العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


025.0 سورة الفرقان


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


025.1 التعريف بالسورة:

1) مكية ماعدا الآيات 68، 69، 70 فمدنية. 2) من المثاني. 3) آياتها 77 آية. 4) هي السورة الخامسة والعشرون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثانية والأربعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “يس”. 6) ليس لها أسماء أخرى.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 8 مرّات، وكلمة {رب} 14 مرّه، {رحمن} 5 مرّات؛ (4 مرّات): هو، خلق؛ (3 مرّات): أنزل؛ (2 مرّه): خبيراً، غفوراً، رحيماً، له الملك؛ (1 مرّة): قدير، بصير، حي، نصير، يَعْلَم، فتن. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

هي أكثر سورة تكرر فيها ذكر الكلمات التالية ومشتقاتها: تبارك 3 مرات من أصل 9 مرّات في القرآن، زور 3 مرات من أصل 4 مرّات، مستقراً 3 مرات من أصل 13 مرّه، مقاماً 2 مرة من أصل 19 مرّه.

وهي السورة الوحيدة التي ذكرت فيها: الأسواق 2 مره، تفسيراً 1 مرّه.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: رسول 9 مرّات، ملك 5 مرات، قال 5 مرات، قالوا 5 مرات؛ (4 مرات): قل، نذيرا، عبد؛ (3 مرّات): تبارك، أسجد، يأكل؛ (2 مرّة): واحد، قرآن، طعام؛ (1 مرّة): فرقان، فقلنا، قيل.

025.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

025.3 وقت ومناسبة نزولها:

أسلوب السورة وموضوعها يشير إلى أنها مثل سورة المؤمنون نزلت في منتصف العهد المكّي (بدايات المرحلة الثالثة)، وهي مرحلة الإيذاء القولي وتعنت الكفار وكذبهم وتطاولهم على القرآن وعلى الرسول وافترائهم زوراً وبهتاناً على الحق المبين، وقولهم أن الرسول مسحور، وأنه يأكل الطعام مثلهم، ويمشي في الأسواق لطلب الرزق، وتكذيبهم للبعث والحساب، وإنكارهم اسم الرحمن بقولهم {وَمَا الرَّحْمَنُ (60)}. وهذا ما أكّده ابن جرير في تفسيره الكبير والإمام الرازي من حديث دهاق بن مزاحم بأن هذه السورة نزلت قبل سورة النساء بثماني سنوات. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.

والسورة تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية، وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش، وعنادهم له، وتطاولهم عليه، وتعنتهم معه، وجدالهم بالباطل، ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه.

025.4 مقصد السورة:

025.4.1- يمتدح تبارك وتعالى نفسه: ويصف عظيم كرمه وعفوه ورحمته بعباده، وهو يدافع عن القرآن الذي نزّله على عبده ليكون للعالمين نذيراً وعن رسوله مبشراً ونذيراً. نذيراً من اتباع الهوى والشيطان، وبشيراً بالهدى والفرقان. يمدح الله نفسه ويمدح المؤمنين وبذلك يسري عن رسوله، ويعيب على الكفار جهلهم، ويفضح بهتهم وظلمهم للمؤمنين، وبذلك يقيم الحجة على افتراءاتهم على كتاب ربهم وسوء أعمالهم مع رسوله.

025.4.2- ومقصدها وموضوعاتها نجده في الآيات الثلاثة الأولى (1-3) من السورة: بأنهم أمروا أن يعبدوا الله الضار النافع، فعبدوا غيره ممن لا يضر ولا ينفع.

وهي أكثر سورة تكرر فيها ذكر الكلمة {تبارك} 3 مرات من أصل 9 مرّات في القرآن. وقال الزجاج أن معنى تبارك: أي تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذي خير. وقيل: تبارك أي تعالى. وقيل: تعالى عطاؤه أي زاد وكثر. وقيل: المعنى دام وثبت إنعامه.

025.4.3- وقال القرطبي في تفسيره: ومقصود هذه السورة ذكر موضع عظم القرآن، وذكر مطاعن الكفار في النبوة والرد على مقالاتهم وجهالاتهم، فمن جملتها قولهم: إن القرآن افتراه محمد، وإنه ليس من عند الله.

025.4.4- وقال الإمام برهان البقاعي في نظم الدرر (بتصرف): وهي إنذار للمكلفين بما له سبحانه من القدرة الشاملة، والعلم التام، المدلول عليه بهذا القرآن المبين. لا موجد سوى الله: فهو الحق، وما سواه باطل. وتسميتها بالفرقان يدل على ذلك، فإن الكتاب ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبسات، وتمييز الحق من الباطل {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة (42)} الأنفال، فلا يكون لأحد على الله حجة، الذي له الحجة البالغة.

025.5 ملخص موضوع السورة:

يمتدح تبارك وتعالى نفسه، تعاظمت بركاته، وكثرت خيراته، وكملت أسماؤه، لا شريك له، خالق كل شيء وإلهه وربه ومليكه {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} الجن والإنس جميعاً، {فاتخذوا من دونه آلهة (3)} لا يخلقون ولا يملكون ضراً ولا نفعاً.

تتكوّن السورة باعتبار ترتيب آياتها من ثلاث مجموعات من الآيات تثبت صدق القرآن بثلاثة أساليب مختلفة: الأولى: (34 آية) فيها خمسة من أقوال المشركين المفترين على الحق كذباً وزوراً وبهتاناً، فتردّ على كلّ قول منها مباشرة بالحجة والبرهان والمنطق ما يُظهر جهلهم وعنادهم؛ الثانية: (24 آية) تضرب لهم خمسة أمثلة تثبت بالدليل الملموس صدق كلّ حجة من الحجج الخمس السابقة؛ الثالثة: (19 آية) تؤكّد حقيقتين إحداهما أن الله هو وحده الخالق المالك الرحمن المدبّر فلا يعبد ربّ سواه، والأخرى تبيّن صفات عباد الرحمن الذين جزاؤهم الجنّة {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}، ونقيضها صفات الجاهلين وجزاؤهم جهنم {سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}، كما يلي:

المجموعة الأولى، وفيها الرّد على أقوال الكفار بالحجّة والمنطق: (الآيات 1-3) فقد أمروا أن يعبدوا الله الضار النافع، فعبدوا غيره ممن لا يضر ولا ينفع. ثمّ (الآيات 4-6) قالوا: أنّ القرآن مفترى وأساطير الأولين، فتردّ عليهم: بأنه أنزله الله الذي يعلم السر ليغفر لكم ويرحمكم. (الآيات 7-20) وقالوا: أنّ الرسول رجل مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأنه مسحور وليس له كنز أو جنّه يأكل منها، فتردّ: بأن تبارك القادر على أن يجعل له خير مما ذكروه من الجنات والقصور في الدنيا، وقد وعد المتقين بالخلود في الجنّة لهم فيها ما يشاؤون، والكافرين بسعير جهنم. (الآيات 21-29) وقالوا: لولا أنزل الملائكة أو نرى ربنا، فتهددهم: بأنهم يوم يرون الملائكة سيعضّون على أيديهم ندماً وحسرة على عدم اتباعهم النبي، واتباعهم الشياطين الذين أضلوهم عن الهدى. (الآيات 30، 31) وقال الرسول شاكياً بأنهم اتخذوا القرآن مهجوراً، فترد: بأن الله هو الهادي والنصير، وقد جعل لكل نبي عدواً من المجرمين. (الآيات 32-34) وقالوا: لولا نزل القرآن جملة واحدة، فتردّ: بأنه نزل مفرقاً لتثبيت فؤاد الرسول، ولا يأتون بمثل إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً، أولئك هم شرّ الناس وأضلهم، ومأواهم جهنم.

المجموعة الثانية: وفيها خمسة أمثلة وأدلّة تردّ على الأقوال السالف ذكرها: (الآيات 35-40) الدليل على عدم افتراء القرآن هو هلاك الأمم التي كذبت الرسل: وهم أقوام موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً، يمرّون على آثارهم في أسفارهم. (الآيات 41-44) والدليل على ضلالهم، هو اتخاذهم إلههم هواهم مع عظيم جهلهم، واستهزائهم زاعمين أنهم على حق، وما هم إلا كالبهائم التي لا تعقل، بل هم من البهائم أضل سبيلاً. (الآيات 45-49) وعن طلبهم رؤية الله والملائكة ضربت لهم الأمثال بالظل وقد جعل الشمس عليه دليلاً، والليل على النوم، والنهار على طلب الرزق، والرياح على المطر، والماء على الطهارة وعلى حياة المخلوقات. (الآيات 50-52) وعن هجر القرآن، ففي الآيات المشاهدة تذكرة، لكن أبى أكثرهم إلا كفوراً، فلا تطعهم وجاهدهم بالقرآن. (الآيات 53-58) وعن تنزيل القرآن جملة واحدة، ضربت لهم الأمثال على قدرة الله بالماء: فحين يشاء لا يختلط ماء البحرين العذب مع المالح في أبسط حالاته، ويختلط في أعقد حالاته ليجعل منه بشراً ونسباً وصهراً.

المجموعة الثالثة، تؤكّد حقيقتين: إحداها (الآيات 59-62) أنّ الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، فهو الذي يجب أن يعبد، هو الرحمن عظمت بركاته وكثر خيره، جعل في السماء بروجاً وسراجاً وقمراً منيراً، وجعل الليل والنهار متعاقبين لمن أراد أن يعتبر فيشكره على نعمه وآلائه. الثانية (الآيات 63-76) يمتدح عباده المؤمنين في مشيتهم وصلاتهم وخوفهم ودعائهم وإنفاقهم وتوحيدهم وامتناعهم عن القتل والزنا وشهادة الزور وغيرها من الصفات الحميدة التي جعلها لعباده ليفوزوا بالجنة، ونقيضها صفات الجاهلين وجزاؤهم جهنم. (الآية 77) الله لا يعبأ بالناس لولا دعاؤهم، فكيف يعبأ بهم وقد كذبوا، فالعذاب ملازمهم.

أما باعتبار موضوعاتها ففيها خمسة موضوعات متساوية في عدد آياتها تقريباً وهي: (15 آية) تطمين للرسول والمؤمنين بأن القرآن خير ورحمة وفرقان بين الحق والباطل، وما على الرسول إلا الإنذار والبلاغ؛ (16 آية) تقريع شديد للكفار الجهلة على سخافة عقولهم بعبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع، وتكذيبهم القرآن واتهامهم الرسول بالكذب والسحر؛ (15 آية) تهديد المكذبين بالعذاب في النار خالدين فيها ساءت مستقراً ومقاماً؛ (16 آية) مديح المؤمنين وتعداد صفاتهم الحسنة وأخلاقهم العظيمة، وبشارتهم بأن مصيرهم الجنة خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً؛ (15 آية) ذكر قصص وأمثال تؤيد الحجج والبراهين المذكورة في السورة.

وهي أكثر سورة تكرر فيها قوله تعالى: {تَبَارَكَ} وتعني الكثرة والزيادة، بعدد ثلاث (3) مرّات من أصل تسعة (9) في القرآن، لتدلّ على دوام وثبات ثلاث نعم مباركة عظيمة ذكرت بعد كلّ منها، وقد عَمِل لأجلها المؤمنون وغفل عنها الجاهلون المكذبون: أوّلها العمل بالقرآن (عنوان السورة) يفرق بين الحق والباطل ويبيّن كلّ ملتبس، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ (1)}؛ وثانيها القصور والجنّات في الدنيا في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ (10)}، وجنة الخلد الموعودة في الآخرة في قوله تعالى: {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ (15)}، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ (16)}؛ وثالثها نعم تسخير الدنيا في الآية: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}، وآية الليل والنهار.

ربنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً، إنها ساءت مستقراً ومقاماً، ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرّياتنا قرّة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.

025.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

تفاصيل عن السورة حسب تسلسل آياتها:

مقدمة:

تلخص الآيات الثلاثة الأولى (1-3) من السورة مقصدها وموضوعاتها بأنهم أمروا أن يعبدوا الله الضار النافع، فعبدوا غيره ممن لا يضر ولا ينفع، كما يلي:

الآيات (1، 2) تبدأ بمقدمة صريحة واضحة محكمة عن رب العالمين يمدح فيها نفسه فيقول: أنه تبارك، أي تعاظمت بركات الله، وكثرت خيراته، وكملت أوصافه سبحانه وتعالى. الذي نزل: أي منجما مفرقا مفصلا آيات بعد آيات وأحكاما بعد أحكام وسورا بعد سور. الفرقان: لأنه يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والحلال والحرام، وهو القرآن، على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون محمد لجميع الجن والإنس الذين بعثه الله إليهم داعيا إليه. نذيرا: يعني منذرا ينذرهم عقابه ويخوفهم عذابه، إن لم يوحدوه ولم يخلصوا له العبادة ويخلعوا كل ما دونه من الآلهة والأوثان. الله الذي له ملك السماوات والأرض، نزه نفسه عن الولد وعن الشريك، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.

وهو كما في الحديث في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين”. وفي لفظ آخر “من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل كتبه”

الآية (3) يخبر تعالى عن جهل المشركين مقرّعاً لهم في اتخاذهم آلهة من دون الله الخالق والمالك والمقدر والمدبر لكل شيء من غير شريك: واتخذوا من دونه آلهة، يعني أصناما بأيديهم يعبدونها، لا تخلق شيئا وهي تخلق، ولا تملك لأنفسها نفعا تجره إليها ولا ضرا تدفعه عنها ممن أرادها بضر، ولا تملك إماتة حي ولا إحياء ميت ولا نشره من بعد مماته، وتركوا عبادة خالق كل شيء وخالق آلهتهم ومالك الضر والنفع والذي بيده الموت والحياة والنشور.

الأحداث:

الأحداث والمواضيع في السورة أتت متداخلة على شكل تسليه للرسول عليه الصلاة والسلام بأنه لا يستطيع منعهم بسبب عظيم جهلهم أن يتخذوا إلههم هواهم، فهم أسوأ حالا من الأنعام السارحة فإن تلك تفعل ما خلقت له وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له فلم يفعلوا، وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم. وعلى شكل تقريع وتوبيخ وتهديد شديد من رب العالمين لهؤلاء الكفار الجهلة المعاندين الذين لا يسمعون ولا يبصرون: لأن الله هو الخالق المدبر، يعلم السر في السماوات والأرض، قادر على كلّ شيء، غفور رحيم بهم رغم جهلهم وظلمهم وسخافة عقولهم بتزويرهم الحق وقولهم افتراه مع علمهم بأن قولهم باطل.

هؤلاء المشركون المعاندون المتكبرون والمتعالون يفترون على الحق كذباً وزوراً وبهتاناً، ومع ذلك فقد تبارك وتعالى فضل الله ورحمته وعفوه إذ يدافع عن القرآن وعن رسوله الذي أرسله إليهم يبين لهم بالحجة والمنطق والبرهان وبالقصص والأمثال وبالترغيب والترهيب وبالجنة وبالنار لعل هؤلاء الإنس والجان أن يتذكروا فيشكروا. لكن أكثرهم غارقون يتمتعون في النعيم الذي هو من عند الله أنساهم ذكر الله. تتضمّن السورة بيان هذا الكذب والمكر والكفر والجهل من المشركين، يقابله مجاراة الله لهم إمهالاً، لا عجزاً إذ يدافع عن كتابه ورسوله بالأدلة والحجج والآيات، وذلك كما يلي:

الآيات (4-6) قالوا عن القرآن مفترى وأنه أساطير الأولين. وقال سبحانه أنزله الله الذي يعلم السر ليغفر لكم ويرحمكم.

الآيات (7-20) قالوا عن الرسول أنه رجل عادي مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأنه مسحور ليس له كنز أو جنّه يأكل منها. وقال سبحانه إنه قادر أن يجعل له خير مما ذكروه من الجنات والقصور في الدنيا. وقال إن ذلك حال كل المرسلين في الدنيا، كل المرسلين بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فتنة، وسيكون لهم ما يشاءون خالدين في الآخرة في جنة الخلد التي يكذبون بها المكذبون، أما هم فسيحشرون وما يعبدون من دون الله يوم القيامة ويكون مصيرهم سعير جهنم. وهؤلاء الذين يعبدونهم سيتبرؤون منهم يوم القيامة.

الآيات (21-29) قالوا لولا أنزل الملائكة أو نرى ربنا وما ذلك إلا كبراً في أنفسهم وعلواً. وقال سبحانه مهدداً لهم بأنهم سيرون الملائكة في يوم عسير عليهم يكون فيه الملك الحق لله والخير لأصحاب الجنة. يوم يرون الملائكة سيعضون على أيديهم ندماً وحسرة على عدم اتباعهم النبي، وعلى اتباعهم شياطين الإنس والجان الذين أضلوهم عن الهدى.

الآيات (30، 31) قال الرسول شاكياً إن قومه اتخذوا القرآن مهجوراً. فقال الله أنه هو الهادي وقد جعل لكل نبي عدو من المجرمين، وقومك ليسوا استثناءاً من الأمم.

الآيات (32-34) وقال الكافرون لولا نزل القرآن جملة واحدة. فقال سبحانه كذلك لنثبت به فؤادك ولا يأتونك بمثل أو شبهة إلا جاءك الله بالحق وأحسن تفسيراً، أي بالجواب الحق الدافع له. أولئك الكفار الذين يسحبون على وجوههم إلى النار هم شرّ الناس وأبعدهم عن الحق، أي سيكون مأواهم جهنم.

الآيات (35-40) يشير سبحانه إلى الأمم والقرون الأولى التي دمرها وعذبها بسبب تكذيبهم بالرسل: وهم أقوام موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقروناً بين ذلك كثيراً، وكلهم أقام عليهم الحجج وأزاح عنهم الأعذار فلم يؤمنوا فهلكوا. ولقد مرّ كفار مكة في أسفارهم على قرية قوم لوط الذين أهلكهم الله بالحجارة من السماء، فلم يعتبروا لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.

الآيات (41-44) قال سبحانه إذا رأوك استهزأوا بك وبدعوتك، زاعمين أنك على ضلال وأنهم بعبادتهم الآلهة التي لا تضر ولا تنفع على حق، فسوف يعلمون حين يرون ما يستحقون من العذاب من الذي أخطأ الطريق. أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون يا محمد على هذا حفيظا في أفعاله مع عظيم جهله. ما هم إلا كالبهائم التي لا تعقل ما يقال لها، ولا تفقه، بل هم من البهائم أضل سبيلا.

الآيات (45-49) يضرب الله الأمثال بالظل وقد جعل الشمس عليه دليلاً، وجعل على كل شيء دليل، الليل لا ترى شيء دليل على النوم، النهار ترى الأشياء دليل البحث عن الرزق، الرياح ودليل على المطر، الماء دليل على الطهارة وعلى حياة المخلوقات، هذه الأدلة ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات فيؤمنوا، وقادر على أن ينزل عليهم ما يطهرهم من ذنوبهم كما أنزل الماء الطهور.

الآيات (50-52) كذلك ليتذكروا أن الله جعل الفرقان دليل على الهدى فأبى أكثر الناس إلا كفوراً. الله لا يعجزه شيئاً، فلا تعبأ بالكافرين وطلباتهم التعجيزية، وقد شاء أن تكون أنت وحدك النذير فلا تطعهم وجاهدهم بالقرآن، لو شاء الله لبعث في كل قرية نذيراً، لكن شاء أن يتركهم مؤمنون وكافرون، وهو قادر أن يهدي الناس لو شاء.

الآيات (53-58) يضرب الله الأمثال بالماء بأنه لا يعجزه شيئاً، فقد قدر أن يجعل برزخاً وحجراً بين البحرين العذب المالح فلا يختلطان، وقدر أن يخلق من الماء بشراً ثم يتزوج ويجعله نسباً وصهراً. أي لم يختلط الماء في أبسط حالاته التي كان ممكن أن يختلط لولا عجيب قدرة الله حين شاء أن يجعل البرزخ فلا يختلط المائين. واختلط الماء في أعقد حالاته التي كان من غير الممكن أن يختلط حين شاءت قدرة الله العجيبة المعجزة التي جعلت منه البشر والأنساب والأصهار. ومع كل هذه الدلائل على قدرة الله وإنعامه على خلقه يعبد الكفار من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، وكان الكافر معينا للشيطان على ربه بالشرك بالله، مظاهرا له على معصيته. وما أرسلناك أيها الرسول إلا مبشراً بالجنة ونذيراً من النار، لا تطلب الأجر على التبليغ، فتوكل على الله الحي الذي لا يموت وكفى به خبيراً بذنوب عباده وسيحاسبهم عليها ويجازيهم بها.

الآيات (59-62) بين الله أنه المنفرد بقدرة الإيجاد، فقد خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، فهو الذي يجب أن يعبد. وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم: اعبدوا الرحمن ليرحمكم زادهم نفوراً. عظمت بركات الرحمن وكثر خيره الذي جعل في السماء النجوم الكبيرة بمنازلها وجعل فيها شمساً تضيء وقمراً ينير. وهو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر، لمن أراد أن يعتبر أو أن يشكر الله على نعمه وآلائه.

الآيات (63-76) لما ذكر سبحانه جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضا وذكر صفاتهم يمتدحهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم. فيمتدح سبحانه صفات عباده المؤمنين، الذين يمشون على الأرض بسكينة ووقار من غير استكبار، يكثرون من صلاة الليل، يخافون الله فيدعونه أن ينجيهم من عذاب جهنم، إنفاقهم وسط بين التبذير والتضييق، يوحدون الله، ولا يقتلون، ولا يزنون، ولا يشهدون الزور، وغيرها من الصفات والخصال الحميدة التي جعلها الله لعباده ليسعدوا في الدنيا ويفوزوا بالجنة في الآخرة.

الخاتمة:

الآية (77) الله لا يبالي ولا يعبأ بالناس لولا دعاؤهم دعاء العبادة ودعاء المسألة فيستجيب لهم، فكيف يعبأ بهم وقد كذبوا الرسول والقرآن فسيكون العذاب ملازماً لهم بتكذيبهم.

الآية الأخيرة تلخص مقصد السورة بأن المستفيد من العبادة هم العباد وليس رب العباد. إذ يقول تعالى أنه لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا لأن فوائد العبادة عائدة عليهم. وهو تقريع وتهديد شديد لأن من صفات الله العدل الذي يقابله الظلم، فالله يريد أن يرحم عباده، لذلك أنزل عليهم الفرقان، فهو لا يرضى بالظلم لأحد وقد حرّمه على نفسه. أما الكافرين فقد كذبوا الرسول، فيقول لهم سبحانه فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم يعني مقتضيا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة.

025.7 الشكل العام وسياق السورة:

025.7.1- إسم السورة: هو الفرقان، وقد سُمّيت بهذا الاسم لأن الله تعالى ذكر فيها هذا الكتاب المجيد الذي نزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، وكان النعمة الكبرى على الإنسانية لأنه النور الساطع والضياء المبين، الذي فرق الله به بين الحق والباطل، والنور ‏والظلام، والكفر ‏والإيمان، ولهذا ‏كان ‏جديرا ‏بأن ‏يسمى ‏الفرقان. والفرقان هو اسم من أسماء القرآن.

025.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:

في هذه السورة العجيبة يخاطب الله جل جلاله نبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم يسرّي عنه ويطمئنه ويثبته، في مرحلة صعبة من مراحل الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقد تأزمت فيها الأمور وصار فيها تعنت الكفار وكذبهم وتطاولهم على القرآن وعلى الرسول يبعث على اليأس، ويوحي بأنهم لا أمل في أن يؤمنوا ويعبدوا الله.

وهذا واضح فيما ذكرته الآيات فإن الكفار باتوا يفترون زوراً وبهتاناً على الحق المبين في القرآن العظيم بأنه أساطير الأولين وأن الرسول الكريم اكتتبه ويملى عليه بكرة وأصيلا. وأن الرسول مسحور، وانه يأكل الطعام مثلهم، ويمشي في الأسواق لطلب الرزق. ويكذبون بيوم الدين ولا يوقنون بالمعاد ولا يصدقون بالثواب والعقاب، تكذيبا منهم بالقيامة وبعث الله الأموات أحياء للحساب يوم القيامة، وبهتهم وإنكارهم لصفة الرحمن بقولهم {وما الرحمن}.

ومن هنا جاءت هذه السورة والتي كان مقصدها في مدح الله لنفسه ووصفه لعظيم رحمته بأنه نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، كما في القول “وقد أعذر من أنذر”، وفي الحديث الصحيح “ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل كتبه”. فما أعظم حلم الله ولطفه وكرمه على عباده وهو ينزل عليهم كتابه مع عبده ورسوله ويصرّح لهم وينذرهم بما لا لبس فيه أن العبادة جعلت لهم، هم أوّل المستفيدون منها، لا خيار أمامهم إلا أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن هذه العبادة قدّرت لهم تقديراً، فقد خلقوا ليكرّموا ويرحموا، وأن في العبادة سعادتهم وكرامتهم في الدارين. سعادتهم في الدنيا بالتزامهم بالأخلاق والصفات العظيمة المذكورة في الآيات (63-74) وسعادتهم في الآخرة بدخول الجنة خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً في الآيات (16، 24، 75، 76).

تنقسم السورة من حيث موضوعات آياتها إلى خمسة موضوعات متساوية في عدد آياتها تقريباً، وهي كما يلي:

025.7.2.1- تسرية وتطمين للرسول ومن آمن معه بأن ما يتنزل عليهم من القرآن هو خير عظيم ورحمة وفرقان بين الحق والباطل وما على الرسول إلا الإنذار والبلاغ. وهم بحاجة إلى هذا التطمين في هذا الوقت الذي نزلت فيه الآيات وهم يواجهون تعنت الكفار والمشركين وجدالهم بالباطل ووقوفهم في وجه الدين. الآيات (1، 2، 6، 9، 10، 20، 31، 33، 43، 44، 51، 52، 56-58) = 15 آية = 19.48%

– ذكرت الآيات أنها عظُمت بركات الله، وكثُرت خيراته، الذي نزل القرآن الفارق بين الحق والباطل وليكون للعالمين نذيراً. الله له ملك السماوات والأرض، خلق كل شيء وقدره تقديراً. وهو الذي أنزل القرآن وهو الذي أحاط علمه بما في السماوات والأرض، وأنه كان غفور رحيم فلم يعاجلهم بالعذاب. كيف يقول المكذبون في حق رسوله الأقوال العجيبة، فهم بذلك بعدوا عن الحق فلا يجدون طريقاً إليه. الله عظُمت بركاته، وكثُرت خيراته، إن شاء جعل لك خيراً مما تمنوه، فيجعل لك في الدنيا حدائق كثيرة تتخللها الأنهار، ويجعل لك فيها قصوراً عظيمة.

– كما ذكرت الآيات (لتثبيت الرسول ومن آمن معه) أن الله جعل كل المرسلين بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وجعل لكل نبي عدواً من المجرمين. ولا يأتي المشركون بمثل يضربونه، إلا جاء رسولهم من الحق، ما يبطل به ما جاءوا به، وأحسن منه تفسيرا.

– ويقول سبحانه مطمئناً رسوله والمؤمنين، ومقرّعاً للكافرين، بأنه لا يستطيع منعهم على عظيم جهلهم من أن يتخذوا إلههم هواهم، هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة فإن تلك تفعل ما خلقت له وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له فلم يفعلوا وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم. أنت لست عليهم وكيلاً في عبادتهم، ولو شاء لبعث في كل قرية نذير، فالله حي لا يموت فتوكل عليه. هؤلاء كالأنعام بل هم أضل لأنهم اتخذوا إلههم هواهم، فلا تطعهم وجاهدهم بالقرآن وتوكل على الله فهو حي لا يموت وهو أعلم بذنوبهم سيعذبهم بها في الدنيا، وسيحاسبهم يوم القيامة.

025.7.2.2- تقريع شديد للكفار الجهلة على سخافة عقولهم بعبادتهم آلهة غير الله لا تضر ولا تنفع، وتكذيبهم بالحق الذي جاء في القرآن وتكبرهم على رسول الله واتهامه بالكذب والسحر، لأنه ليس ملك بل بشر مثلهم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وليس له كنز من مال أو جنة يأكل منها. الآيات (3-5، 7، 8، 15، 21، 30، 32، 40-42، 50، 55، 60، 77) = 16 آية = 20.78%.

المشركون اتخذوا معبودات من دون الله لا تستطيع خلق شيء، والله خلقها وخلقهم، ولا تملك لنفسها دفع ضر أو جلب نفع، ولا تستطيع إماتة حي أو إحياء ميت، أو بعث أحد من الأموات. وقالوا ما هذا القرآن إلا كذب أو بهتان اختلقه محمد، وأعانه عليه أناس آخرون، فقد ارتكبوا ظلماً فظيعاً، وأتوا زوراً شنيعاً، فالقرآن ليس مما يمكن لبشر أن يختلقه، وقالوا عن القرآن أنه أحاديث الأولين استنسخها عنهم، فهي تقرأ عليه صباحاً ومساءاً. وقال المشركون ما لهذا الذي يزعم أنه رسول يأكل الطعام مثلنا، ويمشي في الأسواق لطلب الرزق، فهلا أرسل الله معه ملكاً يشهد على صدقه. أو يهبط عليه من السماء كنز من مال، أو تكون له حديقة عظيمة يأكل منها، وقال هؤلاء الظالمون المكذبون ما تتبعون أيها المؤمنون إلا رجلاً مسحوراً، وغيرها من الافتراءات، فالله تبارك وتعالى لن يعبأ بهم إن هم اختاروا الكفر والظلم والإفساد في الأرض لأنهم هم من سعى بذلك إلى الهلاك والعذاب.

025.7.2.3- تهديد المكذبين والمشركين بالعذاب بالنار خالدين فيها ساءت مستقراً ومقاماً، وبأهوال الساعة يوم يعضّون على أيديهم حسرة وندماً يوم لا ينفع الندم. الآيات (11-14، 17-19، 22، 23، 25-29، 34) = 15 آية = 19.48%.

– يقول تعالى ذكره: ما كذّب هؤلاء المشركون بالله وأنكروا ما جئتهم به يا محمد من الحق، من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وغيره من الأعذار، ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد ولا يصدقون بالثواب والعقاب، تكذيبا منهم بالقيامة وبعث الله الأموات أحياء لحشر القيامة، فأعدّ الله لهم عذاباً أليماً وناراً مسعرة، لها صوت شديد غيظاً عليهم، يدعون عندها بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا، وعن الإيمان بما جاءهم به نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة منه.

– ويقول تعالى مخبرا عما يقع يوم القيامة من تقريع وتوبيخ الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم، فيقول تبارك وتعالى للمعبودين أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم. فيجيبه المعبودون: ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك لا نحن ولا هم فنحن ما دعوناهم إلى ذلك بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم، بل طال عليهم العمر ومتعتهم في الدنيا بالصحة والغنى وطول العمر، حتى نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك.

– فإذا كان يوم القيامة ندم الكافر حيث لا ينفعه الندم وعض على يديه حسرة وأسفا على ما فرط في جنب الله وكذب رسوله، ودعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته، يقول هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به، وقد خذله الشيطان عن الحق حين دعاه إلى الباطل.

025.7.2.4- يمتدح الله عباده المؤمنين ويعدد صفاتهم الحسنة وأخلاقهم العظيمة وينعتهم إلى نفسه عباد الله تشريفاً لهم، ويبشرهم بأن مصيرهم إلى الجنة خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً. الآيات (16، 24، 63-76) = 16 آية = 20.78%.

وعد الله عباده المتقين جنة الخلد التي أعدها لهم وجعلها لهم جزاء ومصيرا على ما أطاعوه في الدنيا وجعل مآلهم إليها.

لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضا وذكر صفاتهم، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم. هذه الصفات والأعمال كلها من مكارم الأخلاق، المستفيد الوحيد من تطبيقها هم عباد الرحمن المكلفين بها، فهي رحمة لهم من أجل أمنهم واستقرارهم، من أجل إقامة العدل والإصلاح في الأرض ومنع الظلم والفساد. فالمستفيد من العبادة هم عباد الرحمن وليس الله المعبود تبارك اسمه وتعاظمت خيراته ورحماته. العبادة سلام وأدب مع الناس، وعبادة لصاحب الحق بالعبادة، وإنفاق بدون إسراف. عباد الله يشركون، ويعملون الصالحات، ولا يقتلون، لا يزنون، لا يشهدون الزور، لا يلغون، يتدبرون آيات الله في الأرض، يدعون ربهم أن يرزقهم الذرية وقرة العين. وفوق كون هذه الأعمال والأخلاق العظيمة هي لمصلحتهم، فهم إن فعلوها فازوا بالجنة والنعيم في الآخرة.

025.7.2.5- قصص وأمثال: الصحيح أن السورة احتوت على أربعة موضوعات رئيسية وهي الموضوعات المذكورة أعلاه، أمّا القسم الخامس من السورة فهو قصص وأمثال توضح المعاني في الموضوعات الأربعة المذكورة. الآيات (35-39، 45-49، 53، 54، 59، 61، 62) = 15 آية = 19.48%.

الله يسري عن الرسول ومن آمن معه ويثبتهم بما حصل لمن قبله من هلاك الأمم. وكل تلك الأمم ضرب لهم الله الأمثال وأقام عليهم الحجة. المشركون الذين يكذبون القرآن يرون بأعينهم آثار تلك الأمم التي هلكت، وعلى الرغم منه يعملون عملهم ليهلكوا كما هلكوا. إنهم لا يرتدعون، بل يزدرون نبيهم ويتخذونه هزواً قبحهم الله، فسيعلمون حين يرون العذاب صدق ما جاءهم من النذير وأنهم كانوا أضل سبيلاً.

عتاب من الله على الناس بأنه جعل على كل شيء دليل، الشمس دليل على الظل، الليل لا ترى شيء دليل على النوم، النهار ترى الأشياء دليل انتشار لبحث عن الرزق، الرياح بشرى ودليل على المطر، الماء دليل على الطهارة وعلى حياة المخلوقات بالسقيا، هذه أدلة أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات فيؤمنوا، أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه فيقلع عما هو فيه من الكفر. كذلك ليتذكروا أن الله جعل الفرقان دليل على الهدى فأبى أكثر الناس إلا كفوراً.

025.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

025.7.3.1- آيات القصص: (3-9، 20، 21، 31-42، 55-58، 60) = 26 آية.

025.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (11-19، 22-30) = 18 آية.

025.7.3.3- الأمثال في الآيات: (43، 44) = 2 آية.

025.7.3.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (2، 45-50، 53، 54، 59، 61، 62) = 12 آية.

025.7.3.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1، 10، 51، 52، 63-77) = 19 آية.

025.7.4- تبارك الله وتباركت أسماؤه:

تبارك الرحمن الذي نزل القرآن العظيم على عبده ليكون للعالمين نذيراً: يحذر الكفار من الدمار والهلاك الذي ينتظرهم في الدنيا، بسبب أنهم اتخذوا إلههم هواهم، ويعبدون آلهة لا تضرهم ولا تنفعهم، ويخوفهم من أهوال يوم عسير هو يوم القيامة، يوم الحساب على الأعمال، والعذاب الشديد في النار ساءت مستقراً ومقاماً. ورغبهم باستقرار وأمان وسلام في الدنيا، متصلين مع ربهم خالقهم يعبدونه لا يشركون به شيئاً، هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم، يدعونه أن يرزقهم الذرية الصالحة وأن يجعلهم قدوة في الخير والعمل الصالح، وفي الآخرة جزاؤهم جنة الخلد التي وعدها الله عباده المتقين جزاءاً ومصيراً وحسنت مستقراً ومقاماً.

تبارك الغفور الرحيم الذي بين للإنسان وعلمه وذكّره، ضرب له الأمثال وقص عليه القصص، ولم يترك له من عذر يتعذر به ولا حجة يحتج بها على أنه لا يعلم أو لا يدري، بل تركه على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. أبطل كل مقولات الكفار عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تكذيبه فيما جاءهم به، وادعائهم أنه إفك افتراه، وأنه أساطير الأولين اكتتبها، واعتراضاتهم على بشرية الرسول، وأنه رجل مسحور، وحاجته للطعام والمشي في الأسواق، واقتراحاتهم أن ينزل عليه ملك أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها. بين ضلالهم وتكذيبهم بالساعة، وتوعدهم بما أعده الله لهم من سعير، إذا ألقوا فيها دعوا بالويل والحسرة والخيبة. قرعهم على طلبهم أن تنزل الملائكة أو رؤية ربهم كبراً منهم وعلوّاً، يوم يرون الملائكة فلا بشرى لهم يومئذ بخير، ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني لم أتخذ فلاناً خليلا ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً.

تبارك الذي طمأن نبيه وآنسه وثبته ودافع عنه في وجه أعدائه وتطاولهم وجدالهم بالباطل وصدّهم عن الهدى، إن الله يدافع عن الذين آمنوا. بين له أن الرسل جميعا كانوا بشرا مثله، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ولو شاء لجعل له القصور والجنات يأكل منها. وبين له أن كل الرسل كان لهم أعداء من الجن والإنس. وقص عليه القصص ليثبت فؤاده، بين عاقبة المكذبين قبلهم من قوم موسى وقوم نوح، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك، ويعجب من أمر قومه وهم يمرون على قرية لوط المدمرة ولا يعتبرون. بين الآيات من الظل، وتعاقب الليل والنهار، والرياح المبشرة بالماء المحيي، وخلق البشر من الماء فجعله نسباً وصهراً. ومدح صفات المؤمنين الذين يسجدون لله ويعبدونه، ويلتزمون بمكارم الأخلاق من التواضع والإنفاق، ولا يقتلون ولا يزنون ولا يشهدون الزور وغيرها من المحامد التي استحقوا بها صفة عباد الرحمن، أولئك جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة الجنة ويلقون فيها تحية وسلاما.

025.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

025.8.0- مقصد السورة هو الدفاع عن القرآن ببيان أنه فرقان يفرق بين الحق والباطل، وإبطال افتراءات الكافرين بالحجّة والمثال. يتبعها ثلاث سور متشابهة نزلت متتابعة، وهي: الشعراء لتبيّن كيف أن القرآن جاء بالبينات لكن أكثر الناس ضالّون مكذبون، ثم النمل لتبين أن القرآن مبين لكلّ الناس، لكن لا ينتفع به إلا المؤمنون، ثم القصص لتبيّن سنن الله بنصر المستضعفين وتوريثهم الأرض، وأن أهل مكّة لم يستخلصوا العبر من قصّة موسى عليه السلام في القرآن. وتتشابه السور الثلاث بذكر أجزاء من قصة موسى عليه السلام تكمل بعضها لتكوّن قصّة واحدة. وكذلك تتناظر هذه السور الأربع من نصف القرآن الثاني وتتشابه مع سورة المائدة من النصف الأول والتي مقصدها الأمر بالوفاء بالعقود واتباع الدين وكماله الموصل إلى محبة الله (وموضوعات المائدة الأربعة: الوفاء بالعقود، وتحريف أهل الكتاب، والحلال والحرام، والحساب).

025.8.1- تباركت صفات الله، وتكاثرت خيراته، وتعالى عطاؤه، لأنه أنزل الفرقان ليكون للعالمين نذيراً. وتأتي هذه السورة بعد سورة النور، وسورة النور هي إسم على مسمّى، أنارت السبيل أمام أسمى الروابط والعلاقات بين الناس، لأن الله حدّ فيها حدود وفرض فيها فرائض وأحكام وآداب تفرق بين الحق والباطل في سبيل إعلاء مكارم الأخلاق في المجتمع، والحفاظ على البيوت واستقرارها وحرمتها وأمنها؛ وماذا يحتاج الإنسان على الأرض أكثر من الأمان والاستقرار وحفظ حقوقه. وقبل النور جاءت سورة المؤمنون تبين صفات المؤمنين العظيمة وإكرام الله الواسع لهم بهذا الهدى والإيمان الذي جاء به القرآن؛ وأنه قد أفلح المؤمنون، وأنه لا يفلح الكافرون. وقبلها جاءت سورة الحج تبين أنّ نجاة الإنسان ومنفعته ومصلحته هي في العبادة والجهاد وتعظيم شعائر الله التي أنزلها في القرآن. وقبلها سورة الأنبياء تقرر أن إرسال الأنبياء هو رحمة ونعمة كبيره من الله، ونجاة للناس من النار. وقبلها سورة طه تقرر أن القرآن رحمة للناس ونجاة لهم من العذاب والنار. وقبلها سورة مريم تقرر أن الإيمان بالله الواحد رحمة للناس ونجاة لهم من العذاب والنار. ومن قبلها جاءت جميع السور ما بين الأعراف إلى الكهف تقرر أن كل ما جاء من عند الله في القرآن عن طريق الوحي والمرسلين من إيمان وعبادة وأخلاق ما هو إلا نعمة وتكريم من الله تباركت صفاته ودام إنعامه. وقبل ذلك كله في السور ما بين الفاتحة والأنعام بيّن الله دينه كاملاً وفرّق فيها بين الحلال والحرام وأتم نعمته على عباده فهداهم إلى الطريق المبين والصراط المستقيم. والحمد لله.

وبعد هذه السورة ستأتي بإذن الله سورة الشعراء فتبين كيف أن القرآن جاء بالبينات (الآيات، المعجزات) لكن أكثر الناس ضالّين مكذبين. ثم سورة النمل فتبين أن القرآن مبين لكلّ الناس، لكن لا ينتفع به إلا المؤمنون. ثم سورة القصص تبين فضل الله العظيم تعالى عطاؤه ونعمته ورعايته لأوليائه والمؤمنين.

025.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي في كتابه “أسرار ترتيب القرآن”: أن نسبة هذه السورة لسورة النور كنسبة سورة الأنعام إلى المائدة من حيث أن النور قد ختمت بقوله‏:‏ ‏{‏للهِ ما في السمواتِ والأَرض‏}‏ كما ختمت المائدة بقوله ‏{‏للهِ ملكُ السمواتِ والأَرض وما فيهن‏}‏ وكانت جملة النور أخصر من المائدة ثم فصلت هذه الجملة في سورة الفرقان فافتتحت بقوله ‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدّرهُ تقديراً (2)} كما افتتحت الأنعام بمثل ذلك. وكان قوله عقبه {واتخذوا من دونهِ آلهة (3)} إلى آخره نظير قوله هناك {ثم الذين كفروا بربهم}.

ثم ذكر في خلال هذه السورة جملة من المخلوقات كمثل الظل والليل والنوم والنهار والرياح والماء والأنعام والأناسي ومرج البحرين والإنسان والنسب والصهر وخلق السماوات والأرض في ستة أيام والاستواء على العرش وبروج السماء والسراج والقمر إلى غير ذلك مما هو تفصيل لجملة‏:‏ ‏{‏للهِ ما في السمواتِ والأَرض‏}، ‏ كما فصل آخر المائدة في الأنعام بمثل ذلك وكان البسط في الأنعام أكثر لطولها.

ثم أشار في هذه السورة إلى القرون المكذبة وإهلاكهم كما أشار في الأنعام إلى ذلك. ثم أفصح عن هذه الإشارة في السورة التي تليها وهي الشعراء بالبسط التام والتفصيل البالغ. كما أوضح تلك الإشارة التي في الأنعام وفصلها في سورة الأعراف التي تليها. فكانت هاتان السورتان الفرقان والشعراء في المثاني نظير تينك السورتين الأنعام والأعراف في الطوال واتصالهما بآخر النور نظير اتصال تلك بآخر المائدة المشتملة على فصل القضاء.

ثم إذا وقعت سورة مكية بعد سورة مدنية افتتح أولها بالثناء على الله كالأنعام بعد المائدة والإسراء بعد النحل وهذه بعد النور وسبأ بعد الأحزاب والحديد بعد الواقعة وتبارك بعد التحريم لما في ذلك من الإشارة إلى نوع استقلال وإلى الانتقال من نوع إلى نوع.

025.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما تضمنت سورة النور بيان كثير من الأحكام كحكم الزنى، ورمي الزوجات به، والقذف، والاستئذان، والحجاب، وإسعاف الفقير، والكتابة، وغير ذلك، والكشف عن مغيبات، من تغاير حالات، تبين بمعرفتها والاطلاع عليها الخبيث من الطيب، كاطلاعه سبحانه نبيه والمؤمنين على ما تقوله أهل الإفك، وبيان سوء حالهم، واضمحلال محالهم، في قصة المنافقين في إظهارهم ضد ما يضمرون؛ ثم كريم وعده للخلفاء الراشدين {وعد الله الذين آمنوا منكم (55)} النور، ثم ما فضح به تعالى منافقي الخندق {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً (63)} إلى آخر الآية، النور، فكان مجموع هذا فرقاناً يعتضد به الإيمان، ولا ينكره مقر بالرحمن، يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة رسالته، ويوضح مضمن قوله {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم (63)} النور، من عظيم قدره صلى الله عليه وسلم وعليّ جلالته، أتبعه سبحانه بقوله {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده (1)} الفرقان، وهو القرآن الفارق بين الحق والباطل، والمطلع على ما أخفاه المنافقون وأبطنوه من المكر والكفر {ليكون للعالمين نذيراً (1)} الفرقان، فيحذرهم من مرتكبات المنافقين والتشبه بهم؛ ثم تناسج الكلام، والتحم جليل المعهود من ذلك النظام، وتضمنت هذه السورة من النعي على الكفار والتعريف ببهتهم وسوء مرتكبهم ما لم يتضمن كثير من نظائرها كقولهم {مال هذا الرسول يأكل الطعام (7)} الفرقان، الآيات، وقولهم {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا (21)} الفرقان، وقولهم {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة (32)} الفرقان، وقولهم {وما الرحمن (60)} الفرقان، إلى ما عضد هذه وتخللها، ولهذا ختمت بقاطع الوعيد، وأشد التهديد، وهو قوله سبحانه {فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً (77)} الفرقان، انتهى.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top