العودة إلى فهرس المقدمة والتمهيد
صحيح أن القرآن أنزله الله سبحانه وتعالى بأسلوب سهل الفهم للمتعلّم والأمّي على حدّ سواء، إلا أن الاعتقاد السائد عند الكثير من الناس بأن هذه السهولة ممتنعة، إلا على علماء الدين ومفسري القرآن. ولا بدّ من الرجوع إليهم وإلى مؤلفاتهم، لمن أراد أن يتيقن من أن فهمه لآياته أو سورة كان فهماً صحيحاً أو كما يجب أن يكون. وصعوبة الفهم هذه راجعة لأسباب كثيرة، أهمّها ضعفنا في معرفة لغة القرآن وقواعدها، أو اختلاطها أو استبدالها بلهجاتنا العربية المحلية واللغات الأجنبية، وعدم دراستنا أو وعينا بالسيرة النبوية الشريفة وتاريخ حضارتنا الإسلامية، وغيرها من الأسباب، التي تجعلنا على قناعة بصحّة وجود وتكوّن هذه الفكرة أو هذا الانطباع عند أكثر الناس، أي فكرة صعوبة فهم القرآن.
0.2.1- وقد يكون كذلك من أسباب هجر القرآن أو هجر تدبّر آياته هو أن الغالبية العظمى من الناس العاديين (أي: الغير متخصصين في الدين وعلوم القرآن كالمهندسين والأطباء والفنيين وغيرهم)، لهم شأنهم وحياتهم التي قسمها الله لهم، وليس لديهم الوقت الكافي لكي يتفرّغوا ويقرأوا الكتب الكثيرة والمجلدات الضخمة حول تفسير القرآن، أو أن يسألوا العلماء، على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم، قبل أن يجرؤ أحدهم فيقول إنه فهم القرآن وتفسير آياته. وقد يكون ذلك المريد والباحث الذي شغله شأنه عن فهم مقاصد ومعاني القرآن، والذي ليس لديه الوقت الكافي محقاً، فالعمر قصير، والمعلومات في عصرنا كثيرة جدّاً، وبسبب تداخل وتسلسل أهميّة الأولويات في الحياة، فمن الأولى له أن يُخلصَ في عمله فيفيدُ أمتَه، وأن يبدع في تخصصه فيطوّرُ مجتمعه، ويراعي مسؤولياته فيحافظُ على مصالحِ الناس. فمعيشةُ الناس يُكمل بعضها بعضاً، لكل فرد تخصصه في الحياة.
لكن رغم الحاجة إلى الوقت مع وجود كلّ تلك المعوّقات التي ذكرناها، فإن فهم القرآن، حبّاً في معرفة الحق، وبإلحاح من ضرورة الخروج من الجهل إلى المعرفة، هو أهم الأولويات، وإن التفرّغ لهذا الأمر وبذل الجهد فيه، شيء لا مفرّ ولا بدّ منه. لأن من الضرورات الملحّة، أو من أوّل الأوليّات في حياة كلّ إنسان هي أن يعرف مقصد وجوده على الأرض، والطريق الصحيح للحياة، وأن يتعلّم الحق من الباطل، وأن يعلم علم اليقين، ويتيقن بنفسه من صحّة أو عدم صحّة الأفكار والمبادئ من حوله، وأن لا يكون مقلداً لغيره في هذا الأمر، كيف لا وقد حارب الٌقرآن التقليد، وركّز كثيراً على بيان ضلال المقلدين، وبطلان اتباع ما كان يعبد الآباء، لأن فعل الآباء ليس دليلاً على أنهم على الهدى، قال تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (74)} الشعراء، (انظر كذلك الفقرة (7.1.5.8.3.3.4). هذا أمر ملحّ، وفضول في مكانه، لأنه بناءً عليه سيتضح الطريق الذي سيسلكه باغي الحق، كي يتحدد مصيرُه في الآخرة).
لو كان هذا الكتاب بين يديّ في بداية حياتي، لاستطعت بقراءته أن أوفّر الكثير من الوقت والجهد والعمل، في البحث عن أبواب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، لكن لقد قدّر الله، وما شاء فعل، قال تعالى: {وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ (216)} البقرة، فقد وفقني ربي لقضاء الساعات الطوال ومواصلة الليل والنهار في تدبّر آيات كتابه، كما أمر، وعلّمني أكثر مما أردت بأضعاف مضاعفة، وأعطاني أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السّائلين، ثمّ سخّرني في العمل على خدمة كتابه، بإخراج هذا الكتاب، فللّه الحمد والمنّة؛ أدعو الله أن يحفظ ويبارك هذا العمل، وأن يكون خالصاً لوجهه الكريم، وأن يعوّض الوقت والجهد والعمل الذي بذل فيه، في عمري وأعمار من سيقرأ هذا الكتاب علماً وعملاً وبناءاً وبركة، آمين.
لغة ولسان القرآن وأسلوب خطابه:
0.2.2- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (3)} إبراهيم، وهذا مِن لطفه تعالى ورحمته بخلقه أنَّه أرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم. أمّا آخِر المرسلين نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فقد جاء لكلّ الأمم على اختلاف لغاتها، بلسان واحد ولغة واحدة هي العربية، وكتاب واحد تكفَّل الله بحفظه، لتهتدي به كلُّ الألسنة وكلُّ الأمم إلى قيام الساعة. ثمَّ إنَّ لغة القرآن هي آية معجزة للعرب الذين أتقنوا العربية في أوج فصاحتها، أمَّا في عصرنا هذا فالذين يُتقنون اللغة العربية الفصحى على أصولها ندرة، فلا شكَّ أنَّ {العزيزُ الحكيمُ} الذي ما شاء كان وما لَم يشأ لم يكُن، الحكيم في أفعاله، العليم بمخلوقاته، يضلُّ مَن يستحقُّ الضّلال، ويهدي مَن هو أهل للهدَى، قد سبقَ في علمه تعالى أنّه سيأتي زمان على النّاس يهجرون فيه اللغة العربية، فجعل في القرآن سِحر بيانه وإعجازه حتّى وهو مترجَم إلى اللغات الأخرى، وأبقاه قرآناً يتكلّم بلغات لا تخطر على بال، ويفهمه النّاس بكلّ لغات العالم وبكلّ ألسنتها، وحتّى الصُّمُّ البُكم لهم لغة يخاطبهم بها القرآن، فإن لَم يكن باللغة المترجَمة ففي القصص، وإن لَم يكن في القصص ففي الآيات أو الأمثال. ليس هذا فحسب، بل رأَينا بأعيُننا وسمعنا بآذاننا وعلمنا، بفضل ما أنعم الله به على النّاس في زماننا هذا مِن نعمة الاتِّصالات والمواصلات والشَّبكات، ما يرويه المسلمون الجدد في الشرق والغرب وكلّ بقاع الأرض بأنفسهم عن قصص حقيقيّة حدثَت لهم ومعهم، عن الكثير مِن وسائل الخطاب الإلهي للنَّاس في القرآن وغيره، ما تحار له الألباب وتذهل في فهمه العقول، فالبرامج والتّسجيلات على الشّبكات مليئة بقصص عن أناس غير مسلمين يعترفون بألسنتهم وبالتقارير المصوَّرة أنَّهم آمنوا بسبب آية واحدة من القرآن المترجَم إلى لغاتهم، أو بسبب البسملة {بسم الله الرّحمن الرّحيم}، أو اسم من أسماء الله مثل {الله أحد}، أو {الرّحمن الرّحيم}، أو بسبب حادثة مذكورة فيه، أو قصّة، أو مثل، أو آية علميّة، أو تطبيقات عملية، أو حقيقة جغرافية، أو تاريخيّة، أو صفة كونيّة، أو نفسيّة، أو اجتماعيّة، أو بسب يقظة وجدانهم عند سماعهم لقراءة القرآن على الرّغم مِن عدم فهمهم ما يقول، وبعضهم آمنوا لسماع نظمه، وبعضهم لموسيقاه، وغيره الكثير، وبعضهم آمَن بسبب وسائل الخطاب المذكورة في القرآن، كالتّرغيب والتّرهيب، والخوف والشكر، والابتلاء والجزاء، والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات، والمصيبة والغِنَى والفقر واستجابة الدّعاء، والعقل والعاطفة والفكر، وغيره الكثير. عدا عن أنّ بعضهم آمَن برؤية ظهور آثار ما يأمر به القرآن على مسلمين امتثلوا بأمره، وتخلَّقوا بأخلاق القرآن، واتّبعوا تعاليم الدِّين، أي كسماع الأذان أو رؤية الوضوء أو التيَمُّم أو رؤية الصّلاة أو الصّيام أو الزّكاة أو الصّدقات أو رؤية مصلٍّ ذاهب إلى المسجد، أو مسلمٌ يغضُّ البصر، أو السَّكينة والرِّضا والسَّعادة البادية على جوارحه؛ عدا عن أنّ بعضهم آمَن بسبب التّجارة مع المسلمين، أو بسبب برّ الوالدين، أو صلة الأرحام، أو اللّباس، أو الطّعام والشَّراب، أو الأعمال الصَّالحة، أو الإحسان، أو أخلاقُ المؤمنين ومعاملاتهم التي تتحرّك على الأرض، أضِف إلى ذلك أنَّ القرآن أمر أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم بالاستقامة على الدّين، فكلّهم شهداء على النّاس بإسلامهم، ودعاة مأمورون بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ونشر العدل والسّلام والدِّين الذي فيه أنّ الذي يخالط النّاس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط النّاس ولا يصبر على أذاهم، والذي فيه أنّ الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وغيره الكثير. (انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، الفرع: 7.1.3.1.2- أما اليوم وفي عصرنا هذا، فإن عدد العرب الذين يتقنون اللغة العربية بين العرب أنفسهم، قليلون جداً).
اختلاف أفهام النّاس وإعراض أكثرهم:
0.2.3- كذلك فالنّاس مختلفون في تغليب أفهامهم وفي ترتيب أولويات مصالحهم، فمنهم مَن يغلِّب عقله فيؤمن بأسباب علميّة، ومنهم مَن يغلِّب قلبه فيؤمن بأسباب عاطفية، ومنهم مَن يغلِّب جسده فيؤمن بأسباب ماديّة، وقليل منهم يوازن بين هذه المكوِّنات الثلاثة لأصل خلقته، وكثير من النّاس مُعرِضون، وللحقِّ كارهون، فهم لا يؤمنون، قال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)} الزخرف، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} هود. فجاء الخطاب في القرآن موجهاً للنّاس على اختلاف أفهامهم، ومؤكِّداً خطابه بقصص عن هذا الاختلاف في أفهام النّاس وتوجُّهاتهم، وعن تجارب الأمم مِمَّن سبقهم، وهو ما أشرنا إليه في هذا الكتاب، وكذلك ذكرناه مفصّلاً، كلّ في مكانه المناسب في كتاب “تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن”.
الخطاب بالقصّة والتجربة والمثل:
0.2.4- الخطاب أو التدبّر والتفسير بالقصة والتجربة والمثل: قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)} آل عمران، وقال: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} إبراهيم. لو تأملت تاريخ الإنسان من خلال القصص الحقيقي الموجود في القرآن، وراقبت حقيقة وصدق تحقّق تعليمات القرآن على نفسِكَ وعلى غيرك، من الطفولة إلى الكهولة، ولو بحثت عن الأسباب وعن مسبّباتها، وما وراء الأحداث، لو راقبتها وعرفتها، وعرفت ما حصل للأمة في أكثر من ألف وأربعمائة وأربعين (1440) سنة من التطبيق العملي لهذا الدّين، لو فعلت لرأيت موازين دقيقة وحقائق ثابتة وقوانين وسنن مستقرّة على الأرض، حيث لا تناقض ولا تعارض مع كلام الله، ولا اختلاف، بين ما ذكر في القرآن عن الإنسان كفرد وجماعة وعن صفاته، وإقباله وإعراضه، وبين ما حصل حقيقة في الواقع المعاش وفي التاريخ. ستكون بذلك قد قرأت وسمعت ورأيت بعينيك، وعشت بنفسك وعرفت حقيقة وحكمة الوجود، وهي: أنّ مَن اتّبع القرآن وعمل به فإنّه لا يضلّ في الدّنيا ولا يشقى في الآخرة، ومن أعرض عن القرآن ولم يعمل به، فإن له معيشة ضنكاً في الدّنيا ويحشر يوم القيامة أعمى، وكذلك لاستطعت بهذه المعرفة أن تفسّر مقاصد وموضوعات القرآن بكل سهولة ويسر. وهذا هو عين ما يحثّنا عليه القرآن نفسه، ويراه الباحث المنصف عن الحكمة والحق في هذا الوجود، مصداقاً لقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ (42)} الروم، وقولهِ: {وقُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (20)} العنكبوت، وغيرها من الآيات، وهو عين ما ركّزنا على تدبّره، واعتمدنا عليه كثيراً في فهم كتاب الله تعالى، كما سنرى.
انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.1.3- القصص في القرآن.
انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.1- السعادة بالتعلم بالتجربة والخطأ، والسعادة بالتعلم بالابتلاء والجزاء.
ومن هنا بسم الله الرحمن الرحيم، نبدأ بإذنه تعالى، وعليه توكلنا واعتمادنا، ولا حول لنا ولا قوّة إلا به.