العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
019.0 سورة مريم
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
019.1 التعريف بالسورة:
1) مكية ماعدا الآيتان 58، 71 فمدنيتان. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 98 آية. 4) هي السورة التاسعة عشرة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والرابعة وأربعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “فاطر”. 6) ليس لها أسماء أخرى.
7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 7 مرّات، لله 1 مرّة، رب 22 مرّة وهذا يتناسب مع ما في السورة من تربية ودعوة إلى العبادة والطاعة والتصديق؛ {رحمن} 16 مرة؛ (2 مرّة): خلق، وارث؛ (1 مرّة): أعلم، يورث، أنعم، حفيّا، كتب، أحصى. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي تكرّرت فيها: برّ الوالدين ومشتقاتها 2 مرّة، وتكرر فيها {أنّى يكون لي غلم} 2 مرّة، وتكرر {قال كذلك قال ربك هو علي هيّن} 2 مرّة (مرّة الخطاب موجه لزكريا ومرّة لمريم عليهما السلام)، وتكرّر {لم يك / تك شيئاً} 2 مرّة، كذلك الآيات (13 و 14) مكرّره في الآيات (32 و 33) (مرّة الخطاب موجه ليحيى ومرّة لعيسى عليهما السلام)، صبياً 2 مرة، سمياً 2 مرة، جثياً 2 مره، لفظ شقياً 3 مرات، لفظ تقياً 3 مرات.
هي أكثر سورة تكرّر فيها ذكر: الرحمن 16 مرّة من أصل 61 مرة في القرآن كله، كلمة يرث ومشتقاتها 5 مرّات (هي والأعراف)، وهب ومشتقاتها 5 مرّات، سلام ومشتقاتها 4 مرّات (بعد الصافات 5 مرّات)، سوياً 3 مرّات من أصل 4 مرّات في القرآن، شقياً ومشتقاتها 3 مرّات (هي وطه) من أصل 12 مرّة في القرآن، جباراً 2 مرّة من أصل 10 مرّات في القرآن، غلام 4 مرّات من أصل 12 مرّة في القرآن، هيّن 2 مرّة من أصل 3 مرّات في القرآن.
تكرّرت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: جعل 11 مرّة، عبد 9 مرّات، نبي 8 مرّات؛ (7 مرّات): الكتاب، ولد، ذكر، يكن؛ (6 مرّات): شيئاً، تقي؛ (5 مرّات): أب، الشيطان؛ (4 مرّات): عدّ، رحمة، حياً؛ (3 مرّات): دعاء، ما كان؛ (1 مرّة): ما كنت.
ذكر فيها من الأسماء مريم بالإضافة إلى 12 اسم نبي هم: زكريا، يحيى، عيسى، إبراهيم، إسحق، يعقوب، موسى، هارون، إسماعيل، إدريس، نوح، إسرائيل، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
019.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، عن أم سلمة: أنّ النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب هل معك مما جاء به – يعني رسول الله – من الله من شيء؟ قال: نعم. فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) فبكى النجاشي حتّى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلّوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.
019.3 وقت ومناسبة نزولها:
أخرج البخاري وابن الضريس عن ابن مسعود قال: بنو اسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، هنّ من العتاق الأول وهن من تلادي: أي مما حفظ قديماً.
ويُفهم كذلك من تكرّر اسم الرحمن في السورة 16 مرّة على أنها من السور التي نزلت قديماً فقد كان المشركون لا يعرفون هذا الاسم، فلمّا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله تارة بأنه الله وتارة بأنه الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهين، حتى قال بعضهم: الرحمن رجل باليمامة. وقد أنزل الله قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (110)} الإسراء، احتجاجاً لنبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، وانه شئ واحد، وإن اختلفت أسماؤه وصفاته.
نزلت هذه السورة في بداية المرحلة الثالثة من الفترة المكيّة. أي قبل أن يُجبر عدد كبير من المسلمين على الهجرة إلى الحبشة. أي قبل الهجرة الثانية إلى الحبشة، فقد قرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدراً منها (الآيات 1-40) أمام النجاشيّ ملك الحبشة حين طلب منهم شرح الدين الجديد الذي جاؤوا به، فبكى النجاشي حتّى أخضل لحيته، وبكت أساقفته، ثم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. وكأنّ الآيات نزلت خصيصاَ لهذه المناسبة، وفيها درس وعبرة بأن القرآن ينطق بالحق ويخاطب الفطرة وتتحرّك له القلوب، فلا يخاف المسلمون من القول به ولو كان أمام ملك من ملوك النصارى.
019.4 مقصد السورة:
019.4.1- مقصدها بيان صفة الرحمن التي شمل بها جميع خلقه، ودل بها على وحدانية وكمال صفاته: سعد بها المؤمنون الموحدون، وشقي بها الكفار المشركون. وعجبوا من عظيم صنعه وبديع معجزاته وواسع رحمته، ولا يليق برحمته وكمال صفاته أن يتكاثر أو أن يحتاج إلى شريك أو ولد أو أن يرثه أحد (فهو الأول بلا بداية والآخر بلا نهاية) إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. واحد أحد عليم حليم، قادر على البعث والحساب وصادق في وعده بالعقاب والثواب.
وبيّن برحمته سبيل المتقين وسبيل المجرمين، وبشر عباده المتقين بالود والخير العظيم في الآخرة، وأنذر الظالمين بالعذاب المديد في الآخرة. وأعظم نعم الله على الناس هو التوحيد والعبادة والعمل الصالح لأن فيها رحمة الله والفوز في الدنيا والآخرة، والنجاة من الهلاك والخسران في الدارين الذي يحصل بسبب الشرك وعبادة الشيطان والأوثان وإتباع الشهوات.
019.4.2- مقصدها نجده في بدايتها، فتبدأ (في الآية الثانية) تقصّ علينا ذكر رحمة ربنا عبده زكريّا، ثم تواصل تقصّ ذكر رحمات الله في كلّ أركانها، فهي أكثر سورة تكررت فيها صفة الرحمن 16 مرّة، وجميع ما فيها من القصص والموضوعات والثواب والعقاب وغيرها تدور حول هذا المقصد، كما تمّ تفصيله أدناه.
019.4.3- وقال الإمام البقاعي: مقصودها بيان اتصافه سبحانه بشمول الرحمة بإفاضة النعم على جميع خلقه، المستلزم للدلالة على اتصافه لجميع صفات الكمال، المستلزم لشمول القدرة على إبداع المستغرب، المستلزم لتمام القدرة الموجب للقدرة على البعث والتنزه عن الولد لأنه لا يكون إلا لمحتاج، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سميّ له سبحانه فضلاً عن مثيل.
019.5 ملخص موضوع السورة:
019.5.1- ومقصدها هو إظهار رحمة الله بعباده وجميع خلقه، وقد استهلّت بذكر رحمة ربنا عبده زكريّا، ثم واصلت تقصّ قصص رحمات الله في كلّ أركانها، فهي أكثر سورة تكررت فيها صفة الرحمن 16 مرّة، وجميع ما فيها من القصص والموضوعات والثواب والعقاب وغيرها تدور حول هذا المقصد.
019.5.2- وباعتبار ترتيب آياتها فهي تتكوّن من مجموعتين من الآيات: الأولى (58 آية) قصص عن رحمة الله بأنبيائه وأوليائه، والثانية (37 آية) عن شقاء الكفار والمشركين وبُعدهم عن رحمة الله، وفوز المؤمنين مع بيان أسبابه، ثمّ خاتمة (3 آيات) تبشّر المؤمنين بالود وتتنذر الخصوم بالهلاك، كما يلي:
المجموعة الأولى عن رحمة الله بأنبيايه وأوليائه: وتبدأ (الآيات 1-15) بذكر رحمة الله لعبده زكريا وهو يناجيه طالباً منه الولد وأن يبقي الدين في ذريّته وذريّة آل يعقوب، وما أن ينتهي النداء والمناجاة حتى تأتي البشارة بيحيى، ابناً باراً بوالديه، حريصاً على تعلّم الكتاب، أوتي الفهم والعلم صبياً، وأوتي حنانا وزكاة وتقوى. ثمّ قصّة مريم (الآيات 16-40) اعتزلت أهلها وتنحّت عنهم إلى شرق المسجد المقدس فاتخذت لها مكاناً تستتر وتتوارى فيه وتتعبد، فكان من عظيم رحمة الله بها أن أوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام من غير أب، آية ورحمة، بارّاً بوالدته، وواحداً من الرسل الخمس أولي العزم العظام، آتاه الله الكتاب وجعله نبياً. ثمّ (الآيات 41-50) عن رحمته سبحانه بإبراهيم عليه السلام الذي اجتهد في دعوة أبيه الذي بقي وقومه يعبدون الأصنام، ثم اعتزاله لملّة الشرك، وما عوّضه الله من ذرّية بقيت فيها النبوّة والرسالة؛ فقد وهب له إسحاق ويعقوب وكلا جعل نبياً، ووهب الله لهم من الرحمة، من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والذرية الكثيرة المنتشرة، الذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون، فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة للمهتدين، ولا تزال أذكارهم في سائر العصور متجددة. ثمّ (الآيات 51-58) عن نعمة الله على الأنبياء ورحمته لهم، فقد قرّب موسى نجيّاً ووهب له أخاه هارون نبياً، وكان إسماعيل مرضيّاً، ورفع إدريس مكاناَ علياً؛ فهذه خير بيوت العالم من ذرية آدم ونوح وإبراهيم وإسرائيل، اصطفاهم الله، واختارهم، واجتباهم، وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم أن {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}.
المجموعة الثانية عن شقاء الكفار والمشركين بسبب اتباعهم الشهوات وكفرهم بالبعث وعبادتهم الأوثان وجعلهم لله الشركاء ولو أنهم آمنوا واتقوا لفازوا: وتبدأ (الآيات 59-65) بالقول أنه خلف من بعد النبيين خلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات فسوف يلقون شرّاً في جهنم؛ ومن رحمته تعالى أنه أنزل عليهم الآيات، وجعل لهم باب التوبة مفتوحاً لمن تاب وآمن وعمل صالحاً فيدخل الجنّة، لأنه سبحانه أراد لهم الجنّة، ووعدهم بها ولن يخلف الرحمن وعده. ثمّ (الآيات 66-76) بأن من أسباب كفر الإنسان بآيات ربه البينات التي فيها النجاة من العذاب، هو إنكاره للبعث غروراً بما أنعمه الله عليه من حسن المقام والمتاع، وانشغاله به عن الآخرة وعن تدبّر آياته، وعن أن الباقيات الصالحات خير ثواباً وخير مرداً. ثمّ (الآيات 77-87) عن غرور الإنسان بالأموال والأولاد، واتخاذهم المخلوقات من دون الله آلهة يعبدونها ويرجون منها النصر والعزة، وبأن هذه المخلوقات ستكفر بعبادتهم يوم القيامة وستكون لهم أعداء. ثمّ (الآيات 88-95) بأن جعلوا لله أولاداً شركاء في العبادة، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً، بل الكون كلّه يشهد له بالوحدانية ويتوجه إليه بالعبادة.
وأخيراً خاتمة تبشّر المؤمنين بالوُد وتنذر الخصوم الألدّاء بالهلاك: ففي الآيات (96-98) يخاطب سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم بخطاب رسولهم ليبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالودّ من الرحمن، ويخوف المكذبين المجادلين بالباطل بالهلاك التام.
019.5.3- أما باعتبار موضوعاتها، فبعد {كهيعص (1)} احتوت على أربع مجموعات من الآيات هي: ثلاثة وخمسون (53) آية لبيان صفات الرحمن وعلمه وقدرته، وصفات أوليائه وأنبيائه وأنهم يعبدونه ويصبرون على البلاء ويدعونه ولا يشركون به شيئاً؛ وأربع (4) آيات تبيّن أمّهات الكفر وهي أنهم أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات وكفروا بالبعث وتكبّروا بنعمة الله وأشركوا وجعلوا له الولد؛ وعشرون (20) آية فيها بيان مصير العباد كنتيجة مترتبة على أعمالهم وهي: ضلال وغفلة في الدنيا وحسرة وندامة ونار يوم القيامة، ولو أنهم آمنوا لما حصل لهم ما حصل، وهذا للكافرين، يقابله هداية وعمل صالح في الدنيا وفوز بالجنة في الآخرة وهذا للمؤمنين؛ وعشرون (20) آية = (الوحي 17) + (آيات الله 3) أخرى عن نزول الوحي بأمر الله لجميع الناس بالعبادة والصبر، وإرسال المرسلين مبشرين ومنذرين بالثواب والعقاب، مع بيان الآيات التي تدل على رحمته وقدرته على الخلق والبعث والحساب.
019.5.4- من أرد أن يعرف كيف تعمل رحمة الله تعالى، فليقرأ سورة مريم وكذلك السورتين اللتين من بعدها (طه والأنبياء)، وقد تصدّرت هذه السور الثلاث نصف القرآن الثاني، وجلّ آياتها قصص عن رحمة الله تعالى؛ كما سبق وأن تصدّرت النصف الأول سورة الفاتحة بقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)}، فنصفا القرآن متناظرين في موضوعاتهما وتسلسلهما، يبدأ كلّ منهما بتأكيد رحمة الله تعالى ثم الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان في تناسق وتكامل وتناظر بديع. فبعد أن بينت سورة مريم بقصص عن صفة الرحمن التي سعد بها المؤمنون الموحدون وشقي بها الكفار المشركون، أكّدت سورة طه أن القرآن رحمة للناس وحماية من الشقاء، وقصّت آياتها كيف أن الله تولى موسى عليه السلام طفلاً حتى صار نبيّاً برحمته وعنايته، وأهلك فرعون وقومه، ثمّ بينت سورة الأنبياء أن إرسال الأنبياء هو رحمة ونعمة كبيره من الله، وأن الدّين هو الخير والحق الذي ينسجم مع الفطرة ونظام الكون.
إن أعظم نعم الله على الإنسان هو توحيد الله وعبادته والعمل الصالح، فبه تتنزل رحمات الله، وتتحقق النجاة من الهلاك، والفوز في الدنيا والآخرة. وأعظم الخسران والطرد من رحمة الله في الدارين سببه الشرك وعبادة الشيطان والأوثان وإتباع الشهوات. فمن أراد حياة هنيّة ميسّرة، ودعوات مستجابة وأماني محققة مع ما ينتظره من الفوز والفلاح والنجاح والرحمة والرعاية والتوفيق والعناية الإلهية في الدارين فليسلم نفسه لرحمة الله، أما من أعرض وأشرك فقد اختار لنفسه حياة الضنك والشدة ومعاكسة الفطرة والخيبة والخسران في الدارين بعلمه وبكامل إرادته.
نسأل الله أن يمنّ علينا بالسلامة والنجاة والرحمة والمحبّة والودّ، وأن يتفضّل علينا بالإيمان والإحسان وعمل الصالحات.
019.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
من الطبيعي ألا تخرج موضوعات السورة عن بيان وإعطاء المزيد من التفصيل والتوضيح على المقصد الرئيسي الذي تعالجه السورة هو رحمة الله بعباده وجميع خلقه، فكل ما فيها من قصص وبيان يسير بهذا الاتجاه، كما يلي:
الآيات (1-15): السورة كلها رحمة، ويتكرر فيها لفظ الرحمة كثيراً، فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)} وهو يناجي ربه الرحمن، فقد تكرر في السورة اسم {الرّحْمَن} 16 مرة، ويناديه {نِدَاءً خَفِيًّا (3)} يطلب منه الولد، وأن يبقى الدين في ذرّيته وذرّية آل يعقوب. وما أن ينتهي النداء والمناجاة حتى تأتي البشارة سريعة بيحيى، ابناً باراً بوالديه، ذا حنان وزكاة وطهر، حريصاً على تعلّم الكتاب، آتاه الله الفهم والعلم صبياً، وغيرها من الأوصاف الجميلة. ثم يذكر نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حنانا {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)}.
الآيات (16-40): بعدما ذكر تعالى رحمته زكريا واستجابته لندائه، وأنه رزقه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً يتعلم الكتاب، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب، آية ورحمة، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة، ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا، وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى. وذكر في سورة آل عمران (انظر الآية 35) أن أمها، امرأة عمران نذرتها للعبادة وكانوا يتقربون بذلك، على أنها ذكر ولكنها وضعتها أنثى، {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً (37)} آل عمران، ونشأت في بني إسرائيل عابدة ناسكة مشهورة بذلك. وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره. اعتزلت أهلها وتنحّت عنهم، إلى شرق المسجد المقدس فاتخذت لها مكاناً تستتر وتتوارى فيه وتتعبد. فكان من عظيم رحمة الله بها (وبأمها التي كانت قد نذرتها لربها من قبل على أنها ذكر) أن أوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام باراً بوالدته وأحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام، آتاه الله الكتاب وجعله نبياً.
الآيات (41-50): رحمته سبحانه بإبراهيم عليه السلام الذي اجتهد في دعوة أبيه الذي بقي وقومه على الوثنية يعبدون الأصنام. ثم اعتزاله لملّة الشرك وما عوّضه الله من ذرّية نسلت بعد ذلك الأنبياء والمرسلين والأمة المسلمة. فقد وهب له إسحاق ويعقوب وكلا جعل نبياً، ووهب الله لهم من الرحمة، من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والذرية الكثيرة المنتشرة، الذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون، فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة للمهتدين، ولا تزال أذكارهم في سائر العصور، متجددة.
الآيات (51-58): تتحدّث عن نعمة الله على الأنبياء ورحمته لهم: فقد قرّب موسى نجيّاً ووهب له أخاه هارون نبياً، وكان إسماعيل مرضيّاً، ورفع إدريس مكاناَ علياً.
فهذه خير بيوت العالم من ذرية آدم ونوح وإبراهيم وإسرائيل، اصطفاهم الله، واختارهم، واجتباهم. وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد أن {خروا سجدا وبكيا} أي: خضعوا لآيات الله، وخشعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة، ما أوجب لهم بالبكاء والإنابة، والسجود لربهم. ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا آيات الله خروا عليها صما وعميانا. وفي إضافة الآيات إلى اسمه {الرحمن} دلالة على أن آياته، من رحمته بعباده، وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق، وبصّرهم من العمى، وأنقذهم من الضلالة، وعلّمهم من الجهالة.
الآيات (59-65): تحدثت الآيات السابقة عن صفات الذين اختارهم الله لعبادته، على صورة قصص من حياة بعض الذين أنعم الله عليهم ممن هداهم واجتباهم. وكيف كانت حياتهم، وهم ممن فهم مقصد الحياة، وأنه لا نجاة إلا بالتقوى وإتباع الدين، فكان كل همهم الدين والدعوة إليه وفي أن يستمر في ذرياتهم وفي الأجيال اللاحقة من بعدهم. لكن لحكمة أرادها الرحمن، خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. ومن رحمته تعالى بهم أن أنزل عليهم الآيات فيها وعده ووعيده، وجعل لهم باب التوبة مفتوح لمن تاب وآمن وعمل صالحاً، فيدخل الجنة، لأنه سبحانه أراد لهم الجنة، ووعدهم بها ولن يخلف الرحمن وعده.
الآيات (66-76): الكفر بالبعث: من أسباب كفر الإنسان بآيات ربه البينات، التي فيها الخلاص من الضلالة والشقاء، والنجاة من العذاب، هي كفرهم بالبعث. وذلك بسبب غرورهم بما أنعمه الله عليهم من المنزل والمسكن والمتاع الحسن والمنظر الجميل، وانشغالهم به عن الآخرة وعن تدبر آيات الله، وعن أن الباقيات الصالحات خير ثواباً وخير مرداً.
الآيات (77-87): عبادة الأوثان: غرور الإنسان بالأموال والأولاد، واتخاذهم المخلوقات من دون الله آلهة يعبدونهم ويرجون منهم النصر والعزة. لكنهم سيكفرون بعبادتهم يوم القيامة وسيكونون لهم أعداء.
الآيات (88-95): الشرك بالله: جعل الأولاد شركاء لله في العبادة وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً. بل الكون كله يشهد له بالوحدانية ويتوجه إليه بالعبادة.
الآيات (96-98): يخاطب سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم بخطاب رسولهم ليبشر به المتقين من أتباعه، ويخوف به المكذبين المجادلين بالباطل. ويصور سبحانه النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود، والهلاك التام الذي يلقاه المكذبين المجادلين بالباطل في صورة فناء من الوجود، ما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم صوتاً.
019.7 الشكل العام وسياق السورة:
019.7.1.1- سميت سورة مريم إشارة إلى رحمة الله التي لا حدود لها، وإشارة إلى أنه قريب جداً من عباده بلا واسطة ولا وسيط، مجيب لدعائهم رحيم بهم. فقد نذرتها أمها امرأة عمران للعبادة، فتقبلها ربها ونشأت عابدة ناسكة مشهورة بذلك. ولم تقف رحمة الله واستجابته لدعاء امرأة عمران عند هذا الحد، بل اصطفى مريم على نساء العالمين وطهرها وبشرها بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، وجيهاً في الدنيا ومن المقربين باراً بوالدته ورسولاً عظيماً من أولي العزم من الرسل.
وفيها إشارة إلى وحدانيّة الله وكمال صفاته، بدلالة تلك المعجزة الباهرة في خلق إنسان بلا أب، ثمّ إنطاق الله للوليد وهو طفل في المهد وما جرى من أحداث معجزة رافقت ميلاد عيسى عليه السلام. ومن قبله امرأة زكريا وهبها الله يحيا وكانت عاقرا. كل شيء هيّن على الله لا شيء يقف أمام ارادته فهو يفعل ما يشاء وكيف يشاء وأينما شاء {إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون (35)}. كذلك سيقت قصة زكريا ومريم في المقدمة لتبين حاجة الإنسان للولد، بينما الله سبحانه ليس بحاجة.
كما ذكرت السورة اسم المرأة الوحيدة في القرآن وهي السيدة مريم.
019.7.1.2- يقول الإمام البقاعي: دلّت تسميتها بمريم: على أنه لا سمي له سبحانه فضلاً عن مثيل، لأن قصتها أدل ما فيها على تمام القدرة وشمول العلم، لأن أغرب ما في المخلوقات وأجمعه خلقاً الآدمي، وأعجب أقسام توليده الأربعة (بعد كونه آدمياً): ما كان من أنثى بلا توسط ذكر، لأن ذلك أضعف الأقسام. وأغرب ذلك أن يتولد منها على ضعفها أقوى النوع وهو الذكر. ولا سيما إن أوتي قوّة الكلام والعلم والكتاب في حالة الطفولية. وأن يخبر بسلامته الكاملة فيكون الأمر كذلك، لم يقدر أحد (مع كثرة الأعداء) على أن يمسه بشيء من أذى. هذا إلى ما جمعته من إخراج الرطب في غير حينه من يابس الحطب، ومن إنباع الماء في غير موضعه.
019.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها وقصصها:
تنقسم السورة حسب موضوعات آياتها إلى شطرين متقاربين في عدد الآيات، أحدهما قصص والآخر تعقيب، ويتناولان مقصد السورة من زاويتان متقابلتان. الشطر الأول وهو الأكبر هو عبارة عن قصص فيها بيان رحمة الله بعباده من أولياءه وأنبياءه، والشطر الثاني يعيد تأكيد ما جاءت به القصص ولكن بالحديث عن الكافرين، وبيان أن العبادة سعادة وأن الكفر والشرك شقاء وأن الله جعل البعث والحساب لتجزى كل نفس بما كسبت. وفيه كذلك بيان إحاطة رحمة الله بكل الناس بإرسال الوحي والآيات لبيان طريق الهدى وأن الله ربهم وأن هناك بعث بعد الموت وحساب على الأعمال. كما يلي:
019.7.2.1- بيان صفة الرحمن وعلمه وقدرته ورحمته وأنه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون. يقابله بيان صفات أولياء الله وأنبيائه وأنهم يعبدون الله يصبرون على البلاء يدعون ربهم ولا يشركون به شيئاً ويؤمنون بالبعث بعد الموت.
اعتمدت السورة لبيان مقصدها ومواضيعها على قصص حقيقية من سيرة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، تبين صفة الرحمن وكيف أنه رحيم بأنبيائه وأوليائه، يؤمنون به ويستمتعون بعبادته وبالقرب منه، قد عرفوا مقصد وجودهم ووجدوا في ذلك سعادتهم، فهم لا يطلبون شيئاً لدنياهم بل كل همهم في آخرتهم وأن يستمر الدين في ذرياتهم، عرفوا الحق فخروا له سجداً وبكياً، عرفوا أن في العبادة سعادتهم وصلاح دنياهم وآخرتهم، وأن ربهم يهبهم من رحماته، يسمع دعاءهم ويستجيب لندائهم ويحقق لهم أمنياتهم في الدنيا وفي الآخرة، ويعطيهم أكثر مما يطلبون ويحقق لهم المعجزات ويخرق العادات لأجل تحقيق أمنياتهم مصالحهم، هداهم واجتباهم وتلا عليهم آياته. وهي نصف عدد آيات السورة تقريباً وتقع في شطرها الأول ذكر فيها من أنبياء الله وأولياءه: زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس ونوح وإسرائيل وهي الآيات: (2-36، 41-58) = 53 آية.
019.7.2.2- بيان صفات وأعمال الكفار في 4 آيات فقط تبين أمهات الكفر وهي أنهم أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وكفروا بالبعث، وتكبروا بنعمة الله على المؤمنين وعلى العبادة، وأشركوا بالله وجعلوا له الولد. وهي الآيات: (59، 66، 73، 88) = 4 آيات.
يقابل كل هذه الرحمة التي تحيط بعباد الرحمن وهذا النعيم والسعادة، شقاء في الدنيا وحسرة وعذاب في الآخرة لمن ضلّوا عن الآيات وعصوا الرحمن وعبدوا الشيطان وأساءوا الظن بالرحمن ورحمته وتكريمه لعباده، فجعلوهم شركاء له على غير وجه حق وهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وعصوا الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون. لقد ضل سعيهم وخاب ممشاهم، ما أجرأهم على الحق، وما أصبرهم على العذاب يوم القيامة.
019.7.2.3- نزول الوحي بأمر الله لجميع الناس بالعبادة والصبر، وإرسال المرسلين مبشرين ومنذرين بالثواب والعقاب، وبيان الآيات التي تدل على رحمته وقدرته وعلى الخلق والبعث والحساب. وهي الآيات: (الوحي: 64، 65، 75-84، 89-92، 97 (17 آية))، (آيات لله: 67، 74، 98، (3 آيات)) = 20 آية.
019.7.2.4- بيان مصير العباد كنتيجة مترتبة على أعمالهم في الدنيا وهي: ضلال وغفلة في الدنيا وحسرة وندامة ونار يوم القيامة وهذا للكافرين، ولو أنهم آمنوا لما حصل لهم ما حصل، يقابله هداية وعمل صالح في الدنيا وفوز بالجنة في الآخرة وهو للمؤمنين. وهي الآيات: (37-40، 60-63، 68-72، 85-87، 93-96) = 20 آية.
019.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
019.7.3.1- آيات القصص: (1-60، 73، 74، 77-82، 88، 97، 98) = 71 آية.
019.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (61-63، 68-72، 85-87، 93-96) = 15 آية.
019.7.3.3- الأمثال في الآيات: (89-92) = 4 آيات.
019.7.3.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (64-67) = 4 آيات.
019.7.3.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (75، 76، 83، 84) = 4 آيات.
019.7.4- سياق السورة في بيان أن الله رحمن:
019.7.4.1- هذه السورة سمتها الرحمة، وهي أكثر سورة فيها ذكر الرحمن، وفيها بيان شمول رحمة الله بإفاضة النعم على جميع خلقه، والتي اختص بها النبيين المصطفين من خلقه والمؤمنين الذين يعملون الصالحات من عباده. وأعظم نعم الله على الناس هو التوحيد والعبادة والعمل الصالح لأن فيها رحمة الله والفوز والنجاة من الهلاك في الدنيا والآخرة. وأعظم الخسران للإنسان والطرد من رحمة الله في الدارين يحصل بسبب الشرك وعبادة الشيطان والأوثان وإتباع الشهوات. ومن دلائل رحمته المعجزة كما جاء في السورة ما يلي:
من رحمته بعباده وأوليائه أن ناداه زكريا في حاجته فاستجاب له ووهب له يحيى، واستجارت به مريم من أن ينالها السوء في محنتها فوهبها غلاماً براً بها ويكلم الناس في المهد وجعله نبياً، عصاه الشيطان فحذر عباده من طاعته واتباعه، جعل في ذرية إبراهيم النبوة، ووهب آل إبراهيم رحمة وفضلاً لا يحصى وجعل له وذريته ذكراً حسناً، قرب موسى نجياً ووهب له أخاه هارون نبياً، وكان إسماعيل عنده مرضياً، ورفع إدريس مكاناً علياً، هؤلاء الذين أنعم الله عليهم وهداهم للإيمان واصطفاهم للنبوة إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجداً وبكياً.
019.7.4.2- وكذلك فإن ثوابه رحمة وعقابه رحمة، جعل يوماً لإقامة العدل بين مخلوقاته المكلفين أسماه يوم الدين. رغّب (بإقامة هذا اليوم) عبادَهُ المؤمنين وبشرهم بالنعيم المقيم بدخول الجنّة، وخوّف به الكفار من الناس وأنذرهم بالعذاب الأليم في النار. وذلك كما يلي:
نسردها بحسب ترتيب الآيات في السورة: فقد وعد عباده بالخلود والإقامة الدائمة في جناته، كما بدأ بعذاب أشد الطوائف عصياناً وجرأة، وأمهل الضالين واستدرجهم، وسيكتب ما يقول الكافرين من كذب وافتراء لينالوا في الآخرة أنواع العقوبات، وأحصى أعمارهم وأعمالهم، سيجمع المتقين إليه وفوداً مكرمين، ويساق الكافرين إلى النار مشاة عطاشاً، ولا يملك الكفار الشفاعة لأحد إنما يملكها من اتخذ عند الرحمن عهداً بذلك، وقال هؤلاء الكفار اتخذ الرحمن ولداً تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وما يصلح ولا يليق بعظمته ذلك لأن اتخاذ الولد يدل على النقص وهو مبرأ عن النقائص، والكل آتيه يوم القيامة عبداً ذليلاً مقراً بعبادته.
019.7.4.3- السياق فيه بيان صفة الرحمن التي وهب منها عباده المتقين ما بهر به العقول بإبداعه وإعجازه، وبيان صفة ضعف العباد وجهل أكثرهم وزهدهم برحمة ربهم بعد أن أضلهم الشيطان عنها وضلالهم مع حاجتهم لرحمة ربهم وهم في أمس الحاجة إليها. وقد عاملهم بصفة الرحمن بطريقة تدل على حلمه وعلمه ورحمته.
كذلك صفته الرحمن قبل أن يخلق الكون والوجود، وصفة الرحمة كتبها على نفسه وعامل بها مخلوقاته بعد إيجادها، وأن العباد مخلوقة محتاجة إلى رحمته لا غنى لهم عنها، بين لهم ذلك من خلال رحماته الخارقة والمعجزة لهم أنه خلقهم من لا شيء، وجعل لهم الأزواج والذرية، ورزقهم من الطيبات، عطاءه رحمة ومنعه رحمة، وهو عليه هين، إنما أمره أن يقول للشيء كن فيكون، ليس كمثله شيء، لا يتخذ الولد وليس بحاجة إلى الشريك، وارث الأرض ومن عليها، أرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، جعل يوماً يقضي به بين مخلوقاته يقيم العدل ويزيل الظلم، ثوابه رحمة وعقابه رحمة، يهدي برحمته من يشاء ويضل من يشاء، خلق الجنة وخلق النار، وأحصى على الناس أعمالهم، وكتب أقوالهم، أدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة برحمته، وسيق الكافرين إلى النار بظلمهم وإجرامهم.
019.7.5- سياق السورة في بيان ضعف العباد وجهلهم وزهدهم برحمة ربهم وهم في أمس الحاجة لها:
الناس فئتين فئة موفقة في كل أمورها حياتها هنية ميسرة دعواتها مستجابة أمانيها محققة وهم الذين بينهم الشطر الأول من السورة، وأخرى تعيش في الضنك والشدة كل شيء يسير معها بالعكس وهم الذين بينهم الشطر الثاني كما يلي:
هذه الفئة هم الظالمون الذين هم في هذه الدنيا في ضلال مبين، ويعبدون الآلهة من دون الله، وهم في غفلة عن أنهم إلى الله مصيرهم، وفي غفلة عن ما أنذروا به من الويل والعذاب الشديد، وعن يوم القيامة الذي يفصل فيه بين الناس الذي يتحسرون فيه على ترك الإيمان وعمل الصالحات في الدنيا، يعبدون مالا يسمع ولا يبصر، ولا ينفع ولا يضر، ويعبدون الشيطان الذي عصى الرحمن، تركوا الصلوات واتبعوا الشهوات، ينكرون حقيقة البعث بعد الموت، نسوا كيف أن الله خلقهم أول مرة ولم يكونوا شيئاً موجوداً، وقد أقسم الرحمن أنه سيحشرهم مع شياطينهم باركين على ركبهم حول جهنم من شدة ما فيهم من الهول لا يقدرون على القيام، حين يبدأ العذاب بأشدهم تمرداً وعصياناً لله، فالله أعلم بالذين هم أحق من غيرهم بالنار دخولاً واحتراقاً، وقد قضى سبحانه أنه ما من أحد إلا وارد النار ثم ينجي الذين اتقوا ربهم ويترك الظالمين أنفسهم بالكفر والشرك باركين على ركبهم، كانوا حينما تتنزل الآيات يتساءلون ظانين أنهم في ناديهم الذي يجتمعون فيه خير من المؤمنين، وقد هلك من قبلهم أمم كثيرة كانوا أحسن منهم مالاً ومتاعاً وأجمل منظراً، من كان في الضلالة فإن الله يمهله استدراجاً حتى إذا رأى يقيناً ما توعده الله به إما العذاب العاجل في الدنيا وإما قيام الساعة حيث جهنم فيدخلونها فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف أعواناً، إذ الظالمون أعوانهم الشياطين والمؤمنين أعوانهم الملائكة، والخير الباقي عند الله للمؤمنين ثواب العمل الصالح هو خير عاقبة وليس ما يفاخر به الكفار من متاع الدنيا الفاني، وقد ضرب الله مثلاً أحد الكفار أنه ادعى (وأمثاله) أنه إذا رجع إلى الله ليؤتين مالاً وولداً، هل اطلع هذا الظالم على الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله، بل سيسلب منه ما كان عنده من الأموال والأولاد في الدنيا عكس ما قال، ويزداد من العقوبات والعذاب بسبب ادعاءه فوق ما سيناله من عذاب جزاء كفره. هؤلاء الكفار المشركين بربهم اتخذوا من دونه آلهة يعتزون بها ويستنصرونها، وليس الأمر كما زعموا فسيكفرون بعبادتهم يوم القيامة ويكونون أعواناً عليهم تخاصمهم يلعن بعضهم بعضاً بخلاف ما ظنوا فيهم. وقد أرسلت الشياطين على الكافرين تحرضهم على المؤمنين، وتغريهم وتستعجلهم إلى المعاصي، إنما يؤخرهم لأجل معدود مضبوط، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله، في يوم يرد فيه المتقين قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم، فإنهم يساقون عنفاً إلى النار عطاشاً، ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، قالوا على الرحمن قولاً عظيماً منكراً أنه اتخذ ولداً ولا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته، لأنه لا كفء له من خلقه، لأن جميع الخلائق في السماوات والأرض عبيد له، قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً لا ناصر لهم ولا مال ولا ولد، فيحكم في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم أحداً. وقد أهلك سبحانه الكثير من الأمم السابقة بكفرهم وظلمهم وهذا فيه تهديد ووعيد بإهلاك المكذبين المعاندين.
019.7.6- سياق السورة في بيان حاجة العباد لرحمة ربهم وأن الابتلاء رحمة:
حدثنا قتيبة، أخبرنا شريك عن عاصم، عن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت: – “يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: “الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فان كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وان كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة”. حديث حسن صحيح.
تؤكد السورة ما نصّ عليه الحديث السابق: وهو أن الذين أنعم الله عليهم واجتباهم كانوا أكثر نصيباً من غيرهم في الابتلاء. بل كانت في حياتهم مصائب أو ابتلاءات تكاد لا تحتمل، ورغم ذلك فلم يكن لجوؤهم إلا إلى الله سبحانه. وكلما ازدادت الهداية والاصطفاء ازدادت شدة الابتلاء. هذه رحمة من لله لكي يصلوا بهذه الشدائد إلى أعلى المراتب في الدنيا والآخرة. لحكمة لا نعلم سرّها أرادها الخالق، كان الغرض من خلق الإنسان هو أن يبتلى بالأعمال {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً (7)} هود، وأن يمحص في صبره على الشدائد والمصائب، هذا قدر الله، فالمهتدي يصبر لأنه يعلم أن سبب وجوده هو الابتلاء بالعمل والعبادة، أما الضال فلا يصبر لأنه يريد أن يأخذ من الدنيا أكبر قدر يستطيعه، وأن يستمتع بشهواته إلى أقصى حد يدركه، فهو لا يعلم من أمر وجوده شيء سوى هذا الأخذ والاستمتاع. فهل يستوي في الأجر من ابتلاه ربه فصبر مع من لم يبتليه ربه ولم يصبر، لا يستويان. فقدر الله أن يكون الابتلاء والشدائد رحمة. وحياة الإنسان كلها فتن وشدائد وابتلاءات، ومن أدلّة ابتلائه لأوليائه كما أوردته السورة ما يلي:
حرمان زكريا عليه السلام من الولد مع حبه وشدة حرصه على استمرار الدين في ذريته وفي الأجيال القادمة هو ابتلاء عظيم، لا يستطيع أن يصبر عليه من يحمل همّ الدين مثل زكريا، ولم يجد زكريا بداً في نهاية المطاف من دعاء ربه الكريم أن يرزقه الولد. وابتلاء مريم (وهي التي وهبت حياتها لعبادة الله فاتخذت من أهلها حجاباً) بالحمل والولادة بدون أن تتزوج، لقد تمنت أن لم تكون من شدة الابتلاء فأكرمها ربها بأن جعل حملها نبياً دافع عنها وتكلم في المهد صبياً. وإبراهيم عليه السلام، هو أفضل الأنبياء كلهم، بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وهو الذي دعا الخلق إلى الله، وصبر على ما ناله من العذاب العظيم، فدعا القريب والبعيد، واجتهد في دعوة أبيه الذي بقي على الوثنية يعبد الشيطان والأصنام، فمن عبد غير الله، فقد عبد الشيطان. ثم وهب له إسحاق ويعقوب وكلا جعل نبياً، ووهب الله لهم من الرحمة، من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والذرية الكثيرة المنتشرة، الذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون، فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة للمهتدين، ولا تزال أذكارهم في سائر العصور، متجددة، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وموسى عليه السلام، جمع الله له بين الرسالة والنبوة، بل اختص من بين الأنبياء، بأنه كليم الرحمن، ومناجيا لله تعالى، وقد ابتلاه ربه فاحتاج إلى أخيه هارون لكي يستطع تبليغ رسالته. سأل ربه أن يشركه في أمره، وأن يجعله رسولا مثله، فاستجاب الله له ذلك، ووهب له من رحمته، أخاه هرون نبيا. فنبوة هرون، تابعة لنبوة موسى عليهما السلام، فساعده على أمره، وأعانه عليه. وكذلك إسماعيل عليه السلام، هذا النبي العظيم، الذي خرج منه العرب، أفضل الشعوب وأجلها، الذين منهم سيد ولد آدم. إنه كان لا يعد وعداً، إلا وفى به، صبر على ذبح أبيه له، الذي هو أكبر مصيبة تصيب الإنسان. لقد وصف بالرسالة والنبوة، التي هي أكبر منن الله على عبده، وجعله من الطبقة العليا من الخلق، كان مقيما لأمر الله على أهله فيأمرهم بالصلاة المتضمنة للإخلاص للمعبود، وبالزكاة المتضمنة للإحسان إلى العبيد، فكمل نفسه، وكمل غيره وخصوصا أخص الناس عنده وهم أهله لأنهم أحق بدعوته من غيرهم. “وكان عند ربه مرضيا” وذلك بسبب امتثاله لمراضي ربه واجتهاده فيما يرضيه، فرضي الله عنه، ورضي هو عن ربه. وكذلك إدريس عليه السلام، {إنه كان صديقا نبيا}، جمع الله له بين الصديقية، الجامعة للتصديق التام، والعلم الكامل، واليقين الثابت، والعمل الصالح، وبين اصطفائه لوحيه، واختياره لرسالته. رفع الله ذكره في العالمين، ومنزلته بين المقربين، فكان عالي الذكر، عالي المنزلة.
لما ذكر هؤلاء الأنبياء المكرمين، وخواص المرسلين، وذكر فضائلهم ومراتبهم، وأنه أنعم عليهم نعمة لا تلحق، ومنة لا تسبق، من النبوة والرسالة، وأن من أطاع الله كان معهم، اصطفاهم الله، واختارهم، واجتباهم. وكان حالهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم، المتضمنة للإخبار بالغيوب وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد: {خروا سجدا وبكيا}. ولم يكونوا من الذين إذا سمعوا آيات ربهم خروا عليها صما وعميانا. وفي إضافة الآيات إلى اسمه {الرحمن} دلالة على أن آياته، من رحمته بعباده، وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق.
لذلك فالعبادة والعمل الصالح ابتلاء. والابتلاء نوعين الابتلاء بالدين والعبادة والعمل الصالح والابتلاء بزينة الحياة الدنيا. هذه السورة تركز على الابتلاء بالدنيا وأن جميع الناس غير مستثنين من هذا الابتلاء صالحهم وطالحهم مقربهم والمغضوب عليهم. هذا بعد أن ذكرت سورة الكهف جميع أنواع الابتلاء. وكذلك فالشيطان فتنة جعله الله داعياً إلى الضلالة وعبادة الأوثان، والشرك أيضاً فتنة وابتلاء يمتحن به الله الجهلاء المعرضين عن تعلم هدى الله وتدبر آياته.
019.7.7- سياق في أن العبادة رحمة:
هذا الدين وما فيه من الدعوة إلى التوحيد هو للإنسان، رحمة الله بعباده وهم يعيشون في كنفه ينفذون نواهيه وأوامره، يطيعونه لحبهم إياه، ويتلذذون بعبادته، هم ليسوا بدعاً من الكون الذي حين دعاه ربه أن يأتي طوعاً أو كرهاً فأجابته السماوات والأرض أن أتينا طائعين، إن رحمة الله بهم أن يكلّفهم بالعمل ليكافئهم وأن يبتليهم ليرحمهم، التكاليف فيها سعادتهم، وقد وجدت لإسعاد حياتهم وفوزهم. الله سبحانه ليس بحاجة لأي شيء من أعمال الإنسان، بل عمل الإنسان له وحده. العبادات تعلّم الإنسان الأخلاق، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر. الدين أخلاق لينظم حياة الناس بعضهم مع بعض، ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، فأهم عبادات الغني أن يعمل بإنفاق المال على المحتاجين، والفقير عبادته الأولى في السعي لكسب الرزق، المبتلى عبادته في الصبر والصلاة، والأمي عبادته الأولى في التعلم إلخ…، الصلاة دعاء وكلام مع الخالق وسماع كلامه ورفع الشكوى له وطلب الحاجات منه.
الله سبحانه رحيم بعباده يفيض عليهم من نعمه، عاجلها في الدنيا، وآجلها في الآخرة، جعلهم كلهم سواسية، خلقهم للعبادة، والعبادة من أعظم نعم الله على الإنسان فيها الفوز والفلاح والنجاح، ثوابها هو الرحمة في الدنيا والرعاية والتوفيق والعناية الإلهية كما تبينه القصص في النصف الأول من السورة وقصص باقي الأنبياء في هذه السورة، وكذلك جزاء العمل بها هو النعيم الخالد في الجنّة يوم القيامة كما نصت عليه السورة أيضاً في النصف الأخير من الآيات، فقد خلق الإنسان للعبادة وفطرت كل حياته عليها.
019.7.8- سياق السورة في بيان التوحيد والعبادة والإيمان بالبعث ونفي الشريك، في مقابل بيان أمهات الكفر الثلاث وهي الكفر بالبعث، وعبادة غير الله من الشركاء ليكونوا لهم عزاً، والشرك وجعل الولد، ومن ثم نفيها:
019.7.8.1- الله واحد لا شريك له: جاء في الشطر الأول من السورة بيان صفة رحمن السماوات والأرض وأنه باسط يديه لعباده بالرحمة وأن سعادة الموحدين بقربهم من الله الواحد وبرحمته التي تظلهم فهو أوجدهم ولم يكونوا من قبل شيئاً، ونفخ من روحه فيهم. أما الإنسان فهو في كل لحظة من لحظات حياته محتاج إلى رحمة ربه. وجاء في الشطر الثاني بيان شقاء الكافرين المشركين بسبب شركهم.
019.7.8.2- العبادة: بيّن الشطر الأول من السورة رحمة الله ورعايته وتدبيره تحيط بعباده في كل لحظة من لحظات حياتهم. كذلك حاجة الناس إلى الله وإلى هدايته وعبادته، الصبر عليها والتضرع إليه لكي ينالوا توفيقه وعنايته في الدنيا، ولكي يدخلوا جنته وينجوا من عذابه في الآخرة. وهو واحد أحد غني عنهم وعن الشريك، ليس كمثله شيء في ذاته وأسمائه صفاته وأفعاله. وبين الشطر الثاني أن العذاب والشقاء لمن عبد غير الله وأشرك معه غيره وجعل له الولد.
019.7.8.3- البعث والحساب: يبين الشطر الأول من السورة وما فيه من القصص أن الله سبحانه يرسل لنا الرسل رحمة بنا، وقدوة لنا، اجتباهم وبعثهم ليكونوا هداة مهديين. فماذا فعل هؤلاء الرسل لنقدي بهم؟ لقد عبدوا الله وعملوا للآخرة ولم يبالوا بالدنيا، وعندما طلبوا الدنيا طلبوها لأجل الآخرة. والشطر الثاني يبين أن رحمة الله ووحيه ورسالاته وآياته التي لا تزال تتنزل فيها رحماته وبشاراته بالنجاة لعباده المتقين، ووعيده ونذره بالعذاب للكفار المجادلين بالباطل. وأنهم مبعوثون بعد الموت ومحشورون ليوم الحساب. وأن النجاة وحسن الثواب لمن عبد الله، والشقاء والعذاب لمن أشرك وعبد غير الله.
019.7.9- تناسب السياق مع مناسبة نزول السورة وهو وقت الهجرة إلى الحبشة، والحث على الهجرة:
الآيات (1-40) تعلمنا قصة زكريا عليه السلام أن الدين هو أهم ما في حياة المؤمن، فلا المال ولا الأرض تشغله، بل إن كل همّه هو كيف يستمر هذا الدين في ذريته. وكذلك في قصة مريم وكيف أنها اعتزلت قومها مكاناً شرقياً، ثم مكاناً قصياً. ثم ذكرت الآية رقم (40) أن هذه الأرض ومن عليها ملك لله والكلّ إليه راجعون، وهذا تزهيد للمسلمين بعدم التعلّق بأرض بعينها تمهيدا لفكرة هجرة المسلمين إلى الحبشة. وتنبئهم بالهجرة في أرض الله الواسعة بحثاً عن الأمان ولو كانت بلاد النصارى.
الآيات (41-50) تتحدث عن إبراهيم عليه السّلام وأن قومه أجبروه أيضا على مغادرة وطنه {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله (48)}. ففيها تطمين للمهاجرين بأنهم على ملّة أبيهم إبراهيم وأنهم سيصلون إلى النهاية المطلوبة التي وصل لها، وتحذير لقريش بأنهّم بتعذيبهم وملاحقتهم للمسلمين يقفون في صف أعداء أبيهم إبراهيم بينما المهاجرين يقفون في نفس صفه.
الآيات (51-65) تتحدّث عن نعمة الله على الأنبياء بسبب إخلاصهم وصدقهم في العبادة ودعوتهم لها، وقد هاجر موسى وهارون كما سيأتي بيانه في سورة طه. كذلك هاجر غيرهم من الأنبياء وليس للمكان تأثير على الدعوة أو العبادة.
الآيات (66-98) أما باقي الآيات إلى آخر السورة فهي تتنقل ما بين الدنيا والآخرة، وكأنهما متصلتان. تعرض الأعمال هنا في الدنيا، وتعرض نتيجتها هناك في الآخرة. فالنتيجة النهائية إذاً هي في الآخرة وليست في الدنيا، وفي هذا ترغيب في الهجرة والنجاة بالدين للفوز بالآخرة، وتزهيد عن التمسك بأرض بعينها بما يعرّض الدين والمؤمنين للفتن والأخطار.
019.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
019.8.1- سوف يُستكمل مقصد السورة في بيان صفة الرحمن التي شمل بها جميع خلقه، في سورة طه وكيف أن الله تولى موسى عليه السلام برحمته وعنايته وأهلك فرعون وقومه، ثم في السورة التي بعدها الأنبياء عن إبراهيم عليه السلام، ثم في السورة التي بعدها الحج عن يوم القيامة والحساب على العبادات والأعمال ثم السورة التي بعدها عن المؤمنون وصفات الفائزين. وقد بدأت الإشارة إلى شمول رحمة الله ورعايته لعباده المؤمنين في سور الكهف السابقة أثناء الحديث عن هجرة أصحاب الكهف وطلبهم رحمة ربهم ونجاتهم بدينهم، وعن عدله مع أصحاب الجنتين، وقصص موسى مع العبد الصالح: بالحفاظ على سفينة المساكين وقتل الغلام حتى لا يرهق أبواه المؤمنين طغياناً وكفراً والحفاظ على كنز أبناء العبد الصالح، ثم في قصّة ذي القرنين ونشره العدل والإصلاح في الأرض.
019.8.2- تشابه القصص بين سورتي مريم وآل عمران:
تبين الآية (58) من سورة مريم أن الله سبحانه يختار من عباده أفراد وأمم بسبب إخلاصهم وصدق توجههم إليه، فيجتبيهم ويهديهم ويكرمهم ويزيدهم من إنعامه، وكذلك يختار منهم خواص رسله، يعبدون الله ويدعون إلى العبادة فهي الحق الوحيد لصلاح حياة الناس وما دونها هو الباطل.
واصطفاء أو اختيار الله للرسل والأمم سبق بيانه في سورة آل عمران، حيث ذكر فيها اصطفاء آل عمران والذين منهم زكريا ومريم وعيسى عليهم السلام على العالمين، واصطفاء آل إبراهيم ومن ذريته بني إسرائيل وأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الأمم، وكل هؤلاء الأنبياء المكرمين هم من ذريّة آدم وممن آمن مع نوح عليهم السلام جميعاً.
ويوجد شبه بين القصص في السورتين إلا أنها هناك في آل عمران تتحدث عن اصطفاء الله لأفراد وجماعات وأمم اختارهم للدعوة إلى دينه، فأوحى إليهم وسخرهم، فآمنوا ودعوا إلى الإيمان ونصروا دينه، فاستحقوا شرف الرسالة والإمامة في التكليف وفي نيل كل خير ورحمة والقرب من الله ونيل رضاه، وكان في قصصهم تفصيل عن الرسالة التي جاءوا بها وكيف أن الله نصرهم ونصر دعوتهم، ثم أن أقوامهم اختلفوا من بعدهم وضلوا. أما هنا في سورة مريم فتتحدث عن اصطفاء نفس هؤلاء الأفراد والجماعات، وأنهم قد مارسوا العبادة فعلاً في أنفسهم واختاروا طريق الآخرة وصبروا على الابتلاء وتميزوا عن غيرهم بإتباع الهدى وتطبيق الدين، فأفاض الله عليهم من رحمته وإنعامه ومعجزاته. فظن الناس الذين لم يتجاوز مدى تفكيرهم حدود شهواتهم، وأغواهم الشيطان وأعمى أبصارهم عن التصديق بالبعث والحساب ووجود الآخرة، أن هذه النعمة مخصوصة بهؤلاء المرسلين المصطفين من الناس. فما كان من الناس إلا أن غالوا في تقديسهم لأنبيائهم وجعلوهم شركاء لله، ظناً منهم أن عناية الله الواسعة بهم وإحاطتهم برحمته وجعل المعجزات على أيديهم ما هي إلا أنهم ليسوا من البشر.
لقد انحرفت الأجيال اللاحقة واختلفت في شأن أنبياءهم فجعلت هؤلاء الذين اصطفاهم الله ليكونوا هداة لهم وقدوة له شركاء، فقد اختلفت اليهود والنصارى حول المسيح، كما اختلفوا في دين إبراهيم عليه السلام واختلف معهم العرب في دين إبراهيم. مع أن عبودية الرسل جميعاً لله وحده، فصارت الأمم اللاحقة بحاجة إلى نبي جديد تعيدهم إلى أصل الدين. فكانت سورة مريم نموذج يبين أسباب اختلاف الأحزاب والأمم حول أنبياءهم.
019.8.3- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وجه مناسبتها لما قبلها: أن سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب: قصة أصحاب الكهف وطول لبثهم هذه المدة الطويلة بلا أكل ولا شرب وقصة موسى مع الخضر وما فيها من الخارقات وقصة ذي القرنين وهذه السورة فيها أعجوبتان قصة ولادة يحيى بن زكريا من الأم العاقر، وقصة ولادة عيسى بن مريم من غير أب.
وأيضاً فقد قيل: إن أصحاب الكهف يبعثون قبل قيام الساعة ويحجون مع عيسى ابن مريم حين ينزل ففي ذكر سورة مريم بعد سورة أصحاب الكهف مع ذلك – إن ثبت – ما لا يخفى من المناسبة وقد قيل أيضاً: إنهم من قوم عيسى وإن قصتهم كانت في الفترة فناسب توالى قصتهم وقصة نبيهم.
019.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما قال تعالى {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} ثم أورد خبرهم وخبر الرجلين وموسى والخضر عليهما السلام وقصة ذي القرنين، أتبع سبحانه ذلك بقصص تضمنت من العجائب ما هو أشد عجباً وأخفى سبباً، فافتتح سورة مريم بيحيى بن زكريا وبشارة زكريا به بعد الشيخوخة وقطع الرجاء وعقر الزوج حتى سأل زكريا مستفهماً ومتعجباً {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً (8)} مريم، فأجابه تعالى بأن ذلك عليه هين، وأنه يجعل ذلك آية للناس، وأمر هذا أعجب من القصص المتقدمة، فكان قد قيل: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً، نحن نخبرك بخبرهم ونخبرك بما هو أعجب وأغرب وأوضح آية، وهو قصة زكريا في ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام، وقصة عيسى في كينونته بغير أب، ليُعلَم أن الأسباب في الحقيقة لا يتوقف عليها شيء من مسبباتها إلا بحسب سنة لله، وإنما الفعل له سبحانه لا بسبب، وإلى هذا أشار قوله تعالى لزكريا عليه الصلاة والسلام {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9)} ثم أتبع سبحانه بشارة زكريا بيحيى بإيتائه الحكم صبياً، ثم يذكر مريم وابنها عليهما الصلاة والسلام، وتعلقت الآي بعد إلى انقضاء السورة.