العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


029.0 سورة العنكبوت


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


029.1 التعريف بالسورة:

1) مكية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 69 آية 4) التاسعة والعشرون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثامنة والثمانون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الروم”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

{الله} 41 مرّه، {إله} 2 مرّة، {رب} 5 مرات، {لله} 1 مرّه، غفور 5؛ (3 مرّات): هو، عليم، يَعْلَم، أنزل؛ (2 مرّة): سميع، عزيز، يبدئ، خَلَق، حكيم، أعلم؛ (1 مرّة): قدير، غني، يعيد، شهيد، واحد، يقدر، يبسط، أنعم، فتن، أنشأ، {إلهنا وإلهكم واحد}. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

هي السورة الوحيدة التي تكررت فيها الكلمات: الحيوان 1 مرّة.

أكثر سورة وردت فيها: جاهد 4 مّرات بعد التوبة 10 مرّات، {يجحد بآياتنا} 2 مرة هي وفصلت.

وتكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: الذين 21 مرة، علم 15 مره، آمن 12 مره، كافر 9 مرات، عذاب 9 مرات، عمل 8 مرات، كتاب 7 مرات؛ (5 مرّات): خلق، ناس، عالمين، رزق، كذب؛ (4 مرّات): صالح، حسن، سبيل، بعض؛ (3 مرّات): الآخرة، رحمه، نفس، حياة، فتنة، سيئ، {والذين آمنوا وعملوا الصالحات}؛ (2 مرّة): ترك، نصر، أجل، باطل، أجر، عنكبوت؛ (1 مرّة): نعمه، شيطان.

029.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

أخرج الدارقطني في السنن عن عائشة رضي الله عنها “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات يقرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بيس”.

029.3 وقت ومناسبة نزولها:

نزلت قبل الهجرة إلى الحبشة بقليل، فهي تحرّض المسلمين على الهجرة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) … (60)}، حيث كان الكفار يعادون ويحاربون الإسلام بأقسى ما يستطيعون، فجاءت السورة تشجّع المسلمين وتقوّيهم ليصبروا، وتحذّر الكفار من الانتقام الإلهي كما حصل في الأمم السابقة.

وقد ذكرت بعض الروايات أن الإحدى عشرة آية الأولى (1-11) مدنية. وذلك لذكر “الجهاد” فيها وذكر “المنافقين”. ولكن الأرجح أن السورة كلها مكية. وقد ورد في سبب نزول الآية الثامنة أنها نزلت في إسلام سعد بن أبي وقاص. وإسلام سعد كان في مكة بلا جدال. وهذه الآية ضمن الآيات الإحدى عشرة التي قيل إنها مدنية. أما تفسير ذكر الجهاد فيها فلأنها واردة بصدد الجهاد ضد الفتنة. أي جهاد النفس لتصبر ولا تفتن. وهذا واضح في السياق. وكذلك ذكر النفاق فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

029.4 مقصد السورة:

029.4.1- بيان حقيقة الإيمان وأنه أعمال لا أقوال، جرت سنة الله سبحانه أنه لن يترك الناس دون أن يفتنوا، فيمتحن إيمانهم حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. فالإيمان بالله يتضمن الصبر ومجاهدة النفس على اتباع دينه الذي به يتحدد مصير المؤمنين والمنافقين والكافرين.

029.4.2- ومقصدها نجده في الآية الثانية {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)}، يريد الله سبحانه أن يمتحن الناس في إيمانهم، ليعلم بالعمل الظاهر صدق الصادقين وكذب الكاذبين. ولأن الإيمان واتباع الدين فيه النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة. فجعل الله الفتنة لابتلاء الناس في إيمانهم، فيجازي الصادقين بصدقهم ويعاقب الكاذبين على تكذيبهم. فليس الإيمان كلمة تقال باللسان، إنما هو العمل والصبر على المكاره والتكاليف التي جاء بها الدين. وتأتي الفتنة للتمحيص، ليعلم الصادق من الكاذب {فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين (3)}، وليعلم المؤمن من المنافق {وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين (11)}.

029.4.3- الدليل على الإيمان هو بالاستقامة في الأعمال التي هي اتباع الدين الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتكذيب هو باتباع الشهوات وغرور الشيطان ووعوده. والاستقامة تحتاج إلى مجاهدة لأنها أعمال صالحة واتباع قوانين أو تكاليف وحفاظ على روابط وعقود مع باقي الناس والمخلوقات على الأرض، أما التكذيب فهو أسهل لأنه تحرر من القوانين واتكال على تحقيق الشهوات والملذات ولو على حساب مصلحة الغير. قد يظن أكثر الناس أنهم بسبقهم إلى حقوق الغير ناجين بفعلتهم ساء حكمهم، لأن الله مبتليهم بهذا ومحاسب الجميع بالعدل على ظلمهم وتعديهم على حقوق غيرهم.

الله قادر على أن يجعل الإنسان مطيع منسجم مع الفطرة والنظام الذي أودعه في الكون، لكنه سبحانه أراد أن يكون للإنسان قدرة على الاختيار، ثم خيره بين الاستقامة أو الضلال، إن اختار الاستقامة سعد واستقرّت معه الحياة على الارض وإن اختار الضلال فسد وأفسد معه الأرض. هذا الاختيار ابتلاء بالأمانة وحمل التكاليف، جعله سبحانه فتنة يقام بها الحجة والعذر على الإنسان هل يحافظ على نفسه اختياراً أم عنوة. والغالب أن الإنسان ظلم نفسه بحمل الأمانة ويخبرنا القرآن الكريم بأن الإنسان هو الذي اختار هذا الطريق لنفسه، ظلماً وجهلاً، بينما رفضته السماوات والأرض والجبال، كما بينته الآية (72) من سورة الأحزاب.

029.5 ملخص موضوع السورة:

الإيمان ليس بالقول بل بالعمل، لأن العمل هو الدليل على الإيمان، الله خلق الإنسان ليكون مختاراً لإسلامه والتزامه بالدين، والدين الذي هو القانون والنظام الذي جعله الله من أجل سعادة عباده المؤمنين، فلا بد من الإيمان وبالتالي العمل بالدين. والعمل بالدين يحتاج إلى مجاهدة للنفس والشيطان والشهوات التي هي مصدر الفتن، وعدم الإيمان يؤدي إلى اتباع الشيطان الذي يزين الباطل ويصد عن السبيل (آية 38)، وإلى الانجرار وراء شهوات النفس بحرصها على الراحة واللعب واللهو، وتخاذلها عن الجد والجهاد ضد الفتن. الإيمان يهدي إلى العمل الصالح والفوز في الدارين، وعدم الإيمان يؤدي إلى عمل السيئات والخسران في الدنيا والآخرة.

وتتكون السورة من مقدمة (7 آيات) تؤكد أن الله سبحانه يريد أن يمتحن الناس في إيمانهم، وخاتمة (2 آية) تلخص جزاء ومصير الفئتين المؤمنة والمكذبة، فالمؤمنون يهديهم الله ويرعاهم، والمكذبون مثواهم جهنم. وباقي آيات السورة (60 آية) فيها سبع مجموعات من الآيات هي: أمثلة عن الفتن (6 آيات)، وقصص عن الفتن (22 آية)، وسنة الخلق وإعادته (5 آيات)، وبيت العنكبوت (3 آيات)، وأوامر بالذكر والصلاة (9 آيات)، وجزاء الأعمال (7 آيات)، وحجج تؤكد هذه المقاصد (8 آيات) كما يلي:

المقدمة (الآيات 1-7) استهلّت بذكر مقصدها بقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2)}، فالله سبحانه يريد أن يمتحن الناس في إيمانهم، فيجازي الصادقين بصدقهم ويعاقب الكاذبين على تكذيبهم، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان، إنما هو العمل والصبر على المكاره والتكاليف التي جاء بها الدين، وتأتي الفتنة للتمحيص {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)}، ولقد فتنت جميع الأمم من قبل في إيمانها. ثمّ (الآيات 8-13) ذكرت ثلاثة أمثلة عن الفتن التي يتعرض لها المؤمنون، وهي تأثير الوالدين على أبنائهم ليبقوهم على الشرك، وأذى الناس للمؤمنين بسبب إيمانهم، والكذب والخداع الذي يمارسه الكفار لغواية المؤمنين. ثمّ (الآيات 14-18، 24-40) وفيها قصص عن صبر أعظم الرسل مكابدة وأشدّهم ابتلاء، وبيان مصير أممهم التي أهلكها الله لأن أكثرها كذبت رسلها: فمنهم من أخذهم الطوفان ومنهم من خسف بهم الأرض أو نزل عليهم رجز من السماء أو أخذتهم الرجفة أو الصيحة أو الغرق، وذلك بسبب ظلمهم وعدم إيمانهم، وهم: قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم لوط ومدين وعاد وثمود وقارون وفرعون وهامان. وفي هذا دليل على سنة الله الثابتة على الدوام في الابتلاء بالإيمان ليعلم الصادق من الكاذب، ثمّ العقاب في الآخرة في نار جهنم، يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً، كذلك جعلهم الله آية لمن يأتي بعدهم، أما القلّة ممن آمن منهم فقد أنجاهم الله في الدنيا وآتاهم الأجر ووهب لهم الذرية الصالحة، وفي الآخرة لهم الفوز بالجنة والنعيم. (الآيات 19-23) يتخلل القصص الأمر بأن يتأملوا سنته القائمة في الخلق وإعادة الخلق، وهم يرونها على الدوام، فكما لم يتعذر عليه إنشاءه مبتدَأً، فكذلك لا يتعذر عليه إعادة إنشائه النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء أراده، يعذب مَن يشاء ويرحم مَن يشاء بأعمالهم. ثمّ (الآيات 41-43) مثال يبين حال المشركين: باتخاذهم من دون الله أصناماً يرجون نفعها كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً تأوي إليه، وإن أضعف البيوت لبيت العنكبوت (يقتل بعضها بعضاً). ثمّ (الآيات 44-52) أوامر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: بتلاوة القرآن وإقام الصلاة وذكر الله، وعدم جدال الذين أوتوا الكتاب إلا بالتي هي أحسن. ثمّ (الآيات 53-59) استعجال الكافرين بالعذاب، وبيان جزاء الأعمال يوم القيامة: كل الناس ميتون وراجعون إلى الله ربهم ليحاسبهم على أعمالهم وإيمانهم وعبادتهم في الدنيا، فيدخل الكافرين جهنم ويدخل المؤمنين الجنة خالدين لا موت. ثمّ (الآيات 60-67) ذكر الآيات البينات التي تثبت أن الله هو الخالق الرازق المنجي، حيث سخر الشمس والقمر لخدمة الإنسان، وأنزل المطر لبعث الحياة، والدليل على أن الله هو الرازق نراه في حال الدواب من حولنا التي لا تحمل رزقها بل الله يرزقها، والناس تعلم أن الله هو الذي يقدر الرزق بين عباده ومخلوقاته، لأنه وحده الذي ينزل الماء من السماء لإحياء الأرض، وهم يعلمون أن الله هو المنجي بدليل أنهم في البحر لا يدعون إلا هو مخلصين له الدين، وخير دليل لأهل مكة على قدرة الله على الضر والنفع، هذا الأمان الذي جعله الله للناس حول الحرم، بينما الخوف والقتل من حولهم. (الآيات 68، 69) الخاتمة فيها التشنيع على ظلم المكذبين بالحق وافترائهم وأن مصيرهم جهنم، ووعده بأن يهدي الذين جاهدوا فيه سبل الخير وينجيهم من الفتن.

اللهم اهدنا سواء السبيل واجعلنا من عبادك المحسنين.

029.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

تفاصيل عن السورة باعتبار تريب آياتها:

029.6.1- خلق الله الإنسان لبتليه في إيمانه واتباع دينه: وأن الله لن يترك الناس يقولوا آمنا بألسنتهم دون أن يمتحنهم في إيمانهم. وهي سنة ثابتة مع كل الناس ليختبر صدق الصادقين في إيمانهم وكذب الكاذبين. فلا يظنن الذين يعملون المعاصي أنهم سيفلتون بأنفسهم من العقاب، بل إن الله سميع لما يقولون عليم بأفعالهم، وإن الأجل الله الذي جعله لبعث خلقه للجزاء والعقاب لآتٍ، فيجزي الذين يعملون الصالحات أحسن ما كانوا يعملون. (1-7)

029.6.2- بيان أنواع الفتن وأسباب عدم الإيمان: بعد بيان سنة الله في ابتلاء الذين يختارون الإيمان، وفتنتهم حتى يعلم الذين صدقوا منهم ويعلم الكاذبين. تتحدّث الآيات عن الفتنة بالقرابة وتقليد الآباء والأجداد، والفتنة بالأذى وخشية الناس كخشية الله، والفتنة بالإضلال والكذب واتباع الأماني وغواية الكفار. (8-13)

029.6.3- ذكر بعض القصص عن الأمم السابقة: تبين أن الله أرسل المرسلين مبشرين ومنذرين ليبنوا لأقوامهم سنته بالابتلاء في الإيمان واتباع الدين. وأن أكثر الناس لم يؤمنوا فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا والعقاب في الآخرة في نار جهنم، يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً، كذلك جعلهم الله آية لمن يأتي بعدهم. أما القلّة ممن آمن منهم فقد أنجاهم الله في الدنيا وآتاهم الأجر ووهب لهم والذرية الصالحة، وفي الآخرة لهم الفوز بالجنة والنعيم. (14-18، 24-40)

029.6.4- آيات الله في الخلق وإعادة الخلق: يتخلل القصص بيان آيات الله في الخلق من العدم وإعادة الخلق. فيأمر سبحانه وتعالى الناس أن يتأملوا سنته القائمة في الخلق وإعادة الخلق، وهم يرونها على الدوام. فكما لم يتعذر عليه إنشاؤه مبتدَأً، فكذلك لا يتعذر عليه إعادة إنشائه النشأة الآخرة. إن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء أراده. يعذب مَن يشاء مِن خلقه على ما أسلف مِن جرمه في أيام حياته، ويرحم مَن يشاء منهم ممن تاب وآمن وعمل صالحاً، وإليه ترجعون، فيجازيكم بما عملتم. (19-23)

029.6.5- مثال يبين حال المشركين: باتخاذهم من دون الله أصناما يرجون نفعها كمثل العنكبوت اتخذت بيتا تأوي إليه وإن أضعف البيوت لبيت العنكبوت. (41-43)

029.6.6- أوامر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: تأمرهم بتلاوة القرآن وإقام الصلاة وذكر الله، وعدم جدال الذين أوتوا الكتاب إلا بالتي هي أحسن. (44-52)

029.6.7- الجزاء يوم القيامة: بيان جزاء الأعمال يوم القيامة: كل الناس ميتون وراجعون إلى الله ربهم ليحاسبهم على أعمالهم وإيمانهم وعبادتهم في الدنيا، فيدخل الكافرين جهنم ويدخل المؤمنين الجنة خالدين لا موت. (53-59)

029.6.8- الإيمان سبيل الهداية وعلاج للفتنة: المؤمن يعلم أن الله هو الرزاق لجميع مخلوقاته، لأنه خالق السماوات والأرض وما فيهما، أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها لتصلح لمعيشة الناس. فيعيش المؤمن في استقرار وأمان، يعبد الله لا يشرك به شيئاً، يعلم أن الدنيا لعب ولهو وان الآخرة هي الحياة الحقيقية، ويجاهد نفسه الأمارة بالسوء والشيطان اللعين، ثم ينتظر من الله الجزاء الكبير. أما الكافر فهو خوف دائم من كل ما حوله يعبد مالا ينفعه ولا يضره، كافر بنعم الله، مكذّب بالحق، فجزاءه الشقاء والضلال في الدنيا والعذاب في جهنم في الآخرة. (60-69)

029.7 الشكل العام وسياق السورة:

029.7.1- اسم السورة: سميت “سورة العنكبوت” لأن الله ضرب العنكبوت فيها مثلاً للأولياء والآلهة المزعومة من دون الله {‏‏كمثل ‏العنكبوت ‏اتخذت ‏بيتا (41)}، ليمثل الإيمان السطحي والضعيف الذي يهتز بأقلّ فتنه، والعلاقات الواهية الغير قائمة على الإيمان {ثمّ يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً (25)}. وكذلك اتخاذ أولياء من دون الله {كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (41)} أي مثل العلاقة الأسريّة الواهية في بيت العنكبوت التي تنتهي بقتل الأنثى للذكر وقتل العناكب الجديدة بعضها بعضاً.

وفي الآية لفت للانتباه إلى العنكبوت للتأكيد على دقّة مسكنه وقوّة خيوطه. قال الله عزّ وجل “لبيت العنكبوت” ولم يقل كخيط العنكبوت. قال الله عزّ وجل {اتخذت} دلالة على الأنثى، فالأنثى هي التي تصنع البيوت وهي التي تفرز المادّة، وفي هذه الآية اعجاز علمي اجتماعي هائل، فأوّلاً من ناحية المتانة ثبت أن خيط العنكبوت كخيط من أقوى المواد، أقوى من الحديد والألمنيوم كخيط من الناحية العلمية والميكانيكيّة، وإنما هنا المقصود من بيت العنكبوت الوهن الاجتماعي، ففي دراسة علم الحشرات وتصرفات الحشرات وجدوا أن بيت العنكبوت من أوهن البيوت اجتماعيّاً، فالأنثى تقوم بقتل الذكر بعد التلقيح، وعندما تفقس البيوض وتنتج العناكب، العناكب يقتل بعضها بعضاً، ويحصل التآكل فيما بينهم، فهي إشارة اعجازيّة رائعة على وهن البيت اجتماعياً، فالذي يتخذ من دون الله أولياء فهو في وهن اجتماعي شديد كحال تصرّف العناكب في محيطها الاجتماعي. سبحان الله.

029.7.2- سياق السورة باعتبار القصص والأمثلة والآيات والحجج الواردة فيها:

تتكون السورة من مقدمة (7 آيات) وخاتمة (آيتين) تلخص مقصد السورة وموضوعاتها وباقي آيات السورة (60 آية) هي قصص وآيات وأمثلة وحجج تشرح وتؤكد هذا المقصد.

029.7.2.1- المقدمة فيها التأكيد على أن الله سبحانه لن يترك الناس دون أن يمتحنوا في إيمانهم، ليعلم بالعمل صدق الصادقين وكذب الكاذبين. ولقد فتنت جميع الأمم من قبل في إيمانها. وأن الله سيجازي المسيئين بإساءتهم والمحسنين بإحسانهم. الآيات (1-7)

029.7.2.2- اعتمدت السورة على ذكر القصص عن الأمم السابقة، وعلى الآيات المشاهدة، واستخدمت الأمثلة، وأقامت الحجة، لبيان أن الله أرسل المرسلين وأنزل الكتب وبسط الأدلّة والبينات التي تثبت للناس أن الإيمان هو خير لهم وأن الله يختار لهم الأصلح لحياتهم، ويختار لهم الحق الذي يوصلهم إلى الفوز بالجنة. كما بسط لهم الآيات التي تثبت لهم أن تكذيبهم للمرسلين وعدم اتباعهم لدين الحق سيجر عليهم الهلاك والشقاء في الدنيا والخسران في الآخرة. وقد تركهم سبحانه على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يحيد عنها إلا هالك، وذلك كما يلي:

029.7.2.2.1- ذكرت السورة ثلاثة أمثلة عن الفتن التي يتعرض لها أغلب من يريد الإيمان، وهي تأثير الوالدين على أبنائهم ليبقوهم على الشرك، وأذى الناس للمؤمنين بسبب إيمانهم، والكذب والخداع الذي يمارسه الكفار لغواية المؤمنين. الآيات (8-13)

029.7.2.2.2- ذكرت السورة قصص مجموعة من الأمم السابقة التي أهلكها الله لأن أكثرها كذبت رسلها. وبينت لنا مصير تلك الأمم: فمنهم من أخذهم الطوفان ومنهم من أهلكوا أو خسف بهم الأرض أو نزل عليهم رجز من السماء أو أخذتهم الرجفة أو الصيحة أو الغرق، وذلك بسبب ظلمهم وعدم إيمانهم. وهم قوم نوح وقوم إبراهيم وقوم لوط ومدين وعاد وثمود وقارون وفرعون وهامان. وفي هذا دليل على سنة الله الثابتة على الدوام في الابتلاء بالإيمان ليعلم الصادق من الكاذب. وفيه إنذار شديد وتهديد لأهل مكة إن هم لم يؤمنوا فسيصيبهم ما كان قد أصاب من كان قبلهم، وبشارة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالنصر كما نصر من كان قبلهم. الآيات (14-18، 24-40)

029.7.2.2.3- الإشارة إلى آيات الله البينات في الخلق، وعن دورة الخلق من العدم وإعادة الخلق، يرونها تحصل في كل شيء من حولهم، وفيه الدليل على البعث للحساب يوم القيامة. الآيات (19-23)

029.7.2.2.4- مثال يبين حال المشركين: باتخاذهم من دون الله أصناما يرجون نفعها كمثل العنكبوت اتخذت بيتا تأوي إليه وإن أضعف البيوت لبيت العنكبوت. (41-43)

029.7.2.2.5- اعتماد الحوار والمنطق البسيط الذي يثبت لمن يريد الإيمان أن الرسول حق وأن الكتاب الذي جاء به هو من عند الله يأمر بإقامة الصلاة وينهى عن الفحشاء والمنكر. وأن من لا يؤمن به من الكفار ومن أهل الكتاب فهو معاند مكابر وجاحد، والأولى للمؤمنين عدم الدخول معهم في جدال لا طائل من ورائه إلا بالتي هي أحسن. والأفضل الهجرة أو الابتعاد عنهم إلى أرض الله الواسعة حيث تتيسر العبادة ويقام الحق بعيداً عن الكفر والشرك، فالله خالق السماوات والأرض بالحق، أمر بالإيمان والتوكل عليه واتباع دينه لأجل فلاح الإنسان، إليه الرجعى، جعل الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات. الآيات (44-59).

029.7.2.2.6- ذكر الآيات البينات التي تثبت أن الله هو الخالق الرازق المنجي، حيث سخر الشمس والقمر لخدمة الإنسان، وأنزل المطر لبعث الحياة. والدليل على أن الله هو الرازق نراه في حال الدواب من حولنا التي لا تحمل رزقها بل الله يرزقها، والناس تعلم أن الله هو الذي يقدر الرزق بين عباده ومخلوقاته، لأنه وحده الذي ينزل الماء من السماء لأحياء الأرض. وهم يعلمون أن الله هو المنجي بدليل أنهم في البحر لا يدعون إلا هو مخلصين له الدين. وخير دليل لأهل مكة على قدرة الله على الضر والنفع، هذا الأمان الذي جعله الله للناس حول الحرم، بينما الخوف والقتل من حولهم. الآيات (60-67)

029.7.2.3- الخاتمة فيها التشنيع على المكذبين بأنهم لا أحد أشد ظلماً منهم بكذبهم على الله وتكذيبهم للحق وأن مصيرهم جهنم. وفيها وعده بأن يكون مع المؤمنين فيهدي المجاهدين في سبيله سبل الخير وينجيهم من الفتن. الآيات (68-69).

029.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

029.7.3.1- آيات القصص: (10-18، 22-40، 47-54) = 36 آية.

029.7.3.2- الأمثال في الآيات: (41-43، 65-67) = 6 آيات.

029.7.3.3- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (19-21، 44، 60-63) = 8 آيات.

029.7.3.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-9، 45، 46، 55-59، 64، 68، 69) = 19 آية.

029.7.4- سياق السورة باعتبار وقت النزول:

تركّز السورة الكريمة على الإيمان وسنة الابتلاء في هذه الحياة لأن المسلمين في مكة كانوا في أقسى أنواع المحنة والشدة ولهذا جاء الحديث عن مواضيع الفتنة والابتلاء في هذه السورة مطولا مفصلا وبوجه خاص عند ذكر قصص الأنبياء. وتظهر السورة أن طريق الهداية وتكاليف الإيمان محفوفة بالمكاره، وتحتاج إلى الجهاد والمجاهدة، وهي التي تكشف عن معدن المؤمن {ومن جاهد فإنّما يجاهد لنفسه إنّ الله لغنيّ عن العالمين (6)}، {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين (69)}. كذلك افتتحت السورة بذكر الابتلاء {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2)} وختمت بما يكون به الابتلاء وهو الجهاد فقال سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69)}. ومن يتأمل فاتحتها يجده ابتلاء وامتحان، ووسطها صبر وتوكل، وخاتمتها هداية ونصر.

ومن الفتن التي تعرّض لها المسلمون وقت نزول السورة، وخاصّة الشباب منهم محاولة والديهم إعادتهم إلى دين أجدادهم {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما (8)}. ومن الفتن أيضاً أن الكفار كانوا يقولون للمؤمنين {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم (12)}. ومنها أيضاً أن بعض الناس يتخذون أولياء غير الله طلباً للرزق أو الأمن إلخ.

كذلك بتدبر الآيات (56-60) قوله تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون (56)، كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون (57)} إلى قوله تعالى: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم (60)}. يكون معناها: إن الله تعالى يدعو عباده المؤمنين أن إذا وقع بكم أذى من الكفار في مكان على الأرض وأرادوا إكراهكم على الكفر، فلا تطيعوهم فأرض الله واسعة، فهاجروا إلى مكان آخر، ولا تبالوا أن في الهجرة مفارقة الأوطان والأقرباء والإخوان إذ {كل نفس ذائقة الموت} فإن لم يحصل الفراق بالهجرة فيحصل بالموت، فالمفارقة لا مناص منها، وإن جال في نفوسكم أن لكم في أوطانكم ما يشق عليكم فراقه ويشغل بالكم من الأرزاق والمزارع والتجارات والبيوت، فقد يرد في أذهانكم سؤال هو: إن هاجرنا وتركنا البيوت والمزارع والأراضي والتجارات والصنائع التي نمتلكها فمن يأتينا بالرزق ؟ فجاءت الآية لتزيل شبهة السؤال الذي يشغل عن الهجرة في سبيل الله فقال تعالى: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم}.

029.7.5- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:

029.7.5.1- سنة الله في الفتنة والابتلاء: خلق الله الإنسان على هذه الأرض ليبتليه بالفتنة في دينه، فيجازي الصادقين بصدقهم ويعاقب الكاذبين على تكذيبهم. (الدين يشمل أركان الإيمان وأركان الإسلام والإحسان وأمارات الساعة). الآيات (1-3، 11) = 4 آيات = 5.80%

تبين هذه الآيات من السورة أن سنة الله في خلق الإنسان هو الابتلاء والامتحان بالفتن لكي يعلم بالحجة من هو الصادق في دعوى الإيمان ومن هو كاذب أو منافق. بل أن الله ما خلق الإنسان إلا ليبتليه كما جاء في سورة الإنسان: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (3)}، أي خلق الناس ليفتنوا وليحاسبوا ويجازوا حسب أعمالهم. يريد الله يبتلي الإنسان بالفتنة في دينه، فيجازي الصادقين بصدقهم ويعاقب الكاذبين على كذبهم.

029.7.5.2- الناس في امتحان الإيمان ينقسمون إلى فئتين: فئة لا يتبعون الدين فيعملون السيئات وفئة يتبعون الدين فيعملون الصالحات (الدين يأمر بالصالحات ومكارم الأخلاق): الآيات (4-7) = 4 آيات = 5.80%

فئة يعملون السيئات والمعاصي مِن شرك وغيره ويحسبون جهلاً أنهم ناجون بالمعصية من عذاب الله فلا يقدر عليهم. فخاب ظنهم لأن الله سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم وبئس حكمهم. وفئة ترجو لقاء الله وتخشى عذابه وتجاهد للفوز والنجاة فآمنت وعملت الصالحات فنالوا أحسن مما عملوا.

029.7.5.3- أنواع الفتن التي تمنع من الإيمان، وتوصيات بكيفية التعامل معها:

الآيات (8-10، 12، 13) = 5 آيات = 7.25%

029.7.5.3.1- تقليد الآباء والأجداد: وقد أمر الإنسان بالإحسان إلى والديه بالقول والعمل، لكن عليه أن لا يمتثل أمرهما له بالكفر والمعاصي، بل عليه بالإيمان والعمل الصالح. قال صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه إما يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” لم يذكر الإسلام في الحديث لأنه دين الفطرة.

029.7.5.3.2- إذا أوذي في الله يجزع من الأذية فيرتد عن إيمانه. كذلك الأذى بسبب الإيمان قد يؤدي إلى النفاق.

029.7.5.3.3- كذب الكافرين وتغريرهم بمن يريد الإيمان، لطمس الحق وتضليلهم مدعين بأنهم سيحملون عنهم خطاياهم.

029.7.5.4- قصص تبين عظيم صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الدين وطول مكايدتهم من قومهم وتحملهم للابتلاء: ثم نصر الله لهم في الدنيا رغم قلّة المؤمنين بهم، يقابله كثرة المكذبين وهلاكهم في الدنيا واستبدالهم بالمؤمنين بسبب تكذيبهم. الآيات (14-18، 24-40) = 22 آية = 31.88%

فذكر نوحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام، وخصهم بالذكر لأنهم من أعظم الرسل مكابدة وأشدهم ابتلاء، أما نوح عليه السلام فلبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا قليل، فأنجاهم الله في السفينة. وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرمى بالمنجنيق في النار فكانت عليه برداً وسلاماً وجعل الله في ذريته النبوّة والكتاب. ثم ذكر تعالى قوم لوط فلم يؤمن به أحد ومدين وعاد وثمود وقارون وفرعون وهامان كل أخذه الله بذنبه فمنهم الذين أرسل عليهم حجارة من طين منضود وهم قوم لوط، ومنهم مَن أخذته الصيحة وهم قوم صالح وقوم شعيب، ومنهم مَن خسف به الأرض كقارون، ومنهم مَن أغرق وهم قومُ نوح وفرعونُ وقومُه، ولم يكن الله ليهلك هؤلاء بذنوب غيرهم، ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون بتنعمهم في نِعَمة ربهم وعبادتهم غيره.

029.7.5.5- الآيات والحجج التي تدل على أن الله هو خالق الناس ليبتليهم: الله هو الخالق الرازق المدبر يعذب مَن يشاء ويرحم مَن يشاء وإليه المرجع. تبين الآيات ثبات المؤمنين ووضوح الآيات أمامهم، فهم يتبعون دين الله فلهم الفوز، وتخبط المشركين وضلالهم يشركون بالله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويتبعون شهواتهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل أولئك لهم عذاب أليم. الآيات (19-23، 44، 60-67) = 14 آية = 20.29%.

فيما يلي بيان بكل الآيات والحجج التي تدل على مقصد السورة وهو أن الله هو خالق الناس ليبتليهم، وهو المدبر القادر على كلّ شيء، هو يبدأ الخلق ثم يعيده، وتدل على أنه خلق في فطرة الإنسان معرفة أن له خالقاً يعبد ويتبع دينه:

يبدأ الخلق من العدم ثم يعيده، إن ذلك على الله يسير. وتعني القدرة على تكرار إعادة بدئ الخلق من العدم. (19)

بدأ الله الخلق ولا يتعذر عليه إعادة إنشائه النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء أراده. (20)

يعذب مَن يشاء ويرحم مَن يشاء وإليه ترجعون للحساب والجزاء. (21)

وما أنتم بمعجزي الله في الأرض ولا في السماء، وما لكم من دون الله مِن وليّ ولا نصير. (22)

الذين كفروا بآيات الله ولقائه لهم عذاب أليم، لأنه أرسل إليهم المرسلين وأنزل الكتب تبلغهم بأنهم محاسبون على أعمالهم في الدار الآخرة. (23)

خلق الله السماوات والأرض بالعدل والقسط، إن في ذلك دلالة للمؤمنين على قدرته وتفرده بالإلهية. وفيه الدلالة على أن عدل الله يقتضي عقاب الظالمين من الناس ومكافأة المقسطين. (44)

وكم من دابة لا تحمل غذاءها، فالله يرزقها كما يرزقكم، وهو السميع العليم. وفيه الدلالة على نبذ الآلهة لا تسمع ولا تعقل والتي لا تضر ولا تنفع الشرك، واتباع دين الله الرازق السميع العليم. (60)

ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض على هذا النظام البديع وسخر الشمس والقمر؟ ليقولُنَّ الله فالعجب من إفكهم وكذبهم. (61)

الله يوسع الرزق لمن يشاء من عباده، ويضيق على آخرين منهم، إن الله بكل شيء من أحوالهم وأمورهم عليم.

ولئن سألتهم مَنِ نزَّل من السماء ماء فأحيا الأرض من بعد موتها؟ ليقولُنَّ لك الله، قل: الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون، ولو عَقَلوا ما أشركوا مع الله غيره. (62، 63)

وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وإن الدار الآخرة لهي الحياة الحقيقية الدائمة، لو كانوا يعلمون لما آثروا دار الفناء على دار البقاء. (64)

فإذا ركب الكفار السفن في البحر، وخافوا الغرق، دعوا الله مخلصين، فلما نجَّاهم إلى البر، عادوا إلى شركهم. (65)

فليكفروا بنعمة الله التي آتاهم وليتمتعوا بها في الدنيا، فسوف يعلمون فساد عملهم. وفي ذلك تهديد ووعيد لهم. (66)

أولم يشاهد كفار مكة أن الله جعل مكة لهم حَرَماً آمناً يأمن فيه أهله على أنفسهم وأموالهم، والناسُ مِن حولهم خارج الحرم، يُتَخَطَّفون غير آمنين؟ أفبالشرك يؤمنون، وبنعمة الله التي خصَّهم بها يكفرون؟ (67)

029.7.5.6- مثال: يشبه حال المشركين باتخاذهم من دون الله أصناما يرجون نفعها كمثل العنكبوت اتخذت بيتا تأوي إليه وإن أضعف البيوت لبيت العنكبوت. الآيات (41-43) = 3 آيات = 4.35%.

مثل الذين اتخذوا من دون الله أصناما يرجون نفعها كمثل العنكبوت اتخذت بيتا تأوي إليه وإن أضعف البيوت لبيت العنكبوت، يعيش فيه وحيداً بدون شريك، في بيت لا يدفع حرا ولا بردا كذلك الأصنام لا تنفع عابديها. إن الله يعلم ما يعبدون من دونه وأنه لا ينفعهم ولا يضرهم، كمثل بيت العنكبوت في ضعفه ووحشته، والله عزيز في ملكه وانتقامه من المشركين، حكيم في تدبيره خلقه. هذا المثل وغيره يبينه الله للناس وما يفهمها إلا العالمون بالله وآياته المذكورة في الآيات السابقة من السورة.

029.7.5.7- توصيات وتعليمات وتطمينات لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم على الحق وأن الكفار وأهل الكتاب على باطل: وفيه إشارة إلى الابتلاء بالعبادة والاستقامة والأمر بالمعروف وذكر الله وبالنهي عن الفحشاء والمنكر. الآيات (45-52) = 8 آيات = 11.59%.

ثم وصى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما يجب فعله بثقة واطمئنان إلى علم الله بما يصنع عباده، دون الالتفات لكثرة المكذبين، وكشف له عن حقيقة علم أهل الكتاب بصدقه وأن خبره في كتبهم، وأوضح له الحجج الصحيحة المبنية على الحقائق، وأوصاه كذلك بدعوتهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن وعدم الخوض في جدال عقيم معهم، بل يحيل الحكم والفصل بالحق إلى الله الذي يعلم ما في السماوات والأرض.

ذكرت كلمة الكتاب في هذه الآيات 6 مرات: في الآية (45) تلاوة القرآن وإقام الصلاة وذكر الله. (46) وعدم جدال الذين أوتوا الكتاب إلا بالتي هي أحسن، والقول: آمنا بالقرآن وبالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مطيعون. (47) أنزلنا إليك القرآن كما أنزلنا إليهم التوراة وغيرها فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون بالقرآن، ومن أهل مكة من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون. (48) من معجزاتك أنك لم تقرأ كتاباً ولم تكتب بيمينك قبل نزول القرآن عليك، وهم يعرفون ذلك، ولو كنت تقرأ أو تكتب لشك أهل الكتاب في ذلك وقالوا: الذي في كتبنا أمي لا يقرأ ولا يكتب أو لقالوا تعلَّمه أو استنسخه من الكتب السابقة. (50) بل القرآن آيات بينات واضحة في الدلالة على الحق يحفظه العلماء، ويجحده الظالمون. وقالوا لولا أنزل عليه آيات كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى، قل الآيات عند الله وأنك نذير لهم من العقاب. (51) أولم يكفهم علمهم بصدقك -أيها الرسول- أنَّا أنزلنا عليك القرآن يتلى عليهم؟ إن في هذا القرآن لَرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وذكرى يتذكرون بما فيه من عبرة وعظة.

029.7.5.8- الجزاء يوم القيامة: الآيات (53-59) = 7 آيات = 10.15%.

جزاء الأعمال يوم القيامة: كل الناس ميتون وراجعون إلى الله ربهم ليحاسبهم على أعمالهم وإيمانهم وعبادتهم في الدنيا، فيدخل الكافرين جهنم ويدخل المؤمنين الجنة خالدين لا موت.

029.7.5.9- ملخص المقصد وموضوعات السورة: الخلاصة وفيها وعد الله سبحانه بأن يعذب المكذبين بسبب ظلمهم، وأن يكون مع المؤمنين فيهدي المجاهدين في سبيله سبل الخير وينجيهم من الفتن. الآيات (68-69) = 2 آية = 2.90%.

تبين آيات السورة من 1 إلى 59 أن لا عذر لأحد إن لم يجتاز امتحان الفتنة بسلام، أو أنه حصل على المصير الذي لا يتمناه، بل العدل كل العدل بأن يكون مصير المكذب وبالتالي المفسد في جهنم، والمؤمن والمجاهد في الجنة. وذلك أن الله سبحانه بين للناس مقصد وجودهم وأنهم مفتونون أرسل بذلك الرسل وأنزل الكتب ووعد بأن يعاقب المكذبين، وأن يهدي من يريد الإيمان سبل الخير وينجيهم من الفتن. وهو الاستنتاج الذي لخّصته الآيتين الأخيرتين كما يلي:

لا أحد أشد ظلماً ممن كذَب على الله، فنسب ما هو عليه من الضلال والباطل إلى الله، أو كذَّب بالحق الذي بعث الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، إن في النار لمسكناً لمن كفر بالله، وجحد توحيده وكذَّب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم.

المؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله، والنفس، والشيطان، وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله، سيهديهم الله سبل الخير، ويثبتهم على الصراط المستقيم، ومَن هذه صفته فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره. وإن الله سبحانه وتعالى لمع مَن أحسن مِن خَلْقِه بالنصرة والتأييد والحفظ والهداية.

029.7.6- سياق السورة باعتبار موضوع الفتنه:

مقدمة تصرّح بأن الله سيمتحن الناس في إيمانهم 7 آيات + خاتمة تبين المصير للمؤمنين وللمكذبين 2 آية + ثم ذكرت السورة أنواع من الفتن هي من أسباب عدم الإيمان 60 آية.

029.7.6.1- مقدمه: التصريح بأن الله سيمتحن الناس في إيمانهم، ليختبر صدق الصادقين في وكذب الكاذبين. فلا يظنن الذين يعملون المعاصي أنهم سيعجزون الله أو أنهم سيفلتون بأنفسهم من العقاب، بئس حكمهم، بل إن الله سميع لما يقولون عليم بأفعالهم، وإن الأجل الله الذي جعله لبعث خلقه للجزاء والعقاب لآتٍ، فيجزي الذين يعملون الصالحات أحسن ما كانوا يعملون. (1-7)

029.7.6.2- ذكرت السورة أنواع من الفتن والتي هي من أسباب عدم الإيمان، كما يلي:

029.7.6.2.1- تقليد الآباء والأجداد “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه إما يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” لم يذكر الإسلام لأنه الفطرة. الوالدان يَفتنان؛ يجاهدان ليشرك العبد، هذه فتنة عظيمة. (8-9)

029.7.6.2.2- إذا أوذي في الله: الأذى بسبب الإيمان قد يؤدي إلى النفاق. (10-11)

029.7.6.2.3- كذب الكافرين وتغريرهم بالمؤمنين لتضليلهم وطمس الحق: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ}. (12-13)

029.7.6.2.4- الافتتان بكثرة الكافرين والمنافقين وقلّة المؤمنين. (14-40)

029.7.6.2.5- الافتتان بطول مكث أعداء الله كما في قصة نوح عليه السلام، لبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة ولم يؤمن معه إلا قليل. (14-15)

029.7.6.2.6- عبادة الأوثان بسبب الاعتقاد بأن الأوثان تضر وتنفع، بينما الخير والحق في عبادة الله وشكره لأنه صاحب الملك على نعمه. (16-18)

029.7.6.2.7- عدم تدبر آيات الله في بدء الخلق وتكرار الخلق، ذلك يؤدي إلى عدم الإيمان بالنشأة الآخرة ولقاء الله واليأس من رحمة الله. (19-23)

029.7.6.2.8- عدم تصديقهم بالمعجزات التي جاء بها الرسل، حين نصر الله نبيه إبراهيم عليه السلام، فجعل النار التي ألقي فيها برداً وسلاماً. وإصرارهم على الضلال وعبادة الآلهة الباطلة يتوادون على خدمتها، ومصيرهم جميعاً النار لا ناصر لهم من الله. (24-27)

029.7.6.2.9- عدم تصديق رسل الله حين أتوهم منذرين بعذاب الله وإهلاكهم بسبب ظلمهم وتغييرهم خلق الله وفطرته. وإصرارهم على المعصية وارتكاب الفاحشة، فأهلكهم الله وجعل من ديارهم وآثارهم عبرة لمن يعتبر. (29-35)

029.7.6.2.10- الافتتان بالشهوة واستسهال إشباع الغرائز بالحرام وسوء استغلال إمهال الله لهم والإعلان عن مناقضة الفطرة كما في قصة قوم لوط. (28-35)

029.7.6.2.11- الإصرار على التكذيب باليوم الآخر والفساد، وطول الأمل والأماني (من الشيطان) فيظن الإنسان أنه مستثنى من أمر الله جل وعلا، فلا تصيبه فتنة ولا يقربه موت. (36-38)

029.7.6.2.12- الغرور بالعلم والنعمة والمساكن {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل (38)} ونسبوا الفضل لأنفسهم.

029.7.6.2.13- العلو والاستكبار في الأرض رغم الآيات البينات والأدلة الواضحة التي جاء بها الرسل، فلم يكن ليفوتهم عذاب الله بل أهلكهم بذنوبهم، ولم يظلمهم ولكنهم كانوا أنفسهم يظلمون بتنعمهم في نِعَم ربهم وعبادتهم غيره. (39-40).

029.7.6.2.14- جعلوا الأوثان أولياء لهم من دون الله يرجون نصرها، فلم يغن عنهم اولياؤهم من دون الله شيئاً، لأن الله هو الخالق المتفرد بالألوهية، يعلم ما تصنعون فيجازيكم على أعمالكم. (41-45)

029.7.6.2.15- كثرة جدال الكفار {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن (46)} فيفتتن المؤمن لإصرار الكافر على الباطل وإلقاءه الشبهات {وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47)}، ويفتتن المسلم لما يظهر أمامه من كثرة المذاهب والملل، مع أن الحق واحد. فيجب ترك الحوار للعلماء والقول {إلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}. (46-49)

029.7.6.2.16- يطلبون الآيات والمعجزات ويستعجلون الساعة، يريدون أن تحصل الأشياء على هواهم. لكن أمر هذه الأشياء الله أرسل المرسلين وأنزل القرآن لَرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، وذكرى يتذكرون بما فيه من عبرة وعظة، يعلم ما في السماوات والأرض، كفى به شهيداً على أعمالهم، وإن عذابه لمحيط بهم لا محالة. (50-55)

029.7.6.2.17- البقاء في بلاد الكفار يؤثر على العبادات وإقامة شعائر الله كما كان يفعل أهل مكّة، فأرض الله واسعة للهجرة وإخلاص العبادة. كل نفس ذائقة الموت فالمؤمن لا يخاف الموت بل يصبر ويتوكل على ربه، إليه الرجعى للحساب والجزاء. (56-59)

029.7.6.2.18- من يخشى على رزقه بسبب الإيمان فالله الرازق. الله يرزقكم خالق السماوات والأرض نزل من السماء ماء أحيا به الأرض بعد موتها. (60-63)

029.7.6.2.19- الافتتان بزينة الحياة الدنيا والانشغال بلهوها ولعبها، فتقسو القلوب وينسون أن {الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون (64)}، فإذا خافوا ذكروا الله وأخلصوا الدعاء فيستجيب الله، فلما زالت الشدّة عادوا إلى شركهم. (64-66)

029.7.6.2.20- الافتتان بالأمن والرفاهية وكثرة الخيرات، وأن القتل والجوع والخوف عند الآخرين لا يصلهم {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (67)}، فيظلوا على باطلهم وشركهم ومعاصيهم لأن البلاء للآخرين وليس لهم.

029.7.6.3- الخلاصة: هي أن من كفر فافترى الكذب أو كذب بالحق لما جاءه مصيره جهنم. ومن آمن وجاهد أعداء الله، والنفس، والشيطان، وصبر على الفتن والأذى في سبيل الله، سيهديه الله سبل الخير ويؤيده وينصره. (68-69)

029.7.7- التكليف والفتنة (دليل الإيمان):

029.7.7.1- يتميز الإنسان عن المخلوقات الأخرى بأن جعله الله مختاراً لبعض الأمور التي تحدد مسيرة حياته على الأرض وتحدد مصيره النهائي في الآخرة. وقد خلق الله الإنسان ابتداءاً كائناً عاقلاً، قابلاً للتأثّر بما يحيط به، في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، في رواية على هذه الملة، أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء “يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله (30)} الروم، قالوا: يا رسول الله؛ أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: “الله أعلم بما كانوا عاملين” لفظ مسلم.

029.7.7.2- وفي سورة الروم التالية لهذه السورة وهي سورة الفطرة تقول إن مردّ الأمر في تسيير المخلوقات يعود كلّه لله، حيث جعل في الكون سنناً وأسباباً تضمن بقاءه وتنظم ترابط أجزاءه. فالسورة تضع الحق في نصابه وتعود بالصنعة إلى صاحب الصنعة، الله وحده سبحانه الصانع. وفيها بيان الآيات الدالّة على ذلك. ومن موضوعاتها ربط أحوال الناس بأحوال الكون، وسننه، وأسبابه كما فطرها صانعها. وتتحدث عن تناقض مواقف الناس في السرّاء، والضرّاء تأثراً بمحيطهم وتبعاً لأهوائهم وتطلعاتهم. يقول تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30)} الروم.

029.7.7.3- لو نظرنا إلى العلاقات الوضعية التي يضعها البشر في العائلة مثلاً نجد الأب يحاسب ابنه إذا لم يتبع النظام الذي هو في صالح الأسرة وصالح الإبن، والحاكم يحاسب الرعية على عدم اتباعهم لقوانين الدولة، كذلك أي تنظيم وضعي لا بد أن يكون له قوانين تمنع الخروج عن النظام الذي هو في صالح الجماعة. الله سبحانه وتعالى خالق القوانين والأنظمة ويريد لهذا الكون ان يدوم لأجل مسمى، فوضع سنناً ومقادير تديم الكون، فيتوجب على كل المخلوقات اتباعها، ولا يملك أي مخلوق الخيار في أن يتبع أو أن لا يتبع. وحين دعا سبحانه السماوات والأرض أن يأتيا طوعاً أو كرها أجابتا أتينا طائعين. ولحكمة أرادها الله سبحانه جعل للإنسان والجان قدرة على اختيار بعض الأعمال أسماها “الدين” يكون لها نتائج تحدد مستقبلهم، أرسل في ذلك الرسل وأنزل الكتب تبين أن اختيارهم لبعض الأعمال (التي أمروا بها أو نهوا عنها) أمانة استخلفهم الله عليها لينظر ما هم فاعلون. ولأن اختيار الناس سيكون له تأثير على النظام العام الصالح لدوام الحياة، فهم سيحاسبون على أمانة أداءه كما يجب. هذا التكليف بالاختيار بين النظام أو ألّا نظام، أو هذا الدين الذي أمر الناس باتباعه يمثل جزء يسير يكاد لا يذكر في نظام الكون على الأرض، ويتعلق افعل أو لا تفعل بعض الأشياء التي حددها الدين تشمل السعي في طلب الرزق وإعمار الأرض من أجل إقامة الدين الذي يشمل العبادات التي تحفظ الفرد والأخلاق التي تحفظ المجتمع، أما باقي الأشياء في حياة الإنسان (من لون أو جنس أو صفات أو غيرها) فلا خيار للإنسان إطلاقاً في أن يفعلها أو لا يفعلها.

029.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

029.8.0- لما بينت سورة القصص أن الإيمان بالله وحده هو مفتاح الأمان للإنسان وهو مصدر كلّ خير في الدارين، وبينت أن الله سيبعث الناس إلى حياة خالدة يوم القيامة يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. قال هنا أنه لن يترك الناس يدّعون الإيمان بألسنتهم دون أن يختبرهم بالعمل لتقام الحجة الظاهرة وبعمل الجوارح على المحسن منهم وعلى المسيء.

029.8.1- ولمّا اكتمل الدين في مطلع نصف القرآن الثاني: ببيان سور مريم وطه والأنبياء أن دين الله رحمة، والحج والمؤمنون والنور مراحل الترقي في الإسلام، والفرقان والشعراء والنمل والقصص أن القرآن مبين وهدى وبشرى ورحمة ونذيراً، صار لزاماً أن نعلم الحكمة من لزوم اتباع الدين، فجاء بيانه في السور الثمانية التي تلتها، ففي العنكبوت: نعمة الابتلاء من أجل تمييز الصادقين من الكاذبين، والمؤمنين من المنافقين، وهو أيضاً تدريب على الإيمان فمن الناس من يزداد إيماناً ولكن أكثرهم بآيات الله يجحدون، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)}. وفي الروم: الدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وسنة الله الثابتة التي لا تتغير، ووعده الذي لا يخلفه، وينصر به عباده ويهلك الظالمين. وفي لقمان: عظيم رحمة الله ونعمه الظاهرة والباطنة باحتواء آيات الكتاب على الحكمة التي معناها إصابة الحق وجعل الأشياء في نصابها، من ذلك ذكر أسماء الله الحسنى التي تستحق الشكر لا الكفر، والنهي عن الشرك لأنه ظلم عظيم. وفي السجدة: الكتاب هو الحق لاحتوائه على الإنذار للناس لعلهم يهتدون فيفوزون، ويَسلمون من العذاب الأدنى هنا في الدنيا قبل العذاب الأكبر يوم البعث، الذي يستحقه الظالمون لعدم اتباعهم الحكمة التي في الكتاب. وفي الأحزاب: أن الله سنّ للمخلوقات سننها ووضع لها قوانينها، وأمرها بطاعته لأنه وحده يعلم ما فيه سلامتها، فأتته كل المخلوقات طائعة مستسلمة، إلا الإنسان اختار ظلماً وجهلاً أن يطيع مختاراً غير مكره على شيء، ومن رحمة العليم الخبير أنه لم يتركه بلا هدى، بل أرسل له الرسالات والمرسلين. وفي سبأ: الله يستحق أن يُشكر ويُحمد في الدنيا بسبب عدله وواسع فضله وكرمه على الإنسان إن هو استقام على الهدى ولم يفسد، وفي الآخرة لأنه حاسبهم بأعمالهم وجازاهم بعدله وتغمدهم برحمته وكافأهم بمزيد فضله. وفي فاطر: الله فاطر السماوات والأرض، وجعل فيها سنناً ثابتة لا تتغير، ورسم لها طريقاً واحداً لا تتجاوزه، الكل في طاعته وتحت سيطرته، لا يغيب عنه شيء، أكرم الناس فحملوا الأمانة، فإن هم آمنوا وعملوا الصالحات فازوا بمغفرة الله وأجره الكريم في الدنيا والآخرة، وإن كفروا وأفسدوا فلهم عذاب شديد. وفي يس: يقسم فيها سبحانه بالقرآن الحكيم بأن محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين، جاءهم لينذرهم بأنهم مبعوثون ليحاسبوا على أعمالهم ولإقامة العدل بينهم، وقد تضمنت كذلك معاني ومقاصد السور الإحدى عشرة التي قبلها من الفرقان إلى فاطر.

029.8.2- ترابط السورة مع سورة الكهف: الفتنة المقصودة هنا هي في الإيمان نفسه قبل أن يستقر. وهي غير الفتنة المذكورة في سورة الكهف والتي كانت في المصائب بعد الإيمان، فهناك حصلت فتن بالنعم التي زينها الله للناس، {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7)} الكهف، وابتلاءات بنقص في الأموال والأنفس والثمرات، أي نعم أو مصائب أصابت الناس ليعلموا أن الله هو الملجأ وهو المنعم بنعمة الإيمان ونعم الدنيا، وليعلموا هل هم أحسنوا العمل فيفوزوا في الآخرة أم كانوا كالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. أما هنا فالفتنة هي في إيمان الناس أو قبل الإيمان، ليعلم هل هو إيمان حقيقي أم لا. فالكافرين سيهلكهم الله في الدنيا ومأواهم جهنم وبئس المصير، أما المجاهدين والمؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله، والنفس، والشيطان، وصبروا على الفتن والأذى في سبيل الله، سيهديهم الله سبل الخير، ويثبتهم على الصراط المستقيم.

سيفتن المؤمنون بالأذى في الله (بالخير والشر) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار، والذين كفروا مأواهم العذاب وفي جهنم خالدين. الله الواحد لا شريك له السميع العليم خلق السماوات والأرض سخر الشمس والقمر يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وعنده وحده الأمان والهدى، جعل الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة التي لا موت فيها.

029.8.3- قال الإمام جلال الدين السيوطي: في وجه اتصالها بما قبلها‏:‏ أنه تعالى لما أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه‏: {علا في الأَرضِ وجعلَ أَهلِها شيعاً يستضعف طائفة مِنهُم يذبح أَبناءهم ويستحي نساءهم} افتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به قوم فرعون بني إسرائيل، تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثاً لهم على الصبر. وأيضاً لمّا كان في خاتمة سورة القصص الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي خاتمة هذه السورة الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله‏: {يا عبادي إِن أَرضي واسعة} ناسب تتاليهما.

029.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: افتتحت سورة القصص بذكر امتحان بني إسرائيل بفرعون وابتلائهم بذبح أبنائهم وصبرهم على عظيم تلك المحنة، ثم ذكر تعالى حسن عاقبتهم وثمرة صبرهم، وانجرّ مع ذلك مما هو منه لكن انفصل عن عمومه بالقضية امتحان أم موسى بفراقه حال الطفولية وابتداء الرضاع وصبرها على أليم ذلك المذاق حتى رده تعالى إليها أجمل رد وأحسنه، ثم ذكر ابتلاء موسى عليه الصلاة والسلام بأمر القبطي وخروجه خائفاً يترقب وحسن عاقبته وعظيم رحمته، وكل هذا ابتلاء أعقب خيراً، وختم برحمة ثم بضرب آخر من الابتلاء أعقب محنة وأورث شراً وسوء فتنة، وهو ابتلاء قارون بماله وافتنانه به، فخسفنا به وبداره الأرض، فحصل بهذا أن الابتلاء في غالب الأمر سنة، وجرت منه سبحانه في عبادة ليميز الخبيث من الطيب، وهو المنزه عن الافتقار إلى تعرف أحوال العباد بما يبتليهم به إذ قد علم كون ذلك منهم قبل كونه إذ هو موجده وخالقه خيراً كان أو شراً، فكيف يغيب عنه أو يفتقر تعالى إلى بيانه بتعرف أحوال العباد أو يتوقف علمه على سبب {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)} الملك، ولكن هي سنة في عباده ليظهر لبعضهم من بعض عند الفتنة والابتلاء ما لم يكن ليظهر قبل ذلك حتى يشهدوا على أنفسهم، وتقوم الحجة عليهم باعترافهم، ولا افتقار به تعالى إلى شيء من ذلك، فلما تضمنت سورة القصص هذا الابتلاء في الخير والشر، وبه وقع افتتاحها واختتامها، هذا وقد أنجز بحكم الإشارة أولاً خروج نبينا صلى الله عليه وسلم من بلده ومنشأه ليأخذه عليه الصلاة والسلام بأوفر حظ مما ابتلي به الرسل والأنبياء من مفارقة الوطن وما يحرز لهم الأجر المناسب لعليّ درجاتهم عليهم السلام، ثم بشارته صلى الله عليه وسلم آخراً بالعودة والظفر {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد (85)} القصص، فأعقب سبحانه هذا بقوله معلماً للعباد ومنبهاً أنها سنته فيهم فقال {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2)} أي أحسبوا أن يقع الاكتفاء بمجرد استجابتهم، وظاهر إنابتهم، ولما يقع امتحانهم بالشدائد والمشقات، وضروب الاختبارات {ولنبلونكم بشيء من الجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات (155)} البقرة، فإذا وقع الابتلاء فمن فريق يتلقون ذلك تلقي العليم أن ذلك من عند الله ابتلاء واختباراً، فيكون تسخيراً لهم وتخليصاً، ومن فريق يقابلون ذلك بمرضاة الشيطان، والمسارعة إلى الكفر والخذلان {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} ثم أتبع سبحانه هذا بذكر حال بعض الناس ممن يدعي الإيمان، فإذا أصابه أدنى أذى من الكفار صرفه ذلك عن إيمانه، فكان عنده مقاوماً بعذاب الله الصارف لمن ضربه عن الكفر والمخالفة فقال تعالى {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله (10)} فكيف حال هؤلاء في تلقي ما هو أعظم من الفتنة، وأشد في المحنة، ثم أتبع سبحانه ذلك بما به يتأسى الموفق من صبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وطول مكايدتهم من قومهم، فذكر نوحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً عليهم الصلاة والسلام، وخص هؤلاء بالذكر لأنهم من أعظم الرسل مكابدة وأشدهم ابتلاء، أما نوح عليه السلام فلبث في قومه – كما أخبر الله تعالى – ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا قليل، وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرمى بالمنجنيق في النار فكانت عليه برداً وسلاماً، وقد نطق الكتاب العزيز بخصوص المذكورين عليهم الصلاة والسلام وبضروب من الابتلاءات حصلوا على ثوابها، وفازوا من عظيم الرتبة النبوية العليا بأسنى نصابها، ثم ذكر تعالى أخذ المكذبين من أممهم فقال {فكلاًّ أخذنا بذنبه} ثم وصى نبيه صلى الله عليه وسلم وأوضح حجته، وتتابع اتساق الكلام إلى آخر السورة – انتهى.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top