العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


098.0 سورة البينة


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


098.1 التعريف بالسورة:

1) مكّية أو مدنية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 8 آيات. 4) الثامنة والتسعون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والمائة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الطلاق”.  6) أسماء أخرى للسورة: وتسمّى أيضاً لم يكن وتسمّى سورة أهل الكتاب وسورة القيامة وسورة البريّة وسورة الانفكاك.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 3 مرّات، له 1 مرّة، رب 2 مرة، رضي 2 مرّة. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: قيّمة 2 مرة، منفكّين 1 مرّة.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (4 مرّات): كتاب، الذين؛ (3 مرّات): تأتيهم، فيها؛ (2 مرّة): كفروا، أهل، المشركين، البينة، الدّين، خالدين، هم، البرية، رضي، أولئك، ذلك (1 مرّة): رسول، صحف، مطهرة، مخلصين، حنفاء.

098.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب: “إن الله أمرني أن أقرأ عليك “لم يكن الذين كفروا”، قال “وسماني لك؟” قال “نعم” فبكى.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا اخبركم بخير البريّة؟” قالوا بلى يا رسول الله، قال: “رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه، ألا أخبركم بخير البريّة؟” قالوا بلى يا رسول الله، قال: “رجل في تلة مع غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ألا أخبركم بخير البريّة؟” قالوا بلى يا رسول الله، قال: “الذي يسأل بالله ولا يعطى به” أخرجه الإمام أحمد.

098.3 وقت ومناسبة نزولها:

أين نزلت في مكّة أو المدينة؟ مختلف فيه: بعض المفسرين قال إنها مكّية عند أكثر المحدثين، والبعض الآخر قال إنها مدنيّة عند الأكثرية. ابن الزبير وعطاء بن يسار رأوا أنها مدنية. ابن عباس وقتادة ورد عنهم الرأيين الأول مكية والثاني مدنية. أبو حيّان صاحب البحر المحيط وعبد المنعم ابن الفاراس صاحب أحكام القرآن أيضاً فضّلوا اعتبارها مكّية. أما بالنسبة لمحتويات السورة، فلا شيء يشير إلى أنها مكية أو مدنية. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.

098.4 مقصد السورة:

098.4.1- لن ينفك الكافرون عن كفرهم ويعودوا إلى الإيمان حتى يأتيهم من الله البينة أو الهدى.

أو ما كانوا لينتهوا عمّا هم عليه من الكفر، حتى يبعث الله إليهم البينة، وهي الحجة الواضحة ممثلة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن يأمرهم بالعبادة وإقامة دين الله، فمن آمن منهم واتبع دينه فهم خير الخليقة وبذلك استحقوا الجنة، وأنه من كفر منهم فهم شر الخليقة وبذلك استحقوا النار.

098.4.2- ومقصد السورة نجده في مطلعها في الآيات (1-3) وكأنه إجابة على السؤالين: لماذا بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلّم؟ ولماذا أنزل القرآن الكريم؟ والجواب هو: البينة أو الهدى.

وقد جاء أيضاً تفصيل الإجابة على هذين السؤالين في سورة العلق: بالأمر {اقرأْ} للفكاك من طغيان الإنسان، وفي سورة القدر: بنزول القرآن، والملائكة والروح بأمر الله، أي قدره وقضاءه.

من يتتبّع تاريخ حياة الإنسان على الأرض سيعلم أنها ابتدأت بهدى من الله، يهدي إلى الخير والنعيم والصلاح في الأرض؛ ثم مع مرور الزمان ينشغل الناس بالدنيا والشهوات عن الهدى، ويتراجع الإيمان حتى ينتهوا إلى الكفر والشرك، فيعمهم الشرّ والظلم والفساد في الأرض. ولن يفك الناس من أزمتهم وكربتهم والشدائد التي أوقعوا حالهم فيها بسبب الكفر سوى أن يأتيهم رسول من الله يحمل إليهم كتاب فيه هدى من السماء يعيدهم إلى الخير والإيمان والعمل الصالح والصراط المستقيم.

098.4.3- وقال البقاعي: مقصودها الإعلام بأن هذا الكتاب القيم من علو مقداره وجليل آثاره أنه كما أنه لقوم نور وهدى فهو لآخرين وقر وعمى، فيقود إلى الجنة دار الأبرار، ويسوق إلا النار دار الأشقياء الفجار، وعلى ذلك دل كل من أسمائها {الذين كفروا} و {المنفكين} بتأمل الآية في انقسام الناس إلى أهل الشقاوة وأهل السعادة.

098.5 ملخص موضوع السورة:

مكّية أو مدنيّة مُختلف فيه، وكذلك محتوياتها لا تشير إلى وقت نزولها. ومقصدها أن الكافرين من أهل الكتاب ومشركي العرب ما كانوا لينتهوا عمّا هم عليه من الكفر، حتى يبعث الله إليهم البيّنة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن يأمرهم بعبادة الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (5)}. فلمّا أتتهم البينة تفرّقوا: فمن كفر منهم فهم شر الخليقة وبذلك استحقوا الخلود في النار، ومن آمن منهم وعملوا الصالحات فهم خير الخليقة وبذلك استحقوا الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}. وتضمنت ثلاث مجموعات من الآيات كما يلي:

(الآيات 1-3): الإعلام بأن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى والمشركون العرب والعجم لن يتركوا كفرهم حتى تأتيهم البينة والتي هي {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)}، يعني مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن فيه كتب من الله قيّمة بالحجة والبرهان وبيان الحق من الباطل، وقد كان اليهود في المدينة يتوعّدون الأوس والخزرج، ويقولون: إن نبيّاً مبعوث الآن قد أطلّ زمانه، سنتّبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلمّا بُعث آمن به العرب وكفر اليهود عناداً.

(الآيات 4، 5): وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا مِن بعد ما جاءهم النبي الذي وُعِدوا به في كتبهم (التوراة والإنجيل)، وما أمروا في سائر الشرائع {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} يعني دين الاستقامة وهو الإسلام.

(الآيات 6-8): إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنّم خالدين فيها أولئك هم شرّ ما خلق الله، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير ما خلق الله، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم باتباعهم دينه ورضوا عنه بما جزاهم من النعيم والكرامة، ذلك لمن خاف الله فاتقاه.

لمّا علمنا أن الخير والنعيم والصلاح في حياة الأمم يبدأ ببيّنة من الله تعالى تأمرهم بالإيمان بعد الكفر، ليرتقوا بعمل الصالحات فيصبحوا هم خير البريّة، لكنّهم بدلاً من أن يؤمنوا تفرّقوا إلى فئتين مؤمنة وكافرة، ثمّ مع مرور الزمان يتراجع إيمان الذين آمنوا ويعود الكفر والشرك فيصيروا جميعاً شرّ البريّة، ولن ينفكّوا عن كفرهم حتّى تأتيهم البيّنة مرّة أخرى وهكذا دواليك، سنّة الله، فما أعظم فضله عليهم إذ يهديهم إلى الخير.

وهي الأخيرة من اثنتي عشرة (12) سورة متتالية ومتناسبة من الأعلى إلى البيّنة، تكمل بعضها بعضاً في أمر الناس بالقيام بأعمال تجعلهم {هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}، ففي الأعلى: الأمر بتسبيح الرّب الأعلى والتزكية والصلاة وإيثار الآخرة، وفي الغاشية: التفكّر في مخلوقات الله والسّعي للآخرة لأنهم محاسبون على ما عملوا من خير وشر، وفي الفجر: إكرام اليتيم وإطعام المسكين والتقديم للحياة الآخرة، وفي البلد: اقتحام عقبات الهوى وإطعام المسكين والتواصي بالحق والمرحمة، وفي الشمس: التزكية والتقوى وعدم الفجور، وفي الليل: العطاء والتقوى والتصديق وعدم البخل والاستغناء والتكذيب، وفي الضحى: ألّا تقهر اليتيم ولا تنهر السائل وبنعمة ربّك فحدّث، وفي الشرح: إذا فرغت فانصب وإلى ربّك فارغب، وفي التين: الإيمان والعمل الصالح وعدم التكذيب بالدّين، وفي العلق: القراءة والعلم والسجود والاقتراب من الخالق، وفي القدر: تعظيم القرآن وقيام ليلة القدر المباركة، وفي البيّنة: اتباع البيّنة وهي الرسول والكتاب.

اللهم اجعلنا عباداً مخلصين لك الدين حنفاء، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويتبعون دين القيّمة.

098.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

لقد عمّ الكفر وطمّ وملأ الأرض وصار الناس في حاجة ماسّة إلى رسالة جديده، وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في وقته، لأن الكفّار لن يتحوّلوا إلا بتلك الصحف المطهّرة، وما فيها من حقائق لإصلاح الأرض.

098.6.1- الآيات (1-5) يخبر تعالى أن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، والمشركون عبدة الأصنام والأوثان من العرب والعجم لن ينفكّوا عما هم عليه من دياناتهم ولن يتركوها حتى يتدخل ويبعث لهم البينة. ثم فسر البينة بقوله رسول من الله يتلو صحفاً مطهره، يعني مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن فيه كتب من الله قيّمة.

098.6.2- ثم ما فرّقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء {البينة} وهي الحجة الواضحة. أي بعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات، تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم، واختلفوا اختلافاً كبيراً. وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء، وهو نفسه ما كان يأمرهم به كلّ مرة، يذكره توبيخاً وإلزاماً.

098.6.3- الآيات (6-8) يخبر تعالى عن مآل الفجار من كفرة أهل الكتاب والمشركين، والمخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة، أنهم يوم القيامة في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شرّ الخليقة التي برأها الله ونراها. ثمّ أخبر عن حال الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم بأنهم خير البريّة، وقد استدلّ بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البريّة على الملائكة لقوله {أولئك هم خير البريّة (7)}، ثم قال تعالى {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه (8)}.

098.7 الشكل العام وسياق السورة:

098.7.1- اسم السورة “البينة” وهي الحجة الواضحة ممثلة برسول صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن، وهي: رحمة الله التي لا تنقطع عن عباده في كلّ جيل من الأجيال ما أن يرى أن الأرض صارت في حاجة إلى رسالة جديده، إلا ويبعث رسوله وكلماته في وقته، مع علمه سبحانه بأن الكفّار سيختلفون ولن يتحوّلوا بتلك البينات وما فيها من هدى ونور وخير لإصلاح الأرض، لكن عدله ورحمته تستوجب إقامة الحجة الواضحة {ليَهْلِكَ من هَلكَ عن بيّنة، ويَحيى مَن حييَّ عن بيّنة (42)} سورة الأنفال.

098.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:

تجيب السورة عن ثلاثة أسئلة، وهي لماذا أنزل الله البينة؟ ثم ماذا حصل بعد أن أنزل الله البينة؟ وما جزاؤهم ومصيرهم؟ كما يلي:

098.7.2.1- الآيات (1-3) لماذا أنزل الله البينة؟ والجواب: حتى ينفكّوا حال أتتهم البينة عن كفرهم إلى الإيمان. لم يكن الذين كفروا من اليهود والنصارى والمشركين تاركين كفرهم حتى تأتيهم العلامة التي وُعِدوا بها في الكتب السابقة. وهي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، يتلو قرآناً في صحف مطهرة. في تلك الصحف أخبار صادقة وأوامر عادلة، تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.

098.7.2.2- الآيات (4، 5) ماذا حصل بعد أن أنزل الله البينة؟ الجواب: اختلفوا. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى في كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا حقاً؛ لما يجدونه من نعته في كتابهم، إلا مِن بعد ما تبينوا أنه النبي الذي وُعِدوا به في التوراة والإنجيل، فكانوا مجتمعين على صحة نبوته، فلما بُعِث جحدوها وتفرَّقوا. وما أمروا في سائر الشرائع إلا ليعبدوا الله وحده قاصدين بعبادتهم وجهه، مائلين عن الشرك إلى الإيمان، ويقيموا الصلاة، ويُؤَدُّوا الزكاة، وذلك هو دين الاستقامة، وهو الإسلام.

098.7.2.3- الآيات (6-8) وما جزاؤهم ومصيرهم؟ الجواب: الذين آمنوا في الجنة، والذين كفروا في النار؟ إن الذين كفروا من اليهود والنصارى والمشركين عقابهم نار جهنم خالدين فيها، أولئك هم أشد الخليقة شراً. إن الذين صَدَّقوا الله واتبعوا رسوله وعملوا الصالحات، أولئك هم خير الخلق. جزاؤهم عند ربهم يوم القيامة جنات إقامة واستقرار، تجري من تحتهم الأنهار، خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم فقبل أعمالهم الصالحة، ورضوا عنه بما أعدَّ لهم من أنواع الكرامات، ذلك الجزاء الحسن لمن خاف الله واجتنب معاصيه.

098.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعاتها:

باعتبار موضوعات السورة نجدها في آياتها الأخيرة تسوقنا إلى خلاصة مفادها: أن مصير الناس سيستقر إلى فريقين: فريق كافر في النار وهم شر مخلوقات الله، وفريق مؤمن يعمل الصالحات في الجنة ورضوان من الله وهم خير مخلوقات الله. ولأن الله خلق الناس ليكرمهم ويسعدهم، فأتاهم بالبينة التي تهديهم إلى طريق السعادة، وأمرهم باتباع دينه الحنيف القويم. ووعدهم إن هم أطاعوا وعملهم الصالحات بالجزاء جنات دائمة وخلود ورضوان منه. لذلك ولأجل هذا افتتحت السورة بالتأكيد على لزوم نزول البينة إلى الذين كفروا كي ينفكوا عمّا هم فيه من الكفر والشرك، والبينة هي رسول من الله مع صحف أو كتاب. لكن الذي حصل: أنهم بدلاً من أن ينفكّوا عن كفرهم عندما أتاهم الرسول بالكتاب، تفرقوا، وأن كفرهم قد ازداد. كما يلي:

098.7.3.1- الآيات (1-3) افتتحت السورة بالتأكيد على لزوم نزول البينة إلى الذين كفروا كي ينفكوا عمّا هم فيه من الكفر والشرك. لكي ينفك الكفّار عن كفرهم فلا بدّ من أن يأتيهم من الله الهدى. أو ما كانوا لينتهوا عمّا هم عليه من الكفر، حتى يبعث الله إليهم البينة، وهي الحجة الواضحة التي بها يتميز الحق من الباطل ممثلة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن يأمرهم بالعبادة وإقامة دين الله.

الصحف المطهرة وهو القرآن. والكتب هي الآيات المكتوبة في الصحف والشرائع والأحكام المستقيمة التي لا عوج فيها.

098.7.3.2- الآيات (4، 5) فلما جاءتهم الرسل بالبينة تفرّقوا. والبينة المذكورة في الآيات هي الأمر بعبادة الله مخلصين له الدين. لكن الذي حصل حين أتتهم البينة أنهم تفرقوا، وأن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام يدعوهم ويأمرهم. وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، وذلك لمصلحتهم فهو الدين القيّم والصراط المستقيم. وقد تفرقوا فمنهم من صار مؤمناً، ومنهم من صار كافراً، ولم يبق حالهم بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه.

حُنَفَاء: أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة. وحنفاء: أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين، قال عليه السلام: “بعثني بالحنيفية السهلة السمحة”. القيمة: إما المستقيمة أو القائمة، و {دِينُ القيمة} أي البينة المستقيمة المعتدلة.

وفي هذا الخطاب: توبيخاً وإلزاماً بأنهم كانوا يستفتحون على الملأ ويستعدّون لقبول الحق إذا جاءهم الرسول، ثم بعد ذلك، ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، قال تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ (89)} البقرة.

098.7.3.3- الآيات (6-8) خلاصة السورة فيه أن حال ومصير الناس في الدنيا والآخرة سيستقر إلى فريقين: فريق كافر في النار وهم شر مخلوقات الله، وفريق مؤمن يعمل الصالحات في الجنة ورضوان من الله وهم خير مخلوقات الله.

098.7.3.3.1- مصير الذين كفروا في الآخرة أنهم خالدين في نار جهنّم، وحالهم بكفرهم في الدنيا بأنهم شرّ الخلق.

098.7.3.3.2- الذين صَدَّقوا الله واتبعوا رسوله وعملوا الصالحات في الدنيا، أولئك هم خير الخلق. جزاؤهم عند ربهم يوم القيامة جنات إقامة واستقرار، تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبداً، رضي الله عنهم فقبل منهم، ورضوا عنه بما أعدَّ لهم من النعيم، ذلك الجزاء لمن خاف الله واجتنب معاصيه.

قدّم الوعيد إنذاراً وتحذيراً، وأخّر الوعد بشارة منه في أنه يختم أمرهم بالخير الدائم في الجنة، ثم أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولاً والرضا ثانياً.

الله الذي خلق الإنسان من العدم، وأنشأه، وما ضيّعه حين كان لا حول له ولا قوّة، ورباه وأعطاه الوجود والحياة والعقل والقدرة، آتاه البينة وهداه الصراط المستقيم، ووعده وبشره إن هو أطاع أوامره، أن يكون جزاؤه جنات عدن وخلود ورضوان، فهل سيضيع له ما اكتسبه بطاعته وقد وعده بذلك، كلا هذا لن يكون. فهذا شرط وضعه الله على نفسه رحمة منه وفضلاً لكي ينالوا الجزاء ويفاضل بينهم بالتكريم بمقدار ما يكتسبونه بطاعتهم، لا لأنهم يستحقون ذلك بسابق فضل منهم. فالله غير محتاج، قد خلق الإنسان من العدم لكي ينتفع ويسعد بنعم الله الموجودة قبل أن يأتي الإنسان، ثم ربّاه وما كان له حول على الحياة ولا قوّة، ثم أسعده في الدنيا بالحياة والعلم والعبادة، ثم وعده وبشره وأخبره بالجزاء في الآخرة، وسوف يوفي الله وعده.

098.7.4- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

098.7.4.1- آيات القصص: (4، 5) = 2 آية.

098.7.4.2- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-3، 6-8) = 6 آيات.

098.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

098.8.0- وهي الأخيرة من اثنتي عشرة (12) سورة متتالية ومتناسبة من الأعلى إلى البيّنة، تكمل بعضها بعضاً في أمر الناس بالقيام بأعمال تجعلهم {هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)}، ففي الأعلى: الأمر بتسبيح الرّب الأعلى والتزكية والصلاة وإيثار الآخرة، وفي الغاشية: التفكّر في مخلوقات الله والسّعي للآخرة لأنهم محاسبون على ما عملوا من خير وشر، وفي الفجر: إكرام اليتيم وإطعام المسكين والتقديم للحياة الآخرة، وفي البلد: اقتحام عقبات الهوى وإطعام المسكين والتواصي بالحق والمرحمة، وفي الشمس: التزكية والتقوى وعدم الفجور، وفي الليل: العطاء والتقوى والتصديق وعدم البخل والاستغناء والتكذيب، وفي الضحى: ألّا تقهر اليتيم ولا تنهر السائل وبنعمة ربّك فحدّث، وفي الشرح: إذا فرغت فانصب وإلى ربّك فارغب، وفي التين: الإيمان والعمل الصالح وعدم التكذيب بالدّين، وفي العلق: القراءة والعلم والسجود والاقتراب من الخالق، وفي القدر: تعظيم القرآن وقيام ليلة القدر المباركة، وفي البيّنة: اتباع البيّنة وهي الرسول والكتاب.

098.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: هذه السورة واقعة موقع العلة لما قبلها كأنه لما قال سبحانه:‏ {إِنّا أَنزلناهُ}‏ قيل: لم أنزل فقيل لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة وهو رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة وذلك هو المنزل وقد ثبتت الأحاديث (انظر الحديث المذكور في فضائل سورة التكاثر (102.2.2)) بأنه كان في هذه السورة قرآن نُسخ رسمه وهو: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ولو أن لابن آدم واديا لابتغى إليه الثاني ولو أن له الثاني لابتغى إليه الثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها حيث ذكر هناك إنزال القرآن وهنا إنزال المال وتكون السورتان تعليلاً لما تضمنته سورة اقرأ لأن أولها ذكر العلم وفي أثنائها ذكر المال فكأنه قيل‏:‏ إنا لم ننزل المال للطغيان والاستطالة والفخر بل ليستعان به على تقوانا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

098.8.2- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هي من كمال ما تقدمها لأنه لما أمره عليه الصلاة والسلام بقراءة كتابه الذي به اتضحت سبيله وقامت حجته، وأتبع ذلك بالتعريف بليلة إنزاله وتعظيمها بتعظيم ما أهلت له مما أنزل فيها، أتبع ذلك بتعريفه صلى الله عليه وسلم بأن هذا الكتاب هو الذي كانت اليهود تستفتح به على مشركي العرب وتعظم أمره وأمر الآتي به، حتى إذا حصل ذلك مشاهداً لهم كانوا هم أول كافر به، فقال تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة (1)} إلى قوله {وذلك دين القيمة (5)}. وفي التعريف بهذا تأكيد ما تقدم بيانه مما يثمر الخوف وينهج بإذن الله التسليم والتبرؤ من ادعاء حول أو قوة، فإن هؤلاء قد كانوا قدم إليهم في أمر الكتاب والآتي به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، وقد كانوا يؤملون الانتصار به عليه الصلاة والسلام من أعدائهم ويستفتحون بكتابه، فرحم الله من لم يكن عنده علم منه كأبي بكر وعمر وأنظارهما رضي الله عنهم أجمعين، وحرم هؤلاء الذين قد كانوا على بصيرة من أمره وجعلهم بكفرهم شر البرية، ورضي عن الآخرين ورضوا عنه، وأسكنهم في جواره ومنحهم الفوز الأكبر والحياة الأبدية وإن كانوا قبل بعثة عليه الصلاة والسلام على جهالة وعمى، فلم يضرهم إذ سبق لهم في الأزل {أولئك هم خير البرية (7)}.

098.8.3- لقد جاء ترتيبها في المصحف الإمام بعد سورة العلق وسورة القدر وهو ترتيب مناسب جداً وذو معنى. إذ أن سورة العلق تحتوي على أول الوحي نزولاً، وسورة القدر تبين متى نزل هذا الوحي، وهذه السورة تبين لماذا كان من الضروري إرسال الرسول بهذا القرآن.

 

098.8.4- وقال البقاعي: سورة البينة على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في سورة النحل على طولها بزيادة، وفيها التحذير من الشك بعد البيان، وتقبيح حال من فعل ذلك، وأن حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد، فيكون شر البرية. وفي سورة النحل أن الله يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا، وأن اليهود اختلفوا في السبت.

 

098.8.5- تناسب السور من الأعلى حتى البينة (اثنتا عشرة سورة):

جميع هذه السور تأمر وتكمل بعضها بعضاً وترتبط وتتناسب بطابع أمر الإنسان بقيام بواجبه وما فيه مصلحته (فرد وجماعة) وبما يحقق له السعادة والفوز: بذكر الله وطاعته واتباع رسوله والعمل بكتابه من العبادات والعمل الصالح والقيام بواجبات الدين من إنفاق وإطعام ومكابدة الهوى وبتزكية النفس وطلب العلم، كما يلي:

سورة الأعلى: الأمر بالتسبيح للأعلى الذي خلق وقدر وهدى ورزق وأقرأ والأمر بالتزكية والصلاة وإيثار الآخرة. (وباقي السورة هو تذكرة وبيان لماذا أو موجبات التسبيح).

سورة الغاشية: الأمر بالتذكير بقدرة الله على البعث والحساب. بالسعي وبالنظر في الإبل والسماء والجبال. فإنهم محاسبون ومجازون (وباقي السورة تذكير بدون سيطرة لماذا النظر حتى لا تتولى وتكفر).

سورة الفجر: الأمر بإكرام اليتيم وإطعام المسكين والتقديم للحياة الآخرة (وباقي السورة بيان لذي حجر لماذا إكرامهم، حتى لا يصيبنا ما أصاب الأقوام من العذاب).

سورة البلد: الأمر بالمكابدة، واقتحام عقبات الهوى والدنيا التي تمنع الخير والإنفاق: الأمر بإطعام المسكين والتواصي بالحق والمرحمة (وباقي السورة لماذا التواصي والإطعام، ذلك لأن الحياة كبد).

سورة الشمس: الأمر بالتزكية والتقوى وعدم الفجور والقتل (وباقي السورة لماذا نفعل هكذا، والجواب خوفاً من العاقبة).

سورة الليل: الأمر بالعطاء والتقوى والتصديق والنهي عن البخل والاستغناء والتكذيب (وباقي السورة في بيان لماذا نفعل هكذا، وذلك للتيسير أو التعسير).

سورة الضحى: الضحى: الأمر بألا يقهر اليتيم ولا ينهر السائل وبالحديث عن النعمة (ترغيباً وتثبيتاً).

سورة الشرح: الأمر بالنصب والرغبة إلى الرب (تخفيفاً لضيق الصدر ووضعاً للأثقال والأوزار، تيسيراً).

سورة التين: الأمر بالإيمان والعمل الصالح والنهي عن التكذيب (الله الحاكم وجاعل البلد الأمين والخير على بلاد التين والزيتون وطور سينين).

سورة العلق: الأمر بالقراءة باسم الخالق (الله المعلم والناس تطغى).

سورة القدر: الأمر بقيام ليلة القدر المباركة، ببيان شرف وعلو قدر ليلة القدر، وعظمة القرآن المنزل في تلك الليلة المباركة (بسبب نزول القرآن، وبسبب تنزل الملائكة بالأمر والسلام؛ بوركت الليلة بألف شهر).

سورة البينة: الأمر باتباع البينة وهي (الرسول والكتاب): بعث الله الرسول صلى الله عليه وسلّم ب {اقرأ}، وأنزال القرآن الكريم بالصحف المطهرة (وبسببه تفرق الناس بين عابد مخلص الدين جزاؤه الجنة، وكافر جزاؤه النار).

– راجع سورة الهمزة (104.8.2): تناسب الزلزلة إلى الهمزة (6 سور) مع بعضها ومع ما قبلها وبعدها. حول موضوع التخويف من الحساب والجزاء في الآخرة.

– راجع سورة الكوثر (108.8.3): وقال الفخر: هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top