العودة إلى فهرس الملخص والخاتمة



وملخص القول في هذا الكتاب هو أن الله سبحانه وتعالى خلق بني آدم برحمته، ليسعدوا بمعرفته، فيتبعوا دينه، ثمّ يخلدوا أبداً في ما وعدهم به، من النعيم المقيم في الجنة. لقد ميّز الله الإنسان عن باقي المخلوقات بكثير من الخصائص والصفات، كما فصّلناه أعلاه، حتى بلغ درجةً لم تَصِلْها الملائكة، إلى سدرة المنتهى ورأى من الآيات الكبرى، قال تعالى: {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ (18)} النجم؛ وقد زوّده تعالى بأدوات العلم والفهم، وجعله متعلّماً منهوماً لا يشبع، قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ دُنْيَا”، يسعى إلى كمال العلم والمعرفة، ولكن لن يبلغه أبداً، لأن الكمال فقط لله تعالى، والإنسانُ مخلوقُ محدودُ القدرات. وأن أعظم العلوم التي خلق الإنسان لأجل معرفتها، وتميّز بقدرته على الوصول إليها، هي معرفة الله جل جلاله، وأن أعظم ثمار المعرفة هي محبة الله تعالى، ودليلها اتباع دينه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)} المائدة، وأن دين الله هو الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ (19)} آل عمران؛ وأن الإنسان إذا أطاع الله كما أمره الله حصل على ما وعده الله به من السعادة الأبدية والنعيم المقيم، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} التوبة؛ فهي إذاً، معادلةٌ بسيطةٌ سهلة، لا تحتاج سوى مشيئة صحيحة في معرفة الحقِ، وتوجهٌ صادقٌ إلى الهدى واتباع الصراط المستقيم، طريق الأمن والسلامة، ويكون طرفاها هما: الله تعالى الخالق الحق المحب، الرحيم تفضّلاً بمن يتبع دينه الحق، والإنسانُ المخلوقُ الضعيفُ المحبُ لربِه وخالقِه والمتبعُ لدينه الحق، والسعيدُ برحمته ونعمته. والتعبير هنا “طرفاها” هو تعبير مجازي عن الفعل بالنسبة لفاعله، لا للمقابلة أو الندّية، فالله هو الخالق، والإنسان هو المخلوق، وفعل الله يتصف بالكمال، وفعل الإنسان بالنقص والمحدودية، وصفات الله ليست كصفات الإنسان، وأن الله هو الحق الكامل المطلق، وأن ما عند الله هو الحق الكامل المطلق، فلا مجال للمقارنة بين الكامل والناقص، أو المحدود وغيرِ المحدود.

 

00.1- محبة الله: إن من أسمى أمنيات الإنسان هي المحبة، أي أن يُحِبَّ الإنسانُ وأن يُحَبّ؛ وهذا يتناسب مع ما بيّنه القرآنُ، من أن طريقَ الهدى هو: معرفةُ واتباعُ سبيلِ المحبةِ الذي غايةُ منتهاهُ هو حبُّ اللهُ للعبدِ كما في الآية: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (31)} آل عمران، والآية: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)} المائدة؛ والمحبةُ في الإنسانِ تزيدُ وتنقصُ، بالعلمِ والتجربةِ كما تم تفصيله أعلاه، وهي بحسبِ تركيبتهِ وطبيعةِ خِلقته، ثلاثُ درجاتٍ أو أنواع: محبةُ العقل، ومحبّة القلب، ومحبة الجسد، كما يلي:

00.1.1- محبةُ العقل: وهي محبةُ العلم، ومعرفةُ واختيارُ الحقّ، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ (83)} المائدة؛ وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} الزمر، أي: اللهُ نزّلَ القرآنَ، يشبهُ بعضُه بعضاً، ثَنى فيهِ الأمرَ مراراً، تقشعرُّ منهُ جلودُ الذينَ يخشونَ ربّهم وهم العلماء، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (28)} الأنعام؛ فالعقلُ يحبُّ العِلمَ والمعرفةَ والتَجرُبة، إلى درجةِ البكاءِ من الفرحِ والاقشعرار في الجلود من الخشية، وهو حبٌّ يقودُ بميزانِ العقلِ والعدلِ، إلى دوامِ السعيِ بالمعقولِ والمنطقِ والأسبابِ لبلوغِ أقصى الغاياتِ والنهاياتِ على طريقِ الكمال؛ والعقلُ يحبُّ تطبيقَ القوانينَ: مثلَ القَصَاصِ والمعاملاتِ التي أمر الله بها لعلمِهِ بأنها حقٌّ وأنها ليستْ غايةً بلْ وسيلةً لتحقيقِ الأمنِ والاستقرار، وكذلك المالُ ليسَ غايةً بل وسيلةً وسبباً لتسهيلِ تبادلِ المنافعِ وإدامةِ العملِ والحياة، والحياةُ الدنيا أيضاً ليستْ غاية، بل طريقُ المسافر، وكلُّها متاعٌ نستعينُ بهِ على العبادةِ لتحقيقِ السعادةِ في الدنيا والفوزِ في الآخرة، وثمرةُ العلمِ هي حبّ الله، خالقُ العلمِ وجاعلُ الأسبابِ والظلماتِ والنورِ والموتِ والحياة. لذلك: فالعلمُ بالعقلِ، والمعرفةُ بالقلبِ، مصداقاً لقوله صلى عليه وسلم: “أنا أعْلَمُكُمْ باللهِ، وأنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ القَلْبِ”.

 

00.1.2- محبةُ القلب: وهي حبُّ النفسِ لما ينفَعُها ويوافقُ مُرادَها ويُحسنُ إليها، وهي تعلُّق القلبِ بالعبادةِ والمساجدِ واتباعِ شرعِ الله، وهو تعلّقٌ بالحقِّ، ومحبةٌ للحقِّ، أكثرُ من محبةِ النفسِ والمالِ والولد، لأنّ الحقَّ أنفعُ للنفسِ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: “لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكونَ أحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِه وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ”، متفق عليه، وفي رواية لمسلم: “حَتّى أَكُونَ أَحَبّ إِلَيهِ مِن أَهلِهِ وَمَالِهِ وَالنّاسِ أَجمَعِينَ”، فحبُّ النبيِ صلى الله عليه وسلم يشملُ أنواعَ الحبِّ الثلاثة، محبةُ العقلِ لأنه جاءَ بالحقِ من عند الله وعمِلَ به، ومحبةُ القلبِ لعظيمِ صفاتهِ وأخلاقهِ وحبّهِ ورحمتِه بأُمّتِه، ومحبّةُ العملِ لأنه أَتقى الناسِ ولأن باتباعهِ تتحقَقُ محبّةُ الله، قال صلى الله عليه وسلم “إِنَّ أتْقَاكُمْ وَأعْلَمَكُمْ بِاللهِ أنَا”. ومحبةُ القلبِ هي تحرُّك الأشواقِ والمشاعرِ في النفسِ لما ينفعها، فهي تُحِبُّ ما ينفَعُهَا وتطمئنُّ له، وينشرحُ لهُ صدرَها، وأعظمُ ما ينفَعُها هو الإسلام، قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)} الأنعام؛ والنفسُ البشريّةُ السويّةُ تُحِب من أحسَنَ إليها، بل الإحسانُ يقلبُ مشاعرُها العدوانيةِ إلى موالاةٍ حميمة، يقول تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)} فصلت، لذا فإن النفسَ التي تُنكرُ الجميلَ والإحسانَ وتتناساهُ هي نفسٌ لئيمةٌ وجحودة، فالكريمُ شكورٌ واللئيمُ كفور، ويسمى هذا الأمرُ في حقّ الله تعالى: كفرانُ النعم وجحودُها، فالإنسانُ الجحودُ لنِعَمِ اللهِ هو الكنودُ الذي يَعُدّ المصائبَ وينسى نعمَ الله عليه؛ ونكرانُ الجميلِ يتنافى مع طبائع النفوسِ السوية، التي طُبعتْ على حبِ مَنْ أحسن إليها، قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ استعاذ بالله فأعيذوه، ومَنْ سألكم فأعطوه، ومَنْ دعاكم فأجيبوه، ومَنْ آتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه”.

00.1.3- محبةُ الجسدِ أو الجوارح: هي باتباعِ دينِ الله الإسلام، بأركانهِ الخمسة: الشهادتينِ والصلاةِ والزكاةِ والصومِ وحجِ البيت؛ وهي إتباعٌ بالعملِ، وتصديقُ الجسدِ لمحبةِ القلبِ، باتباع الرسولِ صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} آل عمران، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} المائدة، وقال: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (38)} محمد؛ الحبُّ هو طاعةٌ واتباع، قولٌ وعمل، يزيدُ وينقص، بالتجربةِ والبرهان، والخطأِ والصواب، والثوابِ والعقاب، كما بيناه أعلاه وفصلناه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، وإذا عملت: الحبُ زاد، وإذا ضيعت: نقص، والحب لا يكون إلا بعمل، باتباعِ هديهِ تعالى وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلّم، والصبرِ على البلوى، والعمل في طاعةِ الله، والامتناعِ عن المعصية، فإذا فعلنا ذلك أحبّنا الله.

 

المحبة تبدأ بمعرفة الله تعالى، فإذا عرفْنَا أحببْنَا فأطَعْنَا واتبَعْنَا رسولَه ودينَه، وإذا توليْنَا عصَيْنَا؛ والناسُ في هذا ثلاثة: مؤمنون وكافرون ومنافقون، ونتيجةُ هذا الطريقِ هي اختلافُ الناسُ إلى فريقين: محبينَ لله متبعينَ دينه، وهم أهلُ السعادة، ومعرضينَ محاربينَ، وهم أهلُ الشقاء. وتبدأُ الطاعةُ بتقوى اللهِ باتباعِ دينِه الإسلام، ثم بعد ممارسةِ وتطبيقِ أركانِ الإسلامِ يدخلُ الإيمانُ في القلب، ثمّ بالتجربةِ العمليةِ لأركانِ الإسلامِ وأركانِ الإيمانِ، ورؤيةِ آثارِ ونتائجِ الإيمانِ في حياةِ الإنسان، بالثوابِ والعقابِ، وبالترغيبِ والترهيبِ، والبشارةِ والنذارةِ، والوعدِ والوعيدِ، وغيرِهِ كما بينّاه أعلاه، يزدادُ الإيمانَ حتى يصلَ المؤمنُ إلى درجةِ الإحسان، وهي أن يعبُدَ اللهَ كأنهُ يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهي درجةٌ يلتزمُ بها بالطاعةِ التامّةِ والاستقامةِ على الصراطِ المستقيم، وممارسةِ فضائلِ الأخلاق، حتى يكونَ خُلُقُه القرآن، وهي الدرجةِ التي فيها حبُّ التضحيةِ وحبُّ الرياضةِ والصبرِ على القليلِ من أجلِ تحصيلِ الكثير، والصبرِ والمجاهدةِ والتدريبِ على الإيمانِ بالابتلاءِ بالخيرِ والشر، وبالصلاةِ وذكرِ اللهِ وبإلحاحِ الدعاءِ والطلبِ منَ اللهِ واليقينِ بالاستجابة، فيطمئنُّ القلبُ إلى حبِ الأفضلِ والكمالِ ونهايتهِ حبُّ اللهِ خالقِ الحبِ والصفاتِ والخلودِ والملكِ الذي لا يبلى، ورؤيةِ وجهِ اللهِ تعالى وسماعِ كلماته.

فالحب عمل وسعي ومسارعة إلى المحبوب، لا إعراض وتخاذل وهجران، هو حرص على الاهتداء إلى واتباع الطريق، لا تفريط ولا انشغال في سبل الضلال، وهو حفاظ على المحبوب لا تفريط فيه؛ إنه صبر وتوكل وتقوى وإحسان وبذل وإنفاق وإقراض لليوم الآخر، لا كفر وظلم وغرق وإنفاق في الشهوات؛ الحبُ الحقيقيُّ هو حبُّ العقل والقلب والعمل بما ينفعه ويحسن إليه وللبقاء والخلود ودوام النعيم، وليس حبُّ الفاني، والنافع الدائم هو الله. فكما أن الذي يحب الفوز بالرياضة يقضي كل وقته في التدريب، ويكره الراحة، والذي يريد النجاح يحب السهر ويكره النوم. فالذي يحب الآخرة يكره أن تضيع دقيقةً باللهو أو أن ينفق درهماً بالملذات، ويحب العبادة والصوم والصلاة والجهاد. أعظمُ حبٍّ أن تحبَّ اللهَ فيحببكَ اللهُ، لأن الله إذا أحبك كان سمعُك وبصرُك ويدُك ولو أقسمت عليه لأبرّك.

قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} البقرة، الله ولي المؤمنين، أي نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه.

00.2- في الختام (وفي سياق الحديث عن الحب والنعيم وتأكيداً لما ذكرناه أعلاه) لا بد لي من الحديث عن بعض نعم الله، وبالأخص نعم الله عليّ، وذلك لعدّة أسباب، أهمها:

00.2.1- أولاً: من باب الحديث عن النعمة {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} الشرح، أي أثن على الله بها، وخصصها بالذكر، فإن التحدث بنعمة الله، داع لشكرها، وموجب لتحبيب القلوب إلى من أنعم بها، فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن.

00.2.2- ثانياً: من باب شكر الله، فقد قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152)} البقرة، وقال {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)} إبراهيم، فقد وعد خلقه أنّ من شكر له زاده، ومن كفر حَرمه وسلبه ما أعطاه.

00.2.3- ثالثاً: الاعتراف بالفضل، والرزق، وتسخير المخلوقات، والكرامة من الله، مصداقاً لقوله {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} الاسراء، فلا بد لي من الاعتراف والتأكيد على أنني بنفسي عشت هذه التجربة الحقيقية الشيّقة والممتعة، التي خلق الله فيها الناس لكي يكرمهم ويحملهم ويرزقهم ويفضّلهم وينعم عليهم حتى يرضيهم، قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5)} الشرح، فإن في هذا الاعتراف، تعبير منّي عن الرضى عن الله، والفرح بنعمته، وترغيباً للناس في طاعة الله والرسول، والمبادرة إلى العبادة والعمل الصالح، حتى يحبهم الله ويحبونه، وتحفيز على المسارعة إلى طلب رضى ربهم؛ فلا بدّ من إشهار وشكر النعمة، حتى يعلم الناس أن الله تعالى خلق الناس لينعم عليهم ويكرمهم ويرضيهم، وليحبهم ويحبونه، وليطهرهم ويزكيهم، من غير سابق فضل فعلوه، كما فصلناه أعلاه في هذا الكتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن. الناس تتحدث عن المصائب ولا تتحدث عن النعم، وهذا من لؤم الطبع عند أكثر الناس، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} سبأ، فالمتحدث عن المصيبة لا بدّ أن يقابله، على أقل تقدير، في الحديث عن النعمة؛ والحقيقة أن المصيبة هي نعمة كما بيناه، وأن الحاجة هي أم الاختراع، وأنه لولا الجوع لما أحب الناس الطعام ولا بحثوا عنه؛ ففعل الله تعالى هو كلّه خير كما بيناه أعلاه في أسماء الله الحسنى، وقد ثبت لي بالتجربة بل بالتجارب أن كل شيء من الله هو خير مطلق، وأن الشر من فعل الناس وليس من الله، قال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ (79)} النساء، جرّبته بنفسي ولم أسمعه من أحد، بالإضافة إلى أنني سمعته أيضاً ورأيته في غيري، فأردت الحديث عنه، ترددت كثيراً بقوله، لكن لن يهدأ لي بال ولن أرتاح حتى يعلم الناس ما أحاطني به ربي من النعمة التي أنعمها علي، نعمة ليس لي فيها سابق عمل، ولا أدنى فضل، فرحاً بفضل الله ورحمته، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58)} يونس، وقال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)} النحل.

00.2.4- رابعاً: لأن شكر الله الغني الكريم يستجلب المزيد من الخير والنعمة، فقد دعا الناس إلى شكره تعريضاً منه لهم لكي ينفعهم من فضله الكبير، ويزيدهم على شكره الخير الكثير، فهو غنيّ عن شكرهم، ولا حاجة له إلى أحد من خلقه، وشكرهم إياه لا يزيد في سلطانه، ولا ينقص كفرانهم إيّاه من ملكه، قال تعالى: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ (12)} لقمان، وقال: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)} النمل؛ انظر أيضاً أعلاه (7.3.4- سعادة الإنسان بشكر الله وعبادته). ونعم الله عليّ التي أردت الحديث عنها، وشكر ربي عليها، هي باختصار:

00.2.4.1- توفيق من الله وأجر جزيل من الله، وتجارب حقيقية مختلفة فيها توجيه وتسديد من الله: وهي تدور حول أنني كنت أحاول أن أفهم مراد ربّي في خَلقي وأحاول أن أطيع ربّي على قدر استطاعتي، فتنهال عليّ نعم الله تعالى، ثمّ أعصيه فيحرمني. لقد علّمني ربّي الخير فأحببته ففزت، وحذّرني الشّر فكرهته فنجوت، لقد خلق الله النّور فاتبعته فاهتديت وخلق الظلمات فاجتنبتها فما ضللت.

 

00.2.4.2- استجابة الدعاء: في بداية حياتي وقبل بلوغي سنّ الرشد رأيت معجزتين مبينتين، زلزلتا وأيقظتا كلّ حواسّي، هما دعاءين حصلا أمامي، ثم تحققا مثل فلق الصبح، في شهرين، سمعتهما ورأيتهما ولمستهما بكل مشاعري ومكونات نفسي، واحدة من والدي وكنّا في خطر شديد أمرنا فيها والدي أن نردد {حسبنا الله ونعم الوكيل} فنجونا دون غيرنا في ذلك المكان، ولم يمسسنا سوء، وأخرى من جدتي أم والدي (الله يرحمها الله ويغفر لها)، ظلت تردّد دعاءاً واحداً في حاجة واحدة، تدعوا الله وتقول يا رب أجب الدعاء في هذا اليوم وفي هذه الساعة، فاستجاب الله لدعائها كما طلبت، في نفس اليوم وفي نفس الساعة، وأنا طفل أراقب الأحداث، فأتأثّر وأتعلّم. ثمّ بدأت أجرب، بعد أن رسخت تلك المعجزتان وحفرتا قانوناً في عقلي ونموذجاً في كياني، وقد حصلتا من البداية إلى النهاية أمامي بشكل صارخ ونتيجتهما كذلك، فبدأت أجرّب في حياتي وأتفاعل وأراقب. دعوت لنفسي أوّل دعوة بسيطة، لكن مهمّة، فلم يستجب الله لدعائي فحزنت كثيراً ولم أفهم، لكن بعد سنة أو سنتين استجاب الله لنفس الدعاء، استجابة لافتة معجزة تحققت بأضعاف أضعاف ما دعوت به، وبشهادة شهود لم يسمعوا الدعاء، ولم يعلموا الأسباب، هم خارج القصّة، ولم يدروا ما جرى تأكيداً، لكن رأوا النتيجة فتعجّبوا. عندئذ كان هذا درساً آخر مهمّاً استفدت منه طول حياتي، بأن الله يستجيب الدعاء ولكن قد يكون، وبحكمة وتقدير، فلا تستعجل، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: “ولكنكم تستعجلون” البخاري.

00.2.5- وهكذا استمرت التجارب، ويا لها من تجارب، أعلم يقيناً بشاراتها وإشاراتها ونتائجها، وتواصل الحال؛ فلقد تمنيت على الله كثيراً، في كل مراحل حياتي، وأحسنت الظن، فأعطاني بفضله كثيراً، وحرمني بالأسباب، وازداد يقيني، ومع تقدم العمر يزداد العطاء والحرمان، ومعرفة الأسباب، الخير من الله والشر من نفسي، إلى لحظتي هذه، ولن أطيل لكن ألخص من نعم الله الدنيويّة والدينيّة عليّ، ثمانية نعم، هي ما يلي:

00.2.5.1- نعمة اتباع دين الله، ونعمة محبة الله تعالى: إن محبة الله هي أعظم شيء خلق لأجله الإنسان، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)} المائدة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه إلا للّه ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه كما يكره أن يلقى في النار” صحيح البخاري.

على الرغم من أنني ترعرعت منذ طفولتي في ظروف صعبة، فقد كانت أفضل بكثير من ظروف الكثيرين ممن حولي، لكن كان ينقصني أيضاً الكثير، وعشت أوضاعاً فيها خوف ورعب وعدم استقرار، فقدت أشياء كثيرة، وعشت حرماناً عظيماً، ونشأت في ضَياع بلا أهداف، ولا بصيص أمل للمستقبل، ورافقني في طفولتي وشبابي قمعاً وكبتاً للحريّات عظيماً، وترهيباً ووعيداً، واعتداءاً على الحقوق الماديّة والحرّيات، كنت وحيداً، بلا هدى ولا معين، وكانت الشكوى خطيرة، والكلام مخيف، أتوقع أسوأ الاحتمالات، وأتمنى الخروج من هذا العالم وهذه القيود، إلى أن فقدت الثقة بكلّ شيء، وحتى ظننت أنه قد أحيط بي، إلا من أيمان بالله ضعيف بقي يلازمني، لكن بقي الله موجودا، أراه من بعيد، أريده ولا أدري كيف أصل إليه، ولا كيف هو سيأخذني إليه، ولا كيف أنجو، أو هو ينجيني؟.

وفي نفس الوقت حبب الله إلى نفسي الجدّ والعمل، فكنت أعمل الخير والشر كباقي الناس وبحسب الظروف، فصرت ألاحظ أن عمل الخير يجرّ عليّ منافع كثيرة لي ولغيري، حتى وأنا طفل صغير، وعمل الشر يجرّ عليّ عواقب وخيمة، منها عواقب لا زالت تلازمني إلى هذه الساعة؛ ولأني أريد الخير لنفسي، بدأت أتحرّى فعل الخير، واجتنب الشر، بقدر المستطاع في مجتمع يطغى فيه الشر على الخير، وبالمختصر فقد ظلّت حياتي تراوح بين الخير والشرّ إلى اليوم، كباقي الناس، ولكنّي أميل أكثر إلى الخير، فالإنسان فضولي ولا نهائي، وخطّاء يتعلم من تجاربه كما بيناه بالتفصيل. وبعد طول المسير، تعلّمت بالتجربة أن حب الخير هو حب الله وهو الحب الحقيقي، وبعد التدبر في كتاب الله، تبين لي أن الحب هو عمل، فسعدت بذلك لأنني أحب العمل، وشرط المحبة لله هو الإحسان في العمل واتباع دينه، فلا تصح المحبة ولا تقبل الدعوى من أحد إلا بما يوافقها من العمل الصحيح، أما ادعاء المحبة مع عدم التزام العمل بالدين فهو من جنس أماني أهل الكتاب التي لا تساوي شيئا عند الله، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)} آل عمران؛ نحن في الحقيقة لم نتربى على هذه الثقافة، أي مراقبة الله، وطلب رضاه، وثقافة أن معرفة الله تحتاج إلى تدريب وخبرة وممارسة؛ فها أنا والحمد لله إلى هذه الساعة أعمل، وها أنا لا أزال أتقرب إلى الله بالنوافل لعله يحبني، أرادني الله أن أحبه، فاستخدمني للعمل في سبيلة وخدمة كتابه، وزهّدني في كل حب سواه، وفي كل عمل ليس خالصاً لوجهه. وهذا لا يأتي إلا بالتدريب، فحب الله لا يأتي ببساطة وبسهولة، فنحن الذين اخترنا حمل الأمانة، وحمل الأمانة طاعة واتباع وعمل وجهاد في سبيل الله بالاختيار والإرادة، كما بينّاه، ولا بد من العمل والممارسة والتجربة، فالحب في دين الله هو تقرّب إلى الله بالأعمال، قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ (54)} المائدة، كمثل حبّ الأب الذي يعمل لعائلته لأنه يحبهم، والأم التي تسهر وتعمل لأبنائها لأنها تحبهم، وكمثل الموظف الذي يحب شركته أو العامل الذي يحب صنعته، كلّهم يحبون فيعملون، والذي يحب المال يعمل على جمعه وتخزينه، والذي يحب السلطة يموت لأجلها وهكذا، لكن محبة الله هي العمل في سبيل الله واتباع دينه، وهي المحبة الحقيقية، فالله هو الحق، قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} التوبة. ليس لي من هدف بعد تربية الله لي الحثيثة، بالهدى والتجربة، وبالترغيب والترهيب، وبالبشارة والنذارة، وبالتوفيق من الله، سوى العمل لله، وفي سبيل الله، وفي فهم مراد الله في كتابه، والعمل بما يرضيه في نشر الدين، والحمد لله، وهذه من كرامات الله وعلامات محبته بأن وفقني لطاعته والعمل في سبيله. وهذه هي النعمة الأولى والكبرى، أي هي طاعة الله واتباع دينه، وهي علامة محبته، ندعو الله أن يجعلنا من المخلصين في العمل، وأن يمن علينا بحسن الختام.

00.2.5.2- نعمة فهم القرآن، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا (58)} يونس، أي تفضّل عليكم بالقرآن وجعَلَكم من أهله؛ تمنيت يوماً أن أفهم القرآن، في الوقت الذي كنت أدرس فيه في مدارس ليس من أغراضها تدريس القرآن، ولم أكن أدري في ذلك الوقت ما الكتاب ولا الإيمان، وعندما كبرت تحققت بفضل الله ورحمته لي أمنيتي بفهم في القرآن هو الآن بين أيدي القارئ؛ أتمنى أن يجعله الله كتاباً نافعاً لكل الناس، وأن يجعله سبباً في تسهيل فهم كتاب الله، وفي أن يحبب الناس إليه، وأن يجعله الله صدقة جارية إلى يوم القيامة.

00.2.5.3- نعمة الأمان والثقة بالله والتوكل على الله. وأن الله يبتلينا لينعم علينا وأنه يريد لنا الخير ليصحح مسارنا ويصوب طريقنا ويعيد لنا صوابنا، فنرى أن الخير من الله فنشكر على النعمة ونعلم أن الشرّ من أنفسنا فنصبر على المصيبة، ونحمد الله على كل شيء، فهو يريد أن يطهرنا ويزكينا. الإنسان خطاء، اقترفنا الكثير من الجرائم بحق ربنا، وعلمنا أننا نستحق بسببها كلّ ما نالنا من الضنك والشدّة والسوء، ومن العقاب (وعصي التأديب) التي أعادتنا إلى صوابنا، فتملكنا الأمان بهدي ربنا، ووثقنا برحمته لنا وحسن تدبيره، وتوكّلنا عليه؛ واقترفنا من المعاصي ما حصل لنا بسببها سوء لن تزول آثاره بمرور الزمن، فتيقنّا من عدالة ربنا وآمنّا بأنه سريع الحساب؛ وعملنا القليل من الخير بما يرضي ربنا، فنالنا مقابله من النعم الكثيرة ما أدهشنا، لا نعلم حقاً هل أننا حقاً نستحق كل ما أكرمنا وغمرنا به ربنا. سبحانه وتعالى ما أكرمه وما أعظم شأنه، قال تعالى: {إِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (04)} النمل.

00.2.5.4- نعمة والمبشرات والمنذرات (ورؤى الأحلام): كثير من الأحيان أمرّ بموقف مصيري أو صعب أو محيّر فإذا بربي الكريم يرسل لي من يخبرني بخبر من حيث لا أدري، أو ييسر لي رؤيا صادقة أرى منها نهاية الطريق، إما بشارة أو نذارة. قرارات مهمة اتخذتها في حياتي بسبب، خبر أتاني، أو معلومة قرأتها، أو رؤيا صادقة، مواقف صعبة كثيرة اجتزتها وأنا مطمئن على أن نهايتها فرج من الله، مصائب رأيتها ورأيت نتائجها قبل أن تقع فواجهتها بكل شجاعة مطمئناً إلى ما بعدها، وبشارات أكثر وأكثر بأحداث سعيدة رأيتها وجلست أنتظرها وأستمتع بتفاصيلها. لا إله إلا الله.

 

00.2.5.5- نعمة الدعاء واستجابة الدعاء. ككل الناس عندما كنت أقع في مأزق كبير، أو أحتاج أمراً يبدو لي مستحيلاً، أتوجه إلى ربي بالدعاء، وما دعوت ربي دعوة إلا وحققها لي وبأضعاف مضاعفة، لكن ليس فوراً. والحقيقة هي أنني أفقت على الحياة لا أملك شيء، ومحروم من كلّ شيء تقريباً، عدا ضرورات البقاء، لذلك فقد كانت أحلامي وأمنياتي ودعواتي بسيطة جداً وقليلة، وهي أن أعيش بأمان وسلام وحب، وبإمكانيات قليلة، وبأشياء بسيطة، أعيش بواسطتها كإنسان عادي، لا أحتاج فيها أحد؛ فإذا بربي يفتح لي أبواب خزائنه، ويعطيني أضعاف مضاعفة، ويكرمني من كرامات أولياءه الصالحين، ويرزقني فوق ما يرضيني، ويقويني بتوكّلي عليه، حتى يجعلني سبباً في قضاء حوائج الناس، تبارك الله أكرم الأكرمين وخير الرازقين.

 

00.2.5.6- نعمة تحقيق الأمنيات والأحلام: والأعجب في واسع كرم الله وفضله عليّ، أنه بمجرّد أن تمنيت أمنيات وأردت أشياء (أي مجرّد أمنيات وليست دعوات) فإذا بها تتحقق بأمر الله، أشياء كثيرة لا تحصى (لكن ليس على الفور) تحققت، حتى بدون دعاء أو طلب من الله؛ تمنيت أن أفهم حكمة الحياة، وأن أحبها، ففهمتها وأحببتها، حتى تقاذفتني الحياة إلى كل ما فيه رضاي وسعادتي، لم يكن لي حول في ما يجري ولا قوّة، كالريشة تتقاذفها الرياح، فأسرح وأمرح وأفرح بنعمة ربّي، وفي بعض الأوقات يكاد قلبي يخرج من صدري من كثرة الرضا والسعادة والانبهار بنعمة ربي. تمنّيت أمنية وأنا صغير (بدون دعاء)، أو حلماً حلمته أن يتحقق، وأنا اليوم أعيش تحقق هذا الحلم بكل سعادة وسرور، أخبرت به بعض المقربين فتعجّبوا. (هذه الفقرة حقيقة، وليست عاطفة أو مجاز أو تشبيه أو خيال أو غيرها من التعبيرات اللغوية الغير حقيقية).

00.2.5.7- نعمة الإيواء والهدى والغنى في الدنيا: لقد كنت عالة على غيري، ولا أملك من أمر نفسي شيئاً، تأخذني الرياح حيثما اتجهت، لا أدري ما أريد، ولا بوصلة لديّ، ولا دليل، وليس لي في هذه الدنيا سوى رحمة ربي، فرغبت على ربّي، وتمنيت أن أعرف الحق، وأن أعي ماذا أريد، وأن يصير لي بيت صغير جداً يؤيني، وعائلة تعينني على مواصلة المسير، فأكرمني ربي وآواني وهداني وأغناني، فعرفت طريقي، وصارت لي عائلة أفتخر بها، وعندي من الأملاك ما يغنيني عن حاجة أحد غير الله، إلى نهاية حياتي، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)} الضحى.

00.2.5.8- نعمة الدراسة في أفضل التخصصات والعمل مع أحسن وأكبر الشركات: تمنيت أن أدرس وأتخرّج كغيري، لكن أبي لا يملك المال، فهيأ الله لي الأسباب، وحصلت على شهادات علمية، وتعلمت وتخرّجت بما اختارت لي الأقدار، وبلا اختيار مني، فما أحسنه وما أعظمه من اختيار، أعجبني وأحببته وأتقنت وتفننت بالعمل فيه، ولو عادت بي الأيام ما اخترت غيره، وتحقق لي بسببه فرص عمل كثيرة، كلما انتهت فرصة أتت التي بعدها، بأحسن من التي قبلها، وتحقق لي ولعيالي رزق طيب، ودخل مادّي ظل يزداد باضطراد مع ازدياد حاجاتي، حتى تيقنت أن الله قريب مجيب يسمع سرّتا ونجوانا، ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)} الإسراء.

لذلك ولأن أمنياتنا في السابق كانت بسيطة، ودعواتنا كانت متواضعة، على قدر فهمنا، وذلك في أيام الجهل، فأمّا اليوم، بعد أن اتسعت مداركنا لما يدور حولنا، وزاد وعينا بمقصد وجودنا، وأثريت خبراتنا بتجاربنا وتجارب غيرنا، وتعلمنا دروساً من قصصنا وقصص غيرنا، وعظمت معرفتنا بالقرآن وبأسماء الله وصفاته، وأن الله قريب مجيب، خلق الناس ليكرمهم ويعلمهم ويزكيهم ويطهرهم ويعطيهم حتى يرضيهم، فلا بد أن تتسع تطلعاتنا إلى مالا ينتهي مما عند الله ربنا، تباركت أسماء الله ربنا، ولا بدّ أن تزداد رغبتنا ويزداد طمعنا، فإن للإنسان نفس توّاقة لا تشبع، وأن نلح على ربنا بالدعاء، وأن نرفع سقف الدعاء إلى أقصى ارتفاع، فقد أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله أعلى الجنة، فقال: “إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهَا أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ يُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ” رواه البخاري؛ لذلك فإننا نقول أنه بقيت لنا أربع دعوات كبيرة، لكنها على الله قليلة، سيحققهما الله لنا إن شاء، قياساً على ما مضى من التجربة، وهما دعوتين في الدنيا ودعوتين في الآخرة، أما اللتين في الدنيا فهما أن يجعلنا الله من أهل من جاء ذكرهم في الحديث، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا” متفق عليه، وقال: “لا حسدَ إلا في اثنتَينِ: رجلٍ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يتلوه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، ورجلٍ آتاه اللهُ مالًا فهو ينفقُه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ” صحيح البخاري؛ وأمّا الدعوتين اللتين في الآخرة فهما: أن ينتفع ويستفيد كلّ الناس من هذا الكتاب ومما فيه من الحقائق المجرّبة، وأن يجعل الله لنا فيه صدقة جارية بعد موتنا إلى يوم القيامة، وأن يجعلنا من الشهداء فيجمعنا الله مع الذين قال تعالى فيهم: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69)} النساء، آمين، ولكل من تمنى مثله، إنه قريب مجيب.

00.3- خاتمة: أنا على يقين بأن هذا الكتاب مليء بالأخطاء، فالكتاب الوحيد الذي لا خطأ ولا ريب فيه هو كلام الله تعالى في القرآن الكريم، أما كلام الإنسان فلا ريب في أنه مليء بالأخطاء، لأن من صفة ابن آدم أنه خطّاء؛ وكما أني على يقين بأن كلامي في هذا الكتاب مليء بالأخطاء، كسائر كلام وكتابات بني آدم، فأنا كذلك على يقين بأن هذا الكتاب غزير بالأفكار والمعلومات القيمة التي هي ثمرة 35 سنة من التجارب الشخصية والعمل البحثي والنقدي، والتي سيستفيد منها كل من يبحث عن تسهيل فهم هذا القرآن العظيم وتدبّره بطريقة سهلة مفيدة، وبنفس الوقت يضيف ويثري كل ما سبقه من فهم وتدبّر وتفسير. فما كان فيه من الصواب فمن الله ولي فيه أجران إن شاء الله، وما كان فيه من الخطأ والزلل فمن نفسي ولي فيه أجر واحد والحمد لله. ثم إن أملي عظيم بأن يغفر لي ويسامحني قارئ هذا الكتاب حين يجد فيه الكثير من الأخطاء، وأن يأخذ بالصواب حين يجد أن فيه الكثير من الصواب.

اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} الصافات.

أعلى الصفحة Top