر القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} المائدة، وقوله: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} المائدة، فمِن النّاس مَن تزيدهم نفس الآيات إيماناً، ومنهم مَن تزيدهم نفس الآيات كفراً.

 

7.4.9.7- التفكّر هو عمل العقل بالمنطق والأسباب، قال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (191)} آل عمران، والتّدبّر والتبصّر هو ميول واختيار القلب، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} محمّد. فالعقل يعلم ويفهم الحجج ويبيّن النتائج، ثمّ القلب يحرّك الإرادة والاستجابة والأمر بالعمل. فلو شبّهنا هذه الأعمال بعمل الحاسب الآلي، مع فارق أنّ الحاسب هو آلة صمّاء ليس لها مشاعر، فيكون العقل هو القرص الصلب بما يحتويه من معلومات مخزّنة وبرامج تستخرج النتائج، والقلب هو وحدة المعالجة أو القارئة التي تُبصر المعلومات، وتقرأ النتائج وتستخرجها للشّاشة، فالعقل عنده الحلّ العادل ومعرفة الحقّ، والقلب عنده الحبّ الإرادة والاختيار، فإذا صلح القلب صلح الجسد كلّه، وإذا فسد فسد الجسد كلّه.

كذلك العقل الذي في الرأس، فهو القاضي أو الحاكم بالعدل؛ لأنّ العقل معيار صحيح فهو لا يخطئ، ولو كان العقل يخطئ ما أحالنا الله عليه بعد القسَم بمخلوقاته العظيمة، قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ (5)} الفجر. لأن الخطأ يأتي من الهوى ومن الشهوة التي مكانها القلب والجسد، أو من التّقليد الأعمى الذي يجعل الإنسان يتقبّل الأحكام والعادات القديمة جاهلاً بأنّها خاطئة، أمّا العقل الذي مكانه في القلب، فهو الذي يحيل إليه القرآن كثيراً، بمعنى الفهم الذي هو نتاج رؤية الحقّ لا التفكير به، أو البصيرة، قال تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44)}، وقال {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} البقرة، أي يعقلون النتائج المحسوسة الواضحة التي تتوصّل إليها عقولهم، والعِبر والآيات التي تحسّها حواسّهم، فتعقلها قلوبهم المبصرة، فمن يكفر أو لا يعقل فقلبه أعمى أو مريض أو مختوم عليه، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} الحج، وقال: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)} ق، فالقلب رأى فاعتبر بهلاك القرون، أو استمع الكلام عن تلك القرون فوعاه. وفي الحديث فإنّه صلّى الله عليه وسلّم جعل صلاح الجسد وفساده تابعاً للقلب، مع أنّ الدّماغ مِن جملة الجسد، فيكون صلاحه وفساده تابعاً للقلب.

ويطلق كذلك صفة “اللّبّ” على العقل المفكّر أو الدّماغ الذي في الرأس، فأولو الألباب، هم أصحاب العقول، فاللّبّ هو العقل؛ لأنّ الإنسان بدونه ليس بإنسان، وهو عقل الرّشد والتصرّف، وليس عقل الإدراك، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} آل عمران. وليس المراد أولي العقول التي يكون بها الإدراك، فالإدراك هو عمل القلب، ومِن هؤلاء الذين يدركون يكون السفهاء؛ لأنّهم صمّ بكمٌ عُميٌ لا يعقلون عقل الرّشد وحسن التصرّف، قال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ (130)} البقرة. وقد تكررت في القرآن: “أولي الألباب” ستّ عشرة (16) مرّة، وكلمة يتفكّرون ومشتقّاتها ثماني عشرة (18) مرّة.

 

7.4.9.8- القلب في القرآن هو حاسّة مِن الحواسّ التي تدرك الأشياء فتعقلها، وهو ليس كالتفكّر الذي في لبّ الإنسان أو العقل الرّشيد الذي في رأسه، أي أنّ القلب يعمل كالحواسّ الأخرى من سمع وبصر وشمّ وذوق ولمس، قال تعالى: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)} البقرة. فالقلب يعمل كحاسّة من الحواسّ، فيعقل واقعاً محسوساً وأموراً واضحةً وظاهرةً للعيان، يعقلها القلب المبصر السّليم، ولا يعقلها القلب الأعمى أو المريض أو المختوم عليه والمقفل، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} النحل، أي جعلها لتكون من الحواسّ ومصادر التلقّي، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)} البقرة، أي ترَونها بأعينكم فتعقلونها، وقال: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوم يَعْقِلُونَ (5)} الجاثية، يعقلون رؤية اللّيل والنّهار والماء لإحياء الارض وتصريف الرّياح بحواسّهم ومداركهم، وغيرها من الآيات، وقد تكرّرت كلمة يعقلون ومشتقّاتها في القرآن تسعاً وأربعين (49) مرّة.

وفي الحديث المتّفق عليه، قال صلّى الله عليه وسلّم: “تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ”. فالقلب هو حاسّة مِن الحواسّ يُميّز بين المعروف فيعرفه والمنكر فيُنكره، فيُشربُها الفِتَن بهواه أو يُنكرها بإرادته، فلا تفكير لديه سِوَى الهوى واتّباع الشّهوات بلا عقل، لكنّه إذا أراد الحقّ فسيتّبع العقل، وينهى نفسه عن الهوى، فيستفيد مِن نعمة العقل الذي هو مكان العلم والتكليف، والذي ميّزه الله به على المخلوقات الأخرى، فيعرف المعروف ويُنكِر المنكر. وفي أحاديث أخرى: “إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ” متّفق عليه، والحديث “اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ” صحيح مسلم، والحديث “اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ” أخرجه أحمد والدارمي والطحاوي.

أمّا العقل الذي في الرأسِ فهو الذي يفكّر، ويذهب في الدّراسة والتحليل والتفكير والإدراك إلى آفاق أبعد بكثير من التعقّل، وهو الذي يعمل في الأشياء التي لا ندركها حال مشاهدتها، وربّما تحتاج إلى جهد عقلي كالذي يفعله المفكّرون والعلماء والحكماء والمفسّرون، قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} آل عمران، فخلق السّماوات والأرض آيات تحتاج إلى فِكر وعلوم كثيرة، ودراسات وأبحاث ومراصد وعلماء وغيره لكي تُدرك، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} الرّوم، فإدراك علاقات ومعاني ومقاصد الزّواج والسّكن والمودّة والرّحمة هي مِن عمل الفكر لا العقل الذي في القلب، وتحتاج إلى نظر الخبراء والباحثين قبل أن يعقل القلب أبعاد وتداخلات وأعماق هذه العلاقات المعقّدة، وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} الزّمر، فآيات الوفاة والموت والمنام والحياة إلى أجل مسمّى، تحتاج إلى علم وفقه وفكر عجيب قبل أن يدركها العقل والحواسّ، ولن تدرك لأنّ فيها الرّوح التي لا يعلمها إلا الله، وما إلى ذلك من الآيات الكثيرة في القرآن التي تدعو الإنسان إلى التفكير. وقد تكرّرت كلمة يتفكّرون ومشتقّاتها في القرآن ثماني عشرة (18) مرّة.

 

7.4.9.9- التفكير في القرآن عمليّة تعليميّة تراكميّة لا نهائيّة:

التفكير في القرآن، في السّماوات والأرض والعوالم الأخرى والكون، هي عمليّة تعليميّة تراكميّة لا نهائيّة، وكذلك التعلّم مِن حدوث الفِتَن والابتلاءات، ومِن الشّكر ومِن الأمثال والقصص والتّجارب، ومِن كلِّ ما تستقبله الحواسّ على اختلافها، قال تعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} البقرة، وقال: {يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)} النحل، وقال: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} الأعراف، وقال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} يونس، وغيرها من الآيات.

القرآن يأمر الإنسان بأن ينظر ويتفكّر، فيجب أن يتفكّر في خلق السّماوات والأرض، ويتفكّر بالآيات، وليس التفكّر فقط باكتساب المال والطّعام والشّراب والرّحلات والشّهوات، فالفِكر كالعضلات كلّما استخدمتها أكثر زادت قوّتها أكثر. الله خلقنا لنتفكّر في كلّ شيء خلقه، فنعرف صفاته ونحبّه ونعبده، لكنّنا نعيش لنتفكّر فقط في وسائل كسب الرّزق والمال والطّعام وتحقيق الشّهوات، بينما جعلها الله لنستعين بها على البقاء من أجل السّعادة بمعرفته ومحبّته، ثمّ الاستمتاع بكلّ المباح من نعمه، كما أمرنا عقليّاً وقلبيّاً وجسديّاً، فهو يعلم أنّنا مخلوقات لا نتوقّف عن طلب المزيد؛ لذلك هدانا إلى كيفيّة الحصول على هذا المزيد، وذلك بالسّعي إلى إسعاد كلّ مكوّنات الإنسان، بما فيها العقل والقلب والجسد معاً وبالتّزامن، ليس لأحدها على حساب الآخر. وأهمّ سعادة هي معرفة الله ومعرفة خلقه وعظمته وقدرته ورحمته ولطفه وكل صفاته وأسمائه. وفي النّهاية يجب أن تعلم أنّ الفرق بين الذي عرفتَه مقارنة بالذي لم تعرفه، هو كالفرق بينك وبين الله تعالى، خالق كلّ شيء أنت تعرفه ولا تعرفه.

القرآن يحثّ على التفكّر ويعيب على الذين يعطّلون ولا يستخدمون عقولهم، وأنّ دعوة القرآن الكريم إلى التفكّر والتدبّر دفعت العلماء إلى اعتبارهما فريضة. وقد اعتمد الإسلام في إثبات الدّين الإسلامي على الأدلّة العقليّة، ولهذا قال العلماء إنّ العقلَ أساسُ النّقل. فحقيقة وجود الله عُلِمَت بإثبات العقل، ونبوّة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ثبتَت أيضاً عن طريق العقل أولاً، ثمّ دلّت المعجزات على صحّة نبوّته، ممّا يؤكّد احترام القرآن للعقل ولقيمة الفكر. قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (9)} الزمر، وقال: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19)} الرعد، وقال: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55)} يونس، وغيرها من الآيات.

وقد عاب القرآن على الذين يعطّلون قُواهم العقليّة والحسيّة عن أداء وظيفتها، وجعلهم في مرتبة أحطّ مِن مرتبة الحيوانات، فقال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (174)} الأعراف، وحطّ كذلك مِن منزلة مَن لا يستخدم عقله وتفكيره، وجعله في أدنى درجة مِن الحيوان، قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22)} الأنفال، ونعَى على الغافلين عن النّظر والتدبّر في كونه، فقال: {وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)} يوسف.

 

7.4.10- مثال يسهّل فهم خطاب القرآن لمكوّنات الإنسان الثلاثة نجده في سورة الضّحى:

لقد خلق الله النّاس ليعرفوه ويسعدوا بعبادته كما ذكرناه آنفاً، ومن أجل هذا فقد أرسل فيهم رسول منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم، أي يتلو عليهم آياته فيعرفوه بأسمائه، ويزكّيهم فتَنْمُو بدينه الإسلام عقولهم ومداركهم وقلوبهم وعواطفهم وأجسادهم، وذلك وبالتّقرّب من الله بالعبادة وبالتّجربة في الحياة وبالتّدريب بالابتلاء والدّعاء والعمل والشّكر وغيره. ولأنّ كلّ إنسان يأتي إلى الدّنيا لا يعلم شيئاً، وضعيف لا يخدم نفسه، ومحتاج إلى من يعيله، وفقير في كلّ شيء، وفي كلّ أحواله، فبيّنت السّورة حقائق لا ينكرها أحد، بأنّ الرّبّ هدى وآوى وأغنى، كما يلي:

– خاطبت عقل الإنسان: بالقسم للتأكيد بآيات الضحى والليل العظيمة، بأنّ العقل ضّال يتحاج إلى هدى، أي يحتاج إلى تعليم، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)}.

– وخاطبت قلبه (أو نفسه المطمئّنة): بأنّك كنت فقيراً وضالّاً وعائلاً، وكذلك باقي النّاس فلا تقهرهم ولا تنهر السائل وابذل النعمة. يولد الأنسان وحيداً يحتاج إلى تعارف واهتمام وعلاقات ومشاعر وشفقة، فهو ليس آلة بل مشاعر يضحك ويبكي ويحبّ ويكره، ويحتاج كذلك إلى تربية من الصّغر، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6)}.

– وخاطبت جسده بتجربته (وكلّ إنسان مرّ بهذه التجربة): لقد كنت يتيماً وضالاً وعائلاً فلم يتركك ربك وحدك. ضعيف وفقير عائل يحتاج إلى رعاية ونعمة تغنيه وتغني من يعول، أي يحتاج إلى من يطعمه وليداً حتى يكبر، ثم من يحقق له باقي رغباته ومسئولياته وشهواته، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)}.

وهكذا خاطبت سورة الضحى كلّ مكونات الإنسان: عقله وقلبه وجسده بما يفهمه ويناسبه: فالله سبحانه لا يتوقف عطاءه، وقد خلق إنساناً لا يشبع من طلب العطاء، كلما حصل على شيء طلب المزيد، ولا يسأم من دعاء الخير، ولن يرضيه أن يتوقف عنه العطاء، لو أعطيته في الدّنيا وادٍ من ذهب لتمنّا الثاني، قال تعالى: {لا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)} فصّلت؛ لذلك تطمئنه هذه السورة العجيبة بحجج وآيات مبينة، بأنّك كنت ضعيفاً بنفسك وكيانك لا تقوى على شيء فآواك ربّك، ثمّ جاهلاً بعقلك لا تعلم شيء فهداك وعلّمك، ثمّ عائلاً بنفسك ومسئولياتك بلا معين فأغناك. صحيح أنّ الخطاب في السّورة هو للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، لكنّه أيضاً خطاب ينسحب علينا، ونحن أُمته المؤمنون به وبما أنزل إليه، والمكلّفون بتطبيق الدّين وتبليغه من بعده، كما في الحديث: “إنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ” صحيح مسلم.

وكذلك حين أقسم تعالى في بداية السّورة بالنّهار إذا انتشر ضياؤه بالضّحى، وبالليل إذا سجى وادلهمّت ظلمته، فهو خطاب للعقل ليتفكّر بالآيات الدالّة على الله، وخطاب للقلب الذي يرى ويحسّ ويعقل بأنّ الله تعالى ما ترك رسوله صلّى الله عليه وسلّم منذ اعتنى به، ولا أبغضه، ولا أهمله منذ ربّاه ورعاه، وخطاب للجسد بأنّ نعيم الآخرة خير من نعيم الدّنيا، ثم بشارة بأنّ الله سيعطيه حتى يرضيه في الدّنيا وفي الآخرة.

أعلى الصفحة Top