العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
033.0 سورة الأحزاب
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
033.1 التعريف بالسورة:
1) مدنية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 73 آية. 4) الثالثة والثلاثون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثالثة والتسعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “آل عمران”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
{الله} 89 مرّه، {لله} 1 مره، {إله} 1 مرّة، رحيماً 6 مرات، غفوراً 5 مرّات، عليماً 4 مرات، رب 3 مرات؛ (2 مرّة): خبيراً، وكيلاً، خبيراً، أنعم؛ (1 مرّة): هو، حكيماً، شهيداً، بصيراً، حليماً، رقيباً، حسيباً، قوياً، عزيزاً، قديراً، لطيفاً، يهدي، يَعْلَم، يورث، صدَق، طَهَّرَ، فضّل، أنزل، نقلب، يريد، نبلو، مخرج، انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} 2 مرّة؛ (1 مرّه): صياصيهم، قرن، أشحة، سلقوكم، حداد، نحبه، وطراً.
هي أكثر سورة تكرر فيها: نبي ومشتقاتها 14 مرة (من أصل 73 مرة في القرآن)؛ يا أيها النبي 5 مرات، يا أيها الذين آمنوا 7 مرات هي وآل عمران بعد السور الطوال (البقرة 11 مره، والنساء 9 مرات، والمائدة 19 مره)، غفوراً رحيماً 5 مرات بعد النساء 7 مرات، عليماً 4 مرات بعد النساء 14 مره، مرض 3 مرات، تبرج 2 مرة. والآية {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)، (48)} مرتين.
وتكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: مؤمن 28، قول 19 مرة (وهي: قل 5، قول 9، قال 4، قلن 1 مرة)، الذين 17 مره، النبي 15 مره، زوج 11 مرة، قلوب 10 مرات، صادق 8 مرات؛ (7 مرات): ذكر، تطع، منافقون؛ (6 مرات): قتال، عذاب، شيء، أعد؛ (5 مرات): نساء، اتقوا، كل شيء، كفر؛ (4 مرات): صلوا، توكل، تخشى؛ (3 مرات): أحزاب، أجراً، جناح، عظيماً، حق، عهد، على كل شيء، حسن، ملعونين، فرار؛ (2 مرة): كريماً، ميثاقاً، بشر، الدنيا، الآخرة، مغفره، فوز، خير، غيظ، وعد؛ (1 مرة): غليظاً، يجزي، الدار، نار، تطء، أسوة، بأس، قذف، رعب، شاهد.
033.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
033.3 وقت ومناسبة نزولها:
السورة تتطرّق لثلاثة أحداث حصلت جميعها في السنة الخامسة هجريّة وهي: غزوة الخندق أو الأحزاب، والإغارة على بني قريظة، وزواج النبي صلى الله عليه وسلّم من زينب رضي الله عنها، وهو ما يعني أن السورة نزلت في نفس هذه السنة.
في هذه الفترة كان الكافرين والمنافقين واليهود يسعون لإيقاع الاضطرابات في المجتمع المسلم، الذي لم يستقر بعد، ولم يسيطر على حياة كل أفراده كاملة، عن طريق الحروب وخلخلة الآداب الاجتماعية والآداب الخلقية. وقد نشأ أيضاً عن انتصار المسلمين ووراثتهم أرض الكفار وحصول الغنائم آثار اقتضت تصحيح بعض العادات والأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة قبل الإسلام. وإخضاع هذا كله لتعاليم الإسلام.
033.4 مقصد السورة:
033.4.1- الأمر بتقوى الله واتباع وحيه والتوكل عليه والاكتفاء به وكيلاً، والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين ومخالفة أمره. وأن هذه هي سنة الله التي لا تبدل، والأمانة التي حملها الإنسان، وأرسلت بها الرسل، وبها صلاح أمر الدنيا والآخرة. وأن سبب حملها هي العذاب للكافرين والتوبة على المؤمنين.
033.4.2- مقصدها في مطلعها بأن اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين بل أطع ربك واتبع قوله، وكفى بالله وكيلاً.
033.4.3- وقال الإمام البقاعي في نظم الدرر: فهي تحث على الصدق في الإخلاص في التوجه إلى الخالق من غير مراعاة بوجه ما للخلائق، لأنه عليم بما يصلحهم، حكيم فيما يفعله، فهو يعلي من يشاء وإن كان ضعيفاً، ويردي من يريد وإن كان قوياً، … واسمها واضح في ذلك بتأمل القصة التي أشار إليها ودل عليها.
033.5 ملخص موضوع السورة:
واستهلّت بمقدّمة (8 آيات) تضمنت ثلاث مقدّمات لموضوعات ثلاثة مختلفة لكنّ مقصدها واحد وهو الأمر بتقوى الله والتوكّل عليه: (الآيات 1-3) تأمر بتقوى الله العليم الحكيم وعدم طاعة الكافرين، بل باتباع وحيه فهو بما يعملون خبير، والتوكّل عليه {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}، ثمّ (الآيات 4-6) بأن قول الله تعالى هو الحق ويهدي السبيل، وهو الغفور الرحيم، وقول الناس في هديه وشرعه باطل، ثمّ (الآيات 7، 8) عن أن الله أخذ الميثاق من النبيين بتبليغ أمره ليجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين بكفرهم. وتختم بآيتين (2) تبينان بداية أمر الإنسان مع الابتلاء وحمل الأمانة، وأن ما هو فيه كان باختياره لنفسه وبإرادته ومن عمل يده، وفي سنن الله وميزان عدله ورحمته يعذّب المنافقين والمشركين ويتوب على المؤمنين. ثمّ تنقسم باقي السورة إلى ثلاث مجموعات من الآيات: الأولى (19 آية) عن غزوة الأحزاب التي كانت برهاناً حقيقياً على أن الله هو الوكيل وأن التقوى هي سبيل السعادة والفوز، الثانية (21 آية) وفيها أوامر للمؤمنين بالصدق في طاعتهم وإحسانهم في عملهم وتعظيم بيت النبوة ومداومة الذكر، الثالثة (23 آية) تأمر بالطاعة والالتزام بأوامر الله ونواهيه والأخذ بحلاله والبعد عن حرامه ليسعدوا في الدنيا والآخرة، فإن لم يطيعوا تعسوا، فكان التناسق بين المطلع والوسط والختام. كما يلي:
المجموعة الأولى (الآيات 9-27): وفيها قصّة غزوة الأحزاب في ربع عدد آيات السورة، وهي درس عملي ودليل حقيقي وعبرة تبين أن تقوى الله والتوكل عليه هو سبيل السعادة والفوز والنصر للمؤمنين. الإنسان إذا آمن فقد دخل في أمان الله ونعيمه ورحمته، ولو تحزبت عليه الأحزاب واجتمعت عليه جنود الأرض وكل أعداء الله، أما الكافر فلن تنفعه قوته مهما بلغت، ولا أمواله، ولن يحميه من عذاب الله حام ولن ينفعه فراره. الله هو العاصم وهو الرحيم والولي والنصير، والغرض من وجود الناس هو الابتلاء بالأعمال {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ (24)}.
المجموعة الثانية: (الآيات 28-35) النبي قدوة المؤمنين وأسوتهم الحسنة في إحسان العمل هو وأهل بيته، والمؤمن صادق مع الله في إيمانه ومقتد برسوله صلى الله عليه وسلم. (الآيات 36-40) لا يملك المؤمن إلا أن يذعن لما اختاره له الله إذا قضى الله أمراً كان مقدوراً. (الآيات 41-48) أمر المؤمنين بذكر الله كثيراً وأن الله يريد لهم الخير بإخراجهم من الظلمات إلى النور في الدنيا والأجر الكريم في الآخرة، أرسل لهم نبيّاً شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً ومبشراً بالفضل الكبير، وأن الله لهم وكيلاً.
المجموعة الثالثة: (الآية 49) تتحدث عن أحد أحكام الطلاق في حال إذا حصل قبل أن يتم الزواج الفعلي. (الآيات 50-52) بعض خصوصيات زواج النبي صلى الله عليه وسلم والتي فيها شيء من الاختلاف عن زواج المسلمين. (الآيات 53-55) بعض القيود عند زيارة بيت النبي وعن علاقات المسلمين بزوجاته. (الآيات 56-58) تحذير لمن يؤذي أو يتطاول على حياة النبي ولمن يؤذي المؤمنين والمؤمنات بشكل عام. (الآية 59) الأمر بارتداء الحجاب. (الآيات 60-68) يجب على الكفار مرضى القلوب والمنافقين أن ينتهوا حتى ينجوا من لعنة الله في الدنيا والآخرة، يسألون عن الساعة التي علمها عند الله ولعلها تكون قريبة وأعد لهم فيها سعيراً… إلى آخر الآيات. (الآيات 69-71) أمر المؤمنين بأن يتقوا الله فلا يؤذوا رسولهم في الدنيا كما أوذي موسى من قومه، لأن الله سيبرئه كما برّأ موسى عليهما الصلاة والسلام، كذلك أيها المؤمنون اتقوا الله ليصلح أعمالكم في الدنيا كي تفوزوا في الآخرة فوزاً عظيماً.
مقصد السورة هو الأمر بالتوكّل على الله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) (48)} تكرّرت مرتين، ولأن أعظم ما يرجوه الناس أن يكون وكيلهم الله العليم بما يصلحهم، الحكيم فيما يفعله، الخبير بأعمالهم، فإنها نعمة عظيمة جاءتهم بطريقة الأمر لتشعرهم بجريانها وتحقق سبلها بدون سابق فضل منهم سوى تقواهم واتباعهم وتوكلهم، تأمرهم وتؤكّد عليهم في سورة كاملة ملئت بالقصص والبراهين والأنباء الحقيقيّة بالتصديق والإيمان والتسليم وتبشّرهم بصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب والفوز العظيم والفضل الكبير {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)}. وقد بدأت بالإشارة إلى أخطر فتنة تعرّض لها المؤمنون في غزوة الأحزاب وقد أحيطوا بجنود لا قبل لهم بها عدداً وعدّة وعتاداً ليستأصلوهم ويهلكوا الحرث والنسل {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}، تلاها ذكر فتنة أخرى لا تقل خطورة تهدد الأسرة من الداخل بسبب إرادة زينة الحياة الدنيا على إرادة الله ورسوله والدار الآخرة، تلاها فتنة الخشية والحرج من الناس باتباع عادات الجاهليّة ومخالفة شرع الله، وهكذا، تلاها ما يتعلّق بخصوصية زواج النبي صلى الله عليه وسلّم وآداب دخول بيوته والطعام فيها وحدود التعامل مع أمهات المؤمنين، وتحريم إيذاء الله ورسوله والمؤمنين والمؤمنات، وإدناء الجلابيب، والمنافقون والمرجفون، وأمر الساعة وعلمها، وتقوى الله والقول السديد، وختمت بالاختيار الظالم الجاهل بحمل الإنسان الأمانة التي أبت أن تحملها السماوات والأرض والجبال، فبدءاً من أعظم فتنة بلغت فيها {الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} إلى الاختيار الظالم الجاهل، يأتي الأمر من الله الوكيل بالتوكّل عليه وكفى به وكيلاً، لأنه هو وحده القادر على ردّ البلايا والمصائب بأبسط الأسباب {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} وهذه من أعظم النعم على الإنسان بأن يكون الله وكيله، الذي ينجيه من كلّ الشرور: ابتداءً من نفسه ومروراً بالكافرين والمنافقين والتنافس على الدنيا وأعلاها ظلم أعدائه وتسلّط الظالمين {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}.
اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح لنا شأننا كلّه لا إله إلا أنت، عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، أنت حسبنا ونعم الوكيل.
033.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
بعض التفاصيل عن السورة حسب ترتيب آياتها (وكما في الملخص أعلاه):
033.6.1- الآيات (1-3) وهي مقدمة: تلخص مقصد السورة بأن لا تطع الكافرين والمنافقين بل أطع ربك وكفى بالله وكيلاً.
يأمر سبحانه وتعالى نبيه (ومن اتبعه من المؤمنين) بأن يتقوا الله أي يجعلوا لأنفسهم وقاية من محاسبته لهم على أعمالهم رجاء ثوابه ومخافة عقابه. وأن لا يطيعوا الكافرين والمنافقين وأن لا يجاملوهم، بل يتبعوا وحيه من القرآن والسنة ويتوكلوا عليه. على ما أخذوه على أنفسهم من العهد بالعمل الصالح وما أمرهم به من اتباع الفطرة واتباعهم لأوامره واجتنابهم لنواهيه مختارين لا مكرهين.
033.6.2- الآيات (4-6) ترك ما يفعله الكفار واتباع حكم الله المقدر في كتابه (فطرة الله)، النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثم أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في القرب والتوارث والحقوق. (أول الأشياء التي يأمر بمخالفة الكافرين والمنافقين فيها هو ابطال عادات الظهار والتبني).
هذه الآيات التي تأمر بإبطال أفعال تخالف سنة الله اتت حسب ترتيب السورة قبل غزوة الأحزاب، أما الآيات التي تأمر بطاعة الله والإتيان بما يوافق سنة الله فقد أتت بعد الغزوة، وذلك لحكم يعلمها الله، وقد لا يخفى علينا بعضها من أن التطهير من الإثم يأتي أولاً ثم يليه الالتزام بالأعمال الصالحة. لكن هذه الآيات وضعت في الملخص أعلاه مع المجموعة الثانية من الآيات لأنها أوامر مثلها، لكي يسهل تمييز الآيات حسب موضوعاتها.
في الآيات مثل ضرب للمظاهر والولد المتبني: أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان، كذلك لا يصير الدعي ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له، أي لا يكون ولد واحد لرجلين. وقيل معناها: لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب، كما لا يجتمع قلبان في جوف. فأمر تبارك وتعالى برد نسب الأبناء إلى آبائهم في الحقيقة وأن هذا هو العدل والقسط والبر. فإن لم يعرفوا آباءهم فهم إخوانهم في الدين ومواليهم أي عوضا عما فاتهم من النسب.
النبي محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين: أي أحق بالمؤمنين به من أنفسهم، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم (في الدنيا والآخرة)، فيجوز ذلك عليهم. وأزواجه أمهاتهم: أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام ولكن لا تجوز الخلوة بهن (ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن). وأولي الأرحام بعضهم أولى ببعض (أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار) حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير.
033.6.3- الآيات (7، 8) أخذ الميثاق على النبيين بإقامة الدين والصدق مع الله (الميثاق مع الله) وعدم الكفر:
يقول تعالى مخبرا عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله تعالى وإبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق. يقول تعالى ذكره: أخذنا من هؤلاء الأنبياء ميثاقهم كيما أسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، وما فعل قومهم فيما أبلغوهم عن ربهم من الرسالة. وأعد للكافرين بالله من الأمم عذابا موجعا.
033.6.4- قصة غزوة الأحزاب التي تبين صدق وعد الله للمؤمنين بالنصر وللكافرين بالعذاب:
بعض الأحداث من غزوة الأحزاب يرويها رب العالمين فيها الدروس والعبر ذات العلاقة بمقصد السورة وهو الإيمان بالله والتوكّل عليه والاستسلام لقدره: الآيات (9-27).
تدعو الآيات المؤمنين بأن يتذكروا نعمة الله عليهم وقد نصرهم بدون قتال، نصرهم بجنود لم يروها وهي الريح والفتنة والرعب التي زرعت في قلوب أعداءهم. وفيها العبرة بعدم الخوف من رؤية قوّة وعدد وعدّة وبأس الكفار مهما عظمت، ولا وتخذيل المنافقين مهما تمادت. بل بالاطمئنان إلى وعد الله وإلى بأسه وقوته التي لا يروها.
لقد ابتلي المؤمنون بأخطار مزلزلة أحاطتهم من كل الاتجاهات، وخوف يخلع القلوب، فلا حلّ لديهم بمعايير الناس سوى الفرار حفاظاً على الأنفس والعيال والبيوت. لكن لن ينفع الحذر والفرار من هذه الأخطار البينة، بل النافع والمفيد هو التوكل على الله خالق الأسباب، بعد الوفاء بعهدهم مع الله بحمل الأمانة والتأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلّم، والثبات كثباته وهو يعلم أن جنود الله قادمة بالمدد والنصر لا محالة. إن جنود الله التي هزمت الأحزاب لا ترى بعيون الناس ولا تقاس بمقاييسهم، وهنا يكمن السر في طاعة الله والتوكل على وعده الذي لن يكذب أبداً بنصر المؤمنين.
وفي الآية الكريمة (21) أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل. ولهذا قال تعالى للذين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم. وهو أمر إلى عباده المؤمنين الذين يرجون الله واليوم الآخر وذكروا الله كثيراً، والمصدقين بوعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة.
033.6.5- الآيات (28-35) التمييز بين المؤمن العادي والمؤمن الذي يطلب الدرجات العلى: المؤمن يريد الدار الآخرة، ويسعى إلى تحصيل الأجر العظيم وبلوغ أعلى الدرجات في الجنة. لذلك كلما ارتفعت همته في أن يترقى في الدرجات العلى في الجنة فليتوقع أن يكون ابتلاء الله له في الدنيا أشد من الذين هم في الدرجات الأدنى قال تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}، وهذا هو الدرس الذي تعلمناه في هذه السورة من قصة غزوة الأحزاب في الآيات (9-27). كذلك ففي الآية (68) من السورة فإن الجزاء يتضاعف إذا كان فاعله من الكبراء أو قدوة لغيره. ولأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنساء المؤمنين وهن رفيقاته في أعلى الدرجات في الجنّة، فإن ابتلاءهن سيكون أشد، من ذلك أمر الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة.
ويخبر سبحانه بأن الرجال والنساء سواء في الخير والأعمال الصالحة، قد أعد لهم مغفرة منه لذنوبهم وأجرا عظيما وهو الجنة.
033.6.6- لا يملك للمؤمن إلا أن يذعن لما اختاره له الله، صحيح أن الإنسان تميز بأنه مخير في أن يفعل أو لا يفعل، لكنه إذا آمن فلا خيار له إذا قضى الله أمراً مقدوراً: الآيات (36-40).
بما أن المؤمن يتوكل على الله لأنه هو العاصم والنصير للمؤمنين وهو ما تعلمه المؤمنون بتجربتهم في غزوة الأحزاب. صار من البديهي أن يعلم أنه لم يكن لمؤمن بالله ورسوله، ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله في أنفسهم قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم، ويخالفوا أمر الله وأمر رسوله وقضاءهما فيعصوهما، ومن يعص الله ورسوله فيما أمرا أو نهيا {فقد ضل ضلالا مبينا} أي سلك غير سبيل الهدى والرشاد.
وذكر أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتاه زيد بن حارثة، وكانت بنت عمته، فظنت أن الخطبة لنفسه، فلما تبين أنه يريدها لزيد، كرهت وأبت وامتنعت، فنزلت الآية. فأذعنت زينب حينئذ وتزوجته. ولم يستمر هذا الزواج طويلاً.
ويمدح تبارك وتعالى الذين يبلغون رسالاته (آية 39) إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها، ويخافونه ولا يخافون أحدا سواه فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى أي وكفى بالله ناصرا ومعيناً.
033.6.7- يخاطب سبحانه المؤمنين: على المؤمن أن يداوم على ذكر الله كثيراً وأن يستحضر في نفسه أن الله يريد الخير للإنسان بإخراجه من الظلمات إلى النور في الدنيا وأن ينال الأجر الكريم في الآخرة. ويخاطب سبحانه النبي عليه السلام بأن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير وأن يدع الكافرين والمنافقين ويتوكل على الله. الآيات (41-48).
033.6.8- ماذا يجب أن يفعل الناس (مؤمنهم وكافرهم) ليفوزوا، فإن لم يفعلوا خسروا: الآيات (49-71) = 23 آية
033.6.8.1- على المؤمنون التعاون والحفاظ على الروابط المقدسة بين الأزواج وفي البيوت لأجل أن يدوم الود والتعاون والسعادة بينهم في الدنيا والآخرة: الآيات (49-59)
بعد هذا البيان البليغ والدرس العجيب المعجز عن التوكل على الله والبعد عن الكافرين والمنافقين وعدم طاعتهم، وبعد البشائر العظيمة عن عناية الله بالمؤمنين ليخرجهم من الظلمات إلى النور وبشائر بالفضل الكريم الكبير المعد لهم في الآخرة. يبين سبحانه بأنه جعل روابط مقدسة وعهود محكمة بين المؤمنين بعضهم مع بعض في تعاملاتهم تحافظ على حقوق ومصالح الجميع. وقد يحاول بعضهم أن يستأثر أكثر بشيء من هذه الحقوق إما جهلاً أو طمعاً أو غير ذلك فيؤذي غيره دون أن يدري فبين سبحانه حدود هذه العلاقات وأين تنتهي حتى لا يؤذي المؤمنون بعضهم. كما يلي:
033.6.8.1.1- الالتزام بأوامر الله ونواهيه والأخذ بحلاله والبعد عن حرامه، حتى يدوم الود والتعاون والسعادة بينهم في الدنيا: الآيات (49-55)
الله سبحانه هو الذي نصر المؤمنين وهو فقط من له الحق في أن يفرض ويجعل الحدود والروابط في علاقات المؤمنين بالمؤمنات. ولأن المؤمنين مبتلون في هذه الحياة الدنيا فمن المؤكد أن تحصل تصرفات وأمور تؤذي بعض المؤمنين من بعض مثل حصول الطلاق والخلاف على الحلال والحرام في النكاح، وحدود المباح في الطعام والزيارات واللباس والحجاب، فلأن إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإيذاء المؤمنين إثمه عند الله عظيم، فقد حد لهم حدوده وبين لهم المباح والمحرم منه. وهذا البيان فيه رفع للحرج عن المؤمنين، وفيه رضا الأطراف بما قننه الذي عليه الاتكال بالنصر والسعادة.
الحديث عن الروابط المقدسة وعلاقة الرجال بالنساء وما أحله الله وحرمه كما يلي:
الآية (49) تتحدث عن أحد أحكام الطلاق في حال أذا حصل قبل أن يتم الزواج الفعلي.
الآيات (50-52) تتحدث عن بعض خصوصيات زواج النبي صلى الله عليه وسلم والتي فيها شيء من الاختلاف عن زواج المسلمين.
(53-55) تتحدث عن بعض القيود عند زيارة بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علاقات المسلمين بزوجاته.
نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، غير منتظرين وقت نضجه، ثم يأكلون ولا يخرجون. فأمر تعالى بعد الإطعام بأن يتفرق جميعهم وينتشروا.
وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم متاعا فاسألوهن من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}. وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، وما يصلح ذلك لكم وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا لأنهن أمهاتكم، ولا يحل للرجل أن يتزوج أمه.
ذكر الله تعالى في الآية (55) من يحل للمرأة البروز له. وأمرهن بأن يخشين الله في اللباس فإنه شهيد على كل شيء لا تخفى عليه خافية.
033.6.8.1.2- فإن هم لم يلتزموا فقد آذوا الله ورسوله وآذوا بعضهم بعضاً في الدنيا، وفي الآخرة أعد الله لهم عذاباً مهيناً. الآيات (56-59)
الآيات (56-58) تحذير لمن يؤذي أو يتطاول على حياة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة، ولمن يؤذي المؤمنين والمؤمنات بشكل عام.
يقول جل شأنه أنه وملائكته يعظمون النبي صلى الله عليه وسلم ويصلون عليه، فيأمر المؤمنين بتعظيمه والصلاة عليه والتسليم. وأن الذين يؤذون الله ورسوله ملعونين في الدنيا والآخرة. والذين يؤذون المؤمنين بما لم يفعلوه فقد احتملوا زوراً وبهتاناً (أي أفحش الكذب) وإثماً بيناً.
الآية (59) تتحدث عن الأمر بارتداء الحجاب.
يأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات، خاصة أزواجه وبناته لشرفهن، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء.
033.6.8.2- ماذا يجب أن يفعل الكفار مرضى القلوب والمنافقون الموجودون في المجتمع المسلم حتى ينجوا من لعنة الله في الدنيا والآخرة: الآيات (60-68)
033.6.8.2.1- يجب على الكفار مرضى القلوب والمنافقون الموجودون في المجتمع المسلم أن ينتهوا عن أفعالهم المخالفة للدين حتى ينجوا من لعنة الله في الدنيا والآخرة. فإن لم ينتهوا فإن سنة الله في المنافقين في الدنيا أنهم ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً. الآيات (60-62) هذا في الدنيا،
033.6.8.2.2- أما في الآخرة: فهم يسألون عن الساعة وهي إنما علمها عند الله ولعلها تكون قريبة. ولكن يعلمنا الله من أخبارها أن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً …. إلى آخر الآيات. الآيات (63-68)
033.6.8.3- ماذا يجب أن يفعل المؤمنون: الآيات (69-71)
033.6.8.3.1- لذلك أيها المؤمنون لا تؤذوا رسولكم في الدنيا كما أوذي موسى من قومه. لأن الله سيبرئه كما برّأ موسى عليهما الصلاة والسلام. الآية (69)
033.6.8.3.2- كذلك أيها المؤمنون اتقوا الله ليصلح أعمالكم في الدنيا كي تفوزوا في الآخرة فوزاً عظيماً. الآيات (70-71)
033.6.9- خلاصة: قضية الإنسان مع التكاليف وحمل الأمانة: الآيات (72، 73).
لقد خيّر الإنسان كباقي مخلوقات الله (السماوات والأرض والجبال) بأن يحمل الأمانة، وهي طاعة الله اختياراً، من عدمها. فاختار حملها ظلماً بحق نفسه وجهلاً بقدرته على الوفاء بالتزاماتها. لأن الالتزام بحمل الأمانة يتطلب استعمال العقل (أو القلب) الذي جعله الله للإنسان ليقرر هل يطيع الله (كباقي المخلوقات التي قررت أن تطيع راضية مستسلمة غير مكرهة) أم لا يطيع. إلا أن ما يمنع الإنسان من استعمال عقله هو حبه لشهواته، وتربص عدوّه اللدود الشيطان الوسواس الخناس الذي يحجب عنه الحق ليهلكه.
وروى علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال} قال: الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم. فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله عز وجل ألا يقوموا به. ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها.
033.7 الشكل العام وسياق السورة:
033.7.1- إسم السورة: سميت “سورة الأحزاب” وهي أحد أسماء غزوة الخندق، لأن أحداثها تفسير عملي لمقصد السورة، لأن المشركين تحزبوا على المسلمين من كل جهة فاجتمع كفار مكة مع غطفان وبني قريظة وأوباش العرب على حرب المسلمين الذين زلزلوا زلزالاً شديداً لأنهم قليلي العدد والعدّة وهم محاطين بالأعداء الأكثر عدّة واستعداداً ليستأصلوا المسلمين. وقد تدخل الله سبحانه بعد ذلك لحماية المسلمين ورد الأحزاب مدحورين وكفى الله المؤمنين القتال بتلك المعجزة الباهرة.
وتحزب نساء النبي على طلب التوسع في النفقة. وهذا يتناسب تماماً مع اسم السورة. كذلك حرج النبي صلى الله عليه وسلم الشديد من الناس (الأحزاب) وإخفاءه أموراً تتعلق بإبطال عادة التبني. وتدخل الله سبحانه في الدفاع عن زواج النبيّ عليه السّلام من زينب رضي الله عنها وغيره مما يحصل من إيذاءه في بيته.
033.7.2- سياق السورة من حيث أنه تعالى أنزل الوحي بالكتاب (يأمر بالتقوى) والرسول بالقدوة (والامتثال) والابتلاءات بالدرس والتدريب (على التوكل).
033.7.2.1- مقصد السورة هو تقوى الله وطاعته والتوكل عليه، واسمها الأحزاب يوحي بوجود رابط قوي بين المقصد والقصة. وبتأمل القصّة والقصص الأخرى التي تنزلت بمناسباتها آيات السورة يتبين لنا أن الآيات تقدم تقرير مفصل عن نتائج بعض الأحداث التي حصلت في حياة المسلمين، ثم توجهنا وتبين لنا العبر والدروس المستفادة من حصول هذه الأحداث. وكأن هذه الأحداث مقصودة، بل هي فعلاً مقصودة لأن الدنيا دار عمل والآخرة هي دار الجزاء. ومن عظيم رحمة الله بعباده {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)} تذكر الآيات العمل أو الحدث، ثم تعقب عليه فتبين الدرس المستفاد. وإن كان صواباً كما ينبغي تباركه وتؤكده، أم يحتاج إلى تصويب فتصوبه، سواء أكان ذلك العمل من فعل النبي {اتق الله} أو المؤمنين {اتقوا الله} أو الكافرين والمنافقين {أولئك لم يؤمنوا}. وكأن الله سبحانه يعلمنا بذاته العلية، ولم يترك ذلك لنا لنفعله بأنفسنا، لكيلا يكون لنا حجة بعدم النجاة. وباختصار أنزل الوحي بالكتاب والرسول بالقدوة والابتلاءات بالدرس والتدريب. لا إله الا الله ما أعدله وما أعظم فضله {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً (113)} النساء.
033.7.2.2- هذه السورة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين الإتيان بثلاثة أمور مهمّة هي: تقوى الله وطاعته والتوكل عليه. وتنهاهم عن نقيضها وهو: طاعة الكافرين والمنافقين وعدم اتباع الوحي والتوكل على غير الله. ثم تكمل تأمر المؤمنين وتبين لهم حول هذه الأمور الثلاثة حتى آخر آية فيها.
هذه الأمور أو الأفعال هي سنة الله التي فطر الناس عليها (الآيات 38، 62) وهي سبب ومقصد وجود الإنسان على الأرض، وذلك لكي يجزي المؤمنين الأجر الكريم والفضل العظيم الذي استحقوه بطاعتهم له، ويعذب الكافرين والمنافقين بسبب تعمدهم الإساءة وطاعتهم لغيره (الآيات 8، 24، 43-47، 73). إن القيام بهذه الأوامر هي جوهر الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان (الآية 72). وكما فهمناه من غزوة الأحزاب فتقوى الله وطاعته والتوكل عليه تحتاج إلى تدريب وممارسة، لأن مجرّد الاعتقاد والتلفظ بها لا تغني عن الخبرة والممارسة، فكيف أتقي الله حق تقاته إذا لم أرى آياته عملياً وعياناً. إنه في الدنيا يؤدبني إن عصيته ويكافئني إن أطعته، وكيف سأعلم علم اليقين أن الله وكيلي يدفع عني الأعداء إذا لم أرى ذلك عياناً كما حصل في غزوة الأحزاب. فالأمانة هي عملية اختيار الإنسان لأفعاله (بأن افعل أو لا تفعل) وفق منهج الله (مجموعة في دين الله الإسلام)، تحتاج إلى تدريب عملي واختبار حقيقي لصدق الاعتقاد بها عن طريق الالتزام والتقوى والطاعة لأوامر الله ونواهيه في شتى ظروف الابتلاء سواء في الضراء كما في غزوة الأحزاب (الآيات 9-27) أو في السراء كما حصل (في الآيات 28-34) حين طلبت أمهات المؤمنين التمتع بالدنيا وزينتها.
033.7.2.3- وقد خلق الله الإنسان من الطين فيه غرائز الحيوانات ونفخ فيه من روحه {ونفخت فيه من روحي (29)} الحجر، وجعله سبحانه على صورته فيه من صفاته عز وجل من العقل والعلم والخلق والقوة والرحمة والكرم وغيرها. وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ”، والمعنى عند أهل العلم: أن الله خلق آدم سميعاً بصيراً، متكلماً إذا شاء، وهذا وصف الله فإنه سميع بصير متكلم إذا شاء، وله وجه جل وعلا، ولا يلزم أن تكون الصورة كالصورة والسمع كالسمع والبصر كالبصر، والصورة في اللغة: الشكل والهيئة والحقيقة والصفة، فكل موجود لابد أن يكون له صورة.
ومن الصفات التي جعلها الله سبحانه في الإنسان التعلم والتفكر والعقل {علم الإنسان ما لم يعلم (5)} العلق، وكذلك الاختيار بين الأشياء التي تعلمها، وتعلم ما ينفعه منها وما يضرّه {وهديناه النجدين (10)} البلد. ومن الصفات أيضاً حب الخلود والتملك {قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120)} طه. ولأن الإنسان خلق على صورة الله جلّ جلاله، فهو بالتالي حمل الكثير من هذه الصفات، والتي من أخطرها أن جعله خليفة على الأرض باختياره {إني جاعل في الأرض خليفة (30)} البقرة، يحافظ على صلاحها وفطرتها باتباع الدين، ولا يفسدها باتباع الهوى. وهذه من معاني الأمانة التي حملها الإنسان: أي الطاعة لله في ملكوته والاتباع لدينه وشرعه في مخلوقاته، من أجل الاصلاح في الأرض وعدم الإفساد فيها.
033.7.2.4- والإنسان يولد لا يعلم من أمور الدين شيئاً، قال تعالى: {وَاَللَّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً (78)} النحل، ثم يبدأ بالتعلم من ولادته، بالدراسة والتجربة والوحي. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء”، قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي الْمُفْهِم: “الْمَعْنَى أَنَّ اللَّه خَلَقَ قُلُوب بَنِي آدَم مُؤَهَّلَة لِقَبُولِ الْحَقّ، كَمَا خَلَقَ أَعْيُنهمْ وَأَسْمَاعهمْ قَابِلَة لِلْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَات، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَة عَلَى ذَلِكَ الْقَبُول وَعَلَى تِلْكَ الْأَهْلِيَّة أَدْرَكَتْ الْحَقّ، وَدِين الْإِسْلَام هُوَ الدِّين الْحَقّ”. والتعليم من أخطر الأشياء التي تحدد مصير الإنسان وهو مطلوب منه في كل مراحل حياته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، وقال: “من يرد الله به خيراً يفقه في الدين”.
033.7.2.5- والإنسان مصلح معمر بقلبه وعقله (مع وجود الروح التي علمها عند الله وحده) يوزن الأشياء، ومفسد بهواه وغرائزه (أي بطبيعته بسبب صفاته الدنيويّة وبتركيبته الحيوانية)، فهو مركب من نقيضين (الروح ومنها العقل، والجسد ومنه الغرائز). الروح لها حاجات ورغبات لا نهائية تسعى فيها إلى الكمال في مكارم الأخلاق، والجسد له حاجات ورغبات أنانية آنية تنافسية لا نهائية قائمة على حب التملك والخلود. وكون أمنيات ورغبات وطموحات الإنسان الروحية والمادّية لا نهائيّة بدليل من العقل والتجربة والوحي كما في الآية (120) من سورة طه المذكورة أعلاه. كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “منهومان لا يشبعان؛ منهوم في علم لا يشبع، ومنهوم في دنيا لا يشبع”. فلا بدّ من تدخل الخالق كي يعلّم الإنسان أن له حدوداً لا يتجاوزها، عن طريق معرفة خالقه ومعرفة الأمانة التي حملها بالتلقين عن طريق الوحي يعظه كما في هذه السورة، وبالتجربة والابتلاء عن طريق تطبيق ما تعلمه من الوحي في حياته. وقد تكون التجارب جماعية كما هي في غزوة الأحزاب، وقد تكون في البيت (آية 53)، أو بالتعرض للافتراء والكذب (الآيات 57، 58) وقد تكون فردية كما أوذي موسى عليه السلام (آية 69)، وكل إنسان وجد على هذه الأرض لا بد أن يبتلى ويجرّب مع الجماعة ليتبلور انتماءه فيحشر مع من أحب منهم، وكفرد لتقوم عليه الحجة وليعلم من نفسه هل يستحق الهداية والتكريم فيهديه الله ويكرمه أم لا يستحق، {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة (42)} الأنفال.
033.7.2.6- خلافة الأرض وعمارتها كما أرادها الله أن تكون (هي سنة الله وفطرته)، ولأن هذا الفعل العملي الناتج عن التفكير العقلي قد يكون مخالف لرغبة الإنسان وقد يكون فيه أذى للآخرين. ولأن الأمانة هي اتباع سنة الله وفطرته، والأمانة روابط والتزامات تضبط جموح الشهوات وطموحات الإنسان اللانهائية بالحرية والتفلت من القوانين. فلا بد من ترويض النفس على الالتزام بما يخالف هواها، لأن هذا الالتزام سواء كان موافق أو مخالف لرغبة الإنسان فهو في النهاية لصالح الإنسان (وهو ما سيأتي التأكيد عليه في سورة سبأ والتي تبدأ بالحمد والثناء على الله لعدله في الآخرة بعد الحساب والجزاء) أما هنا ففي هذه السورة فالحمد لله على عظيم رحمته في الدنيا بإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور.
033.7.2.7- والسورة تكاد تكون أوامر وإنذار ووعيد، وسميت بالأحزاب ليتذكر المؤمنون أن الله نصرهم بغير حول منهم ولا قوة فإن أرادو النصر فليسمعوا الوحي وليطيعوا وليتوكلوا على الله فقط وكفى به وكيلاً. أما إرجاف المنافقين فلا قيمة له وفرارهم سيعود بالوبال عليهم. سنجد من سياق السورة أن المتكلم الوحيد هو الله سبحانه، وذلك في آيات كلها تعليمات وأوامر ووعود متواصلة من البداية إلى آخرها، المتكلم فيها هو الخالق سبحانه وتعالى والمستمع هو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، وذلك، كما يلي:
تكرر في السورة الخطاب: يا أيها النبي 5 مرات، يا أيها الذين آمنوا 7 مرات، أعد 6 مرات، اتقوا 5 مرات، قل 5 مرات، ما كان 4 مرات، {سنة الله في الذين خلوا من قبل} 2 مرّة. وكذلك الكلمات مثل: ما جعل الله، وإذ أخذنا، ما كان الله، لقد كان، اتبع، توكل، أدعوهم، النبي أولى، أخذنا، ليسأل، جاءوكم، ابتلي، لن ينفعكم، يعلم الله، أحبط الله، ليجزي الله، ورد الله، وكفى الله، وأنزل، وقذف، وأورثكم، يضاعف لها، نؤتها أجرها، لا تخضعن، وقرن، واذكرن، زوجناكها، بالله حسيباً، سبحوه، ليخرجكم، وداعياً، وبشر، ولا تطع، فلا جناح عليك، لا يحل لك، فإن الله، لا جناح عليهن، صلوا عليه، فقد احتملوا، لنغرينك بهم، ملعونين، خالدين فيها، تقلب وجوههم، لكم، عرضنا، ليعذب الله، ويتوب الله.
وكذلك عندما ذكرت الآيات ما قاله المنافقون والمؤمنون، ذكرته بكلام الله العليم بأقوالهم والرقيب عليهم فتكررت فيها الكلمات مثل يقول وقالوا ويقولون يودّوا، كما في الآيات (12-15، 20) على لسان المنافقين، والآيات (22-23) على لسان المؤمنين.
033.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:
تنقسم السورة باعتبار موضوعات آياتها إلى أربعة موضوعات رئيسية في أربعة مجموعات متساوية تقريباً من حيث عدد آياتها، كما يلي (الموضوعات هي ثلاثة كما تم بيانها أعلاه ولكن هنا فصلنا غزوة الأحزاب كعنوان منفصل فيه دروس بالتجربة عن منافع تقوى الله ومضار تركها):
033.7.3.1- بيان مقصد السورة: في التقوى واتباع الوحي والتوكل على الله، والاستسلام لقضائه وقدره، وأنها الأمانة التي حملها الإنسان، وأرسلت بها الرسل. وبيان الأسباب التي حملها لأجلها وهي العذاب للكافرين والتوبة على المؤمنين (كما بينت الآيات التي تلي). وأن الإنسان بهذا الابتلاء تتحدد درجته في الحساب فمن أراد نتائج عالية تحمل من الابتلاء أكثر ممن يريد الدرجات الدنيا. الآيات (1-3، 7، 35-36، 38-42، 46، 48، 56، 69-72) = 18 آية = 24.66%
033.7.3.2- بيان نتائج الأعمال: وعواقب مخالفة أوامر الله وعدم اتباع الوحي في الدنيا والآخرة، وبيان ثواب الله لمن يتقيه ويتبع الوحي ويتوكل عليه في الدنيا والآخرة. الآيات (8، 24، 43، 44، 45، 47، 57، 58، 60-68، 73) = 18 آية = 24.66%
033.7.3.3- دروس مستفادة من غزوة الأحزاب عن منافع تقوى الله وطاعته والتوكل عليه ومضار تركها. الآيات (9-23، 25-27) = 18 آية = 24.66%.
اعتمدت السورة في تسهيل فهم مقصدها على دروس في تقوى الله وطاعته والتوكل عليه مستفادة من غزوة الأحزاب، وهي قصّة حقيقية عاشها المسلمون وسجلت بعض أحداثها مع التركيز على تولّي الله أمور عباده المتقين ونصرهم ضد أعداء دينه في الآيات (9-27). وقد استغرقت هذه الآيات حوالي ربع عدد آيات السورة. ولأن هذه الغزوة كانت من أصعب الغزوات فقد اشتد على المؤمنين فيها البلاء لأنه لو حصل القتال لهزم فيها المسلمين شرّ هزيمة فقد أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في ثلاثة آلاف والخندق بينهم وبين المشركين. ثم أن يهود بني قريظة في المدينة نقضوا عهدهم مع المسلمين فاشتد البلاء وعظم الخوف فأتاهم العدو من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنوا بالله الظنونا. وفي هذه الأوقات العصيبة تدخل الله جل جلاله فنصر المسلمين بغير قتال منهم بأن خذل بين أعداءهم، وخالف بين كلمتهم، وبعث عليهم ريحا عاصفاً في ليال شديدة البرد، فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفأ قدورهم، وانهزم الأحزاب فانكفئوا عن المدينة بغير قتال.
033.7.3.4- مواعظ: بعد أن استفاد المسلمون من غزوة الأحزاب درساً بليغاً في التقوى واتباع الوحي والتوكل على الله. فصار من المناسب أن يأمرهم ربهم بأوامر تحفظ لهم تقواهم، ويعظهم بمواعظ تدعوهم إلى طاعة شرعه، وترك عادات الجاهلية، وتطهر مجتمعهم من رواسب الجاهلية، وتعيدهم إلى الفطرة التي فطر الناس عليها، وسنته في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وذلك كما يلي: الآيات (4-6، 28-34، 37، 49-55، 59) = 19 آية = 26.03%.
033.7.3.4.1- الدعوة إلى ترك عادات الجاهلية التي تخالف سنة الله في خلقه، والتأكيد على قدسية صلة الأرحام في كتاب الله وأن الرسول أولى بالمؤمنين وأن أزواجه أمهاتهم: الآيات (4-6)
033.7.3.4.2- أوامر تدعو زوجات الرسول (وهنّ قدوة المؤمنات) إلى تقوى الله وطاعته والعمل للآخرة: الآيات (28-34)
033.7.3.4.3- لا حرج على المؤمنين من قضاء الله ولا خيار لأحد سوى الاستسلام لأوامر الله ورسوله: الآية (37)
033.7.3.4.4- فرض الله على عباده شرائع تتماشى مع سنته في خلق الناس، وبما يرضي الله ورسوله ويزيل الحرج والأذى عن المسلمين: فحد لهم حدوداً في بعض المعاملات بين الأزواج، وفي بيوت النبي، وفي الحلال والحرام في الزواج والعلاقات بين الرجال والنساء والأرحام. الآيات (49-55، 59)
033.7.4- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها وحسب ترتيب آياتها:
في هذا السياق تركنا الآيات على ترتيبها في السورة ولكن تم تقسيمها حسب القصص والأحداث (إن وجدت) التي نزلت بمناسباتها هذه الآيات إلى سبعة مجموعات مترابطة (وقد تم بيان ترابطها في الشرح أعلاه) هي: 1- الأمر باتباع سنة الله بتقواه والتوكل عليه وإبطال كل ما يخالف ذلك 2- تجارب تبين منافع تقوى الله واتباع الوحي والتوكل عليه 3- المؤمن مخيّر بين أن يطلق العنان لهواه والتمتع بما أحله الله له في الحياة الدنيا وبين الاجتهاد بالعمل للآخرة والصبر على ذلك 4- تقوى الله وطاعته والتوكل عليه يزيل الحرج المؤمنين بأنهم لا خيار أمامهم سوى اتباع سنة الله 5- بناء المجتمع المؤمن أساسه زواج مسئول والتزام على سنة الله وفطرته 6- التأكيد على جريان سنن الله الثابتة على خلقه وبيان منافع الإتباع ومضار الإعراض 7- قبول الإنسان حمل أمانة اتباع دين الله مختاراً، وذلك كما يلي:
033.7.4.1- الأمر بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل عليه وإبطال كل ما يخالف الوحي:
033.7.4.1.1- الآيات (1-3) تبدأ السورة بثلاثة أوامر هي: يا أيها النبي اتق الله واتبع ما يوحى إليك وتوكل على الله. يقابلها ثلاثة نواهي ولا تطع الكافرين والمنافقين، ولا تتبع غير ما يوحى فالله خبير (بأن الناس تعرض عن الوحي وتتبع الشياطين وأهواءها)، ولا تتوكل على غير الله (فالله كافيك).
ولبيان كيف يكون التقوى والاتباع والتوكل، تذكر السورة هذه الأوامر والأحكام في سياق وقائع وقصص حصلت في حياة المسلمين أثناء التنزيل، ولم تذكر كل تفاصيل هذه القصص، لأنها معلومة لديهم وهم أبطالها فقد حصلت في حياتهم ودونت من بعدهم في السيرة العطرة، ولا حاجة لتكرار ذكرها في القرآن. جاءت بهذا الأسلوب ليسهل على المؤمنين استيعابها بهذه الطريقة المعجزة لأسلوب القرآن في البيان واستخلاص العبر والدروس من القصص والأحداث الحقيقية كأمثلة تغني عن الشرح الطويل.
033.7.4.1.2- الآيات (4-6) إبطال كل ما يخالف الوحي وسنن الله في خلقه:
بعد الأمر والحث على التوجه إلى الله، والاستسلام المطلق لإرادته، واتباع شرعه، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته. بدأت هذه الآيات بإبطال كل ما يخالف الوحي وسنن الله في خلقه.
وقد نزلت هذه الآيات قبل غزوة الخندق: ويفهم منها أن زيد قد طلق زينب، وأن عادة التبني قد ابطلت، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صار عليه أن يبدأ بخطوة عمليّة تتمثل بالزواج من زينب الزوجة السابقة لابنه بالتبني زيد لإبطال هذه العادة الراسخة بشدّة في عقول الناس وعاداتهم لكنه عليه السلام ظلّ متردداً مداراة أو خشية من كلام الناس. وهذه الآيات فيها أحكام تتعلق بثلاثة أحداث حصلت في حياة المسلمين:
033.7.4.1.2.1- إبطال عادة الظهار: يعني قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. المعد في الجاهلية طلاقاً، وإنما تجب به الكفارة بشرطه كما في حادثة أوس بن الصامت مع زوجته خولة بنت ثعلبة المذكورة في سورة المجادلة.
033.7.4.1.2.2- إبطال عادة التبني: فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة فكان يقال له زيد بن محمد فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة. يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فلا يمكن أن يكون له أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان.
033.7.4.1.2.3- نسخ الإرث بالإيمان والهجرة بإرث ذوي الأرحام: فذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في الإرث، من الإرث بالإيمان والهجرة الذي كان أول الإسلام فنسخ.
033.7.4.2- دروس في منافع تقوى الله واتباع الوحي والتوكل عليه. وفيها بيان نعمة الله على عباده المتقين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ونصروا دينه الحق، وصبروا وثبتوا وتوكلوا على الله، وفيها بيان انتصار الحق، وضعف الباطل وسرعة زواله مهما بدا عليه من القوة والجبروت:
033.7.4.2.1- الآيات (7-8) تبين الآيات أن الله سبحانه أخذ على أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء العهد والميثاق في إقامة دين الله تعالى وإبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق. وقد قيل إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه السلام.
033.7.4.2.2- الآيات (9-27) بيان نعمة الله على المؤمنين، إذ رد عنهم كيد الأحزاب والمهاجمين. وقد نزلت بعد غزوة الخندق: فيها تقييم للأحداث والابتلاءات العظيمة التي ابتلي فيها المسلمون خلال الغزوة. ثمّ ما تلاها من أن {رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال (25)}، ثمّ ما تلاها من غزوة بني النضير. وفي الآيات يقرر القرآن القيم الثابتة للحياة، من خلال ما وقع فعلاً، وما جاش في النفوس والضمائر، وقد ربط هذا كلّه بقدر الله وإرادته وعمله في الكون وسننه التي أقرها للوجود. وفيما يلي أسباب ونتائج الغزوتين:
033.7.4.2.2.1- غزوة الأحزاب: وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرا من أشراف يهود بني النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر خرجوا إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة فأجابوهم إلى ذلك. ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا. وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها والجميع قريب من عشرة آلاف. فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا. وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة. وقد كان من نعمة الله وفضله وإحسانه على المؤمنين أن كفى المؤمنين القتال وصرف جل جلاله هذه الجحافل والأحزاب المعتدية على المدينة لوحده، فأرسل الله عليهم الريح والرعب والفتنة التي شقت صفهم والملائكة، وهزمهم وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم لم ينالوا خيرا لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله واستئصال جيشه.
033.7.4.2.2.2- غزوة بني قريظة: وقد كان أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد، فساءه ذلك وشق عليه وعلى المسلمين جداً. فلما أيده الله تعالى ونصره وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيدا منصورا ووضع الناس السلاح، إذ تبدى له جبريل عليه السلام وقال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة وكانت على أميال من المدينة. وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية. فقال رضي الله عنه إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم “لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة” وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة. كانوا مالئوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القال، تركهم المشركون لذلّ الدهر ومصيرهم المشئوم. فكما راموا العز ذلوا وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة وعذاب النار.
033.7.4.3- المؤمن (بشكل عام) مخيّر بين أن يطلق العنان لهواه والتمتع بما أحله الله له في الحياة الدنيا وبين الاجتهاد بالعمل للآخرة والصبر على ذلك:
الآيات (28-35) نزلت في تخيير نساء النبي صلى الله عليه وسلم بين بيت النبوّة أو التسريح: فيها أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة.
033.7.4.3.1- وذكر أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من عرض الدنيا، إما زيادة في النفقة، أو غير ذلك، فاعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً، ثم أمره الله أن يخيرهن بين الصبر عليه، والرضا بما قسم لهن، والعمل بطاعة الله، وبين أن يمتعهن ويفارقهن إن لم يرضين بالذي يقسم لهن. فاخترن الله ورسوله. ثم أمرهن بالتخلق بأخلاق بيت النبوّة لأنهن لسن كأحد من النساء. وبينت الآيات جزاء المؤمنين كافة والمؤمنات.
033.7.4.3.2- يقول تعالى واعظاً نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة: بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة، يضاعف لها العذاب ضعفين في الدنيا والآخرة لشرف منزلتهن وفضل درجتهن. وقيل: لأنهن في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الأمر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. ثم ذكر عدله وفضله في قوله: {ومن يقنت منكن} أي تطع الله ورسوله وتستجب {نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما} أي في الجنة فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش.
ثم هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك بأنهن إذا اتقين الله عز وجل كما أمرهن فإنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، فلا يخضعن بالقول بترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال، وليقلن قولا حسنا جميلا معروفا في الخير. وليلزمن بيوتهن فلا يخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه، ولا يظهرن محاسنهن للرجال كالتبختر والتكسر وإظهار الزينة كما كن يفعلن قبل الإسلام. نهاهن أولا عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين، وأن يعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن من الكتاب والسنة. إن الله كان لطيفا بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة، خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجا.
033.7.4.4- الالتزام بتقوى الله وطاعته والتوكل عليه ودوام ذكره يزيل الحرج المؤمنين، بأنهم لا خيار أمامهم سوى اتباع سنة الله:
الآيات (36-48) تتناول زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها ابنة عمته ومطلقة ابنه بالتبني. وفيها إجابة على اعتراضات المعارضين، وإزالة للحرج عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين حول هذا الزواج، وأنه من أمر الله سبحانه وتعالى وسنّته في خلقه. وقد ردت الآيات أمر المؤمنين والمؤمنات كافة إلى الله، ليس لهم منه شيء، وليس لهم في أنفسهم خيرة. إنما هي إرادة الله وقدره الذي يسير كل شيء، ويستسلم له المؤمن الاستسلام الكامل الصريح: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم. ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (36)}.
وفي الحديث عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه (37)} يعني بالإسلام {وأنعمت عليه} بالعتق فأعتقته. {أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه (37)} – إلى قوله – {وكان أمر الله مفعولا} وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين (40)}. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله تبارك وتعالى {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم (5)} أي فلان مولى فلان، وفلان أخو فلان، هو أقسط عند الله يعني أعدل.
ونهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم. ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، الذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء.
الآيات (41-48) تأمر الآيات الذين آمنوا بأن يداوموا على الذكر ذكراً كثيراً، وأن يسبحوه عند الصباح والمساء، فإذا فعلوا ذلك صلى عليهم هو وملائكته، هو الذي يرحمكم، ويثني عليكم، وتدعو ملائكته لكم، فيخرجكم من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإسلام.
تحيتهم من الله تعالى في الجنة، وتحية أهل الجنة السلام. وأعد لهم أجراً كريماً من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والملاذ والمناظر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على أمتك ومبشرا بالجنة ونذيرا من النار وداعيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجا منيرا بالقرآن. يأمره سبحانه بأن يبشر المؤمنين بالفضل الكبير وأن يدع الكافرين والمنافقين ويتوكل على الله.
033.7.4.5- بناء المجتمع المؤمن أساسه زواج مسئول والتزام، في ببت له حرمات وعليه مسئوليات وتربطه من الداخل والخارج روابط المقدسة جعلها الله على سنته وفطرته، ولم يتركها لهوى الناس. والآيات (49-59) تتحدث عن علاقة الرجال بالنساء وما أحله الله وحرمه كما يلي:
033.7.4.5.1- الآية (49) تتحدث عن أحد أحكام الطلاق في حال أذا حصل قبل أن يتم الزواج الفعلي.
فهذا في الرجل يتزوج المرأة، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فإذا طلقها واحدة بانت منه، ولا عدة عليها تتزوج من شاءت، فإن كان سمى لها صداقاً، فليس لها إلا النصف، فإن لم يكن سمى لها صداقاً، متعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل.
033.7.4.5.2- الآيات (50-52) تتحدث عن بعض خصوصيات زواج النبي صلى الله عليه وسلم والتي فيها شيء من الاختلاف عن زواج المسلمين.
وقال القرطبي في تفسيره: لما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه، حرم عليه التزوج بغيرهن والاستبدال بهن، مكافأة لهن على فعلهن. والدليل على ذلك قوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد} الآية. وهل كان يحل له أن يطلق واحدة منهن بعد ذلك؟ فقيل: لا يحل له ذلك عزاء لهن على اختيارهن له. وقيل: كان يحل له ذلك كغيره من النساء ولكن لا يتزوج بدلها. ثم نسخ هذا التحريم فأباح له أن يتزوج بمن شاء عليهن من النساء، والدليل عليه قول تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك} والإحلال يقتضي تقدم حظر. وزوجاته اللاتي في حياته لم يكن محرمات عليه، وإنما كان حرم عليه التزويج بالأجنبيات فانصرف الإحلال إليهن، ولأنه قال في سياق الآية {وبنات عمك وبنات عماتك} الآية. وكان الله على كل شيء ما أحل لك، وحرم عليك، وغير ذلك من الأشياء كلها، حفيظا لا يعزب عنه علم شيء من ذلك، ولا يئوده حفظ ذلك كله.
033.7.4.5.3- ذكر بعض القيود عند زيارة بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علاقات المسلمين بزوجاته.
نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، فيقعدون إلى أن يدرك، غير منتظرين وقت نضجه. يقول تعالى ذكره: إن دخولكم بيوت النبي من غير أن يؤذن لكم، وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له، كما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وليمة زواجه من زينب كان يؤذي النبي، فيستحيي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد الفراغ من الطعام، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم {والله لا يستحيي من الحق} أن يتبين لكم، وإن استحيا نبيكم فلم يبين لكم كراهية ذلك حياء منكم. ويقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعا فاسألوهن من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}. ويقول: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، وما يصلح ذلك لكم وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا لأنهن أمهاتكم، ولا يحل للرجل أن يتزوج أمه.
قال القرطبي في الآية (54): البارئ سبحانه وتعالى عالم بما بدا وما خفي وما كان وما لم يكن، لا يخفى عليه ماض تقضى، ولا مستقبل يأتي. وهذا على العموم تمدح به، وهو أهل المدح والحمد. والمراد به هاهنا التوبيخ والوعيد لمن تقدم التعريض به في الآية قبلها، ممن أشير إليه بقوله: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}، ومن أشير إليه في قوله: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} فقيل لهم في هذه الآية: إن الله تعالى يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها. فصارت هذه الآية منعطفة على ما قبلها مبينة لها. والله أعلم.
ذكر الله تعالى في الآية (55) من يحل للمرأة البروز له. وقد ذكر فيها بعض المحارم وذكر الجميع في سورة “النور” فهذه الآية بعض تلك. وخص النساء بالذكر وعينهن في هذا الأمر، لقلة تحفظهن وكثرة استرسالهن. واخشينه في الخلوة والعلانية فإنه شهيد على كل شيء لا تخفى عليه خافية فراقبن الرقيب.
033.7.4.5.4- الآيات (56-58) تحذير لمن يؤذي أو يتطاول على حياة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة، ولمن يؤذي المؤمنين والمؤمنات بشكل عام.
قال القرطبي عن الآية (56): هذه الآية شرف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته، وذكر منزلته منه، وطهر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء، أو في أمر زوجاته ونحو ذلك. والصلاة من الله رحمته ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاء والتعظيم لأمره. أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفا له، ولا خلاف في أن الصلاة عليه في كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه.
يقول تعالى متهددا ومتوعدا من أذاه بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك، ومن يؤذي رسوله بشيء فقد آذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله. أبعدهم الله من رحمته في الدنيا والآخرة وأعد لهم في الآخرة عذابا يهينهم فيه بالخلود فيه.
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم. فقد احتملوا زورا وكذبا وفرية شنيعة، وبهتان: أفحش الكذب، وإثما يبين لسامعه أنه إثم وزور.
033.7.4.5.5- الآية (59) تتحدث عن الأمر بارتداء الحجاب.
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات، خاصة أزواجه وبناته لشرفهن، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء. لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن. فيقع الفرق بينهن وبين الإماء، فتعرف الحرائر بسترهن، فتنقطع الأطماع عنهن.
033.7.4.6- التأكيد على جريان سنن الله الثابتة على خلقه وبيان منافع الإتباع ومضار الإعراض:
بعد أن علمنا من غزوة الخندق المنافع العظيمة التي يجنيها المسلم إن هو اتقى الله وتوكل عليه واتبع الوحي، وعلمنا الأوامر التي تحفظ حقوق العباد وتمنع الأذى عنهم وعن رسولهم الكريم وعن النساء ذلك حسب قوانين الفطرة وسنة الله في الذين خلوا من قبل وقدره المقدور الآيات (38) (62). تحذر هذه الآيات الخارجين عن الفطرة من المنافقين الذين في قلوبهم مرض والمثيرين البلبلة بين المسلمين بأنهم إن لم يرجعوا فسيحل بهم ما حل بمن قبلهم من الأخذ والقتل. وأن لله سنن ثابتة تجري على كل الأمم، وسنن الله لا تبدل ولا تغير وأمره الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه ولا معدل، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. كذلك هذه الآيات تأمرهم بما يجب أن يفعلوه وماذا سيجنون إن هم فعلوا، وتنهاهم عن مالا يجب أن يفعلوه وكيف أنهم سيعذبون في الدنيا والآخرة إن هم لم ينتهوا، كما يلي:
الآيات (60-71) توبيخ للمنافقين والذين في قلوبهم مرض والكافرين وأنهم ملعونين أو معذَّبين وبأنهم سيقتَّلون تقتيلا. وبشارة للمؤمنين بالمغفرة والفوز وبأن الله سبحانه وتعالى سيخرج أعداءهم من جوارهم. وتتضمن الآيات سؤال الناس عن الساعة، والإجابة على هذا التساؤل بأن علم الساعة عند الله، والتلويح بأنها قد تكون قريبا.
033.7.4.6.1- قال تعالى مبشراً رسوله والمؤمنين ومتوعدا للمنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة مبيناً سنته فيهم، بأنهم لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق، فسوف يعلم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بهم ويسلطه عليهم ثم لا يجاورونه في المدينة إلا وقتاً قليلا. مبعدين عن رحمة الله أينما وجدوا وقتلوا لكفرهم بالله تقتيلا.
ثم قال تعالى هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه، بأن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم، وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير. هذا في الدنيا،
أما في الأخرة فهؤلاء المؤذون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أنهم لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة، استبعادا وتكذيبا، موهمين أنها لا تكون. فيأمر سبحانه بأن أجبهم عن سؤالهم وقل علمها عند الله، (فالنبي لا يعلم الغيب بغير تعليم من الله جل وعز) وما يعلمك لعلها تكون في زمان قريب. وقيل: إنما أخفى وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها في كل وقت.
إن الله أبعد هؤلاء الكافرون وأعد لهم نارا شديدة يدخلونها، خالدين فيها أبداً، لا يجدون وليا يحفظهم عنها ولا نصيراً يدفعها عنهم. في يوم تقلب وجوههم في النار حالا بعد حال يقولون يا ليتنا أطعنا الله في الدنيا وأطعنا رسوله، فيما جاءنا به عنه من أمره ونهيه، يا لها حسرة وندامة، ما أعظمها وأجلها. وقال الكافرون في جهنم: ربنا إنا أطعنا أئمتنا في الضلالة وكبراءنا في الشرك فأضلونا عن طريق الهدى، والإيمان بك، وإخلاص طاعتك في الدنيا، فعذبهم من العذاب مثلي عذابنا الذي تعذبنا واخزهم خزيا كبيرا.
033.7.4.6.2- قال تعالى آمراً عباده المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأن لا يؤذوا رسولهم (آخذين العبرة من تبرئة نبيه موسى من أذى بني إسرائيل)، وأمرهم بالتقوى وبشرهم ووعدهم بالثواب، وأنهم إذا فعلوا ذلك بأن يصلح لهم أعمالهم (أي يوفقهم للأعمال الصالحة) وأن يغفر لهم الذنوب الماضية وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها. هذا في الدنيا وبالفوز العظيم والنعيم المقيم في الجنة في الآخرة.
033.7.4.7- الآيات (72-73) تختم السورة بآيتين تبينان عبء الأمانة الملقاة على عاتق البشرية. أمانة الدين والاستقامة عليها، والدعوة والصبر على تكاليفها، والقيام على تنفيذ شرع الله أنفسهم وفي الأرض من حولهم: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا (72)}.
حمل الإنسان الأمانة ليعذب الله من خانها، ويتوب الله على من حملها (والأمانة تعم جميع وظائف الدين)، أي حملها الإنسان ليعذب العاصي ويثيب المطيع، فالجزاء نتيجة حمل الأمانة.
033.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
033.7.5.1- آيات القصص: (7-40، 50-53، 59-63، 69، 72) = 45 آية.
033.7.5.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (64-68) = 5 آيات.
033.7.5.3- الأمثال في الآيات: (4) = 1 آية.
033.7.5.4- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-3، 5، 6، 41-49، 54-58، 70، 71، 73) = 22 آية.
033.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
033.8.1- في السجدة: بينت السورة أن الكتاب صحيح أنزله الخالق الذي أحسن كل شيء خلقه وفيه خبر البعث الذي حين يأتي سيتمنى كل الناس أن يعودوا ليعملوا استعداداً لهذا اليوم. أما سورة الأحزاب فلسان حالها يقول ها هي الأعمال والابتلاءات بكل صعوباتها وشدتها فاعملوا بتقوى الله وطاعته وتوكلوا عليه فسيخرجكم من الظلمات إلى النور في الدنيا، وقد أعد لكم الأجر الكريم يوم تلقونه في الآخرة، فاعملوا واستعدوا أكثر تكسبوا أكثر. وفي سورة سبأ فهي تبدأ بالحمد والثناء على الله في الدنيا والحمد والثناء عليه في الآخرة، وتتحدث عن البعث والجزاء، وأن الإيمان والعمل الصالح هما قوام الحكم والجزاء عند الله.
033.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وجه اتصالها بما قبلها: تشابه مطلع هذه ومقطع (خاتمة) تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم ومطلع هذه الأمر بتقوى الله وعدم طاعة الكافرين والمنافقين فصارت كالتتمة لما ختمت به تلك حتى كأنهما سورة واحدة.
033.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: افتتحها سبحانه بأمر نبيه باتقائه، ونهيه عن الصغو إلى الكافرين والمنافقين، واتباعه ما يوحي إليه، تنزيهاً لقدره عن محنة من سبق له الامتحان ممن قدم ذكره في سورة السجدة، وأمراً له بالتسليم لخالقه والتوكل عليه {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4)} ولما تحصل من السورتين من الإشارة إلى السوابق {ولو شئنا لأتـينا كل نفس هداها (13)} السجدة، كان ذلك مظنة لتأنيس نبي الله صلى الله عليه وسلم وصالحي أتباعه، ولهذا أعقب سورة السجدة بهذه السورة المضمنة من التأنيس والبشارة ما يجري على المعهود من لطفه تعالى وسعة رحمته، فافتتح سبحانه السورة بخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم بالتقوى، وإعلامه بما قد أعطاه قبل من سلوك سبيل النجاة وإن ورد على طريقة الأمر ليشعره باستقامة سبيله، وإيضاح دليله، وخاطبه بلفظ النبوة لأنه أمر عقب تخويف وإنذار وإن كان عليه السلام قد نزه الله قدره على أن يكون منه خلاف التقوى، وعصمه من كل ما ينافر نزاهة حاله وعلي منصبه، ولكن طريقة خطابه تعالى للعباد أنه تعالى متى جرد ذكرهم للمدح من غير أمر ولا نهي فهو موضع ذكرهم بالأخص الأمدح عن محمود صفاتهم، ومنه {محمد رسول الله والذين معه (29)} الفتح – الآيات، فذكر صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، ومهما كان الأمر والنهي، عدل في الغالب إلى الأعم، ومنه {يا أيها النبي اتق الله} {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال (65)} الأنفال، {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء (1)} الطلاق، {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك (1)} التحريم، {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين (73)} التوبة، {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات (12)} الممتحنة، وقد تبين في غير هذا، وأن ما ورد على خلاف هذا القانون فلسبب خاص استدعى العدول عن المطرد كقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك (67)} المائدة، فوجه هذا أن قوله سبحانه {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته (67)} المائدة، موقعه شديد، فعودل بذكره صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة لضرب من التلطف، فهو من باب {عفا الله عنك لم أذنت لهم (43)} التوبة، وفيه بعض غموض، وأيضاً فإنه لما قيل له {بلغ} طابق هذا ذكره بالرسالة، فإن المبلغ رسول، والرسول مبلغ، ولا يلزم النبي أن يبلغ إلا أن يرسل، وأما قوله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر (41)} المائدة، فأمره وإن كان نهياً أوضح من الأول، لأنه تسلية له عليه السلام وتأنيس وأمر بالصبر والرفق بنفسه، فبابه راجع إلى ما يرد مدحاً مجرداً عن الطلب، وعلى ما أشير إليه يخرج ما ورد من هذا. ولما افتتحت هذه السورة بما حاصله ما قدمناه من إعلامه عليه السلام من هذا الأمر بعلي حاله ومزية قدره، ناسب ذلك ما احتوت عليه السورة من باب التنزيه في مواضع منها إعلامه تعالى بأن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين فنزهن عن أن يكون حكمهن حكم غيرهن من النساء مزية لهن وتخصيصاً وإجلالاً لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب} الآية، فنزههم عن تطرق سوء أو دخول ارتياب على مصون معتقداتهم وجليل إيمانهم {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} والآية بعد ذلك، وهي قوله تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا} – الآية، ومنها {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فنزههن سبحانه وبين شرفهن على من عداهن، ومنها تنزيه أهل البيت وتكرمتهم {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} الآية، ومنها الأمر بالحجاب {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} فنزه المؤمنات عن حالة الجاهلية من التبرج وعدم الحجاب، وصانهن عن التبذل والامتهان، ومنها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى} فوصاهم جل وتعالى ونزههم بما نهاهم عنه أن يتشبهوا بمن استحق اللعن والغضب في سوء أدبهم وعظيم مرتكبهم، إلى ما تضمنت السورة من هذا القبيل، ثم أتبع سبحانه ما تقدم بالبشارة العامة واللطف الشامل كقوله تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} ثم قال تعالى: {وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} – إلى قوله تعالى: {أجراً كريماً} وقوله تعالى {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} وقوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} – إلى قوله: {وأجراً عظيماً} وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً} – إلى قوله: {عظيماً} وقوله تعالى: {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} إلى قوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} وقوله تعالى مثنياً على المؤمنين بوفائهم وصدقهم {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} – إلى قوله: {وما بدلوا تبديلاً} وقوله: {وإثماً مبيناً} وفي هذه الآيات من تأنيس المؤمنين وبشارتهم وتعظيم حرمتهم ما يكسر سورة الخوف الحاصل من سورتي لقمان والسجدة ويسكن روعهم تأنيساً لا رفعاً، ومن هذا القبيل أيضاً ما تضمنت السورة من تعداد نعمه تعالى عليهم وتحسين خلاصهم كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم} – إلى قوله: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} وقوله تعالى: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال} إلى قوله: {وكان الله على كل شيء قديراً} وختم السورة بذكر التوبة والمغفرة أوضح شاهد لما تمهد من دليل قصدها وبيانها على ما وضح الحمد لله ولما كان حاصلها رحمة ولطفاً ونعمة، لا يقدر عظيم قدرها، وينقطع العالم دون الوفاء بشكرها، أعقب بما ينبغي من الحمد يعني أول سبأ – انتهى.