العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
036.0 سورة يس
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
036.1 التعريف بالسورة:
1) مكية؛ ماعدا الآية (45) فمدنية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 83 آية. 4) السادسة والثلاثون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والحادية والأربعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة الجن. 6) أسماء أخرى للسورة: سماها صلى الله عليه وسلم قلب القرآن. أخرجه الترمذي من حديث أنس. وأخرج ابن مردويه من طريق ابن عباس قال “يس” محمّد صلى الله عليه وسلّم. وفي لفظ قال: يا محمد. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن محمد بن الحنفيّة في قوله “يس” قال: يا محمد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله “يس” قال: يا إنسان محمد. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن وعكرمة والضحاك مثله. وقيل أن أسمائها: يس والقلب والدافعة والقاضية والمعمة. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
{الله} 3 مرات، رب 6 مرّات، خلق 5 مرّات، الرحمن 4 مرات، العليم 3 مرات؛ (2 مرّة): هو، رحيم، عزيز؛ (1 مرّة): الخلاق، قادر، يُعَلّم، يَعْلَم، بيده ملكوت كل شيء، أحيا، مخرج، كتب، أحصى. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها: {هو الخلاق العليم} هي وسورة الحجر، {بيده ملكوت كل شيء} هي وسورة المؤمنون، {إلا صيحة واحدة} 3 مرات، مسخ 1 مرة، جبلاً 1 مرة.
أكثر سورة تكررت فيها: صيحة 3 مرات.
وتكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: خلق 10 مرات، مرسل 7 مرات؛ (6 مرات): تنذر، يد؛ (5 مرات): جعل، يعلم، آية، يرجعون؛ (4 مرات): آمن، أعبد؛ (3 مرات): صراط، الأرض، ذكر، محضرون، كفر؛ (2 مرّة): قرآن، مستقيم، سماء، سبحان، خلف، سد، أجر، أزواج، جميع، يعقلون، يستطيعون، غفر، كذب؛ (1 مرة): ترحمون، رحمة، شيطان، أخرجنا، شغل، حسرة، صريخ، نسلخ، جهنم، طمس، نكس.
036.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
عن معقل بن يسار رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: “قلب القرآن يس، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، اقرؤوها على موتاكم”.
أخرج البزار عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لوددت أنها في قلب كلّ إنسان من أمتي” يعني (يس).
أخرج الدارمي عن عطاء بن أبي رباح قال بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “من قرأ (يس) في صدر النهار قضيت حوائجه”.
أخرج الطبراني في الأوسط عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المنافق لا يحفظ سورة هود وبراءة ويس والدخان وعمّ يتساءلون”.
أخرج الدارقطني في السنن عن عائشة رضي الله عنها “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات يقرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بيس”.
036.3 وقت ومناسبة نزولها:
نزلت خلال منتصف الفترة المكّية، تسرد سيرة الإنسان من بداية خلقه إلى نهاية معاده، واستهزائه بالمرسلين وغفلته وتطاوله على الحق، فهو نفس الإنسان لا يتغير بتغير الأجيال ولا بتغير الزمان أو المكان. وقد يبدو أيضاً من أسلوبها أنها نزلت ما بين مرحلتي المنتصف والمرحلة الأخيرة من وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكّة. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.
036.4 مقصد السورة:
036.4.1- مقصدها: التأكيد على صدق الرسالة والمرسل بها وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأنه على الصراط المستقيم، لينذر الناس بأن أعمالهم محصاة عليهم وأنهم محاسبون يوم القيامة. وتروي نبأ رحمة الله وحكمته وعظيم صفاته وهو يمدّ لعباده حبال النجاة ويهديهم سواء السبيل، يرسل المرسلين ليهدوهم إلى صراطه المستقيم، بينما هم في غفلة وجهل وظلم لأنفسهم، يكذبون الرسل ويستهزئون ويعرضون، بل ويعبدون الشيطان عدوهم المبين، وبغير الله يستنصرون. الله بيده كل شيء خلقهم ثم يميتهم ثم يبعثهم ليحاسبهم، يريد أن يرحمهم وأن يعدل بينهم. يؤكد لهم صدق رسالته إليهم والمرسلين، وما أرسلوا به من بشارة للمؤمنين بأنهم على الصراط المستقيم، وأن مصيرهم الجنّة؛ ونذير ووعيد للمكذبين، بأن أعمالهم يحصيها لهم ثم يحاسبهم عليها يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً ولا يجزون إلا ما كانوا يعملون. ثم ما انتهى إليه أمر العباد بأن كذب أكثرهم فأدخلوا النار، وآمن بعضهم ففازوا بالجنة.
036.4.2- مقصدها نجده في الآيات الأولى (1-7)، يقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم، بأن محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وأنه على صراط مستقيم، وأنه أنزل عليه القرآن لينذر به قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، وأنه قد حق القول بعلمه على أكثرهم فهم لا يؤمنون.
أحداث هذه السورة هي رواية مؤلمة عن أفعال الناس مع خالقهم ورازقهم وناصرهم، وعن وعيده لهم على جهلهم وظلمهم لأنفسهم بتعريضها للعقاب. خلقهم لعبادته فعبدوا الشيطان، يتحدث إليهم فلا يسمعون ويناديهم فلا يجيبون ويهديهم فلا يهتدون. فيها آيات وعبر بليغة لمن يعتبر، تروي بعتاب شديد، كفرهم واستهزائهم برسله، وإعراضهم عما أنزله عليهم من موجبات رحمته وعدله. وتتحسّر على غفلتهم وغياب حجتهم ومنطقهم. لا عقل لهم فيتفكرون ولا علم عندهم فيتدبرون ولا شعور فيراقبوا أعمالهم. عصى أكثرهم وجعلوا لله شركاء، واستنصروا بغيره من المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع. لقد حملوا أمانة التكليف بطاعة الله ثم خانوها بعبادة غيره، اختاروا العذاب على التكريم والدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
السورة هي كذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وسلام على المؤمنين، لأنها تؤكد من بدايتها صدق الرسالة، وتبين أنها إنما نزلت رحمة بالناس لتنذرهم (آية 6). وتبيّن أن الله سبحانه قضى وقدر، وحق قدره على أكثر الناس، بما علمه من حقيقتهم أنهم لا يؤمنون (آية 7)، ولم تعد تنفعهم الآيات والنذر. وتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة. ثمّ قريباً من نهايتها، تعود إلى الموضوع ذاته.
036.4.3- وقال الإمام البقاعي في نظم الدرر: مقصودها إثبات الرسالة التي هي روح الوجود وقلب جميع الحقائق، وبها قوامها وصلاحها. للمرسل بها الذي هو خالصة المرسلين الذين هم قلب الموجودات كلها. إلى أهل مكة أم القرى وقلب الأرض، وهم قريش قلب العرب الذين هم قلب الناس، بصلاحهم صلاحهم كلهم، وبفسادهم فسادهم، فلذلك كان من حولهم جميع أهل الأرض. وجل فائدة الرسالة إثبات الوحدانية التي هي قلب الاعتقاد وخالصه وعموده للعزيز الرحيم ذي الجلال والإكرام، وإنذار يوم الجمع الذي به، صلاح الخلق، فهو قلب الأكوان، وبه الصلاح أو الفساد للإنسان.
036.5 ملخص موضوع السورة:
036.5.1- وباعتبار ترتيب آياتها احتوت على خمسة مواضيع: تبدأ (12 آية) بالتأكيد بالقسم بأنّ الرسول من المرسلين ولكنهم لا يؤمنون، ثمّ (20 آية) ضرب الأمثلة على إرسال المرسلين وتكذيبهم، ثمّ (15 آية) إشارة إلى آيات الله في الأرض والسماوات وفي أنفسهم وإعراضهم عنها، ثمّ (23 آية) عن القيامة تأتي فجأة فلا يرجعون، ثمّ (13 آية) عن تكريم الله للناس مقابل إساءتهم لأنفسهم، كما يلي:
(الآيات 1-12) القَسَم بالقرآن: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)}، أنزل على رسوله القرآن لينذر الناس بأن أعمالهم محصاة عليهم وأنهم محاسبون يوم القيامة، لكنّ أكثر الناس لا يؤمنون. (الآيات 13-32) ضرب المثل بالقرية التي جاءها اثنان من المرسلين منذرين وعززهم الله بثالث، ولكن للأسف ما أتى العباد من رسول إلا كانوا به يستهزؤون. (الآيات 33-47) آيات الله ورحمته وعنايته بإحياء الأرض وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر وجعل الفلك وغيرها من المراكب، وإنقاذهم من المخاطر إلى أجل لعلهم يستدركون ما فرّطوا فيه، فإذا قيل لهم احذروا أمر الآخرة وأنفقوا من رزق الله رجاء رحمته لكم، أعرضوا وسخروا. (الآيات 48-70) ويسألون مكذّبين ومستهزئين متى هذا الوعد بالبعث والحساب، فما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم فجأة وهم مشغولون، عندها لن يُمهلوا ولن يرجعوا لتدارك ما فاتهم من العمل، فقد جاء الوعد والحساب، فيفصل بينهم بأعمالهم وبما كسبت أيديهم، فئتان: فائزون بالجنة وهم عباد الله، وخاسرون في النار وهم عبدة الشيطان. (الآيات 71-83) الله خلقهم وملّكهم الأشياء وذلّلها لهم، ليشكروه ويؤمنوا برسله ويتّبعوا هديه، فإذا هم يخاصمونه ويستنصرون بالآلهة من دونه، فأساؤوا لأنفسهم، فالله غني عنهم وهو قادر على أن يخلق مثلهم، سبحانه إليه مرجعهم فيحاسبهم على أعمالهم.
036.5.2- أما باعتبار موضوعاتها فتنقسم إلى ستة موضوعات في نصفين متساويين تقريباً: الأول فيه خطاب الله تعالى (بمنتهى الرحمة) للناس عن المقصد من وجودهم وإرسال المرسلين مبلّغين مع بيان الآيات. والنصف الثاني فيه بيان (منتهى الغفلة المتمثل بِ) كفر أكثر الناس وتكذيبهم وتطاولهم على المرسلين، وإمهال الله لهم وعدم معاجلته لهم بالعقاب، بل تهديده لهم بالعقاب في الدنيا والآخرة رحمة بهم لعلهم يرجعون، وأن مصيرهم في الدارين مترتب على أعمالهم في الدنيا، كما يلي:
النصف الأول: (16 آية) إنذار الناس بأنهم مبتلون بالعبادة واتباع الصراط المستقيم، وتحذيرهم من الكفر وعبادة الشيطان الذي هو لهم عدو مبين. من أجل ذلك أنزل تعالى الوحي وأرسل الرسل تبين لهم أن أعمالهم تسجل عليهم ليحاسبوا عليها يوم القيامة. ثمّ (11 آية) يضرب تعالى المثل عن إرسال المرسلين فيمن سبقهم من القرى، وأن الغرض من إرسال المرسلين هو البلاغ المبين، ولكن أكثر الناس مكذبون. ثمّ (14 آية) تبين آياته تعالى في السماوات والأرض، وفي الخلق وتسخير المخلوقات والنعم والإحياء والإماتة، لكي يحثهم ويرغبهم بالطاعة ولكي يشكروا ويطيعوا، لكنهم مع ذلك اتخذوا من دونه الآلهة. النصف الثاني: (9 آيات) عن استهزاء أكثر الناس بالمرسلين، وظلمهم لأنفسهم وتكذيبهم وعدم إيمانهم بالحق؛ ثمّ (12 آية) إمهال الله للناس لكي يسمعوا رسله ويتدبروا آياته ويعتبروا من مصير من سبقهم من الأمم، ولو شاء أن يعاجلهم بالعذاب والعقوبة لفعل ذلك. ثمّ (21 آية) يخبر فيها تعالى عن تحقق وقوع الجزاء على الأعمال، ويبين أن مصير الناس في الدنيا والآخرة مترتب على هذه الأعمال.
اللهم اغفر لنا ولا تعذبنا ولا تجعلنا من الغافلين المعرضين، وأكرمنا وأدخلنا الجنّة واجعلنا من الصابرين الشاكرين.
036.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
نتقسم السورة بحسب ترتيب آياتها إلى خمسة مجموعات من الآيات. وكل مجموعة تعيد بيان وتأكيد مقصد السورة بآيات مختلفة وبطريقة مغايرة. مقصدها الذي هو أن الله سيحاسب الناس على أعمالهم التي اقترفوها في الدنيا، ذلك أنه تعالى ابتلاهم باتباع دينه القويم بالعبادة لله وحده والعمل الصالح وإنفاق المال، واجتناب عبادة الشيطان الذي أضل الكثير من الناس عن اتباع الصراط المستقيم وعبادة الله. كما يلي:
036.6.1- الآيات (1-12) يقسم تعالى بأنه أنزل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لينذر الناس بأن أعمالهم محصاة عليهم وأنهم محاسبون يوم القيامة. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
036.6.1.1- الآيات (1-6) يقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم، بأن محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وأنه على صراط مستقيم، وأن العزيز الرحيم أنزل عليه القرآن لينذر به قوماً لم ينذر آباؤهم فهم غافلون.
يقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم (بما فيه من الأحكام والحكم والحجج)، بأن محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين (بوحي الله إلى عباده) وأنه على صراط مستقيم (معتدل، وهو الإسلام). أنزله العزيز (في انتقامه من أهل الكفر والمعاصي) الرحيم (بمن تاب من عباده وعمل صالحاً) لينذر به قوماً لم ينذر آباؤهم فهم غافلون (وهم العرب، فهؤلاء القوم ساهون عن الإيمان والاستقامة على العمل الصالح).
036.6.1.2- الآيات (7-10) لقد وجب العذاب على أكثر الناس، بعد أن عُرِض عليهم الحق فلم يؤمنوا. مغلولون عن الخير لا يصدِّقون ولا يعملون. قد سدّت سبل الرشد في وجوههم وعميت أبصارهم عن الحق، واستوى عندهم الإنذار من عدمه.
036.6.1.3- الآيات (11، 12) إنما ينفع الإنذار مَن اتبع القرآن، وخاف الرحمن، فبشره بالمغفرة، والأجر الكريم، وذلك في الآخرة يوم يحيي الله الموتى يوم القيامة، ويكتب ما قدموا من عمل، وما خلّفوه من الأثر والقدوة، وكل عمل أحصاه لهم في كتاب واضح (للحساب على أعمالهم).
لقد وجب العذاب على أكثر هؤلاء الكافرين، بعد أن عُرِض عليهم الحق فرفضوه (فهم لا يصدقون بالله ولا برسوله، ولا يعملون بشرعه). لقد جعل الله في أعناقهم أغلالاً فهم مغلولون عن كل خير (إنا جعلنا في أعناقهم أغلال، فجمعت أيديهم مع أعناقهم تحت أذقانهم، فهم مغلولون عن كل خير، لا يبصرون الحق ولا يهتدون إليه). وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً عن الحق فهم مترددون، فأغشينا أبصارهم عن الحق فهم أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون (زين لهم سوء أعمالهم، فهم لا يبصرون رشداً، ولا يتنبهون حقاً). يستوي عند هؤلاء الكفار المعاندين تحذيرك لهم -أيها الرسول- وعدم تحذيرك، فهم لا يصدِّقون ولا يعملون. إنما ينفع تحذيرك مَن آمن بالقرآن، واتبع ما فيه من أحكام الله، وخاف الرحمن، حيث لا يراه أحد إلا الله، فبشِّره بمغفرة من الله لذنوبه، وثواب منه في الآخرة على أعماله الصالحة، وهو دخوله الجنة. إنا نحن نحيي الأموات جميعاً ببعثهم يوم القيامة، ونكتب ما عملوا من الخير والشر، وآثارهم التي كانوا سبباً فيها في حياتهم وبعد مماتهم من خير، كالولد الصالح، والعلم النافع، والصدقة الجارية، ومن شر، كالشرك والعصيان، وكلَّ شيء أحصيناه في كتاب واضح هو أمُّ الكتب، وإليه مرجعها، وهو اللوح المحفوظ. فعلى العاقل محاسبة نفسه؛ ليكون قدوة في الخير في حياته وبعد مماته.
036.6.2- الآيات (13-32) يضرب سبحانه لنا مثلاً على إرسال المرسلين منذرين الناس بأن أعمالهم محصاة عليهم وأنهم محاسبون يوم القيامة. وعلى أن أكثر الناس يستهزئون بالرسل ولا يؤمنون.
036.6.2.1- الآيات (13-19) هذه قرية يأتيها ثلاثة من المرسلين يبلغونهم أمر ربهم بأنهم مأمورون بعبادته وطاعته وأنهم محاسبون على ذلك. لكنهم كذبوا المرسلين وتشاءموا بهم وهددوهم بالقتل رجماً بالحجارة.
036.6.2.2- الآيات (20-27) وجاء من مكان بعيد في المدينة رجل مسرع (وذلك حين علم أن أهل القرية هَمُّوا بقتل الرسل أو تعذيبهم)، قال: يا قوم اتبعوا المرسلين إليكم من الله، اتبعوا الذين لا يطلبون منكم أموالا على إبلاغ الرسالة، وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده. فلما أبلغهم أنه مؤمن يعبد الله وحده، وثب إليه قومه وقتلوه، فأدخله الله الجنة. قال وهو في النعيم والكرامة: يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي وإكرامه إياي؛ بسبب إيماني بالله وصبري على طاعته، واتباع رسله حتى قُتِلت، فيؤمنوا بالله فيدخلوا الجنة مثلي.
036.6.2.3- الآيات (28، 29) وما احتاج الأمر إلى إنزال جند من السماء لعذابهم بعد قتلهم الرجل الناصح لهم وتكذيبهم رسلهم، فهم أضعف من ذلك وأهون، وما كنا منزلين الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم، بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم. ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة، فإذا هم ميتون لم تَبْقَ منهم باقية.
036.6.2.4- الآيات (30-32) وفيها تعقيب على أن المثال ينطبق على جميع الأجيال. يا حسرة العباد وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، ما يأتيهم من رسول من الله تعالى إلا كانوا به يستهزئون ويسخرون. ألم ير هؤلاء المستهزئون ويعتبروا بمن قبلهم من القرون التي أهلكناها أنهم لا يرجعون إلى هذه الدينا؟ وما كل هذه القرون التي أهلكناها وغيرهم، إلا محضرون جميعاً عندنا يوم القيامة للحساب والجزاء.
036.6.3- الآيات (33-47) آيات الله في الكون: تبين الآيات رحمة الله وعنايته بهم يحيي لهم الأرض ليرزقهم وسخر لهم الليل والنهار والشمس والقمر وجعل لهم الفلك وغيرها من المراكب، وأنجاهم من أخطار الدنيا وأحوالها إلى أجل لعلهم يستدركون ما فرّطوا فيه. فإذا قيل لهم احذروا أمر الآخرة، وإذا قيل لهم أنفقوا من رزق الله؛ رجاء رحمته لكم، أعرضوا، ولم يجيبوا إلى ذلك.
036.6.3.1- الآيات (33- 36) ودلالة لهؤلاء المشركين على قدرة الله على البعث والنشور: هذه الأرض الميتة التي لا نبات فيها، أحييناها بإنزال الماء، وأخرجنا منها أنواع النبات مما يأكل الناس والأنعام، ومن أحيا الأرض بالنبات أحيا الخلق بعد الممات. وجعلنا في هذه الأرض بساتين من نخيل وأعناب، وفجَّرنا فيها من عيون المياه ما يسقيها. كل ذلك؛ ليأكل العباد من ثمره، وما ذلك إلا من رحمة الله بهم لا بسعيهم ولا بكدِّهم، ولا بحولهم وبقوتهم، أفلا يشكرون الله على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعدُّ ولا تحصى؟ تنزَّه الله العظيم الذي خلق الأصناف جميعها من أنواع نبات الأرض، ومن أنفسهم ذكوراً وإناثاً، ومما لا يعلمون من مخلوقات الله الأخرى. قد انفرد سبحانه بالخلق، فلا ينبغي أن يُشْرَك به غيره.
036.6.3.2- الآيات (37-41) وعلامة لهم دالة على توحيد الله وكمال قدرته: هذا الليل ننزع منه النهار، فإذا الناس مظلمون. وآية لهم الشمس تجري لمستقر لها، قدَّره الله لها لا تتعداه ولا تقصر عنه، ذلك تقدير العزيز الذي لا يغالَب، العليم الذي لا يغيب عن علمه شيء. والقمرَ آية في خلقه، قدَّرناه منازل كل ليلة، يبدأ هلالا ضئيلا حتى يكمل قمراً مستديراً، ثم يرجع ضئيلا مثل عِذْق النخلة المتقوس في الرقة والانحناء والصفرة؛ لقدمه ويُبْسه. لكل من الشمس والقمر والليل والنهار وقت قدَّره الله له لا يتعدَّاه، فلا يمكن للشمس أن تلحق القمر فتمحو نوره، أو تغير مجراه، ولا يمكن للَّيل أن يسبق النهار، فيدخل عليه قبل انقضاء وقته، وكل من الشمس والقمر والكواكب في فلك يَجْرون.
036.6.3.3- الآيات (42-44) ودليل لهم وبرهان على أن الله وحده المستحق للعبادة، المنعم بالنعم، أنَّا حملنا مَن نجا مِن ولد آدم في سفينة نوح المملوءة بأجناس المخلوقات؛ لاستمرار الحياة بعد الطوفان. وخلقنا لهؤلاء المشركين وغيرهم مثل سفينة نوح من السفن وغيرها من المراكب التي يركبونها وتبلِّغهم أوطانهم. وإن نشأ نغرقهم، فلا يجدون مغيثاً لهم مِن غرقهم، ولا هم يخلصون من الغرق. إلا أن نرحمهم فننجيهم ونمتعهم إلى أجل؛ لعلهم يرجعون ويستدركون ما فرَّطوا فيه.
036.6.3.4- الآيات (45-47) تعقيب على إعراضهم عن الآيات: وإذا قيل للمشركين: احذروا أمر الآخرة وأهوالها وأحوال الدنيا وعقابها؛ رجاء رحمة الله لكم، أعرضوا، ولم يجيبوا إلى ذلك. وما تجيء هؤلاء المشركين من علامة واضحة من عند ربهم؛ لتهديهم للحق، وتبيِّن لهم صدق الرسول، إلا أعرضوا عنها، ولم ينتفعوا بها. وإذا قيل للكافرين: أنفقوا من الرزق الذي مَنَّ به الله عليكم، قالوا للمؤمنين مُحْتجِّين: أنطعم من لو شاء الله أطعمه؟ ما أنتم -أيها المؤمنون- إلا في بُعْدٍ واضح عن الحق، إذ تأمروننا بذلك.
036.6.4- يوم القيامة الآيات (48-70): ينذرهم ربهم بأن يوم القيامة يأتيهم فجأة، عندها يكون قد انتهى إمهال الله لهم، ولن يرجعوا لتدارك ما فاتهم من العمل الصالح. فقد جاء وقت العدل بين الناس ورد المظالم إلى أصحابها. فينقسم الناس بعد الحساب، ويفصل بينهم بحسب أعمالهم وما كسبت أيديهم في الدنيا إلى فائزون بالجنة وهم عباد الله، وخاسرون في النار وهم عبدة الشيطان.
036.6.4.1- الآيات (48-50) ويقول هؤلاء الكفار على وجه التكذيب والاستعجال: متى يكون البعث إن كنتم صادقين فيما تقولونه عنه؟ ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم إلا نفخة الفَزَع عند قيام الساعة، تأخذهم فجأة، وهم يختصمون في شؤون حياتهم. فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند النفخ في “القرن” أن يوصوا أحداً بشيء، ولا يستطيعون الرجوع إلى أهلهم، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم.
036.6.4.2- الآيات (51-54) ونُفِخ في “القرن” النفخةُ الثانية، فتُرَدُّ أرواحهم إلى أجسادهم، فإذا هم من قبورهم يخرجون إلى ربهم سراعاً. قال المكذبون بالبعث نادمين: يا هلاكنا مَن أخرجنا مِن قبورنا؟ فيجابون ويقال لهم: هذا ما وعد به الرحمن، وأخبر عنه المرسلون الصادقون. ما كان البعث من القبور إلا نتيجة نفخة واحدة في “القرن”، فإذا جميع الخلق لدينا ماثلون للحساب والجزاء. في ذلك اليوم يتم الحساب بالعدل، فلا تُظْلم نفس شيئاً بنقص حسناتها أو زيادة سيئاتها، ولا تُجْزون إلا بما كنتم تعملونه في الدنيا.
036.6.4.3- الآيات (55-65) إن أهل الجنة في ذلك اليوم مشغولون عن غيرهم بأنواع النعيم التي يتفكهون بها. هم وأزواجهم متنعمون بالجلوس على الأسرَّة المزيَّنة، تحت الظلال الوارفة. لهم في الجنة أنواع الفواكه اللذيذة، ولهم كل ما يطلبون من أنواع النعيم. ولهم نعيم آخر أكبر حين يكلمهم ربهم، الرحيم بهم بالسلام عليهم. وعند ذلك تحصل لهم السلامة التامة من جميع الوجوه. ويقال للكفار في ذلك اليوم: تميَّزوا عن المؤمنين، وانفصلوا عنهم. ويقول الله لهم توبيخاً وتذكيراً: ألم أوصكم على ألسنة رسلي أن لا تعبدوا الشيطان ولا تطيعوه؟ إنه لكم عدو ظاهر العداوة. وأمرتكم بعبادتي وحدي، فعبادتي وطاعتي ومعصية الشيطان هي الدين القويم الموصل لمرضاتي وجنَّاتي. ولقد أضلَّ الشيطان عن الحق منكم خلقاً كثيراً، أفما كان لكم عقل -أيها المشركون- ينهاكم عن اتباعه؟ هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على كفركم بالله وتكذيبكم رسله. ادخلوها اليوم وقاسوا حرَّها؛ بسبب كفركم. اليوم نطبع على أفواه المشركين فلا ينطقون، وتُكلِّمنا أيديهم بما بطشت به، وتشهد أرجلهم بما سعت إليه في الدنيا، وكسبت من الآثام.
036.6.4.4- الآيات (66-68) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم بأن نُذْهب أبصارهم، كما ختمنا على أفواههم، فبادَروا إلى الصراط ليجوزوه، فكيف يتحقق لهم ذلك وقد طُمِست أبصارهم؟ ولو شئنا لَغَيَّرنا خلقهم وأقعدناهم في أماكنهم، فلا يستطيعون أن يَمْضوا أمامهم، ولا يرجعوا وراءهم. ومن نُطِلْ عمره حتى يهرم نُعِدْه إلى الحالة التي ابتدأ منها حالة ضعف العقل وضعف الجسد، أفلا يعقلون أنَّ مَن فعل مثل هذا بهم قادر على بعثهم؟
036.6.4.5- الآيات (69-70) تعقيب: وما علَّمنا رسولنا محمداً الشعر، وما ينبغي له أن يكون شاعراً، ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب، وقرآن بيِّن الدلالة على الحق والباطل، واضحة أحكامه وحِكَمه ومواعظه؛ لينذر مَن كان حيَّ القلب مستنير البصيرة، ويحق العذاب على الكافرين بالله؛ لأنهم قامت عليهم بالقرآن حجة الله البالغة.
036.6.5- آيات الله الآيات (71-83) يبين لهم نعمته وتكريمه لهم سبحانه بأن خلقهم وملكهم الأشياء وذللها لهم، فإذا هم يخاصمونه بدل ما يشكرونه يؤمنون برسله ويتبعون هديه. فهم بذلك أساؤوا لأنفسهم فالله غني عنهم وهو قادر عل أن يخلق مثلهم، سبحانه إليه مرجعهم فيحاسبهم على إعمالهم.
036.6.5.1- الآيات (71-73) أولم ير الخلق أنا خلقنا لأجلهم أنعاماً ذللناها لهم، فهم مالكون أمرها؟ وسخَّرناها لهم، فمنها ما يركبون في الأسفار، ويحملون عليها الأثقال، ومنها ما يأكلون. ولهم فيها منافع أخرى ينتفعون بها، كالانتفاع بأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ولباساً، وغير ذلك، ويشربون ألبانها، أفلا يشكرون الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم، ويخلصون له العبادة؟
036.6.5.2- الآيات (74-76) واتخذ المشركون من دون الله آلهة يعبدونها؛ طمعاً في نصرها لهم وإنقاذهم من عذاب الله. لا تستطيع تلك الآلهة نصر عابديها ولا أنفسهم ينصرون، والمشركون وآلهتهم جميعاً محضرون في العذاب، متبرئ بعضهم من بعض. فلا يَحْزُنك -أيها الرسول- كفرهم بالله وتكذيبهم لك واستهزاؤهم بك؛ إنا نعلم ما يخفون، وما يظهرون، وسنجازيهم على ذلك.
036.6.5.3- الآيات (77-79) أولم ير الإنسان المنكر للبعث ابتداء خلقه فيستدل به على معاده، أنا خلقناه من نطفة مرَّت بأطوار حتى كَبِر، فإذا هو كثير الخصام واضح الجدال؟ وضرب لنا المنكر للبعث مثلا لا ينبغي ضربه، وهو قياس قدرة الخالق بقدرة المخلوق، ونسي ابتداء خلقه، قال: مَن يحيي العظام البالية المتفتتة؟ قل له: يحييها الذي خلقها أول مرة، وهو بجميع خلقه عليم، لا يخفى عليه شيء.
036.6.5.4- الآيات (80-83) الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر الرطب ناراً محرقة، فإذا أنتم من الشجر توقدون النار، فهو القادر على إخراج الضد من الضد. وفي ذلك دليل على وحدانية الله وكمال قدرته، ومن ذلك إخراج الموتى من قبورهم أحياء. أوليس الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما بقادر على أن يخلق مثلهم، فيعيدهم كما بدأهم؟ بلى، إنه قادر على ذلك، وهو الخلاق لجميع المخلوقات، العليم بكل ما خلق ويَخْلُقُ، لا يخفى عليه شيء. إنما أمره سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً أن يقول له: “كن” فيكون، ومن ذلك الإماتة والإحياء، والبعث والنشور. فتنزه الله تعالى وتقدس عن العجز والشرك، فهو المالك لكل شيء، المتصرف في شؤون خلقه بلا منازع أو ممانع، وقد ظهرت دلائل قدرته، وتمام نعمته، وإليه تُرجعون للحساب والجزاء.
036.7 الشكل العام وسياق السورة:
036.7.1- إذا كان أسم السورة (يس) يعني محمد صلى الله عليه وسلم أو: يا محمد. ففي رسالته وسيرته تناسب مع الأحداث المتنوّعة وسير المرسلين المبسوطة في السورة. لإلحاحه وإصراره وتكراره على أن يسمع الناس دعوته، واستعماله كل أساليب الدعوة للتأثير فيهم.
الاسلام دين بسيط، يوجد إله يتحدث إلينا، يخبرنا أنه خلقنا وفطرنا على عبادته، وأن لكل منا فلك يدور فيه ولا يستطيع تجاوزه، وأنه ملّكنا الأشياء ليرى ما نحن فاعلون وأن الكل إليه راجعون. يأخذ بأيديهم في كل لحظه، يقودهم، يعطينا دفعات، وصفعات، يجب أن نفكر، وأن نتأمل. لكنه دائماً معنا، يحدثنا بلغة بسيطة نستطيع فهمها، من مستوى فهمنا وخطابنا، يتحدث إلى عقولنا وقلوبنا، وكل جوارحنا، ويرعانا، ويقسم لنا بالحكمة بأنه يدعونا إلى الصراط المستقيم، أن نعبده ولا نعبد الشيطان العدو المبين. لا يؤاخذنا بتكذيبنا ولا يعاجلنا بالعقوبة لكنه يمهلنا ويكتب أعمالنا. الله بيده ملكوت كل شيء، كرّم الإنسان وجعله على الأرض خليفة، ملّكه الأشياء، وذللها له، بين له الحكمة وجعلها له في كتاب، أرسل له الرسل، تنذره بأنه مبتلى وراجع إلى ربه ليحاسبه على ما قدّم في حياته وفيما استخلفه عليه.
036.7.2- سياق السورة باعتبار رحمة الله وتكريمه، وبحسب ترتيب الآيات:
مقصد السورة هو تأكيد أن الله رحيم بعباده يبعث لهم المرسلين ليهديهم صراطه المستقيم، وهو عزيز في انتقامه ممن لا يعبدونه على صراطه المستقيم، بل يعبدون الشيطان عدوهم المبين.
لذلك رحمة بهم، ولكي يقيم تعالى عليهم الحجة والعذر بأنهم اختاروا بأنفسهم ولم يظلمهم أحد، أقسم تعالى بالقرآن تأكيداً لكي ينتبهوا ويعلموا ان الأمر جدّ، ثم واصل بضرب المثل ليتفكروا بهلاك من كان قبلهم، ثم بيّن قدرته ليحذروا فيتقوه، ثم مصيرهم ليعملوا لآخرتهم، ثم أن بيده ملكوت كل شيء وأنهم إليه محضرون فيرجوا عفوه ويحذروا عقابه. كما يلي:
036.7.2.1- الآيات (1-12) يقسم تعالى بالقرآن الحكيم، فيؤكد بأن محمد صلى الله عليه وسلم هو واحد من المرسلين الذين أرسلهم كلّ إلى قومه الغافلون، لينذروهم أن أعمالهم يحصيها الله عليهم ليحاسبهم عليها في الحياة الآخرة. هؤلاء الذين يستهزئون ولا يؤمنون، اختاروا لأنفسهم العمى على الهدى، عمى عن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ولن يبصروا أبداً صراط الله المستقيم، لأن بيانه جاء عن طريق رسوله الذي به يكذبون. وهذا الموقف الأليم الذي اتخذوه لأنفسهم يستدعي الحسرة على حالهم المكذب والمستهزئ، فقد خسروا خسراناً لا يصدق السامع العاقل أن أحد يفعله بنفسه ويتمادى فيه رغم تكرار النذير بالخسران، كما سيأتي بيانه في باقي السورة.
036.7.2.2- الآيات (13-32) لقد بين لهم سبحانه واسع رحمته وأخذه بيدهم إلى صراطه المستقيم وإرساله المرسلين مبشرين ومنذرين، بأن ضرب لهم مثلاً لكي يفهموا مراده تعالى من خلقهم ومن إرسال المرسلين وتوجيهاته لهم، وذلك من خلال دورة حياة كاملة في تلك القرية التي ذكرت قصتها، في الدنيا إلى قيام الساعة ورجوعهم إلى ربهم ثم في نهاية المطاف حصول الجزاء على الأعمال. وإن يكفروا فأن أهل تلك القرية كفر أكثرهم فإن يكفروا فهم مثلهم ومصيرهم مصيرهم، وإن آمنوا وجاهدوا فقد آمن وجاهد من كان قبلهم وسيدخلوا الجنة مثلهم.
وفي نهاية القصة تطلق الآيات حسرة على حال كل الناس لتواصل استهزاءهم بالرسل ثم عتب على عدم تفكرهم ولا اعتبارهم بهلاك من كان قبلهم، وأخيراً تهديد بأنهم محضرون عنوة إلى ربهم فلا مفر من أمر الله ولا ملاذ.
036.7.2.3- الآيات (33-47) لقد بين لهم سبحانه قدرته على إحياء الأرض بعد موتها وإخراج الماء لهم لكي يأكلوا ويشربوا، ذلك لكي يشكروه هو لا غيره. وبين لهم واسع علمه وحسن تقديره بأن جعل لكل شيء فلك ومسار لا يتجاوزه، لكي يلتزموا فيسيروا على صراطه المستقيم لا غيرها من السبل. وبين لهم أن قدرته على حمايتهم وإنقاذهم من الغرق ومخاطر السفر بأن خلق لهم ما يركبون، لكي يتقوه هو لا غيره ممن لا يضر ولا ينفع، ولكي يتعاونوا على إعمار الدنيا بالإنفاق وإطعام الطعام فالله هو الرازق فلا يحجبوا رزقه عن إخوانهم.
036.7.2.4- الآيات (48-70) لقد بين لهم مصيرهم يوم القيامة لكي يعلموا أن الله لا يظلم نفس شيئاً ولا يجزون إلا ما كانوا يعملون، لكي يجتهدوا في العمل الصالح.
036.7.2.5- الآيات (71-83) لقد نبههم إلى أنه سخر الله لهم الأشياء، وذللها وملكهم إياها ليعبدوه وحده ويتخذوه إلاهاً لا غيره من الآلهة. وكذلك نبههم إلى أنه خلقهم وخلق السماوات والأرض ليعلموا عظيم قدرته وأن بيده ملكوت كل شيء، وأنه حين يقول أنهم إليه راجعون فسوف يكون.
036.7.3- سياق السورة باعتبار إرسال المرسلين وبيان الحجج والآيات وبحسب ترتيب الآيات:
مقصدها: أنه يرسل المرسلين منذرين وأن أكثر الناس لا يؤمنون. الله خالق الدنيا والآخرة ومالكهما، فطر السماوات والأرض على طاعته، وأنذر الناس بأنهم محاسبون على أعمالهم في ملكه.
مقصدها: أراد الإنسان (من بين مخلوقات الله) أن يطيع الله بمشيئته واختياره، وأخذ على نفسه العهد بذلك، فأعطاه ما أراد. إلا أن أكثر الناس أخلفوا ما عاهدوا الله عليه، فعصوا فهلكوا ونجا القليل منهم. علم تعالى بعجز الإنسان من أن يفي بهذا العهد الذي قطعه على نفسه، فلم يدعه لوحده رحمة به، بل أخذ بيده يريه الطريق ويوجهه لحظة بلحظة، أرسل له الرسل وأنزل عليه الكتب وبين له الآيات وضرب له الأمثال، وأراه هلاك الأمم وما تركوه وراءهم من النعيم، وأراه جزاء عمله في الدنيا وفي الآخرة وذكره بنعمه وخوفه من عقابه وأنهم إليه راجعون وفعل له كل ما من شأنه أن يهديه ويضعه على صراطه المستقيم ويجنبه الغفلة والضلال رحمة به. لم يخلقهم تعالى لأنه بحاجة إليهم ولا ليعذبهم، بل خلقهم ليكرمهم ويرحمهم، لهذا أخذ بأيديهم ليقيم عليهم الحجة، فيحيى من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.
036.7.3.1- الآيات (1-12) يقسم تعالى بالقرآن الحكيم المعجزة الخالدة على أن محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين وأنه على صراط مستقيم، وأنه تنزيل من عنده لينذر قوماً غافلين، لعل منهم من يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب فيغفر له ويفوز بالأجر الكريم. لكن الله الذي قد خلقهم يعلم أن أكثرهم لا يؤمنون لأنهم لا يسمعون النذير فلا يتبعون الذكر الذي يحيي قلوبهم فتدلّهم على الخير. ولو فعلوا واستمعوا لخشيوا ربهم بالغيب ولاتبعوا صراطه المستقيم ففازوا (كما ستبينه السورة).
036.7.3.2- الآيات (13-32) الله تعالى لا يترك عباده لأفكارهم واجتهاداتهم فقط، لأنهم يتأثرون بهوى أنفسهم وضلالات الشيطان عدوهم. بل يبعث لهم المرسلين منذرين، فلا يترك قوم إلا ويبعث فيهم نذير. ولتوضيح ذلك ضرب لنا مثلاً اصحاب قرية أرسل لهم اثنين من المرسلين ثم عززهما بثالث، فما كان منهم إلا أن كذبوا رسلهم واستهزأوا بهم ولم يؤمنوا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل هددوهم بالقتل رجماً. ثم جاء من أقصى المدينة رجل مؤمن ينهاهم عن الشرك ويدعوهم لاتباع المرسلين فقتلوه. يخبرنا تعالى عن مصير هذا الذي قتل في سبيله، بأنه غفر له وأدخله الجنة، ولفرط سعادته بمغفرة الله وتكريمه له، تمنى لو أن قومه يعلموا مصيره، فبلغنا سبحانه أمنيته لنا لعلنا نتعظ فنعمل مثله.
يبدو أن هذا المثل المضروب عن القرية هو نموذج ينطبق على كل الأمم، وهذا حال مؤسف يرثى له، لذلك تتحسر السورة على حال العباد لأنه ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون. والأعجب منه أنهم لا يعتبرون بما حل بمن قبلهم من القرون التي أهلكت وما كان مصيرهم وأنهم لا يرجعون. يؤكد سبحانه أن الجميع محضرون يوم القيامة للحساب.
036.7.3.3- الآيات (33-47) الله أحيا لهم الأرض وأخرج منها الزرع وجعل لهم الجنّات ليأكلوا ويتمتعوا وفي ذلك آية لهم تجعلهم يطيعون الله في ملكه ويشكروه على نعمه. الله جعل الليل والنهار ومنهما النور والظلام، وجعل الشمس تجري لمستقر لها، القمر قدره منازل، وفي ذلك آية لهم تجعلهم يطيعون الله ويسيرون على هديه لأن لكل مخلوق فلكه الذي يسبح فيه ومجاله الذي لا يخرج عنه. وفي الفلك التي في البحر كذلك آية، فيها أن الله يستطيع أن يغرقهم أو ينجيهم، وهم لا يخرجون عن ملكه ولا عن نطاق قدرته، ولكنه تعالى يرحمهم ويمتعهم إلى حين حتى يرى ما هم فاعلون فيما أنعم به عليهم من الإنفاق في سبيله وطاعته في إعمار أرضه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينتهوا عن الفحشاء والمنكر والبغي.
036.7.3.4- الآيات (48-70) هؤلاء المعرضين عن الآيات، المطموسة بصيرتهم يستعجلون وعد الله لهم بالبعث والحساب؟ أمرهم محسوم عند الله، سيأتيهم أجلهم بغتة لا رجعة لهم فيها، ثم ينفخ في الصور إيذاناً بالبعث والحساب العادل على الأعمال، ثم الجزاء إما الجنة وإما النار.
036.7.3.5- الآيات (71-83) الله يذكّر الناس بأنه خالقهم وأنهم إليه راجعون ليحاسبهم على أعمالهم. أنزل بهذا على رسوله قرآن مبين، ينذر به الأحياء المؤمنين فيعلمون أنه الحق من ربهم، أما الأموات الكافرين فهم لا يسمعون ولا يبصرون. ألله لا يعلّم رسوله الشعر بل يعلمه القرآن الذي فيه أنه خلق الأنعام وملّكها وذللها لهم، أما الآلهة التي يتخذونها من دون الله فلا تملك أن تضرهم أو تنفعهم بشيء. الله خلق الإنسان من نطفة حتى إذا اشتد عوده، نسي أن الله خالقه، فإذا به خصيم لمن خلقه يضرب له الأمثال أن لا أحد يقدر أن يحيي العظام؟ الله يعلم أعمالهم، ويعلم سرهم وعلانيتهم وسيحاسبهم على ما جنته أيديهم. الله جعل لهم من الشجر الأخضر ناراً. الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. سبحانه بيده بقاء الوجود وفناءه وإليه ترجعون.
036.7.4- سياق السورة حسب موضوعات الآيات:
تنقسم السورة باعتبار موضوعات آياتها إلى ستة موضوعات في نصفين متساويين تقريباً من عدد آيات السورة: الأول فيه خطاب الله تعالى للناس عن المقصد من وجودهم وإرسال المرسلين مبلغين ذلك، وبيان الآيات. والنصف الثاني فيه بيان كفر أكثر الناس وتكذيبهم وتطاولهم على المرسلين، ثم بيان إمهاله لهم وعدم معاجلته لهم بالعقاب، بل تهديده لهم بالعقاب في الدنيا والآخرة رحمة بهم لعلهم يرجعون، وأخيراً وهو المهم أن مصير الناس مترتب على أعمالهم وهو جزاء ما كانوا يعملون.
النصف الأول فيه بيان رحمة الله الواسعة بالناس في ثلاثة مواضيع الأول بأن يرسل لهم الرسل والكتب تنذرهم بأن أعمالهم محصاة عليهم وأنهم محاسبون (16 آية) والثاني يضرب لهم مثل حقيقي عن كيف يتم إنذار الناس بواسطة المرسلين بأنهم محاسبون على أعمالهم (11 آية) والثالث يبين لهم الآيات من حولهم والتي فيها أن كل مخلوقات الله تسير على هدى من الله لا تتجاوزه ولا تخرج منه أبداً (14 آية).
والنصف الثاني فيه ثلاثة مواضيع الأول فيه ببيان ظلم الناس لأنفسهم وتكذيبهم للمرسلين (9 آيات) والثاني يهددهم الله بالعقاب يقعون فيه بأنفسهم أو يرونه في غيرهم ثم يرفعه عنهم إمهالاً لهم (12 آية) والثالث حصولهم على جزاء أعمالهم إما النعيم أو العذاب ويأتي في ربع عدد آيات السورة (21 آية).
036.7.4.1- يقسم الرحمن بكتابه الحكيم على صدق رسالته ويدافع عن كونها نذير لهم بين يدي حساب وعقاب شديد. وفيه خطاب الله تعالى للناس عن المقصد من وجودهم وإرسال المرسلين بذلك وبيان الآيات:
036.7.4.1.1- ينذر الناس بأنهم مبتلون بالعبادة واتباع الصراط المستقيم وأنه يسجل عليهم أعمالهم ليحاسبهم عليها يوم القيامة، ويحذرهم من الكفر ومخالفة أمره وأن لا يعبدوا الشيطان الذي هو لهم عدو مبين. ومن أجل ذلك أنزل تعالى القرآن الحكيم وأرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. الآيات (1-6، 11، 12، 69، 70، 76، 77، 79، 81-83) = 16 آية
يقسم تعالى بالقرآن الحكيم أن محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وأنه على صراط مستقيم، وأنه من عنده هو العزيز في انتقامه الرحيم بعباده. ينذر الأمة الخاتمة ويبين لهم الحكمة من خلقهم، وهو السير على صراطه المستقيم ويحذرهم من الغفلة. لأنه يكتب عليهم أعمالهم ليحاسبهم بما كسبت أيديهم في الدنيا والآخرة. يذكرهم بما عاهدوا الله عليه من حمل الأمانة والطاعة له وحده، وأن ومقصد وجودهم وهو اتباع الصراط المستقيم مختارين. فمن اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فله المغفرة والأجر الكريم، ومن كفر فله العذاب في الدنيا والآخرة.
لم يكتفي تعالى بالقسم على صدق الرسول والكتاب، بل دافع عنهما بأن ما نزل ليس شعر إنما هو قرآن مبين، لينذر من كان حياً ويعذب الكافرين. ويتعجب من حال الإنسان كيف أنه تعالى خلقه من نطفة فإذا هو خصيم مبين. ويهدد الناس بأنه لا يعجزه شيء، إنما أمره إذا قال له كن فيكون، وهو قادر على أن يخلق مثلهم، وأن يعيد خلقهم، وأنهم إليه راجعون للحساب.
036.7.4.1.2- يضرب تعالى المثل عن إرسال المرسلين فيمن سبقهم من القرى، وأن الغرض من إرسال المرسلين وهو البلاغ المبين، ولكن أهل تلك القرية كانوا مكذبين:
يضرب سبحانه للأمّة الخاتمة المثل لكي يعتبروا مما جرى في إحدى القرى حين أرسل إليهم المرسلين مبشرين ومنذرين، ومبلغين لرسالة ربهم يأمرونهم بعبادة الله وينهونهم عن اتباع الشيطان، وما قابلهم به أهل القرية من التكذيب، والمجادلة فيهم لأنهم بشر، يتهمونهم بأنهم يريدون أجراً وتحقيق مصالح دنيويّة، فيعمدون إلى التخلص منهم ومحاولة قتلهم. الآيات (13، 14، 16، 17، 19-25) = 11 آية
036.7.4.1.3- يبين تعالى آياته في السماوات والأرض، وفي الخلق وتسخير المخلوقات والنعم والإحياء والإماتة لكي يحثهم ويرغبهم بالطاعة، ولكي يشكروا ويطيعوا، لكنهم مع ذلك اتخذوا من دونه الآلهة. كذلك يبين لهم آياته على واسع علمه وعلى دقة تقديره للأشياء، فلا يستطيع خلق من مخلوقاته أن يخرج عن المكان الذي وضع فيه ولا أن يتجاوز المسار الذي جعل له. ويبين تعالى نعمه عليهم، وكيف أنه ذللها وملكها لهم لعلهم يشكرون. الآيات (33-42، 71-73، 80) = 14 آية
036.7.4.2- بيان كفر أكثر الناس وتكذيبهم وتطاولهم على المرسلين، ثم بيان إمهاله لهم وعدم معاجلته لهم بالعقاب، بل تهديده لهم بالعقاب في الدنيا والآخرة رحمة بهم لعلهم يرجعون:
036.7.4.2.1- يخبرنا سبحانه عما يفعله الناس، وعما سبق في علمه، من استهزائهم بالمرسلين، وظلمهم لأنفسهم وتكذيبهم وعدم إيمانهم بالحق: الآيات (15، 18، 30، 46-48، 74، 75، 78) = 9 آيات
036.7.4.2.2- تهديده تعالى بالعقاب، وتحذيره للناس وإنذاره وإمهاله لهم:
إمهال الله للناس لكي يسمعوا رسله ويتدبروا آياته ويعتبروا من مصير من سبقهم من الأمم. كذلك لكي يقيم عليهم الحجة والعذر فيما هم مقبلين عليه من الحساب والجزاء، ولو شاء الله أن يعاجلهم بالعذاب والعقوبة لفعل ذلك فهم يرون أنه قادر على أن يغرقهم. الآيات (28، 29، 31، 32، 43-45، 49، 50، 66-68) = 12 آية
036.7.4.2.3– يخبر تعالى عن حصول الجزاء على الأعمال، ويبين أن مصير الناس في الدنيا والآخرة من عقاب وجزاء مترتب على هذه الأعمال: الآيات (7-10، 26، 27، 51-65) = 21 آية
036.7.4.2.3.1- في الدنيا: حجب للكافرين عن الهدى وعمى في بصيرتهم.
036.7.4.2.3.2- في الآخرة: فوز المؤمنين بالجنة لهم فيها ما يشتهون، يكلمهم ربهم بالسلام عليهم، وتمنيهم أن لو يعلم الكافرون عظيم تكريم الله لهم. يقابله دعاء الكافرين على أنفسهم بالهلاك نادمين حين خروجهم من القبور، إلى العذاب في جهنم وشهادة أيديهم وأرجلهم على أعمالهم وجرائمهم في الدنيا.
036.7.5- سياق السورة باعتبار أنها قلب القرآن، كما سماها صلى الله عليه وسلم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: “قلب القرآن يس، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، اقرؤوها على موتاكم”. فالسورة هي القلب النابض في القرآن، لأنها تعرض رسالة القرآن بأسلوب مؤثّر يُهيّج الرّوح لكي تعمل. فهي تبيّن أن أكثر الناس لا يؤمنون، يكذّبون الرسل، ويعرضون عن آيات الله الذي خلقهم وخلق لهم الأنعام ورزقهم. وتركّز على ثلاثة من أركان الإيمان ودلائلها، وهي الله ورسله واليوم الآخر. أما الأركان الثلاثة الأخرى وهي الملائكة والكتب والقضاء خيره وشرّه، فقد ذكرت في الآيات مثل {والقرآن الحكيم (2)}، {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69)}، أو أشير إليها ولم تركز على ذكرها. كذلك العبادات أشير إليها ولم تركز السورة على ذكرها، بل ذكرتها في الآيات: {وما لي لا أعبد الذي فطرني (22)}، {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله (47)}، {أن لا تعبدوا الشيطان (60)}، {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61)}.
وذكر البقاعي في نظم الدرر (بتصرف): البرهان النسفي في تفسيره قال: قال الغزالي: وهي قلب القرآن لأن صحة الإيمان بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فجعلت قلب القرآن لذلك. واستحسنه الرازي. وهذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة: الوحدانية والرسالة والحشر وهو القدر الذي يتعلق بالقلب والجنان. وأما الذي باللسان والأركان ففي غير هذه السورة. فلما كان فيها أعمال القلب لا غير سماها قلباً ولهذا أمر بقراءتها عند المحتضر لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة والأعضاء ساقطة لكن القلب قد أقبل على الله تعالى ورجع عما سواه فيقرأ عنده ما يزداد به قوة في قلبه ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة. انتهى.
تناولت السورة مواضيع أساسيّة ثلاثة متساوية في عدد آياتها، أي كل منها يستغرق ثلث عدد آيات السورة تقريباً، وهي: إرسال المرسلين (28 آية)، وبيان وحدانية الله بالآيات والبراهين التي تدل على أن كل شيء بيد الله وحده (27 آية)، والبعث والحساب (28 آية). وذلك من خلال سرد سيرة الإنسان من أول خلقه إلى نهاية معاده، بذكر صفاته وردود أفعاله واستهزائه بالمرسلين وغفلته عن آيات الله وتطاوله على خالقه، فإذا الإنسان هو نفسه لا يتغير بتغير الأجيال ولا بتغير الزمان أو المكان. السورة مليئة بمشاهد القيامة، بصفة خاصة، ثمّ مشاهد من هلاك الأمم السابقة التي لا ترجع إليهم، ثم آيات الله بإحياء الأرض بالزرع، وجعل الجنات وخلق الأزواج، ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة. وتوزعت الموضوعات الثلاثة على كل أجزاء السورة، في بدايتها ووسطها ونهايتها، كما يلي:
– الرسالة: {إنك لمن المرسلين}: في الآيات (1-11، 13-25، 30، 31، 69، 70) = 28 آية.
– البعث: {وإليه ترجعون}: في الآيات (12، 26-29، 32، 49-68، 79، 83) = 28 آية.
– الوحدانية: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} في الآيات (33-48، 71-78، 80-82) = 27 آية.
036.7.6- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
036.7.6.1- آيات القصص: (13-25، 28-32، 74-76) = 21 آية.
036.7.6.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (8، 9، 12، 26، 27، 49-65) = 22 آية.
036.7.6.3- الأمثال في الآيات: (66-68، 78) = 4 آيات.
036.7.6.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (33-44، 71-73، 77، 79-83) = 21 آية.
036.7.6.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-7، 10، 11، 45-48، 69، 70) = 15 آية.
036.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
036.8.0- وبانتهاء سورة يس ينتهي ربع القرآن الثالث في النصف الثاني كما انتهى بسورة الأنعام الربع الأول من النصف الأول. وتتشابه وتتناظر مقاصد هذين الربعين في نصفي القرآن حول بيان تمام النعمة بكمال الدين والتمكين في الدنيا، كما يلي: ابتدأ النصف الثاني بثلاث سور هي مريم وطه والأنبياء ركّزت على إظهار رحمة الله بالناس مقابل إظهار رحمته في الفاتحة؛ ثمّ ثنّى في الحج بدعوة الناس إلى الإسلام بقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ (1)} في مقابل ما ثنّى به في البقرة بِ{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}؛ ثمّ المؤمنون تتشابه مع آل عمران في اصطفاء الله للمرسلين وعباده المؤمنين؛ ثمّ النور تتشابه مع النساء من حيث تضمّنهما أعمال المحسنين؛ ثمّ السور الأربعة الفرقان والشعراء والنمل والقصص بمقاصدها مجتمعة عن القرآن: وأن الله نزّله وأنه مبين وهدى وبشرى ودعوة إلى الإيمان ونهي عن الكفر، وتتشابه وتتناظر مع موضوعات سورة المائدة الأربعة التي تتحدث عن كمال الدين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (3)}؛ ثم ثماني سور تتناسب مقاصدها وتتناظر مع موضوعات سورة الأنعام الثمانية حول نعم الله: فالعنكبوت مقصدها التمحيص بالابتلاء والفتنة ليعلم المؤمنين والمجاهدين، يقابلها (الآيات 111-150) في الأنعام بأن الله لا يعجزه شيء وله الحجة البالغة على أعمال عباده؛ وفي الروم نعمة رعاية الله ورحمته باتباع الفطرة، يقابلها (الآيات 1-11) بأن الحمد لله الخالق؛ ولقمان نعمة عبادة الله وشكره، يقابلها (الآيات 59-73) الله رب العالمين الحافظ العليم القاهر القادر. والسجدة نعمة القرآن الحق، يقابلها (الآيات 151-165) الله هدى إلى الصراط المستقيم وهو سريع العقاب وغفور رحيم؛ والأحزاب نعمة التوكل على الله والاكتفاء به وكيلاً يقابلها (الآيات 40-58) كتب على نفسه الرحمة وإليه الملجأ؛ وفي سبأ لله الحمد في الدنيا والآخرة، يقابلها (الآيات 74-94) الله الهادي بالحجّة والرسل والقدوة؛ وفي فاطر لله الحمد فاطر السماوات والأرض، يقابلها (الآيات 12-39) الله المالك المدبّر؛ ويس إنذار الناس بأنهم محاسبون وأن أكثرهم لا يؤمنون، يقابلها (الآيات 95-110) الله بديع السماوات والأرض وجاعل الآيات.
وسيأتي بعدها عشرون سورة من الصافات إلى الواقعة، فيها تفصيل أحوال الناس أفراد وجماعات، وتجارب حقيقية تبين مدى تقبلهم لرسالة السماء وهي تدعوهم إلى اتباع الهدى والصراط المستقيم، كيف استقبلوها وكيف أثّرت في حياتهم وهي تتشابه وتتناظر مع ست سور هي من الأعراف إلى يوسف. ثم ثمان وخمسون سورة من الحديد إلى الناس تتحدث عن عظيم نعمة تطبيق الدين، وما يتبعها من نعم الدنيا في الرزق والنصر والأمان وغيره، وهي تتشابه وتتناظر مع ست سور أخرى هي من الرعد إلى الكهف، وبذلك يتناظر نصفا القرآن على سياق واحد متشابه، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ (23)} الزمر، أي: يشبه بعضه بعضاً، ويصدّق بعضه بعضاً، لا اختلاف فيه، ولا تضادّ، وتُثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج.
036.8.1- ترابط سورة يس مع السور الإحدى عشرة (الفرقان إلى فاطر) التي قبلها: في سورة يس يقسم سبحانه بالقرآن الحكيم بأن محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين، جاءهم لينذرهم بأنهم مبعوثون ليحاسبوا على أعمالهم ولإقامة العدل بينهم، وقد تضمنت معاني ومقاصد السور الإحدى عشرة التي قبلها كما يلي:
القرآن وهو الكتاب العظيم والفرقان المبين والمعجزة الخالدة إلى يوم الدين (الذي أقسم تعالى به مطلع سورة يس)، ذكر في بداية أربعة سور هي الفرقان: والتي مقصدها تبارك الله منزل القرآن، والشعراء: مقصدها أن القرآن مبين، والنمل: ومقصدها أن القرآن هدى وبشرى، والقصص: مقصدها التحريض على الإيمان والنهى عن الكفر. ثم بعد ذلك ذكر في العنكبوت: أن الله يريد أن يمتحن الناس في إيمانهم، ثم في الروم: يبين أن الكون مطيع طوعاً أوكرهاً، وأن الإنسان ممتحن بالطاعة اختياراً. ثم في سورة لقمان: أن القرآن الحكيم الذي جعله هدى وشفاء ورحمة وسعادة للمحسنين. وفي سورة السجدة: أن محمد صلى الله عليه وسلم من المرسلين ينذرهم بأنهم مبعوثون ليحاسبوا على أعمالهم ولإقامة العدل بينهم. وفي سورة الأحزاب يبين تعالى أنه رحيم بعباده: لم يترك الناس لعهدهم الذي قطعوه على أنفسهم بحمل الأمانة. وفي سورة سبأ: أنه تعالى لم يدعهم فقط ليعتبروا من دروس عدله ومجازاتهم على أعمالهم الدنيا والآخرة. وفي سورة فاطر: ولا لفطرتهم التي فطرهم عليها. في سورة ياسين: بل أرسل الرسل وأنزل الكتب، وبرغم هذا فإن أكثرهم لم يؤمنوا.
036.8.2- مقصد سورة فاطر هو الدعوة إلى توحيد الله فاطر الكون، وإلى طاعته وإلى عبادته، {الحمد لله فاطر (1)}، فقد فطر الناس على التوحيد وعلى الطاعة وعلى العبادة. تؤكد السورة ما سبق بيانه في سورة فاطر من أن طاعة الله ورسله وعبادته وحده، هي أشياء في مصلحة الناس وتنسجم مع فطرتهم وطبيعة خلقهم: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22)، أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون (23)، إني إذاً لفي ضلال مبين (24)}. ثمّ قريباً من نهايتها تعود إلى الموضوع ذاته مرّة أخرى: {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون (74). لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75)}.
036.8.3- الجزاء على الأعمال: تبين سورة سبأ استحقاق الله للحمد في الدنيا والآخرة لأنه مالك الدنيا والآخرة، يجازي الناس فيهما بعدله ورحمته، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه. سورة فاطر تبين أن الله يستحق الحمد وهو أهل له لأنه فاطر السماوات والأرض على طاعته، وفطر الناس على الإيمان به وحده وطاعته وعبادته، ودعاهم إلى اتباع فطرته ليوفي الصادقين أجورهم ويضاعفها لهم. سورة ياسين يقسم تعالى بأنه أنزل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لينذر الناس بأن أعمالهم محصاة عليهم وأنهم محاسبون يوم القيامة. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون.
036.8.4- قال الإمام جلال الدين السيوطي: ولما ذكر في سورة فاطر قوله: {وجاءَكُم النَذير} وقوله: {وأَقسِموا باللَهِ جهد أيمانهم لئن جاءهُم نذير ليكونن أَهدى من إِحدى الأُمم فلما جاءهم نذير} والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم وقد أعرضوا عنه وكذبوه فافتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته وأنه على صراط مستقيم لينذر قوماً ما أنذر آباؤهم وهذا وجه بين.
وفي فاطر: {وسخرَّ الشمس والقمر} وفي يس {والشَمسُ تَجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} وذلك أبسط وأوضح وفي فاطر: {وترى الفُلكَ فيه مواخر} وفي يس {وآية لهم أَنا حلمنا ذُريَتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهُم مِن مثله ما يركبون وإن نشأ نُغرِقُهُم فلا صريخ لهُم ولاهُم ينقذون} فزاد القصة بسطاً.
036.8.5- وقال الإمام البقاعي في نظم الدرر: عند التصريح بالحشر المذكور في السورة وأنه قد استمد منه كل ما انبث في القرآن من ذكر الآخرة الذي بمراعاته وإتقانه يكون صلاح جميع الأحوال في الدارين، وبإهماله ونسيانه يكون فسادها فيهما. هذا مع ما شاركت به السورة غيرها مما جمعته من جميع معانيه المجموعة في الفاتحة من الأسماء الحسنى: الله والرب والرحمن والرحيم وملك يوم الدين الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون، والأمر بالعبادة بسلوك الصراط المستقيم، وتفصيل أهل النعيم وأهل الجحيم، وإثبات الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمناً: الوحدانية والحشر والرسالة التي هي قلب الوجود، وبها صلاحه، وهي ممدة لكل روح يكون به حياة هنية، وهي مبدأ الصلاح كما أن البعث غايته، وأن الخاتم لها إنسان عين الموجودات وقلبها، فأثبت له ذلك على أصرح وجه وآكده.
036.8.6- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أوضحت سورة سبأ وسورة فاطر من عظيم ملكه تعالى وتوحده بذلك وانفراده بذلك بالملك والخلق والاختراع ما تنقطع العقول دون تصور أدناه، ولا تحيط من ذلك إلا بما شاء، وأشارت من البراهين والآيات إلى ما يرفع الشكوك ويوضح السلوك مما كانت الأفكار قد خمدت عن إدراكها، واستولت عليها الغفلة فكانت قد جمدت عن معهود حراكها، ذكر سبحانه بنعمة التحريك إلى اعتبارها بثنائه على من اختاره لبيان تلك الآيات، واصطفاه لإيضاح تلك البينات، فقال تعالى {يس (1) والقرآن الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صراط مستقيم (4)} ثم قال {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهو غافلون (6)} فأشار سبحانه إلى ما تثمر نعمة الإنذار، ويبعثه التيقظ بالتذكار؛ ثم ذكر علة من عمي بعد تحريكه وإن كان مسبباً عن الطبع وشر السابقة {لقد حق القول على أكثرهم (7)} الآيات؛ ثم أشار بعد إلى بعض من عمي عن عظيم تلك البراهين لأول وهلة قد يهتز عند تحريكه لسابق سعادته فقال تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى (12)} فكذلك نفعل بهؤلاء إذا شئنا هدايتهم {أو من كان ميتاً فأحييناه (122)} الأنعام، ثم ذكر دأب المعاندين وسبيل المكذبين مع بيان الأمر فقال {واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية (13)} – الآيات، واتبع ذلك سبحانه بما أودع في الوجود من الدلائل الواضحة والبراهين فقال {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون (31)} الآية، ثم قال {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها (33)} إلى قوله: {أفلا يشكرون (35)} ثم قال {وآية لهم الّيل نسلخ منه النهار (37)} {وكل في فلك يسبحون (40)} ثم قال {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم (41)} إلى قوله: {إلى حين (44)} ثم ذكر إعراضهم مع عظيم هذه البراهين وتكذيبهم وسوء حالهم عند بعثتهم وندمهم وتوبيخهم وشهادة اعضائهم بأعمالهم، ثم تناسجت الآية جارية على ما يلائم ما تقدم إلى آخر السورة.