العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
105.0 سورة الفيل
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
105.1 التعريف بالسورة:
1) سورة مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 5 آيات. 4) الخامسة بعد المائة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والتاسعة عشرة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الكافرون”. 6) ليس لها أسماء أخرى.
7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: رب 1 مرّة، يفعل 1 مرّة. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (1 مرّة): الفيل، أبابيل.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (2 مرّة): ألم، يجعل؛ (1 مرّة): كيدهم، تضليل، طيراً، ترمي، حجارة، سجيل، كعصف.
105.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
وأخرج البخاري في تاريخه والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم، ولا يعطيها أحد بعدهم: أني فيهم وفي لفظ النبوّة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله سبع سنين، وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم {لإيلاف قريش}.
105.3 وقت ومناسبة نزولها:
هذه السورة مكّية بالإجماع. وإذا قرئت في السياق التاريخي، يظهر أنه لا بدّ أن تكون نزلت في مرحلة مبكّرة جداً من العهد المكي.
يروى أن أبرهة الأشرم بنى كنيسة هائلة بصنعاء، رفيعة البناء عالية الفناء مزخرفة الأرجاء، سمتها العرب القليس لارتفاعها، لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها، وعزم أبرهة على أن يصرف حج العرب إليها كما يحج إلى الكعبة بمكة، ونادى بذلك في مملكته، فكرهت العرب ذلك، وغضبت قريش، لذلك غضباً شديداً، حتى قصدها بعضهم وتوصل إلى أن دخلها، فأحدث فيها وكرّ راجعاً، فلما رأى السدنة ذلك الحدث رفعوا أمرهم إلى ملكهم أبرهة وقالوا له: إنما صنع هذا بعض قريش غضباً لبيتهم الذي ضاهيت هذا به، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة وليخربنّه حجراً حجراً، ذكر مقاتل أن فتية من قريش دخلوها، فأججوا فيها ناراً، وكان يوماً فيه هواء شديد فاحترقت، فتأهب أبرهة لذلك، وصار في جيش كثيف عرمرم لئلا يصده أحد عنه، واستصحب معه فيلاً عظيماً كبير الجثة لم ير مثله، يقال له محمود ويقال: كان معه اثنا عشر فيلاً غيره، فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جداً، ورأوا أن حقاً عليهم المحاججة دون البيت، ورد من أراده بكيدا، فخرج إليه رجل من أشراف اهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله، فأجابوه وقاتلوا أبرهة فهزمهم، ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم اعترض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قومه فقاتلوه، فهزمهم أبرهة وأسر نفيل بن حبيب، فأراد قتله ثم عفا عنه، واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز، فلما اقترب من أرض الطائف خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم الذي عندهم الذي يسمونه اللات، فأكرمهم وبعثوا معه أبا رغال دليلاً، فلما انتهى أبرهة إلى المغمس وهو قريب من مكة نزل به، وأغار جيشه على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها، فأخذوه، وكان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش، وأن يخبره أن الملك لم يجيء لقتالكم إلا أن تصدّوه عن البيت، فجاء حناطة فدل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، ومالنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخلي بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه. فقال حناطة: فاذهب معي إليه، فذهب معه، فلما رآه أبرهة أجلّه – وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً حسن المنظر – ونزل أبرهة عن سريره وجلس معه على البساط، وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ فقال للترجمان: إن حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك، ويقال: إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت، فأبى عليهم، ورد أبرهة على عبد المطلب إبله، ورجع عبد المطلب إلى قريش، فأمرهم بالخروج من مكة، والتحصن في رؤوس الجبال تخوفاً عليهم من معرة الجيش، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله، ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
اللهم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبنّ صليبهم ومحالهم أبداً محالك.
ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال. وذكر مقاتل أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مقلدة، لعل بعض الجيش ينال منها شيئاً بغير حق فينتقم الله منهم، فلما أصبح أبرهة تهيّأ لدخول مكّة وهيّأ جيشه، فلما وجهوا الفيل نحو مكّة، برك الفيل، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى صعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم، فأبى فضربوا في رأسه بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مراقه، فنزعوه بها ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكًة فبرك، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس، لا يصيب منهم أحداً إلا هلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق، ويسألون عن نفيل ليدلّهم على الطريق، هذا ونفيل على رأس الجبل مع قريش، وعرب الحجاز ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة، وجعل نفيل يقول:
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب
قال عطاء: ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة، بل منهم من هلك سريعاً، ومنهم من جعل يتساقط عضواً عضواً، وهم هاربون، وكان أبرهة ممن تساقط عضواً عضواً حتى مات ببلاد خثعم، قال ابن اسحاق: فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، كان فيما يعد به على قريش من نعمته عليهم وفضله، ما رد عليهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل (1)} إلى قوله {فجعلهم كعصف مأكول (5)} الفيل، وقوله {لإيلاف قريش إيلافهم (1) رحلة الشتاء والصيف (2) فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4)} قريش.
105.4 مقصد السورة:
105.4.1- إنذار شديد وتحذير من غضب الله وقدرته على صرف كيد أعداءه، فيضلّ كيدهم ويهزمهم ويهلكهم. ويفهم منه بالمقابل: البشارة للمؤمنين بدفاع الله عن حرماته ونصره أولياءه المؤمنين نصراً يرونه بأعينهم أو يسمعون عنه خبراً أكيداً كالمشاهدة.
105.4.2- مقصد السورة نجده في الآية الثانية {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)}: أي جعل كيد أعداءه في تضييع وخسران. فأضلّ عملهم، وأبادهم ومحى أثرهم، وكأنهم ما كانوا؛ وفي هذا إنذار شديد لأعداءه، وتسلية للضعفاء من أولياءه. أي أن السورة تحذر من محاربة أمر الله وتحث على عدم الكيد لدينه باستعراض قدرته سبحانه وتعالى.
الله سبحانه وتعالى ليس بحاجة للناس، وهو قادر على أن يفعل ما يشاء، يهلك أعداءه بأضعف جند من جنوده، وهو قادر على ذلك حتى بدون جنود. وقد علم ذلك جدّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، عبد المطلب وقالها في شِعره المذكور “فامنع رحالك”، وقد فعل ذلك تعالى ربنا وحمى الكعبة من أصحاب الفيل. وفي هذا إشارة إلى نعمة أنعمها الله على أهل مكّة بأن صرف عنهم كيد أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة؛ وقد كان من الأولى بهم أن يؤمنوا ويناصروا رسوله حين جاءهم برسالة ربهم، لكنهم حاربوه، وفي هذه الحادثة إنذار شديد من غضب الله وقدرته على صرف كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولاتهم إيقاف دعوته.
105.4.3- وقال البقاعي: مقصودها الدلالة على آخر الهمزة من إهلاك المكاثرين في دار التعاضد والتناصر بالأسباب، فعند انقطاعها أولى لاختصاصه سبحانه وتعالى بتمام القدرة دون التمكن بالمال والرجال، واسمها الفيل ظاهر الدلالة على ذلك بتأمل سورته، وما حصل في سيرة جيشه وصورته.
105.5 ملخص موضوع السورة:
نزلت في مرحلة مبكّرة جداً من العهد المكي، واسمها “الفيل” إشارة إلى الفيل الضخم وجيش أبرهة الضخم الذي توجّه لهدم الكعبة، فأرسل عليهم طيراً ضعيفاً من البحر يحمل أحجاراً صغيرة أمثال الحمّص والعدس فأهلكهم ومحى أثرهم، في قصّة حقيقيّة جعلها الله تعالى إرهاصاً على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وتوطئة لظهور الدين الخاتم إلى الناس كافّة. وتُظهر القصة عظمته وقدرته على تحطيم كلّ قوّة، وإبطال كلّ كيد، وعلى إرادته الماضية فيهم وأنّه غنيّ عنهم يحمي حماه وحده بلا حاجة إلى جند من البشر. ومقصدها كذلك تأكيد الجزاء على الأعمال في الدنيا، والبشارة للمؤمنين بدفاعه عن حرماته ونصرته لأوليائه المؤمنين نصراً يرون ويسمعون آياته، كما يلي:
(الآيات 1، 2): تذكير بما كان من عقاب اللّه لأصحاب الفيل، حين قصدوا هدم الكعبة المشرفة، فردَّ الله كيدهم في نحورهم، وحمى بيته من كيدهم وطغيانهم.
(الآيات 3-5): أرسل تعالى على جيش “أبرهة الأشرم” أضعف جند من جنوده {طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)} حتى أهلكهم وأبادهم عن آخرهم.
وهكذا لمّا ذكّرَت بنعمة الله ورعايته لهذه الأرض المقدّسة التي اختارها لتكون محضن الدين الخاتم، وسخطه وإهلاكه لمن يعادي دينه ويعتدي على بيته الحرام، فقد أنذرت الكفار والعرب الذين شاهدوا آيات الله وآثار صنعه بأصحاب الفيل وسمعوا الأخبار به متواتراً كالمشاهدة، فحين عجز البشر لم يعجزه شيء، بل دافع ونصر عباده المستضعفين بجند من عنده، ويسّر لهم أسباب نصره.
وأعقبتها سورة قريش التي تتناسب معها بالدليل على أن الجزاء يقع في الدنيا قبل الآخرة، والإنذار بأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، والبشارة بأنّه معهم ابتداءً، يحميهم وينصرهم وييسر لهم أسباب الرزق والأمن والسعادة. وأعقبهما كذلك في سورتي الماعون والكوثر عن الجزاء ومصير المكذبين والمؤمنين في الآخرة. وقد تقدمها جميعاً ست (6) سور من الزلزلة إلى الهمزة في التخويف والإنذار من الحساب والجزاء، وتقدّمت أيضاً اثنتا عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البينة تأمر بالعمل واتباع الدّين للفوز في الدنيا والآخرة.
اللهم إنّا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء، ونعوذ بك أنّ نضِلّ أو نُضَلّ أو نزِلّ أو نُزلّ أو نظلِم أو نُظلم أو نَجهل أو يُجهل علينا.
105.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن قصّة واحدة، جعل الله أطرافها فئتين، هم أصحاب الفيل، وجند الله الطير الأبابيل، وأحداثها كما يلي:
105.6.1- الآيات (1، 2) الخطاب لأهل مكّة ومن حولهم، تذكّرهم بما عاينوه قريباً عن قصة أصحاب الفيل حين قصدوا هدم الكعبة المشرفة، فردَّ الله كيدهم في نحورهم، وحمى بيته من تسلطهم وطغيانهم.
105.6.2- الآيات (3-5) أرسل تعالى على جيش “أبرهة الأشرم” وجنوده أضعف مخلوقاته، وهي الطير التي تحمل في أرجلها ومناقيرها حجارة صغيرة، حتى أهلكهم الله وأبادهم عن آخرهم. فهي تذكّر بنعمة الله على قريش ورعايته لهذه البقعة المقدّسة التي اختارها الله لتكون محضن الدين الخاتم. وسخطه وإهلاكه لمن يعادي دينه ويعتدي على رحاله، وفيه إنذار لكفار قريش بالهلاك لكيدهم بنبيّه.
وكما كان في القصة عبرة لأهل ومكّة ومن عاصرهم من العرب وأهل الحبشة، فهي كذلك إلى يوم الدين. فالذي يكيد ليمنع إرادة الله من أن تمضي في عباده، ويفسد فطرته، وسنته في الأرض، فالله له بالمرصاد. سواء أكان كيده في العلن أو الخفاء فكيد الله أعظم. وفي المقابل، من أراد السلامة والأمان لنفسه فليتبع دين الله، ولا يحارب ولا يعادي إرادته. فإذا عجز جند الله من البشر، فالله لا يعجزه شيء، بل هو قادر أن يدافع وينصر رسله وعباده المستضعفين بجنده من عنده، أو ييسّر لهم أسباب نصره.
105.7 الشكل العام وسياق السورة:
105.7.1- اسم السورة وهو “الفيل” الضخم وما صاحبه أيضاً من جيش أبرهة الضخم والذي كان تعداده ستون ألفاً وإهلاك الله لهذا الحشد الذي لم يكن لكل من في الجزيرة العربية أن يجمع مثله، فأقصى ما استطاعت قريش حشده في غزوة الخندق مع اليهود ومشركي العرب لم يتعدّى العشرة إلى الاثني عشرة ألف مقاتل. لم تحاول قريش المقاومة، لقد صعدت إلى رؤوس الجبال تاركة الكعبة لمصيرها، لم تستطع هي ولا الأصنام التي يعبدونها حماية بيت الله، وهذا إشارة إلى بشاعة ما أقدمت عليه قريش وهي تحارب رسول الله الذي شاهدوا بأمّ أعينهم كيف أهلك ربّه أبرهة وجيشه والفيلة العظيمة.
105.7.2- سياق السورة باعتبار مناسبة نزولها:
105.7.2.1- في الإشارة إلى هذه الآية التي عاينها وشاهدها أهل الجزيرة العربية والحبشة، ولم يكن بمكة أحد إلا وقد عاين هذه المعجزة، وهم الذين اصطفاهم الله لدينه، دليل واضح على إحاطة رب محمد صلى الله عليه وسلم وقدرته على تحطيم كلّ قوّة وإبطال كلّ كيد، وإنذار شديد لكي يعلموا بأن الله الذي يدعوهم للإيمان غني عنهم، وأن ما أنزله إليهم هو لمصلحتهم. أي: قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع منتي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟
105.7.2.2- وهي أيضاً دليل على رحمة الله الواسعة بعباده، يرغبهم بالإيمان الذي فيه نجاتهم، يخبرهم أنه امتن عليهم بأن صرف عنهم كيد أصحاب الفيل، يريهم قوّته بأن أباد لهم أعداءهم، وأرغم آنافهم، وخيب سعيهم، وأضل عملهم، وردهم بشر خيبة. هي نعمة عظيمة أنعم الله بها على أهل مكّة وهي في نفس الوقت إنذار شديد من غضب الله على كيد قريش لرسول الله ومحاولات إيقاف دعوته. والسورة لم تذكر أي تفاصيل فيكفي الإشارة إلى حادثة الفيل والتذكير بها فقد كانت درساً بليغاً لمن أراد أن يتذكر.
105.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعات ومناسبة نزول آياتها والعبرة المستفادة منها:
105.7.3.1- الآيات (1، 2) تذكير بما كان من عقاب اللّه لأصحاب الفيل، وقد صاروا مثلاً في الغابرين، وكان حادث الفيل رادعاً لكل باغ ودافعاً لكل طاغ:
وحادث الفيل كان لا يزال صداه يتردد على الألسنة في مكّة، حينما نزلت السورة. وكذلك صداه عند العرب، لما انتشر فيهم ما صنع الله تعالى بجيش الفيل، وقد تهيّبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في نفوسهم ودانوا لقريش بالطاعة، قال ابن إسحاق: فلما ردّ الله الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشاً وقالوا: أهل الله؛ قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم. فقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة، وما ردّ عن قريش من كيدهم.
وفي الآيات تعجيب من كفر العرب وقد شاهدوا آيات الله، والمعنى إنك رأيت آثار صنع الله بالحبشة وسمعت الأخبار به متواتراً فقامت لك مقام المشاهدة، فاحذر العقاب من الله أن حاربت دينه.
105.7.3.2- الآيات (3-5) معنى آيات السورة واضح، فهي تحكي قصّة حقيقية تذكر السامعين منذرة إياهم بما كان من نكال اللّه في أصحاب الفيل، فأحبط كيدهم وأهلكهم حيث أرسل عليهم جماعات من الطير فرمتهم بحجارة من سجيل.
والقصد من التذكير بالحادث الذي كان قريب العهد، ويملأ الأذهان، هو الموعظة ودعوة زعماء قريش ومن بعدهم من العرب إلى الكف عن الأذى والكيد لرسوله والمؤمنين. فاللّه الذي كان من قدرته أن يصب بلاءه على الأحباش ويهلكهم مع ما هم عليه من شدة البأس قادر على أن يصب بلاءه عليهم ويهلكهم. وهم قد عاينوا ذلك فعليهم أن يكفّوا عن جهلهم ويحذروا ويتركوا الأذى والعناد.
105.7.4- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:
السورة (من أسهل السور) كلّها عبارة عن قصّة حقيقية عنوانها: “انظر كيف يجعل الله كيد أعداءه في تضليل”. والقصص من أسهل الوسائل في توصيل عدد كبير من المعاني والعبر في آن واحد، وأهمها في هذه القصّة أن كيد الله هو الغالب. فقد حذّرهم وخوّفهم، وأراهم الدليل على صدق وعده ووعيده؛ وهذه السورة واحدة من أعظم الدلائل على ذلك، أراهم بأم أعينهم كيف حمى بيته الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً من كيد أصحاب الفيل. فلو كان عند الذين عاصروا هذه الحادثة أو سمعوا بها من أهل الجزيرة العربية وأهل الحبشة أدنى فكر وتأمل ورغبة في الحق لآمنوا فور علمهم برسالة ربهم التي تدعوهم إلى اتباع دينه، كيف لا وقد خلّد سبحانه القصة في القرآن لتظل عبرة للناس إلى يوم الدين، لكنها العصبية وتقليد الآباء ودعوة الجاهلية.
الله خلق الإنسان ليسعده لا ليعذبه: لأجل هذا هداه إلى الصراط المستقيم فأمره باتباع الدين القويم والعمل الصالح، وحذره من الزلل باتباع سبل الضلال، ونهاه عن اتباع أوامر الشيطان. لقد كان من الأفضل للإنسان أن يصطلح مع الله ويطيعه فلا يعصي له أمراً؛ فالله أمرهم بطاعته وعبادته وحده، وبالعمل الصالح والانفاق لأن فيه سعادتهم وفوزهم، ونهاهم عن معصيته وعبادة الآلهة التي لا تضر ولا تنفع ونهاهم عن الفساد وكنز المال لأن فيه تعاستهم وهلاكهم. الله لا يُكره أحداً على الهدى، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما الله بظلام للعبيد، لكن عليهم أن يعلموا أن قضاؤه وأمره هو الحق الغالب وسنته هي التي تحكم الناس، فإذا ما جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
105.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
105.8.0- وهكذا لمّا ذكّرَت بنعمة الله ورعايته لهذه الأرض المقدّسة التي اختارها لتكون محضن الدين الخاتم، وسخطه وإهلاكه لمن يعادي دينه ويعتدي على بيته الحرام، فقد أنذرت الكفار والعرب الذين شاهدوا آيات الله وآثار صنعه بأصحاب الفيل وسمعوا الأخبار به متواتراً كالمشاهدة، فحين عجز البشر لم يعجزه شيء، بل دافع ونصر عباده المستضعفين بجند من عنده، ويسّر لهم أسباب نصره.
وأعقبتها سورة قريش التي تتناسب معها بالدليل على أن الجزاء يقع في الدنيا قبل الآخرة، والإنذار بأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، والبشارة بأنّه معهم ابتداءً، يحميهم وينصرهم وييسر لهم أسباب الرزق والأمن والسعادة. وأعقبهما كذلك في سورتي الماعون والكوثر عن الجزاء ومصير المكذبين والمؤمنين في الآخرة. وقد تقدمها جميعاً ست (6) سور من الزلزلة إلى الهمزة في التخويف والإنذار من الحساب والجزاء، وتقدّمت أيضاً اثنتا عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البينة تأمر بالعمل واتباع الدّين للفوز في الدنيا والآخرة.
105.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وفي وجه اتصالها: لما ذكر تعالى حال الهمزة اللمزة الذي جمع مالاً وعدده وتعزز بماله وتقوى، عقّب ذلك بذكر قصة أصحاب الفيل الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالاً وعتواً، وقد جعل {كيدهم في تضليل (2)} الفيل، وأهلكهم بأصغر الطير وأضعفه و {جعلهم كعصف مأكول (5)} الفيل، ولم يغن عنهم مالهم ولا عزهم ولا شوكتهم ولا فيلهم شيئاً. فمن كان قصارى تعزُّزه وتقوِّيه بالمال وهَمز الناس بلسانه فهو أقرب إلى الهلاك وأدنى إلى الذلة والمهانة.
105.8.2- قال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم حتى هموا بهدم البيت المكرم، فتعجلوا النقمة، وجعل الله {كيدهم في تضليل (2) وأرسل عليهم طيراً أبابيل (3)}، أي جماعات متفرقة، {ترميهم بحجارة من سجيل (4)} حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم {فجعلهم كعصف مأكول (5)}، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر المتقدم.
105.8.3- تناسب سورتي الفيل وقريش: السورتان دليل على أن الجزاء يقع في الدنيا قبل الآخره، وفيهما إنذار لمن يظن بأن الله غافل عما يفعل الظالمون فيتمادون في المعاصي، وبشارة لمن يعبد الله ويعمل الصالحات بأن الله معهم يحميهم وينصرهم وييسر لهم أسباب الرزق والأمن والسعادة.