العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
034.0 سورة سبأ
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
034.1 التعريف بالسورة:
1) مكية؛ ماعدا الآية (6) فمدنية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 54 آية. 4) الرابعة والثلاثون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والحادية والستون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “لقمان”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
{الله} 6 مرّات، {لله} 2 مرّة، رب 14 مرّة، هو 7 مرّات؛ (2 مرّة): غفور، حكيم، عزيز، يقدر، يبسط؛ (1 مرّة): رحيم، حميد، بصير، حفيظ، علي، كبير، يفتح، الفتاح، عليم، خير الرازقين، علّام الغيوب، سميع، قريب، خبير، شهيد، ولي، عالم الغيب، يَعْلَم، يقضي، فضّل، أنزل. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: إسم الله “الفتاح” 1 مرة، يعزب 2 مرة.
وتكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: قالوا 16 مرة، قل 15 مرّة، قول 5 مرّات، عمل 11 مرة، آمن 9 مرات، الأرض 8 مرات، عذاب 8 مرّات، السماء 7 مرات، رزق 6 مرات، أرسل 6 مرات، جزاء 5 مرات، الحق 5 مرّات؛ (4 مرات): شكور، عبد، كذب، شيء؛ (3 مرّات): شاء، صالحاً، ضلال، الآخرة، جن، مكان؛ (2 مرّة): الساعة، يقذف، شك، الحمد، فزع؛ (1 مرّة): مريب، يعزب.
034.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
034.3 وقت ومناسبة نزولها:
نزلت في بداية النصف الثاني من الفترة المكّية، قبل أن يبدأ فصل التعذيب والاستبداد الذي رأيناه في السور التي نزلت بعد ذلك. تُذكّر بنعم الله التي تستحق أن يحمدوا الله المنعم عليها ويشكروه بطاعة كلامه واتباع هديه، إلا أنهم كذّبوا بالبعث وقالوا: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ (3)}، وعجبوا واستهزأوا وقالوا: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)}، واستعجلوا قائلين: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ (29)}، وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ (31)}، وكذّبوا وقالوا: {إِفْكٌ مُفْتَرًى … سِحْرٌ مُبِينٌ (43)}.
وكان الكفار يحاولون صدّ وتثبيط المسلمين ببعض التردد ورفض الإيمان إلى الاستهزاء والإشاعات الساخرة ونشر الادعاءات الباطلة والمكر بالليل والنهار وبث الأفكار الشيطانيّة في عقول الناس، ومن مثل قولهم: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)}. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتفسير القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.
034.4 مقصد السورة:
034.4.1- الله سبحانه وتعالى يستحق الحمد في الدنيا والآخرة: الحمد لله الذي له كل شيء في الدنيا، نعيش وننعم بعدله وفضله وكرمه، ثم الحمد لله على أنه له الآخرة يكافئنا برحمته، فهو العليم بكل شيء الحكيم الخبير الغفور الرحيم، يحصي للناس أعمالهم ثم يوفيها لهم، يجازي بعدله ورحمته، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه.
034.4.2- مقصد السورة جاء ملخصاً في الآيتين الأوليين، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}.
الحمد لله في الدنيا وفي الآخرة خلق ليهدي ويعطي ويرحم ويعدل، لا ليضل ويحرم ويعذب ويظلم. ليس لله حاجة إلى إيمان الناس ولا إلى عبادتهم ولا إلى إنفاقهم المال ولا إلى أخلاقهم بل هم الذين بحاجة إلى هذا كله. خلقوا وفطروا على أن يكونوا عباداً مؤمنين منفقين متحلّين بمكارم الأخلاق. هم الذين اختاروا حمل الأمانة حين أشفقت من حملها السماوات والأرض، فليحملوها كما اختاروا، وليوفوا بما وعدوا، فهم بذلك في اختبار وأعمالهم تحصى عليهم. فالحمد لله في الدنيا لأنها مليئة بالخيرات والنعم التي لا تحصى ولأنها الطريق القصير الموصل للخلود في الآخرة، وهي زوّادة السفر للآخرة. والحمد لله في الآخرة لأنها دار القرار حيث الرحمة والعدل المطلق والثواب العظيم والنعيم والملك الكبير الذي لا ينتهي. كل هذا بلا مقابل ولا ثمن سبق وأن دفعه الإنسان سوى وفاءه بوعده بإيمانه بالحق وعمله الصالح. ومن خسر كل هذا فلا يلومنّ إلا نفسه. وهكذا الأمر ينظر إليه بصورته الكلّية لا كأجزاء متفرقة تبدوا متناقضة لانقطاعها عن سياقها.
والآخرة هي المعوّل عليها لأن الدنيا دار اختبار، والآخرة هي دار الجزاء فيها إما النعيم الأبدي أو الشقاء الأبدي، هذا المصير اللانهائي العادل في الآخرة، قد أقيمت عليه الحجة والعذر في الدنيا، فالكافر سيظل كذلك كافراً، والمؤمن سيبقى مؤمناً مهما طال مكوثهم على الأرض، أو حتى لو أعيدوا إلى الأرض مرات ومرات فالنتيجة والجزاء ستظل نفسها، علم ذلك الله الحكيم الخبير الغفور الرحيم. الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فإنه يؤتي منها من أرادها ما يشاء لمن يريد، سواء كان مؤمناً أو كافراً، ومن أراد الآخرة يؤته منها وسيجزي الشاكرين، فالحمد لله الذي له ما في الدنيا وما في الآخرة. المؤمن له التمكين في الدنيا وأكثر، بدليل القصص الثلاثة التي في السورة، لكن ما عند الله خير وأعظم وأبقى، أعدّ لعباده المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
034.4.3- وقال البقاعي: مقصودها أن الدار الآخرة كائنة لا ريب فيها، لما في ذلك من الحكمة، وله عليه من القدرة، وفي تركها من عدم الحكمة والتصوير بصورة الظلم.
034.5 ملخص موضوع السورة:
استهلت السورة بمقدمة بليغة مبينة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، تتنزل منها أقدارنا وأرزاقنا وديننا الذي هو عصمة أمرنا، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} التي فيها معاشنا، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ} التي إليها معادنا حيث مستقرّ الأمور ونهاياتها، يغفر لنا الله ويرحمنا ويوفينا أعمالنا ويدخلنا الجنّة بفضله {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} من ماء وغيره، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من زرع وغيره، {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من وحي ورزق وغيره، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من عمل وأرواح وغيره، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} خلق ليُحمد على عطائه ورزقه وحكمته وعلمه ورحمته وهديه ومغفرته وعدله وكريم صفاته. ثم أربع مجموعات من الآيات تضمنت: (الآيات 3-19) هداهم ورزقهم ليعلموا أنه ربهم ويعملوا للآخرة، ثمّ (الآيات 20-27) البعث والحساب العادل والجزاء، ثمّ (الآيات 28-42) شكّ الناس المريب في أمر الآخرة، ثم (الآيات 43-54) الحجج والدليل على قيام الساعة والبعث، كما يلي:
المجموعة الأولى (17 آية): يُنكر الكفار أن تأتي الساعة {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ (3)}، وكل شيء في كتاب مبين. (الآيات 4، 5) الحكمة تقتضي قيام الساعة وجزاء المحسن والمسيء، لينعم السعداء من المؤمنين، ويعذب الأشقياء من الكافرين. (الآيات 6-8) المؤمن تعلّم فعلم أن القرآن {هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، أما الكفرة فيستبعدون قيام الساعة متعجبين ومستهزئين، ويقولون إنه إما كاذب أو مجنون، {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيد}. (الآية 9) السماء والأرض محيطة بهم، إن يشأ يخسف بهم أو يسقط عليهم كسفاً، إن في ذلك دليل على قدرة الله على البعث وما يشاء. (الآيات 10-19) جمع لداوود عليه السلام النبوّة والملك والجنود وتُسبح معه الجبال والطيور وألان له الحديد، ثم جَمع كذلك لابنه سليمان عليهما السلام النبوة والملك، وسخّر له الريح وأذاب له النحاس وعلمه لغة الطير وسخر له الجن يعملون له المباني والمحاريب والتماثيل. وكان لسبأ نعمة في بلادهم ما بعدها من نعمة، من اتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم والعيش الهنيء الرغيد والبلاد المرضية والأماكن الآمنة والقرى المتواصلة المتقاربة مع كثرة خيراتها بحيث أن المسافر لا يحتاج إلى حمل زوادة السفر ليلاً ونهاراً فحيث نزل وجد الماء والطعام والمبيت الآمن، فبدلاً من أن يحمدوا ويعملوا ما يرضي الله، أعرضوا وكذّبوا رسله فاستحقوا الهلاك بسوء أعمالهم وإفسادهم.
المجموعة الثانية (8 آيات): (الآيات 20-21) لقد صدق ظنّ إبليس بإضلال بني آدم، فأطاعوه وعصوا ربهم إلا فريقاً من المؤمنين، وما كان له عليهم من سلطان يجبرهم على طاعته، وإنما كان اختباراً {لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ (21)}. (الآيات 22-27) إن الذين زعموهم شركاء لله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا يعينون على خلق شيء، ولا يشفعون عند الله إلا لمن أذن له، وأن الله هو الرزاق، وأنّ الكلّ مسؤول عن ذنبه، وسيجمعهم يوم القيامة، ثم يقضي بينهم بعلمه وعدله، فأروني الذين جعلتموهم لله شركاء هل فعلوا شيئاً {كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.
المجموعة الثالثة (15 آية): أرسل الله الرسول بشيراً ونذيراً {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} ويقولون مستهزئين: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)}، ولن نصدِّق بالقرآن ولا بالذي سبقه من الكتب، ولو ترى إذ الظالمون موقوفون للحساب كل يُلْقي باللوم على الآخر، وأسرّوا الحسرة حين رأوا العذاب. إن ربي يوسِّع الرزق ويضيِّقه على مَن يشاء من عباده، ويفعل ذلك اختباراً {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)}، فمَن آمن وعمل صالحاً لهم ثواب الضعف من الحسنات وفي الجنات آمنون، والذين يصدّون عن سبيل الله لهم عذاب جهنم. ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة على وجه التوبيخ لمن عبدهم {أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مصدقون ومطيعون، {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}.
المجموعة الرابعة (12 آية): وقالوا: {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ (43)}، وأن القرآن كذب مختلق وسحر واضح، {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)}. قل جاء الحق فلم يبق للباطل شيء يبدؤه ويعيده، ولو ترى إذ فَزِعَ الكفار حين معاينتهم العذاب فلا نجاة لهم وأُخذوا من مكان قريب {وَقَالُوا آَمَنَّا}، وكيف لهم الإيمان وقد حيل بينهم وما يشتهون من التوبة والعودة إلى الدنيا ليؤمنوا، إنهم كانوا فيها في شَكٍّ من أمر الرسل والبعث والحساب، فلم يؤمنوا.
تتحدّث قصص السورة عن ملك داوود وسليمان عليهما السلام ومملكة سبأ لتكون برهاناً على أنه تعالى {خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}، وتكررت “الرزق” ست مرّات، وبسطه مرّتين {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ (36) (39)}. خلق تعالى ليرزق ويهدي ويغفر ويرحم ويُدخل الجنّة، وهو ليس بحاجة إلى إيمان الناس ولا إلى عبادتهم ولا إلى إنفاقهم ولا إلى أخلاقهم، بل هم الذين بحاجة إلى هذا كله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) (36)}. خلقوا وفطروا على أن يكونوا عباداً مؤمنين منفقين متحلّين بمكارم الأخلاق، واختاروا هم حمل الأمانة حين أشفقت من حملها السماوات والأرض، فهم بذلك في اختبار وأعمالهم تحصى عليهم، يكافؤهم برحمته وعدله وفضله. عرّف على أسمائه بأن له الحمد في الدنيا والآخرة بالنعمة، وجعل الفطرة هي الطاعة والسبيل الوحيد وزوّادة السفر إلى الخلود والنعيم في الآخرة. كل هذا بلا مقابل ولا ثمن سبق وأن دفعه الإنسان سوى وفاؤه بوعده بإيمانه بالحق وعمله الصالح، ومن خسر فلا يلومنّ إلا نفسه.
اللهم مالك الملك أدم علينا النعمة، واكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمّن سواك، كي نسبّحك ونحمدك ونذكرك كثيراً إنك بنا بصيراً.
034.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
باعتبار ترتيب آيات السورة:
034.6.1- الآيات (1-9) مقصد السورة هو أنه: كما أن الحمد لله في الدنيا التي نعيشها لأنه له كل شيء فيها، ونرى ونبصر بكل جوارحنا كيف هو يعاملنا بالحكمة والمغفرة والرحمة والتكريم. كذلك الحمد لله في الآخرة لكمال عدله، لأنه سيظل الحكيم الخبير العليم الغفور الرحيم، يعطي كل صاحب حق حقه.
ولأن الكافرين يكفرون بالآخرة، أمر تعالى نبيّه الصادق بأن يقسم لهم بقدومها، فالله لا يغيب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض فكلها له، كل شيء عنده في كتاب ليحاسب الناس على إيمانهم وأعمالهم، فيجزي المؤمنين، ويجازي الكافرين، ويعفو عن كثير: المغفرة والرزق الكريم لمن عمل صالحاً، والعذاب الأليم لمن كفر وصد عن الإيمان.
لهذا فمن أخذ بما نزل من العلم من عند الله علم أن فيه الهداية والسعادة فاتبع وحمد الله، ومن كفر بقي على جهله يسخر من رسول الله ومن المؤمنين، فهو في العذاب والضلال البعيد. الله قادر على أن يخسف بهم أو أن يسقط عليهم ولكن تأجيل هذا دليل رحمته وحكمته، ودليل على قيام الساعة والحساب في الآخرة.
034.6.1.1- الآيات (10-19) قصص فيها تأكيد مقصد السورة بأن الله سبحانه يستحق الحمد في الدنيا لأنه سخرها لنا وملّكنا كنوزها وفتح لنا أبواب الخير فيها، وجعل لنا فيها الجنات والرزق الكريم، وهدانا إلى أعمال صالحة تتناسب مع فطرتنا وسنته في خلقنا، فلم يحرمنا ولم يشقينا، وإن حصل شقاء أو سوء أو ما يفسد الحياة الرغيدة التي جعل الله لنا فهو بسبب مخالفة فطرة الله وسنته الثابتة التي جعلها من أجل صلاح الأرض والإنسان. والدليل من السورة على هذا هو ما حصل حقاً وعلمناه يقيناً من القصص الثلاثة التالية:
يبين لنا سبحانه عظيم منّه ومزيد فضله على عبده ورسوله داود عليه السلام، فقد آتاه نعيماً لا يخطر على بال، فجمع له النبوّة والملك والجنود ومنحه الصوت الجميل تسبح معه الجبال والطيور وألان له الحديد يصنع منه الدروع. ثم جمع كذلك لابنه سليمان عليهما السلام النبوة والملك. أعطى سليمان من الملك مالم يحصل من قبل ولا من بعد، سخر له الريح وأذاب له النحاس وعلمه لغة الطير وسخر له الجن يعملون بين يديه بإذن الله المباني المرتفعة والمحاريب والتماثيل من النحاس والزجاج والرخام.
هذا ما أعطاه سبحانه لعبدين من عباده لأنهم عملوا الصالحات وشكروا الله. وعطاء الله لا يتوقف على الأفراد فقط بل على الجماعات والأمم إن هم أصلحوا وشكروا. وقد ذكرت السورة قصة سبأ وقد كانوا في نعمة في بلادهم ما بعدها من نعمة من اتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم والعيش الهنيء الرغيد والبلاد المرضية والأماكن الآمنة والقرى المتواصلة المتقاربة مع كثرة خيراتها بحيث أن المسافر لا يحتاج إلى حمل زوادة السفر ليلاً ونهاراً بل حيث نزل وجد الماء والطعام والمبيت الآمن. وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل المدمّر والتفرق في البلاد. أي بعد هذا النعيم الدنيوي في البلدة الطيبة مكانها ورزقها وهواؤها، والبشرى بالمغفرة وستر الذنوب، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم، فبدلاً من أن يقولوا الحمد لله ويعملوا بما يرضي الله، أعرضوا عن هداه وكذّبوا رسله، فاستحقوا بذلك الهلاك بسبب سوء أعمالهم وإفسادهم.
034.6.2- الآيات (20-27) يخبر سبحانه وتعالى عن الآخرة والبعث وما سيكون فيها من الحساب العادل والجزاء الأبدي.
لقد وعد الله الناس بالتمكين في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة إن هم أطاعوه فأصلحوا في الأرض ولم يفسدوا. كل مخلوقات الله أتوه طائعين أو مكرهين، إلا أن الإنسان اختار أن يطيع الله باختياره، جهلاً منه في تقديره لمشقة الابتلاء وظلماً بحق نفسه وقدرتها على الوفاء. جعل الله دينه الإسلام مقياساً لطاعتهم، إن هم اتبعوا دينه وشرعه سعدوا، وإن اتبعوا إبليس خسروا.
سعادتهم أو شقاءهم في الدارين متوقف على شكر المنعم، وذلك بطاعته أي اتباع دينه. دين الله الإسلام فيه الطاعة لله باتباع أوامره، والإيمان به وبرسله وملائكته واليوم الآخر. جعل الله هذه الطاعة واتباع الدين في أمور تتوافق ولا تتعارض مع فطرتهم، ولا تصلح حياتهم إلا بها. وجعل الإيمان بالله واليوم الآخر من أهم أسباب صلاح أعمالهم، وذلك بسبب خوفهم من الحساب، وانتظارهم الجزاء العادل على الأعمال في الآخرة.
034.6.2.1- الآيات (20-21) كان من الممكن أن يكون اتباع دين الله أمراً سهلاً يفعله الجميع لعدم وجود دين غيره. إلا أن الله لحكمة يعلمها سلط على الناس إبليس ليختبر إيمانهم. ذلك بأن يأمرهم بالباطل وبالشرك ويزينه لهم. لكن دون أن يكون له عليهم سلطان يجبرهم على طاعته، قال تعالى: {لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ (21)}. ولقد ظن إبليس ظناً غير يقين أنه سيضل بني آدم، وأنهم سيطيعونه في معصية الله، فصدّق ظنه عليهم، فأطاعوه وعصوا ربهم إلا فريقاً من المؤمنين بالله، فإنهم ثبتوا على طاعة الله.
034.6.2.2- الآيات (22-27) هذا النعيم والتكريم والحياة السهلة الرغيدة الذي أشارت إليه القصص الثلاثة السابقة يستحق مانحها أن يشكر وأن يحمد. فلما علمنا من قصّة سبأ أن الناس لم يشكروا بل أعرضوا وكفروا، صار لزاماً أن نعلم أنهم استحقوا التدمير والتمزيق وسلب النعمة التي أنعمها الله عليهم. وفي النتيجة تتساءل هذه الآيات وتقرر:
034.6.2.2.1- أن هؤلاء الشركاء (من الأصنام والملائكة والبشر) الذين زعموهم شركاء لله فعبدوهم من دونه وقصدوهم في حوائجهم، فإنهم لا يجيبونهم، فهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وليس لهم شركة فيهما، ولا يعينون على خلق شيء، بدليل عدم نفعهم لهم حين أهلكهم الله في الدنيا. كذلك يقرر سبحانه رداً على ادعائهم بأن آلهتهم تشفع عنده، أنه في الدنيا كما هو في الآخرة لا تنفع عند الله شفاعة الشافع إلا لمن أذن له.
034.6.2.2.2- أن الله هو الرزاق، وأن أحد الفريقين (المؤمنين أو المشركين) على هدى، قاله تلطفاً بهم ليحكموا عقولهم. كذلك لا تسألون عن ذنوبنا ولا نسأل عن ذنوبكم، لأننا بريئون منكم. كذلك الله يجمع بيننا يوم القيامة، ثم يقضي بيننا بالعدل، فهو عليم بما ينبغي أن يقضى به. أمّا أنتم فأروني بالحجة والدليل الذين جعلتموهم لله شركاء في العبادة هل فعلوا شيئاً، كلا بل الله هو المعبود بحق لا شريك له عزيز في انتقامه حكيم في أقواله وأفعاله وتدبير خلقه.
034.6.3- الآيات (28-42) الناس وشكهم المريب في أمر الآخرة التي فيها العدل النهائي والمصير الأبدي.
يقول تعالى وما أرسلناك أيها الرسول إلا للناس أجمعين بشيراً بثواب الله والجنة، ونذيراً من عقابه والنار، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا الحق فهم معرضون عنه.
يقول المشركون مستهزئين: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين. قل لهم: لكم ميعاد هو يوم القيامة، لا تستأخرون عنه، ولا تستقدمون. فاحذروا وأَعِدُّوا له عدته.
وقال الذين كفروا: لن نصدِّق بهذا القرآن ولا بالذي سبقه من الكتب. ولو ترى إذ الظالمون موقوفون للحساب، كل يُلْقي بالعتاب على الآخر، يقول المستضعفون للذين استكبروا: لولا أنتم أضللتمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بالله ورسوله. قال الرؤساء للذين استُضعِفوا: أنحن منعناكم من الهدى بعد إذ جاءكم؟ بل كنتم مجرمين إذ دخلتم في الكفر بإرادتكم مختارين. وقال المستضعفون لرؤسائهم في الضلال: بل تدبيركم الشر لنا في الليل والنهار هو الذي أوقعنا في التهلكة، فكنتم تطلبون منا أن نكفر بالله، ونجعل له شركاء في العبادة، وأسرَّ كُلٌّ من الفريقين الحسرة حين رأوا العذاب الذي أُعدَّ لهم، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا، لا يعاقَبون بهذا العقاب إلا بسبب كفرهم بالله وعملهم السيئات في الدنيا. وفي الآية تحذير شديد من متابعة دعاة الضلال وأئمة الطغيان.
وما أرسلنا في قرية من رسول ينذرهم عذاب الله، إلا كذبهم المترفون. وقالوا: نحن أكثر منكم أموالا وأولاداً، والله لم يعطنا هذه النعم إلا لرضاه عنا، وما نحن بمعذَّبين في الدنيا ولا في الآخرة. قل لهم:
034.6.3.1- إن ربي يوسِّع الرزق في الدنيا لمن يشاء مِن عباده، ويضيِّق على مَن يشاء، يفعل ذلك اختباراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك اختبار لعباده؛ لأنهم لا يتأملون.
034.6.3.2- وليست أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا قربى، وترفع درجاتكم، لكن مَن آمن بالله وعمل صالحاً فهؤلاء لهم ثواب الضعف من الحسنات، وهم في أعالي الجنة آمنون. والذين يسعون في إبطال حججنا، ويصدون عن سبيل الله مشاقين مغالبين، هؤلاء في عذاب جهنم يوم القيامة.
034.6.3.3- قل لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد: إن ربي يوسِّع الرزق على مَن يشاء من عباده، ويضيِّقه على مَن يشاء؛ لحكمة يعلمها، ومهما أَعْطَيتم من شيء فيما أمركم به فهو يعوضه لكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالثواب، وهو خير الرازقين. فاطلبوا الرزق منه وحده، واسعَوا في الأسباب التي أمركم بها.
034.6.3.4- ويوم يحشر الله المشركين والمعبودين من دونه من الملائكة، ثم يقول للملائكة على وجه التوبيخ لمن عبدهم: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون مِن دوننا؟ قالت الملائكة: ننزهك يا الله عن أن يكون لك شريك في العبادة، أنت وليُّنا الذي نطيعه ونعبده وحده، بل كان هؤلاء يعبدون الشياطين، أكثرهم بهم مصدقون ومطيعون.
034.6.3.5- ففي يوم الحشر لا يملك المعبودون للعابدين نفعاً ولا ضرّاً، ونقول للذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
034.6.4- الآيات (43-54) الحجج والدليل على قيام الساعة والبعث:
وإذا تتلى على كفار مكة آيات الله واضحات قالوا: ما محمد إلا رجل يرغب أن يمنعكم عن عبادة الآلهة التي كان يعبدها آباؤكم، وقالوا: ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا إلا كذب مختلق، جئتَ به من عند نفسك، وليس مِن عند الله، وقالوا: ما هذا إلا سحر واضح، يقول تعالى:
034.6.4.1- وما أنزلنا على الكفار مِن كُتُب يقرؤونها قبل القرآن فتدلهم على ما يزعمون من أن ما جاءهم به محمد سحر، وما أرسلنا إليهم قبلك -أيها الرسول- من رسول ينذرهم بأسنا.
034.6.4.2- وكذَّب الذين من قبلهم كعاد وثمود رسلنا، وما بلغ أهل “مكة” عُشرَ ما آتينا الأمم السابقة من القوة، وكثرة المال، وطول العمر وغير ذلك من النعم، فكذبوا رسلي فيما جاؤوهم به فأهلكناهم، فانظر أيها الرسول، كيف كان إنكاري عليهم وعقوبتي إياهم؟ قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين المعاندين: إنما أنصح لكم بخصلة واحدة أن تنهضوا في طاعة الله اثنين اثنين وواحداً واحداً، ثم تتفكروا في حال صاحِبِكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما نسب إليه، فما به من جنون، وما هو إلا مخوِّف لكم، ونذير من عذاب جهنم قبل أن تقاسوا حرها.
034.6.4.3- قل أيها الرسول للكفار: ما سألتكم على الخير الذي جئتكم به من أجر فهو لكم، ما أجري الذي أنتظره إلا على الله المطَّلِع على أعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء فهو يجازي الجميع، كلٌّ بما يستحقه.
034.6.4.4- قل أيها الرسول لمن أنكر التوحيد ورسالة الإسلام: إن ربي يقذف الباطل بحجج من الحق، فيفضحه ويهلكه، والله علام الغيوب، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
034.6.4.5- قل أيها الرسول: جاء الحق والشرع العظيم من الله، وذهب الباطل واضمحلَّ سلطانه، فلم يبق للباطل شيء يبدؤه ويعيده.
034.6.4.6- قل: إن مِلْت عن الحق فإثم ضلالي على نفسي، وإن استقمت عليه فبوحي الله الذي يوحيه إليَّ، إن ربي سميع لما أقول لكم، قريب ممن دعاه وسأله.
034.6.4.7- ولو ترى أيها الرسول إذ فَزِعَ الكفار حين معاينتهم عذاب الله، لرأيت أمراً عظيماً، فلا نجاة لهم ولا مهرب، وأُخذوا إلى النار من موضع قريب التناول. وقال الكفار عندما رأوا العذاب في الآخرة: آمنا بالله وكتبه ورسله، وكيف لهم تناول الإيمان في الآخرة ووصولهم له من مكان بعيد؟ قد حيل بينهم وبينه، فمكانه الدنيا، وقد كفروا فيها. وقد كفروا بالحق في الدنيا، وكذبوا الرسل، ويرمون بالظن من جهة بعيدة عن إصابة الحق، ليس لهم فيها مستند لظنهم الباطل، فلا سبيل لإصابتهم الحق، كما لا سبيل للرامي إلى إصابة الغرض من مكان بعيد.
034.6.4.8- وحيل بين الكفار وما يشتهون من التوبة والعودة إلى الدنيا ليؤمنوا، كما فعل الله بأمثالهم من كفرة الأمم السابقة، إنهم كانوا في الدنيا في شَكٍّ من أمر الرسل والبعث والحساب، مُحْدِث للريبة والقلق، فلذلك لم يؤمنوا.
034.7 الشكل العام وسياق السورة:
034.7.1- اسم السورة: سميت “سورة سبأ” لأن الله تعالى ذكر فيها قصة سبأ وهم ملوك اليمن وقد كان أهلها في نعمة ورخاء وسرور وهناء وكانت مساكنهم حدائق وجنات فلما كفروا النعمة دمرهم الله بالسيل العرم وجعلهم عبرة لمن يعتبر. السورة اسم لأحد الأقوام التي كانت تسكن جنوب الجزيرة العربية وهي سبأ التي ورد اسمها، وورد الإشارة إلى قصة ملكتها التي أسلمت مع سليمان، في سورة النمل.
الله سبحانه وتعالى يجازي على الأعمال في الدنيا أيضاً قبل الآخرة. فقد اعطى داود وسليمان وقوم سبأ فضلاً عظيماً جزاءاً على شكرهم وأعمالهم الصالحة. إلا أن قوم سبأ كفروا فجازاهم بكفرهم.
034.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:
موضوعات السورة هنا هو نفسه موضوعاتها بحسب ترتيب آياتها.
بالنظر إلى السورة باعتبار موضوعات آياتها سنجدها تتكون من مقدمة تبين مقصد السورة وهو وجوب الحمد لله، ثم أربعة مجموعات من الآيات متساوية في عدد آياتها تتحدث عن الأدلة والأسباب التي تدعونا إلى حمد الله وشكره:
034.7.2.0- مقدمة وفيها المقصد: وهو وجوب الحمد لله على كل شيء، في الآيات (1، 2)؛ وفيما يلي الدليل على وجوب الحمد لله:
034.7.2.0.1- الحمد لله على العدل والفضل الكريم في الدنيا، نراه في القصص الثلاثة التي في السورة التي تدلّ على وجوب حمد الله وشكره على نعمه، في الآيات التالية: (10-19، 34، 35، 45) = 13 = 24.07%
034.7.2.0.2- الحمد لله في الآخرة: نجد الدليل عليه في قصص البعث وقيام الساعة، والحساب والجزاء في السورة: وقد أوحى به إلينا في الآيات: (4، 5، 23، 26، 31-33، 40-42، 51، 52، 54) = 13 آية = 24.07%
034.7.2.0.3- الحمد لله على أن ما فعله بالناس هو منتهى العدل وهو ما يستحقونه. وقد كان أكثر الناس في شك مريب: (6-8، 20، 21، 29، 30، 36-39، 43، 53) = 13 = 24.07%
034.7.2.0.4- الحمد لله في الدارين والحمد لله لأنه بيّن ذلك في الآيات (أرسل الرسل وأنزل الكتاب وبين الآيات في الكون وحث على التفكر). بعث إليهم الحكيم الخبير الآيات والرسل بالحجة والدليل على البعث في الآيات: (3، 9، 22، 24، 25، 27، 28، 44، 46-50) = 13 آية = 24.07%
034.7.2.1- المقدمة: الآيات (1، 2) وفيها المقصد وهو وجوب الحمد لله في الدنيا والآخرة:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}، تتنزل منها أقدارنا وأرزاقنا وديننا الذي هو عصمة أمرنا، {وَمَا فِي الْأَرْضِ} التي فيها معاشنا، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ} التي إليها معادنا حيث مستقرّ الأمور ونهاياتها، يغفر لنا الله ويرحمنا ويوفينا أعمالنا ويدخلنا الجنّة بفضله {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} من ماء وغيره، {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من زرع وغيره، {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ} من وحي ورزق وغيره، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من عمل وأرواح وغيره، {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)} خلق ليُحمد على عطائه ورزقه وحكمته وعلمه ورحمته وهديه ومغفرته وعدله وكريم صفاته.
الله يطلب من الناس عمل شيء بسيط محدد، وفي وقت محدد، ليثيبهم عليه (إن هم استجابوا) بأجر عظيم متزايد غير منقطع، في زمن لا نهاية له خالدين فيه أبداً خلود بلا موت. والعمل الذي طلب من الناس فعله قد جعل أصلاً لصلاح حياتهم، فهم المستفيدون منه أولاً وأخيراً. لقد طلب منهم أن يلتزموا بالفطرة التي فطرهم عليها، فيعملوا الصالحات ولا يفسدوا. فيثيبهم إن هم أطاعوا ذلك ثواباً عظيماً لا يخطر على قلب بشر، ويليق بكمال الله لا بما يستحقه الإنسان، بعضه في الدنيا وكماله في الآخرة.
إن حب الإنسان لرغباته وشهواته لا نهاية له، فلو كان له وادٍ من ذهب لتمنّى الثاني كما في الحديث. فهو دائم السعي نحو تحقيق أقصى ما يستطيع الحصول عليه من الرزق والأموال والأولاد. الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض هو وحده من يحقق لهم رغباتهم. ذلك إن هم آمنوا وعملوا الصالحات فلهم منه مغفرة ورزق كريم. يرزقهم منها في الدنيا ويحققها كاملة في الآخرة، خلود بلا موت، وجنات تجري من تحتها الأنهار لهم فيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ له الأعين. فضلاً من الله ونعمة وهو خير الرازقين.
تبين السورة أن الله هو الذي يرزق من السماوات والأرض، وقد تكررت كلمة الرزق في السورة 6 مرات في الآيات (4، 15، 24، 36، 39)، وتكررت {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} في الآيات (36، 39). فاطلبوا الرزق من الله وحده واشكروه على ذلك بالعمل الصالح والإنفاق، فالله يعوضه لكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالثواب. فالحمد لله هو خير الرازقين يوسع على عباده بلا حساب. لم يصنعوا له شيئاً يكافئهم عليه، بل فضله ورحمته عليهم سابغة إن هم رحموا أنفسهم بفعل الخيرات وترك المنكرات، يعطيهم عطاءاً بلا حساب، تدهش له العقول. الله لم يخلقهم ليعذبهم ولكن ليكرمهم. وقد جعلت السورة الدليل على ذلك في الثلاثة قصص التي تضمنتها في الآيات التالية:
034.7.2.1.1- الحمد لله على العدل والفضل الكريم في الدنيا، نراه في القصص الثلاثة التي في السورة التي تدلّ على وجوب حمد الله وشكره على نعمه، في الآيات التالية: (10-19، 34، 35، 45) = 13 = 24.07%
الله خلق الناس ليطيعوه فيرحمهم ويغفر لهم، ويكرمهم بلا حدود ويسعدهم، ولم يخلق الناس لكي يعصوه فيعذبهم، بل هو حين أكرمهم وأترفهم بمنه وكرمه لم يحمدوه ولم يشكروه بل استمعوا لإبليس عدوهم وحمدوا الأوثان. القصص التالية تبين عظيم تكريم الله للإنسان حين يشكر، وعقابه له وسلب نعمته وتكريمه له حين يكفر.
034.7.2.1.1.1- يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام: مما آتاه من الفضل المبين وجمع له بين النبوة والملك المتمكن والجنود ذوي العدد والعُدد وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم الذي كان إذا سبّح به تسبّح معه الجبال الراسيات الصم الشامخات وتقف له الطيور السارحات والغاديات والرائحات وتجاوبه بأنواع اللغات، والتأويب في اللغة هو الترجيع فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها. وألان له الحديد يفتله كالخيوط يصنع منه الدروع، كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا، فلذلك أمر هو بالتقدير في السرد أي حلق الحديد فيما يجمع من الخفة والحصانة. اعملوا بما أعطاكم الله من النعم صالحاً، إنه بصير عالم بخفيات الأمور.
034.7.2.1.1.2- لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان عليهما السلام من تسخير الريح له تحمل بساطه غدوها شهر ورواحها شهر. وأذاب له عين النحاس، وأجراها له. وسخر له الجن يعملون بين يديه بإذن ربه، ما يشاء من البنايات وغير ذلك، ومن يخرج منهم عن طاعته يذقه من عذاب السعير، وهو الحريق.
يعملون له ما يشاء من أبنية مرتفعة يصعد إليها بدرج وتماثيل من نحاس وزجاج ورخام، وأحواض كبيرة، وقدور ثابتات لا تتحرك عن أماكنها لعظمها. وقال لهم ربهم “اعملوا” يا “آل داود” بطاعة الله “شكرا” له على ما آتاكم “وقليل من عبادي الشكور” العامل بطاعتي شكرا لنعمتي.
وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وقليل من يفعل ذلك، لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية، بحسب سابق التقدير، أي اعملوا عملا هو الشكر. والصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسده، ويبين هذا قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم (24)} ص، وهو المراد بقوله {وقليل من عبادي الشكور}.
ويذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه السلام وكيف عمى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاهقة فإنه مكث متوكئا على عصاه مدة طويلة نحوا من سنة فلما أكلتها دابة الأرض ضعفت وسقط إلى الأرض وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة تبينت الجن (والإنس أيضاً) أن الجن لا يعلمون الغيب.
034.7.2.1.1.3- كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها (وكانت بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام المذكورة في سورة النمل من جملتهم). ويذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهنيء الرغيد والبلاد المرضية والأماكن الآمنة والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها بحيث إن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء بل حيث نزل وجد ماء وثمراً ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم. والأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا ونهارا. فأعرضوا عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم (وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام في سورة النمل).
لما بطروا نعمة الله عليهم وإحسانه إليهم، وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة، وهذا من الدلالة على جهلهم بمقدار العافية؛ عجل لهم ربهم الإجابة، أعطاهم ما رغبوا إليه فيه وطلبوا من المسألة. فأرسل عليهم سيل العرم، وجعل طعامهم أثلا وخمطا وشيئا من سدر قليل (شجر برّي لا يؤكل ثمره). قال جل ثناؤه: لا يجازى على عمله إلا الكفور، وأما المؤمن فإنه يتفضل عليه، ويكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يثاب.
إِنَّ فيما ذكر من قصتهم، وما حل بهم من النقمة والعذاب، وتبديل النعمة وتحويل العافية على ما ارتكبوه من الكفر والآثام: لعبراً عظيمة لكل عبد صبار (على المصائب والشهوات والهوى والآثام)، شكور (على النعم).
034.7.2.1.1.4- الترف والنعمة وكثرة الأموال والأولاد هي من أعظم أسباب الكفر والتكذيب:
034.7.2.1.1.4.1- الآيات (34، 35) يخبر سبحانه بأنه ما بعث إلى أهل قرية نذيرا ينذرهم بأسه وحسابها، إلا قال كبراؤها ورؤساؤها والمترفون منهم: إنا بما أرسلتم به كافرون. وقالوا: نحن أكثر منكم أموالاً وأولاداً، والله لم يعطينا هذه النعم إلا لرضاه عنا، وما نحن بمعذبين في الدنيا ولا في الآخرة.
034.7.2.1.1.4.2- الآية (45) وكذب الذين من قبلهم من الأمم رسلنا وتنزيلنا، وكانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد، أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.
034.7.2.2- الحمد لله في الآخرة: نجد الدليل عليه في قصص البعث وقيام الساعة، والحساب والجزاء في السورة: وقد أوحى به إلينا في الآيات: (4، 5، 23، 26، 31-33، 40-42، 51، 52، 54) = 13 آية = 24.07%
هؤلاء الكفار في كفر وشك يدعو إلى العجب والريبة من أمرهم: فجميع الدلائل من العقل والوحي والرسل تؤكد أنه لا بد من قيام الساعة لإقامة العدل بين الناس، ليجزي الله الذين آمنوا، ويعذب الكافرين.
034.7.2.2.1- الآيات (4، 5) الحكمة تقتضي قيام الساعة وإعادة الأبدان وجزاء المحسن والمسيء، لينعم السعداء من المؤمنين، ويعذب الأشقياء من الكافرين.
034.7.2.2.2- الآية (23) يقول تعالى: فإذا كانت الشفاعات لا تنفع عند الله أحداً إلا لمن أذن الله في الشفاعة له، حتى إذا كشف الفزع عنهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة: الحق وهو العلي على كل شيء، الكبير الذي لا شيء دونه. فأنّى ينال الشفاعة جماد لا يعقل، أو عدو لله، تعبدونه، ليقربكم إلى الله زلفى، وليشفع لكم عند ربكم، فتبين كذبهم فيهم أنهم شفعاء، بأجلى بيان وأفصح مقال.
034.7.2.2.3- الآية (26) يوم القيامة يجمع بين الخلائق في صعيد واحد ثم يحكم بينهم بالعدل فيوفى كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وسيعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية.
034.7.2.2.4- الآيات (31-33) قالوا: لن نؤمن بالقرآن ولا بالمعاد. قال الله عز وجل مخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم، يقول الضعفاء لولا أنتم تصدونا لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاءونا به. فيقول القادة والسادة الذين استكبروا نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل، بل أنتم اصررتم على الكفر. وقال الضعفاء بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا وتغرونا وتمنونا وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شيء فإذا جميع ذلك باطل وكذب إذ تأمروننا أن نجعل لله آلهة معه، وندموا جميعاً على ما فرطوا من طاعة الله في الدنيا حين عاينوا عذاب الله الذي أعده، وجعلنا الأغلال التي تجمع أيديهم مع أعناقهم إنما نجازيكم بأعمالكم في الدنيا كل بحسبه.
034.7.2.2.5- الآيات (40-42) ويوم يحشر الله المشركين، ثم يقول للملائكة: أهؤلاء كانوا يعبدونكم من دوننا؟ قالوا تعاليت وتقدست، نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء {بل كانوا يعبدون الجن} يعنون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم. قال الله عز وجل فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا، ونقول ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا.
034.7.2.2.6- الآيات (51، 52، 54) ولو ترى إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة، فلا مفر لهم ولا ملجأ، وأخذوا من قبورهم من أول وهلة. يقولون (أي يوم القيامة) آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل، يرجمون بالظن كقولهم ساحر، مجنون، لا بعث ولا جنة ولا نار. وحيل بينهم وبين النجاة من العذاب، وكذلك حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة فمنعوا منه، أي كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم، أي كانوا في الدنيا في شك وريبة فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب.
034.7.2.3- الحمد لله على أن ما فعله بالناس هو منتهى العدل وهو ما يستحقونه. وقد كان أكثر الناس في شك مريب: (6-8، 20، 21، 29، 30، 36-39، 43، 53) = 13 = 24.07%
034.7.2.3.1- الآيات (6-8) المؤمن تعلّم فعلم بأنه الحق، الكافر اتبع الكذب فضل عن الحق:
ويرى الذين أوتوا العلم بكتاب الله من أصحاب رسول الله، ومن تبعهم من المسلمين أن الكتاب الذي أنزل إليك يا محمد من ربك هو الحق، ويرشد من اتبعه، وعمل بما فيه إلى سبيل الله. العزيز في انتقامه من أعدائه، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
أما الكفرة الملحدين فيستبعدون قيام الساعة متعجبين ومستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم (فلم يذكروا اسمه سخرية، وهو مشهور في قريش) في إخباره لهم أنكم بعد تمزقكم فتصيرون تراباً رفاتاً، عائدون كهيئتكم قبل الممات خلقا جديدا. يقولون إنه إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله تعالى، أو أنه لكن لبس عليه كما يلبس على المجنون. بل هم الكذبة وفي الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى، والضلال من الحق في الدنيا.
034.7.2.3.2- الآيات (20، 21) قد صدق عليهم إبليس ظنه الذي ظن حين قال إن أكثرهم لا يشكرون:
هاتين الآيتين بعد قصة سبأ تقرران أن إبليس قد صدق على كَفَرَة بني آدم في ظنه (إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات، أو ببني آدم حينما رأى ما ركّب فيهم من الشهوة والغضب). علم أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله، فصدق ظنه عليهم، بإغوائه إياهم، حتى أطاعوه، وعصوا ربهم، إلا فريقا من المؤمنين، فإنهم ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس. وحين دعاهم إبليس بالأماني والخدع والضلالات ما أكرههم على شيء، إنما سلطه الله عليهم ليظهر من يؤمن بالآخرة والحساب فيحسن العمل ممن هو منها في شك. ومع حفظه ضل من ضل من اتباع إبليس وبحفظه وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
034.7.2.3.3- الآيات (29، 30) هؤلاء الكفار في شك مريب يسألون متى تأتي القيامة. قل لكم قبل يوم القيامة وقت معين تموتون فيه فتعلمون الحقيقة.
034.7.2.3.4- الآيات (36-39) بعد بيان أن الترف سبب الكفر والفساد. لأنهم ظنوا أن تكديس الأموال وإكثار الأولاد هو الصلاح ولم يعلموا أن كل هذا بتقدير وتوزيع من الله، وأن العمل الصالح والإنفاق هو المطلوب.
يقول تعالى: قل لهم أيها الرسول: إن الله يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب فيفقر من يشاء ويغني من يشاء اختباراً لعباده، وله في ذلك الحكمة التامة والحجة القاطعة ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنهم لا يتأملون. وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، إلا من آمن وعمل صالحا، فهؤلاء تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وهم في غرفات الجنات آمنون من عذاب الله. والذين يسعون في إبطال حجج الله، ويصدون عن سبيله مشاقين مغالبين، هؤلاء في عذاب جهنم يوم القيامة، محضرون لا يخرجون منها.
قل يا محمد إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من خلقه ويضيق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة وهو خير الرازقين.
034.7.2.3.5- الآية (43) يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غضة طرية من لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قالوا: {يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} يعنون أن دين آبائهم هو الحق وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل عليهم وعلى آبائهم لعائن الله تعالى.
034.7.2.3.6- الآية (53) بعد أن بينت الآية السابقة أن الكفار (عندما رأوا العذاب في الآخرة) قالوا: آمنا بالله وكتبه ورسله. وقد حيل بينهم وبينه، فمكانه الدنيا، وقد كفروا فيها.
تقرر هذه الآية أنهم قد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل، يرجمون بالظن كقولهم ساحر، مجنون، لا بعث ولا جنة ولا نار. ويرمون بالظن من جهة بعيدة عن إصابة الحق، ليس لهم فيها مستند لظنهم الباطل، فلا سبيل لإصابتهم الحق، كما لا سبيل للرامي إلى إصابة الغرض من مكان بعيد.
034.7.2.4- الحمد لله في الدارين والحمد لله لأنه بيّن ذلك في الآيات (أرسل الرسل وأنزل الكتاب وبين الآيات في الكون وحث على التفكر). بعث إليهم الحكيم الخبير الآيات والرسل بالحجة والدليل على البعث في الآيات: (3، 9، 22، 24، 25، 27، 28، 44، 46-50) = 13 آية = 24.07%
تبين هذه الآيات الأسباب التي توجب أن يقول الإنسان الحمد لله:
034.7.2.4.1- الآية (3) يقول الكفار لن تأتي الساعة منكرين لها. فيأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد. فالله لا يغيب عنه أي شيء، الجميع مندرج تحت علمه، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت ثم يعيدها كما بدأها أول مرة.
034.7.2.4.2- الآية (9) أفلم ير هؤلاء الكفار عظيم قدرة الله فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض مما يبهر العقول، وأنهما قد أحاطتا بهم؟ لم يشأ الله أن يأمر الأرض فتنخسف بهم، أو السماء فتسقط عليهم كسفاً. الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض وما فيهن قادر على تعجيل العقوبة لهم، فكيف يأمنون الخسف والكسف.
034.7.2.4.3- الآية (22) عجز الآلهة التي يزعمون: يقول تعالى ذكره: هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند شركائكم قدرة على شيء من ذلك. وهذا خطاب توبيخ، وفيه إضمار: أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك. وما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء.
034.7.2.4.4- الآيات (24، 25) يقول تعالى مقررا تفرده بالخلق والرزق، لأن له ما في السماوات والأرض. فكما أنه لا يرزقهم من السماء والأرض، بما ينزل من المطر وينبت من الزرع إلا الله فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره. وأحد الفريقين مبطل والآخر محق، فلا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال بل واحد منا مصيب ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله تعالى. قل لستم منا ولا نحن منكم بل ندعوكم إلى الله تعالى وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم برآء منا.
034.7.2.4.5- الآية (27) قل أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا وصيرتموها له عدلا، {كلا، بل هو الله} ذو العزة، الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره تبارك وتعالى وتقدس عما يقولون علوا كبيرا.
034.7.2.4.6- الآية (28) الحمد لله لأنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين: وما أرسلناك يا محمد إلا كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيرا من أطاعك، ونذيرا من كذبك، ولكن أكثرهم لا يعلمون، لاختيارهم الجهل وتكذيبهم ما جئتهم به من الكتاب.
034.7.2.4.7- الآية (44) أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يودون ذلك ويقولون لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا فلما من الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.
كفروا كذبوا بسبب تقليدهم الأعمى للآباء. وشك مريب بالحق والآيات، ولا يحق لهم الشك لأن الآيات التي البينات التي تتلى عليهم لم تأتيهم من قبل ولم تأت آباءهم الذين يقلدونهم، والذين أهلكهم الله لمّا كفروا كذبوا.
034.7.2.4.8- الآيات (46-50) يأمر سبحانه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يستمر بوعظهم ويحاججهم وينذرهم كما يلي:
034.7.2.4.8.1- لأن الأمر جد خطير عليهم أن يقوموا ويتفكروا من غير هوى ولا عصبية، فسيعلمون عندها أن محمد صلى الله عليه وسلم نذير من العذاب لا مجنون أو ساحر كما يزعمون.
034.7.2.4.8.2- أنه لا يريد منهم أجر ولا يطمع من دنياهم في شيء، فإذا كان سألهم شيء فهو لهم، (والمراد نفي السؤال رأساً، فالله شاهد على كل ما يحصل بينهم وبين النبي.
034.7.2.4.8.3- يبين لهم الحجة ويظهرها يقذف بالحق فهو عالم بجميع الأمور.
034.7.2.4.8.4- قل جاء الحق من الله والشرع العظيم، فأي شيء بقي للباطل حتى يعيده ويبدئه. أي لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة. وقيل وجه النظم: قل إن ربي يقذف بالحق ويبين الحجة، وضلال من ضل لا يبطل الحجة.
034.7.2.4.8.5- ولو ضللت لأضررت بنفسي، لا أنه يبطل حجة الله، وإذا اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب.
034.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
034.7.3.1- آيات القصص: (6-22، 28-30، 34، 35، 43-47) = 27 آية.
034.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (23، 31-33، 40-42، 51، 52، 54) = 10 آيات.
034.7.3.3- الأمثال في الآيات: (48، 49، 53) = 3 آيات.
034.7.3.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (1-3، 36) = 4 آيات.
034.7.3.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (4، 5، 24-27، 37-39، 50) = 10 آيات.
034.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
034.8.1- سنة الله وفطرته مخلوقاته على طاعته:
لقد علمنا من سورة الأحزاب: أن الله خلق المخلوقات وسن لها سننها ووضع لها قوانينها، وأمرها بطاعته لأنه وحده يعلم ما فيه سلامتها، فأتته كل المخلوقات طائعين مستسلمين، إلا أن الإنسان أراد لنفسه أن يطيع بإرادته مختاراً غير مكره على شيء، وبتقديره هو لا بجبر من الله، فجعل الله للإنسان ما أراد. ومن رحمة العليم الخبير بالإنسان (الذي ظلم نفسه بهذا الاختيار) لم يتركه يتصرف لوحده بدون إرشاد ولا دليل، بل أرسل له المرسلين بالآيات البينات والحجج، وقص عليه القصص وضرب له الأمثال، وجعل له الدروس والعبر، والأوامر والنواهي لأجل سلامته. أما سورة سبأ: فهي تبين وتقيم الدليل على أن الله يستحق أن يشكر وأن يحمد في الدنيا بسبب عدله وواسع فضله وكرمه على الإنسان إن هو استقام على الهدى ولم يفسد، وفي الآخرة لأنه حاسبهم على أعمالهم وجازاهم بعدله لا بقدر أعمالهم، وتغمدهم برحمته وكافأهم بمزيد فضله. وفي الآخرة يعلم الإنسان أنه ظلم نفسه بحمله الأمانة، لأنه باختياره هذا أوقع نفسه تحت طائلة الحساب، وأنه لو رضي ما اختاره الله له من الطاعة كباقي المخلوقات لكان خيراً له، فالله له كل شيء وأن إرادته هي الغالبة، وشرعه فوق كل الشرائع، هو الحق، يقذف بالحق علام الغيوب، وما يبدئ الباطل وما يعيد. سورة فاطر تؤكد وتقيم الدليل على أن الله هو فاطر السماوات والأرض، وجعل فيها سنناً ثابتة لا تتغير، ورسم لها طريقاً واحداً لا تتجاوزه، الكل في طاعته وتحت سيطرته، لا يغيب عنه شيء. أكرم الناس فحملوا الأمانة، وجعلهم خلائف الأرض، يقيمون شرعه العادل ويلتزمون صراطه المستقيم، فإن هم آمنوا وعملوا الصالحات فازوا بمغفرة الله وأجره الكريم في الدنيا والآخرة، وإن هم كفروا وأفسدوا فلهم عذاب شديد.
034.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: يظهر أن وجه اتصالها بما قبلها هو أن تلك لما ختمت بقوله: {ليُعذبَ اللَهُ المُنافقينَ والمُنافِقات والمُشركينَ والمُشرِكات ويتوب اللَهُ على المؤمنينَ والمؤمنات} افتتحت هذه بأن له ما في السماوات وما في الأرض وهذا الوصف لائق بذلك الحكم فإن الملك العام والقدرة التامة يقتضيان ذلك وخاتمة سورة الأحزاب: {وكانَ اللَهُ غَفوراً رَحيماً} وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ: {وهوَ الرحيم الغفور}.
034.8.3- وقال أبو جعفر بن الزبير: افتتحت بالحمد لله لما أعقب بها ما انطوت عليه سورة الأحزاب من عظيم الآلاء وجليل النعماء حسب ما أبين – آنفاً – يعني في آخر كلامه على سورة الأحزاب – فكان مظنة الحمد على ما منح عباده المؤمنين وأعطاهم فقال تعالى {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} ملكاً واختراعاً، وقد أشار هذا إلى إرغام من توقف منقطعاً عن فهم تصرفه سبحانه في عباده بما تقدم وتفريقهم بحسب ما شاء فكأن قد قيل: إذا كانوا له ملكاً وعبيداً، فلا يتوقف في فعله بهم ما فعل من تيسير للحسنى أو لغير ذلك مما شاءه بهم على فهم علته واستطلاع سببه، بل يفعل بهم ما شاء وأراد من غير حجر ولا منع {وهو الحكيم الخبير} وجه الحكمة في ذلك التي خفيت عنكم، وأشار قوله {وله الحمد في الآخرة} إلى أنه سيطلع عباده المؤمنين – من موجبات حمده ما يمنحهم أو يضاعف لهم من الجزاء أو عظيم الثواب في الآخرة – على ما لم تبلغه عقولهم في الدنيا ولا وفت به أفكارهم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين (17)} السجدة. ثم أتبع سبحانه ما تقدم من حمده على ما هو أهله ببسط شواهد حكمته وعلمه فقال تعالى {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} إلى قوله {وهو الرحيم} فبرحمته وغفرانه أنال عباده المؤمنين ما خصهم به وأعطاهم، فله الحمد الذي هو أهله، ثم أتبع هذا بذكر إمهاله من كذب وكفر مع عظيم اجترائهم لتتبين سعة رحمته ومغفرته فقال تعالى {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة} إلى قوله: {إن في ذلك لآية لكل عبد منيب} أي إن في إمهاله سبحانه لهؤلاء بعد عتوهم واستهزائهم في قولهم {لا تأتينا الساعة} وقوله: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أنكم لفي خلق جديد} وإغضائهم عن الاعتبار بما بين أيديهم من السماء والأرض وأمنهم أخذهم من أي الجهات وفي إمهالهم وإدرار أرزاقهم مع عظيم مرتكبهم آيات لمن أناب واعتبر، ثم بسط لعباده المؤمنين من ذكر الآية ونعمه وتصريفه في مخلوقاته ما يوضح استيلاء قهره وملكه، ويشير إلى عظيم ملكه كما أعلم في قوله سبحانه {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} فقال سبحانه {ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد} ثم قال {ولسليمان الريح} إلى قوله: {اعملوا آل داود شكراً} ثم أتبع ذلك بذكر حال من لم يشكر فذكر قصة سبأ إلى آخرها، ثم وبخ تعالى من عبد غيره معه بعد وضوح الأمر وبيانه فقال {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} إلى وصفه حالهم الأخروي ومراجعة متكبريهم ضعفائهم وضعفائهم متكبريهم {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} ثم التحمت الآي جارية على ما تقدم من لدن افتتاح السورة إلى ختمها – انتهى.