العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


006.0 سورة الأنعام


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


006.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مكية ماعدا الآيات (20، 23، 91، 93، 114، 141، 151، 152، 153) فمدنية. 2) من السور الطول. 3) عدد آياتها 165 آية. 4) هي السورة السادسة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثامنة وخمسون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الحجر”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

006.1.7.1- تكرر الاسم الله 77 مرة، إله 1 مره، لله 10 مرات، مقارنة بعدد آيات السورة وهي 165 آية. رب 50 مرة، وهو 27 مرّة، هو 12 مرّة، العليم 7 مرّات؛ وتكرر (6 مرّات): أعلم، خلق، أنزل؛ وتكرر (5 مرّات): يعلم، الحكيم، مخرج؛ (4 مرّات): اسم الله، أنشأ؛ وتكرر (3 مرّات): الخبير، غفور، رحيم، بعث؛ (2 مرتين): السميع، القاهر، القادر، له الحكم، يهدي، لا إله إلا هو، جامع، فالق الحب والنوى/الإصباح، كتب، جامع؛ (1 مرّة): قدير، العزيز، وكيل، بديع، اللطيف، الخالق، الغني، ذو الرحمة، ذو رحمة واسعة، خير الفاصلين، فاطر، مولاهم، الحق، يحكم، أسرع الحاسبين، سريع العقاب، له الملك، عالم الغيب والشهادة، الشهيد، الولي، الواحد، هَدى؛ انظر أيضاً إلى المزيد من صفاته تعالى أدناه في باب نعمه التي لا تحصى، فضّل، يطعم، كاشف، نقلب، خير الفاصلين، ذرأ، نبلو، فتن، حاسب، تعالى، جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

وهي السورة الوحيدة التي ذكر فيها اسم الله: القاهر 2 مرة في الآيتين (18، 61) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}.

وهي السورة الوحيدة التي ذكر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: أفَلَ 4 مرّات؛ (2 مرتين): قرطاس، رمّان؛ (1 مرّة): آزر، تسبّوا، نفقاً، النوى.

وهي أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: شرك 27 مرّة، كذب 20 مرّه بعد سورة الرحمن، كذلك 13 مرة (من أصل 124 مرة في القرآن)، افترى 9 مرّات، الأنعام 6 مرّات؛ (5 مرّات): صراط، مستقيم، وزر؛ (3 مرّات): يقترفون، فرّط، لعب؛ (2 مرّتين): معشر، يخرصون، يعدلون (بمعنى يشركون).

تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: قل 44 مرّة، آيات 32 مرّة، هدى 27 مرّة، شيء 22 مرّة، يؤمنون 19 مرّة، جعل 19 مرّة، ظلم 18 مرّة؛ وتكررت (17 مرّة): نفس، يشاء، غير، تعلمون؛ (16 مرّة): الأرض؛ (13 مرّة): الحق؛ (12 مرّة): السماوات، تعملون، تذكرون؛ (11 مرّة): ضلال؛ (10 مرّات): عذاب، الموت؛ (9 مرّات): لعلهم؛ (8 مرّات): الرحمة، عنده، العلم، أوحى؛ (7 مرّات): البصير، رحمة؛ (6 مرّات): الشيطان، ظلمات، أكل، يعدلون؛ (5 مرّات): العالمين، سبيل، أول، فصّل، حكم، زعمهم، عباد؛ (4 مرّات): الجن، الإنس، يطعم، صادقين، معرضين، حفيظ، سلام، إبراهيم، يصدفون، ظهورها، الموتى؛ (3 مرّات): النور، ناس، الذكرين، الغيب، غافل، تضرعاً، خفية، ذرية، يفقهون، فعلوه، البر، البحر؛ (2 مرّتين) الحمد، الأعمى، زيتون، تستعجلون، تمترون، معروشات، تعقلون، صدره، إسلام، مستقر، ظَهَر، بطن، أرحام، وكيل؛ (1 مرّة): سلماُ، مبلسون، تبسل، خزائن، الغداة، العشي، أعناب، مفاتح، رطب، يابس، كرب، تتفكرون، غمرات، خولناكم، مستودع، غرور، صغار، تصغى.

 

006.1.7.2- ورد الاسم {بديع} في الآية (101) من السورة، وورد في الآية (117) من سورة البقرة، ولم يرد في غيرهما من السور. وهو هنا يشير إلى إبداعه عن غير سابق صنعة أو شبيه يقلده، وخلقه لكل شيء، وصنعته، ونعمه الكثيرة، وغيره مما ورد في السورة هو من ابتدعه وحده بدون شريك كما يدّعون، ويأتي هذا الاسم في سياق الرد على من جعلوا له الشركاء والبنين، وأن ذلك لا يكون لمن هو بديع السماوات والأرض وبديع كل شيء بمن فيهم هؤلاء الذين جعلوهم له شركاء.

وفي مقابل {بديع}: فهي أكثر سورة وردت فيها لفظة {شرك} ومشتقاتها 27 مرّه، و {افترى} ومشتقاتها 9 مرّات، في إشارة إلى فضحها للشرك وأهله ومحاربتها لهم، ولمن يفتري على الله الكذب، وهي كذلك أكثر سورة بعد سورة الرحمن وردت فيها لفظة {كذب} ومشتقاتها 20 مرّه، إشارة إلى أنها تفصل في أفعالهم الشائنة وتسفه صنيعهم، وهي أكثر سورة وردت فيها يعدلون مرتين من أصل ثلاثة في القرآن، بمعنى يشركون بالله ويسوون به غيره، وتنوّع فيها وصف الكفار، كقوله: معرضين، مستهزئين، يمترون، يلبسون، مبلسون، خاسرين، ظالمين، ضالين، يجحدون، يخوضون، الجاهلين، المجرمين، الموتى، يصدفون، يفسقون، لا يعلمون، لا يؤمنون، تزعمون، صم وبكم، يخافون، يخفون، حيران، خوضهم يلعبون، يستكبرون، طغيانهم، يعمهون، يخرصون، يقترفون، يمكرون، غرتهم الدنيا، غافلون، بغيهم، يتبعون الظن، استهوته الشياطين.

006.1.7.3- تكرر لفظ {هو}، {وهو} في السورة 39 مرّة: والكثير من الآيات في سورة الأنعام مبدوءة بقوله تعالى {وهو}: وهو هنا دليل على أن كل ما في السورة من أنعام لا يمكن إلا أن تنسب إلا إلى خالق واحد معروف، يعرفه الإنسان بضميره وفطرته وأصل تكوينه. هذه حقيقة لا ينكرها إلا مكابر، فمن الجهل والظلم أن تنسب الحياة والموت، والظلمات والنور، وخلق السماوات والأرض والنجوم وما بث فيهما لغيره سبحانه، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ (2)} {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ (3)}.

006.1.7.4– وتكررت قل 44 مرّه. أي قل لهم وحاججهم أن نعم الله وآياته ورسالاته …واضحة. فالحمد لله. وكلمة {قل}: هي دلالة على جلال قدر الله ونفاذ قضائه وحكمه في مخلوقاته وقوله فيهم، وتوجيهه لهم إلى ما فيه مصلحتهم وهدايته لهم، ليؤمنوا ويعملوا الصالحات. وفيها إشارة إلى أن الله تعالى هو الواحد، والخالق، والمدبر، وهو الملك، وصاحب القول، والقرار، فهو يأمر ويقرر، وعلى الإنسان وجميع المخلوقات أن تسمع (فقط) وتطيع ولا تشرك بعبادته أحداً. وفيه إشارة إلى تقرير خلق الله للأشياء، وتأكيده، واستحقاق الله الحمد، ولا ينبغي لمخلوق أن يكفر بخالقه. قل لهم وأغلق أبواب التهرب والجحود والنكران عليهم، فما تقوله لا يسع أحد إنكاره.

006.1.7.5- هي أكثر سورة تكرر فيها “صراط مستقيم” 5 مرات من أصل 33 مره في القرآن. إشارة إلى أن ما فيها من الآيات والنعم يهدي إلى الصراط المستقيم.

 

006.1.7.6- هي أكثر سورة تكرر فيها كلمة “الأنعام” 6 مرات من أصل 32 مره في القرآن. وسُميت ‏‏”‏سورة ‏الأنعام‏‏” ‏لورود ‏ذكر ‏الأنعام ‏فيها. وهي إشارة إلى ما جاء في السورة من عناية الله بالإنسان وإنعامه عليه، وخلق السماوات والأرض، وما جعله الله لهم فيها من النعم. وفيها أيضاً إشارة إلى ما جاء من الأحكام ‏الموضحة ‏لجهالات ‏المشركين وتحريمهم ما أحله الله ‏تقربا ‏إلى ‏أصنامهم.

006.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله عليه السّلام “نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سدّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتجّ”. ورسول الله يقول “سبحان الله العظيم. سبحان الله العظيم…”.

أخرج بن مردويه، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “أعطيت السّورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأوّل، وأعطيت طه والطواسيم من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصّل نافلة”.

006.3 وقت ومناسبة نزولها:

سياق وموضوع السورة يشير إلى أن هذه السورة نزلت في السنة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلّم في مكّة. وهذا يؤكده حديث أسماء وهي من الأنصار الذين دخلوا الإسلام مع بدايات الهجرة. عن أسماء بنت يزيد قالت: “نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلّم جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلّم إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة”.

عن ابن عباس قال: “نزلت الأنعام بمكّة ليلة، جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح”.

006.4 مقصد السورة:

006.4.1- التعريف بالله الواحد الأحد (التوحيد)، وبيان علامات وجوده: في الخلق، والملك، والنعم، وإرسال الرسل، وإنزال الآيات، وغيرها من علامات تدبيره لأمور مخلوقاته. والدعوة إلى الإيمان، واتباع الهدى والحق، وعدم التكذيب، وأنه سبحانه خلق الإنسان واستخلفه في الأرض للابتلاء بهذا الإيمان، ثم الحساب والجزاء في الآخرة، فكان أكثرهم مكذبون ومشركون. وبمعنى آخر تهدف السورة إلى إيصال معنىً واحد هو أن كلّ المخلوقات في الكون وكلّ ما فيه من سنن ثابتة وتدابير وتكاليف، وكلّ شيء علمناه ولم نعلمه مصدره واحد، هو الله وحده لا شريك له.

006.4.1.1- ومقصدها نجده في الآيات الثلاثة الأولى من السورة: ففي الأولى: الحمد لله، حمداً يستغرق جميع المحامد، على نعمة خلق السماوات والأرض وتسخيرها، مما لا يقدر عليه أحد، فهو الملك وله كل شيء بوصفه الخالق والموجد والمنفرد بالاختراع، وجعل الظلمات والنور الحقيقيين (لاقترانهما بالسماوات والأرض)، أو المجازي وهو الكفر والإيمان (لارتباطهما بالإنسان)، ثم ذكرت قُبْح فعل الذين عدلوا بربهم فأشركوا وساووا به غيره في الإلهية والخلق والإيجاد، بعد أن ظهرت لهم نعمه وآياته، وأنه مالكهم ومربيهم ومصلحهم ومسدي كلّ نعمة إليهم. وفي الآية الثانية: خلق الإنسان من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده، ثمّ قُبْح أو استبعاد أن يمتروا فيه أي يشكّوا في قدرته على البعث بعد الموت، بعد أن ثبت لهم أنه محييهم ومميتهم وباعثهم. والآية الثالثة: وهو الله وحده لا شريك له، الذي له كل ما في السماوات والأرض يعلم سرّكم وجهركم ويعلم ما تكسبون، فاحذروه. وباختصار: فإن الله خلق وأنعم على الإنسان بالإيجاد وبالقدرة على معرفة الله وسخر له الدنيا ليعمل للآخرة فيحمد الله على نعمه، لكن الإنسان قابل هذا بالشرك والشك، لذلك فسنجد أن غالب آيات السورة تهديد، بل أن نصف عدد آياتها تقريباً هي أمثال وقصص عن هلاك وعذاب الكفار والمشركين في الدنيا والآخرة.

006.4.1.2- ويتكرر مقصدها كذلك في الآيتين الرابعة والخامسة: وهو أن الله تعالى يأتيهم بالآيات (التي تعرّفهم بأنه الله الواحد المالك والمربي وأنهم في الأرض مستخلفون ثم إليه راجعون للحساب)، لكن الإنسان من طبعه أن يعرض عن آيات الله، ولا يكتفي بالإعراض بل ويكذب بالحق الذي لم يتأمل آياته ولم يعرفه بسبب إعراضه عن سماعه، ثم يتمادى بما هو أزيد من الإعراض والتكذيب فيستهزئ، لذلك هددهم وأوعدهم {فسوف يأتيهم}، وهو ما تبرهنه فوراً في الآية السادسة وغيرها، التي تشير إلى قصص القرون التي أهلكها الله بذنوبها، لعل من بعدهم يعتبرون فيتعظون وينتصحون. فَعِلّة الكفر وعدم الإيمان إذاً ليست عدم وجود أو قلّة الآيات بل الإعراض ثم التكذيب ثم الاستهزاء.

006.4.1.3- ثم ختمت السورة في الآية الأخيرة الجامعة لكل موضوعاتها، وللمراحل الثلاثة التي تضمنها المقصد: وببيان مقصد جعل الأجلان (المذكوران في الآية الثانية): فمبدأ الخلق، في أنه خلقكم من طين وجعلكم خلائف الأرض فسخرها لكم؛ ثم الأجل الأول في الدنيا فقال: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم} من النعيم الذي بينته السورة سواء كان دنوي أو ديني، ثم الأجل الآخر المسمى عنده، وفيه الحساب والجزاء على الأعمال، فقال {إن ربك سريع العقاب، وإنه لغفور رحيم}.

006.4.1.4- ونستطيع أن نجزم أنه كما تكرر هنا مقصد السورة ثلاث مرّات في الفقرات الثلاثة أعلاه، فإنه يتكرر في القصص والأمثال والآيات، وفي كل آيات السورة، وكذلك في كلماتها، وقد أشرنا أعلاه إلى بعضها، مثل الكلمات: وهو، وقل، وأنعام، وبديع، وصراط مستقيم، ونقيض هذه الكلمات، مثل: كذب، وافتراء، وشرك.

006.4.2- واسم السورة الأنعام: فيه إشارة ودليل إلى مقصدها ومواضيعها، فقد أنعم الله على الناس، ورحمهم، وأراد لهم أن يظلوا مغمورين في أنعامه وتظللهم رحماته. فوجّههم إلى ما فيه دوام النعمة عليهم، وسرّى عنهم وطمأنهم. فهذه السورة تقرر لهم، وتأمرهم بأن يعرفوا مصدر نعمتهم، وهو الله، وانفراده، جلّت قدرته، بخلق الكون وتدبير امره، وأن يعرفوا المقصد من حياتهم، وهو الإيمان والعمل للفوز بنعيم الجنة، فقد أضاء الله لهم الطريق وجعل البصائر وأرسل الرسل، لكي يسيروا في النور لا في الظلام. فإن من آمن فاز ومن كفر خسر.

006.4.3- عرّف الله سبحانه الناس على نفسه، حق المعرفة، وأمرهم بأن يتبعوا صراطه المستقيم، ولا يتبعوا السبل، فتفرق بهم عن سبيله. صراطاً مستقيماً ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. وأن لا يتخذوا من دونه أولياء وأن لا يشركوا به شيئاً، وأن يستجيبوا لرسله، ولا يكذبوا بما جاء به الرسل من عنده من كتاب. وأن يؤمنوا به ويسلموا له ويعبدوه وحده، ويمتثلوا لأحكامه، ويحلّوا ما أحلّه ويحرّموا ما حرّمه. بين لهم سبحانه أن إقامة دينه وعبادته هي لمصلحتهم أولاً وأخيراً، وأنّه غني عنهم، خلقهم ليبلوهم فيما آتاهم. فهم في حاجة إليه يدعونه فيساعدهم في الدنيا، ويعدل بينهم يوم القيامة. ولن يرضى لهم الكفر. فهو خالق السماوات والأرض وفاطرها، وخلقهم من طين، وأنشأهم من نفس واحدة. وقد فطرهم فهو أدرى بحاجاتهم، ومن يكفر فقد خسر الدنيا والآخرة. أمرهم أن يؤمنوا به وحده لا شريك له، وجادلهم بأن عبادتهم للآلهة الكثيرة هي الضلال المبين. وقد تحدثت السورة عن وحدانيّة الله وملكيته لكلّ شيء بدون شريك بإسهاب، وعرفت الخلق على الله حق المعرفة، لأن التوحيد هو أصل الإيمان وأساس الدّين السّليم وأصل كل عمل صالح.

006.4.4- وفي الحديث القدسي التالي معاني قريبة من مقصد السورة وموضوعاتها وخاصة فيما يتعلق بترغيب الناس باللجوء إلى خالقهم، وترك الشرك والكفر، عن طريق التذكير والإشارة إلى الخير والنعيم الذي منحه الله لهم، مع مقابلتهم ذلك بالإعراض والتكذيب والشرك:

الحديث: “إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد، أتودد إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم! ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أفقر ما يكونون إلي، أهل ذكري أهل مجالستي، من أراد أن يجالسني فليذكرني، أهل طاعتي أهل محبتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن أبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، من أتاني منهم تائباً تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أقول له أين تذهب؟ ألك رب سواي، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة عندي بمثلها وأعفو، وعزتي وجلالي لو استغفروني منها لغفرتها لهم”. تخريج السيوطي عن أبي الدرداء، والحديث ضعيف تحقيق الألباني.

006.4.5- قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة، وعليها بنى المتكلمون أصول الدين.

006.4.6- وقال الإمام برهان الدين البقاعي ما خلاصته: المقصود من هذه السورة الاستدلال على ما دعا إليه الكتاب في السورة الماضية من التوحيد بأنه الله، الذي له جميع الكمالات من إيجاد وإماتة وقدرة على البعث وغيره، وهو الذي أرسل الرسل وأكمل الدين. فالذي أذن في الأنعام هو الذي خلق وتفرّد بالخلق، وهو الذي أبطل ما حرّمه الناس لأنه لم يأذن فيه لأحد غيره، وحصر المحرمات من المطاعم وغيرها لإحاطة علمه. وقال أيضاً: وهي كلها في حجاج المشركين وغيرهم من المبتدعة وأهل الملل الزائغة، وعليها مبنى أصول الدين لاشتمالها على التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب الملحدين.

006.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت سورة الأنعام في السنة الثالث عشرة من البعثة، التي ابتلي فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه بأصعب الابتلاءات وعانوا أشد المعاناة. أصبحت الحياة في مكة فوق الاحتمال فلا مكان للاختباء أو حتى الهجرة، وحينما حاول الرسول صلى الله عليه وسلم اللجوء إلى أخواله في الطائف، سلّطوا عليه الصّبية يرمونه بالحجارة. وعندما كان يدعو القبائل العربيّة من خارج مكة في مواسم الحج لم يسمعوا منه. كما أنّ هذه السنة الصعبة وأحداثها العصيبة بدأت تتراكم بعد مقاطعة ظالمة حوصر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه ثلاث سنوات في شدّة وبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلا خفية، حتى كانوا يأكلون ورق الشجر. ثم تلاها عام الحزن الذي توفّي فيها عمّ الرسول صلى الله عليه وسلّم أبو طالب، وزوجته خديجة رضي الله عنها، اللذان ساعدا – بسبب نفوذهما في قومهما – على حماية المسلمين والتخفيف من عذابهم؛ وبموتهما ابتدأت أصعب المراحل باضطهاد لا هوادة فيه، وبدأت قريش ترسم خططاً لسجن أو طرد أو قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم للتخلّص منه الى الأبد. في هذا الوقت الحرج والوضع الخطير والجوّ الموحش المليء بالعذاب والتنكيل ومؤامرات القتل، اضطرّ الرسول صلى الله عليه وسلّم وأتباعه في النهاية إلى الهجرة إلى خارج مكة، فكانت الهجرة هي حبل النجاة وابتدأ العهد المدني.

سورة الأنعام هي البلسم الشافي الذي نزل ليواسي الرسول صلى الله عليه وسلّم والقلّة القليلة ممّن آمن معه بأنّهم على الحقّ وأنّ الظالمين بآيات الله يجحدون، فتشدّ من عزيمتهم وترفع معنوياتهم وتشحن قوّتهم، وبنفس الوقت تقرّع الكفار والمشركين وتسفّه أحلامهم. وتميّزت السورة بالكثير من الآيات مبدوءة بقوله تعالى {قل} و {هو} أي قل لهم وحاججهم وأمرهم بما وصف الله به نفسه في السورة بأنه الخالق والمالك والرازق قاضي الحاجات والحافظ والهادي بالمرسلين والآيات وسريع العقاب وغفور رحيم؛ وفي المقابل آيات أخرى مبدوءة بقوله تعالى {وقالوا} و {هم} كناية عن المشركين المنكرين لفضله العظيم والمكذبين بالبعث والنشور والحساب.

006.5.1- ملخص السورة حسب ترتيب آياتها:

تهدف السورة إلى إيصال معنىً واحد هو أن كلّ المخلوقات في الكون وكلّ ما فيه من سنن ثابتة وتدابير وتكاليف، وكلّ شيء علمناه أم لم نعلمه مصدره واحد، وهو الله وحده لا شريك له. ثم توصي الناس بالنظر وتدَبّر ما حولهم، ليروا كم هم في نعيم لا حدود له، وفي حفظ ونظام وعناية واستقرار لا يوصفان، ورحمة، هم في أمسّ الحاجة لها، تظلهم وتجعل كلّ ما حولهم موافق لطبيعتهم، وأن كلّ ما جاءتهم به الرسل من أمر أو نهي ما هو إلا لحفظهم، وحفظ نعمتهم، وما تلته عليهم من شرائع أو تكاليف ما هي إلا وصايا رحمة من ربهم لصلاح دنياهم وفلاحهم في آخرتهم. ولإيصال هذا المعنى نجد في السورة ثماني مجموعات من الآيات (أو المواضيع) مكملة لبعضها البعض، ومرتبة ومتسلسلة، للتعريف بالله الواحد وبيان نعمه على مخلوقاته، كما يلي:

1- بيان انفراد الله بخلق الكون وتدبير أمره. 2- انفراد الله بملك الكون وكلّ ما فيه. 3- تربيته للناس بالابتلاء ليؤمنوا. 4- حفظه لمخلوقاته وحاجتهم إليه وخضوعهم له. 5- ثبات الأنبياء على الحق والأمر بإتباعهم والاقتداء بهداهم. 6- الأدلة على وحدانية الله وعظمة خلقه ونعمه. 7- بيان تكذيب وإعراض الناس وعدم إيمانهم. 8- تلاوة أوامر الله في الحلال والحرام والتوصية بإتباع كتابه.

ونشير كذلك إلى ترتيب آخر معجز، وهو أن كلّ مجموعة أعلاه احتوت على نفس موضوعات هذه المجموعات الثماني مكررة في كل مجموعة منها.

وهو ما سيتم بيانه في الباب التالي: 006.6.1- تفاصيل عن السورة حسب ترتيب آياتها.

006.5.2- ملخص السورة حسب ما احتوته من موضوعات:

أمّا باعتبار موضوعاتها فقد تناولت سورة الأنعام الإيمان بأركانه الستة: وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرّه، التي وردت في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب “قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه. قال: صدقت…. إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”. وقد تكررت هذه الأركان ثماني مرّات في كلّ من المجموعات الثمانية مما جعل السورة تعبّر عن ويتكرّر فيها ما لا نهاية له من المعاني حول التعريف بالله وبحاجة الناس إلى هديه.

وهو ما سيتم بيانه في الباب التالي: 006.6.2- تفاصيل عن السورة حسب ما احتوته من موضوعات.

006.5.3- ملخص السورة باعتبار مناسبة النزول:

يمكننا تبسيط السياق والقول بأن السورة جاءت بثلاث موضوعات رئيسية يسهل تمييزها هي:

الموضوع الأوّل: أكثر من نصف عدد آيات السورة (55%) يعرّف فيها الخالق عن نفسه، وبكلامه المباشر للناس، وأمره لنبيّه بمحاججة الكفار والمشركين لبيان ضلالهم وإبطال دعاواهم الخاطئة عن الله، وعن مقصد خلقه للناس والمخلوقات وإرشادهم إلى طريق الحق والإيمان.

والموضوع الثاني: ربع عدد آيات السورة (25%) عن مواساة الرسول صلى الله عليه وسلّم والقلّة القليلة ممّن آمن معه وبأنّهم على الحقّ وأنّ الظالمين بآيات الله يجحدون.

والموضوع الثالث: قريباً من خمس آيات السورة (20%) تخبر الكفار والمشركين بأنهم لن يؤمنوا مهما جاءهم من الآيات وأنّ حجّته تعالى قد قامت عليهم وأنهم خاسرون في الآخرة لا محالة وسيندمون ويتحسّرون على تفريطهم في الدنيا.

وقد وختمت السورة بآية جامعة لكل موضوعاتها، وللمراحل الثلاث التي استهلّت بها، وهي مبدأ الخلق وقضاء الأجل الأوّل في الدنيا والأجل المسمى عنده في الآخرة وفيه الحساب والجزاء على الأعمال.

انظر كذلك: 006.7.4- سياق السورة باعتبار مناسبة النزول.

وباكتمال سورة الأنعام يكون قد اكتمل البيان النظريّ لطريق الهدى في ربع القرآن الأول، وسيليه البيان العمليّ في الربع الثاني من القرآن، فالحمد لله على تمام النعمة وكمال الدين والهدى.

اللهمّ احفظنا بحفظك فأنت الحافظ الخالق المالك وقاضي الحاجات، وألهمنا رشدنا وثبّت أقدامنا على طريق الحق والدين والصراط المستقيم.


006.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

006.6.1- تفاصيل عن السورة حسب ترتيب آياتها:

تحتوي السورة باعتبار ترتيب آياتها على ثماني مجموعات من الآيات مكمّلة لبعضها، ومرتبة ومتسلسلة، للتعريف بالله الواحد وبيان نعمه على مخلوقاته، كما يلي:

006.6.1.1- أولاً (الآيات 1-11): التعريف بأن الله وحده خالق الكون ومدبّر أمره ومالكه والعالم بكلّ ما يجري فيه (أي قضاء الله بخلق الكون)، ومع ذلك فالذين كفروا يساوون معه غيره. (11 آية)


006.6.1.2- ثانياً (الآيات 12-39): التعريف بأن الله وحده مالك الزمان والمكان وما فيهما، بيده والضرّ والخير (أي قدر الله بملك الزمان …)، والتعريف بحكمته، ورحمته، واطلاعه على الأمور كلّها، وإرساله الرسل بالكتب، وجمعه الناس للحساب. (28 آية)


006.6.1.3- ثالثاً (الآيات 40-58): حاجة الناس إلى الله ربهم ولجوؤهم إليه عند الشدّة، وحكمته تعالى في ابتلائهم، وأنّ ذلك رحمة بهم، لعلّهم يبصرون فيتوبون ويعملون الصالحات من قبل أن يأتيهم عذابه بغتة فإذا هم مبلسون (أي محتارون لهول ما رأوا) (هو الملجأ وإليه تصمد حوائجهم بدليل ما في الآيات من: الدعاء، والتضرّع، وخزائن، وشفيع، ورحيم، وحاكم)، وقد أرسل الرسل مبشرين ومنذرين. (19 آية)


006.6.1.4- رابعاً (الآيات 59-73): حفظ الله لمخلوقاته، وحاجتهم الدائمة إليه (قضاءه وقدره)، وعلمه الواسع، وملكه لمفاتح الغيب، وقهره لعباده وخضوعهم له (الله حافظ عالِم، وحافظ قاهر)، وعجز الإنسان عن الدفع عن نفسه. (15 آية)


006.6.1.5- خامساً (الآيات 74-94): ثبات إبراهيم عليه السلام على الحقّ، وإقامته الحجة على قومه بأن الله واحد، والأمر بالاقتداء به وبالأنبياء (الله هو الهادي بالحجّة والرسل والقدوة). (21 آية)


006.6.1.6- سادساً (الآيات 95-110): بيان الأدلة على وحدانية الله وعظمة خلقه ونعمه: من إخراج الحيّ من الميت والميت من الحي، ومن خلق النجوم والكواكب والأنفس والنباتات، وعدم وجود الولد، وإدراكه للأبصار وهي لا تدركه (الآيات الدالّة على أن الله خلق كلّ شيء). (16 آية)


006.6.1.7- سابعاً (الآيات 111-150): عداوة اصحاب الباطل لأصحاب الحق، فهم لن يؤمنوا إلا أن يشاء الله (كفر بدل الإيمان). (40 آية)

006.6.1.8- ثامناً (الآيات 151-165): انفراد الله بخلق الكون، وتلاوة أوامره في الحلال والحرام، والتوصية باتباع كتابه الذي فيه تفصيل كلّ شيء، والتزام صراطه المستقيم. (15 آية)

ونشير كذلك إلى ترتيب آخر معجز، وهو أن كلّ مجموعة من المجموعات السابقة ذكرها (باعتبار ترتيبها وتسلسلها) احتوت على نفس موضوعات هذه المجموعات الثماني مكررة في كل مجموعة منها، كما هو مبيّن في الجدول التالي:

الموضوع 1- خلق
تدبير
2- ملك
رسل
3- تربية
ابتلاء
4- حفظ
حاجه
5-تكرار
في الأمم
6- أدلّه
محاججة
7-عداوة
تكذيب
8-مواساة
1- خلق
تدبير
(11 آية)
1
(1 آية)
2، 3
(2 آية)
4
(1 آية)
6
(1 آية)
11
(1 آية)
7-9
(3 آية)
5
(1 آية)
10
(1 آية)
2- ملك
رسل
(28 آية)
12، 14
ليجمعنكم
(2 آية)
13
(1 آية)
15، 16، 31، 32
(4 آية)
17، 18
(2 آية)
20-23
(4 آية)
19، 37-39
(4 آية)
24-
26
(3 آية)
27-30، 33-36
(8 آية)
3- تربية
ابتلاء
(19 آية)
40، 41
فيكشف
(2 آية)
42
(1 آية)
43
(1 آية)
52-55
(4 آية)
48، 49
(2 آية)
46، 47، 50، 51
(4 آية)
44، 45
(2 آية)
56-58
(3 آية)
4- حفظ
حاجه
(15 آية)
73
(1 آية)
61، 62
(2 آية)
60
ينبئكم
(1 آية)
59
(1 آية)
67
(1 آية)
63-65
(3 آية)
66
(1 آية)
68-72
(5 آية)
5-تكرار
في الأمم
(21 آية)
74، 75
(2 آية)
76-78
(3 آية)
81، 82
(2 آية)
79
(1 آية)
93، 94
(2 آية)
91، 92
(2 آية)
80
(1 آية)
83-90
(8 آية)
6- أدلّه
محاججة
(16 آية)
95،
96
(2 آية)
97
(1 آية)
98
(1 آية)
99
(1 آية)
105
(1 آية)
101-104
(4 آية)
100
(1 آية)
106-110
(5 آية)
7-عداوة
تكذيب
(40 آية)
111
(1 آية)
115
(1 آية)
112
(1 آية)
114
(1 آية)
123-127
(5 آية)
128-135
141-150
(18 آية)
113، 136-140
(6 آية)
116-
122
(7 آية)
8-مواساة
(15 آية)
151
تعقلون
(1 آية)
152
تذكرون
(1 آية)
153
تتقون
(1 آية)
155
ترحمون
(1 آية)
154
(1 آية)
156-158
، 165
(4 آية)
160، 159
(2 آية)
161-164
(4 آية)
مجموع
الآيات
(165 آية)
(12 آية)
7.27%
(12 آية)
7.27%
(12 آية)
7.27%
(12 آية)
7.27%
(17 آية)
10.3%
(42 آية)
25.46%
(17 آية)
10.3%
(41 آية)
24.85%

 

الجدول أعلاه يوضح كيف أن المواضيع الرئيسية في السورة احتوت أيضاً على نفس تلك المواضيع مكررة في كلّ منها. بمعنى أن الموضوع الأول في المجموعة الأولى: وهو انفراد الله بخلق الكون وتدبير أمره، نجده في الآية الأولى من المجموعة الأولى، ونجده يتكرر في (ليجمعنكم، وفاطر) في الآيتين (12، 14) من المجموعة الثانية، وفي (أتاكم، وأتتكم، و فيكشف) في الآيتين (40، 41) من المجموعة الثالثة، وفي (خلق، وكن) في الآية (73) من المجموعة الرابعة، وفي (نري) في الآيتين (74، 75) من المجموعة الخامسة، وفي (فالق، ويخرج، وجعل) في الآيتين (95، 96) من المجموعة السادسة، وفي (إلا أن يشاء الله) في الآية (111) من المجموعة السابعة، وفي (حرّم، ونرزقكم، و وصاكم) في الآية (151) من المجموعة الثامنة. وهكذا … فالثمانية مواضيع في المجموعة الأولى تتكرر نفسها في كلّ من المجموعات الثمانية الأخرى مرّة أخرى.

من ذلك يتبين لنا أنه: ينقسم سياق السورة إلى ثمانية مجموعات من الآيات. ثم أن كل مجموعة تحتوي على ثمانية أجزاء متشابهة التركيب، قد تكون هذه المحتويات في كل مجموعة واضحة مميزة أو متداخلة حتى في الآية الواحدة إلا أنه بالإمكان تمييز وجودها في كل مجموعة، والجدول أعلاه يبين توزيع الآيات في كل مجموعة.

006.6.2- تفاصيل عن السورة حسب ما احتوته من موضوعات:

أمّا باعتبار موضوعاتها فقد تناولت سورة الأنعام الإيمان بأركانه الستة: وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. وقد تكررت هذه الأركان ثماني مرّات في كلّ من المجموعات الثمانية مما جعل السورة تعبّر عن ويتكرّر فيها ما لا نهاية له من المعاني حول التعريف بالله وبحاجة الناس إلى هديه، كما سنبيّنه في الجدول الذي سيلي.

تختلف السورة في أهدافها ومقاصدها عن السور المدنية التي سبق الحديث عنها: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة فهي لم تعرض لشيء من الأحكام التعبديّة والتنظيمية لجماعة المسلمين كالصوم والحج والعقوبات وأحكام الأسرة، ولم تذكر أمور القتال ومحاربة الخارجين على دعوة الاسلام، كما لم تتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ولا على المنافقين إلا بما فيه تهديدهم وتكذيبهم وتسفيه أحلامهم. وقد تناولت الإيمان بأركانه الستة كما يلي:

006.6.2.1- الركن الأول من أركان الإيمان: هو الإيمان بالله وحده لا شريك له، ونبذ الشركاء ودحض الشرك والخرافات التي نسجت حول صفاته سبحانه، وتحدّي الكفار ليكفّوا عن غطرستهم، وبيان معنى الألوهيّة والعبوديّة وما بينهما من علاقة. مخاطبة فطرة الإنسان بأن الله هو رب كل شيء، هو الذي خلق، وهو الذي أنشأ، وهو في السماوات وفي الأرض، وعنده مفاتح الغيب، وهو القادر، وهو القاهر، وهو الذي استخلف الإنسان وابتلاه بالعبادات والتكاليف، وهو واضع الحلال والحرام. كما في الآيات (1، 3، 12-14، 17، 18، 40-47، 63-65، 79-80، 95-99، 103 ،133، 134، 141-144، 165) وعددها 33 آية.

006.6.2.2- وجود الملائكة. كما في الآيات (8، 9، 19، 50، 61، 93، 100-102، 111-112، 158) وعددها 12 آية.

انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.1.5.8.1- الملائكة في القرآن.

006.6.2.3- الكتب المنزلة: كما في الآيات (4، 5، 7، 20-21، 37، 55-57، 66، 67، 89، 91، 92، 104-105، 114-116، 118-121، 126، 145، 146، 151-157) وعددها 33 آية.

006.6.2.4- إرسال الأنبياء والمرسلين: وأنهم من البشر، وتشجيع الرسول عليه السّلام وأتباعه ومواساتهم. كما في الآيات (10، 33، 34، 48، 49، 68-72، 74-78، 83-87، 106، 107، 117، 124، 130، 131، 147-150، 161-163) وعددها 33 آية.

006.6.2.5- توضيح قضيّة الآخرة وإعلان وجودها. وأن الناس محاسبون فيها على أعمالهم في الدنيا. كما في الآيات (2، 15، 16، 22-24، 27-32، 51-54، 60، 62، 73، 81، 82، 94، 108، 113، 127، 128، 132، 135، 138-140، 159، 164) وعددها 33 آية.

006.6.2.6- القدر خيره وشره: أو القضاء والقدر: كما في الآيات (6، 11، 25، 26، 35، 36، 38، 39، 58، 59، 88، 90، 109، 110، 122، 123، 125، 129، 136، 137، 160) وعددها 21 آية.

انظر (أدناه) إلى مزيد من التفصيل عن القضاء والقدر في هذا القسم من هذه السورة: بعض التفاصيل عن موضوع السورة.

ونشير كذلك إلى ترتيب آخر معجز، وهو أن كلّ مجموعة من المجموعات السابقة ذكرها (انظر 006.6.1- تفاصيل عن السورة حسب ترتيب آياتها) احتوت أيضاً على أركان الإسلام الستة مكررة مرّة أخرى في كل حلقة من حلقاتها، كما هو مبيّن في الجدول التالي:

الموضوع الله الملائكة الكتب الرسل اليوم الآخر القدر
1- خلق
(11 آية)
1، 3
(2 آية)
8، 9
(2 آية)
4، 5، 7
(3 آية)
10
(1 آية)
2
(1 آية)
11، 6
(2 آية)
2- ملك
رسل
(28 آية)
12-14
17، 18
(5 آية)
19
(1 آية)
20-21
37
(3 آية)
33، 34
(2 آية)
15-16
22-24
27-32
(11 آية)
25، 26
35، 36
38، 39
(6 آية)
3- تربية
(19 آية)
40-47
(8 آية)
50
(1 آية)
55-57
(3 آية)
48، 49
(2 آية)
51-54
(4 آية)
58
(1 آية)
4- حفظ
حاجه
(15 آية)
63-65
(3 آية)
61
(1 آية)
66، 67
(2 آية)
68-72
(5 آية)
60، 62
73
(3 آية)
59
(1 آية)
5-تكرار
في الأمم
(21 آية)
79-80
(2 آية)
93
(1 آية)
89
91، 92
(3 آية)
74-78
83-87
(10 آية)
81-82
94
(3 آية)
88، 90
(2 آية)
6- أدلّه
محاججه
(16 آية)
95-99
103
(6 آية)
100-102
(3 آية)
104-105
(2 آية)
106، 107
(2 آية)
108
(1 آية)
109، 110
(2 آية)
7-عداوة
تكذيب
(40 آية)
133، 134
141-144
(6 آية)
111-112
(2 آية)
114-116
118-121
126
145، 146
(10 آية)
117، 124
130، 131
147-150
(8 آية)
113
127، 128
132، 135
138-140
(8 آية)
122، 123
125، 129
136، 137
(6 آية)
8-مواساة
(15 آية)
165
(1 آية)
158
(1 آية)
151-157
(7 آية)
161-163
(3 آية)
159، 164
(2 آية)
160
(1 آية)
مجموع الآيات
(165 آية)
(33 آية) (12 آية) (33 آية) (33 آية) (33 آية) (21 آية)

 

الجدول أعلاه يوضح كيف أن المواضيع الثمانية الرئيسية في السورة احتوت في ثناياها أيضاً على أركان الإيمان الستة: وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. بمعنى أن الركن الأول من أركان الإيمان: وهو الإيمان بالله، نجده في الآيتين (1، 3) من المجموعة الأولى، ونجده مذكور في الخمس آيات (12-14، 17، 18) من المجموعة الثانية، وفي الثماني آيات (40-47) من المجموعة الثالثة، وفي الثلاث آيات (63-65) من المجموعة الرابعة، وفي الآيتين (79، 80) من المجموعة الخامسة، وفي الست آيات (95-99، 103) من المجموعة السادسة، وفي الست آيات (133، 134، 141-144) من المجموعة السابعة، وفي الآية (165) من المجموعة الثامنة. وهكذا …

الأرقام من 1- إلى 8 في الجدولين السابقين، هي نفسها أرقام المواضيع الثمانية المذكورة في بداية هذا القسم، وتعني:

1- بيان انفراد الله بخلق الكون وتدبير أمره. (موضوع المجموعة)

2- إنفراد الله بملك الكون وكلّ ما فيه. (مشهد من الواقع يؤكد الموضوع)

3- تربيته للناس بالابتلاء ليؤمنوا. (مشهد من الواقع يؤكد الموضوع)

4- حفظه لمخلوقاته وحاجتهم إليه وخضوعهم له. (مشهد من الواقع يؤكد الموضوع)

5- ثبات الأنبياء على الحق والأمر بإتباعهم والاقتداء بهداهم. (تكرار الأجيال لنفس ردود الفعل).

6- الأدلة على وحدانية الله وعظمة خلقه ونعمه. (محاججة لإعادة النظر وتأمل الآيات)

7- بيان تكذيب وإعراض الناس وعدم إيمانهم. (تكذيب رغم الواقع المشاهد)

8- تلاوة أوامر الله في الحلال والحرام والتوصية بإتباع كتابه. (مواساه الرسول عليه السلام)

006.6.3- موضوعات السورة ومعانيها لا نهاية له:

في هذه السورة يعرض علينا الخالق موضوعات فيها نماذج عن وحدانيته وتفرده بالخلق والملك، ونماذج لا تحصى من رحماته وإنعامه وقدرته وتدبيره لمخلوقاته. ولأن خلق الله ورحماته ونعمه وقدراته وتدابيره لا نهاية لها ولا يمكن أن يستوعبها عقل الإنسان، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)} النحل، فقد جاء لسان حال السورة يشير إلى هذا وإلى ضخامة عدد المعاني التي تدل على هذه الموضوعات، وعمق مرامي الكلمات التي تتحدث عنها. من يتدبر السورة سيتبيّن له أن المعاني والموضوعات التي احتوتها لن يستطيع تعدادها (عدد فقط) بشر، ناهيك عن الإحاطة بهذه الموضوعات أو فهم معانيها. احتوت السورة على عدد لا نهاية له من المعاني والموضوعات، وجاء نظمها في السورة بأسلوب شامل كامل معجز، يذهل الإنسان ويعمى عن إدراك حدوده، كما هو ذاهل الآن ومعمي عن رؤية آيات الله الواضحة الباهرة، وعطاءه العظيم الذي لا نهاية له.

لو نظرنا إلى سياق السورة من جهة تقسيمها إلى ثمانية مجموعات بمواضيع مختلفة وأن هذه المواضيع مكررة أيضاً في كل مجموعة، وحاولنا أن نفهم التراكيب المختلفة لهذه المعاني فسنجد أنها تحتوي على معاني تصل في تعدادها إلى أرقام خيالية. ثم لو نظرنا إلى سياقها من جهة تقسيمها حسب أركان الإيمان الستة، ودمجناه مع المواضيع السابقة وحاولنا أن نحصر عدد المعاني فسنجد أنها كما يلي:

ثمانية مواضيع مرفوعة للأس 8، ثم الناتج مرفوع للأس 8، ثم الناتج مضروب في ثمانية مرفوعة للأس 6، فسنصل إلى رقم 2 مضروب في 10 أس 63، أي رقم 2 أمامه 63 صفر. ولئن حاول الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذه المعاني، فلن يستطيعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولا حتى أن يعدّوها عدداً فقط، ناهيك أن يستوعبوا جميع ما فيها. أي أن جميع من عاش على هذه الأرض من أول ما ابتدأت عليها الحياة إلى أن تنتهي، من مخلوقات لو ظلّوا على مدى حياتهم يعدّون هذه الأرقام ليلاً ونهاراً، تعداداً فقط دون فهم للمعاني، ما انتهوا من هذا العمل إلى أن تقوم القيامة. هذا بدون اعتبار الأمثال والقصص في السورة والمذكورة في الباب التالي عن سياق السورة، وبدون اعتبار جهة الفئة المخاطبة، أي هل هم المؤمنين المخاطبين أم الكافرين كما هو مذكور في القسم التالي.

 

006.6.4- القضاء والقدر:

هذه السورة توضح موضوع القضاء والقدر من كل جوانبه، بشكل لا لبس فيه، ففي الآية: {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجل وأجل مسمى عنده ثمّ أنتم تمترون (2)}، والآية: {ليقضى أجل وأجل مسمّى عنده (60)} قد جعل سبحانه للناس أجلين، أجل أول وهو الذي نحن نعيشه الآن، وأجل ثاني لم يأتي زمانه بعد وعلمه مسمّى عند الله. فمعنى القضاء هو ما قضاه الله سبحانه وتعالى ولا رجوع فيه وهو أيضاً كما في الآية: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون (117)} البقرة، والآية مكرره في سورة آل عمران آية (47)، وسورة مريم آية (35)، وسورة غافر آية (68)، أما في سورة الإسراء فقد قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا (23)} فالقضاء هنا معناه، كما قال الأصفهاني في “المفردات في غريب القرآن”: فصل الأمر قولاً كان أو فعلاً، وقال أيضاً: والقضاء من الله تعالى أخص من القَدَر لأنه الفصل بين التقدير، فالقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء أن القَدَرَ بمنزلة المعدّ للكيل والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: “أتفرّ من القضاء؟ قال أفر من قضاء الله إلى قدر الله”، تنبيهاً أن القدر مالم يكن قضاء فمرجوّ أن يدفعه الله فإذا قضى فلا مدفع له.

وتقدير الله الأشياء نجده في السورة على وجهين: أحدهما: بالحكم منه أن يكون كذا أو لا يكون كذا، كما في الآيات: {وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كلّ شيء قدير (17)}، {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)}. والثاني: بإعطاء القدرة عليه، كما في الآيات: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون (160)}، وقال: {ولا تكسب كلّ نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثمّ إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)}. انظر الآيات (6، 11، 25، 26، 35، 36، 38، 39، 58، 88، 90، 109، 110، 122، 123، 125، 129، 136، 137، 160، 164) وعددها 21 آية.

أما كيفيّة حصول القدر، وهو ما أمرنا ألا نخوض فيه ففي الآيتين الأوليين، نفهم أن كل ما يحصل للإنسان من خير أوشر أو هداية أو ضلاله فهو من الله. وفي الآيتين الأخريين نفهم أن للإنسان دور وقدرة على تحديد مصيره بعمله وكسبه. فهناك قدرين أو إرادتين يبدوا لأول وهلة أنهما لا تلتقيان إرادة الله الواسعة الشاملة، وإرادة الإنسان المحصورة بما أعطاها الله إياه من قدرة على الاختيار، وابتلاها به، قال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم (165)}. تلخص هذه الآية الخاتمة للسورة مقصد سورة الأنعام كلها، كما أن مقصد السورة مختصر في آياتها الأخيرة (الآيات 151 – 165)، والتي بدورها مختصرة في آيتها الأخيره: بأن الله سبحانه جعل هذين الأجلين، ليبلو الناس فيما آتاهم في هذه الحياة الدنيا. بيّن سبحانه في الأجل الأول الحلال والحرام، وأمر بالقسط، وأوضح الصراط، وأنزل الكتاب بالهدى، وفي الأجل المسمّى عنده (الأجل الثاني) كلّ نفس محاسبة على عملها وما كسبته في الأجل الأول. وأخرج أحمد ومسلم وابن حبان الطبراني وابن مردويه عن جابر بن عبد الله: أن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله أفي أي شيء نعمل؟ أفي شيء ثبتت فيه المقادير، وجرت فيه الأقلام أم في شيء نستقبل فيه العمل؟ قال: بل في شيء ثبتت فيه المقادير وجرت فيه الأقلام. قال سراقة: ففيم العمل إذن يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فأما من أعطى واتقى (5)} إلى قوله: {فسنيسره للعسرى (10)} الليل. وقال الإمام برهان الدين البقاعي ما معناه: لا سبب لأحد في الوصول إلى النعيم غير فضله سبحانه في الأولى والأخرى قال تعالى: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (43)} الأعراف، أي الذي هدانا بالبيان والتوفيق للعمل الذي أوصلنا إليه، وما كنا أصلا لنهتدي لبناء جبلاتنا على خلاف ذلك، لولا أن هدانا الله الذي له الأمر كله.

وحول موضوع القضاء والقدر انظر أيضاً:

سورة الشمس (091.6) بعض التفاصيل عن موضوع السورة.

سورة الليل خاصة (092.2) فضائلها وما ورد عنها من الأثر.

تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 8.1.4- القضاء والقدر.

تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.7- تكامل الأسباب المادية والمعنوية.

006.7 الشكل العام وسياق السورة:

006.7.1- إسم السورة “الأنعام”:

{الحمد لله}: يستحق الله ربنا الحمد والثناء، بسب كثرة أياديه وأنواع آلائه وأنعامه على العباد. حمداً مستمراً ثابتاً، غير منقطع وغير مقيد بزمن، ولا بفاعل معين. فالحمد لله قبل حمد الحامدين، وقبل شكر الشاكرين. فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم. خلق السماوات والأرض بالحق، وجعل الظلمات والنور، وخلق الإنسان من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده. وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون. كتب على نفسه الرحمة، فاطر السماوات والأرض، أرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، أنزل الآيات والكتاب مفصلاً، هدى للإسلام، وفصل الآيات، أحل الحلال وحرم الحرام، وهدى إلى الصراط المستقيم، أوحى بالقرآن، وجعله مباركاً، وجعل يوماً للحساب، مَا فَرَّط فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير. جعل لهم السمع والبصر، وجعل لهم قلوب يفقهون بها، يَعْلَمُ السِرْ وَالجَهْر وَيَعْلَمُ مَا يَكْسِبُونَ، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبهُمْ مَرْجِعهُمْ فَيُنَبِّئهُمْ بِمَا كانوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

أرسل السماء عليهم مدرارا، وجعل الأنهار تجري من تحتهم، وهو يطعم ولا يطعم، وعنده مفاتح الغيب، وعنده خزائن الملك، ويعلم ما في البر والبحر، وكل شيء عنده في كتاب مبين، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَج بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْ مِنْهُ خَضِراً يُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ، إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، وجعل لكم َمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وجعل لكم ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ. وهو الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ، إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُو، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وهو الذي يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة، لَهُ الْمُلْكُ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَي، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً، جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وهو الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير.

هكذا تبين السورة فضل الله العظيم ونعمه التي لا تحصى ورحمته الواسعة. وتجهد بإثبات وحدانية الله وأنه صاحب الملكية لهذا الكون وهو بالتالي صاحب الحق في أن يطاع ويعبد، قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}. هم يعلمون أن الله خلق السماوات والأرض ومع ذلك فهم يعبدون غيره. ويجعلون له أنداداً، ويدعون من دونه آلهة، ويشركون معه الآلهة في العبادة، ويتخذون من دونه الشفعاء، ويكسبون السيئات، زين لهم الشيطان أعمالهم، ويفرحون بما أوتوا من النعيم والرزق. هؤلاء الناس لا يعرفون قدر الله، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}. أَمَرَهم أن يعبدوه مخلصين، وأن يكونوا من المسلمين، وأن يخافوا عذابه في اليوم العظيم، مع ذلك فهم لا يحذرون ولا يتذكرون ولا يمتثلون.

لقد تحدثت السورة عن نعم الله على الإنسان، وعن خلق السماوات والأرض وخلق الأنسان من نفس واحدة وإنزال الماء من السماء وبسط الرزق وإنزال الكتاب، وأنه ليس له ولد وهو غني عن الناس وإليه مرجعهم فيغفر ويعذب وبيده الضر والنعمة، إلخ. لكن الإنسان يجعل لله الشركاء، ويكذب بآيات الله، أصم أبكم، أعماه النعيم فلا يعرف قدر ربه، قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره (98)}، إلا إذا حرم من هذه النعمة وجاءه الخوف والعذاب من كل مكان، عندها يتحسر على ما فرّط في جنب الله، يدعو لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين. قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)}.

006.7.2- سياق السورة باعتبار الأمثال والقصص والآيات الموجودة فيها:

سياق السورة يوضح بما لا لبس فيه بأن: كون الله الخالق واحد لا شريك له هو نعمة، وإتباع دينه وما جاءت به رسله نعمة أخرى، وأن غير ذلك فساد وشقاء وعذاب. وقد قضى سبحانه أن يبتلي الناس بإيمانهم، أيّهم أحسن عملاً واتباعاً لدينه، ولو شاء لهداهم أجمعين، ولكن حق منه القول ليملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين. وقد حشدت لبيان هذا المعنى، الآيات والعبر والإشارات والإنذارات، وغيرها والتي لكثرتها وغزارتها في السورة رصّت رصّاً يصعب تمييز أطرافه، ونسجت آياتها نسجاً معجزاً، تداخلت فيها المعاني بما أفقد القدرة على الإحاطة ببداياتها ونهاياتها. لذلك ضرب سبحانه الأمثال وقص القصص وبين الآيات لتسهيل فهم الكثير من المعاني وتفهيم المقصود منها، كما يلي:

وباعتبار الأمثال والقصص التي في السورة، يمكننا تقسيمها إلى شقين: الأول فيه دلائل وآيات على أن الله وحده خالق كل شيء ومالكه ومدبره وحافظه، جاءت في 10% من عدد آيات السورة، وفيه أمثال وقصص تبين جحود الإنسان وكفره وتكذيبه وعدم شكره لنعمة ربه، جاءت في 50% من عدد الآيات؛ والشق الثاني فيه 10% من عدد الآيات تصف أفعال الكافرين والمشركين ومقابلتها بأفعال المؤمنين، و 30% من عدد الآيات تبين أن الله وحده خالق كل شيء، لا إله إلا هو، كتب على نفسه الرحمة، وله كل شيء، يطعم ولا يطعم، جعل يوماً للحساب وإقامة العدل، يجزي الحسنة بعشرة أمثالها، والسيئة بمثلها، أنزل القرآن وأرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، فصّل الحلال والحرام، هدى إلى الصراط المستقيم، ونهى عن اتباع سبل الضلال، وغيره من النعم، كما يلي:

الشق الأوّل:

006.7.2.1- آيات الله في السماوات والأرض والأنفس والموت والحياة، التي تبين وتدل على أن الله وحده خالق كل شيء ومليكه، وأنها نعمة عظيمة تستحق الحمد والثناء والطاعة والعبادة: في الآيات (1-3، 38، 59-61، 95-99، 101-103، 141، 142) = 17 آية.

006.7.2.2- ضرب الأمثال التي تبين وتسهّل فهم نعمة الهداية بإنزال الكتاب وإرسال المرسلين وأن الدنيا لعب وأن الهدى وكل شيء بأمر الله ومشيئته وأن الناس بفطرتهم يعلمون أن إلههم الله وحده لا شريك له، لكن أكثرهم يجهلون ويفترون على كلام الله ويقولون إنه سحر، ويعرضون، ويشركون، فلا يؤمنون حتى يروا العذاب: في الآيات (7-9، 32، 35، 36، 40، 41، 46، 47، 63-65، 71، 111، 122، 125، 158) = 18 آية.

006.7.2.3- مقتطفات من قصص هلاك الأمم السابقة بسبب ذنوبهم وكفرهم وتكذيبهم واستهزائهم بالمرسلين، مع قصّة محاجّة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه: في الآيات (6، 10، 11، 20، 21، 34، 42-45، 74-90، 146-150، 154) = 33 آية

006.7.2.4- مقتطفات من قصص الكفار والمشركين المكذبين للرسول محمد صلى الله عليه وسلّم، تبين استكبارهم وأعراضهم عن آيات ربهم واستهزائهم بها، ومكرهم وافترائهم وخوضهم بالباطل: في الآيات (4، 5، 25، 26، 37، 39، 66، 70، 91-93، 100، 123، 124، 136-140) = 19 آية

006.7.2.5- من قصص العذاب للمكذبين والمشركين والكافرين في اليوم الآخر: الآيات (22-24، 27-31، 94، 128-130) = 12 آية

الشق الثاني:

006.7.2.6- بيان وتفصيل صفات أفعال الكافرين والمشركين ومقابلتها بأفعال المؤمنين، لكي يعرف سبيل أو طريق كل من الفريقين، فيكونون على بينة، فإن الله تعالى لا يهلك القرى وأهلها غافلون، وتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يبلّغ ما أرسل به ويترك النتائج التي ستظهر حسب سنن الله التي لا تتغير: الآيات (33، 52-58، 68، 69، 108-110، 112-114، 159) = 17 آية = 10.3%

006.7.2.6.1- الكافرين والمشركين: فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً، وبآيات الله يجحدون، ويسخرون ويهزؤون بالمؤمنين، وضلّوا، فيعبدون ويدعون من دون الله، ويكذبون البينات، يخوضون في آيات الله، ويسبوا الله عدواً بغير علم، ويُقسمون أنهم إذا جاءتهم أية ليؤمنن بها والله يعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وفي طغيانهم يعمهون، وجعل الله منهم ومن شياطين الجن أعداء للنبيين، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، فتصغي لهم أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة.

006.7.2.6.2- المؤمنين: يريدون وجه الله، يتوبون عن فعل السوء ويصلحون فيغفر الله لهم، يعبدون الله، وعلى بينة من ربهم، يعرضون عن الخوض في آيات الله، ويذكرون الظالمين بأنهم على الباطل، يبتغون حكم الله الذي أنزل إليهم الكتاب، ويعلمون أنه منزل بالحق،

006.7.2.7- انفراد الله بالملك والتدبير والحفظ وحكمته في ابتلائهم، وبيان الصراط المستقيم وتفصيل الحلال والحرام: الآيات (12-19، 48-51، 62، 67، 72، 73، 104-107، 115-121، 126، 127، 131-135، 143-145، 151-153، 155-157، 160-165) = 49 آية، 29.7%

الآيات (12-19) الملك لله كتب، على نفسه الرحمة، فمن آمن فاز ومن كفر خسر؛ (48-51) يرسل المرسلين مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم، والذين كذبوا في العذاب؛ (62) إليه مرجعهم فيحكم بينهم؛ (67) لكل نبأ مستقر؛ (72، 73) أقيموا الصلاة، فالله حكيم خبير؛ (104-107) قد جاءكم بصائر من ربكم، فاتبع ما أوحي إليك وأعرض عن المشركين؛ (115-121) تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً فأطعه ولا تطع أكثر من في الأرض؛ (126، 127) هذا صراط الله المستقيم لقوم يذكرون، لهم دار السلام وهو وليهم؛ (131-135) لم يكن ربك مهلك القرى وأهلها غافلون، وما الله بغافل عما يعملون، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين؛ (143-145، 151-153، 155-157) بيان للحلال والحرام من الأنعام، ومن الأعمال، والأمر باتباع الصراط المستقيم، واتباع كتاب الله الذي أنزله مبارك، لعلكم ترحمون؛ (160-165) الخلاصة في بيان نعم الله: أن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وأنه هدى إلى الدين الحنيف، وأن العبادة لله وحده لا شريك له، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، إليه مرجعكم، إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم.

006.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

قد يختلف عدد الآيات هنا عن عددها أعلاه في الشرح عن سياق السورة، والسبب وجود بعض الآيات المختلفة في نفس السياق، أو أن الآية قد تحتوي على أكثر من موضوع في نفس الوقت فتصنف هنا أو هناك. فأبقيناها في سياقها الذي قد يتضمن أيضاً موضوعات أخرى.

006.7.3.1- آيات القصص: (4-6، 10، 11، 20، 21، 25، 26، 33، 34، 37، 39، 42-45، 48-58، 66-70، 74-93، 100، 104-110، 112-116، 123، 124، 136-140، 143-159) = 90 آية

006.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (22-24، 27-31، 94، 128-130) = 12 آية

006.7.3.3- الأمثال في الآيات: (7-9، 32، 35، 36، 40، 41، 46، 47، 63-65، 71، 111، 122، 125، 165) = 18 آية.

006.7.3.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (1-3، 12-14، 17، 18، 38، 59-62، 95-99، 101-103، 141، 142) = 23 آية.

006.7.4- سياق السورة باعتبار مناسبة النزول:

نزلت السورة في السنة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مكّة، مع بدايات الهجرة إلى المدينة. لم يكن في ذلك الوقت سوى قلّة قليلة من المؤمنين المضطهدين المعذّبين. ابتلي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا الوقت بأصعب الابتلاءات وعانوا أشد المعاناة. أصبحت الحياة في مكة فوق الاحتمال فلا مكان للاختباء أو حتى الهجرة، لا أمل لديهم إلا رحمة ربهم. أمّا الكفار والمشركون فكانوا يملؤون أرجاء المعمورة لا أمل أن يؤمن منهم أحد إلا أن يشاء الله.

من هنا يمكننا تبسيط السياق والقول بأن السورة جاءت بثلاث موضوعات رئيسية يسهل تمييزها كالتالي:

006.7.4.1- الموضوع الأوّل في خمس وخمسين بالمئة (55%) من آيات السورة يعرّف فيها الخالق عن نفسه، وبكلامه المباشر للناس، وأمره لنبيّه بمحاججة الكفار والمشركين لبيان ضلالهم وإبطال دعاواهم الخاطئة عن الله، وعن مقصد خلقه للناس والمخلوقات وإرشادهم إلى طريق الحق والإيمان. وهذا نجده في الآيات الموجودة في الأعمدة 1، 2، 3، 4، 6 من الجدول الأول أعلاه.

006.7.4.2- والموضوع الثاني في خمس وعشرين بالمئة (25%) من آيات السورة عن مواساة الرسول صلى الله عليه وسلّم والقلّة القليلة ممّن آمن معه وبأنّهم على الحقّ وأنّ الظالمين بآيات الله يجحدون. وهذا نجده في الآيات الموجودة في العامود 8 من الجدول الأول أعلاه.

006.7.4.3- والموضوع الثالث في عشرين بالمئة (20%) من آيات السورة تخبر الكفار والمشركين بأنهم لن يؤمنوا مهما جاءهم من الآيات وأنّ حجّته تعالى قد قامت عليهم وأنهم خاسرون في الآخرة لا محالة وسيندمون ويتحسّرون على تفريطهم في الدنيا. وهذا نجده في الآيات الموجودة في الأعمدة 5 و 7 من الجدول الأول أعلاه.

006.7.5- موضوعات السورة من منظور الفئة المقصودة بالخطاب (أو الموجه إليها الخطاب):

نزول السورة في هذه الظروف الصعبة واليأس المسيطر وهجرة المسلمين من ديارهم، جعلها تتحدّث عما يستحق الاعتراف بالجميل والحمد والثناء، وتستهجن الإشراك والجحود:

تتحدث في هذه الظروف عن الأنعام ورزق الله الواسع ورحمته الواسعة التي كتبها على نفسه، وعامل بها مخلوقاته، وذلك مواساة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولمن آمن معه. لكن الناس في المقابل تنكروا لفضله العظيم عليهم، يضيقون على أنفسهم ويتنكرون لفضله عليهم، فيشركون معه غيره، ويقتلون أنفسهم خشية الفقر، ويأكلون أموال اليتامى والضعفاء بالباطل، ويحرمون الحلال ويحلون الحرام وغيره مما أتت عليه السورة.

وكانت بذلك السورة موجهة الخطاب لفئتين: إلى فئة المؤمنين تحضهم على مواصلة مسيرتهم وتواسيهم ليفرحوا ويحمدوا ربهم على أنهم آمنوا، وعلى كلّ هذه النعم التي أشارت إليها السورة. وموجهة إلى فئة المكذبين تسفّه أحلامهم وتحضهم على أن يسمعوا ليستجيبوا، وتقرعهم وتحط من قيمة ضلالاتهم وأنهم بعدم استجابتهم لنداء ربهم أموات.

ومن الجدير ملاحظته في سياق السورة أننا لو تدبرنا الآيات التي تخاطب الكفار والمشركين من منظور الذين آمنوا فإننا نجدها جاءت بصيغة يفهم منها أنها مواساة للمؤمنين. وهذه الملاحظة تنطبق على الآيات التي تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا، فلو تدبرناها من منظور الذين كفروا نجدها قد جاءت بصيغة يفهم منها أنها تقرّع الكفار والمشركين وتسفه أحلامهم، وبذلك تكون السورة مقسومة إلى شقين شق يعرف به سبحانه على نفسه وشق آخر يفهم منه معنيين أنه يواسي به الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ويقوّي عزيمتهم والمعنى الآخر أنه يحط فيه من قدر أعمال الكفار والمشركين ويسفّه عقولهم بأنهم أموات وفي الظلمات لا يرون النور من حولهم.

 

006.7.6- عناية الله بالإنسان ورعايته له ومعاملته بالرحمة.

السورة مقسومة إلى شقين متقابلين: الشق الأول هو الله الخالق الذي بيده كل شيء، يعرّف على نفسه بصفاته الأصلية الثابتة، ويبين بأنه خالق كل شيء، وأن كل ما يدركه هؤلاء وما لا يدركونه واقع ضمن إرادته وسيطرته (أي قضاءه وقدره)، وهذه نعمة عظيمة لأن تعدد الإرادات ومناطق السيطرة تؤدي إلى التنافس والفساد. والشق الثاني هم جزء صغير أو نوع واحد من المخلوقات، إمكانياتهم محدودة وصفاتهم مكتسبة يتأثرون ببيئتهم ومحيطهم، مكلفون بالسير على صراط الخالق المستقيم، وفق إرادته، وعلى البقاء في سيطرته (وهم باقون شاءوا أم أبوا) من خلال أحكامه وتشريعاته، وهذه نعمة أخرى عظيمة لأن خروجهم عن صراطه، أي قضاءه، ضلال ما بعده ضلال، ولأنهم لا يملكون الخروج عن سننه وقوانينه إلى سنن قوانين غير موجودة، أي عن قدره خيره وشره، كما تبينه السورة. أي أن نعم الله على الناس بأن يعرفوا مصدر نعمتهم وهو الله وأن يعرفوا المقصد من حياتهم وأن يسيروا في النور لا الظلام، من آمن فاز ومن كفر خسر.

006.7.7- تضييق الإنسان على نفسه، وجحوده، ونكرانه لفضل ربه ورحمته الواسعة:

تبدأ السورة بِ {الحمد لله} كونه وحده {خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} لكن {الذين كفروا بربهم يعدلون (1)}، لقد أضاء الله الطريق وجعل البصائر وأرسل الرسل وأنزل الملائكة والكتب….إلخ، لقد كان الأولى بالناس أن يؤمنوا. إنهم آمنوا ولكنهم يعدلون. تبين السورة عناد الإنسان وجهله وكفره. هكذا طبعهم، منهم من يؤمن بدون آية ومنهم لا يؤمن مهما جاءه من الآيات كمثل ابني آدم في الآيات (27-30) من سورة المائدة، فقد بينت أن من الناس من يبلغ بهم الكفر والشر مبلغاَ لا يفيد معه الوعظ ولا الإنذار، ومنهم من يبلغ به الخير والإيمان مبلغاَ لا يبالون مقابله بفقد أرواحهم.

أعظم آياته سبحانه للناظرين وأوضحها {خلق السماوات والأرض} في الآية الأولى، ثم خلق الإنسان من طين في الآية الثانية، وذكر غيرها من الآيات الواضحة، التي يعرّف الله سبحانه فيها على نفسه وعلى خلقه للوجود وعلمه وإحاطته وتدبيره وقدرته وعلى وحدانيته ورحمته وإنعامه. وهذا نجده في الآيات الموجودة في الأعمدة 1، 2، 3، 4، 6 من الجدول أعلاه، وهي تمثل 55% من عدد آيات السورة.

بينت السورة في الآية الأولى أن {الذين كفروا بربهم يعدلون (1)}. لقد كان الأولى أن يؤمن الناس، ولكنهم يعدلون، هكذا طبعهم، مهما اتتهم من الآيات والحجج: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)}. لن يؤمنوا: حتى لو رأوا الآيات الواضحة، التي جعلها سبحانه رحمة بهم ونعمة عليهم ليهتدوا (كما ذكر في الفقرات السابقة)، أو احتاجوا الأمن والطعام، أو أخبروا أن الله يريد أن يبتليهم، أو خوّفوا بالعذاب، أو بشروا بالجنة، أو قرر لهم حساب الله في الآخرة، أو بين لهم ما أمروا به، وبين الحق من الضلال والحلال من الحرام. فهم معاندون.

006.7.8- إرسال الرسل وبسط الحجج والآيات:

السورة فيها من العظات وبسط الحج والدعوات إلى التأمل والتدبر ما يجعل طالب الحق يؤمن. فيؤمن كما آمن إبراهيم عليه السلام حين تأمل ملكوت السماوات والأرض. آمن لأول وهلة بنفوذ بصيرته وإلهام ربه {للذي فطر السماوات والأرض (79)}. أما أغلب الخلق فهم لا يؤمنون حتى تأتيهم من عند الله الرسل تبعث فيهم الحياة من بعد موتهم، قال تعالى: {أومن كان ميتاً فأحيينه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس (122)}، أي تحركهم وتأمرهم بالنظر وتدبر الآيات حتى يؤمنوا. هؤلاء الذين آمنوا لا تذكرهم السورة (فهم قلة) إلا على سبيل المثال الحسن عمّن سمعوا كلام الله فأحياهم من بعد موتهم، ولتقيم بهم الحجة على غيرهم، ممن لم يؤمنوا وبقوا على موتهم، قال تعالى: {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (122)}، فنلاحظ أن السورة لا تذكر الذين آمنوا كونهم قلّة بل تكثر من مخاطبة الكفار والذين أشركوا انظر (الآيات 111-150).

لقد عددت لنا السورة مجموعة من النماذج من الناس َاجْتَبَاهُمْ ربهم وَهَداهُمْ إِلَى الصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه (88)}، هؤلاء هم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وغيره من النبيين، الَّذِينَ آَتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة. ثم كيف أن هذه النماذج لا ينقطع المقتدون بها، وأن الإيمان مستمر، وأهله مستمرون. لكن الذين كفروا بربهم يعدلون. لقد أضاء الله لهم الطريق وجعل البصائر وأرسل الرسل….إلخ.

006.7.9- استجابة الإنسان:

وحتى لو أرسلت الرسل بأمر ربها ووحيه تبين لهم الصراط المستقيم، تساعدهم على التمييز بين النور والظلام، تأمرهم وتنهاهم، تبشرهم وتنذرهم، أو نزلت الملائكة، أو أنزلت الكتب. فمنهم من يؤمن بقليل من البيان ومنهم لا يؤمن مهما جاءه من البينات. فقد أعطاهم ربهم حريّة الاختيار، وقد بين لهم بالغ البيان أنه خلق الناس ليستخلفهم وليبتليهم، وأنه لو شاء لهداهم، وأنهم محاسبون على أعمالهم. من نعم الله على عباده أن أرسل المرسلين، مبشرين ومنذرين، بشر مثلهم، وأنهم بشر مكلفون مثل غيرهم، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وإنه لغفور رحيم، هدى للإسلام، أنزل الكتاب مفصلاً، وفصّل الآيات، أحل الحلال وحرم الحرام، وهدى إلى الصراط المستقيم. وهذا نجده في الآيات الموجودة في الأعمدة 5 و 7 من الجدول الأول أعلاه، وهي تمثل 21% من عدد آيات السورة.

تطمئن السورة الرسول صلى الله عليه وسلم وتطمئن المؤمنين وتثبتهم بأنهم قد جاءهم بصائر من ربهم وبأن الأمم السابقة والكفار يهزؤون بالرسل جحوداً، وأنهم يعرفون أنه الحق كما يعرفون أبناءهم. هؤلاء لن يؤمنوا حتى لو هددهم ربهم بالعذاب يوم القيامة وعرفوا أن مصيرهم إلى النار. كما تبين الآيات ندمهم وتحسرهم على كفرهم وشركهم وشهادتهم على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين. الكفار لن يؤمنوا مهما رأوا من الآيات فهم معاندون مكذبون. أما مشركي العرب فهم في جهلهم وضلالهم يفترون على الله الكذب زين لهم سوء أعمالهم يقلدون ما وجدوا عليه آبائهم بغير علم. ولم يعتبروا بهلاك الأمم من قبلهم. ولا بما أنزل الله على قوم موسى من النور والهدى في كتابهم، وعقاب الله لهم على بغيهم. وهذا نجده في الآيات الموجودة في العامود 8 من الجدول أعلاه، وهي تمثل 25% من عدد آيات السورة.

006.7.10- دين الحق والفطرة يقتضي الالتزام بالواجبات والمسئوليات:

الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه باتوا على قناعة أنه لن يؤمن أكثر ممّن قد آمن. وأن هؤلاء القوم متمسكون بما وجدوا عليه آباءهم وأنه هو الحق وأن ما جاءهم به الرسول عليه السلام شيء غريب مناقض (في اعتقادهم) للفطرة التي هي ما هم عليه وما وجدوا عليه آباءهم. ولو نظرنا إلى ما تقوله السورة، نلاحظ أنها تركز على أن هذا الدين الجديد هو الحق وهو ما عليه الفطرة. فالإنسان مهما بلغ به الشرك والكفر فإنه إذا صار إليه الخطر المحدق لا يطلب النجاة إلا من الله لأنه مفطور على أن الله هو المنجي، فتؤكده السورة بأن لا يشركوا به شيئاً. ومنه أيضاً أن كلّ من عنده شيء من العقل والإنسانية يعلم أن ما توصي به السورة هو عين الفطرة وهو الحق: السورة تحرّم قتل النفس، وتنهى عن الفواحش، وتحرم أكل مال اليتيم وتأمر بالإحسان إلى الوالدين، وبالوفاء بالكيل والميزان وقول الحق، وإقامة العدل. لا يمكن أن نجد إنساناً واحداً (عاقلاً) يفاخر بأنه فعل فاحشة أو أكل مال يتيم أو ظلم أحد. لكننا نجد كل الناس تحب أن تجاهر وتفاخر بأنها تكرم الوالدين أو تحسن إلى المسكين وترحم الضعيف. هم يعلمون أنه الحق، فهم مفطورون على ذلك، ولكن الشيطان والهوى في أنفسهم أعمى أبصارهم، ولن يؤمنوا حتى يأخذهم الله بغتة فإذا هم مبلسون.

ما عدا هذا الكلام فهو تنازل عن الأخلاق والمثل العليا التي تؤمن بها الفطرة، وهو ما يسمى في أيامنا الحريّة، وهي ليست حرّية بل إباحية، لأن في الإسلام دين الفطرة روابط وعقود، في البيت وفي القرابة وبين الجيران وفي المجتمع، أوّلها روابط الرجل مع زوجته، ثم روابطه مع والديه وأولاده ثم مع جيرانه وفي مجتمعه، وغيرها من روابط الوطن والدين والإنسانية. وهو من العقود التي بينتها بالتفصيل سورة المائدة، انظر الباب الخامس ملخص موضوعات السورة، وانظر أيضاً سياق نفس السورة في المبحث 005.7.7.4- والوفاء بالعقود المطالب به في السورة هو سبب من أسباب التوفيق والنعيم في الدارين في الدنيا وفي الآخرة، ويقابله نقضها فجزاؤه العقاب في الدنيا وفي الآخرة. وهذه قاعدة وسنة كونية سنها الله لعباده المؤمنين، وغير المؤمنين، والمباحث الاتي بعده.

فالفرد ليس حرّ في حياته ولا يمكن أن تستقيم الحياة بأن يكون كل فرد في المجتمع حرّ فيما يفعله لأن الأرض ستتحوّل إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف. فطرة الناس التي فطر الله عليها اقتضت أن يلتزم الفرد بواجبات ومسؤوليات وأن يتحرّك ضمن روابط وقوانين تجاه أسرته وقرابته وغيرها من الروابط المعروفة، والتي جاء الشرع ليثبتها أمراً أو نهياً، كما جاء تفصيله في سورة المائدة والسور التي قبلها.

006.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

006.8.1- بعد أن بينت السور الأربعة الأولى البقرة وآل عمران والنساء والمائدة طريق الهداية (أي الصراط المستقيم)، وبعد أن أكمل الدين في سورة المائدة، تأتي سورة الأنعام للتعريف بموجد هذه النعم. وتبدأ بحمد الله تعالى على نعمة الدين ونعمة الخلق. وافتتح الله سبحانه السورة كما افتتح خلقه بالحمد فقال: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثمّ الذين كفروا بربّهم يعدلون} وكما افتتح به كتابه فقال: {الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدّين}.

006.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة‏: أنها افتتحت بالحمد وتلك ختمت بفصل القضاء وهما متلازمتان كما قال‏:‏ ‏{‏وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ‏(75)} الزمر. وقد ظهر لي بفضل الله، مع ما قدمت الإشارة إليه في آية ‏{‏زين للناس‏ (14)} النساء‏، أنه لما ذكر في آخر المائدة ‏{‏للَهِ مُلكُ السموات والأَرض وما فيهن (120)‏}‏ على سبيل الإجمال افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ بذكر‏:‏ أنه خلق السماوات والأرض وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏وما فيهن‏}‏ في آخر المائدة. وضمن قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ أول الأنعام أن له ملك جميع المحامد وهو من بسط‏:‏ ‏{‏للَهِ مُلكُ السمواتِ والأَرض وما فيهن (120)‏}‏ في آخر المائدة‏:‏ ثم ذكر‏:‏ أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلاً مسمى وجعل له أجلاً آخر للبعث وأنه منشئ القرون قرنا بعد قرن ثم قال‏:‏ ‏{‏قل لمن ما في السموات والأَرض‏ (12)}‏ فأثبت له ملك جميع المنظورات ثم قال‏:‏ ‏{‏وله ما سكن في الليل والنهار‏ (13)}‏ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرفي الزمان ثم ذكر أنه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت والحياة ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وخلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات والأنعام ومنها حمولة وفرش وكل ذلك تفصيل لملكه ما فيهن‏: وهذه مناسبة جليلة. ثم لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والملكوتي والملكي والشيطاني والحيواني والنباتي وما تضمنته من الوصايا فكلها متعلق بالقوام والمعاش الدنيوي. ثم أشار إلى أشراط الساعة فقد جمعت هذه السورة جميع المخلوقات بأسرها وما يتعلق بها وما يرجع إليها فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها وتقديمها على ما تقدم نزوله منها وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية نظير سورة البقرة في جمعها العلوم والمصالح الدينية، ما ذكر فيها من العبادات المحضة فعلى سبيل الإيجاز والإيماء كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه فإنه على سبيل الاختصار والإشارة. فإن قلت لم لا أفتتح القرآن بهذه السورة مقدمة على سورة البقرة لأن بدء الخلق مقدم على الأحكام والتعبدات، قلت: للإشارة إلى أن مصالح الدين والآخرة مقدمة على مصالح المعاش والدنيا وأن المقصود إنما هو العبادة فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع ولأن علم بدء الخلق كالفضلة وعلوم الأحكام والتكاليف متعين على كل واحد فلذلك لا ينبغي النظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه. (انظر أيضاً (002.8.2) في مناسبة ترتيب سورة البقرة قبل الأنعام في ترتيب المصحف). ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر أتقن مما تقدم: وهو أنه لما ذكر في سورة المائدة ‏{‏يا أَيُها الذينَ آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا‏}‏ إلى آخره فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئاً مما أحل الله فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحاً لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلاً وبسطاً وإتماماً وإطناباً وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعاً وتحريماً وتحليلاً فيجب ألا يتعدى عليه بالتصرف في ملكه. وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة من وجه كونها شارحة لإجمال قوله‏:‏ ‏{‏ربِ العالمين‏}‏ وللبقرة من حيث شرحها لإجمال قوله‏:‏ ‏{‏الذي خلقَكُم والذين من قبلكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقَ لكُم ما في الأَرض جميعاً‏}‏ وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله‏:‏ ‏{‏والأنعام والحرث‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏كُلُ نفسٍ ذائقة الموت‏}‏ الآية، وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات بالوأد وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة الأول‏:‏ افتتاحها بالحمد والثاني‏:‏ مشابهتها للبقرة المفتتح بها السور المدنية من حيث أن كلاً منهما نزل مشيعاً ففي حديث أحمد‏:‏ ‏”‏البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً‏”‏ وروى الطبراني وغيره من طرق‏:‏ ‏”‏أن الأنعام شيعها سبعون ألف ملك‏”‏ وفي رواية “‏خمسمائة ملك‏”‏. ووجه آخر وهو‏:‏ أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد وهذه للربع الثاني والكهف للربع الثالث وسبأ وفاطر للربع الرابع. وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة للقرآن كنقطة في بحر. ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق ذكر فيها ما وقع عند بدء الخلق وهو قوله‏:‏ ‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة (54)}‏ ففي الصحيح‏:‏ ‏”‏لما فرغ الله من الخلق وقضى القضية كتب كتاباً عنده فوق العرش‏:‏ إن رحمتي سبقت غضبي‏”.‏

006.8.3- انظر أيضاً سورة الزمر (039.8.2) وكيف أنها تكررت فيها معاني سورة الأنعام. مع اختلاف الأسلوب وطريقة السياق، فالمعاني نفسها التي وردت في الأنعام جاءت بطريقة مختصرة في سورة الزمر، لقد افتتحت الأنعام بِ {الحمد لله} على نعمة الخلق، واختتمت بجعله سبحانه الناس {خلائف الأرض (165)} ليبلوهم فيم آتاهم من النعم. كما افتتحت سورة الزمر بالإشارة إلى نعمة نزول الكتاب بالحق: وهو العبادة والتوحيد، واختتمت بِ {الحمد لله} على وراثة الأرض طريق الجنّة وقضاء الله بالحق في الآخرة.

006.8.4- وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير ما خلاصته: لما بين تعالى في سورة البقرة وآل عمران والنساء حال أهل الصراط المستقيم وما يحصل به الفوز العظيم، وأوضح ما يستوجب الحذر بالأخذ أو بالترك، وبين حال اليهود والنصارى، ذماً لهم لنقضهم وضلالهم، وتحذيراً للمتقين من أن يصيبهم ما أصابهم، وبين حال مشركي العرب وصممهم وعماهم عن الآيات، وختم في سورة المائدة بيان حال الموقنين في القيامة {يوم ينفع الصادقين صدقهم (119)} المائدة، أشارت سورة الأنعام إلى الضالين من المجوس وعبدة الأوثان والذين ينسبون الفعل إلى النور والظلام، بأن الله {خلق السماوات والأرض}، التي عن وجودها {جعل الظلمات والنور}. ثم مرّت السورة من أولها إلى آخرها على بسط الدلالات في الموجودات، وتحريك النظر والتأمل للاعتبار من الإشارات {إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36)}، فمن الخلق من جعله الله سامعاً بأول وهلة، ومنهم الميت، والموتى على ضربين: منهم من يزاح عن جهله وعمهه، ومنهم من يبقى في ظلماته ميتاً لا حراك به {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها (122)}. فذكر السامعين لأول وهلة، والسامعين في ثاني حال، ولم تقع إشارة إلى القسم الثالث مع العلم به، وهو الباقي على هموده وموته ممن لم يحركه زاجر ولا واعظ ولا اعتبار. ولما تضمنت هذه السورة الكريمة من بسط الاعتبار وإبداء وجهات النظر ما إذا تأمله المتأمل علم أن حجة الله قائمة على العباد، وأن إرسال الرسل رحمة ونعمة وفضل وإحسان، وإذا كانت الدلالات مبسوطة والموجودات مشاهدة مفصحة، ودلالة النظر من سمع وأبصار وأفئدة موجودة، فكيف يتوقف عاقل في عظيم رحمته تعالى بإرسال الرسل! فتأكدت الحجة وتعاضدت البراهين، فلما عرف الخلق لقيام الحجة عليهم بطريق الإصغاء إلى الداعي والاعتبار بالصنعة، قال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة (149)}، {فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة (157)}، فيما عذر المعتذر بعد هذا؟ أتريدون كشف الغطاء ورؤية الأمر عياناً! لو استبصرتم لحصل لكم ما منحتم، {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك (158)}، ثم ختمت السورة من التسليم والتفويض بما يجدي مع قوله: {فلو شاء لهداكم أجمعين (149)}. وحصل من السور بيان أهل الصراط المستقيم وطبقاتهم في سلوكهم وما ينبغي لهم التزامه أو تركه، وبيان حال المتنكبين عن سلوكه من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان والمجوس.

006.8.5- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: ولما تكفلت السور المتقدّمة بالرد على مشركي العرب واليهود والنصارى مع الإشارة إلى إبطال جميع أنواع الشرك، سيق مقصود هذه السورة في أساليب متكفلة بالردّ على بقية الفرق، وهم المجوس القائلون بإلهين: النور والظلمة، وعبدة الأوثان والنجوم والشمس. فقررت السورة أنه سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض اللتين منهما وفيهما الأصنام والكواكب والأجرام التي عنها النور والظلمة.

006.8.6- وقال الألوسي: وقد يقال: إنه لما كان قطب هذه السورة يدور على إثبات الصانع، ودلائل التوحيد. حتى قال أبو إسحق الإسفراييني: إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد. ناسبت تلك السورة (أي سورة المائدة) من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام، وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد، وافترائهم الباطل هذا، ثم أنه ولما كانت نعمه سبحانه وتعالى ممّا تفوت الحصر، ولا يحيط بها نطاق العد، إلا أنها ترجع إجمالاً إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى، وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة، وأشير في الفاتحة، التي هي أم الكتاب، إلى الجميع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى الإبقاء الأول، وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني، وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدأت هذه الخمس بالتحميد. ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد.

انظر أيضاً سورة فاطر (035.8.3) عند بيان الحمد لله، وتناسب السور المفتتحة بها.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top