العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


071.0 سورة نوح


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


071.1 التعريف بالسورة:

1) مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 28 آية. 4) الحادية والسبعون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والرابعة والسبعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “النحل”.  6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 6 مرّات، لله 1 مرّة، رب 5 مرّات، خلق 2 مرّة؛ (1مرّة): غفاراً، يغفر، مخرج. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: (1 مرّة): وداً، سواعاً يغوث، يعوق، نسراً، دياراً، تباراً.

أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: تذر 4 مرّات.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: دعوت 7 مرّات، جعل 6 مرّات، غفر 5 مرّات، قوم 4 مرّات؛ (3 مرّات): مؤمن، نوح، استكبر، الأرض، أضلوا؛ (2 مرّة): نذير، أنبتكم، ظالمين، مكر، يؤخر، أجل، يخرج، أسررت، سماء؛ (1 مرّة): فراراً، وقاراً.

071.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

071.3 وقت ومناسبة نزولها:

هذه أيضاً واحدة من السور الأولى التي نزلت في مكة. لكن الشواهد من موضوعها تبيّن أنها نزلت في الوقت الذي ازدادت فيه مقاومة الكفار لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بشكل أكبر قوّة وفاعلية. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.

071.4 مقصد السورة:

071.4.1- مقصد السورة هو إنذار الناس بشتى الطرق (والوسائل والأساليب) بأنهم يجب أن يعبدوا الله وحده ويتقوه ويطيعوا رسوله. فإن هم فعلوا فتحت كل أبواب الخير عليهم في الدنيا ونجوا من العذاب الأليم، وإن عصوا ضاقت عليهم الدنيا ثم أهلكوا ثم أدخلوا النار في الآخرة. لكن أكثرهم لسوء الحظ أعرضوا وعصوا وضلّوا وأضلّوا فاستحقوا العذاب في الدنيا والآخرة.

071.4.2- ومقصدها نجده في الآيات (1-4): أرسل الله تعالى نوحاً إلى قومه ينذرهم ويدعوهم لعبادة الله وحده فإن لم يفعلوا فسوف يأتيهم العذاب الأليم. وتختم بالآيات (26-28) يدعوا فيها نوح عليه السلام على قومه بالهلاك، لتخليص الأرض منهم فهم مُضِلون وينشئون أولادهم على الفجور والكفر. وأن يغفر له وللمؤمنين تقصيرهم.

071.4.3- وقال البقاعي: مقصودها الدلالة على تمام القدرة على ما أنذر به آخر {سأل} من إهلاك المنذرين وتبديل خير منهم، ومن القدرة على إيجاد يوم القيامة الذي طال إنذارهم به وهم عنه معرضون وبه مكذبون وبه لا هون، وتسميتها بنوح عليه السلام أدل ما فيها على ذلك، فإن أمره في إهلاك قومه بسبب تكذيبهم له في ذلك مشهور ومقصوص في غير ما موضع ومذكور، وتقرير أمر البعث في قصته في هذه السورة مقرر ومسطور.

071.5- ملخص موضوع السورة:

هي من السور الأولى التي نزلت في مكة، واسمها يدل على مقصدها وهو الدفاع عن الرسالة والمرسلين من خلال قصّة دعوة “نوح” عليه السلام قومه بكل الوسائل والسبل وتكرارها وطول مدّتها، مخاطباً عقولهم وقلوبهم وشهواتهم، مبشراً بالمغفرة والثواب ومنذراً من العقاب، ومذكراً بآيات الله ونعمه عليهم، دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلم تزدهم دعوته إلا بُعداً وتصميماً على الكفر. والسورة كلّها قصّة حقيقيّة واحدة من أولها إلى آخرها، تحكي مأساة أمّة كذّبت رسولها وعبدت الأصنام بدلاً عن عبادة الله رب الأصنام، فأهلكها الله بظلمها وجهلها.

وتضمّنت ثلاث مجموعات من الآيات: بدأت (9 آيات) بإنذار نوح قومه من العذاب وأمرهم بعبادة الله وبشارتهم بالمغفرة والثواب، لكنهم أعرضوا وأصرّوا على الكفر، ثمّ (16 آية) دعوتهم إلى الاستغفار والتوبة لينعم الله عليهم، وتذكيرهم بآيات خلقهم وتسخير السماوات والأرض لهم، لكنهم عصوا وعبدوا مالا يضرّ ولا ينفع ومكروا وضلّوا فأدخلوا النار، ثمّ (3 آيات) دعاء نوح على الكافرين بالهلاك، وبقاء المؤمنين يعبدون الله وحده، كما يلي:

(الآيات 1-9): إرسال نوح عليه السلام إلى قومه مبلّغاً ومنذراً لهم من العذاب بكفرهم، ومبشراً لهم بالمغفرة إن عبدوا الله واتقوه وأطاعوه، ويُؤخر عنهم العذاب إلى أجل مسمّى، إمهالاً واستدراجاً، ولو كانوا يعلمون ذلك لسارعوا إلى الإيمان والطاعة. وقد كانوا كلّما دعاهم نوح إلى الإيمان ليُغفر لهم، وضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم واستكبروا استكباراً شديداً، فدعاهم ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا إمعانا في الضلال والعصيان.

(الآيات 10-25): قال نوح لقومه: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يمطر لكم السماء ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنّات وأنهاراً، مالكم لا تخافون الله وقد خلقكم أطواراً، وخلق سبع سماوات طباقاً، وجعل القمر نوراً والشمس سراجاً، وأنبتكم من الأرض ثم يعيدكم فيها ويخرجكم منها، وجعل لكم الأرض بساطاً، لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً. ثمّ قال نوح شاكياً لربّه: ربِّ إنهم عصوني، واتبعوا أصحاب المال والجاه الذين لم تزدهم أموالهم وأولادهم إلا خساراً، ومكروا بتابعيهم مكراً عظيماً، وقالوا لهم: لا تتركوا عبادة آلهتكم إلى عبادة الله وحده، وقد أضلَّ هؤلاء المتبوعون كثيراً من الناس، فبسبب ذنوبهم وكفرهم أُغرقوا وأُدخلوا النار فلم يجدوا من دون الله مَن ينصرهم أو يدفع عنهم عذابه.

(الآيات 26-28): دعا نوح ربه ألا يبقي على الأرض من الكافرين أحداً، لأنهم يُضلّون العباد ولا يلدون إلا فاجراً كفّاراً، ودعا بالمغفرة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، وألا يزيد الظالمين إلا هلاكاً وخسراناً في الدنيا والآخرة.

ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً.

071.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

موضوعات وسياق السورة حسب ترتيب آياتها:

السورة كلها قصة واحدة من أولها إلى آخرها، تحكي مأساة أمة عبدت الأصنام بدلاً عن عبادة رب الأصنام، فأهلكها الله بسبب ظلمها وجهلها. ولأنها قصّة حقيقية واقعيّة كان فهم مقصد السورة وموضوعاتها سهل جداً. هي قصة رسالة نوح عليه السلام إلى قومه، لتكون مثال عن قصص مكررة كثيرة وبسيطة مثلها، حصلت في كلّ أمة عبر تاريخ الإنسان منذ وجد على الأرض، ملخصها: رسول يبين لقومه أنهم خلقوا لعبادة الله وحده، وينذرهم إن أعرضوا بالعذاب الأليم، فيعرض أكثرهم فلا يؤمنون، فيستمر الرسول ببيان الآيات وعرض البشارات وضرب الأمثلة وإقامة البراهين، وأن كل ما يريدونه موجود عند الله وحده فقط، فإذا استغفروه وتابوا إليه من ذنوبهم حصلوا على كل ما يريدون، لكنهم في المقابل يصرون على الإعراض ويزداد مكرهم وكيدهم وعداوتهم للرسول والمؤمنين حتى يهلكهم الله جميعاً وينجي القلّة الذين آمنوا، وتنتهي القصّة. وفي ذكرها هنا درس بليغ وإنذار شديد لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً، وبأنه من يعرض عن عبادة الله ويعبد من دونه المخلوقات من البشر أو الحيوانات أو الجمادات أو الأموال التي تضر ولا تنفع فسوف يواجه نفس مصير عصاة قوم نوح صلى الله عليه وسلم بأن أهلكهم الله فلم يبق منهم على الأرض ديّارا.

وسنجد كذلك في هذه السورة أن دعوة نوح لقومه مرّت بثلاثة مراحل واحتوت على خمسة موضوعات هي: الأول الأمر بالعبادة مبشراً بالمغفرة والثواب ومنذراً من العقاب، والثاني إعراض قومه عن سماع دعوته لهم ناهيك عن التفكر بمضمونها، والثالث التذكير بآيات الله ونعمه عليهم وبيان أن لله سنن في الكون وكل شيء قائم على الأسباب، وتهديدهم بأنهم إن لم يتخذوا أسبابها من الاستغفار والتوبة من الذنوب فستذهب من أيديهم، والرابع عصيان قول نوح وعبادة المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع والمكر بالمؤمنين وإضلال من لم يؤمن. الخامس هلاك المكذبين وخسرانهم لكل شيء، وبقاء القلة المؤمنة تعبد الله وحده، كما يلي:

071.6.1- المرحلة الأولى، وفيها موضوعان: الأمر بالعبادة مبشراً بالمغفرة والثواب ومنذراً من العقاب، وإعراض قومه عن سماع دعوته لهم ناهيك عن التفكر بمضمونها.

071.6.1.1- الآيات (1-4) إرسال الله تعالى لنوح عليه السلام إلى قومه، وتكليفه بتبليغ الدعوة، وإنذار قومه من عذاب الله: قال نوح: يا قومي إني نذير لكم مبين، فاعبدوه وحده، وخافوا عقابه، وأطيعوني فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، يغفر الله لكم من ذنوبكم، ويُمدد في أعماركم إلى وقت مقدر في علمه، إن الموت إذا جاء لا يؤخر أبداً، لو كنتم تعلمون ذلك لسارعتم إلى الإيمان والطاعة.

071.6.1.2- الآيات (5-9) دعا نوح قومه ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، فلم يزدهم ذلك إلا إمعانا في الضلال والعصيان. كلما دعاهم إلى الإيمان لتُغفر ذنوبهم، وضعوا أصابعهم في آذانهم كي لا يسمعوا، وتغطَّوا بثيابهم كي لا يروا، واستكبروا عن قَبول الإيمان استكباراً شديداً.

071.6.2- المرحلة الثانية، وفيها موضوعان: التذكير بآيات الله ونعمه عليهم وبيان أن لله سنن في الكون وكل شيء قائم على الأسباب، وتهديدهم بأنهم إن لم يتخذوا أسبابها من الاستغفار والتوبة من الذنوب فستذهب من أيديهم. ثم عصيان قول نوح وعبادة المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع والمكر بالمؤمنين وإضلال من لم يؤمن:

071.6.2.1- الآيات (10-20) محتوى دعوة نوح لهم: كانت دعوة كريمة عظيمة إلى اتخاذ أسباب النعيم والسعادة في الدنيا والحياة الرغيدة في الدنيا: فيها بشائر بنعم الله عليهم بالمطر والأموال والبنين والبساتين والأنهار، وآياته في أنفسهم وعنايته بهم، وفي تسخير السماوات والأرض، وبسط الأرض ليسلكوا فيها الطرق الواسعة.

قال لهم: سلوا ربكم غفران ذنوبكم، إنه تعالى كان غفاراً. يُنْزِل عليكم المطر غزيراً متتابعاً، ويكثرْ أموالكم وأولادكم، ويجعلْ لكم حدائق، ويجعل لكم أنهاراً. مالكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه، وقد خلقكم أطواراً، وخلق سبع سماوات طباقاً وجعل القمر نوراً والشمس سراجاً وأنبتكم من الأرض نباتاً، ثم يعيدكم في الأرض ويخرجكم منها، والله جعل لكم الأرض بساطاً، لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً.

071.6.2.2- الآيات (21-25) ومع كل هذا التذكير والنصح والإرشاد، فقد تمادى قومه في الكفر والضلال والعناد، واستخفوا بدعوة نبيهم (نوح) عليه السلام، حتى أهلكهم الله بالطوفان:

071.6.2.2.1- قال نوح: ربِّ إنهم عصوني، واتبعوا أصحاب المال والجاه الذين لم تزدهم أموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وعقاباً في الآخرة، ومكروا بتابعيهم مكراً عظيماً، وقالوا لهم: لا تتركوا عبادة آلهتكم إلى عبادة الله وحده، ولا تتركوا أصنامكم التي تعبدونها وأسماؤها وَدّاً وسُواعاً ويغوث ويعوق ونَسْراً. وقد أضلَّ هؤلاء المتبوعون كثيراً من الناس، ثم قال نوح عليه السلام: ولا تزد هؤلاء الظالمين إلا بُعْدا عن الحق.

071.6.2.2.2- فبسبب ذنوبهم وإصرارهم على الكفر والطغيان أُغرقوا بالطوفان، وأُدخلوا عقب الإغراق ناراً عظيمة اللهب والإحراق، فلم يجدوا من دون الله مَن ينصرهم، أو يدفع عنهم عذاب الله.

071.6.3- المرحلة الثالثة: هلاك المكذبين وخسرانهم لكل شيء، وبقاء القلة المؤمنة تعبد الله وحده.

الآيات (26-28) وقال نوح عليه السلام، يدعوا ربه أن يهلكهم ويحق سنته فيهم، بعد يأسه منهم، بسبب اعراضهم واتخاذهم أسباب الهلاك، ويطلب لنفسه وللمؤمنين المغفرة (امتثالاً لأمر الله في الآية 10): ربِّ لا تترك على الأرض من الكافرين أحداً يدور ويتحرك. إنك إن تتركهم دون إهلاك يُضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجراً شديد الكفر والعصيان. ربِّ اغفر لي ولوالديَّ ولمن دخل بيتي مؤمناً، وللمؤمنين والمؤمنات، ولا تزد الكافرين إلا هلاكاً وخسراناً في الدنيا والآخرة.

وقد جاءت هذه النهاية الأليمة التي حذرت منها الآية الأولى، درساً لمن بعدهم من الأمم، وتطبيقاً لسنة الله بإهلاك الظالمين، ومتوافقة مع حكم نوح عليه السلام ودعائه عليهم بالهلاك.

071.7 الشكل العام وسياق السورة:

071.7.1- اسم السورة: سميت بهذا الاسم لأنها خُصّت بذكر قصة نوح عليه السلام، منذ بداية دعوته حتى الطوفان وهلاك المكذبين. وفي السورة بيان لسنة الله تعالى في الأمم التي انحرفت عن دعوة الله، وبيان لعاقبة المرسلين ومن آمن معهم، وعاقبة المكذبين والكافرين.

071.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعاتها:

تحكي السورة الواقع المؤلم الذي يوقع الإنسان نفسه فيه بسبب ظلمه وجهله، وتعاسته بتحويل السعادة إلى شقاء، والفوز إلى خسران والنعيم إلى عذاب. وكيف انتهت حياته ومصيره بشكل مأساوي ومحزن.

فتبين أن مقصد وجود الإنسان في هذه الحياة وهو عبادة الله وتقواه وطاعة رسوله، وتشرح الحكمة من وجوده كاملة: فقد سخرت له السماوات والأرض وجرى تحقيق السعادة والاستقرار والأمان له على الأرض ليتفرغ لما خلق لأجله وهو عبادة الله والعمل للآخرة، وفي الآخرة يكون جزاءه الجنة، أما إن عبد غير الله فيكون مصيره العذاب والهلاك في الدنيا والنار في الآخرة.

وقد جاءت السورة على شكل قصة سهلة الفهم، وهذا من أعظم البيان، ويشير إلى أهميّة مقصدها وموضوعاتها، لأنها بذلك تقصد أن يفهمه المتعلم وغير المتعلم، والصغير والكبير، بل لا يعجز عن فهم مقصود هذه السورة أي إنسان عاقل، وذلك رحمة من الله بعباده. ذلك لكي يعلموا لماذا وجدوا ويتعرفوا على سنن الله في الوجود والحياة. وسيظهر لنا بوضوح من سياق السورة كيف أنها لم تدع حيلة أو وسيلة يدعوهم فيها إلى الإيمان والعبادة الا واستخدمتها في سبيل أن يؤمنوا ويتبعوا طريق السعادة.

وباعتبار موضوعاتها يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مجموعات من الآيات كما يلي:

071.7.2.1- مقصد السورة وهو إنذار الناس بأنهم خلقوا لعبادة الله وحده، والنتيجة أن أكثر الناس فرّوا من النذير، وأعرضوا عن عبادة الإله الحق وعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الآلهة التي صنعوها بأيديهم.

071.7.2.1.1- الآيات (1-4) تبدأ السورة بأربع آيات تدعو للعبادة لله وحده فإن لم يفعلوا فسوف يأتيهم العذاب الأليم (وهو ما سيأتي تفصيله في السياق). وتبلّغ الناس بأنهم في هذه الحياة مبتلون ومكلفون بطاعة الله، وتلخص مقصد وجود الإنسان على هذه الأرض وهو أن ما هم فيه من النعيم هو من الله، وهم مبتلون بالاعتراف بفضله عليهم وشكره، وذلك بأن يستقيموا على دينه الحق، وينتظموا بسننه وأسبابه، ويلتزموا مع فطرة الله التي فطر عليها هذه الحياة، فإن لم يفعلوا فحتماً سيكون مصيرهم العذاب الأليم.

071.7.2.1.2- الآيات (26-28) وتختم السورة بثلاثة آيات يقول فيها نوح عليه السلام بعد تجربة محزنة أليمة حقيقية جربها بنفسه: أن لا فائدة من الإنذار ودعوة أُناس لا يريدون الإيمان، فلن يؤمنوا مهما طالت مدة دعوتهم وتنوعت وسائلها. فيدعو نوح ربه لتخليص الأرض منهم فهم مُضِلون وينشئون أولادهم على الفجور والكفر. وأن يغفر له وللمؤمنين تقصيرهم. وقد أتت دعوة نوح عليه السلام ناطقة بالحق وموافقة لسنن الله العادلة في الخلق بإهلاك العاصين بسبب خطاياهم.

071.7.2.2- وما بين هذه المقدمة وتلك الخاتمة احتوت السورة على موضوعان يثبتان أن الله أراد للناس الهداية والسلامة والنجاة من العذاب الأليم ولكن الناس: في الموضوع الأول لم يسمعوا كلام الله.

071.7.2.3- وفي الموضوع الثاني لم يعتبروا بالآيات والأدلّة، رغم كثرتها وكونها آيات مبينة ودالّة على أنه لا إله إلا الله، مع ذلك عبدوا الأصنام بدل عبادة الله، ومكروا بالمؤمنين، فقد أرادوا عكس ما أراده الله لهم فوقعوا في العذاب.

071.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعاتها ووسائل الدعوة إلى الإيمان والعبادة التي استخدمتها السورة في سبيل أن يؤمنوا ويتبعوا طريق السعادة والرشاد (وقد أشرنا إلى ذلك ما (بين الأقواس)) كما يلي:

071.7.3.1- الآية (1) ابتدأت السورة الكريمة بإرسال الله تعالى لنوح عليه السلام، وتكليفه بتبليغ الدعوة، وإنذار قومه من عذاب الله الأليم. (وفي هذه الآية وعيد وتحذير وتخويف إن هم استمرّوا في المعصية).

071.7.3.2- الآيات (2-12) ثم ذكرت السورة جهاد نوح عليه السلام، وصبره، وتضحيته في سبيل تبليغ الدعوة، فقد دعا قومه ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا إمعانا في الضلال والعصيان، كما يلي:

الآية (2) نوح بلّغ قومه أنه نذير مبين، (أي بلاغ وإنذار). الآية (3) عليهم أن يعبدوا الله ويتقوه ويطيعوا رسوله، (يعني تذكير بمقصد وجودهم، وأمر بالطاعة ونهي عن المخالفة، وتحذير لكي يجعلوا لهم وقاية من العذاب). الآية (4) يغفر الله الذنوب ويؤخر عنهم العذاب إلى أجل مسمّى، (أي البشارة بغفران الذنوب والإمهال لهم لكي يرى ما هم فاعلون). الآية (5) نوح ظل يدعو قومه ليلاً ونهاراً، (اختلاف الأزمان والأوقات). الآيات (6، 7) أعراض قوم نوح عن دعوته وأغلقوا سمعهم وأبصارهم واستكبروا، (الصبر عليهم، وتكرار الدعوة). الآيات (8، 9) نوح ظل يدعوهم جهاراً، وفي السرّ والعلانية، (اختلاف أساليب الدعوة جماعات وفرادى وسراً في العلن). الآية (10) استغفروا ربكم فإنه كان غفاراً، (الوعد والبشرى بالمغفرة وأن الله دائم المغفرة)، الآيات (11، 12) يمطر السماء ويمد بأموال وبنين ويجعل لهم جنات ويجعل لهم أنهاراً، (البشرى بالمطر وإكثار الأموال والأولاد وجنات وأنهار).

071.7.3.3- ثم تتابعت السورة تذكرهم بإنعام الله وأفضاله على لسان نوح عليه السلام، ليجتهدوا في طاعة الله، ويروا آثار قدرته ورحمته في هذا الكون الفسيح. ومع كل هذا التذكير والنصح والإرشاد، فقد تمادى قومه في الكفر والضلال والعناد، واستخفوا بدعوة نبيهم (نوح) عليه السلام، حتى أهلكهم الله بالطوفان:

071.7.3.3.1- الآيات (13-20) مالكم لا تعظمون الله حق عظمته ولا تخافون من بأسه ونقمته. وقد خلقكم أطواراً، وخلق سبع سماوات طباقاً وجعل القمر نوراً والشمس سراجاً وأنبتكم من الأرض نباتاً، ثم يعيدكم في الأرض ويخرجكم منها، والله جعل لكم الأرض بساطاً، لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً، (وفيها مخاطبة النفس بالحجّة والمنطق إذ كيف لا يخافون عظمة الله وسلطانه، ولا يعتبرون بالآيات في خلقهم أطواراً، وخلق سبع سماوات متطابقات، وجعل الكواكب والنجوم والسراج والنور. وكيف لا يتعظون بآيات الإحياء والموت والبعث والإخراج وتمهيد الأرض والطرقات الواسعة).

يدعوهم ليتأملوا ما هم فيه من النعيم خلقهم أطواراً حتى اكتمل قوامهم كأحسن ما يكون، وخلق لهم السماوات والأرض والنبات والسهول والفجاج، فيطيعوا دعوة الرسول، ويعبدوا خالقهم الحق وهو الله. لكنهم للأسف أعرضوا عن الرسول وهو يدعوهم إلى الخير، ويدلهم على كيفية تحقيق مصالحهم الدنيوية، ليغفر الله لهم، وينزل عليهم المطر ويمدهم بالأموال والبنين. فإذا هم يفرون منه فرار الفريسة من الأسد، ويجعلون أصابعهم في آذانهم، ويستغشوا ثيابهم، وأصرّوا واستكبروا استكباراً.

071.7.3.3.2- الآيات (21-25) عصوا نوح وعبدوا الأصنام، وقد أضلّوا كثيراً، فلما يئس منهم نوح دعا عليهم بأن يزدادوا ضلالاً، (فنبيهم شهيد على عصيانهم وعلى اتباعهم ما يضرّهم، وعبادتهم الأصنام، وهنا يقيم الحجة على جهلهم وظلمهم لأنفسهم ومكرهم السيء بأهل الصلاح والإيمان وتمسكهم بالأصنام ودعوتهم إلى نصرتها فظلموا غيرهم وأضلوهم).

فبسبب ذنوبهم وإصرارهم على الكفر والطغيان أُغرقوا بالطوفان، وأُدخلوا عقب الإغراق ناراً عظيمة، فلم يجدوا من دون الله مَن ينصرهم، أو يدفع عنهم عذاب الله.

071.7.3.4- الآيات (26-28) وختمت السورة الكريمة بدعاء نوح عليه السلام على قومه بالهلاك والدمار، بعد أن مكث فيهم تسعمائة وخمسين سنة، يدعوهم إلى الله، فما لانت قلوبهم، ولا انتفعت بالتذكير والإنذار:

071.7.3.4.1- الآيات (26-27) دعا نوح عليهم بما ظلموا أنفسهم بالاستئصال والاستبدال (سنة الله): أغرقهم الله في الدنيا وعذبهم في الآخرة بالنار، وقد اختاروا هم لأنفسهم طريق الضياع والشقاء ولم يقبلوا بغيره بديلاً، (آيات الله بإهلاك المكذبين العاصين يرونها بأنفسهم).

071.7.3.4.2- الآية (28) دعا نوح عليهم، وطلب لنفسه وللمؤمنين المغفرة (ذلك بعد أن استنفذ كل وسائل الدعوة والإنذار، ولم يبق شيء سوى أن يفرّق الله بين المؤمنين والكافرين، فيهلك الكافرين بإفسادهم ويبقي المؤمنين بإصلاحهم، فتكون هذه النتيجة درساً وعبرة لمن سيأتي بعدهم ويخلفهم من الأمم)

المؤمن يرى بعين الحق أن الكافرين هم السبب في الشر والفساد الذي يحصل على الأرض. فيدعوا كما دعا نوح عليه السلام ربه أن يستأصلهم لأنهم يحرضون على الكفر ويدعون إلى الضلال وينشئون أولادهم على الكفر والفجور. وهو يرى كذلك أن الخير في الإيمان فيدعوا الله لنفسه وللمؤمنين بالمغفرة فهي سبب كل خير ورحمة، وألا يزيد الكافرين إلا هلاكاً وخسراناً في الدنيا والآخرة.

071.7.4- سياق السورة باعتبار القصص:

071.7.4.0- هذه السورة لا تخاطب الناس بكلام إخباري أو تقريري جاف، ولا أوامر أو نواهي مجردة، ولا تستخدم كلام نظري يحتاج إلى علم ومعرفة بعلوم الكلام وفنونه لاستيعاب مقصدها ومعانيها، بل تحكي قصّة أمة من بدايتها إلى نهايتها، فيفهم من أحداث هذه القصّة الحقيقية سنّة الله في الحياة، وماذا يريد الله من الناس، وصفات الناس وتصرفاتهم وأعمالهم، ثم المصير النهائي في الدنيا وفي الآخرة، الذي جاءت نتائجه، جزاءاً وفاقاً على ما كسبت أيدي الناس، وعلى ما قدّموه في حياتهم.

071.7.4.0.1- بالرغم من بساطة وسهولة فهم أحداث السورة، إلا أنه برز فيها استخدامها لكل وسائل الدعوة إلى توحيد الله وتقواه وعبادته وحده وطاعة رسوله: من إرسال الرسل تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصيته وبالإنذار والتبشير ووسائل خطاب العقل والمنطق والفطرة والقصص والسنن الكونية والعواطف والأنفس والتكرار والصبر عليهم وطول الزمان واختلاف الأزمان والمكان وتنوع الأساليب والترغيب والترهيب والآيات في أنفسهم وفي الكون والإقناع والوعد والوعيد وبسط النعمة وقبضها والإحياء والإماتة والثواب والعقاب والحساب على الأعمال وأن مصير الناس النهائي تأتي نتائجه تبعاً لما عملوه في الدنيا.

071.7.4.0.2- كلام الله كلام عظيم سامي غزير المعاني، لا تنقضي عجائبه، يحتاج إلى فهم بصير واع (ليس سطحي) وتدبّر متكرّر عشرات بل مئات بل آلاف المرّات، ففي كلّ تدبّر جديد يظهر فهم جديد، وعلم غزير راقي، كيف لا وهو كلام الله خالق الإنسان وخالق عقله وفهمه ونفسه. الله يعلم أن أكثر الناس لا يتدبّرون آياته، لذلك يحملهم على تدبرها حملاً، ويغمسهم فيها غمساً لا يخرجون منه إلا وقد أصابهم منه صائب، بل يمطرهم بآيات وحجج وقصص وأمثال تبيّن لهم الحق الذي فطروا عليه، فيسحر عقلهم وقلبهم وأنفسهم وكل مكونات بنائهم التي يعلق بها أثر من كلام الله لا يزول. الإنسان يعلم بفطرته وأصل خلقته أن في هذه الآيات التي تقرأ عليه ويسمعها ويبصرها السعادة والسلام الأمان الخالد الأبدي. هذا هو الحال في هذه السورة، جاءت بقصص بديع سهل الفهم جامع مانع بليغ كامل شامل لا يدع جاهلاً إلا علّمه، ولا تساؤلاً إلا أجاب عليه، ولا حاجة ماديّة أو روحية إلا لبّى حاجتها كاملة بلا نقص. قصة هذه السورة سهلة الفهم واسعة المعاني: تقول فيها اعبدوا الله فتتحقق لكم كل حاجاتكم، لكنكم تعبدون الأوثان فتخسرون كل شيء وتعذبون بخطيئاتكم. وتقول لهم أن: الكل يعبد ألهاً، فالعبادة حاصلة لا مفرّ منها لأنها حاجة فطريّة، إما عبادة الله أو عبادة الأوثان؛ فاعبدوا الإله الذي ينفعكم ويحميكم ويغفر لكم ويدخلكم الجنة، لكن المأساة الحاصلة أن أكثر الناس يعبدون الآلهة التي لا تضر ولا تنفع.

071.7.4.0.3- الله خلق الإنسان ليعبده (بل خلق كلّ الكون لعبادته). ليعبده أي يخشى معصيته باجتناب نهيه، ويطيع أوامره باتباع ما جاء به رسله. فإذا فعل حقق الله له كل حاجاته الماديّة والروحية، ويؤخره إلى أجل مسمّى ليحقق له النعيم المقيم والسعادة الأبدية الخالدة التي لا تزول أبداً. كيف لا والله هو خالق كلّ شيء، كيف لا وهو في هذه السورة يقول اعبدوا الله واتقوه وأطيعوا رسوله يغفر لكم ذنوبكم وغيرها من الوعود التي هي غاية مراد الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة. الله يريد من الناس ليعبدوه من أجل تحقيق سعادتهم ومصالحهم وحاجاتهم فهو ليس بحاجتهم؛ لكن الإنسان يريد حجراً يعبده، يريد نعمة يغتر بها، ومالاً يشتري به ويتسلط به على الفقراء والمساكين، يريد شخصاً مرئياً ينصره؛ أي الإنسان يريد شيئاً مرئياَ، لكن الله لا يرى بالعين، ولا بالتصّور أو التشبيه أو الخيال، ولا يحاط حتى بعلمه وصفاته؛ نستطيع أن نراه من أفعاله ونعمه وآياته. وهذا ما تخبرنا به هذه السورة، استغفروا الله يغفر لكم، واعبدوه ينعم عليكم، فإن لم تفعلوا فستعبدون غيره وتصير حياتكم جحيم، هذا هو دليل الإيمان، أثر ترونه وتلمسونه وتعيشونه في حياتكم، فالإيمان ومعرفة الله لا تحتاج إلى حجر ولا إلى مال ولا إلى نفوذ. للأسف الإنسان بسطحيته وإهمال عقله ومحدودية حواسه يريد إلها يُرى (وهذا مستحيل)، فيعرض عن الحق المبين عناداً وغروراً، ويلغي سمعه فلا يسمع وبصره فلا يبصر ويلغي عقله وقلبه فلا يفقه، إلا القلّة القليلة كالذين آمنوا ونجوا مع نوح عليه السلام في السفينة. وقصّة نوح عليه السلام هذه السهلة الفهم وموضوع السورة كاملة، باختصار كما يلي:

071.7.4.1- الآيات (1-4) لقد أرسل الله نوحاً إلى قومه رحمة بهم وإنذاراً لهم من عذابه الأليم، إن هم لم يفعلوا ما خلقهم الله لأجله وهو {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون (3)}.

071.7.4.2- الآيات (5-20) يشكوا نوح عليه السلام لربه عن المعاناة والشدائد والمشاكل التي واجهها في طريق تبليغه الدعوة عبر القرون. ويبين عدم تقصيره، فيصرّح أنه كان يدعوا قومه ليلاً ونهاراً، وسراً وعلانية، وبالترغيب والترهيب والحجج والأمثلة لعلهم يطيعوه فيهتدون إلى عبادة الله، إلا أنهم قابلوه بالعناد والرفض الشديد.

071.7.4.3- الآيات (21-25) يدعو نوح عليه السلام ربّه ويتضرع إليه: بأن قومه ظلموا أنفسهم بإرادتهم الضلالة لأنفسهم فليزيدهم الله ضلاله حتى يستحقّوا الهلاك. ليس لأنه نفذ صبره، لكن لأن محاولاته عبر القرون لهداية قومه أصبحت غير ذات جدوى، بل أنهم وصلوا إلى مرحلة من العناد والتعصّب وتحريض بعضهم بعضاً على الكفر، لن يفيد معها أي محاولة تعيدهم أو تهديهم إلى صراط الله المستقيم. وهذا ما أكّده الله سبحانه وتعالى بأنه أغرقهم في الدنيا وأدخلهم النار في الآخرة بسبب خطيئاتهم.

071.7.4.4- الآيات (26-28) دعاء نوح لربّه بتحقيق وعده سنّته التي لا تتبدّل بإهلاك الظالمين، واستحقاق قومه العذاب بالغرق. ودعائه للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة من الله.

والمزيد عن تفاصيل قصّة نوح عليه السلام مع قومه المذكورة في القرآن: في الآيات (59-64) من سورة الأعراف، والآيات (71-74) من سورة يونس، والآيات (25-49) من سورة هود، والآيات (76، 77) من سورة الأنبياء، والآيات (23-31) من سورة المؤمنون، والآية (37) من سورة الفرقان، والآيات (105-122) من سورة الشعراء، والآيات (14، 15) من سورة العنكبوت، والآيات (75-82) من سورة الصافات، والآية (46) من سورة الذاريات، والآيات (9-16) من سورة القمر، والآية (10) من سورة التحريم.

انظر أيضاً سورة الشعراء: 026.8.4.4 قصّة نوح عليه السلام.

071.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

071.7.5.1- القصص في الآيات: (1-13، 21-28) = 21 آية.

071.7.5.2- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (14-20) = 7 آيات.

071.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

071.8.0- وهكذا لمّا بيّنت نوح سنّة الله تعالى في إرسال المرسلين وجهادهم وصبرهم على قومهم في تبليغ دعوة ربهم بكل ما يناسب أفهامهم من الحجج والآيات والبراهين والترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فلم يزدهم ذلك إلا بعداً وتصميماً على الكفر، ولمّا بيّنت كذلك سنّته في إهلاك الأمم التي انحرفت وأعرضت عن دعوة المرسلين ونجاة المؤمنين، فقد سبقتها على نفس السياق سورة المعارج بالإعلام عن حسن تدبير الله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على قومه {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)}، ومبينة بأن الله قادر عليهم ولكنه مؤخرهم إلى ميعاد {إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)}. أعقبتها كذلك سورة الجن التي استهلّت بالإعلام بأن الجن حين سمعوا القرآن آمنوا من فورهم، ولم يتوقفوا عند هذا بل رجعوا إلى قومهم مبلغين ومنذرين، ولم يكن النبي من جنسهم ولا من أنفسهم، وهذا دليل على أن من شاء الإيمان آمن بأبسط الأسباب كما آمن الجن، وفيه برهان على سهولة كلام الله وقربه من العباد وبساطة دينه الهادي إلى الرشد النّاهي عن الباطل، وفي أوسطها تأكيد على ما بشّرت به نوح بأن في اتباع الدين الخيرُ الكثير للعباد {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)}، وختمت بالإعلام بأن الله أرسل المرسلين مبلّغين ليعلم المرسلون والناس والجن أجمعون بأن الله مبلّغ دينه وحافظه وأنه محيط بكلّ شيء ومحصيه {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}، صدق الله العظيم.

071.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: أكثر ما ظهر في وجه اتصالها بما قبلها بعد طول الفكر أنه سبحانه لما قال في سأل‏: {إِنّا لقادرون على أَن نبدل خيراً مِنهُم} عقبه بقصة قوم نوح المشتملة على إبادتهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم ديار وبدل خيراً منهم فوقع الاستدلال لما ختم به تبارك هذا مع تآخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعد به الكافرين.

071.8.2- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على قومه في قوله: {فاصبر صبراً جميلاً (5)} المعارج، وجليل الإغضاء في قوله: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا (42)} المعارج، أتبع ذلك بقصة نوح عليه السلام وتكرر دعائه قومه إلى الإيمان، وخص من خبره حاله في طول مدّة التذكار والدعاء لأنه المقصود في الموضع تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم، وليتأسى به في الصبر والرفق والدعاء كما قيل له صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم (35)} الأحقاف، {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (8)} فاطر، فقد دام دعاء نوح عليه السلام مع قومه أدوم من مدتك، ومع ذلك فلم يزدهم إلا فراراً {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً (5) فلم يزدهم دعائي إلا فراراً (6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً (7)} نوح، ثم مضت آي السورة على هذا المنهج من تجديد الإخبار بطول مكابدته عليه السلام وتكرير دعائه، فلم يزدهم ذلك إلا بعداً وتصميماً على كفرهم حتى أخذهم الله، وأجاب فيهم دعاء نبيه نوح عليه السلام {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً (26)} نوح، وذلك ليأسه من فلاحهم، وانجر في هذا حض نبينا صلى الله عليه وسلم على الصبر على قومه والتحمل منهم كما صرح به في قوله تعالى {خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين (199)} الأعراف، وكما قيل له قبل {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت (48)} القلم، {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك (120)} هود.

انظر تناسب سورة الجن مع نوح (072.8.1).

انظر تناسب سورة الجن مع غيرها من السور (072.8.2).

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top