العودة إلى فهرس القرآن: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر القرآن)


4.0 الباب الرابع: مقصد القرآن الكريم


ملاحظة 1: لقد تمّ تأليف هذه الكتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، كما ذكرنا في المقدّمة والتمهيد على ثمانية أبواب، (انظر: 0.3- لقد أنشأنا هذا الكتاب على ثمانية أبواب).

ملاحظة 2: هذا الكتاب مكوّن من مقدّمة وخاتمة وجزأين متكاملين، كما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– الجزء الأول: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن” ويتناول القرآن كاملاً وبشكل عام. انظر الفهرس هنا
– الجزء الثاني: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن” ويتحدث عن كل سورة من سور القرآن منفردة وبنفس الأبواب الرئيسية الثمانية المشار إليها أعلاه. انظر الفهرس هنا
– الملخص والخاتمة: اضغط هنا


تمهيد:

4.0.1- لقد قمنا هنا في هذا الباب الرابع من هذا الكتاب، تسهيل فهم وتدبّر القرآن، بالتركيز على إظهار مقصد القرآن كاملاً، وهو: الهداية إلى الصراط المستقيم؛ ولقد كان من الضروري بداية، أن نجد، وأن نعلم العنوان أو المقصد الرئيسي لكل محتويات القرآن ككل، لأنه بذلك يسّهل علينا فهم كتاب الله تعالى كاملاً؛ ولأن القرآن مكوّن من مئة وأربع عشرة سورة، فإنه لابد لنا من الإشارة إلى المقصد (أو العنوان الرئيسي) لكل سورة من سوره المئة وأربع عشرة، كلّ سورة على انفراد؛ ثم أنه لا بد أن يكون لمقاصد هذه السّور مجتمعة سياق واحد متناسب يصلها ببعضها حول المقصد الكلّي (العامّ) للقرآن، أو يكون لكل سورة أكثر من سياق يربطها في مجموعات متناسبة فيما بينها، ثم سياق آخر يصل هذه المجموعات المتناسبة فيجمعها مع بعضها في المقصد الكلّي للقرآن. وهو ما فعلناه هنا في هذا الكتاب، تسهيل فهم وتدبّر القرآن. ولأن نظرتنا في هذا الكتاب شاملة وكلّية على القرآن كاملاً، فالمقصد هنا هو ملخص لكلّ ما جاء تفصيله بإسهاب في الجزء الثاني، تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، فقد بيّنا هناك مكان وجود هذا المقصد في كل سورة من سور القرآن، وبينّا ترابط موضوعات كل سورة مع مقصدها، وشرحنا سياق وتناسب آيات السورة وموضوعاتها مع المقصد في أكثر من اتجاه، بما يسهّل فهم وتدبّر كل سورة على انفراد، ثم بيّنا تناسب هذه السور مع بعضها البعض ومع المقصد الرئيسي في القرآن، بما يسهّل على القارئ فهم وتدبّر القرآن كاملاً بإذن الله.

4.0.2- أما هناك، في الباب الرابع من الجزء الثاني، تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، فقد قمنا ببيان مقصد كل سورة على انفراد، لذلك تكرر هذا الباب مئة وأربعة عشرة مرّة بعدد سور القرآن: أي أننا بينّا أن مقصد السورة الفلانية في الموضوع الفلاني وأن كلّ آياتها مترابطة حوله، في وحدة موضوعيّة متكاملة، مثل أن سورة الفاتحة في التعريف بالله وربوبيته للعالمين ورحمته وبيانه الصراط المستقيم لهداية العباد، والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة في بيان طريق الهداية، والنحل في النعم والكهف في الابتلاء والعنكبوت في الفتنة. وقد يكون مقصد السورة ظاهر من أوّلها مثل سورة القيامة: حول تأكيد أن القيامة قائمة، لا ريب فيها، وأحوال الموت والقيامة والأدلة على وجودها، ومثل سورة الواقعة: حول تأكيد حتميّة وقوع الواقعة، وسرد الحجج والأدلّة على تأكيد وإثبات ذلك. بعد ذلك بيان المواضيع الرئيسية أو الأفكار الرئيسية التي تتكيء عليها السورة للوصول إلى المقصد. وأخيراً بيان الغرض الرئيسي أو مقصد القرآن ككل وبيان كيفية ترابط سوره وموضوعاته، أو مكان ارتباط كل سورة مع الرابط الرئيسي الذي هو مقصد القرآن.

4.0.3- ولا بد أن ننوّه إلى أنّ مقصد كتابنا هذا تسهيل فهم وتدبّر القرآن، هو أن نفهم ونتدبّر كلام الله تعالى، في كل القرآن، كرسالة كاملة، غير مجزأة (كما يفعله ويفهمه الكثير من المسلمين، انظر آخر الفقرة الفرعيّة 7.1.5.8.3.3.4- عند قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ (85)} البقرة، وقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ (44)} البقرة)؛ ولا علاقة لهذا الفهم أبداً في تخصصات وفروع الدين الأخرى كفقه الحديث أو فقه العبادات والمسائل أو الأحكام الفقهيّة الأخرى، إنما حاولنا فقط هنا ومن خلال تكرارنا لقراءة القرآن وتركيزنا على تدبر عجائبه وآياته أن نصل إلى فهمٍ كامل مفيد، نأمل أن يكون مما قد وعد الله تعالى أن يؤتيه بعض عباده إذا صدقوا في توجههم وجهدهم وإخلاصهم في تدبّر وفهم كتابه، وعلى قدر إخلاصهم في العمل بما فيه؛ قال أبو جُحَيْفة لعليِّ ابن أبي طالب رضي الله عنه: “هل خصَّكُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيء؟” قال: “لا، والذي فَلَقَ الحَبَّة، وبَرَأَ النَّسَمَةَ! ما خصَّنا بشيء إلا فَهْمًا يؤتيه الله تعالى أحداً في القرآن، وما في هذه الصحيفة”، قال: “وما في هذه الصحيفة؟”، قال: “العَقْلُ” يعني: الدية، وفِكَاكُ الأسير، وأن لا يُقْتَلَ مسلمٌ بكافر” رواه البخاري. والفهم والتدبر ممارسة غريزية، تزاد بالكسب والممارسة، وقد أمرنا تعالى بتدبّر القرآن ونهانا عن الإعراض عنه، وأمرنا أن نفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} النساء، فمعانيه متناسقة لا اختلاف فيها ولا تناقض، ويؤيد بعضها بعضاً، ولم يُحصَر أمر تدبره بفئة دون فئة؛ والفهم كذلك يختلف من شخص لآخر، قال صلى الله عليه وسلّم: “نضّر الله امْرأ سمع منا شَيْئا فَبَلّغهُ كَمَا سمع، فَرب مبلّغ أوعى من سامع”.

4.0.4- والقرآن هو آخر رسالات الله تعالى إلى الناس، يهديهم به إلى الحق وإلى الصّراط المستقيم، ويخرجهم بهديه من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)} المائدة، أنزل تعالى فيه الشفاء والرحمة للمؤمنين والخسارة للظالمين {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82)} الإسراء. أما الناس ففي إرادتهم واتّباعهم الهدى انقسموا إلى ثلاث فئات: منهم من يريد الهداية فيتبع الهدى، ومنهم من يريد الضلالة فيتبع الهوى، ومنهم من لا يدري ما يريد، قال تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ (143)} النساء. وفي دراستنا لمقاصد السور في القرآن الكريم فإن جلّ اهتمامنا كان منصبّاً على فهم الرسالة التي يريد القرآن إيصالها إلى الفئة التي تريد الهدى وتتبعه، قال تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَٰنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} يس، وقال: {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} فاطر، فأما الفئتين الأخريين وهما الفئة التي لا تريد الهدى وفئة المذبذبين، فلا يهمّنا من أمرهم سوى أن نتعلم الدروس ونأخذ العبر من فشلهم وخسرانهم وهلاكهم، وأن نحرص على تجنب فعلهم المخالف، وخوضهم في آيات الله، وأن نعرض عن سوء أعمالهم، فهم هلكوا لأنهم أعرضوا عن كلام الله والعياذ بالله، ولم يكونوا يريدون الهدى، ولو أرادوه لاستمعوا له واهتدوا به كما اهتدى غيرهم واستفادوا (انظر المطلب 0.6.1.3- القرآن يعطي الإنسان بقدر توجهه وبقدر علمه وفهمه وطاقته على الاستيعاب وبقدر انصاته). أما مقصد القرآن من هذه الوجهة فهو كما يلي:

مقصد القرآن هو الهدى إلى الصّراط المستقيم:

4.1- مقصد القرآن الكريم هو هداية الثقلين الإنس والجنّ إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} البقرة، فهو هدى للمتّقين: بإيمانهم بالغيب بعقولهم {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}، وبأعمالهم الصّالحة بجوارحهم {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، وبيقينهم وصدق توجههم بقلوبهم {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} البقرة. أمّا النّاس فهم بحاجة إلى من يهديهم إلى الصّراط المستقيم، قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} الفاتحة، لأنهم خلقوا لا يعلمون شيئاً، فهداهم الله، بالقرآن إلى ما ينفعهم ومالا يضرّهم، وإلى غيرها من أبواب الهدى، فيفوزوا في الدنيا والآخرة.

وقال الفخر الرازي في تفسيره “مفاتيح الغيب”: الهدى عبارة عن الدلالة، ولا يلزم من كونه هدى أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، بدليل قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى (17)} فصلت، فقد أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ويصح في لغة العرب أن يقال: هديته فلم يهتد، انتهى.

4.1.1- وأما هداية الله تعالى للإنسان، فقد ذكر لها العلماء أربعة أوجه كما في عمدة الحفاظ للسمين الحلبي، وهي التالية:

4.1.1.1- الهداية التي عمّ بها كل مكلّف من العقل والفطنة والمعارف الضروريّة، وهي الهداية الواردة في قوله تعالى: {أعطى كلّ شيء خلقه ثم هدى (50)} طه.

4.1.1.2- الهداية التي حصلت للناس بدعائه إياهم على ألسنة أنبيائه ورسله وهي الهداية التي يشير إليها قوله: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا (73)} الأنبياء.

4.1.1.3- التوفيق الذي يختص به من هدى، وهو المعني بقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)} محمد.

4.1.1.4- الهداية في الآخرة إلى الجنة، وهو المعنى بقوله تعالى: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (43)} الأعراف.

وهذه الهدايات مرتبة فمن لم تحصل له الأولى لم تحصل له الثانية، بل لا يصح تكليفه، ومن لم تحصل له الثانية لم تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصلت له الرابعة فقد حصلت له الثلاث التي قبلها، ومن حصل الثالثة فقد حصلت له اللتان قبلها. وبناء على ذلك فكل هداية ذكر الله تعالى أنه منع الكافرين أو الظالمين أو الفاسقين منها، فهي الهداية الثالثة التي هي التوفيق الذي يختص به المهتدون، والرابعة هي الثواب في الآخرة كما قال الله تعالى: {كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86)} آل عمران. والمعنى أنه لا يوفقهم لعمل أهل الخير كما قال سبحانه: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين (81)} يونس، انتهى.

4.1.2- والتقوى هي أولى مراحل الإيمان واتباع الدين، ثم يرتقي المؤمن بالتقوى، إلى درجة الإحسان، فالتقوى هي زاد المؤمن في طريق الهداية، قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)} البقرة، أي باتباع الأوامر التي تدخله الجنّة واجتناب النواهي التي تقيه من النار، وهي أيضاً اللباس الذي يقيه من المعاصي، ويبقيه في الطاعات، قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ (26)} الأعراف، لأن مَنْ اتقى الله كان به مؤمناً، وبما أمره به عاملاً، ومنه خائفاً، وله مراقباً، ومن أن يُرَى عند ما يكرهه مستحيياً؛ والتقوى هي أعمال يجعلها الإنسان وقاية لنفسه، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} البقرة، أي لعلكم أن تجعلوا ما أمركم به الله وقاية بينكم وبين النار. والإحسان بأن تعبد الله كأنك تراه، وهي آخر وأعلى مراحل الإيمان؛ يمكن تمثيلها بثلاثة دوائر تحيط ببعض: دائرة خارجية كبرى هي الإسلام، في داخلها دائرة وسطى هي الإيمان، وفي داخلها دائرة صغرى هي الإحسان، فالمحسن مؤمن ومسلم وليس العكس. ونقيض التقوى هو الفجور والفسوق والعصيان، والعياذ بالله. (انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، معنى التقوى، في سورة النساء، المبحث 004.4.3- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}؛ ومعنى الدين في المبحث 004.4.4- {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146)}).

ومعنى {للمتقين} في عمدة الحفاظ للحلبي: يقال اتقى فلان بكذا: إذا جعله وقاية لنفسه. وقوله تعالى: {لعلكم تتقون (21)} البقرة، أي لعلكم أن تجعلوا ما أمركم به الله وقاية بينكم وبين النار، انتهى.

 

4.1.3- القرآن كتاب هداية، وبيان لكل شيء. كلُّ ما في هذا الكونِ يشهدُ أن هناكَ حكمةً عظيمةً وراءَ هذا الخلقِ وهذا الوجود، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} الأنعام. لم يخلقِ اللهُ لنا الدنيا لنلعبَ بل لنعمل، ثم نحاسب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} الأنبياء، وخلقَها لنا لنرثَ الجنّةَ بأعمالِنا، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} الزخرف، نحنُ هنا بسببِ أمانةٍ حملَها الإنسان، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب، ورحمةُ الله اقتضَت بأن يتعاقبَ المرسلونَ بالرسالاتِ، التي آخِرُها القرآن، لتعريفِ الناسِ بحقيقةِ الحياةِ والغايةِ من هذا الوجود. والتي هي:

 

4.1.3.1- نحن وُجدنا هنا في هذه الحياة الدنيا بغرض الابتلاء، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} الأنبياء، أي أنّ هذا الوجود له حكمة وهي الابتلاء، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} الملك، وله نهايةٌ بالرجوع إلى الله، قال تعالى: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} الأنبياء، فالدنيا دار ابتلاء وطريق مسافر ولها ما بعدها، كل ما فيها يجري إلى أجل، قال تعالى: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى (3)} هود. ويقول تعالى في سورة الانشقاق: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)}، أي أنّ الإنسان منذ خلق في هذه الدّنيا لم يزال يشقى ويكدح بأعماله مسافر إلى ربّه، الذي يراقبه وهو به عليم، حتّى يلاقيه يوم القيامة، فيجازيه على قدر إيمانه واتّباعه القرآن وعمله الصّالحات بالأجر الغير ممنون في الجنّة أو على تكذيبه بالعذاب الأليم في النّار. فهو في سفره وسعيه في الدّنيا مكلّف بتحكيم قلبه وعقله في اختيار الكدح الصّالح المنجي الجالب للسّرور، أو الكدح المكذّب المؤدّي إلى العذاب في الدّنيا والآخرة.

4.1.3.2- والابتلاء هنا بمعنى الاختبار والامتحان الذي يحصل بنقصان شيء من النعمة، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} البقرة، كما سيأتي بيانه (انظر 7.3.1.2 و 7.3.2.4.3.2 و 8.1.5). وليس بمعنى العقاب أو البلاء القدري الذي له أسباب مختلفة، لأن العقاب الإلهي أو البلاء القدري الذي يحصل عن طريق المصيبة وتسلّط الظالمين والأمم على بعضها، وانتشار الأوبئة والتدمير وفناء القرى وغيرها، التي أشار إليها القرآن كثيراً، تحصل بسبب ذنوب الناس ومعاصيهم وبُعدهم عن الدين وعن الحق، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (59)} الكهف؛ وعن قارون قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81)} القصص، وكذلك من السنن الإلهية القائمة على الأسباب أنه يصيبهم هذا البلاء لكي يعودوا إلى رشدهم ويتضرّعوا إلى الله، أو يهلكهم بذنوبهم إن هم قست قلوبهم ولم يعودوا، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)} الأنعام، وكذلك كما في قّصة بني إسرائيل، قال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} البقرة، فهم على الأغلب قد غيّروا وبدّلوا ما جاءهم به يوسف عليه السلام من قبل، فابتلاهم الله بهذا البلاء العظيم بسبب إسرافهم في أفعالهم وارتياب قلوبهم من بعث الرسول، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34)} غافر، وهكذا.

4.1.4- والقرآنُ هو الكتابُ الذي أنزلَهُ اللهُ ليكون هدىً للناس وبيّناتٍ للأمّةِ الخاتمة، قال تعالى: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ (185)} البقرة، الذي يأمرُ الناسَ بالعبادةِ ليفوزوا، ويحذرِهُم من المعصيةِ لكيلا يخسروا. بشيراً ونذيراً، ذُكرَت فيهِ كلَّ وسائلِ ودواعي الإيمان، من الحُجَجِ والحواراتِ والآياتِ والإشاراتِ والدلائلِ الكونيةِ في السماواتِ والأرضِ وفي الأنفسِ وغيرِها؛ ليُنصِتوا له، ويتدبَّروا آياتِه فيؤمنوا، لكن أكثرَ الناسِ انشغلوا عنه باتباعِ أهوائِهم وشهواتِهم ونعمِ اللهِ عليهِم، فأعرَضوا ولم يؤمنوا. ويمكننا القول أن آياتِ الله التي أشارَ إليها القرآنُ جُعلت في كتابين: كتابٌ عربيٌ يُقرأ وهو القرآن، وكتابٌ كونيٌ حقيقيٌ مشاهدٌ في الأنفسِ والآفاق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} فصلت. كلُّ كتابٍ قائمٌ بذاتِه في الدلالةِ على الله الحق، فيكونُ الإنسانُ في كلِّ أوقاتِه بينَ آياتِ الله لا تغيبُ عنه لحظةً واحدة، إذ تكمِلُ الآياتُ بعضَها بعضَاً في آياتٍ مقروءةٍ مبينةٍ، وآياتٍ مشاهدةٍ في كلِّ مكانٍ في الكون، وأعمالٍ ممارسَةٍ بالتجرُبة. كما سيأتي بيانه في الباب السابع بالتفصيل.

4.1.5- أما عن صدق القرآن الكريم، فمن السهل اختبار صدقة، وأنه كلام الله تعالى، وأنه من عند الله، بدليل قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} الرعد، وهو أن الله تعالى، مرسلُ الكتاب، يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، أن هذا الكتاب هو كتاب حق وأنه منزل من عنده، ومكان الدليل هو في قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}، أي أن هذا التدبيرَ وتلكَ الآياتِ، هي التي ستجعَلُنَا نوقِنُ بأننا سنُلاقي ربَّنَا؛ فهو دليلٌ يدعونا إلى استخدامِ ما أنعمَ اللهُ بهِ علينا من حواسِّ وأدواتِ السمعِ والبصرِ والفؤادِ والعقلِ، ونعمةِ تعلُّمِ وتدبُّرِ كلامِ الله الحق، الذي أنزلَه في القرآن الكريم. فنرى أسماءَ اللهِ تعالى وصفاتَه تعمَلُ في مخلوقاتِه، فنؤمنُ به، ونتبعُ دينَه استعداداً للقائِه في اليومِ الآخر. وهذانِ الدليلانِ على صدقِ كلامِ الله، وصدقِ القرآن، وصدقِ الرسول، هما جلّ ما ركَّز على بيانِه القرآن، وركَّزنا أيضاً على بيانِه في كتاب التسهيل، أما تدبيرُ الأمرِ فهو الخبرُ الحق، الذي علّمنَا اللهُ إيّاهُ في كلامِه، بأنه هو المدبّر وجاعِلُ الأسبابِ، وأما التفصيلُ فهو صنعُه وفِعلُه. كذلك يوجد في القرآن سور كاملة تدافع عن أسماء الله وعن الرسول وعن القرآن وعن الحق، كما في: سورة مريم والتي مقصدها في الدفاع عن الله تعالى ببيان صفات الرحمة والعلم والقدرة وغيره، وسورة طه دفاع عن القرآن، وسورة الأنبياء دفاع عن الرسل وسورة الفرقان دفاع عن الحق.

4.1.6- والعبادة ليست للإنسان فقط فكل المخلوقات خلقت لتعرف الله وتعبده وتطيعه في كل قوانينه: فإذا فسّرنا العبادة بالطاعة، فالخلق كله مطيع يسير بقانون واحد متناسق ونظام واحد لا يخرج عمّا قدّره الله، وإذا فسّرنا العبادة بالمعرفة والإيمان فالخلق بمن فيهم الإنسان مجبول في أصل خلقته ومفطور ليعرف أن الله ربه {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا (172)} الأعراف، وأن له إله يعبد ويسبح بحمده {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} الإسراء. لكن من تكريم الله للإنسان جعل له كامل الخيار في أن يطيع فيسعد أو أن يعصي فيشقى. وهذه هي الأمانة التي حملها الإنسان وظنّ جهلاً أنه قادر على حملها، أمانة فيها تكليف بالحفاظ على فطرة الله واتباع سننه وقوانينه، وتكليف فيه إنفاق بالمال الذي يحب، وجهاد بالنفس الغالية، ومناجاة بالبرّ والتقوى، ونهي عن الإثم والعدوان ومعصية الرسول، وغيره مما ذكر في القرآن.

 

4.1.7- إن دين الله سهل الفهم وسهل القبول، بسيطة جداً رسالته. وهو دين الحق وفيه أمر رشد، خلاصته: أن الله الخالق يأمر عباده بعمل ما فيه صلاح حياتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ونجاتهم من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (105)} التوبة. وهم مخيرون بين أن يطيعوا الله فتنصلح حياتُهم أو يعصوا فتفسَد حياتهم، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} العصر؛ فهو خيار ما بين السعادة والشقاء، لأن السعادة طريقها واحد وهو الأمان والصلاح والسلام للجميع، وهو عند العاقلِ لا خيار، فكيف يقف أمام طريقيّ النعيم والجحيم ثم يختار الجحيم؟ فلا مجال للسؤال. إن أطعت الله سعدت لأن الله خلقك ليسعدك بمعرفته وبقربه، حتى يكون الله معك في كلّ شيء كما في الحديث الصحيح: “كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ، وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ، ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا، ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا، وَإِنْ سأَلنِي أَعْطيْتَه، ولَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَّنه” لا لكي يعذبك بالبعد عنه. فلا مجال للاختيار من بين هذين الخيارين إلا الطاعة، فإن اخترت المعصية والبعدَ عن الله الخالق المنعمِ وفطرته الواضحة البيضاء وسننه العادلة فأنت حينها تستحق الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.

4.1.8- وقد تطيع الله ببعض أوامره أو تعصيه باقتراف نواهيه، فعنئذ عليك أن ترضى بعظيم عدل الله ورحمته حين يجازيك عن كل معصية تعصيها بمقدارها، وعن كل عمل خير بعشرة أمثاله، والله يضاعف لمن يشاء قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} الأنعام. جزاء العمل الصالح السّعادة، والعمل السّيّء الشقاء، يحسب عليك بميزان دقيق يزن الذرّة، وحساب عادل لا يغيب عنه شيء. إن كذبت سيكذب عليك، وإن استهزأت سيستهزأ بك، وإن زنيت سيزنى بك، وإن ظلمت فستظلم، وإن قتلت فستقتل، وإن أشركت فسُيُحْبَطَ ولن يقبل عملك، كل ذنب أذنبته فستحصل على جزائِه في الدنيا والآخرة، ولا بد لمن كسر شيئاً أن يعيده كما كان أو يستبدله بمثله، ومن سرق أن يعيد سرقته لصاحبها، ومن تكلم في عِرض أحد أن يتكلم في عِرضه، وهكذا؛ وفي المقابل إن عبدت الله أسعدك الله برحمته، وإن تصدقت، وإن ساعدت، وإن أسعدت، وإن عدت مريضاً، وإن وصلت رحماً، وهكذا، كل فعل أمرك الله به أو نهاك عنه فالحسنة بعشر أمثالها أو يزيد فالله يضاعف أضعافاً مضاعفة، قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} البقرة. هذه هي بساطة الدّين في أنه هو العملُ الصالحُ لا السيء، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبادةُ الله الضارّ النافع لا عبادةُ الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (31)} آل عمران.

القرآن الكريم ينقسم إلى نصفين متساويين ومتشابهين ومتناظرين:

4.2- مقصد القرآن ومقاصد السور:

مقصد القرآن نجده في السّورة الأولى، وهي الفاتحة: والذي هو الهداية إلى الصّراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضّالين، كما فصّلناه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن. وسورة الفاتحة تحتوي على صفات الله سبحانه واستحقاقه للحمد والعبادة، وتبيّن {الصّراط المستقيم}، وفيها إثبات {يوم الدّين} الذي فيه الحساب. وهي أمّ القرآن باحتوائها على ملخّص وجوهر تعاليم القرآن، وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “{الحمد لله ربّ العالمين} أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسّبع المثاني والقرآن العظيم”. ثمّ جاءت تفاصيل مقصد الهداية موزّعة على السّور، وفي مجموع سور القرآن، والتي مقاصدها منفردة كما يلي:

4.2.0 – باعتبار ترتيب السور في القرآن الإمام سوف نلاحظ أن القرآن الكريم ينقسم إلى نصفين متساويين ومتشابهين تتكرر في كلّ منهما نفس مقاصد وموضوعات القرآن مع اختلاف في الأسلوب وطريقة العرض والقصص والموضوعات وعدد السّور والآيات. وسوف نلاحظ أن كل نصف ينقسم إلى ربعين متساويين تقريباً، الربع الأول يتحدث عن ما يمكن أن نسمّيه بيان أو دعوة نظريّة إلى الهدى والصّراط المستقيم، والربع الثاني يتحدث عن تطبيق أو دعوة عملية إلى الهدى والصّراط المستقيم. وسوف نلاحظ أيضاً أن كل ربع ينقسم إلى مجموعتين من الآيات (غير متساويتين)، يبدأ بمجموعة من السّور فيها بيان طريق الهدى أو البلاغ إلى الصّراط المستقيم (وأنه فيه السّعادة) ومجموعة أخرى فيها بيان (تلك السّعادة) أو تأكيد نعم الهدى والإيمان بالله على الإنسان. وبالتالي فسوف نجد أن سور القرآن تنقسم إلى ثماني مجموعات، في أربعة أرباع متساوية تقريباً، هي كما يلي:

4.2.0.1- الربع الأول، ينتهي في الحزب 15، وفيه مجموعتين من 6 سور، كما يلي:

4.2.0.1.1- مجموعة مكونة من خمس سور فيها دعوة نظرية إلى الهدى: وهي الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة.

4.2.0.1.2- سورة واحدة فيها بيان نعم الله كلّها، وهي لا تحصى: في سورة الأنعام.

4.2.0.2- الربع الثاني، ينتهي في الحزب 30، وفيه مجموعتين من 12 سورة:

4.2.0.2.3- مجموعة مكونة من ستّ سور فيها دعوة عملية (تطبيق الهدى عملياً): وهي الأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود ويوسف.

4.2.0.2.4- وستّ سور أخرى في بيان نعمة الهدى في القرآن والرسل والابتلاء وغيره: وهي الرعد وإبراهيم والحجر والنحل والإسراء والكهف.

4.2.0.3- الربع الثالث، ينتهي في الحزب 45، وفيه 18 سورة:

4.2.0.3.5- عشر سور فيها دعوة نظرية إلى الهدى: وهي مريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان والشعراء والنمل والقصص.

4.2.0.3.6- ثمان سور في بيان نعمة الهدى: وهي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس.

4.2.0.4- الربع الرابع، ينتهي في الحزب 60، وفيه 78 سورة:

4.2.0.4.7- عشرون سورة فيها دعوة وتطبيق عملي إلى الهدى: وهي من الصافات إلى الواقعة.

4.2.0.4.8- ثمان وخمسون سورة فيها بيان نعمة الهدى إلى الصّراط المستقيم: وهي من الحديد إلى النّاس.

سياق القرآن الكريم يسير على نسق واحد يبدأ بالإسلام ثمّ الإيمان ثمّ الإحسان:

4.2.0.5- وكذلك فإن سياق القرآن في بيان طريق الهدى يسير على نسق واحد من أوّله إلى آخره، وذلك بالتعريف والبيان والقصص والأمثال والآيات والأمر باتباع طريق الهدى والعمل والتجربة واستخلاص الدروس والعبر والتدرّج في اتباعِ سُلّم الدين والإيمان ابتداءً من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان، كما يلي:

4.2.0.5.1- يبدأ في الربع الأوّل (وهو النظري) بسورة الفاتحة بالتعريف بأسماء الله تعالى الحسنى بقوله تعالى: {بسم الله الرحمنِ الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمنِ الرحيم، مالك يوم الدين…}، ثم في سورة البقرة ببيان طريق الهدى للمتقين (وهو الإسلام)، ثم في آل عمران الأمرُ باتباع طريق الهدى (وهو الإيمان)، ثم في النساء الأمرُ بتقوى اللهِ ومراقبتهِ في الأقوال والأفعال (وهو الإحسان)، ثم في المائدة بتمام الدين والوفاء بالعقود (وهي الأخلاق والصدق في العمل)، ثم في الأنعام ببيان نعمة اتباع الهدى والسّير على الصّراط المستقيم.

4.2.0.5.2- وعلى نفس النسق والسياق يتكوّن الربع الثاني (وهو العملي) من اثنتا عشرة سورة، يبدأ بالبيان العملي في ثلاث سور يتبعه الدليل الحقيقي في ثلاث سور التي تليها. ولأن البيان عملي فقد اقتصر هنا في السور الستّ الأولى: من الأعراف إلى يوسف، على التعريف وإظهار التدرّج في سلّم الدين بمراحله الثلاث إسلام وإيمان وإحسان، وتداخل في سياقها موضوعي التعريف بأسماء الله تعالى الحسنى وتمام الدين والوفاء بالعقود الذين تضمنهما الربع الأوّل في سورتي الفاتحة والمائدة. أمّا التعريف بنعم الله التي تضمّنتها سورة الأنعام وحدها، فقد جاء هنا في ستّ سور منفصلة من الرعد إلى الكهف.

بدأت بستّ سور فيها ذكر قِصص عن هلاك الأولين وأخبارهم وتجارُبهم، فبرهنت بذلك بالدليل الحقيقي على أن اتباع الهدى والدّين هو نعمة وصلاح لكل شيء في الدّارين، كما يلي:

– بيان طريق السّعادة، وهو العمل بالإسلام والإيمان والإحسان. الأعراف: بيّنت للكافر والمؤمن طريقي السّعادة والشقاء (أي الإسلام)، والأنفال: التوكل على الله (أي الإيمان)، والتوبة: الاستقامة (أي الإحسان).

– دليل حصول السّعادة باتّباع طريق الإسلام. ويونس: نعمة نزول الوحي وبيان طريق الهدى (أي الإسلام)، وهود: الابتلاء لمصلحة الإنسان (أي بالابتلاء يحصل الإيمان)، ويوسف: الاجتباء والتعليم والصبر وتمام النعمة (أي الإحسان).

ثم ستُ سورٍ أخرى، فيها التّعريف وبيان نعمة الدّين واتّباعه ومعرفة قيمة الحقّ والأمان والرّزق والإيمان والرّسالات والمرسلين وكلِّ ما يُصلح حياةَ النّاس ويسعدُهم، كما يلي:

– تعريف وبيان على تحقق النعمة بالاستجابة والاتباع والعمل. الرعد: نعمة الحق الذي في الكتاب (أي الإسلام)، وإبراهيم: القرآن نور يبين أن الله فاطر السماوات والأرض (أي الإيمان)، والحجر: الله خالقهم وحافظهم (أي الإحسان).

– الدليل على أن الله أنعم وينعم بدون سابق عمل. النحل: خلقُ الله نعمة وغيره لا يخلقون والأمر بالتقوى (الإسلام)، والإسراء: الإقبال والتوكل على الله (الإيمان)، والكهف: القضاء والقدر ولا وكيل إلا الله وحده (الإحسان).

4.2.0.5.3- ثم في النصفِ الثاني من القرآن، وعددُ سوره ستٌ وتسعون (96) سورة، تعود وتتكرر نفس الموضوعاتِ وبنفسِ السياق، أي الهدى إلى الصراطِ المستقيم، ببيانِ طريقِ الهدى وهو تقوى الله وطاعتِه، والتدرجِ في اتباع تعاليم الدين من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان حتى الوصولِ إلى قمّة الدين وهي التخلقُ بأخلاق القرآن الكريم، ثم بيانِ نعم الله على الإنسان وأعظمُها نعمةُ اتباع الهدى والدين، ولكن بأسلوبٍ مختلف، متناظر مع النصف الأوّل كما بيّناه وفصّلناه في الجدول أدناه (أنظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن)، وكذلك في مكانه في السّور في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن.

أنظر كذلك: (4.2.4.18.2- وكما بدأ سبحانه وتعالى النصف الأول …..)، (7.1.2.1- سياق القرآن الموجود بين أيدينا)

4.2.0.5.4- ملخص يبيّن سياق القرآن ومقاصده، ومقاصد سوره مجتمعة:

إنّ مقصد القرآن الكريم هو الهداية إلى الصّراط المستقيم، قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} البقرة، فيفوز من اتبع الهدى بالجنّة، ويخسر الكافر ومصيره النّار، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} البقرة. والصّراط المستقيم الذي في القرآن هو دين الله الإسلام، بدرجاته الثَّلاث: الإسلام والإيمان والإحسان، صعوداً باتّباع طريق التقوى. ثمّ إنّ مَقصد القرآن تكرّر في سوره المئة وأربع عشرة بمعان وأساليب مختلفة مثاني مرّة بعد مرّة لتتناسب مع اختلاف أفهام النّاس ونواياهم وتنوّع آلات فهمهم (أي: العقل والقلب والجوارح) قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ….. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} الزمر. ونستطيع تلخيص سياق القرآن ومقاصد السّور، في بيان الهدى والدّين بدرجاته الثّلاث، كما يلي:

يتضمّن القرآن الكريم نصفين متساويين ومتشابهين تكرّر في كلّ منهما نفس المقاصد والموضوعات مع اختلاف في الأسلوب وطريقة العرض والقصص والأحكام والصّفات وعدد السّور والآيات. وكلّ نصف انقسم إلى ربعين متساويين تقريباً، الربع الأول يتحدث عمّا يمكن تسمّيته بياناً أو دعوة نظريّة إلى الهدى والصراط المستقيم، والربع الثاني تطبيق أو دعوة عملية إلى الهدى والصراط المستقيم. وتتميّز الدّعوة النّظريّة بأمور أهمّها ذكر أركان الإسلام من صلاة وزكاة وصيام وحجّ وشرائع بالتفصيل، بينما لا تذكر أركان الإسلام والشّرائع في الدّعوة العمليّة إلّا نادراً وفي سياق الإشارة إلى قبول النّاس أو إعراضهم عنها، وتتميّز العملية بالدّعوة إلى الإيمان بأركانه السّتّة، بالآيات والترغيب والترهيب وغيرها، مع ذكر نتائج تلك الدّعوة، ومصائر الأمم، فرادى وجماعات. وكل ربع انقسم إلى مجموعتين غير متساويتين من الآيات، يبدأ بمجموعة من السور فيها بيان طريق الهدى، تليها مجموعة تؤكّد نعم الله التي لا تحصى على الإنسان، والفلاح في الدّنيا والآخرة باتّباعِ طريق الهدى. وبذلك فسور القرآن أنقسمت إلى ثماني مجموعات، في أربعة أرباعٍ متساوية تقريباً، كما يلي:

الربع الأوّل، ويتضمّن ستّ (6) سور: يبدأ بالفاتحة وهي السّورة الأولى، والتي لا تصحّ الصلاة بدونها، وتقرأ في كلّ ركعة، وهي أمّ الكتاب والسّبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ باحتوائها على ملخّص وجوهر تعاليم القرآن. بدأت بتعريف اسم الله الرّحمان الرّحيم، ثمّ تعليم الدّين والإيمانِ الذي بدأ بحمد الله ربّ العالمين الرّحمان الرّحيم مالك يوم الدين، ثمّ الاستعانة به بطلب الهدى إلى الصّراط المستقيم، غير طريق المغضوب عليهم والضّالين، فجمعت بهذا مقاصد القرآن وموضوعاته (أي: أسماء الله وكلماته وهديه). ثمّ في سورة البقرة بيان طريق الهدى للمتقين (وهو الإسلام)، ثمّ في آل عمران الأمر باتباعِ طريقِ الهدى (وهو الإيمان)، ثمّ في النساء الأمر بتقوى الله ومراقبته في الأقوال والأفعال (وهو الإحسان)، ثمّ في المائدة تمام الدّين والوفاء بالعقود (وهو حسن الخلق والصّدق في العمل)، ثمّ في الأنعام بيان نعم الله التي لا تحصى على مخلوقاته بدون سابق عمل ونعمة اتباعِ الهدى والسيرِ على الصراطِ المستقيم. وبالوصول إلى سورة الأنعام يكون قد اكتمل ربع القرآن وتمّ فيه بيان طريق الهدى، وهو تقوى الله وطاعته والتدرجِ في اتباعِ سُلّم الدّين والإيمان ابتداءً من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان لغاية الوصول إلى قمّة الدّين وهو التخلق بأخلاق القرآن، وذلك في السّور الخمس الأولى، ثمّ في السادسة وهي الأنعام بيان نعم الله التي لا تحصى على الإنسان، وأعظمها نعمة اتباعِ الهدى والدّين.

الربع الثاني، وهو البيان العملي، وفيه اثنتا عشرة (12) سورة: بدأ بثلاث سور هي: الأعراف: تعرّف بالقصص عن هلاك الأولين وأخبارهم وتجاربهم على طريقيّ السعادة (أي الإسلام) والشقاء، ثمّ الأنفال: عن قصة المؤمنين مع الأنفال والتوكّل على الله والرضا بتدبيره (أي الإيمان)، ثمّ التوبة: فضح الكفار والمنافقين والدعوة إلى الاستقامة ومراقبة الله في اتباع الدّين (أي الإحسان)، تبعتها ثلاث أمْثلة على البيان العملي في ثلاث سور هي: يونس: نزول الوحي وبيان طريق الهدى، وهود: الابتلاء لمصلحة الإنسان وبه يحصل الإيمان، ويوسف: الاجتباء والتعليم والصبر وتمام النعمة. تلتها ثلاث سور تبيّن نعم الله التي لا تحصى ونعمة اتباعِ الهدى والسّير على الصّراط المستقيم، ففي الرّعد: تعريف وبيان نعمة الحق الذي في الكتاب، وإبراهيم: القرآن نور مبين والله فاطر السماوات والأرض، والحجر: الله خالقهم وحافظهم، تبعتها ثلاث أمثلة في ثلاث سور على أن الله أنعم وينعم بدون سابق عمل، ففي النحل: خلقُ اللهِ نِعْمَةٌ، وغيرُهُ لا يَخلُقون، والإسراء: الإقبالُ والتوكلُ على الله، والكهف: القضاءُ والقدرُ ولا وكِيلَ إلا اللهِ وحْدَهُ.

ثمّ في النّصفِ الثاني من القرآن، وعددُ سوره ستٌ وتسعون (96) سورة، تعود وتتكرر نفس المقاصد والموضوعاتِ وبنفسِ السياق، أي الهدى إلى الصراطِ المستقيم، ببيانِ طريقِ الهدى وهو تقوى الله وطاعتِه، والتدرجِ في اتباع تعاليم الدين من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان إلى قمّة الدّين وهي التخلقُ بأخلاق القرآن الكريم، ثم بيانِ نعم الله التي لا تحصى على الإنسان وأعظمُها نعمةُ اتباع الهدى والدين، ولكن بأسلوبٍ مختلف، متناظر مع النصف الأوّل، كما يلي:

الربع الثالث، وفيه ثماني عشرة (18) سورة: وكما بدأ النصفُ الأول في الفاتحة بالتعريف بأسماء اللهِ ربِّ العالمينَ الرّحمانِ الرّحيمِ، بدأ أيضاً النصف الثاني بسورةِ مريم بذكر صفة الرب الرحمان، ومقصِدُها بيانُ صفةِ الرحمانِ وحده لا شريك له، ثم سورة طه ومقصدها نزول القرآن رحمة، ثمّ سورة الأنبياء ومقصدها إرسال الأنبياء رحمة. ثمّ تلتها ثلاث سور هي: الحج والمؤمنون والنور، بالتدرّج في سلّمِ الدّين: الإسلام والإيمان والإحسان، وهو مشابه للتدرّج في البقرة وآل عمران والنساء. ثم تلتها أربع سور هي: الفرقان والشعراء والنمل والقصص تتحدث عن القرآن الذي هو الفرقان وفيه كمال الدين، وموضوع السور الأربعة مكمّل ومشابه لما أشارت إليه سورة المائدة بموضوعاتها الأربعة حول المقصد {اليوم أكملت لكم دينكم}. ثم تلتها ثماني سور هي: العنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس، تتحدّث عن رحمة الله ونعمه التي لا تحصى، ونعمة الهدى والدين التي جاءت في الكتاب، وموضوعها مكمّل ومشابه لمواضيع سورة الأنعام الثمانية وهي: الحمد للهَ الخالق المالك الملجأ الحافظ الهادي بالرسالات والآيات الحاكم بالحق والعدل أنزل الكتاب والميزان. وبانتهاء سورة يس ينتهي ربع القرآن الثالث في النصف الثاني كما انتهى بسورة الأنعام الربع الأول من النصف الأول.

الربع الرابع، وهو بيان عملي للهدى في ثمان وسبعون (78) سورة تتناسب في سياقها مع مقاصد الإثنتا عشرة سورة في الربع الثاني: ويبدأ بثلاث سور، تهدي إلى الإسلام في الصّافّات، والايمان في ص، والإحسان في الزّمر، في تناسب مع الأعراف والأنفال والتوبة حول الهدى بالتجربة وبيان النتائج. ثمّ الحواميم السبعة وهي: غافر وفصلت والشورى والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف تتحدث عن الكتاب الذي يأمر بما يحقق الصلاح والسعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، في تشابه مع يونس حول نعمة نزول الوحي. ثمّ ستّ سور وهي: محمد والفتح والحجرات وق والذاريات والطور تتحدث عن تطبيق جهاد الأعداء بالسّنان واللسان وفتح الله على المؤمنين وتمكينهم في الدنيا وفوزهم في الآخرة، في تشابه مع هود حول عبادة الله وحده والاستقامة والثبات، ثمّ أربع سور وهي: النجم والقمر والرحمن والواقعة عن وقوع الجزاء على الأعمال ولكلّ إنسان ما سعى في تشابه مع يوسف حول تمام نعمة الله وصدق الوعد والوعيد والعاقبة. ثمّ عشر (10) سور من الحديد إلى التحريم تتحدّث عن تسبيح الله وتنزيهه لكمال أسمائه وجلال صفاته، وعنايته ورعايته لعباده، مقابل الرعد حول نعمة الحق الذي في الكتاب وصفات الله وخلقه وتدبيره وتسبيح وسجود المخلوقات. ثم ثلاث عشرة (13) سورة من الملك إلى النازعات تتحدّث عن عدل الله وعظيم عنايته وتدبيره وتبليغه وهديه للإنسان إلى سبل السعادة والرشاد وتأكيد وقوع الثواب والعقاب، مقابل إبراهيم حول أن القرآن نعمة ونور من الله لتحقيق سعادة الإنسان في الدارين. ثمّ سبع (7) سور من عبس إلى الطارق تتحدّث عن صدق وعد الله بالبعث والجزاء على الأعمال، مقابل الحجر حول أن الله هو الملجأ وهو الأمان. ثمّ إثنتا عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البينة تأمر الإنسان بالقيام بواجبه وما فيه مصلحته وبما يحقق له السعادة والفوز، مقابل النحل تبيّن كلّ النعم التي هي باتباعِ أمر الله وفطرته. ثمّ عشر (10) سور من الزلزلة إلى الكوثر تُخوّف وتحذر من المصير النهائي والجزاء في الدنيا والآخرة، مقابل الإسراء حول التوكّل على الله وحده لا شريك له مصدر العطاء والنعم العظيمة والمنن الجسيمة في الدارين. ثمّ ستّ (6) سور من الكافرون إلى الناس تأمر بالتبرّؤ من الكافرين والتسبيح بحمد الله والاستغفار بعد النصر للمؤمنين والهلاك للكافرين في الدارين، والتوحيد والاستعاذة بالله الواحد الأحد رب الفلق ورب الناس، مقابل الكهف حول الابتلاء بالفتن والنعم، ليعلموا أنه لا إله إلا الله، الوكيل والملجأ والمنعم.

وهكذا تكرّر بيان الهدى ثماني مرّات في ثماني مجموعات، تضمّنت نصفين متناظرين، وفي كلّ نصف ربع نظري والثاني عملي، وفي كلّ ربع بيان طريق الهدى ثمّ نعم الله التي لا تحصى، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ (23)} أي يشبه بعضه بعضاً وثنّيت موضوعاته مرّة بعد مرّة، {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} الزمر. صدق الله العظيم.

الّلهمّ اهدنا صراطك المستقيم واجعلنا من المحسنين وأدخلنا برحمتك جنّات النّعيم.

القرآن يشبه بعضه بعضاً وثنّيت موضوعاته مرّة بعد مرّة:

4.2.0.6- الربعين الثاني والرابع من القرآن فيهما دعوة وتطبيق عملي إلى الهدى لأن سياق السّور فيهما يتحدث عن الدعوة إلى الإيمان بأركان الإيمان السّتة، وذلك باستخدام كل وسائل وأساليب الدعوة بالآيات والترغيب والترهيب وغيرها كالتي بيّناها في الباب السّابع أدناه، ويتحدّث السّياق عن نتائج تلك الدعوة، وعن مصائر الأمم، فرادى وجماعات. وسوف نلاحظ أن هذه السّور لا تتحدّث عن أركان الإسلام الخمسة إلا نادراً وفي سياق الإشارة إلى قبول الناس أو إعراضهم عنها، بينما ذكرت تلك الأركان بالتفصيل في السّور التي فيها الدعوة النظرية إلى الهدى، وهي الربعين الأوّل والثالث من القرآن.

ثمّ أنّ هذه الأرباع الأربعة، مع كلّ مجموعة من المجموعات الثمانية (أعلاه) احتوت في ثنايا سورها وآياتها وكلماتها على كل ما في القرآن من مقاصد وموضوعات وقصص وأمثال وآيات ووسائل وأساليب، بما فيها أركان الإسلام وأركان الإيمان، وتأثيرها على حياة النّاس، وغيرها من الشرائع والأوامر والنواهي والأشياء التي فصّلناها في الباب السّابع من هذا الكتاب، بما يتناسب مع سياقه ومقاصده. ولو حاولنا أن نطبّق عليها الإحصاء الذي ذكرناه عن تراكيب المعاني، في سورة الأنعام أعلاه، في المبحث رقم (0.7.5- دلالة موضوعات الآيات ومجموعاتها على مقصد السورة.) فسيظهر لنا جليّاً: العدد اللانهائي في المعاني والتعابير التي يحتويها القرآن، كلام الله، المثاني، الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء؛ وذلك لأن هذه المجموعات الثمانية من السّور، حين تتقاطع مع الأبواب الثمانية في الكتاب، ومع أركان الإسلام الخمسة، ومع أركان الإيمان الستة، ومع عدد السّور ال 114، ومع مقاصدها، ومع القصص، والأمثال، والأسماء … إلخ، فستظهر لنا في القرآن أعداد هائلة من المعاني، ستعجز أكبر وأحدث الحواسيب عن إحصاءها، وأن تمثيل العجز عن إحصاء عدد تراكيب هذه المعاني لا يمكن أن يخطر على قلب بشر، ناهيك عن معرفتها، سبحان الله، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} الزمر، فمعنى متشابـهاً: أي يشبهُ بعضه بعضاً، ومثاني: لأنه ثنيت موضوعاته مرّة بعد مرّة، ولأنها تُثَنَّى في القراءة وتُكَرَّر. وذلك ضروري، لأنّ اهتمامات الناس واتجاهاتهم وأفهامهم وعقولهم المختلفة، تقتضي وتحتاج ما يناسبها من الحجج والآيات والبراهين والقصص والأمثال والترغيب والترهيب والوعد والوعيد وغيره، من أجل فهم مقصد القرآن ومعناه الواحد البسيط، وهو الهدى إلى الصّراط المستقيم، وهو طريق الحق والسعادة والفلاح الذي أراده الله تعالى للناس، أمّا من أراد لنفسه الضلالة فما له من هاد.

في الواقع أنني عندما بدأت بكتابة هذا الكتاب كنت أتمنى أن لا تتعدى عدد صفحاته، عدد صفحات القرآن ال 604 صفحة، فليس من المعقول أن يكون عدد صفحات كتاب يهدف إلى تسهيل فهم القرآن أكثر من عدد صفحات القرآن نفسه، لكنني لم استطيع أن أحقق ذلك، لأن القرآن كلام الله الجامع البليغ المعجز الكامل المطلق المعاني ليس ككلام البشر القاصر الناقص والغير كامل والمحدود في الزمان والمكان والمعرفة، ولو فعلت فاختصرت عدد الصفحات، لما حققت الغرض الذي وضعت الكتاب لأجله؛ لذلك فأنا وأثناء كتابتي لهذا الكتاب كنت أبذل قصارى جهدي لكي أجعل من كل باب من أبوابه الثمانية المذكورة أعلاه، (انظر 0.3- لقد أنشأنا هذا الكتاب على ثمانية أبواب)، باباً متكاملاً بحد ذاته، بحيث يتكامل فيه كل ما ينبغي ذكره حول عنوان ذلك الباب، لعلّي بعد ذلك (في المستقبل) أن أهتدي إلى طريقة أستطيع من خلالها أن أجعل نفس الكتاب في ثمانية كتب مستقلّة، يسهل قراءتها، وبعناوين وموضوعات مستقلّة ومنفصلة، فيتيسّر للقارئ أن يقرأ موضوعات كل باب في كتاب منفصل ومتكامل، وبعدد صفحات أقل، وعلى حسب اهتمامه بأي باب من هذه الأبواب الثمانية. ثمّ تبين لي أن هذه الطريقة سوف تشتت الموضوع، وسوف تحتاج إلى الكثير من الشرح والبيان، وتتعقد الوسائل فيضيع القارئ ولا يعود يفهم الغرض النهائي من وضع كل هذه الكتب، وتضيع الفائدة المرجوّة منها. لذلك جعلته في كتاب واحد وبذلت قصارى جهدي بأن أبقي كلّ باب من هذه الأبواب الثمانية متكامل في حد ذاته، مع إبقاء الترابط والتكامل بينها، بحيث لو أراد القارئ أن يقرأ فقط الباب الأول مثلاً من الكتاب كلّه (على امتداد ال 114 سورة) فسوف يجد فيه عوناً مهماً نافعاً، ومتكاملاً يؤدي إلى تسهيل فهم وتدبّر القرآن، وهكذا يستطيع القارئ أن يقرأ باباً واحداً متكاملاً في كلّ مرّة، فإذا استفاد منه، يستطيع أن ينتقل إلى باب آخر، أو أكثر، وبغير ترتيب، وهكذا استقرّ الأمر، أدعو الله العون والتوفيق لما يحبّه ويرضاه.

ملخّص يبيّن مقاصد وتناسب سور القرآن في مكان واحد:

وكدليل على ما ذكرنا في الفقرة السابقة، من تكامل الأبواب منفردة، قمنا في هذا الباب الرابع بتجميع كل مقاصد سور القرآن من كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، بعد اختصارها، في مكان واحد، كما سنراه هنا بعد قليل، وأضفنا إليه مختصر عن التّناسب بينها، الذي فصّلناه في الباب الثامن من كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، ليكون نموذج وبرهان على أن القارئ، يستطيع أن يطالع هذا المؤلّف أفقياً بدراسة كل باب على انفراد على امتداد كل سوره ال 114، أو عمودياً بدارسة كل سورة منفردة بأبوابها الثمانية. وكذلك بنفس الأسلوب، في الباب الخامس الذي يلي هذا الباب، قمنا بتجميع ملخصات مواضيع كلّ السّور من كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، بعد اختصارها، في مكان واحد، مصحوبة بمختصر المقاصد ومختصر التّناسب، لتكتمل الصورة، ولتكون نموذج ودليل على مزيد وعظيم الفائدة التي تحصل عند دراسة هذين البابين معاً، الرابع والخامس وفي آن واحد. وكذلك رأينا أعلاه في الباب الأول، انظر ( تسهيل فهم وتفسير القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.) عظيم الفائدة التي حصلت من تجميع أسماء الله الحسنى المذكورة في جميع السّور من الباب الأول. وكذلك سنرى في الباب السابع، انظر (تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.1.3- القصص في القرآن، و 7.1.4- ضرب الأمثال في القرآن) الفوائد الكثيرة التي حصلت عند تجميع ملخص عن القصص وعن الأمثال وعن غيرها من الموضوعات الكثيرة التي احتواها القرآن، وكل هذا يعكس الإعجاز العجيب في نظم القرآن، وترتيب موضوعاته وتناسبها، والتي جعلها تعالى في كتابه المبارك، لتلائم اختلاف أفهام النّاس واهتماماتهم ودرجات استيعابهم. نسأل الله أن يفتح علينا بركات كلماته وخزائن علومه وأن يبارك لنا وينفعنا بما علّمنا.

وتفصيل مقاصد هذه المجموعات الثماني من السور هو كما يلي:

مقاصد السّور في نصف القرآن الأوّل:

4.2.1- بيان طريق الهدى (ودعوة نظرية للهدى):

4.2.1.1- مقصد القرآن في سورة الفاتحة.

الفاتحة: مقصدها الثناء والدعاء وطلب الهداية من الله إلى الصراط المستقيم، واستجابة الله للدعاء على الفور في نفس السورة. فالحمد لله على كمال صفاته وربوبيته ورحمته وعدله، واستحقاقه للعبادة، وأنه المعين على الهدى وكل شيء.

بعد الفاتحة تأتي سور خمسة: أربعة منها: هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، يربطها مقصد واحد وهو بيان الصّراط المستقيم، الذي هو طريق الهدى، وهو سبيل الله سبحانه وتعالى الذي خطّه وبيّنه للنّاس كي يتبعوه، رحمة بهم، وكي لا يشقوا باتباعهم هوى النفس وضلالات الشياطين؛ والخامسة وهي سورة الأنعام مقصدها التعريف بالله الواحد، وبيان علامات وجوده، في الخلق، والملك، والنعم، وإرسال الرسل، وإنزال الآيات، وغيرها من علامات تدبيره لأمور مخلوقاته. كما يلي:

4.2.1.2- البقرة: ومقصدها بيان طريق الهدى: أي دين الله، وفيه أركان الإسلام، وأركان الإيمان، وأحكام الشريعة.

4.2.1.3- آل عمران: الأمر باتباع طريق الهدى، وهو الصراط المستقيم المؤدي إلى الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة؛ يقابله النهي عن التولي عن الهدى، واتباع سبل الضلال التي تؤدي إلى الشقاء في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة. (سورة البقرة بينت الطريق، وآل عمران أمرت باتباعه).

4.2.1.4- النساء: مقصدها الأمر بتقوى الله ومراقبته في كل الأفعال والأعمال، فإن لم تكن تراقب الله فإنه يراقبك.

4.2.1.5- المائدة: أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها وإتمامها، وعدم نقصانها. أوّلها عقدهم مع الله، بما هدى إليه الكتاب، وبما أتم لهم الدين. وكل العقود التي أمر الله بالقيام بها، من عبادة، وتعامل مع الناس، في الأسرة والمجتمع، والأمم الأخرى.

4.2.2- نعمة الهدى إلى الصراط المستقيم: وبيان نعم الله كلّها، وهي لا تحصى:

4.2.2.6- الأنعام: مقصدها التعريف بالله الواحد (التوحيد)، وبيان علامات وجوده، في الخلق، والملك، والنعم، وإرسال الرسل، وإنزال الآيات، وغيرها من علامات تدبيره لأمور مخلوقاته. والدعوة إلى الإيمان، واتباع الهدى والحق، وعدم التكذيب، وأنه سبحانه خلق الإنسان واستخلفه في الأرض للابتلاء بهذا الإيمان، ثم الحساب والجزاء في الآخرة، فكان أكثرهم مكذبون ومشركون.

4.2.3- بيان طريق الهدى بالتطبيق العملي:

السور الستة التالية فيها بيان نتائج التطبيق العملي للدعوة إلى الهدى: في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الأمم والقرون الأولى. وهي تثبت حقيقة أن الله واحد لا شريك له، وتبرهن على أن سنن الله ثابتة لا تتغير: وهي فلاح الإنسان وسعادته باتباع الهدى والصّراط المستقيم وشقاءه وهلاكه بالإعراض والكفر والتكذيب.

فبعد أن بينت السّور الخمسة الأولى الفاتحة والبقرة وآل عمران والنّساء والمائدة طريق الهداية (أي الصّراط المستقيم)، وبعد أن أكمل الدين في سورة المائدة؛ وبعد أن عرّفت سورة الأنعام بالله وبنعمه وأمرت باتباع هديه؛ تأتي ستّ سور هي: الأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود ويوسف، فيها التّطبيق العملي، وبيان نتائج الأمر باتّباع الهدى، كما حصل حقيقة على الأرض، يعني بيان نتائج تكليف الإنسان بالخلافة في الأرض، وأمره بما فيه صلاحه، وهو عبادة الله وحده كما فصّل تعالى في كتابه وعرّف على نفسه وعلى دينه الذي ارتضاه لعباده. وذلك يشمل بيان مصيرهم في حالتي الاتباع أو الكفر. وأن الله جعل ميزاناً يزن عليهم أعمالهم في الدنيا، وهي دار العمل، ليجازيهم بها، وعلى ما كسبت أيديهم في الآخرة، وهي دار الجزاء. وأن الجزاء ليس مقصوراً على الدار الآخرة فقط ولكن قد يُقدم جزء منه في الدنيا بأن يفتح عليهم الرزق والبركة بسبب إتباعهم وإيمانهم أو بالإهلاك والاستئصال بسبب تكذيبهم وكفرهم، وكذلك في الآخرة بالفلاح أو بالعذاب تبعاً لميزان أعمالهم.

وبانتهاء سورة المائدة، نكون قد علمنا بأن دين الله قد اكتمل وأن العهود والمواثيق قد أخذت على العباد واتضحت مضامينها، وتمّ الهدى إلى الطريق المستقيم ووجب اتباعه. وفي سورة الأنعام تفردت ببيان مزايا الإيمان بالله وأنه كله نعمة وخير، رغم قلة المؤمنين. وفي الأعراف عرفنا وجوب الإتباع، والتزام التكاليف، وأن المؤمنين قلة والكفار كثرة وعرفنا أن الشقاء والعذاب بالكفران وعدم الإيمان. وفي الأنفال والتوبة نتعلم واجبات الإيمان، واتباع الصّراط، وأهمها التوكل على الله وعلى تدبيره، والدفاع عن الدين والقتال وجهاد الكفار والمنافقين. وفي يونس بيان أن الوحي نعمة لأنه يبين الحق وهو من الحق، ويبين أن العبادة نعمة، رغم أن الذين يعبدون قلة، وأن الناس لا يؤمنون إلا إّذا مستهم البأساء أو فقدوا النعمة. وفي هود تفصيل ما جاء به الوحي والكتاب من نعمة العبادة، والعذاب بعدم العبادة، وأن الذين يعبدون الله قلّة والذين لا يعبدون كثرة. وفي يوسف فقد جرت سنّة الله بالابتلاء بالخير والشر، وأن ما يراه الناس في ظاهره مصيبة قد يكون بالصبر طريقاً للخير الكثير والنعمة من الله. وقد أشارت كلّ السّور السابقة إلى قلة المؤمنين وكثرة الكافرين، حتى لا يفتن المؤمنين كثرة أهل الباطل وقلة أهل الحق، فالكل سيحاسب يوم الرجوع إلى الله، فمن أراد السلامة والنجاة بنفسه وجب عليه الإتباع وانتظار النتيجة. ومقاصد هذه السّور، كما يلي:

4.2.3.7- الأعراف: الأمر باتباع الهدى المنزل، وعدم اتخاذ الأولياء من دون الله. وهو يشمل التذكير بالإيمان، والتحذير من الكفر، والتعريف بأن الإنسان خلق لعبادة الله وحده، وأن هناك ميزان لكل أعمال الإنسان، وأن نتيجة هذه الأعمال إما الفلاح أو الخسران في الدارين: الدنيا والآخرة؛ كما بينته قصص نهاية أقوام جاءهم الهدى، فكانت النجاة والفلاح للمؤمنين، والهلاك والخسران للكافرين. (فالسّورة تهدي عملياً إلى وجوب الإتباع)

4.2.3.8- الأنفال: الاستسلام لأوامر الله بالإيمان والهجرة والجهاد في سبيله وإقامة دينه، وعدم الإخلاد للأرض واتباع الهوى الذي فيه هلاك الناس. فإن إحقاق الحق وإقامة دين الله نعمة عظيمة أرادها الله للإنسان ليفوز في الدنيا والآخرة، وأما اتباع الباطل الذي تمليه الشهوات وتزينه الشياطين للإنسان فهو هلاك في الدنيا وعقاب شديد في الآخرة. (فالسّورة تهدي عملياً إلى: وجوب التوكّل)

4.2.3.9- التوبة: الأمر الصريح والمباشر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين بالبراءة من المشركين والمنافقين، وجهادهم، وقتالهم حيث ما وجدوا بالأموال والأنفس، والقعود لهم كل مرصد، لعلهم ينتهوا أو يتوبوا. وأن المنافقين هم كالمشركين، مشتركين جميعاً في عبادة واتباع وإرضاء المخلوق من دون الله الخالق. (فالسّورة تهدي عملياً إلى: وجوب الاستقامة، وتبيّن نعمة قبول التوبة)

4.2.3.10- يونس: تأكيد أن الوحي هو دعوة الحق إلى الصّراط المستقيم، وفيه الهدى إلى دين الله الحنيف، بشقيه الإيمان والإسلام. فأمرت باتباعه، والصبر على ذلك حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين. (دفاع عن الوحي، وبيان نعمة الوحي)

4.2.3.11- هود: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والاستغفار والتوبة إليه. وأنه سبحانه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق، ولم يخلقهما عبثاً ولا باطلاً. وأرسل في ذلك الرسل مبشرين بالثواب إن هم أطاعوه، ومنذرين من العذاب أن هم خالفوه. من مصلحة الإنسان ألا يعبد إلا الله، كما جاء تفصيله في الكتاب، والاستقامة والثبات على ذلك، لأن فيه صلاح الإنسان، وعكسه يكون الإفساد في الأرض وسفك الدماء. (إنذار وبشارة، ودفاع عن العبادة، وبيان نعمة العبادة)

4.2.3.12- يوسف: أنزل الله الكتاب ليبين أنه خلق الإنسان ليبتليه: وأن هذا الابتلاء من الله، شامل لكل الناس، وهو لمن يجتبيهم أكثر، والغرض منه أن يتم نعمته عليهم، فالابتلاء هو طريق للنعمة. قد تكون النهاية مخالفة للمقدمات، لا يدري الإنسان أين مصلحته. فتسيير الكون فوق مستوى إدراك الإنسان. (نعمة الابتلاء بالمصيبة)

وباختصار فالسور الثلاثة الأولى بينت للمؤمن والكافر بالدليل العملي طريقي السعادة والشقاء اللذين لا ثالث لهما: وذلك باتباع الهدى أو نقيضه في سورة الأعراف، ثم بالتوكّل على الله في الأنفال، ثم بالاستقامة في التوبة؛ وفي السور الثلاثة التي تليها: بيان نعمة نزول الوحي وبيان طريق الهدى في يونس {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ (35)}، ونعمة معرفة مقصد خلق الإنسان وهو عبادة الله {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّـهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ (50)} في هود، ونعمة معرفة أن الابتلاء جُعِل لمصلحة الإنسان في يوسف {وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}.

وقد شاء الله تعالى أن يبتلي الناس بعبادته وحده لا شريك له، وباتباع دينه، وبغيرها من الابتلاءات التي لا تحصى. وقد بينت سورة يوسف كيف يبتلي الله عباده بأشياء كثيرة، ويمتحنهم في أعزّ ما يملكون من فقد الأولاد والأنفس والتعرض للظلم وغيره. هذه الحقيقة التي إذا أدركها الإنسان وفهمها وعقل الحكمة من ورائها، أعانته على الصبر، وكيف لا يصبر من هو في دار امتحان وابتلاء، وقد تبين له أن النتيجة على صبره، والثمرة المنتظرة هي الجزاء العظيم والفوز الكبير بالجنة والنعيم المقيم.

4.2.4- نعمة الهدى إلى الصراط المستقيم:

بعد أن بينت السّور السّت السابقة: الأعراف، الأنفال، التوبة، يونس، هود، يوسف، طريق الهدى بذكر قصص هلاك الأولين وأخبارهم وتجاربهم، فقد برهنت بالتجربة على أن التكليف باتباع الهدى هو نعمة، وفي اتباعه صلاح كل شيء في الدارين. وبانتهاء الاثنتا عشرة سورة السابقة يكون طريق الهدى قد اكتمل بيانه بالنصوص المبينة الصادقة، والتطبيق العملي، والتجارب الحقيقية، التي عُلِم منها: هلاك الكافرين، ليكون وعيداً وتحذيراً من أحوالهم؛ وفوز المهتدين، ليكون وعداً وبشارة لمن يحذوا حذوهم، ويتبع الطريق المستقيم الذي ساروا عليه.

فالإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة. وفي السّور السّت التالية، وهي: الرعد وإبراهيم والحجر والنحل والإسراء والكهف، فإن الله تعالى ينعم على النّاس ببيان نعمة الحقّ والأمان والرّزق والإيمان والرّسالات والمرسلين وكل ما يصلح حياتهم ويسعدهم؛ وفي الثلاثة الأولى بيانه ودعوته لهم بتدبّر آياته وفضله ونعمته عليهم، وفي الثلاثة الثانية بشاراته لهم بالآيات والدليل على فضله ونعمته عليهم ودعوته لهم لتنزيهه والإقبال والتوكل عليه والرضى بقضائه وقدره الذي جُعل فيه سعادتهم.

في سورة الرعد بيان أن الله رفع السماوات ودبّر الأمر وقدّره وجعل أنواع مختلفة من الثمرات والآيات وغيره لعلهم يتفكرون ويعقلون ويوقنون ويؤمنون؛ وفي إبراهيم أنزل الكتاب وأرسل المرسلين مبلغين بلسان قومهم، بالآيات وضرب لهم الأمثال ليعلموا أن الله فاطر السماوات والأرض يريد أن يغفر لهم ويمنّ عليهم ويؤتيهم من كل ما سألوه؛ وفي الحجر بيان أن ما جاءهم من عند الله هو الخبر اليقين بأنه خالقهم وحافظهم، وهو الحق وأن الآيات لا تنفع مع الذين كفروا حتى لو فتحت لهم أبواب السماء عياناً؛ وفي النحل بيان ما خلقه لهم ونعمه التي لا تحصى، بينما الذين يدعون من دونه لا يَخلقون شيئاً وهم يُخلقون؛ وفي الإسراء بيان قصص وآيات تكريم الله لعباده ورحمته لهم وإعطائهم ما أرادوا ليتوكّلوا عليه؛ وفي الكهف بيان قصص وآيات أمر الله الحق وقضاءه وقدره الذي فيه رحمته لهم وسعادتهم، كما يلي:

4.2.4.13- الرعد: بيان أن الذي جاءت به آيات الكتاب هو الحق لكي يؤمن الناس، لكن أكثرهم لا يؤمنون. فآيات الكتاب هي الحق، لاشتمالها على صفات الله، وخلقه، وتدبيره، وتقرير الوحدانية لله، والرسالة، والبعث والجزاء. (أي: بيان نعمة الحق الذي في الكتاب)

4.2.4.14- إبراهيم: بيان أن القرآن نعمة ونور من الله، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتحقيق سعادة الإنسان في الدارين الدنيا والآخرة. وأن ما جاء به الرسل يخرج من مشكاة واحدة.

4.2.4.15- الحجر: بيان أن الله هو الأمان، وهو الحافظ والرزاق في الدنيا وفي الآخرة. وأن الأمن الذي ينشده الناس لا يأتي إلا من عند الله، وليس من البيوت التي ينحتونها. (أي: أن الله هو الملجأ وهو الأمان)

4.2.4.16- النحل: إرادة الله ومشيئته بخلق الكون ووقوع قضاءه فيه وفق سننه وتقديره. وهي لا تحتاج إلى تأكيد، فآياتها مبينة في الكون (فعله) وفي القرآن (كلامه). يأمر الله عباده المؤمنين بتقواه وحده لا شريك له، ويبشرهم بالمغفرة والأجر الحسن في الدنيا والآخرة. وينزه نفسه عن الشركاء ويتوعد الكافرين والمشركين بأن السّاعة قد قربت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا (في حينه المقدّر). (أي: فيها دفاع عن أمره تعالى للكون بأن يكون، وتتحدث عن كلّ النعم، التي هي من أمر الله)

4.2.4.17- الإسراء: التوكّل على الله وحده لا شريك له، مصدر العطاء والنّعم العظيمة والمنن الجسيمة. وتنزيهه تعالى عن كل مالا يليق بكماله وجلاله وعظيم سلطانه، وشكر نعمه، وعبادته، واتباع دينه وشرعه الذي يهدي لما هو أقوم. (أي: لا مفر من الإقبال على الله والتوكّل عليه وخلع ما سواه)

4.2.4.18- الكهف: بيان أن سبب وجود الناس على الأرض هو الابتلاء بالأعمال والتكاليف وأن مصيرهم يوم القيامة متوقف على هذا الابتلاء. وبيان ما أعده الله لهم من الثواب والعقاب جزاءاً على أعمالهم في الدنيا. (أي: نعمة الابتلاء بالفتن والنعم، ليعلموا أنه لا وكيل إلا الله، وأن لا إله إلا الله، وهو الملجأ والمنعم)

4.2.4.18.1- تناظر نصفيّ القرآن:

النصف الأول: وبانتهاء سورة الكهف يكون قد انتهى نصف القرآن الأول، وكما رأينا فإن كلّ مقاصده كانت في بيان طريق الهدى إلى الصّراط المستقيم وإظهار نعم الله على عباده، وكأنه استجابة للدّعاء: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (7)} الفاتحة، ورأينا كذلك أن الأمم بعد أن تهتدي ويمكّن الله لهم في الأرض وينزل عليهم النعيم، يعودوا فينشغلوا بالنعمة عن المنعم، فيهلكهم الله بذنوبهم وينشئ من بعدهم قوماً آخرين. أما في النصف الثاني فسوف نلاحظ أن مقاصد سوره في أغلبها هي إظهار إعراض أكثر النّاس عن الهدى، وتكذيبهم وسوء عملهم، وقد كان أكثرهم ضالّون ومغضوب عليهم: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} الفاتحة. أي أن النصف الأول من القرآن بيّن صراط الذين أنعم الله عليهم المذكورين في الآية (7) من الفاتحة، وعظيم نعم الله على من اتبع، وخسران من أعرض؛ والنصف الثاني بيّن الطرق التي اتبعها المغضوب عليهم والضالّين المذكورين في نفس الآية، وشقاء وخسران من اتبع هذه الطرق الضالّة والمؤدّية إلى غضب الله، ونجاة من أعرض عنها.

لقد خلق الله الإنسان ليعبده على علم يكتسب بالتعلّم والممارسة، لا كعبادة وتسبيح وتقديس الملائكة والمخلوقات الأخرى، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31)} البقرة، وميّزه بالعقل ليتعلّم. وسعادتُه تتم بالعلم والمعرفة، التي تهديْهِ إلى الصّراط المستقيم، وهو عبادةُ الله باتّباع دينه: الذي يبدأ بالإسلام، وهو تقوى اللهِ بالاستسلام لأمره ونهيه وإقامة أركان الإسلام من توحيد وصلاة وصوم وزكاة وحج، ثم الإيمان، بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، ثم الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فالهدى إذاً هو أولاً: تعليم نظري فيه معرفة صفات الله وأسمائه من خلال قراءة كتابه، وتأمّل آياته، ومعرفة حكمته من خلق الكون، وهو التمجيد والتسبيح بحمد الله؛ وثانياً: تصديقُ كلامه والاقبالِ على فهم رسالته واتباع هديه، وهو الإسلام؛ ثالثاً: تطبيقٌ عملي بالتجربة، والتزكيةِ للنفس، وتعلمِ الكتاب والحكمة، يقتبس فيه المتعلّمُ حكمةً لنفسه من حكمةِ خلق الكون، وسننِ الله فيه القائمةِ على الأسباب، وعبادةً وتسبيحاً وتقديساً ينسجم مع تسبيح الكون، يصل بالإنسان إلى درجة اليقين والإحسان؛ رابعاً: تطبيقُ خلافةِ الله في الأرض، بإقامةِ دينهِ وشرعه، ومراقبةِ نِعَمه، وحمدهِ وشكره عليها، بالحفاظِ وإقامةِ أمره فيها، والذي أساسُه الإصلاح وعدمُ الفساد. ولكي يصلَ الإنسانُ إلى أعلى مراحلِ الإسلام، وهي مرحلةُ الإحسان، فلا بدّ من أن يبدأ بتقوى اللهِ الذي يبتليهِ بالخيرِ والشر، وهي أولى مراحلِ تعلّمِ الهدى، قال تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)} البقرة. ليتعلمَ أن الخيرَ والشرَ من الله، هو الذي يضعُهُ وهو الذي يُذهبُه؛ فتنشأ معاملةُ محبّةٍ بين الله والإنسان { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)} المائدة، الذي عرفَ ربَّه بالتقوى وبممارسةِ شعائرِ دينه، وهو الإسلامْ ثم الإيمانْ ثم الإحسانْ. ولهذا خُلِقَ الإنسانُ، ليعبدَ اللهَ محبةً في الله، وخشيةً منه بالمعرفةِ والعلم، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28)} فاطر. لكن إن أعرضَ الإنسانُ عن إنسانيتهِ، وتخلى عن مقصِدِ وجودِه، وهو معرفةُ ربهِ ثم عبادتُهُ باتباعِ دينه، ثمّ محبةُ الله له، وبقي في جهلِهِ يطيعُ الشيطانَ ويتبعُ الشهواتِ، فقد تخلى عن سببِ كرامتهِ وتميزهِ وهوَ العلمُ والعبادة، وصارَ كالحيَوانِ الذي لا عقلَ له ويعيشُ بدونِ هدى، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} الأعراف، فلا بدّ من أن يستبدلهُ اللهُ بقومٍ ينسجمونَ مع مقصِد وحكمةِ خلقهِم، يعرفونَه فيُحِبُهم ويُحِبُونه ويتبعونَ أمرَه ونهيَه.

النصف الثاني: كلّ ما في النصف الثاني هو تكرار لما جاء في النصف الأوّل، وهو بيان طريق الهدى إلى الصّراط المستقيم، بمراحله الأربعة التي أشرنا إليها في النصف الأول، لكن مع زيادة كبيرة وملحوظة في الحرص على هداية من لم يزالوا لم يهتدوا، ووعظهم وتذكيرهم وزجرهم وتنبيههم بكل الوسائل والحيل، لأنه قد سبق في علم الله أن الكثير من النّاس لا يتعظون إلا بالتهديد الشديد والتخويف والوعيد والتقريع والتبكيت، فازداد ذكر آيات الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتهديد والإنذار الشديد، وذكر البعث والحساب، وأهوال يوم القيامة، وعظيم أمرها، وذكر المعجزات، وآيات الله في السّماوات والأرض، والدلائل والبراهين على قدرته تعالى على إعادة الخلق، قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} الأنبياء، وغيره. ثم كَثُر ذكر إعراض أكثر الناس عن هذه الإنذارات والآيات والبراهين، وتكذيبهم واستهزائهم، مع ذكر قهر الله لهم وخسرانهم في الدنيا وسوء مصيرهم يوم القيامة، ثم ندمهم الشديد على جهلهم وضلالهم وسوء ما قدّموه من أعمالهم.

4.2.4.18.2- وكما بدأ سبحانه وتعالى النصف الأول من القرآن بسورة الفاتحة بالتّعريف على نفسه جلّ جلاله بأنه ربّ العالمين ثمّ ثنّى بأنّه الرّحمن الرحيم، يبدأ أيضاً النصف الثاني بسورة مريم التي افتتحت بذكر صفة الرّب الرحمن، والسّورة مقصدها هو بيان صفة الرّحمن وحده لا شريك له، ثم سورة طه التي مقصدها هو نزول القرآن رحمة، ثمّ سورة الأنبياء التي مقصدها هو إرسال الأنبياء رحمة. ثمّ تلتها ثلاث سور هي الحجّ والمؤمنون والنّور، تتحدث عن مراحل التدرّج في الدّين، الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان، وهو مشابه للتدرّج الذي في سورة البقرة وآل عمران والنّساء والذي أشرنا إليه في مقصد سورة النّساء (انظر كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، معنى الدين في المبحث 004.4.4- {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146)}). ثم تلتها أربع سور هي الفرقان والشّعراء والنّمل والقصص تتحدث عن القرآن الذي هو الفرقان وفيه كمال الدّين، وهو مكمّل ومشابه لما أشارت إليه سورة المائدة بموضوعاتها الأربعة حول المقصد {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (3)}، المذكورة في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن (سورة المائدة، الفصل 005.6.2- وباعتبار ترتيب آياتها نستطيع تمييز أربعة مجموعات من الآيات). ثم تلتها ثمانية سور هي: العنكبوت والروم ولقمان والسّجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس، تتحدث عن رحمة الله، ونعمة الهدى والدّين والعبادة والحكمة التي جاءت في الكتاب، وهو مكمّل ومشابه لما أشارت إليه سورة الأنعام بموضوعاتها الثمانية، المذكورة في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن (سورة الأنعام، الفصل 006.6.1 تفاصيل عن السورة حسب ترتيب آياتها)؛ وبانتهاء سورة يس ينتهي ربع القرآن الثالث في النصف الثاني كما انتهى بسورة الأنعام الربع الأول من النصف الأول. ثم بعد ذلك عشرون سورة من الصّافات إلى الواقعة، فيها تفصيل أحوال النّاس أفراد وجماعات، وتجارب حقيقيّة تبين مدى تقبلهم لرسالة السماء وهي تدعوهم إلى اتباع الهدى والصّراط المستقيم، كيف استقبلوها وكيف أثّرت في حياتهم. ثم ثمان وخمسون سورة من الحديد إلى النّاس تتحدث عن عظيم نعمة تطبيق الدّين وما يتبعها من نعم الدّنيا في الرّزق والنّصر والأمان وغيره. وهو ليس تشابه مطابقة بين نصفي القرآن الأول والثاني لكنه تشابه تناظر وتكميل وتناسب في سياق القرآن وتسلسل مقاصد سوره يسهّل علينا فهمه: حيث يبدأ في كلّ منهما ببيان صفات الرّب وأهمّها الرّحمة؛ ثم ينتقل إلى بيان طريق الهدى وهو الدّين: يبدأ فيبني على الإسلام ثم يرتقي المسلم من خلال تطبيق أركان الإسلام إلى الإيمان ثم يرتقي بالإيمان إلى الإحسان؛ حتّى إذا ما اكتملت نعمة الدّين يبدأ القرآن بالحديث عن نعمة الدّنيا ونعم الله الأخرى؛ ثم بيان طريق الهدى على الحقيقة ببيان دروس من التطبيق العملي للدّين في النّاس والقرون الأولى يليه بيان نعمتي الخلق والهدى، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ (23)} الزمر، أي: يشبه بعضه بعضاً، ويصدّق بعضه بعضاً، لا اختلاف فيه، ولا تضادّ، وتُثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج. انظر الجدول:

الجدول التالي هو من أجل تأكيد وتلخيص ما ذكرناه في هذا الباب أعلاه: عن أن كلّ ما في النصف الثاني هو تكرار لما جاء في النصف الأوّل، وهو بيان طريق الهدى إلى الصّراط المستقيم، بمراحله الأربعة التي أشرنا إليها في النصف الأول.

جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن:

4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول الإيمان أن واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة. مع بيان تشابه وتناظر السور في نصفي القرآن، كما تمّ تفصيله في هذا الباب انظر 4.2.4.18.2 أعلاه.

أولاً: جدول مختصر يشير إلى السّور المتناسبة والمتناظرة في نصفي القرآن:

نصف القرآن الأول (وفيه 18 سورة)
مقاصد السّور في نصف القرآن الأول، كما هو مبيّن أعلاه
نصف القرآن الثاني (وفيه 96 سورة)
هذه السّور في النصف الثاني التي تناظر وتتشابه مع ما يقابلها في التناظر والتشابه في النصف الأول
1- الربع الأول في القرآن، ينتهي في الحزب 15، وفيه مجموعتين من 6 سور:

1.1- مجموعة مكونة من خمس سور فيها دعوة نظرية إلى الهدى: وهي الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة.

1.2- ثم سورة واحدة فيها بيان نعم الله كلّها، وهي لا تحصى: في سورة الأنعام.

3- الربع الثالث في القرآن، ينتهي في الحزب 45، وفيه 18 سورة:

3.1- عشر سور فيها دعوة نظرية إلى الهدى: وهي مريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان والشعراء والنمل والقصص.

3.2- ثم ثمان سور في بيان نعمة الهدى: وهي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس.

2- الربع الثاني من القرآن، ينتهي في الحزب 30، وفيه مجموعتين من 12 سورة:

2.1- مجموعة مكونة من ست سور فيها دعوة عملية (تطبيق الهدى عملياً): وهي الأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود ويوسف.

2.2- ثم ست سور أخرى في بيان نعمة إتباع طريق الهدى في القرآن والرسل والابتلاء وغيره: وهي الرعد وإبراهيم والحجر والنحل والإسراء والكهف.

4- الربع الرابع من القرآن، ينتهي في الحزب 60، وفيه 78 سورة:

4.1- عشرون سورة فيها دعوة وتطبيق عملي إلى الهدى: وهي من الصافات إلى الواقعة.

4.2- ثم ثمان وخمسون سورة فيها بيان نعمة إتباع طريق الهدى إلى الصراط المستقيم: وهي من الحديد إلى الناس.

ثانياً: الجدول بالتفصيل يبين السّور المتناسبة والمتناظرة في نصفي القرآن:

سياق سور القرآن نصف القرآن الأول (18 سورة) مقاصد السّور في نصف القرآن الأول، كما هو مبيّن أعلاه نصف القرآن الثاني (96 سورة)

هذه السّور في النصف الثاني التي تناظر وتتشابه مع ما يقابلها في التناظر والتشابه في النصف الأول

 

أ- تناظر نصفي القرآن: المجموعتين الأولى مع الخامسة، في الربعين الأول والثالث، انظر: 4.2.4.18.3، وموضوعهما البيان والدعوة النظريّة إلى الهدى.

تتناظر المجموعتين حول مقاصد هذه السّور وهو الدّعوة النظريّة إلى الهدى:

  1-الفاتحة الثناء على الله والدعاء والاستعانة به واستحقاقه للعبادة تتناظر سورة الفاتحة وتتشابه مع 3 سور، هي: 19- مريم، 20- طه، 21- الأنبياء. فيها الهدى: مريم تحكي قصة مريم تبين ضلال النصارى، وطه تحكي قصة موسى وتبين غضب الله على اليهود، ثم الأنبياء وفيها مسيرة أمّة الرسل وقصص الكثير من الأنبياء وهكذا.

انظر الشرح في: 4.2.4.18.2؛ 4.2.4.18.3؛ 4.2.5.1.19؛ 4.2.5.1.20؛ 4.2.5.1.21

2-البقرة بيان طريق الهدى: بأركانه الإسلام والإيمان والأحكام (الإسلام) تتناظر سورة البقرة وتتشابه مع سورة 22- الحج. وتستهل بالحديث عن التقوى ثم جدال الناس واتباعهم الشيطان وأنهم درجات منهم من يعبد الله على حرف، ومنهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومنهم اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وعن بداية خلق الإنسان ونشأته حتى يصل أرذل العمر ثم العبادات والقتال، وهكذا في تشابه مع سورة البقرة مع اختلاف في المقصد والسياق.

انظر الشرح في: 4.2.4.18.2؛ 4.2.4.18.3؛ 4.2.4.18.3.5؛ 4.2.4.18.3.10

3- آل عمران الأمر باتّباع طريق الهدى وهو الصّراط المستقيم (الإيمان) تتناظر سورة آل عمران وتتشابه مع سورة 23- المؤمنون.

وتتحدث عن المؤمنين وعباداتهم ومسارعتهم في الخيرات وتكريم الله لهم، وعن اصطفاء الله للمرسلين وعباده المؤمنين ونصرهم، وغيره، في تشابه مع آل عمران.

انظر الشرح في: 4.2.4.18.2؛ 4.2.5.2.00

4- النّساء الأمر بتقوى الله ومراقبته، لأنه يراقبك (الإحسان) تتناظر سورة النّساء وتتشابه مع سورة 24- النّور.

انظر الشرح في: 4.2.4.18.2؛ 4.2.4.18.3.6

5- المائدة الأمر بالوفاء بالعقود وإكمالها وإتمامها للوصول إلى محبة الله (المحبة) تتناظر سورة المائدة وتتشابه مع أربع سور، هي:25- الفرقان، 26- الشعراء، 27- النمل، 28- القصص.

كما بيّناه انظر الشرح في: 4.2.4.18.3.11؛ 4.2.5.2.00

 

ب- تناظر نصفي القرآن: المجموعتين الثانية مع السادسة، في الربعين الأول والثالث، انظر: 4.2.4.18.3، وموضوعهما البيان والدعوة النظريّة إلى الهدى.

تتناظر المجموعتين حول بيان نعم الله: فقد أنعم الله على الناس، ورحمهم، وأراد لهم أن يظلوا مغمورين في أنعامه وتظللهم رحماته باتباعهم هديه ودينه. الناس خُلِقوا ليُمتحنوا بالإيمان وعمل الصالحات، فيخرجوا بالإيمان والعمل الصالح من الظلمات إلى النور (أي: لم يخلقوا لكي يتمتعوا ويأكلوا كما تأكل الأنعام). مقاصد هذه السور هو الإشارة إلى نعم الله التي لا تحصى:

  6- الأنعام بيان نعم ومنافع معرفة الله وعبادته  واتباع دينه ومحبته تتناظر سورة الأنعام وتتشابه مع 8 سور، هي: 29- العنكبوت، 30- الروم، 31- لقمان، 32- السجدة، 33- الأحزاب، 34- سبأ، 35- فاطر، 36- يس.

كما بيّناه انظر الشرح في: 4.2.4.18.3.12

 

ج- تناظر نصفي القرآن: المجموعتين الثالثة مع السابعة، في الربعين الثاني والرابع، انظر: 4.2.4.18.4، وموضوعهما بيان طريق الهدى بالدعوة العمليّة، وبالتجربة الحقيقة.

تتناظر هاتين المجموعتين حول بيان طريق الهدى بالتجربة والتطبيق: ببيان تأثير ونتائج اتّباع الدّين والصّراط المستقيم على حياة الناس مؤمنهم وكافرهم، فالآيات في السّماوات والأرض تملأ المكان، وتخاطب قلوب الناس وعقولهم وأسماعهم وأبصارهم، لعلهم يتذكرون، فيعلمون أن ربّهم هو الله الواحد الرّزاق الرّحيم، وتتغيّر كذلك الأرزاق ونعم الله ورحماته على الإنسان تبعاً لأعماله، فالإيمان والعمل الصالح يجلب الخير والرحمة، والكفر والعمل السيء يجلب الشدّة الهلاك، (لاحظ زيادة التركيز في المجموعة السابعة على إظهار النتائج في الآخرة أكثر منه في المجموعة الثالثة، ولاحظ أيضا طريقة انتقالها في إظهار نتائج الأعمال ما بين الدارين وكأنهما دار واحدة وأن الزمان واحد، ما يعني ويؤكّد بأن الأمر في علم الله الواسع معلوم وفي قضاءه المكتوب في اللوح المحفوظ مقدر، ومقدماته مرسومة ونتائجه معلومة، إلى أجل مسمّى، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} الشورى، فالله تعالى خالق الزمان والمكان، ولا يفصل المرء عن نيل جزاء عمله لا مكان ولا زمان، فلكلّ درجات مما عملوا، وحساب الله سريع، وأن هذا التقدير في الدنيا هو فقط لإقامة الحجّة على الناس، ليعلموا أنه لا ظلم، وأنهم إنما وصلوا لما وصلوا إليه بعملهم وما كسبت أيديهم؛ وقد جُعِل، وسُخِّر من أجل تحقيق هذا الملائكة يسبحون ويستغفرون للذين آمنوا ويقومون بعملهم كما الله أمرهم، والسماوات والأرض مسخرات بأمر الله ومسبّحات بحمده، والشياطين في غيّها وعداوتها للناس، وكل ما في الوجود وما في الدارين الدنيا والآخرة، مسيّر لما خلقه الله له، ولا يخرج من قدر الله إلا إلى قدر الله، لكلّ نبأ مستقرّ، فيوفّيهم الله أعمالهم وهم لا يظلمون، وهكذا. مقاصد هذه السور هو: الدعوة العملية إلى الهدى نرى من خلالها آثار ونتائج اتباع طريق الهدى والصراط المستقيم:

  7- الأعراف بيان نتائج الإتباع، والتزام التكاليف (أي: بيان طريق الهدى بالتجربة ببيان النتائج) تتناظر سورة الأعراف وتتشابه مع سورة 37- الصافات.

انظر الشرح في: 4.2.7.1؛ 4.2.7.1.37

8- الأنفال بيان نتائج التوكل على الله وعلى تدبيره. تتناظر سورة الأنفال وتتشابه مع سورة 38- ص.

انظر الشرح في: 4.2.7.1؛ 4.2.7.1.38

9- التوبة بيان نتائج التوبة والاستقامة واتّباع الدّين. تتناظر سورة التوبة وتتشابه مع سورة 39- الزمر.

انظر الشرح في: 4.2.7.1؛ 4.2.7.1.39

10- يونس نتائج نعمة نزول الوحي وغيرها: الناس رضوا بالدنيا وبالعاجل وعجبوا من الحق؛ يؤمنون في الشدة ولا يؤمنون في الرخاء. 40- غافر، 41- فصلت، 42- الشورى، 43- الزخرف، 44- الدخان، 45- الجاثية، 46- الأحقاف

7 سور، انظر: 4.2.7.1؛ 4.2.7.1.40 إلى 4.2.7.1.46

11- هود نعمة معرفة مقصد خلق الإنسان وهو عبادة الله وحده لا شريك له؛ وأن العبادة هي ابتلاء واختبار يقام بها الحجّة على: اختلاف الأعمال والعدل في الجزاء. 47- محمد، 48- الفتح، 49- الحجرات، 50- ق، 51-  الذاريات، 52-  الطور

6 سور، انظر: 4.2.7.2 (الفقرة الأخيرة)؛ 4.2.7.2.47 إلى 4.2.7.2.52

12- يوسف تمام نعمة الله في سنّة الابتلاء بالخير والشر. وصدق الوعد والوعيد والعاقبة. 53- النجم، 54- القمر، 55- الرحمن، 56- الواقعة

4 سور، انظر: 4.2.7.3 (الفقرة الأخيرة)؛ 4.2.7.3.53 إلى 4.2.7.3.56

 

د- تناظر نصفي القرآن: المجموعتين الرابعة مع الثامنة، في الربعين الثاني والرابع، انظر: 4.2.4.18.4، وموضوعهما بيان طريق الهدى بالدعوة العمليّة، وبالتجربة الحقيقة.

تتناظر هاتين المجموعتين حول مقاصد السور، في بيان نعمة اتباع الهدى، يرى المخاطبون بها، آثارها وعلاماتها في أنفسهم وفيمن كان قبلهم إلى يومنا هذا: أي، بعد بيان نتائج نزول الوحي والتجارب على الأرض، في السور التي في النصف الأول (الرعد وإبراهيم والحجر والنحل والإسراء والكهف)، يأتي في هذه المجموعات من السور، التي في النصف الثاني، المزيد من البيان والتعقيب من أجل إظهار نعمة اتباع الهدى، وعلاماتها وآياتها، بشقيها المادّية والمعنويّة، وذلك استكمالاً لما كنّا قد شاهدناه من آثارها ونتائجها في المجموعة التي سبقتها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر تبيّن لنا السور القادمة ما يلي: في سورة الرعد، ظهر لنا بأن تطبيق الدين يؤدي إلى نعم معنوية كالهدى بالكتاب والمرسلين ومعرفة الحق والذكر والعبادات والتأييد بالنصر والحفظ إلى الخروج من الظلمات إلى النور وتحقيق رضى الله ودوام نعمته، وماديّة كتسخير الأرض وبسط الرزق والزرع وغيره؛ والعكس صحيح أي عدم اتباع الدين هو نقيض التطبيق الصالح، ومصيره زوال النعمة والعذاب في الدارين. وفي سورة ابراهيم، لا نزال نرى إلى يومنا هذا مظاهر استجابة ربنا لدعوة إبراهيم عليه السلام: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ (37)} إبراهيم، وفي المقابل لا نزال نرى إلى يومنا هذا علامات إهلاك الظالمين: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ (45)} إبراهيم. وفي سورة الحجر حفظ الله للأشياء. وفي سورة النحل رأينا مصداق ما أشارت إليه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)} والآية (97) النحل. وهكذا؛ وباختصار، بعد أن ظهر لنا في المجموعة الرابعة من سور القرآن ما يلي: في الرعد التسخير والرزق، وفي إبراهيم تحقيق الوعد، وفي الحجر الحفظ، وفي النحل النعم، وفي الإسراء تكريم الإنسان، وفي الكهف حسن تدبير الله؛ وسيظهر لنا نظير هذا في المجموعة الثامنة من سور القرآن، عند شرحنا عن تناظر نصفي القرآن إن شاء الله. مقاصد هذه السور هو الإشارة إلى نعمة الهدى ونعم الله التي لا تحصى على الإنسان:

  13- الرعد نعمة الحق الذي في الكتاب. 57- الحديد، 58- المجادلة، 59- الحشر، 60- الممتحنة، 61- الصف، 62- الجمعة، 63- المنافقون، 64- التغابن، 65- الطلاق، 66- التحريم

10 سور، انظر: 4.2.8.1 (الفقرة الثانية)؛ 4.2.8.1.57 إلى 4.2.8.1.66

14- إبراهيم القرآن نعمة ونور من الله، لتحقيق سعادة الإنسان في الدارين. 67- الملك، 68- القلم، 69- الحاقة، 70- المعارج، 71- نوح، 72- الجن، 73- المزمل، 74- المدثر، 75- القيامة، 76- الإنسان، 77- المرسلات، 78- النبأ، 79- النازعات

13 سورة، انظر: 4.2.8.2 (الفقرة الأخيرة)؛ 4.2.8.2.1.67 إلى 4.2.8.2.3.79

15- الحجر الله هو الملجأ وهو الأمان. 80-عبس، 81- التكوير، 82- الانفطار، 83- المطففين، 84- الانشقاق، 85- البروج، 86- الطارق

7 سور، انظر: 4.2.8.3 (الفقرة الثانية)؛ 4.2.8.3.80 إلى 4.2.8.3.86

16- النحل بيان كلّ النعم، التي هي من أمر الله. 87- الأعلى، 88- الغاشية، 89- الفجر، 90- البلد، 91- الشمس، 92- الليل، 93- الضحى، 94- الشرح، 95- التين، 96- العلق، 97- القدر، 98- البينة

12 سورة، انظر: 4.2.8.4 (الفقرة الأخيرة)؛ 4.2.8.4.87 إلى 4.2.8.4.98

17- الإسراء التوكل على الله وحده لا شريك له مصدر العطاء والنعم العظيمة والمنن الجسيمة. 99- الزلزلة، 100- العاديات، 101- القارعة، 102- التكاثر، 103- العصر، 104- الهمزة، 105- الفيل، 106- قريش، 107- الماعون، 108- الكوثر

10 سور، انظر: 4.2.8.5 (الفقرة الأخيرة)؛ 4.2.8.5.1.99 إلى 4.2.8.5.3.108

18- الكهف نعمة الابتلاء بالفتن والنعم، ليعلموا أنه لا إله إلا الله، وهو الوكيل والملجأ والمنعم.

109- الكافرون، 110- النصر، 111- المسد، 112- الإخلاص، 113- الفلق، 114- الناس

6 سور، انظر: 4.2.8.6 (الفقرة الأخيرة)؛ 4.2.8.6.109 إلى 4.2.8.6.114

ويتميّز هذا التناظر والتناسب بين نصفي القرآن بالتكامل حول بيان أركان طريق الهدى والصراط المستقيم، بأن: سياق النصف الأوّل يدعو إلى العبادة والعمل الصالح، ويركّز على المؤمنين والمصطفين مع قلتهم؛ مقابل أن النصف الثاني يدعو إلى العبادة والعمل الصالح بالأمثلة وبالترغيب والترهيب وذكر الآيات، ويركز على اختلاف الناس في درجات استجابتهم للحق، ونتائج ذلك في الدنيا وفي الآخرة، وعلى الإشارة على كثرة المعرضين والمكذبين؛ ومن أمثلة التناظر والتناسب والتكامل الواضحة على سبيل الذكر لا الحصر، نذكر ما يلي:

4.2.4.18.3- التناسب بين الربع الأوّل والثالث في القرآن (وموضوعهما البيان أو الدعوة النظرية):

4.2.4.18.3.1- تتناظر سورة الفاتحة وتتشابه مع 3 سور، هي: مريم وطه والأنبياء:

يبدأ الربع الأوّل في النصف الأول بالتعريف بالله الرّحمن الرّحيم، يهدي الناس إلى الصّراط المستقيم؛ وكذلك الربع الأوّل في النصف الثاني يبدأ بسورة كلّها رحمة وهي سورة مريم كما بينّاه في مقصدها، إلى أن ينتهي الأمر بأن قالوا اتخذ الله ولداً؛ يليها سورة طه في التأكيد على أن القرآن نزل رحمة للنّاس وتذكيراً لهم بواجباتهم في الحياة الدنيا؛ يليها سورة الأنبياء في التأكيد على أن إرسال الأنبياء هو رحمة ونعمة كبيره من الله.

ويتناظر كذلك قوله تعالى في الفاتحة: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} مع قوله في مريم: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)، وهي أكثر سورة تكرّر فيها ذكر: الرّحمن 16 مرّة من أصل 61 مرّة في القرآن كله؛ ومع وقوله في طه: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)}، وتكرّر فيها اسم: الرّحمن 4 مرّات؛ ومع قوله في الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}، وتكرّر فيها اسم: الرّحمن 4 مرّات.

ويتناظر قوله في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} مع قوله في مريم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)} مريم، وقوله في طه: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)} طه، وقوله في الأنبياء: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}.

ومن رحمة الله بالعالمين فإن سورة الأنبياء تبدأ من أوّل كلمة فيها بالإشارة إلى غفلة النّاس عن قرب حسابهم (وبتعجب وإشفاق على حالهم، وعلى جهلهم وظلمهم لأنفسهم، برغم وضوح الآيات وبساطة دعوة الحق) ثمّ تكمل بالتذكير والحديث عن أن الله لم يخلق السّماوات والأرض لعباً، وعن بداية الخلق ونهايته (أي: عن فتق السّماء وإعادة طيّها)، وعن مسيرة بعث الرّسل عليهم السلام ذهابا وإياباً: فتبدأ من عند أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: {كتاباً فيه ذكركم (10)} ثم موسى وهارون وتذهب ذهاباً بعيداً في عمق التاريخ إلى إبراهيم ولوط وإسحق ويعقوب ثم إلى نوح ثم ّ تعود إياباً مروراً بداوود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذا النون وزكريا ويحيى إلى التي أحصنت فرجها أم المسيح عيسى بن مريم عليهم جميعاً الصلاة والسّلام، ثم خاتمة النبوّات، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)}.

4.2.4.18.3.2- تناظر نصفي القرآن في بيان طريق الهدى الذي يبدأ بالإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، والذي أشرنا إليه كثيراً هنا في هذا الباب الرابع (انظر: 4.1.2؛ 4.2.4.18.1) وفي الباب الخامس (انظر: 5.0)، وفي كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن (انظر: معنى التقوى، في سورة النساء، المبحث 004.4.3- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}؛ ومعنى الدين في المبحث 004.4.4- {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146)}).

4.2.4.18.3.3- ذكر قصة آدم وإبليس في بداية النصف الأول في سورة البقرة؛ يقابلها قصّته المشابهة في سورة طه في بداية النصف الثاني.

4.2.4.18.3.4- ابتلاء آدم في الجنّة بالشّجرة وعداوة الشيطان في سورة البقرة، ثمّ وقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} البقرة، ثم الابتلاء والتمحيص لأمّة محمد في غزوة أحد وما بعدها في سورة آل عمران، ثمّ وقصة ابتلاء يوسف وأبيه يعقوب في سورة يوسف في الربع الثاني، وتفصيل ذلك في كل مراحل حياته، ونهايتها المقدّرة كما جاءت في الرؤيا؛ يقابله في الربع الأوّل من النصف الثاني قصة ابتلاء إبراهيم مع أبيه وقومه في سورة الأنبياء، والإشارة إلى ابتلاء إسحق ويعقوب ولوط وداوود وسليمان وإسماعيل وإدريس وذا النون وزكريّا والتي أحصنت فرجها، ثمّ فتنة يأجوج ومأجوج، فكلّ النّاس في الابتلاء سواء، ثمّ أن الله جعل من المرسلين أئمّة يهدون بأمره، وأن أمّة الرسل هي أمّة واحدة ودين النّاس واحد، ثم تطوى السماء كطي السجل للكتب، وتنتهي الحياة الدّنيا مؤكّدة ما حذّرت به بداية السّورة بأن اقترب للنّاس حسابهم.

4.2.4.18.3.5- فريضة الحجّ: تتناظر سورة البقرة وتتشابه مع سورة الحجّ. وتستهل كليهما بالحديث عن التقوى ثم الغيب والبعث ثم عن فئات النّاس الثّلاثة: المؤمنون والكافرون والمنافقون، في الآيات (3-20) من سورة البقرة وفي الآيات (8-14) من سورة الحجّ، وعن القتال والهجرة في سبيل الله والجهاد والصلاة والزكاة وغيره، وكذلك مثل البعوضة في الآية (26) البقرة مقابل مثل الذباب في الآية (73) الحجّ، وأيضاً فريضة الحجّ في سورة البقرة في الآيات (196-203)؛ يقابلها الآيات (26-37) في سورة الحجّ عن فريضة الحجّ والهدي.

4.2.4.18.3.6- الروابط الأسريّة والتعاملات في الأسرة وبين الأزواج في الآيات (220-242) من سورة البقرة، والآيات (1-35) من سورة النّساء؛ يقابلها الكثير مما ذكر حول نفس الموضوع في سورة النّور.

4.2.4.18.3.7- تتناظر سورة آل عمران وتتشابه مع سورة المؤمنون. وتتحدثان في بدايتهما عن علم الله الذي لا يخفى عليه شيء {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ (6)} آل عمران؛ مقابل تفصيل أطوار خلق الإنسان من العدم إلى الخلود في الآيات (12-16) المؤمنون.

ثمّ تتحدّث آل عمران عن أن دين الله واحد وهو الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (19)} وعن اصطفاء الله الأنبياء وذرياتهم وعائلاتهم الصالحة {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} واصطفى مريم وطهرها واصطفى أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإيمان والدعوة إلى دينه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110)}، وعن المسارعة {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ (114)}، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (133)} صدق الله العظيم؛ في مقابل حديث سورة المؤمنون عن اصطفاء الله للمرسلين وعباده المؤمنين أمّة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (52)} التزموا بالعبادة و{يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)}، وعن تكريم الله لهم ونصرهم وتمكينهم في الأرض منعّمين آمنين مسخّرة لهم السّماوات والأرض ثمّ {يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)}.

وفي خواتيم السّورتين تأكيد أن الملك لله وحده في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)} آل عمران، مقابل قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)} المؤمنون.

وكذلك تتحدّث آل عمران عن اصطفاء الله لآدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين؛ وفي المقابل سورة طه تتحدث عن أن الله لا يريد الشقاء لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، بل الهدى والتذكرة، وكذلك اجتبى موسى عليه السّلام، فنرى توفيق الله ورعايته له ولأمه، وعنايته به في كلّ مرحلة من مراحل حياته، كما حصل للمصطفين في سورة آل عمران.

4.2.4.18.3.8- ابتدأت سورة النّساء في النصف الأول بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ (1)} ثم واصلت تهدي النّاس إلى معاملات الدّنيا وتطبيق الدّين والشّرع القائم على أساس التكافل والتراحم، والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل، والمودة، والطهارة، وغيره؛ في المقابل استهلّت سورة الحجّ في النصف الثاني بنفس الكلمات لكن مع بيان النتائج وهي أن نجاة الإنسان ومنفعته ومصلحته في الدّارين هي في العبادة والجهاد وتعظيم شعائر الله.

وتتشابه سورة النّور وتتناظر مع سورة النّساء من حيث تضمّنهما أعمال المحسنين: فسورة النّور أتت بالنّور والكرامة بما احتوته من هدى للمؤمنين ينير لهم حياتهم ومجتمعهم، وكذلك مَن مشى على خطاهم من النّاس على الأرض، وذلك باحترام البيوت وعدم اتباع الشيطان والتسامح بين المؤمنين، وهي من أعمال المحسنين. وهذا يشبه ما ورد في سورة النّساء من تفصيل الأعمال التي تتطلب تقوى الله ومراقبته دائماً، وهي المعاملات وحقوق العباد، فإن فعلها المؤمن وهو يعلم أن الله يراقبه كان من المحسنين، وهي أعلى درجات الإيمان. ويناظر ما فرض في سورة النّور من الأحكام، ما ذكر في سورة النّساء من الأحكام في الآيات (1-39 و 105-135 و 176)، والأحكام الواردة في السّورتين هي مسؤوليات وحقوق جعلها الله للحفاظ على الروابط الكثيرة المتشابكة المعقدة في الأسرة الواحدة وبين غيرها من الأسر، وهي أحكام تستوجب مراقبة الخالق وتحكيم شرعه العادل، لأنها معاملات تتعلق بمصائر أناس آخرين ابتلى الله بها بعضهم ببعض.

4.2.4.18.3.9- تناسب أربع سور في الربع الأوّل مع أربع سور في الربع الثالث، وهي: سورة البقرة تبين طريق الهدى ببيان الحق والباطل، يقابله في سورة الفرقان بيان طريق الهدى ببيان الفرق بين الحقّ والباطل؛ وآل عمران تتحدّث عن اصطفاء المؤمنين (بمعنى قد أفلح من زكّاها)، والشّعراء عن سبع من الأمم كفرت فهلكت (بمعنى قد خاب من دسّاها)؛ والنّساء تتحدّث عن قيام العلاقات بين النّاس على العدل والأمانة والمودّة والتعاون التكافل والتراحم والتناصح والتسامح والطّهارة، والنمّل عن أن القرآن كتاب هدى، من سار على هديه اهتدى، ومن سار على غيره ضلّ، ومثال عن حياة التّعاون والتّكامل في مجتمع النمّل؛ والمائدة تتحدّث عن كمال الدّين، وأن الحلال ما أحلّه الله، والحرام ما حرّمه، وعن تجارب من الوفاء بالعقود فمنهم من آمن ومنهم من ارتد، والقصص عن كمال خلق الله، وأنه يخلق ما يشاء ويختار، وأن الأمم جاءتهم الآيات فقالوا إنّا بكلّ كافرون، وأن العمل الصّالح فيه الفلاح في الدّارين.

4.2.4.18.3.10- تناظر قد تتكرر فيه بعض المعاني أو الجمل أو الآيات في نصفيّ القرآن، كمثل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ (251)} البقرة، تكرّرت في الآية (40) من سورة الحجّ؛ وكمثل ضرب الله مثلاً بالبعوض في الآية (26) من سورة البقرة، وفي الذّباب في الآية (73) سورة الحجّ؛ وكمثل الآية {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} البقرة، تشبه الآية: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ (66)} الحجّ؛ ومثل عهد الله إلى إبراهيم في الآية {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)} تكرر في الآية (26) من سورة الحجّ؛ والآية: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ (128)} البقرة، مع الآية {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ 78)} الحجّ.

4.2.4.18.3.11- تناسب الموضوعات الرئيسية الأربعة في سورة المائدة (في الربع الأول) حيث تتحدث عن كمال الدّين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (3)}، مع مقاصد الأربع سور: الفرقان والشّعراء والنّمل والقصص (في الربع الثالث)، تتحدّث عن القرآن الذي هو الفرقان وفيه كمال الدّين، وهو مكمّل ومشابه لما أشارت إليه سورة المائدة بموضوعاتها الأربعة، كما يلي:

4.2.4.18.3.11.1- الموضوع الأول في سورة المائدة في الآيات (1-11) يتحدّث عن الأمر بالوفاء بالعقود والالتزام بالميثاق والعدل والإنصاف، فمن آمن وأطاع فله أجر عظيم، ومن كفر فهو من أصحاب الجحيم؛ بما يتناسب مع مقصد سورة الفرقان: تبارك عطاء الله، دافع عن القرآن الذي نزّله على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وعن رسوله مبشراً ونذيراً.

4.2.4.18.3.11.2- الموضوع الثاني في سورة المائدة في الآيات (12-86) يتحدّث عن قصص أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وتحريفهم لدينهم، بالإضافة إلى قصّتهم مع محمّد صلّى الله عليه وسلّم وهو يبيّن لهم ما أخفوه من كتبهم، تحذر فيها محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأمّته من أفعال أهل الكتاب وكيدهم؛ بما يتناسب مع مقصد سورة الشّعراء: لقد جاء القرآن بالبينات، لكنّ أكثر النّاس لا يؤمنون، وبيان عاقبة المكذّبين بالرّسالة، ورعاية الله للمؤمنين.

4.2.4.18.3.11.3- الموضوع الثالث في سورة المائدة في الآيات (87-108) يتحدّث عن أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم تبيّن لهم الحلال والحرام وما بقي من العقود؛ بما يتناسب مع مقصد سورة النّمل: حول بيان أن الكتاب {مبين} لكلّ النّاس، ويخصّص المؤمنين بالهدى والبشرى، والرّحمة، لإدراكهم معانيه وآياته وانتفاعهم بها.

4.2.4.18.3.11.4- الموضوع الرابع في سورة المائدة في بالآيات (109-120) يتحدّث عن وقوف النّصارى يوم القيامة أمام الله وأمام نبيهّم للحساب، وربّهم سبحانه يذكرّهم بنعمه عليهم وعلى رسوله عيسى عليه السّلام، وكيف أنهم نقضوا عقودهم واتخذوا عيسى بن مريم وأمه إلهين من دون الله، ثم تبرؤ عيسى من زعمهم وتفويض أمرهم ومصيرهم لربّهم؛ بما يتناسب مع مقصد سورة القصص: الإيمان بالله وحده هو مفتاح الأمان للإنسان وهو مصدر كلّ خير: الله خلق الإنسان ليكرمه وليستخلفه في الأرض ويمتّعه لأجل محدّد ثم يبعثه إلى حياة خالدة يوم القيامة، فالخير للإنسان في الدّارين بالإيمان، والشرّ بالكفر، ويوم القيامة يناديهم فيقول تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)}، ويقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} القصص، في تناظر وتشابه ظاهر مع نهاية سورة المائدة.

4.2.4.18.3.12- تناسب الموضوعات الرئيسية الثمانية في سورة الأنعام (في نهاية الربع الأول) مع مقاصد الثماني سور (في نهاية الربع الثالث) وهي سور: العنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس، حيث تتحدث عن رحمة الله ونعمه والهدى والدّين والعبادة والحكمة التي جاءت في الكتاب، وهو مكمّل ومشابه لما أشارت إليه موضوعات سورة الأنعام الثمانية، والتي مقصدها هو التّعريف بالله الواحد، وبيان آيات وجوده، في الخلق، والملك، والنعم، والاستخلاف في الأرض، وإرسال الرّسل، وإنزال الآيات، وغيرها من علامات تدبيره لأمور مخلوقاته، كما يلي:

4.2.4.18.3.12.1- الموضوع الأول في سورة الأنعام يتحدّث عن انفراد الله بخلق الكون وتدبير أمره وملكه له وعلمه بكل ما يجري فيه، ومع هذا فالذين كفروا يساوون معه غيره (الآيات 1-11)؛ وهذا يتناسب مع مقصد وموضوعات سورة الرّوم: وهو أن الله خلق السماوات والأرض إلى أجل مسمّى وفطرها على الطّاعة فأتته طائعة، وابتلى الإنسان مختاراً بين الطّاعة بإقامة الدّين ونيل الثواب أو المعصية فالعقاب في الدّنيا والآخرة، فعصى أكثرهم وهو أعلم بما هم فاعلون. انظر كذلك كيف تتشابه في السّورتين: الآيتين (1 و 2) في الأنعام حول قوله تعالى الحمد لله الذي خلق السّماوات والأرض والظّلمات والنّور وخلق الإنسان من طين مع الآيات (8، 11، 18 إلى 27، 40، 46، 48 إلى 50، 54) سورة الرّوم، وانظر كذلك كيف تتشابه الآية (11) من سورة الأنعام مع الآيتين (9 و 42) من سورة الرّوم، وانظر غيرها من تشابه آيات إرسال الرّسل وعاقبة المكذّبين.

4.2.4.18.3.12.2- الموضوع الثاني في الأنعام يتحدّث انفراد الله بملك الزّمان والمكان وما فيهما والضّرّ والخير وقهره وحكمته واطلاعه على كلّ الأمور ورحمته وإرسال الرّسل بالكتب، وجمع النّاس للحساب، (الآيات 12-39)؛ وهذا يتناسب مع مقصد سورة فاطر: وهو أن الله يستحقّ الحمد وهو أهل له لأنه فاطر السّماوات والأرض على طاعته، وجاعل الملائكة رسلاً يقومون بأمره. فطر النّاس على الإيمان به وحده وطاعته وعبادته، ودعاهم إلى اتّباع فطرته ليوفي الصّادقين أجورهم ويضاعفها لهم. وجعل الشّيطان لهم عدواً يدعوهم إلى عذاب السّعير في جهنّم. انظر كيف يتشابه الكلام في السّورتين بعد قوله تعالى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في الآية (14) الأنعام، والآية (1) فاطر، في الحديث عن الخلق والرّحمة والطّعام والرّزق والنّفع والضّر وأنّهم الفقراء والله هو الغني، والتحذير من المعصية وأن الدّنيا لعب ولهو وغرور، وأنه قد {كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ}، وهكذا.

4.2.4.18.3.12.3- الموضوع الثالث في الأنعام يتحدّث عن حاجة النّاس إلى الله ربّهم ولجؤهم إليه عند الشدّة، وحكمته في ابتلاءهم، وأنّ ذلك رحمة بهم لعلهم يبصرون فيتوبون ويعملون الصّالحات من قبل أن يأتيهم عذابه بغته فإذا هم مبلسون (أي محتارون لهول ما رأوا)، وقد أرسل الرّسل مبشّرين ومنذرين، (الآيات 40-58)؛ وهذا يتناسب مع مقصد سورة الأحزاب: وهو الأمر بتقوى الله واتّباع وحيه والتوكّل عليه والاكتفاء به وكيلاً، والنّهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ومخالفة أمره. وأن هذه هي سنّته التي لا تبدّل، والأمانة التي حملها الإنسان، وأرسلت بها الرّسل، وبها صلاح أمر الدّنيا والآخرة، وأن سبب حملها هي العذاب للكافرين والتوبة على المؤمنين.

4.2.4.18.3.12.4- الموضوع الرابع في الأنعام يتحدّث عن حفظ الله لمخلوقاته وحاجتهم الدّائمة إليه (قضاءه وقدره)، وعلمه الواسع وملكه لمفاتح الغيب وقهره لعباده وخضوعهم له وعجز الإنسان عن الدّفع عن نفسه، (الآيات 59-73)؛ وهذا يتناسب مع مقصد سورة لقمان: في بيان فضل الكتاب الحكيم الذي جعله الله هدى وشفاء ورحمة للمحسنين الذين عملوا بما فيه من أمر الله ونهيه، فيه الآيات الدّالّة على ‏أسماء ‏الله ‏وصفاته، وخلقه وحفظه ولطفه، وعبادته وشكر آلائه، وعمل الصّالحات، ‏وذمّ ‏الشرك ‏والنهي ‏عن المنكرات، وعن الهدى وإقامة الصّلاة والخلق والبعث والوعد بالحساب والجزاء في الآخرة. انظر كيف يتشابه الكلام في السّورتين عن علم الله: في الآية (59) الأنعام عن علم الغيب، والآية (34) لقمان عن علم السّاعة. وعن الله المنجي: في الأيتين (63، 64) الأنعام، والأية (32) لقمان.

4.2.4.18.3.12.5- الموضوع الخامس في الأنعام يتحدّث عن ثبات إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم على الحقّ وإقامته الحجّة على قومه بأن الله واحد. والأمر بالاقتداء به وبالأنبياء، (الآيات 74-94)؛ وهذا يتناسب مع مقصد سورة سبأ: وهو أن الله سبحانه وتعالى يستحقّ الحمد في الدّنيا والآخرة، فهو العليم بكل شيء الحكيم الخبير الغفور الرّحيم، يحصي للنّاس أعمالهم ثم يوفّيها لهم، يجازي بعدله ورحمته، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. الآيات في سورة الأنعام تتحدّث عن اجتباء الله لأنبيائه وهدايتهم ونصرهم بالحجّة والدليل؛ وفي سورة سبأ تبيّن فضل الله على أنبياءه وعباده المؤمنين في الدّنيا جزاء إيمانهم وشكرهم، بينما حيل بين الذين كفروا وبين ما يشتهون في الدّنيا والآخرة.

4.2.4.18.3.12.6- الموضوع السادس في الأنعام يتحدّث عن الأدلّة على وحدانيّة الله وعظمة خلقه ونعمه: من إخراج الحيّ من الميت والميت من الحيّ ومن خلق النجوم والكواكب والنّفس والنباتات وعدم وجود الولد وإدراكه للأبصار وهي لا تدركه، (الآيات 95-110)؛ وهذا يتناسب مع مقصد سورة يس: في التأكيد على صدق الرّسالة والمرسل بها وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأنه على الصّراط المستقيم، ورحمة الله وحكمته وعظيم صفاته وهو يمدّ لعباده حبال النجاة ويهديهم سواء السّبيل، بينما هم في غفلة وجهل وظلم لأنفسهم، يكذبون الرّسل ويستهزئون ويعرضون. انظر كذلك كيف تتناسب هذه الآيات في الأنعام مع آيات إحياء الموتى وآيات خلق الله ونعمه التي لا تحصى على النّاس المذكورة في سورة يس (في الآيات 12، 33-44، 71-83).

4.2.4.18.3.12.7- الموضوع السابع في الأنعام يتحدّث عن عداوة اصحاب الباطل لأصحاب الحقّ، فهم لن يؤمنوا إلا أن يشاء الله (الآيات 111-150)؛ وهذا يتناسب مع مقصد سورة العنكبوت: في بيان أن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو الصّبر على المكاره والتّكاليف في طريق الإيمان، ثم مجاهدة النّفس على اتّباع الدّين الذي به يتحدّد مصير المؤمنين والمنافقين والكافرين. الآيات في سورة الأنعام تتحدّث عن أن الله هو الحاكم، وقد أنزل الكتاب تامّاً ومفصّلاً، لا مبدّل لكلماته، لكنّ أكثر النّاس يضلّون عن كلام الله، يحلّون ويحرّمون بأهوائهم؛ بينما سورة العنكبوت تتحدّث عن تحريفهم عبادة الله الغنيّ عن العالمين، وصدّهم عن السّبيل، واتخاذهم الأولياء الضعفاء، كمثل العنكبوت.

4.2.4.18.3.12.8- الموضوع الثامن في الأنعام يتحدّث انفراد الله بخلق الكون وتلاوة أوامره في الحلال والحرام والتوصية باتّباع كتابه الذي فيه تفصيل كلّ شيء والتزام صراطه المستقيم. (الآيات 151-165)؛ وهذا يتناسب مع مقصد سورة السّجدة: في الدّفاع عن الكتاب وأنه ليس مفترى، بل هو الحقّ وهو إنذار من ربّ العالمين، خالق الكون والنّاس، ومدبّر السّماوات والأرض وما بينهما، وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله لينذرهم بأنهم إليه راجعون، فيحكم بينهم ويجازيهم على أعمالهم، لعلهم يهتدون فيعملوا صالحاً، من تمسك به اهتدى وفاز في الدّنيا والآخرة ومن أعرض عنه ضلّ وهلك، على الإنسان أن يسجد ويسبح حمداً وشكراً لله على عظيم صفاته وعلى نعمة نزول الكتاب. الآيات في الأنعام تتحدّث عن تنزيل الكتاب المبارك ليكون رحمة لمن اتّبعه؛ وسورة السّجدة تتحدّث عن أن منزل الكتاب هو خالق النّاس من طين وخالق السّماوات والأرض وما بينهما ربّ العالمين ومدبّر الأمور.

وكما ذكرنا في سورة الأنعام في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن بأن المجموعات الثمانية من الآيات في السّورة مكمّلة لبعضها البعض حول بيان المقصد الأساسي للسّورة، فالحال هنا كذلك بين مقاصد هذه السّور الثمانية، فهي تكمل بعضها بعضاً حول بيان رحمة الله ونعمة الهدى والدّين والعبادة والحكمة التي جاءت في الكتاب، وأن كلّ سورة احتوت أيضاً بطريقة أو بأخرى على موضوعات السّور الأخرى الثمانية مكرّرة ومتكاملة ومتداخلة حول مقاصد كل سورة منها.

4.2.4.18.4- التناسب بين الربع الثاني والرابع في القرآن (وموضوعهما البيان والدعوة العمليّة):

لقد بيّنا تناظر جميع السّور في الربعين الأول والثالث حول مقصد القرآن الكريم وهو الهدى إلى طريق الحقّ، مبيّناً الصّراط المستقيم، وأركان الدّين، وغيرها من الأوامر والنّواهي التي تحقّق للمتّقين خيري الدّنيا والفوز في الآخرة، وفي الوقت نفسه بينّا هناك تناظر الربعين الأوّل والثالث، بالأمثلة المشاهدة والتطبيق العملي على نعمة العبادة وطاعة الله، ونعمة تطبيق هذه العبادات والمعاملات الأحكام والتشريعات والحدود والجهاد وغيرها، وأن الله قد حقّق للمؤمنين ما وعدهم به من النّصر والتمكين، ثم ما يقابله من فضح المنافقين وكشف ما يخفونه في قلوبهم من مكر وكفر، وجدال أهل الكتاب بالحجّة والدّليل حتى عرفوا دعوة الحقّ وعلموا أنهم على الباطل، بظهور الدّين، كما بيّناه أعلاه.

أمّا هذين الربعين الثاني والرابع ففيهما: تأكيد أن الكون مخلوق لغرض وحكمة وأن هنالك هدف للوجود، وأن الله العزيز الحكيم هو مصدر الوحي والرسالة للنّاس؛ وتأكيد أن الوجود حقّ، وليس لعب ولهو، وأن الدّين بأركانه (الذي جاء تفصيلها في الربعين الأول والثالث) هو الحقّ، وذلك عن طريق الدفاع عنه بالحجّة والمنطق وإقامة الدليل على هذا الحقّ، والذي يشمل: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمّداً رسول الله، وأن الملائكة حقّ، والكتاب حقّ، وأن الجنّة حقّ، وأن النّار حقّ، وأن البعث حقّ، وأن السّاعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، والقدر خيره وشرّه حقّ. فالسّور مجتمعة ومتفرّقة، تحكي قصّة الحقّ والباطل، الإيمان والكفر، الدّعوة والتكذيب. والتّأكيدات والحجج والبراهين والدّليل موجودة في خبر السّماء الذي في القرآن، وفي تدبّر الآيات في خلق السّماوات والأرض وما بينهما وفي الأنفس، وفي أنباء هلاك الأمم، على نحو قوله تعالى: {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} إبراهيم، وقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} فصّلت؛ فمن لم يؤمن بالآيات فبالترغيب والترهيب: بالنّصر والتّمكين في الدّنيا والفوز بالجنّة والنّعيم في الآخرة، أو بالهزيمة والخذلان في الدّنيا والعذاب بالنّار في الآخرة، على نحو قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} الحجر، وهكذا؛ ومن أمثلة هذا التناظر بين هذين الربعين وبشكل عام، ما يلي:

4.2.4.18.4.1- بداية: بعد أن بيّنا في السّور الاثنتا عشرة التي في ربع القرآن الثاني (7-18) من النصف الأوّل أن فيها تأكيد دعوة الهدى والصّراط المستقيم التي في الربع الأوّل، عن طريق بيان نتائجها (على أرض الواقع) في قصص الأمم السّابقة، حيث ذكر فيها هلاك القرون الأولى بسبب إعراضهم وكفرهم وتكذيبهم، وفوز المهتدين بسبب إيمانهم وخروجهم من الظلمات إلى النّور. ومن هذه القصص تؤخذ الدّروس والعبر: في سورة الأعراف بوجوب الاتّباع، والأنفال التوكّل على الله، والتوبة الاستقامة، ويونس نتائج نعمة نزول الوحي ومعرفة الحق (وأن صفة الإنسان أنه يؤمن في وقت الشدّة، لكنه يركن إلى النعمة ولا يؤمن في وقت الرّخاء)، وهود بيان نعمة العبادة، ويوسف بيان نعمة الابتلاء ووجوب الصّبر؛ ثمّ في سور الرّعد وإبراهيم والحجر والنّحل والإسراء والكهف، تبيّن بالقصص وضرب الأمثال أنه باتّباع الحقّ والهدى ينعم الله على النّاس بالأمان والرّزق والإيمان والرّسالات والمرسلين وكل ما يصلح حياتهم ويسعدهم، كما بيّناه في الباب الخامس من كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن (انظر 5.1.2).

أمّا السّور التي في ربع القرآن الرابع (37-114) ففيها تأكيد وجوب اتّباع دعوة الهدى والصّراط المستقيم التي في الربع الثالث، عن طريق الإكثار من ذكر قصص اليوم الآخر والحساب والمصير يوم القيامة والتي تشكل واحد وسبعون بالمائة تقريباً من مجموع قصص اليوم الآخر في القرآن، والإكثار من آيات الله في السّماوات والأرض وما بينهما والتي تشكل واحد وخمسون بالمائة تقريباً من مجموع آيات خلق الله في القرآن، وهذا بالإضافة إلى قصص القرون الأولى المذكورة في كلّ سور القرآن بنسب متقاربة في كلّ أجزائه الأربعة، كما بيّناه في الباب الخامس من كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن (انظر 5.1.4).

4.2.4.18.4.2- هذين الربعين الثاني والرابع لم تذكر فيهما العبادات أو أركان الإسلام الخمسة (الشّهادتين والصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ) إلا قليلاً وفي سياق موضوعات أخرى، وهذا يعني أن تركيز هذين الربعين هو على أمرين: الأوّل بيان مدى قبول النّاس لدعوة الحقّ والإيمان التي جاء بها المرسلين، أو إعراضهم عنها، وبيان القصص التي تظهر آثار ونتائج هذا القبول أو الإعراض في حياة النّاس؛ الأمر الثاني هو بيان أن المرسلين لم يتركوا حيلة أو وسيلة أمرهم بها الله لهداية النّاس إلا بينوها حتى أقاموا الحجّة الدّامغة البالغة عليهم. بينما جاء تفصيل أركان الإسلام وتفصيل الشّرائع الأخرى والمعاملات والحلال والحرام في الربعين الأول والثالث.

سنجد أن الدعوة العملية والتي هي في الربعين الثاني والرابع من القرآن، تدعو إلى الإيمان بأركان الإيمان وليس إلى أركان الإسلام أو إلى العبادات والحلال والحرام والشرائع العملية الأخرى من زواج ومواريث وغيره، وكذلك فإن تلك السّور التي تتحدّث عن النّعمة في هذين الرّبعين تتحدّث أيضاً عن أركان الإيمان. بينما الدعوة النظرية في الرّبعين الأوّل والثالث تتحدّث بإسهاب عن تفاصيل أركان الإسلام والتشريعات وكذلك السّور التي تتحدّث عن النّعمة تشير إلى أركان الإسلام والعبادات والتشريعات. ولأن الربعين الثاني والرابع أظهرا أن أكثر النّاس لم يؤمنوا فقد جاء التركيز فيهما على بيان الوسائل التي اتّبعت لإقامة الحجّة عليهم، وهي آيات الله في السّماوات والأرض وفي أنفسهم، والقصص والأمثال، والابتلاء بالرخاء والشدّة، وبالخير والشّرّ، وبالترغيب والرهيب، والحساب يوم القيامة، والجنّة والنّار، وغيرها من أساليب الدّعوة الكثيرة، كالتي بيّناها في الباب السّابع من هذا الكتاب.

4.2.4.18.4.2.1- الربع الثاني فيه مجموعتين من السّور: ستّ سور فيها دعوة وتطبيق عملي إلى الهدى: وهي الأعراف والأنفال والتّوبة ويونس وهود ويوسف؛ تدعوا إلى الإيمان بأركانه السّتّة، ولم تذكر فيها العبادات إلا قليلاً، وفي سياق موضوعات أخرى، وأكثرها في سورة التوبة: فالحجّ ذكر في السّورة في سياق بيان تاريخ، في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ (3)} التوبة، وفي سياق ذكر أن سقاية الحاجّ ليست كالإيمان في الآية (19)؛ أمّا الصّلاة والزّكاة فذكرت في الآيات (5، 11، 18، 54، 71) من سورة التوبة في سياق ذكر صفة المؤمنين وشروط توبة المشركين، كما تكرّر فيها ذكر الجهاد والإنفاق والصّدقات؛ وذكرت صفة الصلاة مرّة واحدة في سورتين هما الأعراف (آية 170) والأنفال (آية 3)؛ والأمر بإقامة الصّلاة في سورتين هما يونس (آية 87) وهود (آية 114). ثمّ السّتّ سور التّالية التي فيها بيان نعمة الهدى في القرآن والرّسل والابتلاء: وهي الرّعد وإبراهيم والحجر والنّحل والإسراء والكهف؛ فلم تذكر العبادات أو أركان الإسلام فيها إلا قليلاً، فذكر الأمر بالصّلاة مرّة في سورة الرّعد (الآية 22) ومرّة في سورة الإسراء (الآية 78) وثلاث مرّات في سورة إبراهيم (في الآيات 31، 37، 40).

4.2.4.18.4.2.2- كذلك الرّبع الرابع فيه مجموعتين من السّور: يبدأ بعشرين سورة من الصّافات إلى الواقعة، منها ستّ عشرة سورة مكّية وأربع سور مدنيّة، لم تذكر في هذه السّور من أركان الإسلام سوى الزّكاة في آية واحدة، في سياق صفات المشركين الذين لا يؤتون الزّكاة، قال تعالى: {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)} فصّلت، والصّلاة في آية واحدة في سياق صفات المؤمنين الذين يتوكّلون على ربّهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38)} الشورى، ولم يذكر الحجّ ولا الصّوم. ثمّ ثمان وخمسون سورة من الحديد إلى النّاس، لم يذكر فيها الأمر بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة إلّا في ثلاث سور هي المجادلة (آية 13) والمزّمّل (آية 20) والبيّنة (آية 5)، وذكرت الصّلاة مرّتين في سورة الجمعة (في الآيات 9، 10)، وذكر الصّوم مرّة في سورة المجادلة (آية 4)، ولم يذكر الحجّ.

4.2.4.18.4.2.3- لقد استهلّت المجموعة الرابعة من السور في الربع الثاني بسورة مدنيّة واحدة وهي الرّعد ثم خمس سور مكّية، في تناظر مع المجموعة الثامنة من السّور في الربع الرابع، والتي استهلّت بعشر سور كلّها مدنيّة من الحديد إلى التحريم، ثم ثمان وأربعون سورة كلها مكيّة من الملك إلى الناس (ما عدا أربع سور هي: الإنسان والبيّنة والزّلزلة والنّصر)؛ كما سيأتي بيانه أدناه في هذا الباب الرابع (انظر 4.2.8).

4.2.4.18.5- عدد الآيات التي تتحدّث عن الجنّة والنّار واليوم الآخر في النصف الثاني من القرآن هي أربعة أضعاف عددها في النصف الأوّل تقريباً؛ وكذلك عدد الآيات التي تتحدّث عن آيات الله في السّماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات في النصف الثاني هي أربعة أضعافها في النصف الأول تقريباً. انظر الباب الخامس، 5.1.4- السور 37-114: ثمان وسبعون سورة (وهي ربع القرآن الرابع والأخير)

4.2.4.18.6- وهكذا بعد مقارنة هذين الربعين الأوّل الثالث في القرآن، والربعين الثاني والرابع، وبعد أن بيّنا بعض ما بينهما من التناسب كمثال على تناسب نصفي القرآن وأرباعه ومجموعاته الثمانية، نعود ونشير إلى أنّنا قد بينّاه أيضاً بالتفصيل هنا (فيما سيأتي) في هذا الباب الرابع، وفي مكانه من السّور في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، وعن تناسب المقاصد أيضاً، فهي عناوين السّور، وجميع موضوعات السّورة الواحدة تفصّل في ذلك المقصد أو العنوان للسّورة.

وكذلك أشرنا إلى تناسب قصص: موسى (انظر سورة طه: 020.8.5- قصة موسى في القرآن) وآدم (انظر سورة الحجر: 015.8.3-… قصة خلق آدم وعداوة إبليس في القرآن).

وفي كلّ ما ذكرناه أعلاه من الدّليل ما يغني عن ذكر المزيد، وعن الغوص في الكثير من التفاصيل في بيان التناسب بين نصفي القرآن، وبين أجزاء القرآن الأربعة، وبين مجموعاته الثمانية، التي قد تشتّت الأفكار، وقد تخرج عن موضوع الكتاب.

مقاصد السّور في نصف القرآن الثّاني:

4.2.5- دعوة نظريّة إلى الهدى:

4.2.5.1.00- بيان صفة الرّحمن، ورحمة الله وعنايته بعباده، لكن أكثر النّاس معرضون:

في السّور ال 18 السابقة، من الفاتحة لغاية سورة الكهف تعلّمنا أن التّوحيد والعبادة نعمة من الله وصلاح لحياة النّاس، والشّرك والكفر هلاك، وقد جاءت كل القصص في تلك السّور مؤكدة معنى العبادة هذا، (كما ظهر جلياً في سور الأعراف وهود والرّعد وإبراهيم)؛ وقد سارت على نفس المعنى باقي سور القرآن الكريم حتى آخر سورة فيه، أي: أن الدّين والعبادة نعمة وسعادة، والكفر هلاك وشقاء، في الدّارين.

وكذلك دلّت القصص على أن الله كرّم الإنسان ونعّمه وحمله في البرّ والبحر وفضّله على كثير من خلقه، لكي يرى في ذلك عظمة الله فيتوكّل عليه، ولا يتوكّل على غيره من المخلوقات التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً. خلق الله الإنسان ليكرمه، وسخّر له الدّنيا رحمة به لكي يعينه على عبادته، لكن الإنسان بظلمه لنفسه وجهله يستغلّ هذا الإكرام والنّعيم في معصية الله ومخالفة أمره فيدمّر نعمة ربه ويوقع نفسه في الهلاك. ذلك لأن بركة نعم الله وعظمة خلقه وكمال علمه وتدبيره، هي السّبب في نعمة العيش السّعيد الآمن للإنسان في الدّنيا والآخرة (كما جاء بيانه في سور الأنعام ويونس ويوسف والحجر).

والحقيقة أن الله خلق الإنسان ليكرمه، واستخلفه في الأرض ليبتليه بالعمل، وبما أكرمه به من النعم، أيشكر أم يكفر. فكلّ أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب هو خير محض فيه مصلحة الإنسان وأمنه وصلاحه وحفظ حقوقه، ويستفيد منه في الدّنيا ثم بعد ذلك (وهو الأهم) يسعد به في الآخرة كما جاء تفصيله في سورة الإسراء. أما نصيبه من الدّنيا فهو أيضاً خير محض. لكن الإنسان بسبب قلة علمه ومحدودية مداركه قد يجهل الحكمة وراء ما يحصل في حياته من الأحداث، فقد يموت له ولد أو يخسر مالاً أو يفقد متاعاً، وهذا في ظاهره شرّ، لكن من سورة الكهف والقصص التي فيها، نرى العكس، لأن ما نراه في ظاهره شراً (بسب عدم إدراكنا للحكمة، أو قلة علمنا وفهمنا، أو محدوديّة مداركنا، وسوء تقديرنا لمجريات الأمور) هو في باطنه خير.

وفي السّور الثلاث التالية: فقد ذكر في سورة مريم أن التوحيد والإيمان بالله واتباع دينه هو مصدر النعم وهو رحمة للنّاس ونجاة لهم من الشّقاء في الدّنيا والعذاب في الآخرة. وفي سورة طه أن الله أنزل القرآن تذكرة ورحمة للنّاس ونجاة لهم من الشّقاء في الدّنيا ومن العذاب والنّار. وفي سورة الأنبياء أن الله أرسل الرّسل تذكرة ورحمة للنّاس ونجاة لهم من الشّقاء في الدّنيا ومن العذاب في الآخرة. كما يلي:

4.2.5.1.19- مريم: بيان صفة الرّحمن التي شمل بها جميع خلقه، ودلّ بها على وحدانيّة وكمال صفاته وقدرته على البعث والحساب: سعد بها المؤمنون الموحدون، وشقي بها الكفار المشركون. لا يحتاج سبحانه إلى الشريك أو الولد أو أن يرثه أحد.

4.2.5.1.20- طه: التأكيد على أن القرآن نزل رحمة للنّاس وتذكيراً لهم بواجباتهم في الحياة، المبنيّة على فطرة الله، والتي فيها سعادتهم وحمايتهم من الشّقاء. وأن كل نفس ستجزى في الآخرة بما عملت في الدّنيا من خير أو شرّ.

4.2.5.1.21- الأنبياء: بيان أن إرسال الأنبياء هو رحمة ونعمة كبيره من الله: يدعون إلى عبادته وحده وطاعته والتزام شرعه والصّبر على الابتلاء (الذي خلق النّاس لأجله)، بسبب ما يترتّب عليه مصيرهم من الحساب والجزاء على أعمالهم في الخير أو الشّر. وبيان أن الكون جدّ وحقّ لا لعب، وكذلك الرّسالة، والبعث والحساب، يقابله لعب الإنسان ولهوه وهو في موقف الجدّ والحقّ.

4.2.5.2.00- بيان طريق الهدى وهو دين الله: الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان.

بعد أن بيّنت سورة مريم وطه والأنبياء أن التّوحيد والإيمان بالله واتّباع دينه هو سبب النّعم، نزل بذلك القرآن وأرسلت به الرّسل، وهو رحمة للنّاس ونجاة لهم من الشّقاء في الدّنيا والعذاب في الآخرة. تأتي ثلاثة سور هي الحجّ والمؤمنون والنّور، وقد ذكر فيها بيان أعمال العباد في مراحل اتباع الدّين الثلاثة، وبنفس الترتيب الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان: ففي سورة الحجّ تأمر النّاس بتقوى الله وتحذّرهم بشدّة من يوم الحساب وتأمرهم باتّباع شعائر الله وعبادته والجهاد في الله حقّ جهاده ملّة أبيهم إبراهيم هو سماهم المسلمين. وأكّدت سورة المؤمنين أن الله سبحانه أراد للنّاس الفلاح والفوز في الدّنيا والآخرة، وقد خلقهم ليكرمهم لا ليعذّبهم، خلقهم ليرثوا الجنّة ويخلّدوا فيها. وسورة النّور أتت بالنّور والكرامة بما احتوته من هدى للمؤمنين ينير لهم حياتهم ومجتمعهم، وكذلك من مشى على خطاهم من النّاس على الأرض، وذلك باحترام البيوت وعدم اتّباع الشيطان والتسامح بين المؤمنين، وهي من أعمال المحسنين. كيف لا وهو نور من عند الله الذي أضاءت لنور وجهه الكريم السّماوات والأرض وأشرقت له الظّلمات وصلح عليه أمر الدّنيا والآخرة. وستأتي بعدها سورة الفرقان بمزيد من النّور فيه بيان لكل جهالة وضلالة تفرق بين الحقّ والباطل، ثم القرآن بمعجزاته في سورة الشعراء، ثم القرآن ببيانه في سورة النمل، ثم رعاية الله لأوليائه في سورة القصص.

4.2.5.2.22- سورة الحجّ: الحثّ على تقوى الله والاستسلام له، وبيان أنّ نجاة الإنسان ومنفعته ومصلحته هي في العبادة والجهاد وتعظيم شعائر الله. يقابله جدال الإنسان بغير علم وبالباطل، لذلك تحثهم على التقوى وتخوّفهم بالعذاب.

4.2.5.2.23- المؤمنون: تقرير فوز المؤمنين وسعادتهم، وخسران الكافرين. مع إقامة الدليل على ذلك ليدرك المؤمنون حقيقة إكرام الله لهم بعبادته في الدّنيا، وأن لهم الخلود في الجنّة. وفيها بيان صفات المؤمنين المفلحين، وصفات الكافرين الخاسرين.

4.2.5.2.24- سورة النّور: فرض الأحكام والآداب والحدود للحفاظ على البيوت واستقرارها وحرمتها وأمنها، وإعلاء مكارم الأخلاق في المجتمع. (الأخلاق هي من نور الله).

4.2.5.3.00- كمال الدّين في القرآن المبين لكلّ النّاس، لكن لا ينتفع به إلا المؤمنون:

تحدثت مطالع السّور الأربعة التالية المتتالية: الفرقان والشّعراء والنمّل والقصص، عن القرآن وصفاته ووظيفته بين النّاس كما يلي: سورة الفرقان بينت أن القرآن ما نزل إلا للتفرقة بين الهدى والضلال وتمييز الحق من الباطل فكان بذلك حجّة وإنذاراً للمكذبين بلزوم الجزاء على أفعالهم. وفي الشّعراء تصف الكتاب بالمبين أي: الواضح في نفسه لأنه من عند الله، ولأنه معجز، وأنه فرقان، وأن فيه أدلّة الإيمان وآياته، وهو بذلك مناف لكلام الشّياطين وليس كالشّعر الذين تجمعهما صفات الكذب والغواية وأقوالهم المخالفة لأفعالهم، فيكون بذلك إنذاراً وتهديداً لمن لم يؤمن بالهلاك والعذاب. وفي سورة النمل تصف الكتاب بالكفاية لهداية الخلق أجمعين كما هدى النمّل إلى حسن التدبير، وسداد المذهب في العيش، وهو من الله العليم الحكيم هدى وبشرى ورحمة لمن يؤمن به، أما من لم يؤمن فلا ينتفع بما فيه من الهدى والبشرى والرّحمة لامتناعه عن إدراك معانيه وبالتالي تطبيقاته الموصلة إلى الفلاح والسعادة في الدارين. وفي سورة القصص: كتاب مبين كاشف موضح مظهر أكثر الذي فيه يختلفون، ومن خفايا علومهم، فلا يقدرون على رده، ومن علوّ موسى، وما صنع بفرعون وقومه.

4.2.5.3.25- الفرقان: تبارك عطاء الله دافع عن القرآن الذي نزّله على عبده ليكون للعالمين نذيراً وعن رسوله مبشراً ونذيراً. يمدح الله نفسه ويمدح المؤمنين، ويعيب على الكفار جهلهم ويقيم الحجّة عليهم ويفضح افتراءاتهم على كتاب ربّهم وسوء أعمالهم مع رسوله.

4.2.5.3.26- الشّعراء: لقد جاء القرآن بالبيّنات، لكن أكثر النّاس لا يؤمنون. بيان عاقبة المكذبين بالرسالة، ورعاية الله للمؤمنين.

4.2.5.3.27- النّمل: بيان أن الكتاب {مبين} لكل النّاس، ويخصص المؤمنين بالهدى والبشرى، والرّحمة، لإدراكهم معانيه وآياته وانتفاعهم بها.

4.2.5.3.28- القصص: الإيمان بالله وحده هو مفتاح الأمان للإنسان وهو مصدر كلّ خير: الله خلق الإنسان ليكرمه وليستخلفه في الأرض ويمتّعه لأجل محدد ثم يبعثه إلى حياة خالدة يوم القيامة. الخير للإنسان في الدّارين بالإيمان، والشّرّ بالكفر.

4.2.6- نعمة الهدى إلى الصّراط المستقيم: الرّحمة والنّعيم والهدى الذي في الكتاب والحكمة من الدّين والعبادة:

بعد أن بينت الثلاث سور مريم وطه والأنبياء أن دين الله رحمة، ثم بينت الثلاث سور التي تلتها الحجّ المؤمنون النّور مراحل الترقّي في الإسلام، ثم الأربع سور التي تلتها أن القرآن مبين وليكون للعالمين نذيراً، جاء بالبينات وبالهدى والبشرى والرّحمة وبأن الإيمان بالله وحده هو مصدر كل خير. يأتي في السّور الثمانية التي تليها تفاصيل معاني الرّحمة والنّعيم والهدى الذي في الكتاب، والحكمة من الدّين والعبادة وهو: في العنكبوت: نعمة الابتلاء من أجل تمييز الصادقين من الكاذبين، والمؤمنين من المنافقين، وهو أيضاً تدريب على الإيمان فمن النّاس من يزداد إيماناً ولكن أكثرهم بآيات الله يجحدون، قال تعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}. وفي الرّوم: بينت نعمة الدّين الذي هو فطرة الله التي فطر النّاس عليها، وسنّة الله الثابتة التي لا تتغير، ووعده الذي لا يخلفه: ينصر به عباده ويهلك الظالمين؛ والنّاس مختلفون ما بين الطّاعة بإقامة الدّين ونيل الثواب، أو المعصية فالعقاب في الدّنيا والآخرة؛ وفيها التدريب على الإيمان وأخذ العبر من ظهور الفساد بما كسبت أيدي النّاس ليذوقوا بعض الذي عملوا، وليجزي الذين عملوا الصالحات من فضله ورحمته قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (58)} أي مثل: من آيات التنبيه، وبسط الدلائل، وذكر ما فطر عليه العباد، وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل، لمن عقل معانيها وتدبر حكمها. وفي لقمان: تشير إلى عظيم رحمة الله ونعمة الظاهرة والباطنة بأن بينت فضل آيات الكتاب لاحتوائها على الحكمة التي معناها إصابة الحق وجعل الأشياء في نصابها، من ذلك أنها ذكرت صفات الله وأسمائه الحسنى التي تستحق الشكر لا الكفر، ومنه أنها دعت إلى عبادته واتباع دينه كما أمر وشكر آلاءه لأنه يستحق ذلك، ونهت عن الشرك به وفعل المنكرات ومخالفة أمره لأنها ظلم للمنعم خالق كل شيء ومليكه. وفي سورة السّجدة: تدافع عن هذا الكتاب وتفنّد قولهم إنه مفترى، بل هو الحق لاحتوائه على الإنذار للنّاس لعلهم يهتدون فيسلمون ويفوزون، لأنهم إن لم يهتدوا فلن يسلموا من العذاب الأدنى هنا في الدنيا قبل العذاب الأكبر الحقيقي يوم البعث الذي استحقوه بظلمهم وعدم اتباعهم الحكمة التي في آيات الكتاب؛ على النّاس أن يسجدوا لله شكراً على إنزال نعمة الكتاب يبين لهم ما هم مقبلون عليه من البعث والحساب. وفي الأحزاب: أن الله خلق المخلوقات وسنّ لها سننها ووضع لها قوانينها، وأمرها بطاعته لأنه وحده يعلم ما فيه سلامتها، فأتته كل المخلوقات طائعين مستسلمين، إلا أن الإنسان أراد لنفسه أن يطيع بإرادته مختاراً غير مكره على شيء، وبتقديره هو لا بجبر من الله فجعل الله للإنسان ما أراد؛ ومن رحمة العليم الخبير بالإنسان (الذي ظلم نفسه بهذا الاختيار) لم يتركه يتصرف لوحده بدون إرشاد ولا دليل بل أرسل له المرسلين بالآيات البينات والحجج، وقص عليه القصص وضرب له الأمثال، وجعل له الدروس والعبر، والأوامر والنواهي لأجل سلامته. وفي سورة سبأ: فهي تبين وتقيم الدليل على أن الله يستحق أن يشكر وأن يحمد في الدنيا بسبب عدله وواسع فضله وكرمه على الإنسان إن هو استقام على الهدى ولم يفسد، وفي الآخرة لأنه حاسبهم على أعمالهم وجازاهم بعدله بقدر أعمالهم، وتغمدهم برحمته وكافأهم بمزيد فضله وفي الآخرة يعلم الإنسان أنه ظلم نفسه بحمله الأمانة، لأنه باختياره هذا أوقع نفسه تحت طائلة الحساب، وأنه لو رضي ما اختاره الله له من الطاعة كباقي المخلوقات لكان خيراً له، فالله له كل شيء وأن إرادته هي الغالبة، وشرعه فوق كل الشرائع، هو الحق، يقذف بالحق علام الغيوب، وما يبدئ الباطل وما يعيد. وفي سورة فاطر: تؤكد وتقيم الدليل على أن الله هو فاطر السماوات والأرض، وجعل فيها سنناً ثابتة لا تتغير، ورسم لها طريقاً واحداً لا تتجاوزه، الكل في طاعته وتحت سيطرته، لا يغيب عنه شيء؛ أكرم الناس فحملوا الأمانة، وجعلهم خلائف الأرض، يقيمون شرعه العادل ويلتزمون صراطه المستقيم، فإن هم آمنوا وعملوا الصالحات فازوا بمغفرة الله وأجره الكريم في الدنيا والآخرة، وإن هم كفروا وأفسدوا فلهم عذاب شديد. وفي سورة يس: يقسم فيها سبحانه بالقرآن الحكيم بأن محمّد صلّى الله عليه وسلّم من المرسلين، جاءهم لينذرهم بأنهم مبعوثون ليحاسبوا على أعمالهم ولإقامة العدل بينهم، وقد تضمنت معاني ومقاصد السور الإحدى عشرة التي قبلها كما يلي: القرآن وهو الكتاب العظيم والفرقان المبين والمعجزة الخالدة إلى يوم الدين (الذي أقسم تعالى به مطلع سورة يس)، ذُكِرَ في بداية أربعة سور هي الفرقان: والتي مقصدها تبارك الله منزل القرآن، والشّعراء: مقصدها أن القرآن مبين، والنّمل: ومقصدها أن القرآن هدى وبشرى، والقصص: مقصدها التحريض على الإيمان والنهى عن الكفر. ثم بعد ذلك ذكر في العنكبوت: أن الله يريد أن يمتحن الناس في إيمانهم، ثم في الرّوم: يبين أن الكون مطيع طوعاً أوكرهاً، وأن الإنسان ممتحن بالطاعة اختياراً. ثم في سورة لقمان: أن القرآن الحكيم الذي جعله هدى وشفاء ورحمة وسعادة للمحسنين. وفي سورة السّجدة: أن محمّد صلّى الله عليه وسلّم من المرسلين ينذرهم بأنهم مبعوثون ليحاسبوا على أعمالهم ولإقامة العدل بينهم وفي سورة الأحزاب: يبين تعالى أنه رحيم بعباده، لم يترك الناس لعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم بحمل الأمانة، وفي سورة سبأ: أنه تعالى لم يدعهم فقط ليعتبروا من دروس عدله ومجازاتهم على أعمالهم في الدنيا والآخرة، وفي سورة فاطر: ولا لفطرتهم التي فطرهم عليها. في سورة يس: بل أرسل الرسل وأنزل الكتب، وبرغم هذا فإن أكثرهم لم يؤمنوا.

4.2.6.29- العنكبوت: بيان أن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان، إنما هو الصبر على المكاره والتكاليف في طريق الإيمان. ثم مجاهدة النفس على اتباع الدين الذي به يتحدد مصير المؤمنين والمنافقين والكافرين.

4.2.6.30- الرّوم: الله خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق إلى أجل مسمى وفطرها على الطاعة فأتته طائعة. وابتلى الإنسان من بين مخلوقاته مختاراً بين الطاعة بإقامة الدين ونيل الثواب أو المعصية فالعقاب في الدنيا والآخرة. فعصى أكثرهم وهو أعلم بما هم فاعلون.

4.2.6.31- لقمان: بيان فضل الكتاب الحكيم الذي جعله الله هدى وشفاء ورحمة للمحسنين الذين عملوا بما فيه من أمر الله ونهيه. فيه الآيات الدالة على ‏أسماء ‏الله ‏وصفاته، وعبادته وشكر آلائه، وعمل الصالحات، ‏وذم ‏الشرك ‏والنهي ‏عن المنكرات، والوعد بالحساب والجزاء في الآخرة.

4.2.6.32- السّجدة: الدفاع عن الكتاب وأنه ليس مفترى، بل هو الحق وهو إنذار من رب العالمين، خالق الكون والناس، ومدبر السماوات والأرض وما بينهما، وما فيهما من خلائق لا يعلمها إلا الله لينذرهم بأنهم إليه راجعون، فيحكم بينهم ويجازيهم على أعمالهم، لعلهم يهتدون فيعملوا صالحاً.

من تمسك به اهتدى وفاز في الدنيا والآخرة ومن أعرض عنه ضل وهلك. على الإنسان أن يسجد ويسبح حمداً وشكراً لله على عظيم صفاته وعلى نعمة نزول الكتاب.

4.2.6.33- الأحزاب: الأمر بتقوى الله واتباع وحيه والتوكل عليه والاكتفاء به وكيلاً، والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ومخالفة أمره. وأن هذه هي سنته التي لا تبدل، والأمانة التي حملها الإنسان، وأرسلت بها الرسل، وبها صلاح أمر الدنيا والآخرة. وأن سبب حملها هي العذاب للكافرين والتوبة على المؤمنين.

4.2.6.34- سبأ: الله سبحانه وتعالى يستحق الحمد في الدنيا والآخرة: الحمد لله الذي له كل شيء في الدنيا، نعيش وننعم بعدله وفضله وكرمه، ثم الحمد لله على أنه له الآخرة يكافئنا برحمته، فهو العليم بكل شيء الحكيم الخبير الغفور الرحيم، يحصي للناس أعمالهم ثم يوفيها لهم، يجازي بعدله ورحمته، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. (فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه)

4.2.6.35- فاطر: الله يستحق الحمد وهو أهل له لأنه فاطر السماوات والأرض على طاعته، وجاعل الملائكة رسلاً يقومون بأمره. فطر الناس على الإيمان به وحده وطاعته وعبادته، ودعاهم إلى اتباع فطرته ليوفي الصادقين أجورهم ويضاعفها لهم. وجعل الشيطان لهم عدواً يدعوهم إلى عذاب السعير في جهنم. (وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق)

4.2.6.36- يس: التأكيد على صدق الرسالة والمرسل بها وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأنه على الصراط المستقيم، لينذر الناس بأن أعمالهم محصاة عليهم وأنهم محاسبون يوم القيامة. وتروي نبأ رحمة الله وحكمته وعظيم صفاته وهو يمدّ لعباده حبال النجاة ويهديهم سواء السبيل، بينما هم في غفلة وجهل وظلم لأنفسهم، يكذبون الرسل ويستهزئون ويعرضون، بل ويعبدون الشيطان عدوهم المبين، وبغير الله يستنصرون. ثم ما انتهى إليه أمر العباد بأن كذب أكثرهم فأدخلوا النار، وآمن بعضهم ففازوا بالجنة.

4.2.7 – بيان طريق الهدى بالتطبيق العملي:

بعد أن أنارت السّور السّت الأولى (1-6) وهي: الفاتحة والبقرة وآل عمران والنّساء والمائدة والأنعام، بصيرة الإنسان وعرّفته على مقصد وجوده، وهدته إلى الصراط المستقيم، وهو دين الله الإسلام، وأنه نعمة من نعم الله على الإنسان، يصلح له بها كل شئون حياته في الدارين الدنيا والأخرة وبعد أن ذكّرت السّور السّت التي تلتها (7-12) وهي: الأعراف والأنفال والتّوبة ويونس وهود ويوسف، بوجوب الاستقامة والتوكل على الله والتوبة إليه ووجوب الإيمان بالوحي وما جاء به من الحق من عند الله وهو أن الإنسان خلق لمقصد العبادة والابتلاء وبعد أن صرّحت السّور السّت التي بعدها (13-18) وهي: الرّعد وإبراهيم والحجر والنّحل والإسراء والكهف، بأن كل ما هو من الله فهو نعمة أنعمها على الإنسان.

بدأ النصف الثاني من القرآن بثلاث سور هي: مريم وطه والأنبياء، لتبين أن الله رحيم بعباده، يهديهم وينعم عليهم، لكن أكثرهم ليسوا أهلاً لرحمته ونعمته، وذلك لأنهم في غفلة معرضون ويلعبون، فبذلك أضاعوا الهدى والحق واتبعوا الشهوات وأشركوا بالله مالا ينفعهم ولا يضرهم، فهم لا يعقلون. ثمّ ثلاث سور هي: الحج التي تخاطب الناس، والمؤمنون تخاطب المؤمنين، والنور تخاطب المؤمنين والمؤمنات، وتبين السور الثلاث الشرائع والأعمال الصالحة في مراحل الدين الثلاثة: التي تبدأ بالإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان؛ ثم أربعة سور هي: الفرقان والشّعراء والنمّل والقصص، تبين أن القرآن مبين وليكون للعالمين نذيراً، جاء بالبينات وبالهدى والبشرى والرحمة وبأن الإيمان بالله وحده هو مصدر كل نعمة وخير، وأن القرآن يخاطب الناس من أربعة طرق، مرتّبة في السور الأربعة وهي: الأولى نصوص القرآن التي تبيّن وتفرّق بين الحق والباطل، الثانية طريق الآيات وبيان نعم الله في السّماوات والأرض وفي أنفسهم وفي مصائر الأمم، وأن الله عزيز وبهم رحيم، الثالثة طريق الهداية العملية بالوحي والمرسلين أو الإلهام كما هدى النمّل، والرابعة طريق القصص التي تتحدث عن نعم الله بالاستخلاف والتمكين في الأرض والوعد بالجنة؛ ثم ثماني سور هي: العنكبوت والرّوم ولقمان والسّجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس، فيها تفصيل معاني الرّحمة والنّعيم والهدى الذي في الكتاب والحكمة من الدّين والعبادة، وأن الابتلاء نعمة يزداد به الإيمان، واتباع دين الفطرة نعمة، كذلك الحكمة ومعرفة صفات الله، ونعمة الكتاب، والمرسلين وثبات سنن الله، وعدل الله وواسع فضله وكرمه، فهو فاطر السّماوات والأرض، قد أنذرهم أنهم مبعوثون ليحاسبوا على أعمالهم ولإقامة العدل بينهم.

وفي المجموعة السابعة من السور في الربع الرابع من القرآن: وبعد أن بينت سورة “يس” وما قبلها أن الله تعالى أخذ بيد الناس يسيّرهم خطوة خطوة، وأرسل إليهم وبين لهم وأمهلهم وأعطاهم الفرص الكثيرة ليتفكروا ويعودوا إلى الصّراط المستقيم فيسعدوا ويفوزوا؛ لم يكن تعالى برحمته ليتركهم يذهبوا وحدهم، فريسة سهلة للشيطان ولشهواتهم دون أن يمدّ لهم يد العون التي يحتاجونها ممثلة برسله ودينه؛ لكن أكثر النّاس أعرضوا وكفروا بدين الله وكذبوا رسله وعبدوا الشيطان فخابوا وخسروا؛ جاءت عشرون سورة فيها تفصيل أحوال النّاس أفراداً وجماعات، وفيها ذكر تجارب حقيقية تبين مدى تقبلهم لرسالة السماء وهي تدعوهم إلى اتباع الهدى والصّراط المستقيم، كيف استقبلوها وكيف أثرت في حياتهم، أي فيها بيان نتائج التطبيق العملي لدعوة النّاس إلى الهدى؛ وهي تثبت حقيقة أن الله واحد لا شريك له، وتبرهن على أن سنن الله ثابتة لا تتغير: وهي فلاح الإنسان وسعادته باتباع الهدى والصّراط المستقيم وشقاءه، وهلاكه بالإعراض والكفر والتكذيب، كما يلي:

4.2.7.1- السور العشرة التالية وفيها تفصيل عن دعوة الهدى بكل الوسائل والأساليب وما يقابله من إعراض أكثر الناس: وهو يتناسب ويؤكد ما سبق ذكره في سور الأعراف والأنفال والتوبة من أنهم رضوا بالعاجل من نعيم الدنيا، وسورة يونس من أنهم عجبوا من نزول الوحي والحق وأعرضوا عنه، وكذلك تأكيد صفة الإنسان في إيمانه وقت الشدّة، وعدم إيمانه وقت الرخاء، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12)} يونس، وقد تكررت معاني هذه الآية في الآيات: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)} الزمر، {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84)} غافر، {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ (51)} فصلت، {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ (48)} الشورى.

وسورة الصّافات (والتي ترتيبها في القرآن 37) تأتي بعد سورة يس، وهي كالأعراف بعد الأنعام وكالشّعراء بعد الفرقان في تفصيل أحوال الناس مع دعوة الهدى، وهي تبيّن أن الله سبحانه وتعالى عظيم فوق كل ما يتصوره الإنسان له ما في السّماوات وما في الأرض وما بينهما، وهو بنفس الوقت قريب جداً من النّاس يسمع نداءهم ويستجيب لدعائهم، وفي عبادته النجاة والفوز العظيم، وفي عبادة غيره العذاب والجحيم والهلاك. وفي سورة ص (ترتيبها 38) يقسم سبحانه بالقرآن المشتمل على تذكير النّاس بما هم عنه غافلون، وتبيّن عناد الإنسان وتشككه وإعراضه وتكذيبه بالوحي وما جاء به النذير، وهو أن الإنسان مجازى على أعماله في الدنيا، قبل الحساب في الآخرة. وفي الزّمر (ترتيبها 39) أمرهم تعالى أن يعبدوه مخلصين له الدين، وهو نقيض حال المشركين الذي تقدم في ص، ولا يرضى لهم الكفر، لأن العبادة تكريم لهم في الدنيا ونعيم في الآخرة، فمن كفر فبإرادته، ثم مصيرهم إلى زمرتين، زمرة في الجنة وزمرة في النّار.

ثمّ تليها الحواميم (والتي ترتيبها 40-46) وكأنها تبين أن الله يريد أن يرحم عباده فيفوزوا في يوم القضاء يوم النبأ الذي سيعلمونه بعد حين؛ وتتناسب وتتناظر الحواميم السبعة مجتمعة مع مقاصد وموضوعات يونس التي استهلّت أيضاً بذكر الكتاب والوحي كما في الحواميم، ووصف آيات القرآن بالحكيم، ثمّ آياتها في إثبات صدق الوحي وما جاء به من الحقّ والدين وبيان صفات الإنسان في غفلته وإيمانه وجزائه في الدنيا ومصيره في الآخرة، وتختم كالحواميم بالأمر بالصبر واتّباع ما في الكتاب من الحكمة؛ وتتناسب جميعها في التأكيد على أن ما جاء به الوحي وهو الأمر باتباع الإسلام {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)} يونس، {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} فصلت، منسجم مع سنن الله في الكون، وأن فيه مصلحة الناس واستقامة حياتهم.

وكلّ الحواميم تتكلّم عن أن في الكتاب كلام الله وآياته وإشاراته وحججه وحواراته، يأتيهم مع الرسول عن طريق الوحي، يبين لهم وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعن أن في الآيات في الأنفس والآفاق ومصارع الأمم برهان آخر على وجوب الإيمان. يبين لهم الكتاب مقصد خلقهم وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ويأمرهم فيه بما يحقق لهم صلاحهم وسعادتهم في الدنيا وفوزهم في الآخرة، ويأتي دليل آخر عليه من الآيات المشاهدة، مثل أن الله خلق بينما الأوثان لا تخلق، وغيرها من الدلائل العظيمة التي تساند بعضها بعضاً، وذلك رأفة ورحمة بهم فهم بحاجة ماسّة إليه لكي يَسلَموا ويفوزوا. فالكون مخلوق لغرض وحكمة وأن هنالك هدف للوجود، وهو معرفة الله وعبادته، وأن الله العزيز الحكيم هو مصدر الوحي والرسالة للبشرية. فهو سبحانه وتعالى يريد أن يرحم الناس ويغفر لهم، فيخاطب عقولهم وأنفسهم، فيستعمل معهم اسلوب الترغيب والترهيب، وبالتعليم بالآيات ليعقلوا الحق، ثم يبين لهم نتائج أعمالهم في الدنيا وفي الآخرة، لكي تتأثر نفوسهم فيدركوا خطورة وضعهم. يحدّثهم عن الإيمان وعن البعث، ويستخدم القصّة، ومصارع الغابرين، وآيات من الكون، وأنباء من يوم القيامة، بغرض التأثير على النفس، ويفنّد لهم شكوكهم في صدق الرسالة. لكنهم يأخذون الأمر لعباً ولهواً ويعرضون عن تدبّر الآيات. فيقابله جدال الكفار بآيات الله واختلافهم فيما بينهم وتفرقهم على دين الله. لذلك تحث السور المسلمين على الاستقامة والصبر حتى يأتي وعد الله.

انظر أيضاً حول تناسب موضوعات الحواميم، في سورة الأحقاف، كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن: (046.8.1.3- السّور يملأها جوّ من الرحمة والمغفرة من الله الغفور الرحيم؛ و 046.8.1.4- جميع السور تحدثت عن موسى عليه السلام؛ و 046.8.1.5- وحدة هذا الكون وتكامل الأشياء فيه وترابطها؛ و 046.8.2- تناسب سور الحواميم مع بعضها، ومع السورتين التي قبلها والتي بعدها).

4.2.7.1.37- الصافات: يخاطب سبحانه وتعالى عباده: بأنه الإله المعبود، وحده لا شريك له، ربّ كل شيء. يقسم على ذلك بالملائكة الصافات الزاجرات الذاكرات التي لا تسأم من تنفيذ أوامره، ويستشهد بزينة السماء بالكواكب وبحفظ الأرض من الشياطين كتأكيد ودليل؛ ويعرّف الناس على المقصد من وجودهم على الأرض وهو الإخلاص له بالعبادة، وأن العبادة تكريم لهم في الدنيا ونعيم في الآخرة، وأن الكفر والمعصية شقاء في الدنيا وعذاب في الآخرة.

سورة الصافات تأتي بعد سورة يس، وهي كالأعراف بعد الأنعام وكالشعراء بعد الفرقان في تفصيل أحوال الناس مع دعوة الهدى، وهي تبين أن الله سبحانه وتعالى عظيم فوق كل ما يتصوره الإنسان، وتبين جمال عبادة الله وتوافقها مع فطرة الإنسان، وأن في الإيمان بالله وعبادته النجاة والسلام وتحقيق الأمنيات في الدنيا والآخرة، وفي عبادة غيره العذاب والجحيم والهلاك، ثم ما قابلها من عناد وجحود الناس فرادى، وعنادهم وتكذيبهم جماعات وأمم، وأخذهم بذنوبهم، وتخليص الرسل والمؤمنين منهم.

4.2.7.1.38- ص: استهجان عناد الإنسان وتكبّره وامتناعه عن قبول الحق وسماع الذكر. والدفاع عن صدق القرآن والنذير من عند الله خالق السماوات والأرض وما بينهما، وأن ما جاء به هو الحق، وأنه إنذار بأن الإنسان مجازى على أعماله في الدنيا، وفي الآخرة. سورة ص في استهجانها لامتناع الإنسان عن قبول الحق وإنذاراتها له، هي في تناسب وتناظر مع سورة الأنفال التي تخاطب المؤمنين حول الأنفال التي اختلفوا في أمرها، فمنعهم الله منها، وأمرهم بالاستسلام الكامل لأوامره ونواهيه والتوكل عليه لأن في هذا صلاح الحياة في الدنيا والآخرة.

4.2.7.1.39- الزمر: قضاء الله في خلقه أن يعبدوه مخلصين له الدّين، ولا خيار صحيح لهم غير العبادة وقد أمرهم بذلك في كتابه، وهو لا يرضى لهم الكفر، فمن كفر فبإرادته. الناس في عبادتهم مجبرين على شكل مختارين. في الدنيا هم أمام خيار الحق بشيراً ونذيراً، وفي الآخرة أمام وعد الصدق والجزاء على أعمالهم، مصيرهم إلى زمرتين، زمرة في الجنة وزمرة في النّار. والزمر تتناسب مع سورة التوبة في مقصدها وموضوعاتها حول الأمر بعبادة الله مخلصين له الدّين، وأن العبادة منفعة في الدّنيا ونجاة في الآخرة.

4.2.7.1.40- غافر: لقد خلق الله الناس لكي يذنبوا فيتوبوا فيغفر لهم ويدخلهم الجنة، لكن أكثر الناس جادلوا في آيات الله وتآمروا على رسله ولم يتوبوا، فعاقبهم الله في الدنيا وأدخلهم النار في الآخرة.

4.2.7.1.41- فصلت: بيان عظمة القرآن وجلالة قدره وإعجازه وتفصيله (بشيراً ونذيراً) وكبير الرحمة به لمن تعلمه وعمل به.

الله الرحمن الرحيم، أنزل الكتاب، آياته مفصلات، ومعانيه واضحات، بلغة سهلة، يعلمونها ويفهمونها، بشيراً بالثواب ونذيراً بالعقاب، فأعرض عنه أكثر الناس لا يريدون سماعه. فكانت النتيجة هلاك وخسران من أعرض وعاند، ونجاة وفوز من استمع وآمن.

4.2.7.1.42- الشورى: يكلّم الله عباده بالوحي بأنه هو خالقهم ووليّهم، وأنزل عليهم الوحي بالحق والميزان، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وجعل الملائكة تستغفر لهم، وأمهلهم لعلهم يتوبوا فيغفر لهم، ويجزيهم بما سعوا له وعلى قدر ما اكتسبوا، يقدر لهم أرزاقهم، ويقدر عليهم أمنهم وسهولة عيشهم ويبتليهم بالخير والشر فتنة لكي يعتبروا ويهديهم إليه. فالإنسان له الخيار إذا أراد الدنيا أوتي منها وإن أراد الآخرة يزد له الله فيها.

4.2.7.1.43- الزخرف: قرآن مبين، فيه للناس الخير كلّه، عليّ، حكيم، أمر به الله ليتدبرو آياته ويهتدوا به إلى ما خلقوا لأجله وهو عبادة الله وحده لا شريك له ونهيهم عن عبادة الأصنام والأنداد.

أنزل للناس الكتاب وأرسل المرسلين، أنعم به عليهم لتحيا وتسعد به أرواحهم، كما وأنه سخّر لهم المخلوقات لتحيا وتسعد أبدانهم. متّعهم في الدنيا، وحاورهم بالحق، وأراهم الآيات، ليهتدي به من قدّر هدايته فيفوز بالجنة وتقوم الحجة على من كتب شقاوته فيلقى في جهنم. فاغترّوا بالنعمة وكفر أكثرهم وأعرضوا عن المنعم. فتوعدهم عقاب في الدنيا قبل الآخرة، تسلط عليهم الشياطين تغويهم وتضلهم، وخزي لهم بنصر المؤمنين.

4.2.7.1.44- الدخان: رحمة من الله بالعباد وإنذاراً لهم وتحذيراً من الآخرة ومن الحق والجدّ الذي ينتظرهم، أنزل القرآن في ليلة مباركة كثيرة الخيرات، فيها يفرق كل أمر محكم. يأمرهم بطاعته والتزام فطرته وقوانينه، ويبين ما ينفعهم ويضرهم، لعلهم يتعظون وينزجرون فيفوزون بالجنة وينجون من العذاب الأليم الذي ينتظرهم لو استمرّوا في شكهم.

4.2.7.1.45- الجاثية: التنبيه على أن العزيز الحكيم لم ينزّل فقط الكتاب تتلى عليهم فيه آياته فيعلموا الحق من الباطل، ويبصروا سبيل الرشاد؛ بل ونبّه أيضاً إلى آياته وعلاماته في مخلوقاته، الدالّة على كمال قدرته، وحكمته، وإرادته، بأنه وحده يستحق الحمد والطاعة، لا الهزء والجحود، وأن له وحده الكبرياء وليس لغيره شيء من ذلك، فبأي حديث بعد كلام الله في كتابه وآياته في مخلوقاته يؤمنون. فمن الناس من عقل دعوة الله له إلى الهدى فسمع وأطاع ومنهم من تبع هواه فأنكر مستكبراً عن قبولها مستهيناً بها. فاقتضت حكمة الله (بعد البيان والآيات) أن يجازي كل بعمله: المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

4.2.7.1.46- الأحقاف: التنبيه على أن القرآن تنزيل من الله العزيز الحكيم، أنذر فيه بأنه ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق وأجل مسمّى، وليس عبثاً، بدليل صدق ما وعد به من إهلاك المكذبين وضلال آلهتهم التي يدّعون نصرهم، لكن الذين كفروا عن هذا الإنذار معرضون (مستكبرون). فلا أحد أضل وأجهل ممن يدعو من دون الله آلهة غافلة عاجزة لا تستجيب دعاءه أبداً.

القرآن نذير للذين ظلموا وبشرى للمحسنين، ذلك أنهم مكلّفون، وأن سعادتهم ونجاتهم من العذاب هو بعبادتهم لله وحده واتباعهم صراطه المستقيم، ثم يبعثهم بعد موتهم ليجازيهم على أعمالهم.

4.2.7.2- السور العشرة التالية تبدأ بست سور هي محمد والفتح والحجرات وق والذاريات والطور، تتحدث عن تطبيق جهاد الأعداء بالسنان واللسان، ثم يتبعه فتح من الله، ثم دولة فيها تمكين في الأرض، ثم فوز للمؤمنين في الآخرة وخسارة للكافرين:

وبعد كل هذه الرحمة والمغفرة الواضحة في الحواميم تأتي سورة محمد وهي سورة الحرب والقتال لمن لم تسعه رحمة ربه في السور العشر السابقة، ولا بد أن تأتي ثمرة لهذه الحرب ألا وهي الفتح من الله كما هي سنته في خلقه وكما بشر به عباده المؤمنين. أمّا سورة الحجرات ففيها تنظيم للمجتمع المسلم ووضع للقواعد الأخلاقيّة بعد أن تمّ الفتح. وكما جاهدت سورة محمد بالسّنان وحصول الفتح واستقرار المجتمع. تلاها سورة ق وفيها الجهاد بالقرآن وآيات الله في السماوات والأرض وهلاك الأمم وبقاء آثارهم. ثم سورة الذاريات وهي بالنسبة لسورة قّ مثل الفتح بالنسبة لمحمّد، فكما كان الفتح في سورة الفتح هو النتيجة الحتميّة للقتال في سورة محمد، فإن وقوع الدين في سورة الذاريات، وهو يوم الحساب، هو النتيجة الأكيدة للإنذار بالبعث في سورة ق. ثم سورة الطور بالنسبة لسورتي قّ والذاريات هي مثل سورة الحجرات بالنسبة لسورتي محمد والفتح، في وصف حياة المتقين في الدنيا في الذاريات ووصف حياتهم في الآخرة في الطور. وكما أن سورة الحجرات تؤكّد الخصوصية للأفراد والجماعات، وتحذر من المساس بها؛ كما وتبين أن أصل الناس واحد، وأن الله جعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيحصل التناصر والتعاون والتوارث، ويحترم بعضهم حقوق بعض، وحقوق الأنساب وخصوصية البيوت وكيان الأسرة المبنية على التقوى والإيمان. وسورة الطور تصف حياتهم الهانئة في الجنة يطوف عليهم غلمان لهم وقد زوجهم ربهم وألحق بهم ذريتهم؛ كما وتبين أن كيد الذين ظلموا في الدنيا لم يغن عنهم شيئاً في الآخرة.

في العشر سور التي قبل سورة محمد (الحواميم وما قبلها) تَبَيّنَ لنا أن الله أنزل الكتب وأرسل المرسلين ولم يترك من حيلة ولا وسيلة إلا استعملها لهداية الناس إلى الإيمان ولكنّ أكثرهم كفروا، وعلمنا أن الله أهلك كل الأمم السابقة بسبب كفرها وما نجّا منهم سوى القلّة المؤمنة. وبالوصول إلى سورة محمد صرنا على يقين بأن الإيمان أو الكفر هو سبب سعادة الإنسان أو تعاسته في الدنيا والآخرة، لذلك كان لا بد من التمسك بالإيمان والقتال دونه، فإذا فعلنا ذلك يفتح الله علينا فتحاّ عظيماً معجزاً يشعرنا برضا الله عنّا وعن أعمالنا ويرينا في الحقيقة أن الإيمان هو خير لنا ومن أجل سعادتنا، فيزداد بذلك إيماننا وشكرنا لربنا وتمسكنا بديننا فيغفر الله لنا ذنوبنا ويتم نعمته علينا فينقذنا من الضلال ويهدينا صراطه المستقيم ويبشرنا بالجنة أعدّها لنا. وبهذا الفتح يعلم المنافقون والمشركون يقيناّ غضب الله عليهم وطردهم من رحمته ووعيده لهم بجهنم، إن لم يتداركوا أنفسهم ويعودوا إلى الإيمان؛ وثم بعد ذلك وفي سورة الحجرات تبين أن الدين هو قواعد وقوانين تحفظ لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه، وهنا مكمن السعادة؛ وعلى المؤمنين العمل معاً للحفاظ على هذه الحقوق لمصلحة الجميع لأن الله حبب إلى الناس الإيمان وكرّه إليهم الكفر؛ وتؤكد الحجرات أن الناس سواسية في نظر الله الذي يرى قلوبهم التي في صدورهم وليس فقط صورهم، وأن العبرة في تطهير باطن الإنسان وليس ظاهره.

ثم سورة ق (50) وهي سورة تجاهد بالقرآن فتذكّر وتحثّ على الالتفات إلى آيات الله التي جاء بها المرسلين، وآياته في السماوات والأرض، وآياته في هلاك الأمم السابقة وبقاء آثارهم، وتتوعّدهم: بذكر أنباء يوم القيامة وما فيها من حساب عسير على كل ما ظهر وما بطن من أعمالهم، ووعيد شديد بأن مصيرهم إما الجنة أو النار؛ ويمكن القول باختصار أن فيها الدعوة والترغيب بالدليل والحجة والتخويف والوعيد بالحساب والعذاب في الآخرة، بينما كان الحديث في سورة محمد عن الترغيب بسعادة المؤمنين ونصرهم في الدنيا وتعاسة الكافرين وخذلانهم في الدنيا قبل الآخرة. وبعد أن أثبتت لهم سورة ق وقضت على تعجبهم بأنهم راجعون بعد الموت لكي يحاسبوا على أعمالهم جاءت سورة الذاريات لتثبت لهم حقيقة وتنذرهم خطورة عدم التصديق بوعيده والحساب، وفي سورة الطور إثبات حصول الجزاء على الأعمال ووقوع العذاب بسرد أنباء عن بعض تفاصيل يوم البعث وما بعده.

وتتناسب هذه السور الست وتتناظر مع سورة هود (في الربع الثاني من القرآن) ومقصدها وموضوعاتها الستة المذكورة في: 011.5- ملخص موضوع السورة، وقصص الرسل السبعة الذين أرسلوا إلى أقوامهم مبشرين ومنذرين، فأهلك الله الظالمين وأنجا المرسلين والمؤمنين، والذي تلخصه أيضاً خاتمة سورة هود، إذ تبيّن وتؤكد أن دوام النعمة على القرى لا يتم إلا بالتزامهم بدين الله واتباع شرعه، وأن العبادة ودوام التوبة والاستغفار من الذنوب، نعمة جعلها الله للناس، وقد خلقهم لأجلها، وبسبب عبادة الله وحده يتنزل المطر ويعم الرزق والنعيم وتستمر حياة الأمم في الدنيا، ثم ينالهم الجزاء الأعظم في الآخرة بالفوز بالجنة ورضوان الله. يقابله الهلاك في الدنيا والخسارة والنار في الأخرة لمن يعبد غير الله ويتبع غير دينه.

4.2.7.2.47- محمد: الإيمان أو الكفر هو سبب سعادة الإنسان أو تعاسته في الدنيا والآخرة، فالكافرون أضل الله أعمالهم لأنهم على الباطل، والمؤمنون كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم لأنهم على الحق. لذلك تبين السورة عظيم تكريم الله للمؤمنين ونصرهم باتباعهم الحق، وعظيم هوان الكافرين عليه وتعاستهم باتباعهم الباطل.

4.2.7.2.48- الفتح: يفتح الله على رسوله وعلى المؤمنين من حيث لا يحتسبوا، ليروا معجزاته وآياته العظيمة بنصرهم، لتكون آية لهم برضى الله عنهم وهداية إلى الصراط المستقيم، فيشكروه ويسبحوه ويستغفروه فيغفر لهم ويدخلهم الجنة. وهي سنة الله في خلقه لا تتبدل يكشفها ما تقابل الحق والباطل. وفيه آية عظيمة للمنافقين والمشركين تدل على غضب الله عليهم وطردهم من رحمته ووعيد لهم بجهنم وساءت مصيراً.

4.2.7.2.49- الحجرات: الناس خلقوا متساوون في حقوقهم وواجباتهم، ضمن تدبير إلهي يضمن الحرية والكرامة للجميع. تدبير فيه سنن كونية، وروابط إنسانية، وحدود أخلاقية، لكي تنظّم حياتهم وحقوقهم وفطرتهم وتحقق لهم سعادتهم وفوزهم في الدنيا والآخرة، مع الحفاظ على حقوق الله خالقهم ورسوله وبعضهم على بعض كإخوة من نفس واحدة وإخوة يربطهم الإيمان.

4.2.7.2.50- ق: وعيد بالرجوع بعد الموت للحساب، وتذكرة بالقرآن وبالآيات بأنهم في هذه الدنيا مكلفون مختارون غير مكرهون، ثم هم في الآخرة مخرجون ومجازون على كل ما ارتكبوه من طاعة أو معصية، وأن مصيرهم إما الجنة أو النار.

4.2.7.2.51- الذاريات: تأكيد وإثبات صدق الوعيد بالحساب على الأعمال. وما يترتب عليه من الجزاء إما بالنعيم لمن أطاع فأصلح أو العذاب لمن عصى وأفسد. بينما هم يشكّون في صدق وعده، ويسألون غير مبالين عن يوم الحساب.

4.2.7.2.52- الطور: تأكيد حقيقة وقوع العذاب على المكذبين جزاءاً على أعمالهم. وإطماعهم في حصول النعيم للمتقين ثواباً على أعمالهم. واستهجان تطاولهم على الحق وخوضهم فيه بغير علم. ثمّ دحض ادعاءاتهم وحججهم ومعاذيرهم ومقابلتها بالحجج البسيطة والمنطق المفهوم الذي لا يحتمل التأويل.

4.2.7.3- في الأربعة سور التالية النجم والقمر والرحمن والواقعة: كلام قوي بينت فيه سورة النجم بأنّ إلى الله المنتهى وأنهم محاسبون، وأنّ الجزاء على الأعمال حاصل لا مفر منه، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. ثم بينت سورة القمر هلاك الأمم، وبينت سورة الرحمن نعم الله على الأمم وفضله على الإنسان: أي بينت السورتين القمر والرحمن آيات الله في الإهلاك وآياته في الإنعام تمهيداً لسورة الواقعة ولما سيقع في الواقعة حيث تخفض أقواماً، وترفع أقواماً جزاء على أعمالهم الدنيا.

وبعد أن أثبتت الثلاث سور السابقة ق والذاريات والطور حقيقة البعث والحساب والجزاء: أي في سورة ق أثبتت لهم وقضت على تعجبهم بأنهم راجعون بعد الموت لكي يحاسبوا على أعمالهم، وفي الذاريات أثبتت حقيقة وأنذرتهم خطورة عدم التصديق بوعيده والحساب، وفي سورة الطور إثبات حصول الجزاء على الأعمال ووقوع العذاب، بسرد أنباء عن بعض تفاصيل يوم البعث وما بعده. جاءت سورة النجم لتثبت صدق كلام الرسول وأنه ليس عن ضلال أو هوى، بل هو وحي من عند الله، وتؤكد مقاصد السور الثلاث التي قبلها من حيث بطلان تعجبّهم من النذير بالبعث، وانهم في اتباعهم الظن يضحكون ولا يبكون خشية من الحساب الموعود، وأن الجزاء على الأعمال حاصل وليس للإنسان إلا ما سعى. وقد كذبوا في سورة ق بالبعث والرجوع بعد الموت، وفي الذاريات بصدق الوعيد بالحساب على الأعمال، وفي الطور بصدق الوعيد بوقوع الثواب والعذاب يوم القيامة وقالوا سحر، أما سورة النجم ففيها إثبات صدق النبي وتأكيد الجزاء، وتأكيد الحساب، وتأكيد غرابة تعجبهم من حديث الرسول {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)}. وفي سورة القمر أعلمهم سبحانه بقرب ذلك الحساب والجزاء ليرتدعوا عن تكذيبهم لعلهم يزدجروا، فقال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} القمر.

وتدل الآية {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} النجم على أنه سبحانه أوحى بالحق (لا بالهوى) وأمر به وباتباعه. وتدل الآية {كذبوا واتبعوا أهوائهم وكلّ أمر مستقر (3)} القمر، على أنهم يتبعون الهوى (لا الحق). والآية {كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)} القمر، أي: أنهم كذبوا بآيات الله كلّها، وهي الحق، لأنهم أرادوا الباطل. وسورة القمر بعد النجم كالأعراف بعد الأنعام، وكالصافات بعد يس، في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم إلى قوله في سورة النجم‏: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53)}.

وبعد طول البيان في السور السبعة عشرة السابقة (من ص إلى القمر) لعظيم صفات الله تعالى، وأن ما دونه من الآلهة لا يضر ولا ينفع، وأن القرآن تذكرة لهم بأنهم خلقوا للعبادة والاستخلاف في الأرض، وأنهم موعودون بالنعيم في الدارين إن هم استقاموا، وبالشقاء في الدارين إن هم انحرفوا عن الحق، وجاءهم من الأنباء وأحوال الأمم مع أنبيائهم والكثير من الآيات والبراهين على الفوز والفتح للمؤمنين والعقاب والخزي للكافرين في الدنيا، وهددهم بالحساب في الآخرة وأثبت لهم وقوعه وأن الجنة حق والنار حق. ومع ذلك بقي أكثرهم مكذبين بالرسل وبالقرآن وبقيام الساعة وبالحساب. ثم تأتي سورة الرحمن تعدد آلاء ونعم الله تبارك عطاؤه عليهم: قبل خلقهم وبعد أن خلقوا، ونعمه عليهم الموعودون بها يوم القيامة، وتتعجّب من عظيم تكذيبهم وتكرّره، وتستنكر مقابلتهم الإحسان بالإساءة، بدلاً من الحمد والشكر. ثم تلتها الواقعة لتؤكد أن أمر الدنيا قد حسم، وقد حان الآن زمان وقوع الواقعة، فوقعت الواقعة التي لا بدّ من وقوعها، وهذا هو المكان المتناسق جداً، والتناسب العظيم للسورة بعد سورتي القمر والرحمن. ففي سورة القمر جرى تأكيد إصرار الناس على الإعراض والتكذيب، رغم كل ما جاءهم من الأنباء والنذر، وعن أن الساعة قادمة قريباً، وأن كل أعمال الإنسان مسجلة في الكتب يحاسب عليها في الدنيا ويوم القيامة، وفي سورة الرحمن التي تعدد آلاء الرحمن، في الدنيا وفي الآخرة، وأعظمها نعمة تنزيل القرآن وتعليمه، وأنه خلقهم ليرحمهم ويرزقهم من الطيّبات ويكرمهم بطاعته واتباع دينه. فإن كذّبوا بآلائه وظلموا أنفسهم وأفسدوا، عوقبوا على قدر ظلمهم وإفسادهم. وفي سورة الواقعة وبعد أن اكتملت الأنباء في السورتين المتقدمتين عن خبر الآخرة واكتمل الإنذار وبسطت الحجج، تؤكد وقوع الواقعة خافضة رافعة، فالناس في هذا اليوم ثلاثة أصناف بينتهم الواقعة، وأكّدت وقوعها وتميزهم في ذلك اليوم المعلوم المجموع فيه الأولين والآخرين.

وتتناسب هذه السور الأربعة: النجم والقمر والرحمن والواقعة، وتتناظر مع سورة يوسف (في الربع الثاني من القرآن) ومقصدها وموضوعاتها: حيث أن قصّة يوسف عليه السلام والرؤيا التي رآها تتناسب مع كقصة نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في سورة النجم، لأن الله أراد أن يمنّ على الناس وأن يدلّهم على الهدى وهم أرادوا لأنفسهم وللمؤمنين الشقاء؛ وقصة مكر وخيبة أخوة يوسف تتناسب مع قصّة عدم الادّكار وهلاك خمسة من الأمم في سورة القمر؛ وقصّة ولاية الله ورحمته وعنايته بيوسف عليه السلام تتناسب مع آيات الله وآلائه في سورة الرحمن ورحمته بالناس؛ وذكر عاقبة الأمم ونصر الله للمرسلين في يوسف يتناسب مع سورة الواقعة، وحتميّة وقوعها، وأنها حق اليقين، وأن لكل شيء نهاية ومستقر، وأن الله جامع الأولين والآخرين إلى ميقات يوم معلوم. وكما بدأت سورة يوسف برؤيا، ثم تلاه تفصيل وتأويل صدق الرؤيا، وختمت بأنه هدى ورحمة؛ استهلت سورة النجم بالقسم بالنجم إذا هوى بأن القرآن وحي يوحى، ثمّ تلاه تفصيل متشابه في المعاني مع سورة يوسف، وختمت سورة الواقعة بقسم عظيم بمواقع النجوم بأنه قرآن كريم تنزيل من رب العالمين، فيه حق اليقين {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} الواقعة.

4.2.7.3.53- النجم: يقسم تعالى أنه هو الذي أنزل الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يضل ولم يأت بباطل؛ بل هو نذير، جاءهم بالحق والهدى، أن جزاء الإنسان مترتب على أعماله، والقيامة باتت قريبة ولن يمنع قدومها من دون الله مانع، وهو المالك لكل شيء والآمر والمتصرف. فلا يغرنّكم ما يأت به الناس من الظنون والضلالات وعبادة الأوثان، فهذه أمنيات وهوى نفس، ولا دخل لها بعلم الله ولا بفعله ولا بهديه.

4.2.7.3.54- القمر: تأكيد إصرار الناس على الإعراض والتكذيب، رغم كل ما جاءهم من الأنباء والنذر، وعن أن الساعة قادمة قريباً، وأن كل أمر مستقر، وأن كل شيء خلقه الله بقدر، وأن أمر الله سريع كلمح البصر، وأن كل أعمال الإنسان مسجلة في الكتب يحاسب عليها في الدنيا ويوم القيامة.

4.2.7.3.55- الرحمن: تعداد آلاء الرحمن، في الدنيا وفي الآخرة، وأعظمها نعمة تنزيل القرآن وتعليمه، وأنه خلقهم ليرحمهم ويرزقهم من الطيّبات ويكرمهم بطاعته واتباع دينه. فإن كذّبوا بآلائه وظلموا أنفسهم وأفسدوا، عوقبوا على قدر ظلمهم وإفسادهم.

4.2.7.3.56- الواقعة: تأكيد حتميّة وقوع الواقعة، وسرد الحجج والأدلّة على تأكيد وإثبات ذلك من النشأة الأولى، ونزول القرآن الكريم، ووصف أحوالها ومصائر الناس، وقهرهم بخروج الروح، وتسخير المخلوقات آيات ونعمة يتمتعون بها ويستعينون على طاعة الله لينالوا الجزاء على قدر أعمالهم. فمن أراد لنفسه الفوز فاز ومن أراد لها الخسران خسر.

4.2.8- نعمة الهدى إلى الصّراط المستقيم:

في الثمان وخمسون سورة القادمة وهي المجموعة الأخيرة (الثامنة في القرآن) وفيها التركيز على نعمة الهدى إلى الصّراط المستقيم، فقد أنعم الله بهذا الدّين على النّاس وأكرمهم به، لأنّه يحقّق لهم الخير في الدّنيا والفوز في الآخرة. مما يستوجب تسبيح الله تعالى وتنزيهه لكمال أسمائه وجلال صفاته، وعجيب عنايته ورعايته لعباده فهو معهم أين ما كانوا (في عشر سور من الحديد إلى التّحريم)؛ ثم الدّفاع عن عدل الله، وعن عظيم عنايته وتدبيره وتبليغه وهديه للإنسان إلى سبل السّعادة والرّشاد، بينما الإنسان هو ظالم لنفسه بجهله وبإعراضه عن رسل الله وهديه ورسالاته وآياته، ثم الأمر بالعبادة والإنفاق وغيرها (في ثمان سور من الملك إلى المدّثر)؛ ثم تأكيد وقوع الثواب والعقاب (في خمس سور من القيامة إلى النّازعات)؛ ثم تأكيد صدق وعد الله بالبعث والجزاء على الأعمال (في سبع سور من عبس إلى الطارق)؛ ثم أمر الإنسان بالقيام بواجبه وما فيه مصلحته وبما يحقق له السعادة والفوز (في اثنتا عشرة سورة من الأعلى إلى البيّنة)؛ ثم تخويفهم وتحذيرهم من المصير النهائي (في ستّ سور من الزّلزلة إلى الهمزة)؛ ثمّ الجزاء في الدنيا (في سورتي الفيل وقريش)؛ ثمّ المصير النهائي (في سورتي الماعون والكوثر)؛ وأخيراً الأمر بالتبرؤ من الكافرين (في الكافرون)، والتسبيح بحمد الله والاستغفار (في النّصر)، والهلاك في الدّارين (في المسد)، والتوحيد والاستعاذة بالله الواحد الأحد ربّ الفلق وربّ النّاس (في الإخلاص إلى النّاس).

هذه المجموعة الثامنة من السّور (في الربع الرابع من القرآن) فيها ستّ مجموعات من السّور، تتناسب وتتناظر في تكامل وتشابه مع المجموعة الرابعة من السور (في الربع الثاني من القرآن) وعددها ستّ سور، تأكيداً لما ذكرنا أعلاه بأن نصفي القرآن متناظران، وأن كلّ ما في النصف الثاني هو تكرار لما جاء في النصف الأوّل، وهو بيان طريق الهدى إلى الصّراط المستقيم، وكما بينّاه في الفرعين أعلاه (4.2.4.18.2 و 4.2.4.18.3)، وهو ليس تكرار مطابقة بين نصفي القرآن، لكنه تشابه في طرح نفس الموضوعات بما يتناسب مع اختلاف أفهام النّاس ومقاصد السّور المختلفة، كما بيّناه بالأمثلة أعلاه؛ وهذا التشابه والتكرار هو من معجزات القرآن، مصداقاً لقوله تعالى: {كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ (23)} الزّمر، أي: يشبه بعضه بعضاً، ويصدّق بعضه بعضاً، لا اختلاف فيه، ولا تضادّ، و {مَثَانِيَ}، أي: تُثنّى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج، فتخاطب النّاس أفراداً وجماعات بحسب مرادهم من الحياة وتوجهاتهم واهتماماتهم وعلومهم.

وفيما يلي تفصيل وبيان المجموعة الثامنة من السّور (في الربع الرابع من القرآن) بمجموعاتها السّتة التي ذكرناها، مع الإشارة إلى تناسبها مع المجموعة الرابعة (في الربع الثاني من القرآن):

4.2.8.1- المجموعة الثامنة من السّور تتحدّث عن تسبيح الله العظيم وتنزيهه عما ليس فيه من النّقص: فهو الله ربّ العالمين وحده لا شريك له، يسبّح له ما في السّماوات وما في الأرض، له الملك وله الحمد على نعمة وجودنا ومعرفتنا له والتي لا يعدلها أيّ نعيم. وكذلك نعمة العبادة وطاعة الله، التي هي سرّ سعادة الإنسان لأنه جُبل عليها في أصل خلقته، فهو إن لم يعبد الله فسيعبد غيره من المخلوقات التي لا تضرّ ولا تنفع، ومن الأوثان والأموال والأولاد وغيرها.

تتناسب هذه المجموعة من السّور مع المجموعة الرابعة التي استهلّت بسورة مدنيّة واحدة فقط، وهي الرّعد، ومقصدها (انظر 013.4.2) هو بيان أن القرآن هو الحقّ، وأن دلائل الحقّ موجودة ومفصّلة فيه، وهي أيضاً دلائل موجودة في السّماوات والأرض، ليتفكروا فيها بعقولهم، ويراها القلب بعين بصيرته، فيعلمون منها صفات الله، ووحدانيته، وخلقه، وتدبيره، ورسالاته، والبعث والجزاء، وأن إنكارهم للآيات هو محل العجب، لأن الله يريد لهم الحق وهم يريدون لأنفسهم الباطل، ويستعجلون السّيّئة قبل الحسنة، ويطلبون العذاب والشّقاء ويتركون العافية والنّعيم؛ وكذلك استهلّت المجموعة الثامنة واشتملت على عشرة سور كلّها مدنيّة، من الحديد إلى التحريم، وهي أكثر سور القرآن احتواءاً على أسماء الله تعالى وصفاته باعتبار عدد آياتها، حيث يأتي فيها أكثر نسبة من الأسماء والصّفات في القرآن، ، ترتيباً: سورة الطلاق أكثرها ثم الممتحنة ثم المجادلة ثم الحديد ثم الحشر (ثم الحجرات) ثم التغابن ثم الجمعة ثم التحريم، كما هو مفصّل في مكانه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، (وبمعنى آخر فنسبة تكرار عدد الأسماء الحسنى في السّور العشرة مجتمعة هي أكبر نسبة في القرآن، أي: الله 212 مرّة، لله 11 مرّة، ربّ 19 مرّة، هو 32 مرّة، وأسماء وصفات أخرى 171 مرّة، بمجموع 445 مرّة، مقارنة بعدد آيات السّور العشرة وهي 166 آية)، وفيها أيضاً تسبيح الله وتنزيهه كما بينّاه.

العشر سور التالية من الحديد إلى التحريم تخاطب المؤمنين بما هو مطلوب منهم لأجل تحقيق خير الدنيا والفوز في الآخرة، وترغبهم بالإيمان وتقوى الله ببيان منافع الإيمان وتحذرهم من الانحراف عن طريق الحق الذي خطه الله لهم ودعاهم إليه. بينما في السّور السّابقة من غافر إلى الواقعة كان الخطاب عامّاً، وقد اكتمل البلاغ لكافة النّاس بما هم مخلوقون لأجله وما هم مقبلون عليه، عن طريق الترغيب والترهيب، وبيان الآيات والحجج والبراهين، والحوار، والتقريع والتبكيت. وكان لهم مطلق الخيار فمن رغب أو شاء الإيمان آمن ومن شاء الكفر كفر.

في الجزء الثامن والعشرون من القرآن بالإضافة إلى سورة الحديد السّابقة، يوجد لدينا عشرة من السّور المدنيّة المتتالية، افتتحت خمسة سور منها بالتّسبيح، وهي: الحديد والحشر والصّف والجمعة والتغابن، والتّسبيح هو التّنزيه لله تعالى عن كل عيب وسوء، وإثبات صفات الكمال له. فكل المخلوقات تسبّح بحمده {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (44)} الإسراء، والإنسان مأمور بذلك وهو ليس استثناء {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ ….. وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ (8)} الحديد. لقد كرّم الله الإنسان وخلقه في أحسن تقويم، وسخّر له السّماوات والأرض جميعاً منه، ومهّد له ما فيهما لخدمته، وأسبغ عليه نعمه، ثم طلب منه أن يعبده وحده، فهو مالك الملك يفعل ما يشاء، فعلى الإنسان أن يطيع خالقه ويعبده، فكيف بها إذا كانت هذه العبادة لله وحده هي أيضاً تكريم للإنسان، أي أن يعبد خالقه وصاحب الفضل عليه بدلاً من أن يعبد غير الله من المخلوقات التي لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً. وهل يعقل أن يعصى الله النّافع ويعبد المخلوق الذي لا يضرّ ولا ينفع؟!

هذه السّور المدنية العشرة (الحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والتحريم) تركّز كباقي السّور المدنيّة في القرآن على التكاليف التي تحتاج إلى مجاهدة النّفس، كالإنفاق والجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وعلى أمور التشريع المتّصلة بالعبادات والمعاملات والحدود والعقوبات وتنظيم الأسرة وبناء المجتمع المسلم وتثبيت أركانه وعلاقاته مع غير المسلمين، كما تفضح المنافقين وتكشف أسرارهم، وتجادل أهل الكتاب وتدحض باطلهم، كما يلي:

تبدأ الآية الأولى في كلّ من السّور المسبّحة الخمسة (الحديد، والحشر، والصّف، والجمعة، والتغابن) بالإشارة إلى تسبيح الكون لله، أي إبعاده عن السّوء وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وسبّح تعني ذهب وبعد، وتنتهي الآية بأن الله “عزيز حكيم” عزيز في ملكه حكيم في تصريف شئونه، ما عدا التغابن والتي تنتهي بأنه على كل شيء قدير أي قدير على جمع النّاس في يوم التغابن. الكون كلّه يسبّح لله وهي تدعوا الإنسان كي ينسجم مع الكون الذي يسبّح الله، فكلّ شيء ملكه، يسبّحه ويعبده، وبالتالي فهي تبيّن له ضآلة عقل الإنسان المغرور بنفسه، مقارنة مع الحكمة الإلهيّة المبني عليها الكون. وضآلة قيم الدّنيا المفتون بها الإنسان والتي يعتمدها مقياساً لحياته إلى جانب قيم الله التي أنزلها في كتبه إلى رسله، وحقيقة الوجود الكبرى التي تشتمل على الآخرة والملائكة وغيرها من مخلوقات الله. لذلك فكل ما في هذه السّور من أوامر ونواهي تخاطب الإنسان كجماعة من جماعات الوجود لها دور حدّده الله تعالى. وتطلب منه أن يفكّر بعقل الجماعة البشريّة ويستجيب بعمل جماعي كوني، يأخذ شكل الجماعة المميزة، كما هو مبيّن في السّور الخمسة. ولكي يسهّل القرآن فهم مقصود هذه السّور المسبّحة الخمسة، أتبعها بخمس سور أخرى فيها قصص حقيقية وأحداث حصلت في حياة المؤمنين، وفيها أعمال توضّح المعاني المقصودة في السّورة المسبّحة بالدليل العملي، (على نفس سياق القرآن من بدايته، في بيان طريق الهدى أوّلاً، ثم يتبعه تطبيق الهدى بالتّجربة العمليّة) كما يلي:

في الحديد تنزّه الله عن أن يصلح للنّاس الدنيا بدون الإيمان والقتال والإنفاق لأجل الإصلاح، فهم مكلّفون ومبتلون بذلك، وفي المجادلة مثال عملي عمّا فعله المجادلون بما يناقض مراد الله سبحانه، والذين يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول؛ وفي الحشر تنزيه الله تعالى عن أن يقبل الإنفاق في الباطل وموالاة أهل الباطل، وفي الممتحنة مثال عملي عمّا فعله أعداء الله، المطلوب من المؤمنين امتحانهم والتبرؤ من أفعالهم وإظهار العداوة لهم؛ وفي الصّف تنزيه الله عن أن يخلق ليتكلّم النّاس بالخير ثم يخالفونه في العمل، وفي الجمعة تنزيهه عن أن ينزل الحكمة لتحمل ولا يفهم ما فيها من ضرورة العمل الجماعي كالجسد الواحد، وفي المنافقون مثال عملي بأن هذا تماماً ما فعله المنافقون بما يتناقض مع حكمة الله وإرادته؛ وفي التّغابن تنزيه الله عن أن يخلق أناس ليكفروا ويهدموا شرعه وفطرته وسنّته فيتساووا في المصير والجزاء مع الذين آمنوا وعملوا واستعدّوا ليوم الحساب، وفي الطلاق مثال عملي عمّا يفعله المطلقون إذا اعتدوا على حدود الله، أو لم يعتدوا، وفي التّحريم مثال عملي عمّا يفعله المحرّمون لإرضاء النّاس، أو إذا لم يخالفوا أمر الله بتحريم حلال أو تحليل حرام.

وبمناسبة الحديث عن السّور المسبّحة فقد ابتدأت في القرآن أيضاً سورتين مكيّتين بالتّسبيح وهما: سورتي الإسراء والأعلى: سورة الإسراء والتي يسبّح الله تعالى فيها نفسه عن كل نقص وعيب، لأن عظيم عطاءه يستوجب هذا التّسبيح؛ وسورة الأعلى التي يأمر فيها الله تعالى رسوله والمؤمنين بأن ينزّهوه عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، لأنه يستوجب عليهم فعل ذلك بسبب عظيم نعمه عليهم.

4.2.8.1.57- الحديد: أمَرَ الله الإنسان بالإيمان لتصلح به حياته، وبالإنفاق لتصلح به حياة الجماعة، والقتال في سبيله للحفاظ على الدين والإيمان. جعل الإنسان مخيّراً بين أن يطيع فيفوز أو يعصي فيخسر، أرسل له بذلك الرسول والكتاب بالآيات البينات وأقام عليه الحجة والدليل والمعجزة. ويُعْلمُنا سبحانه أن كل المخلوقات تسبّحه وتنزهه عما ليس فيه من النقص، والإنسان ليس استثناء.

4.2.8.1.58- المجادلة: يأمر الله الناس أن يتبعوا شرعه ولا يخالفوا أمره، وأن يوالوه ولا يوالوا أعداءه لأنه معهم، يسمع سرّهم وجهرهم، وأن يتعاملوا فيما بينهم بالبرّ والتقوى، وينهاهم عن الإثم والعدوان، لأنهم محاسبون على كل أعمالهم وأقوالهم، مجازون عليها في الدنيا والآخرة.

4.2.8.1.59- الحشر: تنزيه الله تعالى نفسه لا إله إلا هو العزيز الحكيم عن قول الكافرين، وأن الكون كلّه ينزهه، لأنه يستحق ذلك بجلاله وكمال صفاته وأسمائه الحسنى. وأن مصلحة الإنسان هي في الطاعة وفي أن ينزّه الله مختاراً فيفلح في الدنيا ويفوز في الآخرة، فإن عصى وخالف حشر وعذّب في الدنيا وهو في الآخرة من أصحاب النار.

4.2.8.1.60- الممتحنة: وجوب تبرّؤ المؤمنين من أعداء الله وأعداء المؤمنين، وإظهار العداوة لمن بادر وأظهر العداوة منهم، ووجوب البر والقسط للذين لا يظهرون العداء ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم (وهم الآباء وأولوا الأرحام والأقرباء وأهل الذمّة والمعاهدين).

4.2.8.1.61- الصف: الإنكار على المؤمنين الذين يقولون مالا يفعلون، لأن الإيمان هو قول يصدّقه الفعل وجهاد بالأموال والأنفس، وهو التزام بالهدى ودين الحق، والأمر بالإخلاص في العمل لأجل نصرة الدّين بالأفعال لا بالأقوال، وبالعمل الجماعي الذي يحبّه الله في سبيل نشر الدّين وإظهاره على الدين كلّه.

4.2.8.1.62- الجمعة: الناس خلقوا لمقصد عظيم وهو معرفة الله وعبادته فمن فضل الله العظيم عليهم أن بعث فيهم رسولاً يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ضلال مبين. فإن هم تزكّوا بالإيمان والأخلاق وتعلموا القرآن والحكمة وعملوا بهما فقد فازوا، وإن بقوا على جهلهم في الشرك والفساد خسروا.

4.2.8.1.63- المنافقون: تقبيح حال المنافقين، وبيان تصرفاتهم ومواقفهم الكاذبة، ومخالفة أفعالهم لأقوالهم. وتحذير المؤمنين من هذه التصرفات لأنها تؤدي إلى الخسران في الدنيا والآخرة. وليكون هذا التحذير سبباً في صدقهم وعدم انشغالهم بالأموال والأولاد عن ذكر الله وعن الإنفاق.

4.2.8.1.64- التغابن: التنبيه على حقيقة أن الناس مجموعون إلى يوم الجمع والتغابن، والدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزل، والأمر بالعمل الصالح والاستعداد ليوم الحساب والتغابن، والتحذير من الكفر والتكذيب، والاستغناء بالدنيا عن المصير في الآخرة.

4.2.8.1.65- الطلاق: الأمر بتقوى الله في اتباع أوامره واجتناب نواهيه والتزام حدوده، والوعظ بالتوكل عليه وبالعمل الصالح والإنفاق، لأن كل هذه من صفات المؤمن التي تخرجه من الظلمات إلى النور وتعود عليه وعلى المؤمنين بالخير العميم في الدنيا والفوز العظيم في الآخرة، ومن لا يفعل يعذب في الدنيا ويخسر في الآخرة.

4.2.8.1.66- التحريم: الله أحل الحلال وحرم الحرام، ولم يأذن بذلك لأحد من خلقه. فلا تأخذنا العاطفة في النساء والأموال والأولاد، ولا الخوف من مخلوق، ولا صعوبة الظروف، ولا الضعف، ولا إرضاء نفس أو شهوة أو وسوسة شيطان، في مخالفة أمر الله بتحريم حلال أو تحليل حرام، فنقع في العقاب، في يوم لا عذر فيه، إنما الجزاء على الأعمال. فإن أخطأ المؤمن أو خالف جهلاً فليسارع بالتوبة فالله غفور رحيم.

4.2.8.2- المجموعة الثانية فيها الأمر بتطبيق شعائر الدّين، فهو نعمة وعقد مع الله فيه قوانين وأوامر ونواهي وتكاليف والتزامات يجب تطبيقها والالتزام بها والاستقامة عليها من أجل التوافق مع سنن الله والفطرة.

السور الثلاثة عشر التالية وهي: الملك والقلم والحاقّة والمعارج ونوح والجنّ والمزّمّل والمدّثّر والقيامة والإنسان والمرسلات والنّبأ والنّازعات: لسان حالها مجتمعة يقول إن الله سبحانه وتعالى قد أقام الحجة على النّاس جميعاً، وقد أعذر من أنذر، فلا يلومَنّ أحد إلا نفسه، من أراد الإيمان فقد بلغته رسالته وآياته وحججه وجميع أسبابه الواضحة والتامّة والمتكاملة، ومن أراد الكفر فلن يفيده شيء بعد هذا البلاغ المبين. وهو نفس ما قالته سورة المرسلات في مقصدها والذي تلخصه الآية: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} والآية: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}.

وهذه السّور تكمل بعضها بعضاً في إظهار الحقّ واعتراف الظالمين بكفرهم، وذلك بالدّفاع عن عدل الله، وعن عظيم نعمته وعنايته وتدبيره وتبليغه وهديه للإنسان، إلى سبل السعادة والرشاد، بينما الإنسان هو ظالم لنفسه بجهله وبإعراضه عن رسل الله وهديه ورسالاته وآياته. ففي سورة الملك: يظهر سبحانه وتعالى عظيم ملكه وقدرته وبركاته المتكاثرة، وعظيم رحمته لعباده بينما هم مكذبون ضالّون؛ وفي سورة القلم: دفاع عن الرسول بأنه في نعمة ربه وأنه على خلق عظيم لأنهم قالوا عنه مجنون؛ وفي الحاقة: دفاع عن القرآن، وإثبات صدق القرآن؛ وفي المعارج: حسن تدبير الله الأمر؛ وفي نوح: استنفاذها كل وسائل الدعوة والتذكير؛ وفي الجن: سهولة كلام الله وقربه من العباد، وحاجتهم إلى دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل؛ وفي المزمل: تأمرهم بما يصلحهم، بطاعة الله بأفضل الصلوات وهي قيام الليل، وأفضل الكلام وهو القرآن، وأفضل الأعمال وهي التبتل إلى الله؛ وفي المدثر: تنذرهم بأن مصيرهم مرهون بما كسبوا فإما الجنة أو النار، لكن أكثرهم مكذبين ومعرضين لا يتذكرون ولا يتعظون؛ وفي القيامة: تخويف الناس بالقيامة لعلهم يرتدعوا، وتبين أسباب كفر الإنسان لعلهم يتذكروا فيتعظوا؛ وفي الإنسان: بشائر وترغيب مع بيان دواعي وأسباب الإيمان وشكر الله وعبادته: وهي تكريم الله للإنسان وتهيئة جميع أسباب السعادة له في الدنيا والآخرة؛ وفي المرسلات: وعد الله حق، جعل يوم الفصل بين العباد والجزاء على الأعمال، وتشير إلى اكتمال في ما سبق من السور بأن أقيمت عليهم الحجة {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)} فليس بعد هذا من حديث يؤمنوا به؛ وفي سورة النبأ على التأكيد على صدق الميقات الذي جعله الله ميقاتاً للحساب؛ وفي النازعات التأكيد على صدق قيام الساعة والبعث والجزاء.

وهذا كلّه يتناسب مع مقصد وموضوعات سورة إبراهيم (في المجموعة الرابعة من السور في الربع الثاني من القرآن) حول نزول الكتاب ليخرج النّاس من الظّلمات إلى النّور، ثم نعم الله التي في السماوات وفي الأرض، ثم استحباب النّاس للدّنيا على الآخرة، ثم أن النّاس يجزون على ما يشاؤونه من حبّ اتّباع الضّلال أو حبّ اتّباع الهدى؛ وهي أيضاً نفس الموضوعات الأربعة التي يتحدّث عنها القرآن بمجمله؛ ومن لطفه تعالى ورحمته بخلقه ذكرت السّورة أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (3)} إبراهيم، كما أشرنا إليه في مكانه في مقصد سورة إبراهيم في كتاب تسهيل فهم سور القرآن.

4.2.8.2.1-السّور السّت التالية وهي: الملك والقلم والحاقّة والمعارج ونوح والجنّ، فيها دفاع عن عدل الله، وعن عظيم عنايته وتدبيره وتبليغه وهديه للإنسان، إلى سبل السّعادة والرّشاد، بينما الإنسان هو ظالم لنفسه بجهله وبإعراضه عن رسل الله وهديه ورسالاته وآياته، كما يلي:

ففي سورة الملك: دفاع عن الله، أي بمعنى بيان الحقّ، بأن تكاثرت بركات الله الخالق، واعتراف الكفار بأنهم لا يسمعون ولا يعقلون، لأن أكثر الناس يكفرون ولا يشكرون، وأكثر الآيات تتحدّث عن العقاب وعن الإنذار من العقاب في إشارة إلى كثرة المكذبين والكافرين. وسورة “ن”: دفاع عن الرّسول لأنهم قالوا مجنون. وسورة الحاقة: دفاع عن القرآن، وإثبات صدق القرآن. وسورة المعارج: دفاع عن حسن تدبير الله الأمر. وسورة نوح: دفاع عن الدعوة (أو المرسلين) واستنفاذها كل الوسائل (فلم ولن ينفعهم التذكير) فلا عذر لمن لم يؤمن (ثم استحقاق العذاب) وأن من لا يشاء الإيمان لن يؤمن مهما بلغت الحجج والحيل (والعذاب يطال من يستحقّه)، وأن أكثر الناس يعصون ولا يؤمنون (وفيها إثبات ظلم الإنسان لنفسه وعظيم جهله حين يعبد الأصنام ويعرض عن عبادة الله). وسورة الجنّ: دفاع عن سهولة كلام الله وقربه من العباد، وبساطة دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل، وحاجة العباد لنور الله وهديه في قرآنه، من شاء الإيمان يؤمن بأسهل الأسباب، فالجن آمنوا.

4.2.8.2.1.67- الملك: تبارك مالك الملك القدير الذي خلق النّاس برحمته لكي يسعدوا بوجودهم في ملكه، ويكافئهم على حسن العمل في الدّنيا وفي الآخرة، يمشون في الأرض على هُداه ويأكلون من رزقه ويتأملوا آياته فيذكروه ويشكروه على ما هم فيه من النعمة والخير المبارك، فإن فعلوا غفر الله لهم وأدخلهم في الآخرة جنّة نعيم، وإن كفروا أو كذبوا، ولم يسمعوا أو يعقلوا، فمأواهم عذاب جهنم وبئس المصير.

4.2.8.2.1.68- القلم: دفاع عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وتنزيهه عما يقوله الكافرون، وإبطال افتراءات الذين كفروا وقولهم عنه أنه مجنون.

4.2.8.2.1.69- الحاقّة: إثبات صدق القرآن بالتأكيد بالقسم على أنه كلام الله أنزله على رسوله. فيه حجّة وتذكرة للمتقين، وإنذار ووعيد شديد للكافرين، وفيه الخبر اليقين عن حتمية مجيء الحاقة التي فيها يتحقق الوعد الحق بالجزاء على الأعمال، والوعيد بالعقاب على المعاصي، وبأن يعطى كل صاحب حق حقه.

4.2.8.2.1.70- المعارج: حسن تدبير الله لأمر مخلوقاته: فقد خلق الإنسان ليعبده، وجبله على الحرص ليهتدي، فيصدق النذير ويحرص على العبادة، ففيها خيره وسعادته في الدنيا والآخرة، لأجل ذلك جعل الملائكة والرّوح تعرج إليه، بأمره ووحيه وتقديره، ورسالته وتدبيره، فمن اتبع تدبيره وأطاع هديه فاز وأفلح ومن عصى خسر وعذّب.

4.2.8.2.1.71- نوح: هو إنذار النّاس بشتّى الطّرق بأنّهم يجب أن يعبدوا الله وحده ويتقوه ويطيعوا رسوله. فإن هم فعلوا فتحت كل أبواب الخير عليهم في الدنيا ونجوا من العذاب الأليم، وإن عصوا ضاقت عليهم الدنيا ثم أهلكوا ثم أدخلوا النار في الآخرة. لكن أكثرهم لسوء الحظ أعرضوا وعصوا وضلّوا وأضلّوا فاستحقوا العذاب في الدنيا والآخرة.

4.2.8.2.1.72- الجنّ: سهولة كلام الله وقربه من العباد، وبساطة دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل، وأن من أراد الهدى يؤمن بأسهل الأسباب، كما آمن ذلك النفر من الجنّ، ليكون فيه درس وموعظة للإنسان فهو المخاطب بالقرآن.

4.2.8.2.2- كما علمنا من السّور السّتة السّابقة: الملك والقلم والحاقّة والمعارج ونوح والجنّ، أن دين الله سهل الفهم وسهل القبول بسيطة جداً رسالته، وهو دين الحق الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل. لكن لا يعني بساطة فهم وقبول الدّين أنه سهل التطبيق، فليس هذا هو المقصود، بل هو دين عهد وميثاق ومسئوليات، لا دين انفلات وعدم مبالاة؛ هو حمل ثقيل وعمل وطاعة لله؛ لأن الدّين عقد مع الله فيه قوانين وأوامر ونواهي وتكاليف والتزامات يجب تطبيقها والالتزام بها والاستقامة عليها من أجل التوافق مع سنن الله والفطرة؛ ومن أجل بناء جسم سليم صحيّاً ونفسيّاً على مستوى الفرد، وبيت فيه سكن واستقرار على مستوى الأسرة، ومجتمع صالح فيه حرّية فكر وتعليم وبناء وقوانين عادلة وحفظ حقوق وأعراض ومحاربة فساد على مستوى الدولة، وكيان فيه أمن وأمان ورخاء ونعمة على مستوى الأرض التي نعيش عليها.

والسّورة المناسبة التي يجب أن تلي سورة الجنّ هي سورة المزّمّل: لأنها تأمر بالقيام بأفضل الصّلوات التي يستجاب فيها الدعاء وهي قيام الليل، وأفضل الكلام الذي نقرأه وهو القرآن، وأفضل الأعمال وهي التبتّل إلى الله. فهكذا أمرت المزّمّل: بأن اعبد الله واتّصل به بالصّلاة والدّعاء التي هي خير الأعمال، وأفضل أوقاتها في قيام الليل، واقرأ كتابه بترتيل وتدبّر وفهم، وتقرب إليه بالتّبتّل أي بالمواظبة والإكثار من ذكره والتفرّغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك، فالله خفّف على المؤمنين بسبب انشغالهم في ضرورات حياتهم.

4.2.8.2.2.73- المزّمّل: الأمر بقيام الّليل وترتيل القرآن والتّبتّل إلى الله؛ والصّبر على تحمّل ثقل الوحي وأعباء الدّعوة إلى دين الله، والصّبر على أذى المشركين وتكذيبهم دين الله، الذي هو صلاة وزكاة وعمل خير وإصلاح في الأرض. وهو يتطلّب جهد وصبر واتّباع للحقّ، وليس انشغال بالنّعمة عن الحقّ.

4.2.8.2.2.74- المدّثّر: الأمر بالإنذار بأنهم محاسبون على أعمالهم وعلى النعمة التي استخلفهم الله عليها، والتذكير بالقرآن بأن مصيرهم مرهون بما كسبوا فإما الجنة أو النار. لكن أكثر الناس مكذبين ومعرضين شغلتهم الدنيا لا يتذكرون ولا يتعظون.

4.2.8.2.3- الترغيب والترهيب بالثّواب والعقاب عن طريق تأكيد وإثبات البعث والحساب وصدق وعد الله بالفصل بين النّاس بحسب أعمالهم فالنعيم للمؤمنين والعذاب للمكذبين.

في هذه السّور الخمسة: القيامة والإنسان والمرسلات والنّبأ والنّازعات تتشابه إلى حدّ كبير في المقصد والموضوعات التي تعالجها، وهو نفس الموضوع المسيطر على عقول النّاس في مكّة والمتعلق باعتقادهم باستحالة البعث والحساب على الأعمال. ومن أجل تأكيد وإثبات البعث والحساب خاطبت السور مجتمعة ومنفردة الإنسان: بالوعيد بالعذاب في النار مع ذكر تفاصيل عن بعض أحداث الموت والبعث وبالتخويف والترهيب من أهوال يوم القيامة، وكذلك بالوعد بالفوز بالجنة مع ذكر النعيم والبشارة بالجزاء الكريم العادل في الآخرة؛ وخاطبت عقل الإنسان بآيات الله العظيمة في خلق الإنسان نفسه وخلق الكون من حوله، وذكّرته بالقصص وبذكر العلامات والآيات التي تؤكد صدق الوعد والوعيد بالبعث والحساب والجزاء؛ ويتشابه مقصود كل سورة وموضوعاتها حول البعث والحساب، وكأنها تكمّل بعضها بعضاً مع التركيز على جانب من جوانبه: ففي سورة القيامة ركزت على قدرة الله على جمع العظام وإحياء الموتى، وفي سورة الإنسان على أن الإنسان خلق ليبتلى بالشكر فيدخل في رحمة الله أو الكفر فيعذب عذاباً عظيماً، وسورة المرسلات على صدق الوعد بيوم الفصل بين العباد والجزاء على الأعمال، وفي سورة النبأ على التأكيد على صدق الميقات الذي جعله الله ميقاتاً للحساب، وفي النازعات التأكيد على صدق قيام الساعة والبعث والجزاء.

4.2.8.2.3.75- القيامة: تأكيده سبحانه وتعالى أن القيامة قائمة، لا ريب فيها، وإثبات ذلك بالحجة والبرهان العقلي. ويعتقد الناس بحبّهم وانشغالهم وإيثارهم للدنيا استحالة القيامة، لكن كمال عدل الله يقتضي أن يبعث الناس ويحاسبوا على أعمالهم ليجازى كل إنسان على ما قدم وأخر.

4.2.8.2.3.76- الإنسان: الله خلق الإنسان وأنعم عليه وسيختبره إمّا شاكراً وإما كفوراً، وقد بيّن له ذلك وهداه السّبيل، وبأنه لن يترك سدى. وجعل الله جزاء شكره الفوز في الآخرة بجنات وسرور ونعيم وملك كبير، وجزاء كفره عذاب في النار وسعير.

4.2.8.2.3.77- المرسلات: التأكيد على أن وعد الله بوقوع يوم الفصل بين العباد والجزاء على الأعمال حق. الويل في ذلك اليوم للمكذبين الذين لا عذر لهم بعد أن قامت عليهم الحجة، والنجاة والتكريم للمتقين المحسنين الذين آمنوا بكلام الله.

4.2.8.2.3.78- النبأ: تأكيد صدق النبأ العظيم، ببيان علاماته وآياته، ووصف ما أعده الله من النعيم للمتقين، لكي يستبشروا فيتخذوا إلى الله سبيلاً بعمل الصالحات، والوعيد من هول يوم القيامة ووصف ما أعدّ للكافرين من العذاب، وتمني الكافر أن يكون تراباً، لكي يرتدعوا.

4.2.8.2.3.79- النازعات: التأكيد على حقيقة قدوم الساعة التي ينكرونها، ويسألون طغياناً وتعنتاً عن وقتها. وهي ثلاث مراحل تبدأ بالموت والقبر، ثم البعث والحساب، ثم إما الجنة أو النار.

4.2.8.3- المجموعة الثالثة فيها عتاب شديد على الإنسان المعرض عن التذكرة، المقصّر في حق ربه، والمتجرّئ على مساخطه، والمكذب لرسالته، وذلك بالتعجب من كفر الناس بالتذكرة النافعة لهم، وبالتأكيد على صدق وعد الله لهم بالبعث والجزاء على الأعمال، وفي هذا التأكيد تهديد شديد وإنذار بأن كل نفس علمت بالتذكرة ما هي مقبلة عليه في يوم الوعيد، في السور السبع: عبس والتكوير والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والطارق.

وهذا يتناسب مع مقصد وموضوعات سورة الحجر (وهي السورة الثالثة في المجموعة الرابعة من السور، في الربع الثاني من القرآن) حول أنه لن يحصل الأمان والرزق والسعادة إلا بالإسلام الذي هو: تسليم الصنعة لصانعها لكي يسيّرها ويدبر أمرها بعلمه بما جعله كامن فيها من خصائصها ومتطلبات بقاءها. بدليل أن الذين كفروا حين يرون العذاب والشقاء الذي هم فيه بسبب كفرهم يودون لو كانوا مسلمين، والكافر أيضاً كلما رأى حالاً من أحوال الشقاء والعذاب ورأى ما يقابله من أحوال سعادة المسلم ودّ لو كان مسلماً؛ وفي سورة الحجر قصص تسرد حال من أسلم، وحال من لم يسلم، ثم ما حصل لهؤلاء المسلمين بإسلامهم، وللكفار وهم بعيدين عن الإسلام.

بعد أن خاطبت العشر سور من الحديد إلى التحريم المؤمنين بما هو مطلوب منهم وأمرتهم بالتسبيح وتنزيه الله لأجل تحقيق خير الدنيا والفوز في الآخرة، ورغبتهم بالإيمان وتقوى الله ببيان منافع الإيمان، وحذرتهم من الانحراف عن طريق الحق الذي خطه الله لهم ودعاهم إليه. وبعد أن أقامت السور الست من الملك إلى المدثر الحجة على الناس جميعاً، فمن أراد الإيمان فقد بلغته الرسالة والآيات والحجج، ومن أراد الكفر فلن يفيده شيء بعد هذا البلاغ المبين. وقد أمروا بتطبيق شعائر الدين، من أجل الانسجام والتوافق مع سنن الله والفطرة. وبعد الترغيب والترهيب بالبعث والحساب وصدق وعد الله بالفصل بين الناس بحسب أعمالهم فالنعيم للمؤمنين والعذاب للمكذبين: الذي أثبتته السور الخمسة: القيامة والإنسان والمرسلات والنبأ والنازعات، بالتأكيد على أن البعث ضرورة لإقامة العدل وتمام النعمة على الإنسان، وبإظهار نعم الله على الإنسان في الإيجاد من العدم، بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، وبأن هداه السبيل، وأسبغ عليه نعمه، ومن تمام النعمة أنه لن يترك سدى بل سيبعث لإقامة العدل يوم القيامة، وأقام على ذلك الدليل بالخلق أزواجاً، والنوم سباتاً، والليل والنهار، والنجوم والجبال والسماوات والسهول والجنات، وبالموت والحياة، وبالوعد والوعيد، والبشير والنذير، وبالحجة والعذر، واستبدال الأمم المكذبة، وغيره. تليها السور السبعة: عبس والتكوير والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والطارق، فيها عتاب شديد على الإنسان المعرض عن التذكرة، المقصّر في حق ربه، والمتجرئ على مساخطه، والمكذب لرسالته: ففي عبس فإن القرآن وما فيه من الذكر والتذكرة أنزله الله لمن أراد أن يزّكى؛ وفي التكوير تأكيد بإن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء أن يستقيم، وأن كل نفس تعلم ما أحضرت لذلك اليوم؛ وفي الانفطار خلقك في أحسن تقويم، فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم، أو تجحد إحسان المحسن؟ لا بد أن تحاسبوا على ما عملتم؛ وفي المطففين الويل جزاء الفجار، والنعيم للأبرار، لكن أكثركم مع هذا الوعظ والتذكير، لا تزالون مستمرّين على التكذيب بالجزاء، فالعيب في الإنسان وليس في الحجة والتذكرة؛ وفي الانشقاق فمالهم لا يؤمنون ولا يسجدون بل يكذبون، مع أنهم ملاقوا ربهم يوم القيامة، ساعون إليه بأعمالهم، من خير أو شر؛ قابله في سورة البروج أن لاقى {أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)} جزاء أعمالهم {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)}، و{الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (11)} فازوا بالجنة؛ وفي الطارق التأكيد على أن ما كل نفس إلا أوكل بها مَلائكة تراقبها وتحفظها وتحفظ عليها أعمالها لتحاسب عليها يوم القيامة، كما يلي:

4.2.8.3.80- عبس: التأكيد على أن الأمر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو التذكرة للناس جميعاً، بدون تمييز أو مفاضلة، لكي يزكوا أنفسهم بالقرآن: وهي طاعة الله واتباع سبيله كما جاء في كتابه، لا فرق في دين الله لأحد على أحد إلا بالتقوى وخشية الله. فأما من سعى إلى الذكر فزكى نفسه فقد أفلح وفاز، وأما من أعرض واستغنى فقد خاب وخسر.

4.2.8.3.81- التكوير: التأكيد أنه إذا قامت القيامة علمت كل نفس يقيناً ما أعدت وأحضرت من خير أو شر، وهذه تذكرة من رب العالمين أرسل بها المرسلين لمن شاء الاستقامة.

4.2.8.3.82- الانفطار: التأكيد على أن القيامة حق ويقين، فإذا قامت علمت نفس ما قدمت وأخرت من خير أو شر. أي ما أهدرت من النعيم لأجل دنياها، وما أخرت لآخرتها بعمل الطاعات والصالحات والإنفاق في سبيل الله. وفيه زجر عن المعصية، وترغيب في الطاعة.

4.2.8.3.83- المطففين: تأكيد عدل الله وميزانه الدقيق في محاسبة الناس على أعمالهم، وأنه لا بد من بعث العباد يوم القيامة ليحاسبوا، ويعطى كل صاحب حق حقه جزاءاً وفاقاً على ما قدم من عمل في الدنيا، فيكون جزاء الأبرار دار النعيم، والفجار دار الجحيم.

4.2.8.3.84- الانشقاق: التأكيد على أن الإنسان في هذه الدنيا ساع إلى ربه يكدح بأعماله، ثم يوم القيامة يلاقي ربه، الذي يراقبه وهو به عليم، فيجازيه على قدر إيمانه واتباعه القرآن وعمله الصالحات بالأجر الغير ممنون أو على تكذيبه بالعذاب الأليم.

4.2.8.3.85- البروج: تأكيد أن لكلّ عمل جزاء، إمّا العذاب بالنار للمفسدين الظالمين أو الفوز بالجنة للمؤمنين المصلحين. وأن الملك لله وحده، يفعل ما يريد، أنزل الناس منازل، يعملون في الدنيا أحراراً، هداهم بالقرآن للإيمان والعمل الصالح، ووعدهم بالجزاء، وأقام عليهم الحجة والشهادة.

4.2.8.3.86- الطارق: التأكيد على أن ما كل نفس إلا أوكل بها مَلائكة تراقبها وتحفظها وتحفظ عليها أعمالها لتحاسب عليها يوم القيامة.

4.2.8.4- المجموعة الرابعة تتحدث عن أمر الإنسان بقيام بواجبه وما فيه مصلحته (فرد وجماعة) وبما يحقق له السعادة والفوز.

السور من الأعلى حتى البينة (اثنتا عشرة سورة): جميع هذه السور تأمر وتكمل بعضها بعضاً وترتبط وتتناسب بطابع أمر الإنسان بالقيام بواجبه وما فيه مصلحته (فرد وجماعة) وبما يحقق له السعادة والفوز: بذكر الله وطاعته واتباع رسوله والعمل بكتابه من العبادات والعمل الصالح والقيام بواجبات الدين من إنفاق وإطعام ومكابدة الهوى وبتزكية النفس وطلب العلم، كما يلي:

في سورة الأعلى: الأمر بالتسبيح للأعلى الذي خلق وقدر وهدى ورزق وأقرأ والأمر بالتزكية والصلاة وإيثار الآخرة؛ وفي الغاشية: الأمر بالتذكير بقدرة الله على البعث والحساب، بالسعي وبالنظر في الإبل والسماء والجبال، فإنهم محاسبون ومجازون؛ وفي الفجر: الأمر بإكرام اليتيم وإطعام المسكين والتقديم للحياة الآخرة؛ وفي البلد: الأمر بالمكابدة، واقتحام عقبات الهوى والدنيا التي تمنع الخير والإنفاق: الأمر بإطعام المسكين والتواصي بالحق والمرحمة؛ وفي الشمس: الأمر بالتزكية والتقوى وعدم الفجور والقتل؛ وفي الليل: الأمر بالعطاء والتقوى والتصديق والنهي عن البخل والاستغناء والتكذيب؛ وفي الضحى: الأمر بألا يقهر اليتيم ولا ينهر السائل وبالحديث عن النعمة؛ وفي الشرح: الأمر بالنصب والرغبة إلى الرب؛ وفي التين: الأمر بالإيمان والعمل الصالح والنهي عن التكذيب؛ وفي العلق: الأمر بالقراءة باسم الخالق؛ وفي القدر: الأمر بقيام ليلة القدر المباركة، ببيان شرف وعلو قدر ليلة القدر، وعظمة القرآن المنزل في تلك الليلة المباركة؛ وفي البينة: الأمر باتباع البينة وهي (الرسول والكتاب): بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلّم ب {اقْرَأْ}، وأنزل القرآن الكريم بالصّحف المطهّرة (وبسببه تفرق الناس بين عابد مخلص الدين جزاؤه الجنة، وكافر جزاؤه النار).

وهذا يتناسب مع مقصد وموضوعات سورة النحل (وهي السورة الرابعة في المجموعة الرابعة من السور في الربع الثاني من القرآن) والتي مقصدها وجميع موضوعاتها: حول أمر الله الناس بالتوحيد والتقوى، وأنه لا مفر من توحيد الله وتقواه، لأن خلق الإنسان وفطرته قامت على هذا المقصد، وكل ما في الكون يسير وفق الأسباب والسنن التي خلقها الله فيه، فمن أطاع الله وافق الفطرة وحصل على معيته الله وإحسانه، ومن عصى الله فقد خالف الفطرة وعرّض أو وضع نفسه تحت العقاب والعذاب. فهي تأمر المؤمنين بالإيمان بالله وحده لا شريك له وتنزيهه عن الشركاء، ثم بالتقوى، وتتوعد المشركين بأن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر، فلا يستعجلوه.

4.2.8.4.87- الأعلى: يأمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بأن يسبحوه وينزهوه عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته ونعمته عليهم في الدنيا وعدله في الآخرة، ويأمرهم بالتذكير بما أعدّه من الخير والنعيم لمن تزكى والعذاب الدائم في النار لمن آثر الحياة الدنيا.

4.2.8.4.88- الغاشية: الأمر بالتذكير بالبعث والحساب، وتأكيد قدرة الله عليه.

4.2.8.4.89- الفجر: الأمر بالإنفاق على الفقراء والمساكين لأن فيه الإصلاح والفوز في الدنيا والآخرة، والنهي عن البخل لأنه يؤدي إلى الطغيان والفساد والهلاك في الدنيا والآخرة.

4.2.8.4.90- البلد: الأمر بمكابدة هوى النفس والصعاب والشدائد، والتخلص من حب المال ومغريات الدنيا، والأمر بالمبادرة باقتحام العقبات التي تقف في طريق الخير بالإنفاق لتحرير العبيد وإطعام اليتيم والمسكين والعمل الصالح. وهو مخيّر بين طريق أصحاب الميمنة للفلاح والسعادة، وطريق أصحاب المشأمة للخسران والشقاء.

4.2.8.4.91- الشمس: المقصود تأكيد فوز من طهّر نفسه ونمّاها بالطاعة والخير، وخسارة من دسّاها وأخفاها في المعاصي، وقد أقسم تعالى بنفسه ومخلوقاته عليه، وجعل لذلك الاعتبار بقصة ثمود، وحال من طغى.

4.2.8.4.92- الليل: تأكيد هدي الله وسنته في إنفاق المال لتزكية النفس، وسعي الناس المختلف والمتباعد في ذلك. فمنهم ساع بالعطاء والتقوى مصدق بالوعد بالجزاء، فسعيه ميسر لليسرى، ومنهم ساع بالبخل والإعراض عن الله وبالتكذيب بالحسنى فسعيه ميسر للعسرى.

4.2.8.4.93- الضحى: التأكيد على أن الله خلق الله الإنسان ليعطيه ويواصل ترقيته وتكريمه حتى يرضيه، لا ليتركه. فلا يتعجل الإنسان عطاء ربه فإن لم يرض في الدنيا فسيرضى في خير من الدنيا وهي الآخرة.

4.2.8.4.94- الشرح: الأمر بمواصلة عبادة الله والتقرب إليه وحده، فقد تكفل لك بأن يشرح لك صدرك، ويزيل عنك همك وحرجك، ويرفع لك ذكرك، ووعدك بما جرت به سنتهُ، فجعل لك مع العسر يسراً.

4.2.8.4.95- التين: خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، خَلقاً وخُلُقاً، وصورة وفطرة، مؤمن بالدين يعمل الصالحات، فله أجر غير ممنون. ثمّ ردّه الله إلى أسفل سافلين بسبب تكذيبه بالدين ومخالفته للفطرة القويمة.

4.2.8.4.96- العلق: الأمر بالقراءة وطلب العلم مستعينين بالله، على تدبر آياته وسننه في مخلوقاته ونعمه وكتبه ورسالاته، فبالقراءة يهتدي الإنسان ويرتقي ويتقرب من ربه ويتقيه ويطيعه ويعبده. يقابله استغناء الإنسان عن القراءة، وانشغاله مستعيناً بالنعمة على الطغيان والمعصية، وغفلته عن المآل والوعيد بالرجعى إلى ربه للحساب والجزاء.

4.2.8.4.97- القدر: بيان فضل ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، يتنزل فيها الملائكة والروح بأمر الله، أي قدره وقضاءه، قد أنزل الله فيها القرآن لبركتها وعظيم فضلها.

4.2.8.4.98- البينة: لن ينفك الكافرون عن كفرهم ويعودوا إلى الإيمان حتى يأتيهم من الله البينة أو الهدى.

4.2.8.5- السور العشرة: من الزلزلة إلى الهمزة (6 سور) تخويف من الحساب والجزاء في الآخرة، وسورتي الفيل وقريش عن الجزاء في الدنيا، وسورتي الماعون والكوثر عن مصير المكذبين والمؤمنين، كما يلي:

بعد أن أمرت السور السابقة من الأعلى حتى البينة (12 سورة) بالعمل في التسبيح والذكر والإنفاق والإطعام والتزكية وطلب العلم وغيرها من العبادات والعمل الصالح. وعلمنا أن العمل واجب، وأن الإنسان موجود على الأرض ليعمل ويكافح، تأتي السور من الزلزلة إلى الهمزة (6 سور) لتؤكد وتذكر بعض التفاصيل عن أن الناس محاسبون ومجازون على أعمالهم في الآخرة، ثم سورتي الفيل وقريش تؤكدان أنهم أيضاً مجازون على أعمالهم في الدنيا أيضاً قبل الآخرة. وسورتي الماعون والكوثر تلخصان مصير الفريقين في الماعون فالويل للمكذبين بالحساب ويعملون الأعمال التي ذكرتها السورة والكوثر فالكوثر والخير الكثير للنبي ومن آمن معه. ثم للكافرين دينهم ولي دين، فإذا جاء النصر فسبح واستغفر، أما الكافرون فلم يغني عنهم لا مالهم ولا كسبهم من العذاب. فالله أحد استعن به على شر المخلوقات والحساد وشياطين الجن والإنس.

وهذا يتناسب مع مقصد وموضوعات سورة الإسراء (وهي السورة الخامسة في المجموعة الرابعة من السور في الربع الثاني من القرآن) والتي مقصدها وجميع موضوعاتها، حول التوكل على الله وحده لا شريك له، مصدر النعم الواسعة، والكرامات العظيمة، ثم التفكر في آياته، وتنزيهه عن كل مالا يليق بكماله وجلاله وعظيم سلطانه، وشكر نعمه، وعبادته، واتباع دينه وشرعه الذي يهدي لما هو أقوم؛ فالله سميع وبصير وعليم بحاجات عباده وأفعالهم، أنزال عليهم الكتب والهدى لعلمه بجهلهم وظلمهم لأنفسهم وتسرّعهم وقصر نظرهم. الإسراء تتحدث عن معراج الرسول صلى الله عليه وسلّم وعن علو بني إسرائيل وعن عطاء الله الغير منقطع {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)} وعن التفضيل في الدرجات في الدنيا وفي الآخرة، وسورة الكوثر تشير إلى الخير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله، في مقابل العذاب الشديد للقرى في الإسراء والبتر لمن يبغض الرسول في الكوثر والويل للذين عن صلاتهم ساهون والمراؤون ويمنعون الماعون في الماعون، وهكذا.

4.2.8.5.1- التخويف من الحساب والجزاء في الآخرة، في ست سور من الزلزلة إلى الهمزة:

هذه السور المباركة (من الزلزلة إلى الهمزة) تحذّر الإنسان وتنذره وتدعوه الى الانتباه لما بعد هذه الحياة المادية التي نعيشها على الأرض، وأنه بعد الموت مقبل على حساب شديد في اليوم الآخر الذي يُنصّب فيه ميزان العدل المطلق لكي تردّ المظالم إلى أصحابها ويأخذ كل صاحب حق حقه، فيثاب فيه المحسن ويعاقب المسيء. ففي سورة الزلزلة: تخويف للإنسان بالزلزلة وتنبيهه الى ما بعد هذه الحياة، والمحاسبة التي تقع بعدها، في اليوم الآخر؛ وفي العاديات: خوفت الإنسان من قبائح أفعاله لأن الله به خبير، وذلك بعد أن بدأت بذكر نعمة الخيل التي تغير على الأعداء، وتعدد من صفاتها العظيمة المنفعة للإنسان، وأنذرت وحذرت من كنوده وجحوده وبخله الشديد وحبه للدنيا؛ وفي القارعة: خوّفت الإنسان من ذلك اليوم الذي يكونون فيه كالفراش والجبال كالعهن؛ وفي التكاثر: التخويف بالموت والمقابر، وختمت بالتهديد بالجحيم والسؤال عن النعيم؛ وفي العصر: أقسم تعالى على أن الإنسان لفي خسر أي خسارة وهلاك، إلا الذين آمنوا وعملوا؛ وفي الهمزة: الويل والعذاب لكل من يحسب أن نجاته وخلوده بجمع المال.

4.2.8.5.1.99- الزلزلة: التحريض على فعل الخير، والتحذير من فعل الشر، وذلك عن طريق التخويف من أحوال وأهوال وشدائد يوم القيامة والحساب، حيث تزلزل الأرض ويخرج الموتى ويذهل الإنسان من هول الموقف، ثم التنبيه على الحساب العادل في الآخرة على الأعمال والجزاء.

4.2.8.5.1.100- العاديات: التهديد والوعيد للناس بإيثارهم الدنيا وإهمالهم الاستعداد للآخرة؛ وأن ربهم بهم لخبير سيخرج ما في صدورهم ويحاسبهم على النعم التي أنعمها عليهم، فأعرضوا وكفروا به، وانشغلوا عن دينه بحب المال.

4.2.8.5.1.101- القارعة: تحذير الناس وتخويفهم بالقارعة، لأن مصيرهم يتحدد يومها: إما العيشة الراضية بالنعيم، أو الهويّ في الجحيم، وذلك يعتمد على قيمة أعمالهم وثقلها في ميزان الله العادل.

4.2.8.5.1.102- التكاثر: التأكيد على أن سبب هلاك الإنسان يوم القيامة هو إلتهائه بالتكاثر وانشغاله به عن العلم العبادة والعمل للآخرة. ثمّ الوعيد والتهديد الشديد بأنهم سيعلمون عاقبة انشغالهم، وأنهم سيحاسبون وينالون الجزاء العادل يوم القيامة.

4.2.8.5.1.103- العصر: الناس كلّهم في خسران أكيد إذا لم يؤمنوا ويعملوا الصالحات ويتواصوا بالحق والصبر.

4.2.8.5.1.104- الهمزة: الخزي والعذاب لكل من يحسب أن نجاته وخلوده بجمع المال، فيطعن ويعيب على الناس محقراً أعمالهم ومترفعاً عليهم.

4.2.8.5.2- الجزاء في الدنيا، في سورتي الفيل وقريش:

في سورة الفيل: إنذار شديد من غضب الله وقدرته على صرف كيد أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأضل الله عملهم، وأبادهم ومحى أثرهم. وفي سورة قريش: إنذار أنهم إذا أرادوا المحافظة على نعمة الله وهي الرزق والأمن فعليهم بالطاعة لما أمر. السورتان دليل على أن الجزاء يقع في الدنيا قبل الآخرة، وفيهما إنذار لمن يظن بأن الله غافل عما يفعل الظالمون فيتمادون في المعاصي، وبشارة لمن يعبد الله ويعمل الصالحات بأن الله معهم يحميهم وينصرهم وييسر لهم أسباب الرزق والأمن والسعادة.

4.2.8.5.2.105- الفيل: إنذار شديد وتحذير من غضب الله وقدرته على صرف كيد أعداءه، فيضلّهم ويهزمهم ويهلكهم. وبالمقابل: بشارة للمؤمنين بدفاع الله عن حرماته ونصره أولياءه المؤمنين.

4.2.8.5.2.106- قريش: الترغيب بعبادة الله الذي ألّف شملهم، وأنعم عليهم بالرزق، ووهبهم الأمان. فالعبادة فيها مصلحة كبيرة للناس، وتدوم بها النعم.

4.2.8.5.3- المصير النهائي للمكذبين والمؤمنين في سورتي الماعون والكوثر:

سورة الماعون: مقصدها ذمّ أعمال من يكذب بالجزاء والحساب في الآخرة (يوم الدين) لأنه لن يردعه رادع عن ظلم الناس وأخذ حقوقهم. والوعيد للمنافقين (فحالهم كحال المكذبين بالبعث والجزاء) وهم الساهون عن صلاتهم والمراؤون بأعمالهم والمانعون الماعون وكل ما ينفع الناس ويعينهم، وذلك لتكذيبهم بالجزاء. وفي سورة الكوثر: الوعد بالعطاء والخير الكثير للرسول صلّى الله عليه وسلم، ومن آمن معه، والذل والحرمان لأعدائه ومبغضيه.

4.2.8.5.3.107- الماعون: إنذار وتهديد شديد بالهلاك للمصلين الذين يكذّبون بالآخرة والحساب ويقسون على اليتيم ويحرمون المسكين من الطعام ويراؤون في صلاتهم وأعمالهم ويمنعون ماعونهم عن ذوي الحاجة إليه.

4.2.8.5.3.108- الكوثر: بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أُعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة، وبالخزي لأعدائه.

4.2.8.6- المجموعة السادسة تتحدّث عن الأمر بالتبرؤ من الكافرين ومن عبادتهم، والاعتزاز والرضى بدين الله؛ والتسبيح بحمد الله والاستغفار، فقد آن أوان النصر والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ والهلاك والخسران في الدنيا والآخرة لمن يستضعف أهل الحق، فلن يغني عنهم مالهم وما كسبوا؛ فأعلن ما جئت به {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)}؛ و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)}؛ و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)}؛ فالله أحد استعن به على شر المخلوقات والحساد وشياطين الجن والإنس.

وهذا يتناسب مع مقصد وموضوعات سورة الكهف (وهي السورة السادسة في المجموعة الرابعة من السور في الربع الثاني من القرآن، والتي يختتم بها النصف الأول كما يختتم بهذه السور النصف الثاني من القرآن)، وبتأمل السورة حسب ترتيب آياتها نجد أنها ابتدأت بمقدمة فيها بيان أن الله سبحانه خلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وجعل سبحانه ما على الأرض لهذا الابتلاء، وأن الابتلاء يكون بفتنة الدين، وبالمال، وبالمكاره، وبالقوة والملك وتذليل الأسباب؛ ثم بعد المقدمة أربعة من القصص، تبين عظمة الإيمان والعمل الصالح في حياة الإنسان، إذ بهما وبسببهما لا يبالي بما سوى الله، فلا تغرره زينة في الحياة ولا تردّه عن سبيل الهدى فتنة؛ فكم هو مفيد ورائع العمل الصالح لحياة النّاس، وكم هو ضارّ ومهلك الكفر والشرك في حياتهم؛ لكن قصر نظر الإنسان يجعله يسيء إلى نفسه، حين يرى الصورة من حوله ناقصة، بمحاولته تجهم فهم مالم يحط به خبراً، لأن الكثير من التفاصيل والأحداث الخفية عنه لم يرها بسبب محدودية معرفته وخبرته، وضعف إمكانياته.

4.2.8.6.109- الكافرون: الأمر بالتبرؤ من عبادة الكافرين، وأن يخاطبوا إذلالاً لهم واعزازاً لدين الله: إن رضيتم بدينكم، فقد رضينا بديننا، لكم جزاء دينكم، ولنا جزاء ديننا.

4.2.8.6.110- النصر: أمر الرسول والمؤمنين بالتسبيح بحمد الله واستغفاره، ليتوب الله وينصر ويفتح عليهم في الآخرة، كما تاب ونصر وفتح عليهم في الدنيا.

4.2.8.6.111- المسد: الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة لمن يستضعف أهل الحق ويحتقرهم ويصد عن دين الله، فلن يغني عنه ماله وما كسب، ولن تشفع له قرابته لأولياء الله؛ ويشترك معه في العقاب كل من أعان على مثل هذا الفعل اللئيم الخسيس.

4.2.8.6.112- الإخلاص: التعريف بالله، وهو: الله الأحد الصّمد. أو الفرد الصّمد. {الله} هو الاسم الأعظم الذي يحتوي كل أسماءه وصفاته، {الأحد}: المنفرد بالإلهية، {الصّمد}: الذي يصمد إليه في الأمور، ويقصد في الحوائج والشدائد.

4.2.8.6.113- الفلق: أمر المؤمنين بالاعتصام بالله، ربّ الفلق من شرّ مخلوقاته: وبالأخص الليل إِذا أظلم، والسّواحر بالنّفث في العقد، والحاسد الذي يتمنى زوال النّعمة عن النّاس.

4.2.8.6.114- النّاس: الأمر بالعياذ بربّ النّاس وملكهم وإلههم من شرّ الشّيطان، الذي يوسوس في صدور النّاس، {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}، الذي لا قبل لهم بدفعهما إلا بعون الإله.

أعلى الصفحة Top