العودة إلى فهرس المقدمة والتمهيد


المخاطبون بالكتاب: هذا الكتاب نخاطب به النّاس العادييّن مثلنا الذين أمروا بالتدبّر ولم يسعفهم وقتهم بالتّدبّر الكافي، والتفكّر المطلوب في كلام الله، الذي فيه ذِكرهم وصِفَتهم، لانشغالهم بعمل الدّنيا؛ أي هم الذين أعذرهم القرآن وشغلتهم ضرورات حياتهم، كما في قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ (20)} المزّمّل، والذين شغلتهم شؤون صناعاتهم وتخصّصاتهم التي اتخذوها لأجل إعمار الأرض كما أمرهم ربّهم، قال تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (61)} هود، ولَم يتخصّصوا في دراسة القرآن والدّين، وفيه أيضاً فائدة للمتخصّصين، نقول لهم إنّ كلام الله إلى الإنسان سهل الفهم، يخاطب به كلّ طبقاتهم، المتعلّمين وغير المتعلّمين، فهو خالق كلّ النّاس (والجانّ) لعبادته، ويريدهم جميعاً أفراداً وجماعات أن يتدبّروا آياته ويفهموا كلامه، ويراقبوا أثره على مجريات حياتهم، ويتفكّروا في عواقب إقبالهم وإعراضهم، فيُقبلوا على قراءته وتدبُّر آياته بعيداً عن تفاصيل العلماء وشروح المفسِّرين التي لا يسعفهم وقتهم بقراءتها. هذا مِن ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّه بمتابعة التّفاصيل في هذا الكتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن (على أقل تقدير)، ثمّ متابعة التّفاصيل في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن (لمن أراد المزيد)، يستطيع أي إنسان عادي، عربي أو أجنبي، سواء كان يتقن أو لا يتقن اللّغة العربيّة، أو دارس أو غير دارس (متخصّص) في علوم القرآن والتّفسير، يستطيع فهم مقاصده وتدبّره، ومعرفة أثره في كلّ تفاصيل حياتهم دون الحاجة إلى التفرّغ الكّامل لذلك، وهذا ما سيشجِّع محبّي القرآن على اختلاف ثقافاتهم على الغوص في آياته، وتذوّق حلاوة كلام الله وبديع بيانه، وعظيم حكمته، وتنوّع أساليب خطابه، وفهم هدايته إلى الحقّ وإلى الصّراط المستقيم، وفي النّهاية الوصول إلى السّعادة الغامرة التي خلقه الله لأجلها، وهي محبّة الله العظيم، لعظيم أسمائه وصفاته وأفعاله، وعبادته والتمتّع بنِعَمِه التي أنعم بها عليه.

 

0.6.1- تمهيد – أسلوب العمل في هذا الكتاب:

0.6.1.1- لقد استغرقني الوقت في العمل على فهم القرآن، وفي البحث عن مفاتيح وأبواب فهم وتدبّر القرآن كاملاً، قبل البدء في إخراج هذا الكتاب سنوات عديدة، قريباً من تسع عشرة سنة (من سنة 1983 إلى سنة 2002)، وصلت بعدها إلى فهم أكيد وقناعة وإثبات عملي وتجريبي بأنّ لسُور القرآن مقاصد واضحة ومواضيع محدّده وكلمات مترابطة وتناسق مقصود يخدم بعضها بعضاً في إيصال المعلومات ورسالة السماء للإنسان، وأنّ القرآن يعمل على مواصلة وعظه وإرشاده (والأخذ بيده) إلى طريق الهدى والصّراط المستقيم كما أراده له الله. من هنا بدأت مشروع العمل في استخراج هذا الكتاب والذي استغرق العمل فيه ستّ عشرة سنة أخرى (من سنة 2002 إلى بداية سنة 2018)، واضعاً أمامي هدف رئيسي واحد هو إيصال جميع ما فهمته من كتاب الله، مؤيداً بالأدلّة، التي فيها تسهيل فهم وتدبّر القرآن، للنّاس العاديين الغير متخصّصين في الدّراسات الدّينية وعلوم القرآن حتّى لا تضيع جهودهم وطاقاتهم في عناء البحث في الكتب والتّفاسير التي ليست من اختصاصهم ولا قبل لهم على الإحاطة بها لكثرتها (وأُجنّبهم ما حصل معي، وأضرّ في مسيرة حياتي والتزامي بمسئوليّاتي الدنيويّة، التي لا غنى لي عنها، فهي أي الدّنيا جزء مكمّل للدّين)، وحتّى لا يضيع وقتهم الثمين وهم حائرين بين أمرين مهمّين مترابطين في الحياة، وهما أمور الدّنيا وأمور الآخرة: أّوّلهما أمور الدّنيا وما فيها من الكم الهائل من العلوم التي تبحث في علومها وتجاربها وكيفية تسخيرها ليستعينوا بها على عبادة ربّهم وتطبيق تكاليف دينهم، وثانيهما علوم الدّين والقرآن التي لا تنفذ، عدا عن أنّها تحتاج إلى العلماء والمتخصّصين في الكثير من فروعها، لتسهيل فهم مقاصدها وقصصها وأمثالها ومواضيعها؛ فالنّاس العاديين الذين درسوا وتخصّصوا في علوم وصناعات أخرى غير علوم الدّين والقرآن، وأنا منهم، في أمسّ الحاجة إلى وجود طريقة سهلة لفهم وتسهيل فهم وتدبّر القرآن، وهو ما قصدت أن أفعله في هذا الكتاب، فطلبت العون من الله، فهو وحده المعين، وهو وليّ التّوفيق.

0.6.1.2- وكان لا بدّ لي لكي أنقل الصّورة كما هي واضحة، بعيدة عن الأهواء أو المذاهب والشّبهات، ولا بدّ من أن أكون محايداً، وأن أعمل من وجهة نظر ناقدة وعاقلة ومستبصرة ومنصفة. فبدأت أنظر إلى القرآن الكريم وسوره من كلّ الزوايا والاتّجاهات ووجهات النّظر الممكنة، والتي في اعتقادي تؤدّي إلى الفهم الصّحيح لكتاب الله على اختلاف أفهام النّاس: فنظرت إليه نظرة المؤمن (اللهمّ اجعلنا منهم) ثمّ نظرة الكافر والمشرك والمنافق (نعوذ بالله منهم)؛ ونظرة من يريد الخير للإنسان، ونظرة الرّسل ومن اختارهم الله لإيصال رسالته إلى النّاس؛ وبمنظار الشّيطان وأعوانه من أعداء الإنسان؛ وطالب الدّنيا ثمّ طالب الآخرة؛ ومن يرى أنّ الله خلق النّاس ليبتليهم بالعبادة الشّاقّة والمصائب، ومن يرى أن الله خلقهم للعمل والعبادة والطاعة ليصلح لهم أمر دنياهم وآخرتهم؛ نظرت بمن يرى أنّ الدّين والقرآن نزل لإعمار الدّنيا وإصلاحها وتنظيم حياة النّاس عليها، وأنّ نتيجة الآخرة تبعاً لإصلاح أمر الدّنيا، ومن يرى أنّ الدّين والقرآن نزل لإعمار الآخرة ليس إلا، وأنّ كلّ ما في الدّنيا لإعانة الإنسان على عبادة ربّه، وما هي إلا متاع المسافر ولإصلاح أمر الآخرة؛ ونظرت إلى السُّور والآيات في سياقها التّاريخي، وفي سياق ترتيبها في القرآن الإمام، وفي أسماء سورها ومقاصدها وترتيب سورها وآياتها وفي قصصها وأمثالها وموضوعاتها وأسماء الله الحسنى فيها، وفي القرآن ككلّ وفي السّورة ككلّ وفي الآيات والكلمات المفردة، ومرامي الكلمات؛ وفي مقدّمات الأعمال وفي سيرها ثمّ في نتائجها وثمراتها، وكأن القيامة قامت وبدأ الحساب، ثمّ دخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار؛ نظرت وكأن الحياة الدّنيا انتهت بكلّ زينتها ونجومها وسماواتها وجبالها وفقرائها وملوكها؛ ونظرت نظرة الإنسان الفرد ثمّ الأمم والجماعات؛ ونظرة اليائس من الحياة ومن رحمة الله والخائف من الآخرة ومن عذابها، والذي أمله بالله كبير في الدّنيا والآخرة يرجو رحمة ربّه وعفوه والظّان بربّه خيراً؛ وتأملت سوره وقصصه وآياته وكلماته كإنسان عادي لا يعرف في القرآن تخصّص ولا إعجاز لغوي أو علمي أو غيره، وحاولت أن أفهم قول المفسرين فيه؛ وتأملت فيه وهو يخاطب كل فرد بلغته وكل جماعة بمجتمعاتها؛ ثم لخصت ثمار ونتائج كل ما رأيته وتأمّلته في القرآن الكريم وكل ما قرأته عنه في مقصد واحد واضح سهل، يرى المؤمن من خلاله أمر ربّه ورسالته التي يريد القرآن إيصالها، ثمّ عملت على تسهيل فهم هذا المقصد من خلال مواضيع الآيات وقصصها ومرامي الكلمات وسياقها وتسلسلها وترتيبها، فكان المقصد هو العامل المشترك للمعاني الكثيرة والمتفرّقة في كتاب الله؛ نرجو أن يبارك الله هذا العمل، الذي نأمل أن يكون قد جمع كل الأفهام ووحد كل الأنظار تجاه كتاب الله النّور المبين السّهل الميسّر الذي جعله الله شفاءً ورحمة للمؤمنين وخسارة للظّالمين.

 

0.6.1.3- إن القرآن يعطي الإنسان بقدر نيّته وتوجهه وإخلاصه، وبقدر علمه وفهمه وطاقته على الاستيعاب، وبقدر انصاته. ويختلف النّاس في فهمم للقرآن لأسباب كثيرة، أهمّها ما يلي:

0.6.1.3.1- اختلاف نيّة القارئ أو اختلاف توجّهه في الحياة: فمن يريد الصّلاة والزّكاة يجد في القرآن آيات الصّلاة والزّكاة، ومن يريد القتال يجد آيات القتال، ومن يريد الإنفاق يجد آيات الإنفاق، وهكذا.

0.6.1.3.2- اختلاف الزّاوية التي ينظر من خلالها القارئ إلى آيات القرآن: فمن ينظر إلى آيات البشارة يجدها، ومن ينظر إلى آيات النّذارة يجدها، وهكذا.

0.6.1.3.3- المكان الذي يتقمّصَه القارئ أو يضع نفسه فيه، من أماكن الأشخاص الذين يتحدث عنهم القرآن: فقد يضع نفسه في مكان المؤمن أو الكافر أو الغني أو الفقير أو المتّبع أو المُعرض، وهكذا. ومن أجل الوصول إلى النّتائج الإيجابية المفيدة للمؤمنين التي في هذا الكتاب وضعت نفسي في فهمي للقرآن في مكان المؤمن، اللهمّ اجعلني وإيّاكم منهم.

0.6.1.3.4- الاختلاف في العمر أو الخبرة: فقراءة الفرد وفهمه في الطفولة تختلف عن قراءته وفهمه في الشّباب، ثم في الكهولة.

0.6.1.3.5- التوجّه والانصات: واهتمام القارئ بما يسمع، أو عدم اهتمامه أو لا مبالاته، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} الأعراف.

0.6.1.3.6- الاستعداد النّفسي (التّكويني) للقارئ: فالمتشدّد يجد التشديد والمفرّط يجد التفريط والوسط يجد الوسطيّة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (143)} البقرة.

0.6.1.3.7- حكم القارئ المسبق على القرآن باعتبار نشأته وتربيته: فمنهم من يراه كتاب هداية، ومنهم من يراه كتاب عبادة، ومنهم من يراه كتاب دعوة، أو كتاب معجزات علمية، أو كتاب معجزات عددية، أو لغوية، أو كلّها أو بعضها، وهكذا.

0.6.1.3.8- اختلاف اللّغات، والغايات، وتضارب المصالح، والأولويّات، وغيرها؛ والعلّة في الفهم هي في الإنسان النّاقص وليست في القرآن كلام الله الكامل؛ القرآن يعطي الفرد على قدر توجهه وإنصاته وحسب النظّارة التي يضعها على عينيه أثناء تدبّره لآياته.

الخطاب للمؤمنين: وقد اجتهدت أثناء تدبّري وإعدادي لهذا الكتاب بأن يبقى نظري إلى القرآن نظرة المؤمن الذي يطلب الهداية من الله: فنظرت إليه بنظرة المؤمن الذي يرى أنّ القرآن هدى من الله، ونعمة أنعمها على المتّقين، ويهتدي بهديه المؤمنين، قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} البقرة، فهو هدى للمتّقين: بإيمانهم بالغيب بعقولهم {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، وبأعمالهم الصّالحة بجوارحهم {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، وبيقينهم وصدق توجههم بقلوبهم {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} البقرة، كما أشرت إليه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: (4.0.4) حول أن الناس في إرادتهم واتباعهم الهدى ثلاث فئات، وفي دراستنا لمقاصد السّور في القرآن الكريم وفهم آياته، فإن كلّ اهتمامنا كان منصبّاً على فهم الرّسالة التي يريد القرآن إيصالها إلى الفئة التي تريد الهدى وتتّبعه، قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} يس، وقال: {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} فاطر؛ وبهذا المسار الذي اتّبعته في تدبّر القرآن، وكما سيأتي بيانه بالتّفصيل والدّليل؛ فقد ظهر لي بأن سياق القرآن: يبدأ ببيان نظري لطريق الهدى، يتبعه بيان نعمة اتّباع طريق الهدى، ثمّ بيان عملي لطريق الهدى، يتبعه بيان نعمة اتّباع طريق الهدى، والله أعلم.

أعلى الصفحة Top