العودة إلى فهرس المقدمة والتمهيد


تمهيد عن مقصد القرآن وموضوعاته وتناسبها: إنّ مقصد القرآن هو بيان طريق الهدى، إلى الصّراط المستقيم الموصل إلى الفلاح والسّعادة في الدّنيا والآخرة، قال تعالى: {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} البقرة، وقال: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)} طه. ومن ثمّ فلأن القرآن يجمع مائة وأربع عشرة (114) سورة، فلهذا المقصد الرئيسي تفرّعات ومقاصد تتفرّع في 114 سورة، هي مجموع سور القرآن، والتي مقاصدها (كما سيأتي بيانه) عبارة عن ثناء أو أمر أو نهي أو بيان أو تعريف أو تأكيد أو بشارة أو نذارة أو غيرها من المقاصد التي تسهّل فهم معنى الهداية إلى الصّراط المستقيم، واتّباعه، وهي متفرّعة إلى مقصد واحد لكلّ سُورة، (وكلّ سورة هي جزء من مقصد القرآن الرئيسي)، ثمّ كلّ سورة تتفرّع إلى أو تتضمّن عدّة مواضيع تبيّن وتسهّل فهم مقصد السّورة وتشرح تفاصيل حقائقها وأحداثها، وهذه المواضيع هي عبارة عن مجموعات من الآيات مترابطة في وحدة موضوعيّة تشتمل على القصص والعبر والمواعظ والأمثال والأحكام والشّرائع وأنباء المبدأ والمعاد، وعجائب خلق الله وغيرها، مترابطة فيها الآيات مع بعضها حول الموضوع أو المواضيع، ثمّ مشدودة هذه المواضيع في النّهاية إلى المقصد الواحد، في وحدة موضوعية واحدة ومتناسقة ومتكاملة ولها حدودها ومعانيها الواضحة. إنّ الغرض هو بيان هذه المقاصد المشدودة اليها مواضيع السّورة قدر الإمكان ثمّ تسليط الضّوء على التّناسق والسّياق أو الشّكل العام للسّورة كي يتسنّى للقارئ أن يربط أثناء قراءته كلّ التفاصيل التي تبدو متفرّقة بالمقصد الرّئيسي، فيسهل فهمها في سياقها متكاملة ومتناسبة ومع أخواتها في حدود مقصدها الرّئيسي. بهذا يكون قد اتصل المقصد بالمواضيع، وفهمنا لماذا أتت هنا هذه الكلمة أو الكلمات، أو الآية أو الآيات، وفهمنا لماذا أتت هنا هذه الجزئيّة من قصّة النّبي فلان، ولِمَ لَم تأت هنا القصّة كاملة، ولماذا أتي بقصة أخرى لنبيّ آخر عليهم جميعاً الصّلاة والسّلام.

ثمّ إنّ هذا التّناسق والتّناسب والتّرابط بين السّور والآيات والكلمات، ضمن السّياق الكلّي في القرآن، هو وجه آخر من معجزات القرآن، والتحدّي بما لا يستطيع أن يأتي بمثله بشر، وإنّه إعجاز يظهر منه صدق وكمال القرآن، وقصور الإنسان، وهو دليل على الحقّ، وهو أحسن الكلام على الإطلاق لأنّه كلام الله، مثاني تقشعرّ له جلود الذين آمنوا، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} الزّمر، ويضاف إلى معجزات القرآن الأخرى التي لا تحصى، وقد أشرنا إلى الكثير منها في الباب السابع من كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، انظر 7.1.5- الإشارة إلى آيات الله في الكون وفي المخلوقات.

كلّ ما في القرآن له دور في بيان مقاصده وتسهيل فهمه وتدبّره؛ وفي نفس الوقت مخاطبة أداة من أدوات وعي وعقل وفهم الإنسان، أو حاسّة من حواسّه، أو كيان من كياناته، أو كلّ الإنسان على بعضه أو بعضه، فكلام العليم الحكيم لا يترك في الإنسان باب عقل أو وعي أو فهم إلا ويطرقه، ليقيم بذلك عليهم الحجة، ولتشهد به عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم وكلّ جوارحهم، في يوم الحساب والميزان، فالله تعالى يحبّ العذر، قال صلى الله عليه وسلّم: “وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ” متّفق عليه، وقال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (165)} النساء، وقال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} الأنعام، وقال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} الإسراء؛ وكذلك لأنّ الله خلق النّاس مختلفين في كلّ شيء (كما سنبيّنه)، فبعضهم مفتاح إيمانه في عقله، وبعضهم في قلبه، وبعضهم في نفسه، وبعضهم بالمحبّة، وبعضهم بالخوف، وبعضهم بالنّعمة، وبعضهم بالدّعاء، وبعضهم بالرّجاء، وهكذا، كما بينّاه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن بجزئيه، وكلّه مفصّل في مكانه من الكتاب، تفصيل يبيّن تناسق واتحاد جميع مكوّنات وأركان السّورة الواحدة فيما بينها وحول المقصد الواحد في سياق وأسلوب لا يقدر على أن يأتي بمثله بشر؛ والجزء الأول جعلناه كتمهيد لما سيأتي بيانه في الجزء الثاني، كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، نذكر هنا بعض الأمثلة الواضحة، ولها دلالة على هذا الأسلوب المعجز في القرآن، كما يلي:

 

0.7.1- تناسب أسماء الله الحسنى مع مقصد السّورة وموضوعاتها: في سورة الطلاق نجد أنّها السّورة الوحيدة التي تكرّر فيها اسم الله الأعظم {الله} ضعف عدد آياتها، لأنّ مقصد السّورة هو الأمر بتقوى الله، في اتّباع أوامره واجتناب نواهيه والتزام حدوده أثناء الطّلاق، لكي يخاف المقبلين على الطلاق الله فلا يظلم بعضهم بعضا، ولكي يخفّف عن المطلقين مصابهم، فالطّلاق أمر عظيم يهدم الأسرة ويشرّد الأبناء. وفي سورة الرّحمن التي مقصدها تعداد آلاء الله على النّاس في الدّارين، وأنّه علّمهم القرآن وخلقهم وعلّمهم البيان وغيره من النّعم في الدّارين، فهي أكثر سورة تكرّر فيها صفة التّربية {ربّ} 36 مرّة بالمقارنة مع عدد آياتها 78 آية، وصفة {ذو الجلال والإكرام}، و {الرّحمن}، ولم يذكر فيها لفظ الجلالة {الله}. وللمزيد انظر في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

0.7.2- تناسب أسماء السّور مع مقصدها: لكل سورة عنوانين، وهما الاسم: ويشكّل الجوّ العام أو الخلفيّة المناسبة والمعبّرة التي تدور أمامها أحداث السّورة وقصصها وأمثالها ومواعظها وكل موضوعاتها، والمقصد: وهو العنوان الذي يدلّ على محتويات السّورة وكل الأحداث والقصص والأمثال والمواعظ والعبر والأوامر والنّواهي وكل الموضوعات فيها. فمثلاً اسم سورة البقرة يشكّل الخلفيّة المناسبة التي تدور أمامها أحداث الجدال ورفض وقبول الأحكام والأوامر والتشريعات التي تملأ السّورة، وقصّة البقرة وكثرة جدال اليهود وتحايلهم الذي أدّى إلى غضب الله عليهم، يبرز من خلالها تناسب كلّ محتوياتها حول اختلاف الناس في قبولهم الهدى والدّين، وهكذا … كما بيّناه كلّ في مكانه في سياق كلّ السّور.

وتناسب أسماء السّور مع مقصدها (أو حتّى تطابق الأسماء مع المقاصد) نجده واضح في سورة الفاتحة، فاتحة الكتاب لكونه افتتح بها، وفيها الثناء والدعاء وطلب الهداية من الله إلى الصراط المستقيم المقصد الأول في القرآن. وكذلك وسورة الواقعة التي مقصدها تأكيد وقوع الواقعة وإثباتها، وذكر أحوال ذلك اليوم وأقسام الناس فيه؛ ومثلها سورة القارعة التي كل آياتها عن أحداث يوم القيامة. وكذلك سورة الرحمن التي مقصدها هو تعداد آلاء الرحمن، في الدنيا وفي الآخرة، فتناسب اسماء هذه السور مع مقصدها ومع موضوعاتها.

ومقصد القرآن الكريم أيضاً هو العنوان لكلّ محتوياته، ومن ثمّ فإنّ مقصده ومقاصد سُوره كلّها مترابطة في سياق واحد ومتناسبة من أوّل القرآن إلى آخره. وقد اختُلف في سبب تسمية اسم القرآن، فقيل هو من قرن الشيء بالشيء (كما تمّ بيانه في أسماء القرآن الكريم)، أو القرائن التي يصدّق بعضها بعضاً، أو لكونه جَمع ثمرات الكتب السّالفة المنزلة‏، أو لأنه جمع أنواع العلوم كلّها‏، فاسمه القرآن (وكذلك كل أسمائه) تمثّل الخلفية المناسبة للمقصد والمواضيع أو الإطار العام الذي يعبّر عن الجوّ العام لمحتوياته وترابطها وجمعها كلّ العلوم من حيث كونها هدى وموعظة ورحمة وبشارة ونذارة وترغيب وترهيب … إلخ، وتضمّنتها كذلك جميع أسماء سورة في تكامل وتناسب تامّ، فمثلاً الفاتحة: هي مفتاح المعرفة والهدى والخير، وسورة البقرة: يشير اسمها إلى جوّ الهدى والدّين وسيرته بين الناس، وآل عمران: جوّها الاصطفاء بالإيمان والاتباع، والنساء: المراقبة لله في المعاملات كأنه يراك، والمائدة: جوّها الوفاء لوجود الآيات، والأنعام: كثرة النّعم مما يتطلب الحمد لله، وهكذا، والجامع لهذا كلّه هو الهداية إلى الصّراط المستقيم.

0.7.3- دلالة الكلمات على مقصد السورة وموضوعاتها: إن أكثر سورة وردت فيها لفظة {هدى} ومشتقاتها 23 مرّة هي البقرة لأن مقصدها بيان طريق الهداية؛ وأكثر سورة تكررت فيها كلمة رسول ومشتقاتها 35 مرة هي التوبة لأن مقصدها دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين والمنافقين إلى التوبة؛ وأكثر سورة وردت فيها لفظة {كذب} ومشتقاتها 32 مرّة هي سورة الرحمن تستهجن على الجن والإنس تكذيبهم بآلاء الله؛ وأكثر سورة تكررت فيها كلمة حق ومشتقاتها بمجموع 23 مرة هي سورة يونس (تساويها في العدد سورة البقرة 23 مرة)، بما يتناسب مع موضوع السورة في الحديث عن الحق وهو أن الله خلق الإنسان ليبتليه بالإيمان والعبادة؛ وأكثر سورة تكرر فيها ذكر الرحمن 16 مرة هي سورة مريم لأن مقصدها بيان صفة الرحمن التي شمل بها جميع خلقه، ودل بها على وحدانية وكمال صفاته؛ وأكثر سورة ورد فيها الأمر بالاستغفار {استغفروا} 4 مرات، والأمر بالتوبة {ثم توبوا إليه} 4 مرات هي سورة هود، وهذا يتناسب مع مقصد السورة وموضوعاتها التي تتحدث عن عبادة الله والاستغفار والتوبة، وأن الاستغفار والتوبة تلازمان العبادة، لأنه لا أحد يستطيع أن يقوم بحق الله في العمل والعبادة؛ وهكذا، كما فصلناه في كتاب تسهيل سور القرآن. وللمزيد عن دلالة الكلمات في فهم السورة انظر مثلاً في كتاب تسهيل سور القرآن، سورة الأنعام، المباحث الخمسة (من 006.1.7.2 إلى 006.1.7.6)، وسورة الأعراف، المبحث (007.7.9.3)، وفي غيرها من السور.

0.7.4- دلالة الآيات وتكرارها على مقصد وموضوعات السورة: إن سورة الشعراء هي الوحيدة التي تكررت فيها الآيات: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربّك لهو العزيز الرحيم} 8 مرّات، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5 مرّات، لأن مقصدها هو الدفاع عن القرآن لأنه هو الآية والبيان والمعجزة لأمّة محمد وهو ليس بالشعر ولا بالسحر، بل أنه تنزيل رب العالمين على رسوله الأمين ليكون من المنذرين، لكن أكثر الناس لا يؤمنون. وسورة الشعراء أيضاً هي أكثر سورة تكرر فيها ذكر الكلمات التالية ومشتقاتها: سِحر 10 مرات، أمين 6 مرّات؛ وأكثر سورة تكررت فيها {العزيز الرحيم} 9 مرات من أصل 13 في القرآن، وفيه دلالة على قهره وغلبته للكافرين، وكذلك رحمته بعباده بإرسال المرسلين والرسالات. {فاتقوا الله وأطيعون} 8 مرات من أصل 10 في القرآن، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} 5 مرات من أصل 6 في القرآن؛ وفي سورة القمر والتي مقصدها تأكيد إصرار الناس على الإعراض والتكذيب، رغم كل ما جاءهم من الأنباء والنذر، نجد أنه في كلّ مرة بعد أن قصّت الآيات هلاك خمسة أقوام سابقة حذرهم الله عذابه ونذره، في الآيات (16، 18، 21، 30، 39) وهم: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون وملئه، وتسألهم {فكيف كان عذابي ونذر؟} (وقد كان عذاباً أليماً شديداً)، ثمّ تطلب منهم أخذ العبرة والاستجابة، فهل من متذكّر للآيات؟؛ وفي سورة الرحمن والتي مقصدها تعداد آلاء الرحمن، في الدنيا وفي الآخرة، تكررت فيها الآية: {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 31 مرة، وهكذا.

 

0.7.5- دلالة موضوعات الآيات ومجموعاتها على مقصد السورة. في سورة الأنعام: يعرض علينا الخالق موضوعات فيها نماذج عن وحدانيته وتفرده بالخلق والملك، ونماذج لا تحصى من رحماته وإنعامه وقدرته وتدبيره لمخلوقاته. ولأن مخلوقات الله ورحماته ونعمه وقدراته وتدابيره لا نهاية لها ولا يمكن أن يستوعبها عقل الإنسان، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} النحل، فقد جاء لسان حال السورة يشير إلى هذا وإلى ضخامة عدد المعاني التي تدل على هذه الموضوعات، واتساع معاني وبعد مرامي الكلمات التي تتحدث عنها. من يتدبر السورة سيتبين له أن المعاني والموضوعات التي احتوتها لن يستطيع تعدادها (عدد فقط) بشر، ناهيك عن الإحاطة بها أو فهم معانيها، وقد جاء نظمها في السورة بأسلوب شامل كامل معجز، يذهل الإنسان، ويعمى عن إدراك حدوده، كما هو ذاهل الآن ومعمي عن رؤية آيات الله الواضحة الباهرة، وعطاءه العظيم الذي لا نهاية له.

فالسورة تحتوي على ثمانية مجموعات من الآيات مكمّلة لبعضها البعض من أجل تسهيل بيان المقصد الأساسي للسورة، وهي مرتبة، ومتسلسلة كما يلي: بيان انفراد الله بخلق الكون وتدبير أمره؛ انفراد الله بملك الكون وكلّ ما فيه؛ تربيته للناس بالابتلاء ليؤمنوا؛ حفظه لمخلوقاته وحاجتهم إليه وخضوعهم له؛ ثبات الأنبياء على الحق والأمر بإتباعهم والاقتداء بهداهم؛ الأدلة على وحدانية الله وعظمة خلقه ونعمه؛ بيان تكذيب وإعراض الناس وعدم إيمانهم؛ تلاوة أوامر الله في الحلال والحرام والتوصية بإتباع كتابه. وفي السورة ترتيباً ثانياً معجزاً، وهو أن كل مجموعة من المجموعات السابقة احتوت أيضاً بطريقة أو بأخرى على نفس موضوعات المجموعات الثمانية الأساسية مكررة مرّة أخرى في كل مجموعة منها، فالثمانية مواضيع في المجموعة الأولى تتكرر نفسها في كلّ من المجموعات الثمانية الأخرى مرّة أخرى. وفي السورة ترتيباً معجزاً ثالثاً، وهو أن كل مجموعة من المجموعات الثمانية السابقة المرتبة حسب تسلسل الآيات، احتوت أيضاً بطريقة أو بأخرى على أركان الإسلام الستة مكررة مرّة أخرى في كل حلقة من حلقاتها.

لو حاولنا أن نفهم التراكيب المختلفة لهذه المعاني فسنجد أنها تحتوي على معاني تصل في تعدادها إلى أرقام خيالية، أي: ثمانية مواضيع مرفوعة للأس 8 (باعتبار الترتيب)، ثمّ النّاتج مرفوع للأس 8 (باعتبار المواضيع)، ثم النّاتج مضروب في ثمانية مرفوعة للأس 6 (باعتبار الأركان)، فسنصل إلى رقم 2 مضروب في 10 أس 63، أي رقم 2 أمامه 63 صفر. ولئن حاول الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذه المعاني، فلن يستطيعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ولا حتى أن يعدّوها عدداً فقط، ناهيك أن يستوعبوا جميع ما فيها. أي أنّ جميع من عاش على هذه الأرض من أول ما ابتدأت عليها الحياة إلى أن تنتهي، من مخلوقات لو ظلّوا على مدى حياتهم يعدّون هذه الأرقام ليلاً ونهاراً، تعداداً فقط دون فهم للمعاني، ما انتهوا من هذا العمل إلى أن تقوم القيامة. هذا بدون اعتبار الأمثال والقصص في السّورة، والمذكورة في سياق السورة، وبدون اعتبار جهة الفئة المخاطبة، أي هل هم المؤمنين المخاطبين أم الكافرين، وغير ذلك، كما بيّنّاه في مكانه في كتاب تسهيل فهم سور القرآن. سبحان الله.

جميع سور القرآن (وليس فقط في الأنعام) تتكرر فيها موضوعات مختلفة في مجموعات من الآيات، بحيث تتحدث كل مجموعة عن نفس المقصد من زاوية مختلفة، نجد مثلاّ بعض السور مكوّنة من أربعة مجموعات من الآيات تتناول نفس المقصد من زاوية مختلفة وتقسمها إلى أربعة أرباع متساوية أو غير متساوية، كما في النساء والأحزاب وسبأ والجاثية والفتح، وبعضها ثلاثة كالأنفال والرعد والأحزاب وفاطر والصافات، وغير ذلك كما بيّنّاه في مكانه. فالله سبحانه وتعالى يقول: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} الزمر، فمعنى قوله متشابـهاً: أي يشبهُ بعضه بعضاً، مثاني: ثنّيت موضوعاته مرّة بعد مرّة، فالقرآن مهما تعدّدت موضوعاته فمقصده واحد وهو هداية الثقلين إلى الصّراط المستقيم. ثمّ لو تأمّلنا في ضوء ما سبق كثرة وتنوّع واختلاف هذه الطرق والأساليب والسياق في الخطاب وكيف تتشابه وتثنى آياتها مرّة بعد مرّة، في جميع سور القرآن، فسنعلم يقيناً أن الله تعالى يحبّنا، وخلقنا ليسعدنا، وأنه سبحانه ثنّيت آياته وكلماته، من أجل تسهيل فهم وإيصال هذا المعنى الواحد البسيط إلى مختلف الأفهام لأجل أن يهدينا إلى طريق السّعادة، طريق الحقّ والصّراط المستقيم الذي أراده لنا.

0.7.6- تناسب المقاصد وتناسب السّور: مقاصد السّور، سواء أكانت منفردة أو مجتمعة هي في وحدة موضوعيّة واحدة مع مقصد القرآن وهو الهدى إلى الصّراط المستقيم: وكما قلنا إن الله يريد لنا السّعادة والنّجاة من الشّقاء، ولا يوجد إلا طريق واحد للسّعادة والنّجاة، فأنزل الله القرآن ليهدي إلى هذا الطريق؛ وهو عمل (الخير) والبِرّ والتقوى والتعاون بالمعروف، واجتناب (الشّرّ) والإثم والعدوان والإفساد في الأرض. الله يريد لنا السّلام وأن ننشر الإسلام و (لكي) نعيش بسلام، والنّاس يريدون الفساد وإشاعة الظلم والهلاك، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} الرّوم، وعكس الفساد الاستقامة والصّلاح، قال تعالى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)} الجنّ.

وفي هذا السّياق نجد أنّ السّور الخمسة الأولى من القرآن (السور: 1-5) مقاصدها هي الهدى بالكتاب والقدوة الصّالحة بالمصطفين من الأفراد والأسر والجماعات والعبرة من هلاك الكافرين وتقرير اكتمال الدين؛ ثمّ ثلاثة سور (6-8) حول وجوب الإتّباع ووجوب التوكل عليه؛ ثمّ ثماني سور (رقم 9-16) حول نعمة التوبة والوحي والعبادة والابتلاء والحق والرسالة واللجوء إلى الله؛ والسّور (رقم 17-18) بأنه لا مفر من اللجوء إلى الله وكل ما في حياة النّاس هو بتدبير من الله ولمصلحتهم فهو الملجأ؛ والسّور (رقم 19-21) الله رحمة والقرآن رحمة والرّسل رحمة؛ والسّور (رقم 22-33) ماذا نفعل لننجو؛ والسّور (رقم 34-36) الله يستحق الحمد لأن له كل شيء وفاطر كل شيء ودالّ النّاس على فطرته وأنّ بيده كلّ شيء يُحصِي عليهم أعمالهم يأخذ بيدهم خطوة خطوة ليهديهم صراطه المستقيم؛ والسّور (37-39) صفات العزة لربّ العزة وأن القرآن يذكر الناس بما هم عنه غافلون من الاستخلاف في الأرض، مقابل عناد الكافرون وإعراضهم وصدّهم عنه، الله يأمر بعبادته مخلصين له الدّين ثم يقضي بالحق والحمد لله ربّ العالمين؛ والسّور (40-46) في الحواميم يريد أن يرحم عباده فيفوزوا في يوم القضاء يوم النّبأ الذي سيعلمونه بعد حين، وفيها توبيخهم وتقريعهم في عبادتهم ما لا يضرّ ولا ينفع؛ والسّور (47-49) جهاد بأيدي المؤمنين فيفتح الله على المؤمنين، ويقيم لهم مجتمعهم القائم على الأخلاق واحترام حقوق أخوة الإنسان وأخوة الإيمان، ويخزي الكافرين؛ السّور (50-54) وعيد بالحساب على الأعمال وبرهان على السّاعة والقيامة وأنهم سيجازون على ما كان منهم؛ وسورة الرّحمن (55): تعداد آلاء الرّحمن، في الدّنيا وفي الآخرة، وأعظمها نعمة تنزيل القرآن وتعليمه، وأنّه خلقهم ليرحمهم ويرزقهم من الطيّبات ويكرمهم بطاعته واتّباع دينه؛ وسورة الواقعة (56): تأكيد حتميّة وقوع الواقعة، وسرد الحجج والأدلّة على إثبات ذلك، وهكذا إلى آخر القرآن كما بيّنّاه في مكانه.

نكتفي بهذه الأمثلة التي تشي ببعض محتويات هذا الكتاب، ونكتفي بهذه العجالة بقصد لفت الأنظار إلى ما في القرآن من المعجزات والعجائب، من أجل الترغيب في طَرق أبواب فهم القرآن وتعلم تدبّره وتفسيره، والتشجيع على التّدبّر وطلب المزيد؛ كذلك وبذكر هذه الأمثلة المختارة التي تشرح وتعطي فكرة عن طريقة عملنا، وبنفس الوقت تبرهن أن القرآن مقصده واحد وفهمه بسيط: فالقصص والموضوعات في السّورة تسهّل فهم المقصد والعكس صحيح، وكذلك الآيات والكلمات والأسماء والصفات وأسماء السّور والمناسبات، كلها موضوعاتها ومقاصدها واحد، وهو ملخص في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} البقرة، وهي رسالة جميع الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السّلام إلى آخرهم نبينا محمّد صلّى الله عليه وعليهم جميعاً وسلّم؛ وهذا هو موضوع كتابنا، فكل ما فيه من أبواب وشروح وتفاصيل وغيرها يدور حول هذا المقصد وتسهيل فهمه، لذلك أسميناه “تسهيل فهم وتدبّر القرآن”.

أعلى الصفحة Top