العودة إلى فهرس القرآن: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر القرآن)


7.3 نعمة تطبيق الدين في إسعاد الإنسان وتلبية حاجاته اللانهائية، وشؤم ونقمة عدم تطبيقه


ملاحظة 1: لقد تمّ تأليف هذه الكتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، كما ذكرنا في المقدّمة والتمهيد على ثمانية أبواب، (انظر: 0.3- لقد أنشأنا هذا الكتاب على ثمانية أبواب).

ملاحظة 2: هذا الكتاب مكوّن من مقدّمة وخاتمة وجزأين متكاملين، كما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– الجزء الأول: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن” ويتناول القرآن كاملاً وبشكل عام. انظر الفهرس هنا
– الجزء الثاني: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن” ويتحدث عن كل سورة من سور القرآن منفردة وبنفس الأبواب الرئيسية الثمانية المشار إليها أعلاه. انظر الفهرس هنا
– الملخص والخاتمة: اضغط هنا


 

7.3- الثالث: في هذا الفصل نبيّن نعمة العبادة، ودَور تطبيق الدين في إسعاد الإنسان وتلبية حاجاته اللانهائية. فنتحدث عن: سياق القرآن في بيان نعمة تطبيق الدين وشؤم ونقمة عدم تطبيقه، والتجربة والخطأ، والابتلاء، وتكريم الإنسان بالمعرفة والعبادة، والسعادة بالتزكية، والسعادة بالشكر، وبيان أسباب الكفر.

الإسلام هو رحمة الله للبشريّة ونعمته عليها، وهو الدين الذي لا صلاح لها ولا سعادة إلا به ارتضاه لها ليبقيها في سلام مع نفسها ومع الكون. فلا بد للبشرية إلا أن تؤمن وتعبد ربها من أجل مصلحتها ومنفعتها، فالله غنيّ عن نفع الإنسان، وبعيد عن ضرّه، قال صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فيما يَرْوِى عَنِ اللَّهِ تباركَ وتعالى أنه قال: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه”، رواه مسلم.

لقد خلق الله الناس ليسعدوا بعبادته وذكره وشكره واتباع دينه الإسلام: وكما ذكرنا سابقاً، بأن من الدروس التي نتعلمها من التجربة والقصص والأمثال والآيات في القرآن، أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس ليكرمهم ويسعدوا بعبادته وبذكره وشكره، وليستخلفهم في الأرض، وأن الله جعل علاج صفات الإنسان السيئة من فساد وسفك للدماء، بالعلم والإصلاح والزكاة والشكر والإنفاق والعبادات، وجعل كذلك سعادة الإنسان باتباع دينه الإسلام، هو ما سنبينه في المبحث والفقرات التالية:

 

7.3.1- السعادة بالتعلم بالتجربة والخطأ، والسعادة بالتعلم بالابتلاء والجزاء:

7.3.1.1- العدل والظلم صفتان مكتسبتان، وكلاهما كامنتان في الإنسان يستطيع أن يختار أيهما شاء، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} الشمس، كذلك: الإيمان والكفر، والتصديق والتكذيب، والكرم والبخل، والرحمة والقسوة، والعمل والكسل، وغيرها من الصفات والملكات المكتسبة. كل إنسان يولد على الفطرة الطاهرة النقية وهي صفات الإيمان والإسلام، لكن بالتعلم من الوالدين والبيئة التي ينشأ فيها، قد يُديم فطرته في الاتجاه الصحيح وهي صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، التي هي الإيمان بالتنزيل والعبادة لله الواحد الأحد، وقد يبقى في الجهل ويتولى عن رحمة الله إلى طرق الكفر والظلم والضلال المتعددة. الله أكرم الإنسان ومتعه بنعم كثيرة، لا تعد ولا تحصى، وطلب منه أن يشكره وحده على هذه النعم لكي يزيده، ولكنه إن كفر، أو شكر غير الله، سلبها منه وعذبه، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} إبراهيم.

 

7.3.1.2- لقد أنعم الله علينا: بالإيجاد، ثمّ بالتكليف، ثمّ بالتكريم والاستخلاف في هذه الدنيا، ثم بالخلود في النعيم في الآخرة. ومن نعم الله علينا أيضاً ورحمته بنا أنه يأخذ بأيدينا ويعلمنا الحكمة، ويسيرنا أو يمشّينا نحو الهداية ومعرفة المقصد من وجودنا، رويداً رويداً، وخطوة خطوة. ويعلمنا من تجاربنا بأننا إن شكرناه على النعمة التي منحنا إياها زادنا من نعيمه وإن كفرنا يعذبنا بذنوبنا. لا يوجد إنسان لم يبتليه الله بالنعمة التي أنعم بها عليه، نقصاً أو زيادة ليرى ما هو فاعل، فيجازيه على قدر فعله، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} البقرة، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} الأنبياء. الإنسان الذي يريد لنفسه الهدى والإيمان يرى ويعلم علم اليقين أنه حين شكر الله فزاده الله وحين عصى فعذبه، أن الله معه يدلّه على الخير فيزداد أيماناً وهدى؛ والذي لا يريد لنفسه الهدى تسلب منه النعمة، لأنه لم يشكر الله وربما لأنه نسب الفضل لغير الله أو لنفسه، ويزداد شقاؤه بسبب جزعه وسخطه من ابتلاء الله له، ولجهله وعدم علمه بالحكمة والمقصد من وجوده، فيزداد كفراً وضلالاً. سنة الله التي تأذن بها، قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} أي: يزدادون علماً وإيماناً وهدى فيزدادون زكاة ونماءاً ونعيماً، وقال: {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، يزدادون جهلاً وكفراً وضلالاً فيزدادون تدسية وانحداراً وشقاءً. الإنسان الذي يريد لنفسه الهدى والإيمان يعلم أن الله مبتليه بهذه النعمة، التي أنعمها عليه كي يتعلم، وبأنها من الله صاحب الكمال المطلق فيسعد بذلك ويشكر، ويطلب المزيد. ويعلم كذلك أن النعمة ليست من المخلوق الناقص الذي لا يملك لنفسه ضراً أو نفعاً، فيحمد الله وحده، ويشكره على فضله.

7.3.1.3- الإنسان يخطيء ويتعلم من أخطاءه وتجاربه، فكلّ ابنِ آدمَ خطاء. ولد لا يعلم شيئاً، ثم علمه الله الأسماء كلها، علمه اللغة والكتابة، يستطيع أن يهتدي بكلام قيل قبل آلاف السنين، ويتعلم منه ويُراكم علمه وخبرته، الله خلقه وفطره على الإسلام، عاقلاً عابداً متعلماً، فتميز بصفة المعرفة المتنامية عن باقي المخلوقات، فلا يجوز أن يدسي نفسه في الظلم والجهل والكفر فلا يزكيها.

 

7.3.1.4- كذلك سعادة الإنسان بأنه يتعلم من أخطاءه بالتجربة، فيرى بالمحصلةِ الثواب والعقاب فوراً. يخطئ فيدرك أنه أخطأ، ثم يتوب فيغفرُ الله له. وتعاستهُ بأن يُصرَّ على الخطأِ فلا يتوبَ ولا يعودَ إلى الصواب. فسعادة الإنسان المؤمنِ بالابتلاء عظيمة، لأنه يتعلمُ ويزدادُ خبرةً ونماء ًومعرفةً بربه. يأمره تعالى بالإنفاق، فينفق أو لا ينفق، ويتعلم أنه حين ينفقُ المال فيزيدُه الله من فضله، أن الله يحب الكرمَ والإنفاقَ، فيزداد إنفاقاً، فتزكو بذلك نفسُه إلى مكارمِ الأخلاق، ويهجرُ البخلَ الذي هو سبب الطغيانِ والفسادِ الذي لا يرضاه الله. وهكذا دواليك، يتعلم الإنسانُ بالتجربةِ ويكتسبُ مكارمَ الأخلاقِ، فتزدادُ سعادته وتستمرُ في الزيادة حتى ينقضي عمرُه، ثم يُبعثُ ويدخُلُ الجنة. وفي الجنة لا يهدأُ له بالٌ في طلبِ العلمِ والمعرفةِ حتى يرى وجه ربهِ الكريم، لا يضام في رؤيته، ويراه في كلِّ يومِ جمعةٍ فيزدادُ ويزداد، وتزدادُ سعادتُه، قال تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} ق؛ اللهم اجعلنا من السعداءِ أهلِ الجنة. وبالجهل والتكذيب واكتساب مساوئ الأخلاق، يزداد شقاءُ الإنسان وتعاستُه، وتستمر في الزيادةِ حتى يموتَ، فيُبعثَ ويدخُلَ النار، ويتواصل عذابه ويزداد، ثم يزداد ويزداد، قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا (56)} النساء، ويطلب التخفيفَ من العذابِ أو الموتَ فلا يُجاب، قال تعالى: {لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا (36)} فاطر، ويطلبُ الشفاعة فلا يُشفع له، أو أن يرد إلى الدنيا ليعمل صالحاً فلا يُجاب، ويبقى ماكثاً في النار، يرى أهل الجنة في النعيمِ يتنعمونَ بينما هو ومن مثلُه في النار يعذبون؛ أجارنا الله من النار.

هكذا خلق الله الإنسان، لا يتوقف فضوله إلى المعرفة، ولا يتوقف عن طلب العلم طالما هو حي لم يموت.

انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، حول موضوع منافع التوبة ومساوئ الذنوب في (المبحث 040.7.4- من يلقي الله بقراب الأرض خطايا، لقيه الله بمثلها مغفرة).

7.3.1.5- ونحن بمراقبتنا لأفعال الله فينا، لا نختبر الله تعالى بل الله يختبرنا، فقد خلقنَا ليعلّمنَا، قال تعالى: {وعلّم آدم}. وبهذا التعلم: بالتجربةِ والخطأ، والابتلاءِ، وغيرِها من وسائل التعليم، نزداد علماً وحكمةً، باتباعنا لكلام الله، وفي معصيتنا، نتعلم أن الله حقٌ وأن كلامَه الحقُ ودينُه الحق، فيزدادُ بذلك إيمانُنا واتباعُنا وزكاتُنا، فقد خلقَنا لنتعلّم ونزكوا، قال تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} البقرة. وهذا من آثارِ رحمة الله بنا حين يدعونا إلى الصراطِ المستقيمِ فنهتدي، فنفلحَ وننعمَ بما أعده لعباده الصالحين، ومن رحمته بنا أنه إن دعانا فلم نهتدِ، نخسرُ وتصيبُنا المصائبُ بما كسبت أيدينا، لعلنا نتوبُ ونعود إليه.

 

7.3.2- خلق الله الإنسان لكي يكرمه ويسعده في الدنيا والآخرة، بالعلم والمعرفة والعبادة:

7.3.2.1- سعادةُ الإنسانِ تحصلُ أيضاً بالعلمِ ومعرفةِ الحقِ والحكمةِ التي من أجلِها خلقَ الإنسان، قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)} الانشقاق. ومن تفسيراتها، لتركبَنَ أيُها الإنسانُ أموراً وأحوالاً، أمراً بعد أمر، وحالاً بعد حال، ومنزلاً بعد منزل، إلى أن يستقرّ َ الأمرُ على ما يقضي بهِ اللهُ تعالى على الإنسان، أولاً من جنةٍ أو نارٍ، فحينئذٍ يحصُلُ الدوامُ والخلود، إما في دارِ الثوابِ أو في دارِ العقاب. ويدخلُ في هذه الجملةِ أحوالُ الإنسانِ من يومِ أن أشهدهُ اللهُ على نفسه، إلى أن يصيرَ شخصاً حياً مكلّفاً، ثم يموتُ فيكونُ في البرزخ، ثم يحشرُ ثم ينقل، إما إلى الجنةِ وإما إلى النار.

المعرفةُ هي أعظمُ نعمِ اللهِ التي منحَهَا للإنسانِ وتحققُ لهُ السعادةَ والرضى، ومنها معرفتُه لتاريخهِ المنظورِ ومراحلِ تطوره؛ كيف لا ونحنُ نرى اهتمامَ واحتفاءَ الإنسانيةِ بالتاريِخ، وبالأعمدةِ، والأهراماتِ، والتماثيلِ، والبيوتِ المنحوتةِ في الجبالِ، وبالآثارِ، والتصاويرِ، والمخطوطاتِ التي يكتشفونَها عن الحضاراتِ القديمةِ التي عاشت قبلَ بضعِ آلافِ السنين، بل ويحتفي الإنسانُ بالآثارِ التي عمرُها بضعُ مئاتٍ من السنين؛ فيحافظُ عليها ويهتمّ ُ بها وبدراستِها أشدّ َ الاهتمام، وتعطيهِ هذه المعرفةُ بالتراثِ الإنساني رضىً نفسياً، وتجاربَ يدرسُ منها الماضي ويستشفُ منها المستقبَل. فكيف بالسعادةِ والرضى والسكينةِ والهدوءِ النفسي والأمانِ المستقبلي التي يجلبُها لهُ أن يعلمَ أصلَ وجودِه الأزليِّ قبلَ خلقِ السماواتِ والأرض، ومقصدَ وجودِه في الكون، وعلاقتَه مع غيرهِ من المخلوقات، ومراحلَ حياتِه، ونهايةَ وجودِه وخلودِه اللانهائي، وبالأخص إذا كانَ هذا الكلامُ الحقُ الذي يأتي من عندِ الله. لا شكَ فهي المعرفةُ التي تجعلُ الإنسانَ يبكي من فرحتِهِ بالحقِ وبما حباهُ اللهُ من العلمِ والمكانةِ في الوجود، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} المائدة. بدونِ هذهِ المعرفةِ سيظلُ في ضياعٍ وخوفٍ وضلالٍ وشقاءٍ وحيرةٍ قاتلة. وهذه النعمةُ تجعلُ المسلمَ يعيشُ فكراً وعقلاً وفهماً وشعوراً خالداً لا نهايةَ له، تجعلُه وهو في الدُنيا في قمّة النشوةِ والسعادة، مهما واجهَهُ فيها من كدحٍ وشقاءٍ وابتلاء.

 

7.3.2.2- خلق الله تعالى الإنسان وجعله على صورة حسنة، وخَلَقه في أحسن تقويم، والتقويم معناه: أحسنُ قوامٍ بحسبِ الخِلقة، أجزاؤهُ متناسِبَةٌ مع بعضِها البعض، ومجموعُها متناسبٌ ومنسجمٌ مع الغايةِ التي خُلق من أجلها، ومع درجةِ الكمالِ التي ينبغي للإنسانِ الوصولُ إليها من خلالِ هذه التركيبةِ الخاصةِ المكوّنةِ من النفسِ بأجزائِها الثلاث والروح. وهو كائن حيٌّ صالحٌ بحسبِ الخلقةِ التي خُلق عليها، ينكرُ المنكرَ، ويعرفُ المعروف، ويرتقي ويرتفعُ ويقتربُ إلى رضى اللّهِ تعالى بالإيمانِ والعملِ الصالح، والفوزِ بحياةٍ خالدةٍ عند ربّه، سعيدةٍ لا شقاءَ فيها، وذلك بما جهّزَهُ اللّه به من العقلِ، والعلمِ النافع، ومكّنهُ منه من العملِ الصالح، قال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (64)} غافر، وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} التين.

وهذه الخلقةُ التي خلقها الله سبحانه وتعالى للإنسانِ في أحسنِ تقويم، ثم كرّمها وفضّلها على كثيرٍ من خلقه، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ (70)} الإسراء، ثم صبغهَا أحسنَ صبغة، قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)} البقرة، هي صبغةٌ خاصة، وهي التزامٌ بدينِ الله، بالإيمانِ بالله بأركانهِ الستة، وبما أنزلَهُ إلى رسله، وبالإسلام لله بأركانِه الخمسة، هذا هو الصراطُ المستقيمُ للذين أنعم الله عليهم، قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ (7)} الفاتحة. والدينُ القويمُ يُكسب القلبَ والقولَ والعملَ صبغةً تظهرُ على كل من التزمَه وسلكَه، وتكون على وفقِ مرادِ الله تعالى، كما جاءَ في الحديث الصحيح “فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي”. فالصّبغةُ هي الاصطباغُ بطاعةِ الله واتباعُ دينهِ وصفاتِ الكمال، أما الفطرةُ فهي ما خُلق عليه الإنسانُ من حب العدلِ والحقِ والرحمةِ والإحسانِ وحبِ صفاتِ الكمال.

7.3.2.3- ولا تتحققُ سعادةُ الإنسان إلا بالتعلّمِ والمعرفةِ وسماعِ الحق والهدى واتّباعِه. فلقد خلقَ الله الإنسانَ مخلوقاً قابلاً للتعلم، لا يشبعُ من طلبِ العلمِ، ومتطوراً لا يقفُ عند حدّ في الاكتشافِ والاختراعِ والإبداع، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31)} البقرة، وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} القلم.

وكما ذكرنا فإن الله خلقَ الإنسانَ في أحسنِ تقويم، ووهبهُ نعمةَ العقلِ، وفطرهُ على فطرةٍ تنزعُ إلى الكمالِ، تُميزُ المعروفَ من المنكرِ، وكرّمهُ أعظمَ تكريمٍ، وسخرَ له الكونَ، وفضلهُ على كثيرٍ من خلقِه، ومنحَهُ حريةَ الإرادةِ، وأدّبهُ بالثوابِ والعقابِ، وأنزلَ كتباً أحلَّ له بها الطيبات، وحرمَ عليه الخبائث، كلُّ ذلك ليعرفَ ربَّه بأسمائِه فيسعدَ بمعرفتِه، ويعبُدَه فيسعدَ بعبادتِه في الدنيا ثم في الآخرة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدون (56)} الذاريات، أي: ليعرفُوني، فيسعَدوا بمعرفتي، ثم يُطيعوني، فيسعَدوا بطاعتي. يعرفونَني أولاً فيطيعونَني، فيسعدوا بمعرفتي وطاعتي، ثُمّ يسعدوا بالجزاءِ بالفلاحِ في الدنيا والفوزِ بالجنة. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} الأنبياء.

 

7.3.2.4- الغاية من خلق الإنسان، وخلق السماواتِ، والأرض هي: ليُعرفَ سبحانهُ وتعالى، ويوحَّد، ويطاع. لذلك، تكونُ سعادةٌ الإنسانِ بمعرفةِ ربِّه، وعبادتِه والفوزِ بنعيمه، كما يلي:

بالعلمِ والمعرفةِ ثم العبادة، أي: أن يعلموا بأنَ الله هو ربُهم وخالقُهم ومدبرُ أمرِهم، وأن الاسم الله، هو الاسمُ الأعظمُ الجامعُ لكل صفاتِ الكمالِ والجلالِ والجمالِ، للربِ الواحدِ المعبودِ والخالقِ المدبر. فالطريقُ الأول: هو السعادةُ بالمعرفةِ، أي بالعلمِ المؤدي إلى الإيمان: باللهِ وملائكتهِ وكتبهِ ورسلهِ واليومِ الآخرِ والقدر، والثاني: هو السعادةُ بالعملِ بالإسلامِ بأركانِه: شهادةُ التوحيدِ، والصلاةُ، والزكاةُ، والصيامُ والحج. وهذا هو المقصِد الذي خُلق من أجله الإنسان، أي أن يُعرف اللهَ فيُعبد، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدون (56)} الذاريات. جميعُ مخلوقاتِ الله، ما عدا الإنسُ والجان، مستمتعةٌ بهاتين السعادتينِ جبراً لا اختياراً، فهي تعلمُ أن الله خالقُها، ثم هي متبعةٌ لأوامرهِ طائعةٌ جبراً، وهذا شيءٌ جميلٌ اختارتهُ بنفسِها. لكن الإنسَ، وكذلكَ الجان، احتملَ جهلاً منه هذه الأمانةَ اختياراً، فكانَ لهُ ما أراد، وقَبولُه حملَ الأمانةِ هو تشريفٌ وتوفيقٌ من الله لأنهُ أهلٌ لها من دونِ المخلوقات؛ والأمانةُ: هي التكاليفُ مع ما يتْبَعُها من ثوابٍ وعقاب، أما ظلمُهُ وجهلُه: فهو ما نراهُ من الإعراضِ والتكذيبِ والكفرِ وعدمِ الوفاء. فخلقَ الله النارَ ليخوفَهُ من المعصيةِ المُهلكة، والجنةَ ليرغبَهُ بالطاعةِ المُسعِدة، وهي اتباعُ الفطرةِ وأصلِ الخلقةِ أو الصبغةِ التي فيها كرامتُه وسعادتُه، الفطرةُ التي إن خالفها خرّبَ نظام الكونِ، وإن وافقها صلحَ نظامُ الكون المتزنِ بميزان الذرّ.

لقد خلقَ اللهُ الإنسانَ في أحسنِ تقويم، وصبغةٍ هي أحسنُ صبغة، لكي يُكرمَه ويُسعدَه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} الانفطار. ويتحققُ هذا النعيمُ وهذهِ السعادةُ في الدارينِ بثلاثةِ أشياءَ لا تصلحُ حياتُه إلا بها: وهي معرفةُ الله، ثم عبادتُه، ثم الحسابُ على أعمالِه التي اختارها، كما يلي:

7.3.2.4.1- توحيد الله: معرفةُ أن الله موجودٌ، وواحدٌ، وكاملٌ بأسمائه وصفاته، له الأسماءُ الحسنى والصفاتُ العلا، وهي الصفاتُ التي بينَها في كتابِه، وأن يتحلى منها بالأسماءِ والصفاتِ التي أمرهُ الله بالاتصافِ والتحلّي بها، كصفاتِ الرحمةِ والسلامِ والإيمانِ والعدلِ والعلمِ والشكرِ وغيرِها من الصفاتِ والأخلاقِ الكريمةِ والنبيلةِ التي بينها القرآنُ وأمرَ بها، كيف لا وهو خليفةُ اللهِ في أرضه، وأن يتجنبَ ما يناقِضُها من صفاتِ الظلمِ والطغيانِ والكفرِ والفسادِ والكبرِ وما شاكلَها؛ وأن يؤمنَ بأن الله خالقُ كلِّ شيءٍ وبيدهِ كلّ ُ شيء، فهو معَهُ، يهديه سواءَ السبيلِ، ويسمعُ دعاءهُ ويحفظُه ويحمِيه ويرزقُه ويوفقُه ويصلِحُ له شأنَه كلَّه، فلا ضارَ ولا نافعَ إلا هو.

 

7.3.2.4.2- عبادة الله: أن يعبدِ اللهَ كما أمره ُالله، وبما اختارهُ هو لنفسِه بأن حملَ الأمانةَ وأرادَ أن يكونَ خليفةَ الله في الأرض، وذلك بأن يحافظَ على الفطرةِ فلا يُفْسِدْها، وأن يؤمنَ بأن الله بعثَ إليه رسولاً برسالةٍ تركتهُ على المحجةِ البيضاءِ ليلُها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك، فيها بيانُ مقصدِ وجودِه ودينِه وفطرتِه وبيانُ مصيرِه.

7.3.2.4.2.1- الإسلام هو رحمة الله للبشريّة ونعمته عليها، وهو الدين الذي ارتضاه لها ليبقيها منسجمة مع ما خلقها الله لأجله، قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً (3)} المائدة. الله خلق الإنسان لغرض محدد، عليه أن يؤدّيه تماماً كما أراده الله، لا خيار آخر لديه سوى السمع والطاعة راضياً كان أم مكرهاً. إن الناس لم يجيئوا إلى هذا العالم بإرادتهم، الله هو الذي جاء بهم إلى هنا، قضى أن يخلقهم، واختار لهم الحياة، ورسم لهم الطريق وهو الإسلام، لو اتبعوه لفازوا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (65) ولو أنهم أقاموا التوراة الإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66)} المائدة، انظر الترغيب والترهيب أعلاه. والإسلام هو الاستسلام لحكم الله وتطبيق شرعه: فلا بدّ أن يكون {دين الله (83)} آل عمران، الذي ارتضاه للناس هو الحكم بما أنزل الله دون سواه. وأن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية عمّن عداه، قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44)}، {هم الظالمون (45}}، {هم الفاسقون (47)} المائدة.

 

7.3.2.4.2.2- وموضوع العبادة مهمّ ودقيق لأن الله جعل فيه سعادة المخلوقات جميعِها بمن فيهمُ الإنسان. وهو يعني طاعة الله في كل ما أمر: أي يعرفوه تعالى أولاً فيطيعوه، فيسعدوا ثانياً بطاعته.

لقد أشهد الله الناس على أنفسهم بأنه هو ربهم، قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا (172)} الأعراف، فهم يعرفونه بأصل فطرتهم؛ وما نزل القرآن ليقول للناس أن هناك إلهاً، لأنهم يعرفون ذلك بغير قرآن، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)} لقمان. بل إنهم ليعرفون بعضاً من صفات الله، قال تعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ (89)} المؤمنون. أنما أنزلت الكتب وأرسل الرسل كلهم، بمن فيهم خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ليُعرّفوا الناس على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وليهدوا الناس إلى الدين الصحيح، وليقولوا لهم: {لا إله إلا الله}، {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. ولم يكن خطأ الناس، عبر العصور، أنهم لا يعرفون وجود الله، أو أنهم لا يعبدونه بطريقة من الطرق، إنما خطؤهم أنهم لا يعرفونه المعرفة الحقة، ومن ثم لا يعبدونه كما تنبغي له العبادة سبحانه، قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره (67)} الزمر، وقال: {كلا، لما يقض ما أمره (23)} عبس، وجهلهم بأسمائه وصفاته، تجعلهم كأنهم يعبدون إلهاً غير الله. إن الفطرة تتجه إلى الله من تلقاء ذاتها بغير كتاب منزل ولا رسول؛ فلقد أودع الله فيها، هذا التوجه إلى الخالق في أصل خلقتها، قال تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا (172)} الأعراف؛ فالناس يتوجهون توجهاً فطرياً إلى عبادة الإله، ولو لم يدلهم عليه أحد، ولو لم يأمرهم بذلك أحد أو يوجههم إليه. ولكنهم كثيراً ما يشركون به، ويضلون في معرفة صفاته، فيتخيلونه على غير حقيقته، وأنه مثلهم يحتاج إلى الزوجة والولد والشريك، وغيره من التجسيد والشرك الخاطئ؛ ثم يعبدونه على هوى أنفسهم بغير ما أمرهم به، ويشركون معه في العبادة تلك الآلهة ليقربوهم إليه زلفى، قال تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (3)} الزمر، أو يعبدون تلك الآلهة وحدها، من دون الله. وعندئذ ينزل الله الكتب ويرسل الرسول ليصحح للناس دينهم وعبادتهم، لا لينشئها، فهي موجودة بأصل الفطرة، وليقول لهم: لا إله إلا الله، اعبدوا الله مالكم من إله غيره.

7.3.2.4.2.3- انظر سورة الزمر: 039.0، في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، والتي مقصدها وموضوعاتها حول أمر الله الناس بالعبادة، وأن العبادة هي لمصلحتهم أولاً وأخيراً، وأن الله غني عنهم؛ وانظر كذلك سورة نوح: 071.0، والتي مقصدها وموضوعاتها حول وجوب أن يعبدوا الله وحده ويتقوه ويطيعوا رسوله. فإن هم فعلوا فتحت كل أبواب الخير عليهم في الدنيا ونجوا من العذاب الأليم، وإن عصوا ضاقت عليهم الدنيا ثم أهلكوا ثم أدخلوا النار في الآخرة.

 

7.3.2.4.3- الحساب والجزاء على حمل الأمانة: أن يؤمنَ بأنه ممتحنٌ ومبتلىً بالأمرينِ السابقينِ ومحاسبٌ عليهما، أي بالإيمانِ بالله أولاً ثمّ بالعملِ بهديهِ والانتهاءِ عن نهيهِ ثانياً. من جاء بالحسنةِ فله عشرُ أمثالِها إلى سبعِمئِة ضعفٍ، ومن جاءَ بالسيئةِ فلا يُجزى إلا مثلها؛ والجزاءُ على الأعمالِ يكون في الدارين الدنيا والآخرة:

7.3.2.4.3.1- جزاء الآخرة: قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} الأنعام، له عشر أمثالها إلى سبعمئة ضعف، أو يزيد سبحانه، فلا حدود لعطائه. ومن مقتضيات هذا الجزاء الجزيل الذي لا حدود له، معاملة الله لمخلوقاته بالرحمة، فقد ألحق سبحانه مباشرة آية الرحمة {الرحمن الرحيم} في سورة الفاتحة بآية {مالك يوم الدين}، فجعل يوماً لإقامة العدل بين مخلوقاته المكلفين أسماه يوم الدين. رغّب بإقامة هذا اليوم عبادَهُ المؤمنين وبشرهم بالنعيم المقيم بدخول الجنّة، وخوّف فيه الكفار وأنذرهم بالعذاب الأليم في النار، قال تعالى: {فأما من طغى (37) وآثر الحياة الدنيا (38) فإن الجحيم هي المأوى (39) وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41)} النازعات. لقد حرّم تعالى على نفسه الظلم وحرّمه بين عباده، لكن الكثير من الناس يظلمون في هذه الحياة الدنيا، فيقتلون أو يسرقون أو يمنعون الحقوق عن أصحابها ولا ينالون العقاب المناسب لظلمهم. وفي المقابل هناك الكثير من الناس يعمّرون الحياة بالأعمال الصالحة ويحافظون على حقوق العباد ويفعلون الخيرات، مع هذا تهضم حقوقهم ويعيشون في عوَز، لا ينالون الجزاء المكافيء لأعمالهم.

 

7.3.2.4.3.2- جزاء الدنيا: من سنن الله الثابتة أن كلّ إنسان مجازى على كل أعماله في يوم القيامة، إلا أن من بعض الأعمال ما يحتم أن يجازى عليه أصحابه في الدنيا قبل أن يستوفى كاملاً في يوم الدين، قال تعالى: {ليس بأمانيّكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً (123) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً (124)} النساء. ومن الأمثلة على جزاء الأعمال في الدنيا، قبل استيفاءه كاملاً في الآخرة: لزوم التقوى والإحسان إلى الخلق، فهو من أسباب طول العمر، وسعة الرزق: قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (3)} الطلاق، وقال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} الطلاق، وكذلك صلة الرحم فإنه من علامات صلاح المجتمع، ويطيلُ العمرِ ويوسعُ في الرزقِ كما في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أحب أن يُبسطَ له في رزقه ويُنسأُ له في أثره فليصل رحمه” متفق عليه، ومعنى “ينسأ له في أثره”: أي يؤخر له في أجله وعمره، وهو نقيض الفساد، قال تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22)} محمد. يقابله الظلم فإن الله يعاقب عليه في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون (52)} النمل. كما أنه تعالى قد يبتلي المؤمن في الدنيا، لحكمة يريدها، وهي بيان الدرجات وتمحيص الإيمان، قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات (155)} البقرة، وقال: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم (31)} محمد، ويملي للظالم، قال تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متين (183)} الأعراف.

وقد بينت كذلك الأحاديث، أن كلَّ ما يصيبُ العبدَ المؤمنَ في الدنيا، من المصائب أو الأمراض أو الأحزان أو النصب أو اللأواء، حتى النكْبَةُ يُنكبُها، أو الشوكةُ يشاكُها، فهو جزاءُ عمل أو سوءٍ ارتكبه. روى الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق رضى الله تعالى عنه قال قلت يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيرا (123)} النساء، فكل سوء عملناه جزينا به، قال: غفر الله لك يا أبا بكر قاله ثلاثا، يا أبا بكر ألست تمرض، ألست تحزن، ألست تنصب، ألست تصيبك اللأواء، قلت: نعم، قال: فهو ما تجزون به في الدنيا. وفي رواية المصائب والأحزان في الدنيا جزاء. وفي رواية عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية: هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها.

7.3.2.4.3.3- إن من سنن الله سبحانه وتعالى أن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء. لا افتراق بين دين ودنيا، ولا افتراق بين دنيا وآخرة. فهو طريق للفوز في الدارين الدنيا والآخرة، قال تعالى: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم، ولأدخلناهم جنات النعيم} هذا جزاء الآخرة، قال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وهذا جزاء الدنيا.

 

7.3.3- سعادة الإنسان بالتزكية، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس.

لقد اختارَ الإنسانُ لنفسهِ أن يحملَ الأمانة، بينما رفضتْ ذلكَ الخيارَ جميعُ المخلوقات، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)} الأحزاب؛ ربما واللهُ أعلم، لأنَ اللهَ بعدما خلقهُ من طين، ثم نفخَ فيهِ سبحانهُ وتعالى من رُوحِه، فصارَ بسببِ هذهِ النفخة، الإحساسُ بالكمالِ الإلهي جزءٌ من تركيبةِ الإنسانِ وجبلّته، وصارَ السعيُ للوصولِ إليهِ غايةَ مرادِه؛ وهو لن يحصُل لأنَ الإنسانَ مخلوقٌ ناقصٌ ومحدودٌ في كلِ شيء، فالإنسانُ مجبولٌ على حبِ صفاتِ الكمالِ التي وصفَ اللهُ وسمّى بها نفسَه، وعلى حبِ الإنسانِ الذي فيه صفةٌ أو أكثرَ من هذه الصفات، كالرحمةِ، والعدلِ، والمودةِ، والقوّةِ، والعفوِ، والكرمِ وغيرِها إلى باقي أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِه الفُضلى. فالإنسانُ العاقلُ السويُ الذي بقيَ على فطرتِه التي خُلِقَ عليها ولم تَتغيّر، يميلُ إلى أن يتصفَ بهذهِ الصفاتِ ويسعى إلى أن يُحقِقَها بنفسِهِ، وهو ما وُصِفَ في القرآنِ بالزكاةِ أو التزكية، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس؛ ففلاحُ الإنسانِ وسعادَتُه بتزكيَةِ نفسِه، أي دوامُ تطهيرِها بالأعمالِ الصالحةِ والأخلاقِ الحسنةِ التي أمرَ اللهُ بها في القرآن، أي الأعمالُ والأخلاقُ التي هي كأنها مشتقةٌ من بعضِ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِه الفضلى؛ يقابلُه خيبةُ الإنسانِ وتعاسَتُهُ وشقاءُ نفسِه بأن دسّاها، بأعمالِ الفسادِ وسوءِ الخُلق ومعصيةِ أوامرِ الله واقترافِ نواهيهِ التي أنزلها في القرآن.

فالإنسانُ مخلوقٌ عجيب، بل هو معجزةٌ من معجزاتِ الله، ولا يعلمُ حقيقةَ جبلّتِهِ إلا الله، فقد جُعل فيهِ نفساً متغيرّةً متطوّرةً إلى مالا نهاية، توّاقةً باختيارِها، وساعيةً إما إلى النماءِ للكمالِ بالتزكية، أو إلى الانحدارِ والغرقِ في المعاصي والضلال، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} الشمس، ففي نفسِه صفاتٌ متغايرةٌ متضادَة، وهي في القرآنِ ثلاثةُ أقسام: نفسٌ أمّارةٌ بالسوءِ والمعاصي والفساد، ونفسٌ لوّامةٌ تخطئُ وتقعُ في الذنبِ ثمَ تلومُ صاحبَها لكي يندمَ ويتوب، ونفسٌ مطمئنّةٌ تحبُ الخيرَ والصلاحَ وتُبغِضُ الشرَ والفساد.

كانَ اللهُ تعالى قادراً على أن يُجبِر الإنسانَ على الاتصافِ وعملِ الأعمالِ التي هيَ من وجهَةِ نظرِ الإنسانِ تُسعده، لكنْ واللهُ أعلم أنَ الإنسانَ مجبولٌ على النماءِ والزيادة، لا تكتَمِلُ سعادتُه بالثباتِ على حالٍ واحدة، فهوَ ليسَ كحالِ الملائكةِ التي تطيعُ اللهَ في كلِ أوامره، ولا تملكُ أن تعصيه، ولا كحالِ باقي المخلوقاتِ التي أبَت أن تحمِلَ الأمانة. ولأنَ اللهَ لم يكنْ ليظلِمَ أحداً من مخلوقاتِه، قالَ تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} الكهف، بل خلقَ جميعَ المخلوقاتِ بعدلهِ ورحمتِه، وكتبَ على نفسِه الرحمة، فكانَ من كمالِ عدلهِ ورحمتهِ أن يحققَ للإنسانِ ما فيهِ كمالُ سعادتِه، وهو حرّيةُ الاختيارِ بينَ أن يُزكي نفسَهُ المتغيرةَ التوّاقةَ للنماءِ والزيادةِ وللكمال، أو أن يدسّيها فتواصِلْ الغرقَ في المعاصي والضلالِ والظلام. ومن كمالِ عدلهِ ورحمتِهِ بعدَ أن منّ على الإنسانِ وأعطاهُ حرّيةَ الاختيار، أن بيّنَ لهُ كذلكَ بكلِ وسائلِ البيانِ والبلاغ، وأقامَ عليهِ الحُجةَ البالغَة، قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (149)} الأنعام، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس، فلا يلومَنّ أحداً بعدَ ذلكَ إلا نفسَه، قال تعالى: {قَالَ الشّيْطَانُ لَمّا قُضِيَ الأمْرُ إِنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوَاْ أَنفُسَكُمْ (22)} إبراهيم.

بل أنّ نفسَ الإنسانِ لا تكتملُ سعادتُها ولا تتوقفُ تطلعاتُها عن طلبِ المزيدِ حتى في الدارِ الآخرة، فأعطى اللهُ أصحابَ الجنةِ الخلودَ فلا يموتونَ أبداً، والإقامةَ فلا يَظعُنون، والنعيمَ فلا يبأسُون؛ وأصحابُ النارِ كذلكَ في النارِ والعذابِ خالدُون. لكنَ العجيبَ في الجنّةِ مثلاً، أن الزيادةَ والنماءَ لا تتوقفُ عنهُم أبداً، قال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)} سورة ق، أي زيادَةً على ما يشاؤونَ مما لم يخطرْ ببالِهِم، وذلكَ زيادةً في كرامَتِهِم عندَ الله، ومزيداً من مفاجأتِهِم بالخيراتِ والأنَعام، يَجيئهُم في صُورٍ مُعجِبَة، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمِعَت، ولا خَطرَ على قلبِ بشر؛ وقيلَ المزيدُ هو النظرُ إلى اللهِ جلَ ثناؤه، يظهرُ لهم عزَّ وجلَّ في كلِ جُمعَة، فيعودونَ وقد ازدادُوا حُسناً وجمالاً، والله أعلم. ولأنَ اللهَ خلقَ الناسَ لينعَمُوا في هذهِ الكرامةِ المباركةِ وهذا النعيم ِ المُتنامي، وبسببِ عظيم ِرحمةِ اللهِ بالناسِ لكي يفوزُوا ولا يخسَروا، أرسلَ المرسلينَ يتلونَ عليهِم آياتهِ ويُزكونَهم ويُعلمونَهم الكتابَ والحكمةَ ومالَم يكونوا يَعلمون. كما هو مبين أدناه.

 

7.3.3.1- أرسل الله المرسلين من أجل تزكية المؤمنين بالإضافة إلى تعليمهم الكتاب والحكمة وتعليمهم مالم يكونوا يعلمون:

وقد تكررت كلمة التزكية ومشتقاتها في القرآن 59 مرّة منها 32 مرّة بمعنى الزكاة المفروضة على المال؛ أما تزكية النفس فقد تكررت 27 مرّة؛ في كلمة يزكيهم 5 مرّات: في الآيات 129، 174 في البقرة، والآيات 77، 164 في آل عمران والآية 2 في الجمعة؛ وكلمة تزكى: مرتين في الآية 18 في فاطر، والآية 76 في طه؛ و14 الأعلى، و18 النازعات، و18 الليل؛ وكلمة يزكيكم: آية 151 في البقرة؛ تزكيهم: آية 103 في التوبة؛ يزّكى: الآيات 3، 7 في عبس؛ زكى: آية 21 النور؛ زكاها: آية 9 الشمس؛ يزكي: آية 49 النساء، آية 21 النور؛ تزكوا: آية 32 النجم؛ يزكون: آية 49 النساء؛ أزكى: الآية 232 في البقرة، والآيات 28، 30 في النور؛ زكيّا: في الآية 19 مريم؛ زكيّة: في الآية 74 الكهف؛ أزكى: طعام آية 19 الكهف.

قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151)} البقرة، أنعم الله تعال على المؤمنين بإرسال الرسول محمد صلى اللّه عليه وسلم:

7.3.3.1.1- {يتلو} عليهم آيات اللّه مبينات: وهي آيات القرآن الكريم ويهديهم إلى صراط الله المستقيم؛ ويبين لهم الآيات الكونية التي خلقها وبثَّها في السماوات والأرض والنجوم والكواكب، وفي الأنفس والطعام والشراب والهواء والنبات؛ وغيرها من الآيات التي تدل على الله.

7.3.3.1.2- ‏{‏ويزكيهم}‏ والتزكية هي العمل والسعي إلى الكمال ولها معنيين: هي بمعنى النماء بمحاسن الأخلاق الكريمة والصفات الزكية والخير وحب الحق والعدل والرحمة والعطاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما هو مبين أعلاه؛ وهي بمعنى الطهارة من رذائل الأخلاق، والجهل، والشرك، وقبائح الذنوب، ودنس النفوس، والمعاصي، واتباع الشهوات.

7.3.3.1.3- {ويعلمهم الكتاب} وهو القرآن الكريم، كلام رب العالمين، الحبل المتين، النور المُبين، الشرع الحكيم، والدين القويم، يخرجهم من الظلمات إلى النور.

{والحكمة} وهي السنّة التي فصّلت آيات القرآن الكريم وشرحت أحكامه، فقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، قيَّد مُطْلَقَهُ، وبيَّن مضمونه، وشرح أحكامه، وفصَّل آياته، وقال الإمام الشافعي إنها السنّة النبوية المطهرة.

{ويعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون}، فكانوا في الجاهلية جهلاء، فصاروا بتعليم الرسول علماء، وأمة تقود البشرية قيادة حكيمة رشيدة. فقد كانوا من قبل في ضلال مبين (كما في الآيات التي ستأتي).

إذاً فرسالة الله للناس التي أرسل بها المرسلين هي ثلاثة أشياء: تبدأ بالتعريف بالله أولاً، ثم تزكية النفس (وهي نعمة العمل والسعي إلى الكمال)، ثم تعليم الكتاب والحكمة وتعليم مالم يكونوا يعلمون (وهو أيضاَ نعمة العمل والسعي إلى المعرفة والعلم)، فقد كانوا من قبل في ضلال مبين (كما في الآيات التي ستأتي).

وقد بدأت الآية بِ {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ} ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام من بني البشر لما قامت الحُجَّة لله عزَّ وجل، لقالوا له: إنك مَلَك ونحن بشر، وهذا الذي تقوله لا يصدُق علينا. لكن جعله الله بشر منهم: يأكل ويشرب، ويمشي في الأسواق، تجري عليه كل خصائص البشر يغضب كما نغضب، ويتألَّم كما نتألَّم، يجوع، يشعر بالحر وبالبرد، يضيق صدره إذا كذبه الناس أو آذوه؛ لكن الله ميّزه عن باقي الناس بأنه اصطفاه لهذه الرسالة العظيمة وهيأه لها، فارتقى بالقرآن إلى هذا المكان العَلِيّ، فكان المَثَل الأعلى، والقُدوة الصالحة، والأسوة الحسنة.

وقد تكرر نفس هذا المعنى، أي تلاوة الآيات والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة في الآيتين التاليتين: قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} آل عمران، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} الجمعة. وجاء أيضاً استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)} البقرة.

ثم بعد ذلك فالمؤمن مطالبٌ أن يبيّن لغيره من الناس كما عرف، وأن يهدي غيره كما اهتدى، فلا يكتم آيات الله وما نزل من البينات والهدى، بل عليه أن يسعى في تزكية الآخرين كما تزكَّى، فزكاة العلم والمعرفة والهدى، وزكاة تزكية النفس، هي بذكرها للناس، بالإضافة إلى أن في ذلك شكر لله، قال تعالى في الآية التي تلت آية التزكية: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ … (151)} … {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي ولا تكفُرُونِ (152)} البقرة، وهذه دعوة من الله عزَّ وجل إلى المؤمنين، تقول كما منّ الله عزَّ وجل عليكم، وأرسل إليكم رسولاً منكم، يأمركم أن تذكروه للناس، ليكون هذا منكم الشكر والزكاة على ما منّ الله به عليكم.

7.3.3.2- وللمزيد من البيان حول السعادة بالتزكية، انظر في الأماكن التالية من كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن:

7.3.3.2.1- راجع سورة عبس (080.4.1) والتي مقصدها وموضوعاتها حول موضوع التزكية.

7.3.3.2.2- انظر سورة الأعلى (087.0) خاصة الآيات (14-19) حول فلاح الإنسان وسعادته بتزكية نفسه.

7.3.3.2.3- انظر سورة الشمس (091.4.1) والتي مقصدها وموضوعاتها حول الآيتين: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}.

7.3.3.2.4- انظر سورة الليل خاصة (092.2) فضائلها وما ورد عنها من الأثر، وأنها نزلت في السماحة والبخل، ومقصدها تزكية النفس بإنفاق المال.

 

7.3.4- سعادة الإنسان بشكر الله، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} الإنسان.

7.3.4.1- مع هذه النفس المتغيرة في الإنسان، جعل الله أيضاً في الإنسان عقل عجيب معجز، صالح لمعرفة وقبول الحق ورفض الباطل بحسب الفطرة الكامنة التي جبل الناس عليها، قال تعالى: {كان الناس أمّةً واحدة (213)} البقرة، على الفطرة التي فطروا عليها قبل أن يتعلموا، ثم بعد أن تعلموا بمرور السنين والأيام، اختلفوا فمنهم من اختار الحق ومنهم من اختار الباطل، أو كانوا على ملة آدم، عليه السلام، حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم النبيين والمرسلين. واقتضت حكمة الله أن يكون هذا العقل قابل للتعلّم بأدوات السمع والبصر والحواسّ الأخرى، وقابل للمعرفة والعقل والتمييز بين الحق والباطل والهدى والضلالة والشكر والكفر، وأن يرتقي بنفسه ويرتفع ويسلك بها سبيل السعادة الذي أراده لها الله، أو أن يهبط بها إلى سبل الشقاء. وقد اختلف الناس وتمايزوا ما بين النقيضين: الرقي أو الهبوط، والحق أو الباطل، فأرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بينهم {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213)} البقرة. فمن الناس من اهتدى بهدي الله وكثير منهم فَاسِقُونَ، ولو شاء لَخلق العقولَ البشرية على إلهام متّحد لا تَعْدوه كما خلق إدراك الحيوانات العُجم على نظام لا تتخطّاه من أوّل النشأة إلى انقضاء العالم، فلا شكّ أن حكمة الله اقتضت هذا الاختلاف ليختلف الناس في الجزاء على قدر أعمالهم، واقتضت حكمته هذا النظام في العقل الإنساني، لأنّ ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى بتكريم الإنسان وتفضيله على كثير ممن خلق تفضيلا {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} الإسراء.

7.3.4.2- خلق الله الإنسان وسخّر له ما في السموات والأرض ليسعده، مقابل ثمن جعل فيه أيضاً سعادته وتحقيق مصالحه، وهو أن يستقيم على الصراط المستقيم، طريق الحق الذي فيه صلاح وعمارة الأرض وسعادة البشرية، لا طريق الباطل الذي فيه فساد الأرض وهلاك الحرث والنسل. فالله لم يخلق الإنسان ليعذبه، فهو ليس محتاج لأن يعذب أحداً، ولا يفيده تعذيب أحد، قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} النساء، ولكنّ الله كان شاكراً، يعني يكافئ العامل بقدر ما يستحق. والاستقامة هي طاعة الله وعبادته، والغرض من خلق الإنسان، وخلق الجان والكون هو العبادة، أي أن تعرف الله فتطيعه (كما هو مذكور أعلاه)، فتسعد بقربه، قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} هود، فالإنسان مخلوق تفضّل الله عليه بالإيجاد من أجل أن يسعده ويكرمه (كما ذُكِر أعلاه). فما أعظمه من إله يستحق الشكر والطاعة والعبادة.

 

7.3.4.3- أما لماذا يعذب الله الإنسان الكافر؟ الله تعالى لم يشأ العذاب لأحد من خلقه، بل الكافر هو الذي اختار ذلك الكفر لنفسه مع سابق علم بأنه على طريق العذاب، وإصرار وعناد ثمّ وإقرار بأنه اختار هذا الطريق لنفسه. فالله عز وجل اختار له النعيم والتكريم، وعرض عليه أمانة التكليف كما عرضها على باقي المخلوقات، فاختار هو أن يحمل الأمانة، وأشفقت من حملها باقي المخلوقات، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)} الأحزاب. وبعد انتهاء هذا العرض صارت العبادة ضربان: عبادة باختيار، وليس ذلك إلا للإنسان وكذلك الجان، وبه يستحقّ الثواب، أو العقاب جزاءاً وفاقاً يوافق عمله. وعبادة بالجبر أو التسخير وهو للإنسان، والحيوانات، والنّبات، وباقي المخلوقات، تسبح ربّها وتعبده بتسبيح وسجود، ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)} النور، وقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} النحل. وفي عبادة الإنسان الاختيارية: فهو إما أن يطيع الله فيكون بذلك شاكراً لله: بطاعته بالانسجام مع الفطرة، وبالتناغم مع عبادة جميع المخلوقات، وسوف يكافئه الله لأن من أسماء الله الشكور؛ أو يكون كافراً: بمعصية الله، وإفساد الفطرة، والشذوذ، بالإضرار، وبمخالفة عبادة جميع المخلوقات، فيجازيه الله بالعذاب.

7.3.4.4- والشكر عند الإنسان معناه تذكّر النّعمة وإظهارها، ويضادّه الكفر، وهو: نسيان النّعمة وسترها. والحمد هو رأس الشكر، وهو الثناء بالفضيلة؛ والشكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة؛ فكل شكر حمد وليس كل حمد شكراً. والشُّكْرُ ثلاثة منازل أو أضرب: شُكْرُ القلب، وهو تذكّر النّعمة. وشُكْرُ اللّسان، وهو الثّناء على المنعم. وشُكْرُ سائر الجوارح، وهو مكافأة المنعم بقدر استحقاقه. وفيما يلي بعض الأمثلة من القرآن تبين منازل الشكر، فالآيات في هذا المعنى كثيرة، منازل الشكر:

7.3.4.4.1- شُكْرُ القلب، وهو تذكّر النّعمة، قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ (231)} البقرة، وهو الاعتقاد بأن الله ولي النعم على الحقيقة، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (53)} النحل، وقال تعالى: {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)} سبأ.

7.3.4.4.2- شُكْرُ اللّسان، وهو الثّناء على المنعم، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} الضحى، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ (19)} النمل، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ (15)} الأحقاف.

7.3.4.4.3- شُكْرُ سائر الجوارح، وهو مكافأة المنعم بقدر استحقاقه، قال تعالى: {اعملوا آل داود شكراً (13)} سبأ، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} التكاثر. قال ابن كثير: أي: ثم لتسألن يومئذٍ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ماذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة.

7.3.4.5- ومن فضائل الشكر ما يلي:

7.3.4.5.1- يجزي سبحانه على القليل بالكثير، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف أو يزيد، وقد وصف الله نفسه بالشكر، قال تعالى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (64)} التغابن.

7.3.4.5.2- الإنسان هو المستفيد من الشكر في كل الأحوال، لأن الله غني كريم ليس بحاجة لشكر الإنسان، قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} النمل، {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ (14) لقمان، {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} آل عمران.

7.3.4.5.3- الشكر سبب للزيادة: فليعلم الإنسان يقيناً أن النعم إذا شكرت دامت وزادت، وإذا كفرت نقصت وزالت، فإذا أراد العبد دوام النعم وزيادتها فيلزم الشكر، وبدونه لا تدوم نعمة قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} إبراهيم، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)} النحل.

7.3.4.5.4- الأجر الجزيل في الآخرة، قال تعالى: {وسيجزي الله الشاكرين (144)} آل عمران، {وسنجزي الشاكرين (145)} آل عمران.

7.3.4.5.5- يرفع الله بالشكر أنواع البأساء والضراء عن الإنسان قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) النساء، يعني: يتوقف العذاب والشدائد والأحزان إن شكرتم وآمنتم، فسبب العذاب هو كفر النعمة، فإن لم تشكروا وتؤمنوا عُذبتم. فالله لا يعذب لأجل التشفي، أو طلب نفع، أو دفع الضرر، وكل ذلك محال في حقه لأنه تعالى غني لذاته عن الحاجات، منزّه عن جلب المنافع ودفع المضار.

7.3.4.6- مضار عدم الشكر:

7.3.4.6.1- زوال النعمة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} سبأ.

7.3.4.6.2- العذاب والجوع والخوف، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} النحل. {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} إبراهيم.

7.3.4.7- شكر النعمة يؤدي إلى الإيمان:

قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147) النساء، لأن النعمة هي السبيل إلى معرفة المنعم. ولها ثلاث درجات الأولى معرفة المنعم والشكر القلبي، والثانية معرفة أنه منعَم عليه مع عدم تعيين المنعِم والشكر المبهم باللسان، والثالثة معرفة المنعِم وتعيينه، بأنه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه والإيمان به وطاعته بما يكافئ نعمته وبقدر استحقاقه، وهو يستحق أن يشكر بأن يعبد كما أمر في كتابه.

فالمؤمن يعلم أن الله أعطاه المال لينفق، وشكر نعمة المال الإنفاق، فإن خاف على المال ولم ينفق فهو غير مؤمن، والمؤمن يعلم أن الله المنعم خلقه ليعبده ولا يريد منه من رزق ولا طعام، فإن خاف على الطعام والرزق وترك العبادة فهو غير مؤمن. والمؤمن يعبد الله بتوفيق الله وهي نعمة تستحق الشكر، وأن شكر هذه النعمة نعمة أخرى تستوجب الشكر، حتى لا ينفك العبد في كل أحيانه عن شكر الله تعالى، ولا يمكن أن نؤدي شكر الله ولا أن نكافئ نعمه.

7.3.4.8- وقد نبّه سبحانه على أن شكره تعالى صعب، أو ممتنع على الكثير، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} سبأ، ولذلك لم يثن بالشكر على أوليائه إلا على اثنين: إبراهيم في قوله {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ (121)} النحل، ونوح في قوله {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} الإسراء.

وقد أخبر الله في محكم كتابه أن الخلق عاجزون عن إحصاء نعم الله تعالى عليهم، فقال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا (18)} النحل، وهذا يعني أنهم لن يقوموا بشكر نعم الله تعالى على الوجه المطلوب. لأن من لا يحصي نعمة الله عليه كيف يقوم بشكرها. ولعل العبد لا يكون مقصراً إذا بذل قصارى جهده في تحقيق العبودية لله رب العالمين على حد قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (16)} التغابن. أو كما في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لن يدخل أحد منكم عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة”.

7.3.4.9- راجع أيضاً سورة الإنسان في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن: حول شكر الله.

 

7.3.5- لماذا يكفر الإنسان ولا يؤمن:

لو تدبّرنا القرآن فسوف نجد أن أعداء الإنسان، وأسبابَ كفره معروفة ومذكورة في أماكنَ كثيرةٍ في القرآن. فأمّا الأعداء فهي ثلاثة: الشيطان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} البقرة، والنفس، قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} يوسف، والجهل، قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)} الزمر. وباعتبار هؤلاء الأعداء الثلاثة: الشيطان والنفس والجهل نستطيع أن نميّز خمسة أسباب لكفر الإنسان: السبب الأوّل يتعلق في بقاءه على الجهل وعدم استخدامه لنعمة العقل التي تميّز بها عن غيره من المخلوقات، وسببين أو صفتين لهما علاقة بالنفس الأمارة بالسوء، هما الأمر بسوء الظن بالله وبقدرته على منعها أو إعطائها، وعمى البصيرة بحب الدنيا على الآخرة وحب كثرة الخبيث على الطيب، وصفتين من صفات الشيطان يأمر الإنسانَ بهما فيطيعُه ويتبّعُهما، وهما: الكبر، والإصرار على الكفر أو العناد، كما يلي:

 

7.3.5.1- أولاً: أعداء الإنسان الثلاثة التي تأمره بالكفر (الجهل والنفس والشيطان):

7.3.5.1.1- العدو الأول الجهل: لقد خلق الله سبحانه جميع المخلوقات برحمته لكي تعرفه وتشكره على نعمة الايجاد وتطيعه بالعبادة؛ لأنه بطاعته يتحقق لها الصلاح والسعادة. فكل المخلوقات سعيدة بمعرفة الله وبطاعته وبذكره وشكره على نعمة إيجاده لها وعلى نعمة تدبيره لأمرها، طائعة له لا تملك أن تحيد عن أمره أبداً. إلا أن الإنسان (وكذلك الجان كما ذكر في القرآن)، اختار لنفسه أن يطيع الله ويذكره ويشكره بإرادته، فكان له ذلك. فوصفه سبحانه باختياره هذا أنه كان ظلوماً جهولاً، لأنه سبحانه يعلم وهو الخالق أن أكثر الناس سوف تكفر ولا تشكر وتعبد غيره وتشرك به وتعصيه، ظلماً وجهلاً.

ولم يتركِ الله سبحانه الإنسان َفريسة للجهل، فأرسل له الرسالاتِ والمرسلينَ بالآيات والمعجزات، والبشاراتِ والنذر، تحثه على التفكر في مقصدِ وجوده، وتدبر معاني الآيات، فينقِلبَ حالُه من الجهل إلى العلم. إلا أن لهذا التغيير معوقاتٍ تعيق حدوثَه، وهي ما يلي:

 

7.3.5.1.1.1- العصبية والتمسك بالموروثات: فمعلوم من قصص الأمم عبر التاريخ أن الإنسان يتمسك بموروثاته من العادات والتقاليد والأخلاق والدين، ولا يغيرها بسهولة، كما في قولِه تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} البقرة، وقال: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)} الأعراف.

7.3.5.1.1.2- تمسكُ الإنسانِ بجماعته، وصعوبةُ خروجه عنهم: كذلك نجد أن الإنسان ينتمي إلى جماعة لا يتخلى عنها بسهولة، قال تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} هود، فتواجد الإنسان في جماعاتٍ هو من سنن خلقِ الله للإنسانِ، فلا يعرف نفسهَ ولا غيرَه إلا بهذا الانتماء، ولا يمكن أن يهنأَ له عيشٌ بدونه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} الحجرات. فإذا كانت جماعتُه على غيرِ الحق وجد صعوبةً في الانسلاخ عما هو متعارف عليه، فيحسبُ حسابَ رفضِ أسرتِه خروجَه عنهم، فأقاربِه، فجيرانِه، فبلدتِه، فدولتِه.

7.3.5.1.1.3- عدم الثقة بمن يأتي بالتغيير: قال تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)} هود، فالإنسانُ يتبعُ الخير أو الشر دون تفكير إذا ما جاءته التعليمات من سلطة يثق بها. فمنهم من يتبع الله الخالق الحق، ومنهم من يتّبع الشيطان، أو ما جاءَ به الآباءُ والأجدادُ من عاداتٍ وأساطيرَ وغيرَها. ولكي تحصُل الثقةُ بالسلطة الجديدة الآتية بالتغيير، بعث الله سبحانه رسله بالآيات والحجج والبراهين، فتبطلَ مفعول السلطة الآمرة القديمة، وتستبدلها بالثقة والإيمان بسلطان الله المطلق الآمر بالحق، قال تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)} يس. فإذا ما آمن الإنسان بالله وحده لا شريك له، وعرف أنه هو الحق مالك الملك، وهو المشرّع لما يصلح للناس حياتهم في ملكه، وأنه يحاسبهم على أعمالهم في الدنيا والآخرة، ويزن عليهم أعمالهم بميزان الذرّ، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} الزلزلة، سمعَ كلامَه وتدبر آياتِه، ثم أطاعه واتبع دينَه. فعدم الثقة بالتغيير يقطعها الله عز وجل بتعليمات أعلى من كلِّ هؤلاء، وبمصلحة حقيقية تفيد كلَّ هؤلاء.

7.3.5.1.1.4- لأجل هذا نجد أنّ أكثر شيء ركّز عليه القرآن هو العلم، أي أن يتعلّم الإنسان. وقد تكررت كلمة العلم ومشتقاتُها كثيراً في القرآن فذكرت ثمانمائةٍ وأربعٌ وخمسون (854) مرّة، وكذلك العقل تسعٌ وأربعون (49) مرّة، والفؤاد ستّ عشرةَ (16) مرّة، والقلب مئةٌ واثنتان وثلاثون (132) مرّة. فبالعلم يتعلم الإنسانُ مقصد وجوده، وحقيقة أعدائِه، وخاصةً العدوين الآخرين: النفس والشيطان، ويتعلم كيفية محاربتِهما والاستعاذةِ منهما، كما بينه الله في سور المعوذات وغيرِها من سور القرآن الكريم. فالإنسان يولد على الفطرة، لكنه لا يملك من العلم شيئاً، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه.

7.3.5.1.2- النفس: نفس الإنسان هي مكان شهواته ورغباته وأمانيه التي لا تنتهي كما في الحديث المتفق عليه “لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً”، والنفس تأمر الإنسان بالمعاصي من أجل اشباع شهواتها بما يرضي أو بغير ما يرضي الله، وقد زين الله هذه الشهوات للإنسان لأنها من ضرورات الحياة والبقاء على الأرض، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)} آل عمران، كما أنه ضمن تحقيقها للإنسان لكي يتفرغ لمقصد وجوده على الأرض وهو معرفة الله وعبادته. لكن نفس الإنسان الحيوانية تتحكم به كما في الحيوانات فيتنافس على حظّه من الرزق كتنافسها، فقد جُبل مثلها على الجزع وشدّة الحرص فهو هلوع، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} المعارج.

7.3.5.1.3- الشيطان: يولد الإنسان ضعيفاً بنفسه ويحتاج لغيره من الناس لكي يتقوّى بهم ويتكامل معهم في حياته، فتكتملَ بهم سعادته؛ وفي نفس الوقت كل الناس مجتمعينَ محتاجينَ، كجنس بشري، إلى الله خالقِهم يدبر أمورَهم ويحفظُهم. والإنسان مخلوق طماع يسعى إلى الخلود وإلى ملك لا ينتهي، والشيطان يعلم هذا، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)} طه. والإنسان نزّاع إلى الكمال، لأن الله نفخ فيه من روحه، فهو دائم السعي إلى الكمالِ الذي عرفه في الله، ولن يتوقف سعيه إليه، لأنه كلما خطى خطوة في طريق الكمال تبين له أنه لا يزال أمامه الكثير، فيواصل إلى مالا نهاية إلى ما شاء الله، لأن الله وحده هو صاحب الكمال. إلا أن الكثير الحاصل أن جهل الإنسان في سعيه إلى الوصول إلى الكمال البعيد المنال، يدفعه إلى تغليب صفة على صفة فيختل التوازن والتكامل، وتحصل بسببه المظالم والكوارث؛ فالكمالُ، كما كلُّ فضيلةٍ أخرى، واقعٌ بين رذيلتين. كمالُ الشجاعة واقعٌ في الوسطِ بين التهوّر والجبن، والقوةُ بين الشدّةِ والضعف، والكرمُ بين البخلِ والإسراف، وهكذا. والوسطيّةُ هي ما دعا إليها الدينُ والعقل، وسوف يتبينُ لنا أن أكثر الناسِ يفسدونَ ويتبعون سبلَ الهلاك بسبب تطرفهم بالإفراطِ أو التفريط، وعدم اتباعهم الوسطية، بسبب أن الشيطانَ سوّل لهم وأملى لهم وأضلهم، ووعدهم بالأماني الكاذبة، وأمرَهم بالمعصية، وزينَ لهم الغلوَ بالإفراط والتفريط وترك الوسطية، وهي الفضيلة التي أمر بها الدين والعقل. نعوذ بالله من الكفر والجهل.

 

7.3.5.2- ثانياً: أسباب كفر الإنسان الخمسة: بعد أن بينّا أعداء الإنسان الثلاثة التي تأمره بالكفر (الجهل والنفس والشيطان)، نبين هنا أسباب كفر الإنسان الخمسة، وهي كما يلي:

7.3.5.2.1- الجهل:

7.3.5.2.1.1- وأول جهل ارتكبه الإنسان هو جهله بعدم قدرته على حمل الأمانة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}، الأحزاب.

7.3.5.2.1.2- ومن جهله وظلمه لنفسه كذلك أنه يحسب أن يترك سدى، ولا يحاسب ولا يعاقب. وهذا تفريط في فهم عدل الله ورحمته وفي فهم حريّة الاختيار التي منحت للإنسان، وإفراط بالجهل بميزان وعدل الله بالجزاء والحساب. وصفة الجاهل هذا الذي لا يفهم حكمة ولا مقصد الحياة، تقابلها صفة العالم الذي يبصر حكمة الحياة، وفيما يلي بعض الأمثلة على صفات الجهل من القرآن:

يحسب أن يترك سدى، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} القيامة، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)} فصلت. وتعطيل العقل بالإعراض عن الآيات: يخاطبهم ربهم بالقرآن يأمرهم بالعبادة والعمل الصالح، ويبشرهم بالثواب ويحذرهم من العقاب. ثم إعراض أكثر الناس عن القرآن واتباعهم الباطل فاستحقوا العقاب، قال تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)} يس، {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} ص، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)} فصلت. ويحسب أنه لن يعود إلى الحياة (بعد الموت) مرة أخرى، لأنه يريد أن يتمادى في الباطل، فينشغل به وينكر البعث، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)} يس، {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآَبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)} الصافات، {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)} الصافات، {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} فصلت، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)} القيامة.

7.3.5.2.2- النفس الأمارة بالسوء:

7.3.5.2.2.1- وأوّل ظلم ارتكبه الإنسان على الأرض من أجل تحقيق شهوات نفسه هو القتل، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} البقرة.

ابن آدم قتل أخيه حسداً، فقد أعمته نفسه الأمارة بالسوء عن تحريك عقله الذي كان سيعيده إلى رشده. أمّا أخوه فقال إني أخاف الله رب العالمين، لأنه يعلم أنه يوجد إله يحاسب ويجازي؛ لهذا فلا بدّ من العلم بصفات النفس الأمّارة بالسوء، والإيمان بالله ليعم السلام وينتهي القتل والفساد.

7.3.5.2.2.2- ومن صفات النفس الأمارة بالسوء، هي: سوء الظن بالله وبصفاته، وجهل سبب خلقه للإنسان، وأنه لن يبعثه ليحاسبه، وأنه لا يرزقه. وكذلك الركون إلى النعمة وحب الدنيا والانشغال بها عن الآخرة. ويؤدي هذا إلى تعطيل العقل وإلى البقاء في الجهل، والكفر، وعدم الإيمان بالله والبعث والحساب والجزاء، وجهل مقصد خلق ووجود الإنسان. وهذا إفراط بحب الزائل وتفريط في الاستعداد والعمل للدائم، وهي الآخرة. والوسط هو العمل للدارين الدنيا والآخرة مع التركيز على الآخرة لأنها هي الدائمة. ومن الأمثلة في القرآن:

اتباع الهوى، الذي مصدره النفس الأمارة بالسوء، بدلاً عن اتباع الحق، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} البقرة، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (26)} ص، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} النازعات. والانشغال بنعم الله عليهم في الدنيا التي يعصونه بها، والإعراض عن سماع كلامه ومنع غيرهم من سماعها، وهم لا يؤمنون إلا إذا وقع عليهم العذاب وسلبت منهم النعمة، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)} الزمر، {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)} الزمر، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)} فصلت. وغرّتهم الحياة الدنيا: قال تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)} الأنعام، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)} فاطر.

7.3.5.2.2.3- ومن صفات النفس الأمارة بالسوء: حب العاجلة وترك الآخرة، وهذا إفراط فيه قصر نظر فلا يرى إلا القليل الذي أمامه وتفريط بعدم التفكر وتأمل الكثير الذي أعد له في الآخرة. فالأولى أن يضحي بالقليل الفاني من أجل الكثير الباقي. ومن الأمثلة في القرآن:

شراء الدنيا بالآخرة أو حب وإيثار الدنيا على الآخرة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} البقرة، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)} البقرة، {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21)} القيامة، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} الأعلى. ويريد أن يبقى على الفجور فيما يستقبل من أيام عمره، مستبعدًا قيام الساعة، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} البقرة، {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)} القيامة. وزُيّن لهم سوء عملهم، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا … إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)} فاطر، {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)} فصلت.

7.3.5.2.3- عداوة الشيطان المغرور المتكبر العاصي لربّه والمصرّ على معصيته، فهو يتربص بالإنسان ليضله ويغويه فيدخل معه في غضب الله وفي النار:

7.3.5.2.3.1- وأول معصية عصاها الإنسان بسبب إبليس، هي أكله من الشجرة التي نهاه الله عنها، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)} البقرة.

الشيطان تكبّر على الإنسان، فعصى ربه حين أمره بالسجود، فلعنه الله. والشيطان يعلم أنه ملعون وأن الله سيعذبه بالنار، وهو لا يزال مصراً على كبره ومعصيته، لا بل يصر على معارضته لله، وحربه لأمره ومشيئته، بأن طلب مهلة ليغوي الناس ويضلهم عن سبيل الله والحق. والإنسان فيه الشر والفساد وفيه الخير والرحمة، فيه النفس الأمارة بالسوء كالحيوانات، قانونها الغريزة والشهوة، وفيه العقل كالملائكة التي لا تفعل إلا الخير، وقانونها الطاعة ومخافة الله. فالشيطان يلعب على نقاط ضعف الإنسان ليهلكه، بأن يضله عن الحق ويوسوس له حب الفساد، وبأن يمنّيه كذباً ليستبعد الموت ويطيل الأمل ويستبعد قيام الساعة، ويغويه ليبقى جاهلاً فيحرفه عن الصراط المستقيم.

7.3.5.2.3.2- من صفات الشيطان التي يأمر بها الإنسان هي: الكبر وإرادة الفجور، وهذا إفراط بالتعالي على الحق والصراط المستقيم الذي فيه صلاح البشرية، وتفريط باتباع الباطل الذي يؤدي إلى الفساد وهلاك البشرية. ومن الأمثلة في القرآن:

الكبر الذي في نفوسهم والتعالي على الناس وعدم تواضعهم لله، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)} الصافات، {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} ص، {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} فصلت، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} فصلت.

7.3.5.2.3.3- العناد والتعصب، وهي من صفات الشيطان التي يأمر بها الإنسان، فتسبب له الغفلةَ والتعصبَ للضلال، وعدمَ إرادةِ التغيير التي يحدثها القرآن، الذي يبينُ الحق ويأمر باتباعِه. والإنسانُ يعلمُ حقيقة ما يفعلُه بأنه على باطل، مهما قدم من أعذار، فهو يعلم الحق من الباطل بالفطرة، وهذا إفراط بالعناد والتعصب والتحايل للبقاء في الجهل والضلال وتفريط بتجنب سماع العلم والهدى، فالأولى له أن يُقبلَ وألا يعرض، فيستمعَ ويتدبرَ العلمَ الذي جاءه، لاحتمال أن يكون فيه الخير والنجاة، وفي نفس الوقت ألا يجدَ الأعذارَ ويتبع الأوهامَ، بل يتفكرَ بما هو فيه من العملِ، لاحتمال أن يكون فيه الشر والهلاك. ومن الأمثلة في القرآن:

يعلم أنه على الباطل ويستمر فيه، ويجد لنفسه الأعذار لكي يبرر الباطل ويستمر فيه، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} البقرة، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} فصلت، وقال: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} القيامة. ويعلم أنه في الجهل، يريد البقاء على الجهل ولا يريد أن يتعلم، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)} يس، وقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)} فصلت. الغواية: أغواهم الشيطان وقرناء السوء بالباطل ليدحضوا به الحق، قال تعالى: {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)} الصافات، وقال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} ص. الغفلة: لا يريدون أن ينتبهوا للنذر من حولهم، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)} الأنبياء، {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} يس. الضلالة: لا يريدون أن يهتدوا، قال تعالى: {وَلَا الضَّالِّينَ (7)} الفاتحة، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} البقرة، وقال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} الصافات، وقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)} الزخرف. تقليد الآباء والحمّية الجاهلية، والإصرار على الضلالة والجهل وتقليد الآباء والأجداد، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} الزخرف، وقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} الزخرف.

7.3.5.3- وقد ذكرت أسباب الكفر الخمسة هذه مجموعة في سورة القيامة، والتي عالجت أيضاً هذه الأسباب بأن: اشتملت على إِثباتِ البعث، ثم بالتذكير بيوم القيامة وذكر أشراطه، والتذكيرِ بالموت وأنه أول مراحل الآخرة، وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناس في الدنيا، واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء وتكريم أهل السعادة، وأخيراً بالزجرِ عن إيثار منافع الحياة العاجلة على ما أعد لأهل الخير من نعيم الآخرة.

 

7.3.6- سعادة الإنسان بمحبة الله:

إن أوّل وأعظم نعمة منحها الله الكريم للإنسان هي الحياة ثم نعمة معرفة الله ثم نعمة محبته ثم نعمة الخلود في ملك لا يبلى ورضوان من الله:

7.3.6.1- أي: أن الله وهبني الحياة فأنا سعيد بالحياة وبلحظة ولادتي وبأني موجود، ثم لكي تستمرّ هذا السعادة وتدوم، ولا تتنغص، أحاطها الله تعالى بالكمال والمحبة والاستمرارية والخلود، كما يلي:

7.3.6.1.1- لحظة الوجود: سعيد لأن الله خلقني فأحياني فها أنا أتمتع بمعرفة أني حي، ومشاعري تكبر ووعيي يزداد، وأتلمس ما حولي بكلّ فرح، وأبحث عن بقائي بكل حب وحرّية. هذا لا يكفي؛

7.3.6.1.2- كمال الحياة: وهي حياة مثالية فيها سنن وقوانين ومقادير ونظام (نقيضها فوضى وعشوائية وانفلات وتصادم). وهذا لا يكفي؛

7.3.6.1.3- محبّة الله: محبة الله بأسمائه الحسنى وكمال صفاته، مالك الملك، وخالق الخلق، والرزق والنعيم والحب والجمال وكلّ شئ فيه سعادة الإنسان، وبيده الخير وكلّ شيء يحتاجه الإنسان، ذو الجلال والكمال والجمال؛

7.3.6.1.4- استمرارية الوجود: في الدنيا سعيد لاستمرار وجودي، وقد وعد الله بتحقيق ذلك لي، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} النور، هذا في الدنيا وفيما يخص الآخرة، وعدني الله مغفرة وأجر عظيم، لا يخلف الميعاد. قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)} المائدة، وقال: {لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)} الزمر.

7.3.6.2- ما ينقلني من حياة اللحظة الانتقالية المؤقتة إلى حياة الخلود والكمال (كما أراد لي الله) هو تنمية عناصر وجودي (العقل والقلب والجسد) بالممارسة الصحيحة المطمئنة للقلب الحكيمة العاقلة للعقل بتوجيهات من الله بارئ النفس وخالق الموت والحياة للابتلاء. والإنسان ينزع إلى الكمال ويتمناه ويطلبه ولا يهدأ له بال إلا بدوام الرقي في سلّم الكمال.

 

7.3.6.3- حب الحياة والخلود: من المسلم به أن لا يوجد مخلوق في هذا الوجود بمن فيهم الإنسان إلا ويحب الحياة، ويكره الموت والفناء؛ وهذا أمر بديهي نراه في كل الكائنات الحية، فلم نعلم، ولم يذكر لنا القرآن أن أحداً من المخلوقات كره أن الله كان قد خلقه أو منحه الحياة، بل على العكس من ذلك فقد كان حب الخلود هو سبب معصية آدم وخروجه من الجنّة، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ (120)} طه؛ فقد يكره الإنسان الحياة لعدم مقدرته على تحمّل مصاعب الحياة، ولكن ليس لأن الحياة غير محبوبة. ولأن الإنسان يحب الحياة لذلك فهي أوّل وأعظم نعمة منحها الله الكريم له، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} الانفطار، وحافظ الله له عليها وحرّم الاعتداء عليها وعلى سلامتها بالقصاص، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ، ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} البقرة، ثم تليها نعمة معرفة الله، لذلك منحه عقلاً يسعد بمعرفة الله الرحمن الرحيم، تليها نعمة محبة الله، لذلك منحه قلباً يسعد بالحب، يليها نعمة العمل في طاعة الله وعبادته وذكره وشكره، لذلك منحه جسداً يسعد بالعبادة. وهذا الجسد يحتاج للبقاء إلى الطعام والشراب والقوانين لاستعمار الأرض. العقل يحب المعرفة، والقلب يحب رؤية الأثر، والجسد يحب الممارسة الحسية. عقل يدرك الحق بالعلم والمعرفة، والحق هو الله، وعلم الله لا ينتهي؛ وقلب يدرك بالرؤية والبصيرة، يحب الكمال وهي صفة الله، وكمال الله لا حدود له؛ وجسم يتحرّك بالمتع والشهوات فلا يشبع، فهي من نعم الله التي لا تحصى ولا تنتهي. فالإنسان مكوّن من ثلاثةِ أجزاء ومكونات لا نهاية لنهمها ومطالبها، قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا”، فلا بدّ من تلبية حاجاتها باتزان، فإذا ما أهملت إحداها، أو لُبيت حاجات واحدة على حساب الأخرى، فَسَدت الحياة.

7.3.6.4- الإنسان كائن حي يتميز بالنمو والتكاثر والحركة والتكيّف مع محيطه (والذي عكسه الجمادات غير الحية التي لا تتكيف مع محيطها)؛ فلا نتوقع إنسان مسلم بلا حركة أو عمل. فهو جسد فطر على العمل بالعبادة وممارسة الحياة على طريق اتباع الدين؛ وهو كذلك قلب فطر على الحب ومعرفة الله والحق؛ وعقل فطر على تلقي العلم والتعلم بالتجربة.

كذلك، فلا يجوز أن يقول الإنسان أن العمل متعب فلا يعمل فيموت من الجوع، فمن يفعل هذا فقد قتل نفسه وجزاءه الخلود في النار، الإنسان مفطور على حب الطعام بل ويحتاج الطعام للبقاء فليسعى في الأسباب. وكذلك الإنسان مفطور على حب مكارم الأخلاق، لكن الحب شيء والعمل شيء آخر، فالإنسان بحاجة عمارة الأرض للبقاء، وحاجته إلى عمارتها للبقاء يحتاج إلى الأخلاق، كحاجة الجسم للطعام للبقاء، والإنسان مفطور على حُبّ مكارم الأخلاق من الرحمة، والإنصاف، والعَدل، والأمانة، والصّدق، وكلّ القِيَم التي أمر الله أن يكون عليها، وهذه هي الفِطرة، فأن تحبّها شيء، وأن تمارسها شيءٌ آخر، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: “أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك”، فلا يجوز ألا يسعى في الأخلاق فيظل سلبياً فيقسو قلبه ولا يلين للحق فيختم على قلبه فيشقى في الدنيا ثم يدخل النار. وكذلك لا يجوز ألا يسعى إلى العلم مهما كانت الظروف والأسباب فيشقى بالجهل ثم يدخل النار في الآخرة.

7.3.6.5- حبّ الله، يحبهم ويحبونه: الله سبحانه وتعالى يدرّب الناس على الحب، لا يريدهم أن يعصوه فيهلكوا أنفسهم بل يريدهم أن يحبوه فيطيعوه، فيسمعوا كلامه حبّاً، لا أمراً ونهياً، وهذه تحتاج إلى هذا التدريب الموجود في الدنيا، ذنب يقابله عقاب وطاعة يقابلها ثواب، فمن أراد الثواب فليطيع أكثر فينال ثواباً أكثر، وليدع غيره إلى الطاعة فينال مثل أجورهم، ومن أراد الانفلات فليتحمّل العقاب، كلما انفلت أكثر كلما عوقب أكثر، وليدع غيره إلى الانفلات فينال مثل وزرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني، أعطيته، ولئن استعاذني، لأعيذنّه” رواه البخاري، وقال: “إذا أحب الله تعالى العبد، نادى جبريل، إن الله تعالى يحب فلاناً، فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض” متفق عليه.

الله خلق الناس ليحبوه على فائض نعمته عليهم، وعلى إيجادهم، وعلى عظيم صفاته، ويحبهم باتباع أوامره واجتناب نواهيه التي جعلها لأجل سعادتهم، والمحبة هي أعظم شيء يسعى الإنسان إلى تحقيقه في حياته الدنيا، فأرسل الله لهم رسولاً يدلهم على طريق الحب الحقيقي، فإن اتبعوا الرسول وصلوا إلى غاية مرادهم وأعظم أمنيات حياتهم، وإن تولّوا خسروا الحب الحقيقي الذي فيه سعادتهم، لأن الله تعالى لا يحب الكافرين، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}.

حب الله للناس بطاعته واتباع دينه وإحسانهم، وهو لا يحب الكافرين المفسدين العاصين: الله يحبنا ويريد أن يرحمنا فهو لم يخلقنا ليعذبنا بل خلقنا ليكرمنا ويسعدنا، وأن له الدارين: الآخرة والأولى. فوعد بأن يهدينا، يبين لنا ويأمرنا وينهانا يبعث لنا المرسلين وينزل الكتاب ويبين الآيات وينذر ويبشر ويرغب ويرهب ويعد ويوعد ويرينا القصص ويضرب لنا الأمثال ويأتينا بالأنباء ما فيه مدكر. أبداً لا يتركنا وحدنا بل يقبل علينا، من يأتيه مشياً يأتيه هرولة، يكافئنا ويعاقبنا بالأسباب ينعم علينا ويبتلينا بالشكر وييسر حياتنا ويعسرها بحسب إقبالنا عليه، يرغبنا بالطاعات حتى يحبنا فإذا أحبنا صار لنا السمع الذي نسمع به والعين التي نرى بها واليد التي نبطش بها ولو أقسمنا عليه لأبرّنا.

 

7.3.6.6- إن مقصد الدين هو إقامة الحب وإدامته بين العباد وربهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}، الله تعالى خَلَق الناس لكي يحبهم ويحبونه، فأي شيء أعظم من هذه النعمة وهذا الفضل بحب الله لعباده، وأن طريق هذا الحب وعلامته هو اتباع الدين، بدليل أن من يرتد عن الدين، فسوف يستبدله الله بقوم يحبهم ويحبونه. وفيها وعد ووعيد بأن الأمر بأيديهم، فارتدادهم عن الدين يخرجهم من هذا الحب، ويستبدل الله بسبب ردتهم قوماً غيرهم، يحبهم الله بطاعتهم إيّاه واتباع دينه، وهم يحبونه، ويجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، فهو مصدر وجودهم ومصدر سعادتهم بمعرفته وبنعمته وحبه لهم.

7.3.6.6.1- لقد ربط سبحانه وتعالى محبته باتباع الدين واتباع الرسول؛ والدين هو: علم وحب وعمل؛ والدين هو: الإسلام بأركانه الخمسة وهي: شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصيامُ رمضان، وحجُ البيتِ لمن استطاعَ إليه سبيلاً؛ والإيمانُ بأركانهِ الستة: باللهِ، وملائكتِهِ، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخر، والقدرِ خيرِهِ وشرِه؛ والإحسانُ: بأن تعبُدَ اللهَ كأنكَ تراه، فإن لم تكُن تراهُ فإنهُ يراك. الدينُ: هو الفطرةُ التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} الروم.

 

7.3.6.6.2- خلق الله الناس لكي يحبهم ويحبونه، يحبهم بسبب طاعتهم وبسبب اتباعهم دينه، ويحبونه بسبب معرفتهم صفاته وإحسانه إليهم بأن أوجدهم ثم أنعم عليهم، ثم أمرهم باتباع الدين الذي هو فطرتهم. إذا أطعنا الله فيما أمرنا به فإنّه يحبنا ويعطينا من كلّ ما سألناه، وإذا أعطانا الله من كلّ ما سألناه فإننا نحبّه.

7.3.6.6.3- والحب من الناس هو عمل باتباع دين الله، والدين هو الإسلام والعبادات، وتقرب إلى الله بالعمل؛ والإيمان هو معرفةٌ ومحبة؛ والإحسان هو مكارم الأخلاق. (صفات الله الرحمة والمحبة والكرم، ….) عكسه (الكبر والتجبر والظلم …). والحب من الله هو الهدى إلى الفطرة، ويكونُ بالتعلم والزيادة في العلم، وبالمعرفة والمحبة، وبإقبالٍ من الله وزيادة في الحب وفي الأمان والفلاح والسعادة والخلود في النعيم والمزيد.

 

الله خلق المخلوقات فهو يحبها، وينعم عليها ويعطيها، والمخلوقات تحب الله بطاعته واتباع سننه وشرائعه. خلقنا الله ليُحِبَنا ونُحبَه، فإذا تم هذا فقد تحقق مراد الله تعالى، ومقصود وجودنا، فإذا أحبَبنَا اللهَ فأطَعناه، فقد تحقَقَ مرادُ اللهِ تعالى ومقصِدُ وجودِنا؛ وإن لم يحصُل هذا الحبُ بإعراضِ الناسِ عن الحكمِ بما أنزلَ اللهُ في كتابِه، وعن شرعهِ ودينِه، وباتباعِهِم أهوائِهِم واحتكامِهِم إلى الجاهِلية، واتخاذِهِم الكفارَ أولياءَ من دونِ الله، (انظر الآيات 48-56 في سورة المائدة) فسوفَ يستَبدِلهُم اللهُ بقومٍ غيرِهم، يحبُهم ويحبونَه.

الحبُ هو الموافقَة، والبغضُ هو المخالفَة، هذا قانونٌ ربانيٌ وسنَةٌ كونيّة. الحبُ هو الاتباعُ، لقولهِ تعالى: {فاتبعُوني} والطاعةُ، لقوله: {أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرسول}، وقوله: {فإن تولَوا فإنَ اللهَ لا يحبُ الكافرين}. الارتدادُ عن الدينِ هو التولّي عن الطاعَة؛ والدينُ هو الحكمُ بما أنزلَ الله وعدمُ اتباعِ الأهواء. صفاتُهم أنهُ يحبُهم ويحبُونَه أذلةٍ على المؤمنينَ، أعزةٍ على الكافرين.

كلّ ما يحبه الله: جعلنا نحبه؛ كل ما يكرهه الله: جعلنا نكرهه. أطع الله تسعد، تولّى تشقى. نحن نحب الله لأننا نحب صفات الله، إن أطعنا الله بما أمر استجاب لنا بكل ما سألناه، وقد أمرنا بما نحب ونهانا عما نكره، أمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر. لا يستوي ولا يصح أن يكرمنا الله بالجنة وهو لا يحبنا. آدم عصى في الجنة، فأنزله الله على الأرض لنتعلم، نحن ذرّيته، كيف لا نعصي.

7.3.6.6.4- الحب بالقصص والمثال: كل قصص القرآن هي قصص حب وكره. الله لم يخلق ليعذب بل خلق ليُسعد ويكرم ويرحم، القرآن يروي قصة حب عظيمة بين العبد وربه، ثمرتها الطاعة والموافقة والعطاء. القرآن ليس قوانين جامدة صماء لا تُفهم، إنه يشرح كيف يكون الحب وتكون السعادة، إنه حركة وعمل ومقدمات ونتائج وأسباب ومسببات، وسنن تطبق عملياً ونرى نتائجها على الأرض كالمختبر.

7.3.6.6.5- للمزيد من التفصيل عن الحب من قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)}، انظر سورة المائدة في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، الفصل: 005.7.6- سياق السورة باعتبار قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)}.

7.3.6.6.6- انظر أيضاً إلى مقصد سورة آل عمران في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، في الفصل 003.4.3- الفرق بين الحب والعبادة؛ والفصل 003.4.4- الإرشاد إلى التطبيق العملي للدين من أجل الوصول إلى حب الله.

 

7.3.7- تكامل الأسباب المادية والمعنوية:

7.3.7.1- اعلم أن كل ما في هذا الوجود من الأسباب الماديّة، أي الحسيّة التي تدرك بالحواس الخمس، والمعنوية، أي العقلية والقلبية التي تدرك بالعقل والقلب، تعمل مع بعضها البعض بإذن الله وبقضائه وقدره في تكامل وتناسب وتناغم تام، وبطريقة لا يعلمها إلا الله. وقد سهّل سبحانه علينا إدراك هذه الأسباب بمشاهدة مظاهرها ونتائجها التي أشار إليها في كتابه، بضرب الأمثال وسرد القصص عن تجاربُ الأممِ والقرون الأولى، فجُعلت هذه الأسبابُ الماديّة والمعنوية الدليل على صدق الكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما بينّاه، انظر (4.1.5- عن صدق القرآن الكريم، وأنه كلام الله تعالى، وأنه من عند الله)، وتوجّب علينا أن نعقلَها ونتعلمها في حياتِنا ونتدرّب عليها بالتجربة أيضا؛ فيزداد بممارستها إيماننا وتزكو باتباعها أنفسنا. وقد جعلها الله تعالى دليلاً على وجوده ووحدانيته وعظيم صفاته، ثم وأن هذه الأسباب بنوعيها هي الطريق إلى معرفة الحق، مسبب الأسباب وخالقها، ومعرفة كمال صفاته، وأنه إليه تصمد الحاجات، وتوجّه الدعوات، وعليه التوكل، سبحانه له الأسماء الحسنى، وله الدين الخالص، وله الحب والعبادة. ومن التجارب التي قصّها تعالى علينا في القرآن، نشير على سبيل المثال إلى أهم أربعة دروس نتعلمها من هذه الأسباب، حصلت مع خاتمِ النبيين محمّدٍ صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه كجماعة، فهم القدوة، وهي ما يلي:

7.3.7.1.1- نصر الله المسلمين في معركة بدر مع قلة العدد والعدة، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)} آل عمران.

7.3.7.1.2- الابتلاء بالفشل والتنازع في معركة أحد، بعد النصر والغنيمة، بسب الاختلاف والمعصية، قال تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ((152)} آل عمران.

7.3.7.1.3- نصر الله المؤمنين بغير قتال في غزوة الخندق بسبب صبرهم وإخلاصهم وثباتهم في معركة لا قبل لهم بها، قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} الأحزاب، وقال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} الأحزاب.

7.3.7.1.4- هزيمة المسلمين في معركة حنين بسبب إعجابهم بكثرتهم، واستغنائهم بها، قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)} التوبة.

ومن هذه القصص عن النصر والهزيمة، نتعلّم أن الأولويّة في الأخذ بالأسباب هي الاعتماد على مسبب الأسباب وهو الله، والإيمان بأن الله هو الفاعل الأوحد في هذا الوجود، وأنه سبحانه سوف يغيّر مجرى الأسباب إذا تغيرت نوايا الناس، واختلف إيمانهم. فإذا أخذنا بالأسباب فيجب أن نعلم أن الله هو الذي هيأها لنا، وأن اتباع الأسباب هي من الوسائل التي جعلت لفهم الوجود وما فيه من الحق، بالممارسة والتجربة، وتفضي إلى الترقي في درجات الإيمان، كما هو واضح في القصص أعلاه، (كما بيناه، انظر مثلاً: 1.7.3- أسباب السماوات والأرض، 7.1.3.1.4.5- لقد قرّبت القصص فهم المعاني، 7.1.3.3.3- لا يستطيع مخلوق على وجه البسيطة أن يفعل ما يريد إلا بقدر من الله، 7.1.3.5.1- القرآن رسالة بسيطة سهلة، 7.3.1- السعادة بالتعلم بالتجربة والخطأ، والسعادة بالتعلم بالابتلاء والجزاء، وغيرها)، وانظر أيضاً سورة يوسف في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن 012.7.5- الله مسبب الأسباب وخالقها.

7.3.7.1.5- إن حقيقة تأثير الأسباب المعنوية على نتائج الأحداث المادّية، هي معلومة بديهيّة يمارسها الناس بالفطرة ، فرادى وجماعات، لكن كيفيتَها وحقيقتَها يجهلها الغالبية العظمى بسبب إعراضهم عن التعلّم من التجربة؛ ففي الآية التالية يعلم الناس، عند انقطاع الأسباب الماديّة بأن الله هو المنجي، وأنه خالق الأسباب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)} يونس. لكن الناس يؤمنون فقط بما يرونه من الأسباب الحسيّة الظاهرة، ولا يلجؤون إلى الأسباب المعنويّة إلا عند اليأس من نتائج أو وجود الأسباب الحسيّة؛ لذلك ركز القرآن كثيراً على ذكر القصص والأمثلة، ليصحح إيمان الناس الخاطئ، فكانت خمسٌ وستون بالمئة (65%) من عدد آياته قصص وأمثال، ليتعلم الناس من تجارب غيرهم إذا لم يبادروا هم ويتعلموا من تجاربهم. وللأسف فإن الغالبية العظمى من الناس يلاحظون ويجرّبون فقط الأسباب المادّية، فيعطيهم الله أو يمنعهم على قدر اتخاذهم لهذه الأسباب المادّية، لكنهم لو جرّبوا الأسباب الربّانيّة، وطلبوا معونة خالق الأسباب لرأوا العجب العجاب، ولرأوا المعجزات، لأن عمل خالق الأسباب أعظم وأقوى وأبرك، ولا يقارن بعمل الأسباب المخلوقة، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} العنكبوت، فمن لا يعقل الأمثال التي ضربها الله تعالى في القرآن، ففي علمه وفهمه نقص كبير وخلل.

 

7.3.7.2- وسبب اعتمادِ أكثرِ الناسِ على الأسباب المادّية وتركِهم للأسباب المعنوية أو تأخيرها، هو جهلُهم وعدم إيمانُهم بالغيب، فهم لا يهتدون، قال تعالى عن المؤمنين أنهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ (3)} البقرة، أما الكافرون فهم في ضلالة، يسيرون على غير هدى، غرّهم لعبهم واستمتاعهم في الدنيا، فأعماهم عمّا منحهم الله من نعمة العقل والقلب، اللذين بهما تحصل معرفةُ الله وحبُه وعبادتُه وصمد الحوائج إليه، والاتكالُ عليه، وكذلك ضلّوا بجهلهم عن أن الله جعلهم خلفاء الأرض؛ فالجهل عدوّ الإنسان الأول، لأن الجاهلَ ظالم لنفسه. وأن ما نراه أمامنا هو ليس مادّةً فحسب، وهو ليس كلَّ شيءٍ في الوجود، لأن في الوجود عوالمُ وأشياءُ لا تحصى ولا يدركها الإنسان ولا يدري عنها، ولا يدري كيف تعمل، بل وحتى في نفسه التي بين جنبيه علوم وعوالم لا يعلم من أمرها شيئاً، ومن ذلك ما يلي:

7.3.7.2.1- لا يعلم الإنسان كيف يعمل العقل الذي في رأسه، ولا كيف يفكر؟ فما نراه من العقل هو المادّة من اللحم والدم، أي الخلايا والسوائلُ فقط. لكن كيف تعمل وكيف يتحوّل هذا الجماد إلى آلة حيّة تدرك وتختار، بنفخ الروح في الجسد؟ لا أحد يدري. ولماذا هذه النفسُ تختارُ أو لا تختار؟ أو لماذا تلك تفعلُ أو لا تفعل؟ كذلك القلب؟ فعندما يموت طفلٌ أو شاب فإن العقل والقلب، في تلك اللحظة التي يموت فيها، يكونان سليمينِ وغير معطوبين، فلماذا يتحوّلان فور الموت مع باقي الجسد إلى قطعة واحدة مصمتة لا تعمل؟ كالخشبة الجامدة، يعجز كلّ الأطباءِ وكلّ العلوم عن إعادة خاصّية العمل إليها، لا أحد يدري شيئاً عما يحصل لنا، من الموت والحياة وأسرارهما.

7.3.7.2.2- وأشياء كثيرة لا يعرف حقيقتها أبداً الإنسان: كالروح، والجاذبية، والكهرباء، والطاقة، وذرّات المادّة. نحن نكتشف حقائق ونرى أشياء ومظاهر كثيرة تعمل، وهي جزء من أنفسنا، وحياتنا اليوميّة، وتؤثر فينا، لكن ما هي حقيقتها؟ وكيف تتحرّك؟ لا أحد يعلم لكن الله يعلم.

7.3.7.2.3- وقس على ذلك القضاء والقدر، وقس على ذلك الهدى، والدرجات والأعمال، نحن نعلم أننا إذا اتبعنا الأسباب نصل إلى نتائج معينة مبنية على تلك الأسباب، أما لماذا فهذا لا نعرفه؟ وكذلك لماذا جعل الله لكلّ امرئ ما نوى حتى لو خالف الأسباب؟ أي جعل نيّة الإنسان هي المنجّية، حتى لو فعل الإنسان أعظم الخطايا والذنوب، وجعل كذلك نيّة الإنسان هي المهلكة حتى لو وصل الإنسان إلى أعلى مراتب العلم والقراءة والصدقة والشهادة، قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)} الماعون، وفي الحديث الصحيح: أول من تسعّر بهم جهنم: شهيد وعالم ومنفق. كذلك جعل الله البقاء على الحياة بالطعام والشراب والتنفس، وهو قادر على أن يديم بقاءنا بغير طعام وشراب، كأصحاب الكهف الذين ماتوا مئة عام فلم تتحلل أجسادهم، وبغير تنفس كيونس في بطن الحوت، وقادر على أن يخرِقَ الأسبابَ كما في معجزات الأنبياء التي ذكرها القرآن.

7.3.7.2.4- لذلك فالعاقل الذي يريد السلامة لنفسه والنجاة، لا بدّ أن يأخذ بالأسبابِ المادّية والمعنويةِ كليهِما. فلا يعقل مثلاً أن نلقي بأنفسنا من شاهق لأننا لا ندرك حقيقة الجاذبية، أو ألا نأكل ولا نشرب، لأننا لا نعلم سرّ النمو وسرّ تحوّل الطعام إلى طاقة ولا ندرك الأسباب، أو أن نلمسَ الكهرباءَ لأننا لا نعلم ماهيّتها؛ كذلك لا نستطيع أن نتجاهل الإيمانَ، لأننا لا نعلم لماذا يؤمن بعض الناس ويكفر أكثرهم، وكذلك ألا نَصْدُقَ لأن الصدق يجرّ ضرراً من مشاكل ومتاعب، وهكذا، فيجب أن نقيس المحسوسَ والحاضرَ على غير المحسوسِ وعلى الغيب. انظر المبحث: (7.1.5- الإشارة إلى آيات الله في الكون وفي المخلوقات).

7.3.7.2.5- انظر سورة الأنفال (008.7.4- استخدام السورة للقصص الحقيقية وللأحداث التاريخية الحقيقية، وأسلوب التعلّم بالتجربة؛ 008.7.6- يستبدل الله سبحانه وتعالى الأمم الكافرة بالمؤمنة؛ 008.7.7- ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة).

 

7.3.7.2.6- والسؤال المهمُ، الذي يتبادرُ إلى الذهنِ عندَ ذكرِ تكامُلِ الأسبابِ الماديةِ والمعنوية، هو ما سببُ كلُ هذهِ المصائبِ التي تحصلُ في الدنيا، من أعاصيرَ وزلازلَ وحروبَ وظلمَ وأمراضَ وأوبئةَ وما شابه؟ والجوابُ مباشرٌ في قولهِ تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} الروم، فهذهِ مصائبُ الأمم، أي: ظهرَ الفسادُ في البرِ والبحرِ، كالجدبِ وقلةِ الأمطارِ وكثرةِ الأمراضِ والأوبئة، وذلكَ بسببِ المعاصي التي يقترفُها البشر، ليُصيبَهم بعقوبةِ بعضِ أعمالهِم التي عمِلُوها في الدنيا، كيْ يتوبُوا إلى اللهِ سبحانه، ويرجِعوا عن المعَاصي، فتنصلحَ أحوالهُم، وتستقيمَ أمورُهم؛ وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30)} الشورى، وهذه مصائبُ الأفراد، أي: وما أصابَكم أيها الناسُ، من مصيبةٍ في دينِكُم ودُنياكمُ، فهوَ بما كسَبَت أيدِيكمُ من الذنوبِ والآثامِ وغيرِه، ويعفو لكُم ربُكُم عن كثيرٍ من السيئات، فلا يؤاخذُكُم بها. لأنهُ لولا ذنوبُ الناسِ لما عذَبَهُم اللهُ تعالى، فالعَذَابُ من هذهِ الوُجهة نعمَةٌ تعيدُ الناسَ إلى عملِ الصلاحِ والخير، وإلى جادّةِ الصوابِ، وإلى الهِداية، أي بالمصيبةِ تحصُل الهداية، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)} التغابن، فيُفلِحوا بذلكَ ويَسعَدوا، فاللهُ تعالى شاكرٌ عليم، ليسَ بحاجةٍ إلى عذابِ الناس، لكنْ يعذِبُهُم ليُصَحِحُوا مَسَارَهُم، فتدومَ النعمةُ عليهم، قال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)} النساء. فالمُصيبَةُ نعمةٌ، كما أشرنا إليه في الفصل: 7.3- نعمة تطبيق الدين وشؤم ونقمة عدم تطبيقه. انظر في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن 012.0- سورة يوسف والتي مقصدها وموضوعاتها وسياقها في أن الله خلق الناس ليبتليهم.

7.3.7.2.7- إنَ الأصلَ من خلقِ الإنسانِ هوَ أن يسعدَ بالنعمةِ وليس العذاب، وأنَ المطلوبَ من الإنسانِ هوَ أن يعرِفَ المنعِمَ الحقيقيّ َ فيسعدَ أيضاً بمعرِفَتِه، فيَشكرهُ على نِعَمِه، لا أن يشكُرَ الأصنامَ أو غيرَها منَ المخلوقاتِ التي لا تضرُ ولا تَنفع. وأنَ شكرَ الإنسانِ للنعمة هو أن يعلمَ أنهُ لا يستحقُ النعمة، أي أنهُ لمْ يفعَلْ شيئاً يترتبُ عليهِ حُصولَه عليها. وأنَ الإنسانَ لا يقدِرُ على شكرِ النعمة، لأنَ شُكرَه للنعمةِ هوَ توفيقٌ من الله، وهيَ نعمةٌ أخرى تَستَوجِبُ شكراً آخر. لقد خلقَ اللهُ الإنسانَ ليبتلِيهِ بالخيرِ والشرِ فتنَه، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} الأنبياء. إنَ خلقَ اللهِ للكونِ حق، وخلقَهُ للإنسانِ حق، والرِسالةُ حق، والبَعثُ والحسابُ حق، وقد جَعَلَ الدينَ للحفاظِ على الإنسانِ من نَفسِه ومن عدوّهِ الشيطَان، ففيهِ النجاة، وفيهِ بيانُ الحالِ الذي يجبُ أن يكونَ عليهِ الإنسانُ ليصيرَ منسجماً مع ما هوَ عليهِ باقي المخلوقات، وهو طاعةُ اللهِ وعبادَتِهِ وحدَه، دونَ غيرهِ من المخلوقات، وأنَ اتباعَ الطاغوتِ وإشراكِ المخلوقاتِ بالعبادةِ فيهِ ضررٌ ودمارٌ للإنسان. انظر المبحث: 6.2.4- نعم الله على الإنسان.

7.3.7.2.8- إنَ كلّ َ القَصَصِ التي في القرآن، وكلّ َ أمثالِه، تشيرُ إلى حقيقةٍ واحدة، وهيَ أنَ أسبابَ مصائِبِ الإنسانِ على مستوى الفردِ أو الجماعة، هيَ ذنوبُ الإنسانِ ومعاصِيه. وتشيرُ إلى أنَ الإنسانَ خُلق ليُذنب، ثمَ يتوبَ فيتوبُ اللهُ عليه، هكذا قَضَى اللهُ وقدّر. وهذا أوّلُ درسٍ تعلّمه الإنسانُ من قصةِ آدمَ في الجنة، قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)} البقرة، وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} البقرة، وقال صلى الله عليه وسلّم: ‏”‏كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ‏” رواه الترمذي وابن ماجة، وقال:‏‏ “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ” رواه مسلم.

 

7.3.7.2.9- لكن ما هو المخرج عند حصول المصيبة والابتلاء؟ للأسفِ أن أكثرَ الناسِ، لا تعرفُ أين المخرج من هذه المصائب، فيلجأ بعضهم إلى التذمّرِ والشكوى إلى المخلوقِ الذي لا يضرُّ ولا ينفع، وبعضُهُم الآخرُ إلى الأسباب المادية فقط، مع تركهم جهلاً للأسباب المعنوية، وهي الدعاء والتضرّع إلى الله خالق الأسباب، والتوكّل عليه، والإيمان به، لأن خالق الأسباب جعل المصيبة علاجاً لمشكلة، بسبب الذنوب، لكي يعود المذنب إلى الصراط المستقيم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)} الأعراف.

والتضرع والدعاء إلى الله هي من أعظم الوسائل لكشف الضرّ، عند عجز الأسباب الحسّية، وأنجع الأسباب التي تقضي على المصائب المستعصية التي لا علاج حسّي لها؛ وهذا ما نراه واضحاً، في تضرّع خير الخلق، وهم الأنبياءُ والمرسلون، إلى ربهم ليرفع عنهم الضرّ الذي أصابهم، قال تعالى: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} الأنبياء، فيتوسل إلى الله بوصف حاله، أَنّه مَسَّه الضُّرُّ، وقال تعالى: {إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} القصص، وقال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ (86)} يوسف، وقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيم (76)} الصافات، وقال: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ (90)} الأنبياء، وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} الأنفال، وغيرها من الآيات الكثيرة، وكذلك مثال آخر هو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الطائف بقوله: “اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ أَرْحَمُ بِي مِنْ أَنْ تَكِلَنِي إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَوْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَيَّ غَضْبَانًا فَلَا أُبَالِي، إِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سُخْطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ”.

7.3.7.2.10- ومن الأسباب المؤكدة والقواعد العظيمة التي جعلها تعالى في القرآن، وبها يحصل دفع البلاء وتجنب المصائب، الاستغفار من الذنوب لأن الذنوب هي سبب المصائب، ثم أعمال الخير والبر والإحسان والصلاح، قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} الرحمن، وقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26)} يونس، وقال: {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} النبأ، وقال: {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)} التغابن، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ (7)} محمد، وغيرها من الآيات الكثيرة، وقال صلى الله عليه وسلّم: “الخير لا يأتي إلا بالخير” رواه البخاري، وقال: “أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة” البخاري، وقال: “الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” رواه البخاري ومسلم، وفي غيرها من الأحاديث. وعكس هذه الأسباب والقواعد الذي ذكرناها، يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} الشورى، وقال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} الشورى، وقال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه (43)} فاطر، وقال: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} هود، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} الأنعام، وغيرها من الآيات الكثيرة، وقال صلى الله عليه وسلم: “ما من امرئٍ يخذلُ امرأً مسلمًا في موضعٍ تُنتهكُ فيهِ حُرمَتِهِ، ويُنتَقَصُ فيهِ مِنْ عرضِهِ، إلَّا خَذَلَهُ اللهُ في موطنٍ يُحبُّ فيهِ نُصرتَهُ، وما من امرئٍ ينصرُ مسلمًا في موضع يُنتَقَصُ فيهِ منْ عرضِهِ، ويُنتَهكُ فيهِ منْ حُرمَتِهِ، إلَّا نصرَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحبُّ فيهِ نُصرَتَهُ” رواه أبو داود، وقال: “من ضار مسلما ضاره الله، ومن شاق مسلما شق الله عليه” أبو داوود والترمذي، وغيرها من الأحاديث الكثيرة حول نفس الموضوع.

7.3.7.2.11- الدعاء في الإسلام:

من أجل التحليق عالياً والوصول إلى أعلى الدرجات في الدين الإسلامي، جعل الله تعالى سببين: أحدهما عملي، يُدرك بالحواس الخمسة وهو تطبيق الأوامر والنواهي، والآخر معنوي، يدرك بالعقل والقلب وهو الدعاء والاستعاذة بالله والاستغفار؛ كالجناحين يُحلّق بواستطهما المسلم عالياً في الدين. ولا يمكن التحليق إلا بكليهما معاً وفي آن واحد، لأن الجناح العملي يمثل الشرائع والتكاليف المفروضة التي يرتبط وجودها بالعمل الإنساني الحرّ على الأرض. أما الجناح المعنوي فمرتبط بفعل الله في الناس، من الهدى والتوفيق والتثبيت والنصر والإعاذة والمغفرة وغيرها من الأسباب والسنن التي لا دخل فيها للإنسان إلا بالدعاء واستجلابها من صانعها ومسببها الوحيد وهو الله تعالى. الجانب العملي المرتبط بالعبادات هو ما يطبقه كلّ المسلمون بأجسامهم، أما الجانب المعنوي المتصل بحبل السماء فكثير من الناس لا تتقنه ولا تدرك أهميّته.

يحتاج الناس لشيئين في حياتهم، الأول العبادة: لأن الله فطر الناس على العبادة، فإن لم يعبدوا الله مالك الملك ورب كل شيء، عبدوا غيره من الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع. والثاني الإعانة: فالإنسان له حاجات كثيرة، ولا يمكن أن يلبيّها بمفرده، فهو يحتاج إلى عون الله، ويحتاج إلى الجماعة، والجماعة أيضاً تحتاج إلى عون الله، فإذا استعان العبد بالله أعانه، وسخر كذلك أفراد الجماعة ليعينوه. والعبادة الحق التي ينتفع بها المؤمن، هي عبادة الله الذي لا إله إلا هو، والاستعانة الصحيحة والدعاء لا يكون إلا بالله الذي بيده كل شيء. القرآن الكريم جعل للإنسان نوعين من الأسباب كالجناحين يحلّق بهما عالياً إلى سعادته في الدنيا والآخرة: وهما معنوي بالدعاء لله والاستعانة به، وعملي بالعبادة لله وحده الرحمن الرحيم، وترك ما دونه من الآلهة المخلوقة التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً.

7.3.7.2.11.1- الدعاء في الإسلام هو جزء من الإيمان والعبادة، جعله الله تعالى من أجل تحقيق أمنيات الإنسان وغاية مراده؛ وفيه يحدد الإنسان ما يريده لنفسه ولغيره (فهو كَ “خطة العمل” بلغة مدربي الحياة في عصرنا هذا)، ثمّ يطلبه من الله ربّه، فالذي يطلب من ربّه النجاح أو الزواج أو المال أو الرياسة أو محبّة الله أو غيرها من الأمنيات، فهو إنسان بدأ الخطوة الأولى نحو تحقيق هدفه المنشود، وتحقيق ما يحبه أو ما يشتهيه، فقد حدد ما يشاؤه وما يريده لنفسه من الدنيا أو الآخرة، أو من كليهما، ووضع هدفاً معلوماً قابل للتحقيق في حياته، أو وضع خطة يريد أن يحققها في مرحلة من مراحل حياته. فإذا تحققت هذه الخطّة، يبدأ بعدها بخطّة أخرى، وهذه الخطّة أو الخطط المتعاقبة، وعملية المسير والتتابع في تنفيذ هذه الخطط والأهداف، هي أيضاً في الإسلام تدرّج صاعد في مسار الإيمان وتسمّى بالزكاة: الزكاة للمسلم بعمل الصالحات، وفي الوقت نفسه التدسية للكافر بالتكذيب والفجور، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس. وهي مشيئة الإنسان وإرادته الحرّة في اختيار الوسيلة التي يريد للوصول إلى ما يحب، وهي الحرّية في الاختيار التي منحه الله إياها، فيختار لنفسه من نعم الله عليه ما يشاء. فالمؤمن يسلك الوسيلة المشروعة والكافر الوسائل المحرّمة؛ وكلاهما يصل إلى ما يريد، ولكن شتّان ما بين العملين والخيارين: خيار الطريق الذي فيه رضى الله، وخيار الطريق الذي فيه سخط االله. وهو يعلم في الوقت نفسه أنه يجب أن يعمل ويجاهد ويهاجر للوصول إلى هذه الأهداف والأمنيات، فالحياة ليست فقط أمنيات، لكن يصحبها العمل، بالنَصّ في القرآن وبالأحاديث وبالتجربة، فإن الأماني بدون عمل لا تؤتي بنتيجة، قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} النساء. وفي الإسلام فإنما الأعمال بالنيات، والنيّة هي خطّة العمل التي تبدأ بالعمل مصحوباً بالدعاء، قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ” متفق عليه.

7.3.7.2.11.2- الدعاء دليل على الإيمان بالله، والاعتراف له بالربوبية والألوهية، وعلى درجة يقين المؤمن بالأسماء والصفات، وعلامة على تحقيق الإيمان وتمكنه في القلب. فالداعي يتوجه إلى ربه ويدعوه فهو بذلك موقن بأنه موجود، رحيم وغني ويسمع ويقدر ويفعل ما يريد؛ وبالإكثار من الدعاء يزداد يقين الداعي، وخوفه من الله وإقراره بالتوحيد الخالص لله. والدعاء من صفات المرسلين والنبيين: قال تعالى: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين (90)} الأنبياء. وأدعية المرسلين كثيرة في القرآن، ومشهورة بين المسلمين، كقوله تعالى: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} الأنبياء، وهكذا.

7.3.7.2.11.3- الدعاء هو دليل على التوكّل على الله والاستعانة به والتفويض إليه وعلى صمد الحاجات إليه وحده، فهو {الله الصمد (2)}، وهو إقرار بعجز وضعف الإنسان وحاجته الدائمة إلى عون ربه ورحمته. وفي الدعاء أيضاً تدريب على ترقية الإيمان، لأن الله تعالى يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، فبهذه الإجابة يزداد الإنسان يقيناً واطمئناناً إلى قرب الله وقرب رحمته، حتى يصل إلى أعلى درجات الإيمان وهي الإحسان.

7.3.7.2.11.4- الدعاء واستجابة الله للدعاء هي من وسائل التدريب على الإيمان بالتجربة والممارسة، بأن يدعو المسلم ربه كما دعا زكريا أن يرزقه الله الذريّة فاستجاب له رغم أن امرأته عاقر، وكما استجاب لهم بالنصر في بدر، فنصرهم وهم أذلة وهزم أعدائهم، وغيرها من الأدعية التي ذكرها القرآن كدعاء المؤمنين في الآية: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)}. وباستجابة الله لدعاء المؤمنين يزداد إيمانهم ويقينهم بصدق وعده ووعيده، فيتقوه ويعملوا الصالحات التي أمرهم بها ويجتنبوا السيئات التي نهاهم عنها، فيفوزوا برضاه وتوفيقه في الدنيا وجنته في الآخرة.

7.3.7.2.11.5- الدعاء لتحقيق أمنياتنا تعلّمناه من أوّل سور القرآن، فقال تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}، وأمرنا به في باقي السور كقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} غافر. فالدعاء واجب، وهو من العبادة، وقد خُلق الإنسان للعبادة؛ وفعلُ الدعاء هو طاعة لله وامتثال لأمره، وتركه هو استكبار يُعاقب عليه بنصّ الآية السابقة. وهو من الإيمان والتصديق بكلام الله وأمره، وقد أخبر تعالى أنه قريب مجيب، وأن فعل الدعاء هو استجابة لدعوة الله، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} البقرة، لعلهم يرشدون، بدعائهم واعترافهم بأن الله خالقهم، ورازقهم، وخالق العوالم كلّها، ورازقها، ومحييها، ومميتها، ومحاسبها على أعمالها، وهو قادر على كل شيء.

7.3.7.2.11.6- الدعاء نصف الطاعات وأركان الإسلام، فالصلاة لا تصحّ إلا بقراءة الفاتحة، وقد قسمت الفاتحة إلى نصفين: نصف ثناء وآخر دعاء، وباقي أركانها ثناء ودعاء. والصيام سرٌّ بين العبد وربّه وهو يجزي به. والإنفاق لا يُبتغى منه إلا فضل الله، والحج عرفة وعرفة صلاة ودعاء، وكذلك صلوات الاستسقاء وقضاء الحاجة والاستخارة والخسوف والكسوف والجنازة فلا تخلوا طاعة من الطاعات من الدعاء، وهكذا.

ومن كلّ ذلك نتعلّم أن الأولويّة في الأخذ بالأسباب هي الاعتماد على مسبب الأسباب وهو الله، والإيمان بأن الله هو الفاعل الأوحد في هذا الوجود، وأنه سبحانه سوف يغيّر مجرى الأمور إذا تغيرت نوايا الناس، واختلف إيمانهم؛ فإذا أخذنا بالأسباب فيجب أن نعلم أن الله هو الذي هيأها لنا، وأن اتباعها هو من الوسائل التي جعلت لفهم الوجود وما فيه من الحق، بالممارسة والتجربة، وتفضي إلى الترقي في درجات الإيمان، كما هو واضح أعلاه. كيف لا وقد دعا خير خلق الله رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ففي معركة بدر واصل صلى الله عليه وسلّم الدعاء فما زال يهتف بربّه، مادّاً يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فالله هو الذي خلق الأسباب والمسببات والمخلوقات، وهو وحده المجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، الذي يجب أن نتوجه إليه في السرّاء والضرّاء؛ فنحن الضعفاء الفقراء إلى رحمته ومنّه وكرمه، يجب علينا أن ندعوه بعزّته وقدرته، كما فعل نبينا صلى الله عليه وسلّم، الذي دعا الله في كلّ شيء، ولأن ذلك هو من الإيمان بالله العزيز القدير، وهو كذلك الإقرار بسلطانه وملكه وربوبيته للسماوات والأرض وما بينهما.

ندعو الله تعالى أن يلهمنا الدعاء لأن فيه مفاتح سعادتنا في الدنيا والآخرة، وهو نصف أسباب قبول الأعمال وتحقيق النوايا والأمنيات، فإذا استعان العبد بالله أعانه، وسخر كذلك له كل المخلوقات والأسباب لتعينه.

أعلى الصفحة Top