العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
073.0 سورة المزمل
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
073.1 التعريف بالسورة:
1) مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 20 آية. 4) الثالثة والسبعون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثالثة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “القلم”. 6) ليس لها أسماء أخرى.
7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 7 مرّات، رب 4 مرّات؛ (1 مرّة): هو، غفور، رحيم، وكيل، يَعْلَم، يقدر، فضّل. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: تبتّل 2 مرّة؛ (1 مرّة): المزمل، ناشئة، أنكالاً، غصة، كثيباً، مهيلاً، وبيلاً.
أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (2 مرّة): اهجر، تيسّر.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: الليل 4 مرات؛ (3 مرّات): قليلاً، رسولاً؛ (2 مرّة): رتّل، النهار، يوم، الأرض، الجبال، أرسلنا، قرض؛ (1 مرّة): اذكر، تذكرة، شاء، منفطر.
073.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة والبيهقي في سننه عن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قالت: ألست تقرأ هذه السورة {يا أيها المزّمل (1)} قلت: بلى قالت: فإن الله قد افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوّعاً من بعد فريضة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت {يا أيها المزّمل (1) قم الليل إلا قليلا (2)} مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله بعد عشر سنين {إن ربّك يعلم أنك تقوم (20)} إلى قوله {فأقيموا الصلاة} فخفف الله عنهم بعد عشر سنين.
073.3 وقت ومناسبة نزولها:
تنقسم السورة إلى قسمين نزلا في وقتين مختلفين.
القسم الأول: وهو الآيات (1-19) وهو مكّي بالإجماع، وهذا ما يؤكده كل من الأحاديث الشريفة وموضوع الآيات. لكن الأحاديث لا تبين بالتحديد متى نزلت في العهد المكي، إلا أن الشواهد من السورة وموضوعها تساعد في تحديد الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات.
أولاً: لقد أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقيام الليل استعداداً لاستقبال القول الثقيل الذي سينزل عليه والقيام بالرسالة التي يحتويها هذا القول. فهذا يبيّن أن هذا الأمر لا بد نزل في وقت مبكّر جدا من بدئ النبوّة، يُعلّم الله سبحانه به نبيه مهام وواجبات وظيفته.
ثانياً: لقد أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقيام نصف الليل أو أقل قليلاً وهذا يعني أنه نزل من القرآن ما يكفي للقراءة في هذه الصلاة الطويلة التي تعادل نصف الليل.
ثالثاً: لقد طُلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الصبر على ما يقوله المكذبين وفي نفس الوقت هدد الله سبحانه كفار مكة بالعذاب الأليم. وهذا يبيّن أن هذه الآيات نزلت في وقت بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوا فيه إلى الإسلام علناً، وبدأت فيه مقاومة المكذبين في مكّة بالازدياد قوّة وفاعليّة.
القسم الثاني: وهو الآية (20) الكثير قالوا إنها مكّية، والبعض الآخر قال إنها مدنيّة. إلا أن الشواهد من الآية نفسها يدل على أنها مدنيّة: وذلك بسب ذكر القتال في سبيل الله والذي لم يكن موجوداً في الفترة المكّية، وتحتوي أيضاً على الأمر بإيتاء الزكاة والتي فرضت وحدد نصابها في الفترة المدنيّة.
073.4 مقصد السورة:
073.4.1- تأمر السورة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم (والمؤمنين) بقيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله؛ والصبر على تحمل ثقل الوحي وأعباء الدعوة إلى دين الله، والصبر على أذى المشركين وتكذيبهم. دين الله الذي هو صلاة وزكاة وعمل خير وإصلاح في الأرض. وهو يتطلب جهد وصبر واتباع للحق، وليس انشغال بالنعمة عن الحق (باللهو واللعب والتفاخر واتباع الأهواء).
السورة تتحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا سميت “سورة المزمل”، وبالتالي أتباعه وأمته فهم المخاطبون بالقرآن من بعده وفي الحديث الصحيح “إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين” رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، والدارمي.
073.4.2- ومقصدها نجده في الخمس آيات الأولى (1-5): التي تحكي قصة تزمل الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن لأن فيهما الاستعانة على ما سيُلقى من قول ثقيل، وتطبيق ما فيه من الأوامر، والقيام بطاعة الله، والاستعانة على الصبر على الأذى والتوكل على الله وحده، فهو الذي يحاسب كل عامل بعمله.
والآية قبل الأخيرة تلخص هذا المقصد بأن هذه السورة (وكذلك القرآن) تذكرة، والإنسان مخير بأن يفعل ما يشاء، والأولى له أن يتبع سبيل الله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)}.
073.4.3- وقال البقاعي: سورة المزمل مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال، وتخفف الأحمال الثقال، ولاسيما الوقوف بين يدي الملك المتعال، والتجرد في خدمته في ظلمات الليال، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال، ومحو ظلل الضلال، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال، لما يرد من الكدورات في دار الزوال، والقلعة والارتحال، واسمها المزمل أدل ما فيها على هذا المقال.
073.5 ملخص موضوع السورة:
نزلت في وقت مبكّر جداً من بدء النبوّة، تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله استعداداً لاستقبال ثقل الوحي الذي كلّف به ليقوم بتبليغه، وبالتوكل على الله والصبر وهجر المكذبين. وكذلك أُمر بذلك المؤمنون فهم المخاطبون بالقرآن وقد أُمروا بما أمِر به المرسلون.
وتتضمّن أربع مجموعات من الآيات: استهلّت (8 آيات) بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يحتاجه من القيام والتلاوة والتبتل من أجل القيام بمهام القول الثقيل الذي سيلقى عليه، ثمّ (6 آيات) تأمره بالتوكل على الله والصبر على ما يقولون وهجر المكذبين فالله محاسبهم ومجازيهم، ثمّ (5 آيات) التحذير بأن الله أرسل المرسلين شهوداً على أعمال أقوامهم فليجعلوا لأنفسهم وقاية من الحساب والجزاء، ثمّ (1 آية) تأكيد بأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله بالأعمال هي أشياء عظيمة تعين المؤمنين، فليأتوا منها ما استطاعوا وليستغفروا الله الغفور الرحيم.
(الآيات 1-8): أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الغطاء وقيام الليل إلا قليلاً منه، وقراءة القرآن بتُؤَدَة وتمهُّل، إنا سننزل عليك قرآناً عظيماً (فيه الدين). إن العبادة التي تنشأ في جوف الليل هي أشد تأثيراً في القلب، وأبين قولاً، إن لك في النهار اشتغالا واسعاً في مصالحك وبأمور الرسالة، فاذكر اسم ربك، وانقطع إليه في عبادتك.
(الآيات 9-14): الأمر بالتوكل على ربّ المشرق والمغرب لا إله إلا هو، والصبر على ما يقوله المكذبون أصحاب النعيم وهجرهم وإمهالهم لعقاب الله، إن لهم في الآخرة قيوداً وناراً مستعرة وعذاباً أليماً، يوم ترجف الأرض والجبال بعد أن كانت صُلبة جامدة.
(الآيات 15-19): تحذير ووعيد بأن أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم بأعمالكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً، فكذَّب فرعون وعصى فأهلكه الله، فكيف تتَقُون إن كفرتم عذاب يوم القيامة الذي يشيب فيه الولدان؟ والسماء متصدعة، وكان وعد الله واقعاً لا محالة، إن هذه الآيات تذكرة وعظة فمن شاء اتخذ طريقاً توصله إلى رضوان ربه.
(الآية 20): إن ربك يعلم أنك تقوم الليل وطائفة من الذين معك، وعلم أنه لا يمكنكم قيام الليل كلّه {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فخفَّف عنكم، فاقرؤوا ما تيسر من القرآن وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وتصدَّقوا، وما تفعلوا مِن خير تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا ومغفرة ذنوبنا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار.
073.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
تنقسم السورة باعتبار ترتيب آياتها إلى أربعة مجموعات من الآيات يتم من خلالها التركز على حاجة الرسول (والمؤمنين) إلى عون من الله من أجل القيام بطاعته وتطبيق قوله الثقيل، ويتأتى هذا العون من الله بسبب قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله. المجموعة الأولى تأمر الرسول بما يحتاجه من القيام والتلاوة والتبتل من أجل تطبيق القول الثقيل ذي سيلقى عليه، والثانية تأمره بالتوكل على الله والصبر وهجر المكذبين، والثالثة تسلية للرسول وتذكرة للمؤمنين وتحذير للمكذبين بأن المرسلين شهوداً على أعمال أقوامهم فليجعلوا لأنفسهم وقاية من الحساب والجزاء، والآية الأخيرة تعود وتؤكد أن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله بالأعمال أشياء عظيمة تعين المؤمنين فليأتوا منها ما استطاعوا.
الآيات (1-8) لقد أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يستعد بقيام نصف الليل أو قريب منه والتبتل أي الانقطاع إلى الله والإنابة اليه وذلك لاستقبال القول الثقيل الذي سينزل عليه والقيام بالرسالة التي يحتويها هذا القول.
يا أيها المتغطي بثيابه، قم الليل إلا قليلاً منه، نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه واقرأ القرآن بتُؤَدَة وتمهُّلٍ، إنا سننزل عليك قرآناً عظيماً مشتملا على دين الله والأوامر والنواهي والأحكام. إن العبادة التي تنشأ في جوف الليل هي أشد تأثيراً في القلب، وأبين قولاً. إن لك في النهار اشتغالا واسعاً في مصالحك وبأمور الرسالة، ففرِّغْ نفسك ليلا لعبادة ربك. واذكر اسم ربك، وانقطع إليه في عبادتك، وتوكل عليه. هو مالك المشرق والمغرب لا إله إلا هو، فاعتمد عليه، وفوِّض أمورك إليه.
الآيات (9-14) بعد الاستعداد بالذكر والعبادة يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتخاذ رب المشرق والمغرب وكيلاً وبالصبر على ما يقول المكذبون وهجر أذاهم هجراً جميلاً، ثمّ يدَع عقابهم ويمهلهم لعقاب الله الأليم.
واصبر على ما يقوله المشركون فيك وفي دينك، واهجرهم في أفعالهم الباطلة دون جفاء أو أذى، ودع عقابهم لله. ثم تهديد بأن دعني وهؤلاء المكذبين أصحاب النعيم في الدنيا، ومهِّلهم زمناً قليلا بتأخير العذاب عنهم، إن لهم عندنا في الآخرة قيوداً وناراً مستعرة، وطعاماً ينشَب في الحلوق لا يستساغ، وعذاباً أليماً. يوم ترجف الأرض والجبال وتتزلزل حتى تصير رملاً سائلا متناثراً، بعد أن كانت صُلبة جامدة.
الآيات (15-19) تحذير لكفار مكّة بأن الله أرسل لهم رسولاً كما وسبق أن أرسل إلى فرعون رسولاً، {فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً (16)}. فهذه تذكرة باتباع سبيل الله قبل أن يأتي اليوم الذي من هول ما فيه {يجعل الولدان شيباً (17)}.
إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهداً عليكم كما أرسلنا موسى إلى فرعون رسولاً، فكذَّب فرعون بموسى، فأهلكناه إهلاكاً شديداً. وفي هذا تحذير من معصية الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم؛ خشية أن يصيب العاصي مثل ما أصاب فرعون وقومه.
فكيف تَتَقُون إن كفرتم، عذاب يوم القيامة الذي يجعل الولدان شيباً، مِن شدة هوله وكربه؟ وتكون السماء متصدعة، وكان وعد الله تعالى بمجيء ذلك اليوم واقعاً لا محالة. إن هذه الآيات المخوفة عظة وعبرة، فمن أراد الاتعاظ اتخذ الطاعة والتقوى طريقاً توصله إلى رضوان ربه.
الآية (20) إن قيام الليل وترتيل القرآن هي من الأعمال العظيمة التي تعين المؤمنين على طاعة الله والصبر على أذى المشركين وعلى التوكّل على الله وحده لا شريك له. وقد علم الله أن منهم من لا يمكنهم قيام الليل كله، فخفَّف عليهم ذلك وكلفهم بحسب جهدهم واستطاعتهم.
ولأن أحوال وظروف الناس تختلف من شخص لآخر، كلّ حسب وظيفته ودوره المقدر له في بناء المجتمع والنهوض به، فقد يسّر الله على الناس وخفف عنهم وكلفهم بحسب جهدهم واستطاعتهم، فبعضهم يعجزه المرض عن قيام الليل، وآخرون يتنقَّلون في الأرض للتجارة والعمل يطلبون من رزق الله الحلال، وآخرون يقاتلون في سبيل الله. فخفف عنهم قراءة القرآن كل حسب ما تيسر له منه. وأمرهم بأن يواظبوا على فرائض الصلاة، ويعطوا الزكاة، ويتصدَّقوا في وجوه البر والإحسان مِن أموالهم؛ ابتغاء وجه الله، وما يفعلوا مِن وجوه البر والخير وعمل الطاعات، يلقَوا أجره وثوابه عند الله يوم القيامة خيراً مما قدَّموا في الدنيا، وأعظم منه ثواباً، وليطلبوا مغفرة الله، إن الله غفور رحيم.
إن مثقال الذرّ من الخير في هذه الدنيا يقابله الله سبحانه بأضعاف مضاعفة من الأجر في الأخرة. فليستغفر الإنسان ربه على التقصير الذي لا بدّ حاصل وقت تطبيق هذه التكاليف الثقيلة.
073.7 الشكل العام وسياق السورة:
073.7.1- سُميت بهذا الاسم لأن مقصدها هو الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من حالة {المزمل} أي المغشي بثوبه، فوصفة الله وناداه بحالته التي كان عليها. وأمره بقيام الليل وقراءة القرآن والتبتل إلى الله، استعداداً لاستقبال القول الثقيل الذي سيلقى عليه، وتحمل أعباء الدعوة إلى دين الله.
073.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها وموضوعاتها:
يمكن تقسيم السورة باعتبار ترتيب آياتها إلى نصفين متساويين في عدد الآيات الأول يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بالاستعداد والاستعانة بقيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله على تحمل القول الثقيل الذي سيوحى إليه وتبليغ الرسالة، والثاني عن أولي النعمة وتهديدهم باستبدالها بالعذاب وعن وسيلة الحفاظ على النعيم الذي هم فيه بالعبادة وطاعة الرسول.
073.7.2.1- الرسول: تبدأ هذه الآيات بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الغطاء وقيام الليل، (وكذلك كلّ مزّمّل من المؤمنين، فهُم برسولهم يقتدون)، وفي هذا الأمر إشارة أو دليل على أن قيام الليل هو من أعظم العبادات التي تصل الإنسان بربّه، وتعين على تحمل المشاق والأمور الصعبة، كما أن هذا الأمر الإلهي دليل على أن هذه العبادة هي من الفطرة التي فطر عليها الإنسان، بها تحصل راحة للنفس، وتعين على التأمّل وعلى قوّة التحمل. (وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتزل الناس ويتعبد في غار حراء من قبل أن يتنزل عليه الوحي).
وعندما نزلت هذه السورة كان قيام الليل فرضاً، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمسة، فلما فرضت الصلاة خفّف قيام الليل في آخر هذه السورة وصارت تطوعاً (فالآية الأخيرة خففت على المؤمنين، فهم ليسوا كالنبي صلى الله عليه وسلّم في قوّة عزيمته).
الآيات (1-10) يا أيها المتغطي بثيابه، قم للصلاة في الليل إلا يسيراً منه. قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا حتى تَصِلَ إلى الثلث، أو زد على النصف حتى تصل إلى الثلثين، واقرأ القرآن بتُؤَدَة وتمهُّلٍ مبيِّناً الحروف والوقوف. إنا سننزل عليك قرآناً عظيماً مشتملا على الأوامر والنواهي والأحكام الشرعية. إن العبادة التي تنشأ في جوف الليل هي أشد تأثيراً في القلب، وأبين قولاً لفراغ القلب مِن مشاغل الدنيا. إن لك في النهار تصرفاً وتقلباً في مصالحك، واشتغالا واسعاً بأمور الرسالة، ففرِّغْ نفسك ليلا لعبادة ربك. واذكر اسم ربك، فادعه به، وانقطع إليه انقطاعاً تاماً في عبادتك، وتوكل عليه. هو مالك المشرق والمغرب لا معبود بحق إلا هو، فاعتمد عليه، وفوِّض أمورك إليه. واصبر على ما يقوله المشركون فيك وفي دينك، وخالفهم في أفعالهم الباطلة، مع الإعراض عنهم، وترك الانتقام منهم.
073.7.2.2- النصف الثاني من الآيات يبين أن من يكذب رسول الله ولا يتبع شرع الله وصراطه المستقيم فقد كفر بأنعمه واستحق العذاب، فالله يرسل المرسلين مذكرين للناس بفطرتهم التي فطرهم الله عليها والتي بموافقتها سعادتهم وبمخالفتها شقاؤهم، وهي عبادة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والقتال في سبيل إقامة شرع الله ومراقبته في كل الأعمال. فهي تخاطب كل فئات الناس: الآيات (11-14) تهدد المكذبين، والآيات (15-19) تخاطب الناس جميعاً: أرسلنا إليكم رسولاً فلا تعصوه فيأخذكم الله، وتذكروا أنكم اخترتم اتباع سبيله بمشيئتكم، والآية (20) تخاطب المسلمين: أن إقرأوا ما تيسر من القرآن وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا وقدموا تجدوه عند الله كما يلي:
073.7.2.2.1- الآيات (11-14) تهديد للمكذبين: دعني وهؤلاء المكذبين بآياتي أصحاب النعيم والترف في الدنيا، ومهِّلهم زمناً قليلا بتأخير العذاب عنهم حتى يبلغ الكتاب أجله بعذابهم. إن لهم عندنا في الآخرة ناراً وعذاباً أليماً. يوم تضطرب الأرض والجبال وتتزلزل حتى تصير رمالاً سائلة متناثرة.
أمرهم عجيب هؤلاء المكذبين الذين يستبدلون النعيم بالجحيم، وتسميتهم بأولي النعمة هو توبيخ لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم، وتهديد لهم بأن الله الذي يكذبون رسوله سيزيل عنهم ذلك التنعم. فهم ليسوا كالأنعام يستظلون في البيوت والجنات، ويقبلون على لذيذ الطعام والشراب والنساء بأي وسيلة، قانونهم القوي يأكل الضعيف، وتحكمهم شرائع الغاب وانتهى. ليس كذلك بل هذا النعيم للجميع، والناس جميعهم متساوون، لا فرق لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، يحكمهم شرع الله وصراطه المستقيم الذي يعرضون عنه ويكذبونه.
073.7.2.2.2- الآيات (15-19) إرسال المرسلين إلى أهل مكّة والناس أجمعين مذكرين ومنذرين: إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهداً عليكم بما صدر منكم من الكفر والعصيان، كما أرسلنا موسى رسولا إلى الطاغية فرعون، فكذَّب فرعون ولم يؤمن بالرسول وعصى أمره، فأهلكه الله. وفي هذا تحذير من معصية الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم؛ خشية أن يصيب العاصي مثل ما أصاب فرعون وقومه. فكيف تَقُون إن كفرتم عذاب يوم القيامة الذي يشيب فيه الولدان مِن شدة هوله؟ السماء متصدعة وكان وعد الله تعالى بمجيء ذلك اليوم واقعاً لا محالة. إن هذه الآيات المخوفة تذكرة وعظة، فمن أراد الاتعاظ اتخذ الطاعة والتقوى طريقاً توصله إلى رضوان ربه.
الله يرسل الرسل ليكونوا حجة وشهداء على العباد، باستقبال الوحي وتبليغه الذي هو دين سهل المبدأ سهل التطبيق يعتمد على أقصر الطرق الموصلة للسعادة، باتباع الصراط المستقيم المنسجم مع الفطرة التي جبلت على عبادة الله خالقها، الذي خلقها ليكرمها لا ليعذبها، وليخرجها من الظلمات إلى النور، لكن الناس لا تسمع ارتكنت إلى الجهل والظلام وأحبت العاجلة وعبادة الآلهة الباطلة، وأعرضت عن النور الذي هو عبادة الله الحق خالقها.
073.7.2.2.3- الآية (20) إن ربك يعلم أنك تقوم للتهجد من الليل وطائفة من أصحابك. والله وحده هو الذي يقدِّر الليل والنهار، علم الله أنه لا يمكنكم قيام الليل كله، فخفَّف عليكم، فاقرؤوا ما تيسر لكم قراءته من القرآن؛ علم الله أنه سيوجد فيكم مَن يُعجزه المرض عن قيام الليل، ويوجد قوم آخرون يتنقَّلون في الأرض للتجارة والعمل يطلبون من رزق الله، وقوم آخرون يجاهدون في سبيل الله؛ فاقرؤوا ما تيسَّر لكم من القرآن، وواظبوا على فرائض الصلاة، وأعطوا الزكاة، وتصدَّقوا في وجوه البر والإحسان مِن أموالكم؛ ابتغاء وجه الله، وما تفعلوا مِن وجوه البر والخير وعمل الطاعات، تلقَوا أجره وثوابه عند الله يوم القيامة خيراً مما قدَّمتم في الدنيا، وأعظم منه ثواباً، واطلبوا مغفرة الله في جميع أحوالكم، إن الله غفور لكم رحيم بكم.
073.7.3- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:
احتوت على قصتين حقيقيتين نستطيع من خلال تدبّرهما أن نفهم مقصد السورة وموضوعاتها (مقصدها الذي هو الأمر بأن اعبد الله ما استطعت واستعن على طاعته كما أمرك ولا عليك ممن يكذب فربهم لهم بالمرصاد يحاسب كل عامل بعمله):
– ففي القصة الأولى، وهي تزمل الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أمره بقيام الليل، نتعلم ونستفيد درساُ بأن ترك التكاليف والخلود إلى الراحة ليست هي المقصودة من خلق الله للإنسان، بل العمل هو المطلوب وأهمه قيام الليل وتدبر القرآن والتبتل إلى الله، وتنفيذ كل ما أُمر به في هذه السورة أعظم الناس إيماناً محمد صلى الله عليه وسلم. أما من هو أقل منه إيماناً فقد خفف الله عنهم كلّ يعمل حسب طاقته وقدرته.
– القصة الثانية وهي إرسال موسى إلى فرعون وعصيان فرعون الرسول، ففيه إشارة ودرس بأن المشركون سيعصون ثم بعد ذلك أن الله سيأخذهم أخذاَ وبيلاً كما حصل لفرعون، وأن المؤمنين سيعانون قبل أن ينصرهم الله وأنهم بحاجة إلى القيام والقرآن والتبتل للاستعانة بهما على حمل الأمانة.
ثمّ وأن الناس في أعمالهم واجتهادهم لآخرتهم متفاوتون ما بين عمل الرسول العظيم في الدعوة والجهاد، وما بين العمل الذي خففه الله على الناس، وذلك لأنهم مبتلون بالأمراض وغيرها من المعوقات، أو لأنهم مشغولون في التجارة والسفر بحثاً عن الرزق والكدح في الحياة الدنيا.
باعتبار هاتين القصتين الحقيقيتين الموجودتين فيها ومن خلال التعقيب عليهما نستطيع تمييز أربعة موضوعات رئيسية، الأول والثاني يخصان الرسول والثالث والرابع يخصان الناس المكذبين والمسلمين ككل، كما يلي:
073.7.3.1- الآيات (1-8) الأول يتحدث عن قصة أو حدث حقيقي حصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو أنه حين نزل عليه الوحي تزمّل أي تغطى بثيابه، في حين أن الله يريد منه (أو رد الفعل المطلوب هو) القيام والاستعداد لهذا التكريم العظيم بحمل القول الثقيل (بالمهام والمسئوليات والعمل المتواصل).
073.7.3.2- الآيات (9-14) ولأنه سيسمع ما يسوؤه من قول المكذبين (المتكبرين بنعمة الله عليهم) المخالفين لقوله، فليصبر وليعرض عنهم ويواصل مسيرته كما أمره ربه.
073.7.3.3- الآيات (15-19) الموضوع الثالث يشير إلى قصة فرعون مع موسى عليه السلام وأنه أرسله شاهداً عليهم بتكذيبهم واستحقاقهم الهلاك والعذاب الذي حل بهم وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم شاهد كذلك على أفعال أمته، ففيه تحذير للمكذبين من مصير كمصير فرعون وقومه.
073.7.3.4- الآية (20) تذكير باتباع سبيل الله المنجي، كل حسب استطاعته ودوره في المجتمع فدين الله فيه قيام ليل وقراءة قرآن وصلاة وزكاة وعمل وجهاد وابتلاء مرض وكل يقدم لآخرته بما يراه مناسب.
073.7.4- سياق السورة باعتبار مناسبة النزول:
باعتبار مناسبة النزول تنقسم السورة إلى قسمين: في الأوّل المكّي تأمر الآيات (1-19) بالاستعداد بقيام الليل وقراءة القرآن والتبتل إلى الله، والتهيؤ لنزول الوحي بالقول الثقيل من عند الله، الذي فيه ما ينفع الناس من الأوامر والنواهي والواجبات والتكاليف التي تحتاج إلى الصبر والمجاهدة من الرسول والمؤمنين، لأنه سيكذب بها المكذبون، فيهدد الله المكذبين بأنه سيهلكهم كما أهلك فرعون وسينصر رسوله ويعلي كلمة الحق والدين. وفي القسم الثاني تأمر الآية (20) المؤمنين بالاستعانة على طاعة الله وتطبيق دينه كلّ بقدر استطاعته، كما يلي:
073.7.4.1- القسم الأول: وهو الآيات (1-19) وهو مكّي بالإجماع:
073.7.4.1.1- الآيات (1-4) ابتدأت السورة بنداء الرسول صلى الله عليه وسلم، نداءاً لطيفاً، ينم عن لطف الله عز وجل، ورحمته بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان يجهد نفسه في عبادة الله ابتغاء مرضاته، تأمره صلى الله عليه وسلم (ومن يؤمن بدعوته)، بقيام الليل وتلاوة كتاب الله عز وجل وطاعته.
073.7.4.1.2- الآيات (5-8) تبين الآيات ثقل الوحي الذي كلّف الله به الرسول، ليقوم بتبليغه للناس بجد ونشاط، ويستعين على ذلك بالاستعداد الروحي بإحياء الليل في العبادة والتبتل إلى الله.
073.7.4.1.3- الآيات (9-11) أمرت الآيات الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوكل على الله، وبالصبر على أذى المشركين، وهجرهم هجرا جميلا، إلى أن ينتقم الله منهم.
073.7.4.1.4- الآيات (12-14) توعّد الله المشركين بالعذاب والنكال يوم القيامة، حيث يكون فيه من الهول والفزع، ما يشيب له رءوس الولدان.
073.7.4.1.5- الآيات (15-19) تتحدث الآيات عن موقف المشركين من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جاءهم بالخير والهدى، فعاندوه وكذبوه، ووقفوا في وجه الدعوة، يريدون إطفاء نور الله، فأنذرهم بالعذاب الشديد، وضرب لهم المثل بفرعون الطاغية الجبار، الذي بعث الله إليه نبيه موسى، فعصاه وكذب برسالته، وما كان من عاقبة أمره في الهلاك والدمار، تحذيرا للكفار من أهل مكة، أن يحل بهم مثل ذلك العذاب.
073.7.4.2- القسم الثاني: وهو الآية (20) الكثير قالوا إنها مكّية، والبعض الآخر قال إنها مدنيّة.
في الآية (20) ختمت السورة الكريمة بتخفيف الله عن رسوله وعن المؤمنين من قيام الليل، رحمة به وبهم، ليتفرغ الرسول وأصحابه لبعض شئون الحياة، مع حثهم على الاجتهاد والتوبة للحصول على الخير والأجر العظيم {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}.
073.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
073.7.5.1- آيات القصص: (15، 16، 20) = 3 آيات.
073.7.5.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (11-14، 17، 18) = 6 آيات.
073.7.5.3- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-10، 19) = 11 آية.
073.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
073.8.0- لمّا كان مدار السورة حول الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن، فقد بدأت وختمت بهذين الأمرين لعظيم الحاجة إلى الاستعانة بهما، فالله تعالى علِم أن إحياء الليل بالقرآن يعين على تحمل ثقل الوحي وأعباء الدعوة إلى الدّين والصبر على أذى المشركين وتكذيبهم، لذلك أمر بترتيله في القيام، ثمّ ختمت بالتخفيف وقراءة ما تيسّر منه لضرورة المرض والسفر والقتال {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ (20)}، ولا يعني ذلك هجرانه، مع المحافظة على الصلاة والزكاة والصدقة. ولمّا حذرت الكافرين بأن الله أرسل إليهم رسولاً (بالقرآن) كما سبق وأن أرسل إلى فرعون رسولاً فعصى فهلك، وأنّ الناس مجازون على إيمانهم بالخير العظيم، وعلى كفرهم و تقصيرهم بالنكال والجحيم، فقد خُتم بالمزّمّل ستّ سور (من الملك إلى الجن) تحدثت عن رحمة الله بإرسال الرسالات والمرسلين: ففي الملك أعلمت أن الله مالك قدير بركاته متكاثرة أرسل إليهم النذير، وفي القلم أرسل إمام المرسلين على خُلق عظيم صلّى الله عليه وسلّم، وفي الحاقّة جعل القرآن تذكرة للمتقين وهو حق اليقين، ثمّ المعارج عن حسن تدبير الله وصدق الوعد والوعيد، ثمّ نوح عن تمام البلاغ والرسالة والمرسلين، ثمّ الجن عن سهولة القرآن وقربه من العباد. كذلك أتبعت بستّ سور (من المدّثر إلى النازعات): أمرت المدثر بالإنذار بأنهم محاسبون على أعمالهم وعلى النعمة التي استخلفهم الله عليها، وذكّرتهم بالقرآن وبأن مصيرهم مرهون بما كسبوا فإما الجنة أو النار، لكن أكثرهم مكذبون وعن التذكرة معرضون، ثمّ تشابهت السور الخمس (القيامة والإنسان والمرسلات والنبأ والنازعات) في بسط القول عن أهوال يوم القيامة وأحوال العباد، وتحدّثت عن أسباب إعراض الناس وتكذيبهم: وهو حبّهم للعاجلة وعدم إيمانهم بالبعث بعد الموت والحساب على الأعمال.
073.8.1- تناسب سورة المزمّل مع السور الستة التي سبقتها، (تبارك، و ن، والحاقة، والمعارج، ونوح، والجن):
كما علمنا من السور الستة السابقة (تبارك ون والحاقة والمعارج ونوح والجن) أن دين الله سهل الفهم وسهل القبول بسيطة جداً رسالته. وهو دين الحق الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل. راجع تناسب سورة الجن مع غيرها من السور (072.8.2).
لكن لا يعني بساطة فهم وقبول الدين أنه سهل التطبيق، فليس هذا هو المقصود، بل هو دين عهد وميثاق ومسئوليات، لا دين انفلات وعدم مبالاة؛ هو حمل ثقيل وعمل وطاعة لله؛ لأن الدين عقد مع الله فيه قوانين وأوامر ونواهي وتكاليف والتزامات يجب تطبيقها والالتزام بها والاستقامة عليها من أجل التوافق مع سنن الله والفطرة. ومن أجل: بناء جسم سليم صحيّاً ونفسيّاً على مستوى الفرد، وبيت فيه سكن واستقرار على مستوى الأسرة، ومجتمع صالح فيه حرّية فكر وتعليم وبناء وقوانين عادلة وحفظ حقوق وأعراض ومحاربة فساد على مستوى الدولة، وكيان فيه أمن وأمان ورخاء ونعمة على مستوى الأرض التي نعيش عليها.
وهذا هو مقصد سورة المزمل أن اعبد الله واتصل به بالصلاة والدعاء التي هي خير الأعمال، وأفضل أوقاتها في قيام الليل، واقرأ كتابه بترتيل وتدبر وفهم، وتقرب إليه بالتبتل أي بالمواظبة والإكثار من ذكره والتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك (فالله خفف على المؤمنين بسبب انشغالهم في ضرورات حياتهم).
إذا أردت أن تسمع كلام الله فاسمع القرآن كما فعل الجن، يذكرك بالله وبفطرتك وبما يصلح حياتك، وإن أردت أن تتعامل مع الله فقدم لنفسك الخير وقاتل في سبيله وأنفق المال وادع إلى دينه، وإن أردت أن تكلم الله فتوجه إليه بالصلاة والدعاء كما فعل نوح وجميع الأنبياء والمرسلين، يجيبك ويصلح لك ما أساءك من أمرك، تبكي في دعائك لأنك عرفت وكلّمت الحق، وتبكي فرحاً حين يستجاب لك ولأنك تعلم أن الله يستجيب لك. فاستجب لله وأسلم نفسك لله تحقق كل مرادك وأعرض عن الله تفسد كل حياتك.
من يدعو الله يستجيب لدعائه كافر أو مسلم: المظلوم يجاب، واصل الرحم يوسع في رزقه ويطيل عمره مسلم أو كافر، المحسن يحسن إليه، الذي يدخل السرور كذلك، كله بميزان دقيق بنص القرآن وبتجارب شخصية أنا عشتها ورأيتها وسمعت عن مثلها من غيري، عدا عن كثير من القصص التي قرأناها ورواها التاريخ. فالأمر واضح إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد، إذا كله في مصلحة الإنسان.
073.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: لا يخفى وجه اتصال أولها: {قُم الليل} بقوله في آخر تلك: {وأَنَّهُ لمّا قامَ عبد اللَه يدعوه} وبقوله {وأَنَّ المساجد لله}.
073.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كان ذكر إسلام الجن قد أحرز غاية انتهى مرماها وتم مقصدها ومبناها، وهي الإعلام باستجابة هؤلاء وحرمان من كان أولى بالاستجابة، وأقرب في ظاهر الأمر إلى الإنابة، بعد تقدم وعيدهم وشديد تهديدهم، صرف الكلام إلى أمره صلى الله عليه وسلم بما يلزمه من وظائف عبادته وما يلزمه في أذكاره من ليله ونهاره، مفتتحاً ذلك بأجمل مكالمة وألطف مخاطبة {يا أيها المزمّل (1)}، وكان ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم كما ورد {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (8)} فاطر، إلى آخره، وليحصل منه الاكتراث بعناد من قدم عناده وكثرة لججه، وأتبع ذلك بما يشهد لهذا الغرض ويعضده وهو قوله تعالى {فاصبر صبراً جميلاً (5)} المعارج، {واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً (10) وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً (11)} المزمل، وهذا عين الوارد في قوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (8)} فاطر، وفي قوله {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار (45)} ق، ثم قال: {إن لدينا أنكالاً (12)} المزمل، فذكر ما أعد لهم، وإذا تأملت هذه الآي وجدتها قاطعة بما قدمناه، وبان لك التحام ما ذكره، ثم رجع الكلام إلى التلطف به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه، رضي الله عنهم أجمعين، وأجزل جزاءهم مع وقوع التقصير ممن يصح منه تعظيم المعبود الحق جل جلاله {علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر من القرآن (20)} المزمل، ثم ختم السورة بالاستغفار من كل ما تقدم من عناد الجاحدين المقدم ذكرهم فيما قبل من السور إلى ما لا يفي العباد المستجيبون به مما أشار إليه قوله تعالى: {علم أن لن تحصوه (20)} المزمل.