العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


106.0 سورة قريش


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


106.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 4 آيات. 4) السادسة بعد المائة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والتاسعة والعشرون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “التين”. 6) ليس لها أسماء أخرى.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: رب 1 مرة، يطعم 1 مرّة. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (1 مرّة): قريش، رحلة، الشتاء، الصيف.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (2 مرّة): لإيلاف، من؛ (1 مرّة): فليعبدوا، البيت، أطعمهم، جوع، خوف، آمنهم.

106.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

وأخرج البخاري في تاريخه والحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم، ولا يعطيها أحد بعدهم: أني فيهم وفي لفظ النبوّة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله سبع سنين، وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم {لإيلاف قريش}.

وقال وائلة بن الأسقع: قال النبي صلى الله عليه وسلم “إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم”. صحيح ثابت، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

106.3 وقت ومناسبة نزولها:

وهي مكية عند الجمهور. وقال الضحاك والكلبي: هي مدنية. والدليل الواضح على مكيتها هو الكلمات التي في السورة {ربّ هذا البيت (3)}، فلو كانت مدنية فإن جود كلمة {هذا البيت} الذي هو مكّة في هذه السورة لن يكون صحيحاً. أضف إلى هذا، أن موضوع السورة متعلق بما قبله أي سورة الفيل وكأنها نزلت بعدها مباشرة. وقيل إنهما سورة واحدة حيث أنهما وجدتا مكتوبتان في قرآن أبي بن كعب كسورة واحدة أي لا تفصلهما “بسم الله الرحمن الرحيم”، وعن عمر بن الخطاب: أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأولى: والتين. إلا أنهما موجودتان في القرآن المعلم كسورتين منفصلتين تفصلهما “بسم الله الرحمن الرحيم” وهذا هو المصحف المعتمد أي مصحف عثمان. ويظهر بوضوح من موضوع السورتين وأسلوبهما أنهما مختلفتين.

106.4 مقصد السورة:

106.4.1- الترغيب بعبادة الله الذي ألّف شملهم، وأنعم عليهم بالرزق، ووهبهم الأمان. فالعبادة فيها مصلحة كبيرة للناس، وتدوم بها النعم. ويفهم منه في المقابل أن من يعبد غير الله يتشتت شمله ويجوع ويخاف. (الترغيب بعبادة الله، المنعم بالإلفة والرزق والأمان، وإلا فالشتات والجوع والخوف هو جزاؤهم).

قال الفخر: اللام في: {لإيلاف} متعلقة بقوله: {فَلْيَعْبُدُواْ} وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش، أي: ليجعلوا عبادتهم شكراً لهذه النعمة واعترافاً بها. ولأن نعم الله عليهم لا تحصى، فكأنه قيل: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبده لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة. وقال الزجاج: قال قوم: هذه اللام لام التعجب، كأن المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غياً وجهلاً وانغماساً في عبادة الأوثان، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم، وينظم أسباب معايشهم، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه.

106.4.2- مقصد السورة نجده في الآيتين الأخيرتين {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}، أي اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف. وهي كالمعادلة في الرياضيات: من أراد الطعام والأمان فليعبد الله؛ والعكس صحيح، أي من يعبد الله فحق على الله أن ييسر له الأسباب ويكفيه مشقة البحث عن الطعام والأمان (فلا يجعل همّه في الرزق بل في العبادة). مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} الذاريات. انظر أيضاً سياق السورة أدناه.

106.4.3- وقال البقاعي: مقصودها الدلالة على ضد ما دلت عليه الفيل بأن إهلاك الجاحدين المعاندين لإصلاح المقربين العابدين، وهو بشارة عظيمة لقريش خاصة بإظهار شرفهم في الدارين. واسمها قريش ظاهر الدلالة على ذلك، والتعبير بقريش دون قومك أو الحمس مثلاً ونحوه دال على أنهم يغلبون الناس أجمع بقوة كما يدل عليه الاسم، وبغير قوة كما دل عليه ما فعل لأجلهم من قصة الفيل.

106.5 ملخص موضوع السورة:

من السور الأوائل التي نزلت في مكّة، واسمها “قريش” لذكر إيلافهم وانتظام مصالحهم وتجارتهم في رحلتي الشتاء والصيف. ومقصدها الإشارة إلى أنه قد ألّف شملكم ابتداءً، وأنعم عليكم بالرزق، ووهبكم الأمان فاعبدوه طاعة وشكراً واعترافاً بفضله، يصلح دنياكم وآخرتكم ويصرف أعداءكم ويتمّ نعمته عليكم كما أصلحها وأتّمها من قبل، كما يلي:

(الآيات 1، 2): التذكير بنعم الله الجليلة على قريش، حيث ألّف جماعتهم، وألفوا رحلتين آمنتين فيهما تيسير تجارتهم ورزقهم ومعاشهم: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام.

(الآيات 3، 4): الأمر بعبادة رب البيت الذي ببركته أكرمهم وأنعم عليهم بنعمتيّ الرزق والأمان في التجارة، والأمن من الجوع فلا تصلهم مجاعات، ومن الخوف فلا تتعرّض لهم القبائل.

ولمّا أمرت بعبادة الله الذي ألّف شملهم وتجارتهم وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، والخطاب لجميع الناس وليس محصوراً بقريش، فالله تعالى ينعم ابتداءً بالخلق والرزق والأمان ثم يأمر باتّباع الدّين الذي فيه حفظهم وحفظ نعمه عليهم، وهي سنّته التي لا تتبدّل ولا تتحوّل، بدليل ما فيه قريش من الرزق والأمان وإهلاك عدوّهم، وهي كالامتداد لسورة الفيل بمعنى أن الله بفضله أهلك أصحاب الفيل ليحمي بيته الحرام ويرتفع ذكره وتزداد هيبة قريش حتى ينتظم لهم الأمن في بلدهم وتجارتهم فلا يجترئ أحد عليهم، بينما غيرهم في خوف يتخطفون ويغار عليهم.

والسورتان دليل وبشارة على أنّ النعيم يسبق التكليف، والجزاء يقع في الدنيا قبل الآخرة، أعقبهما في سورتي الماعون والكوثر الإنذار بالويل للمكذبين بالدين والبشارة بالخير الكثير للمؤمنين في الآخرة. وتقدم كذلك على نفس السياق ستّ (6) سور من الزلزلة إلى الهمزة في التخويف والإنذار من الحساب والجزاء، وتقدم أيضاً اثنا عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البينة تأمر بالعمل واتباع الدّين للفوز في الدنيا والآخرة.

اللهم إنا نعوذ بك من الحَور بعد الكَور ومن الذلّ بعد العزّ ومن الجهل بعد العلم ومن العمى بعد النور ومن الضّلال بعد الهدى ومن السلب بعد العطاء يا عزيز يا كريم ويا واسع الجود والكرم.

106.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

احتوت السورة على موضوعين الأول التذكير بنعم الله على قريش، والثاني الأمر بعبادته لكي تدوم النعم، كما يلي:

106.6.1- الآيات (1، 2): التذكير بنعم الله الجليلة على قريش، حيث ألّف جماعتهم، أو ألفوا رحلتان: رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام من أجل التجارة.

106.6.2- الآيات (3، 4): الأمر بعبادة رب البيت الذي ببركته أكرمهم وأنعم عليهم بنعمتين الرزق والأمان، وأمَّنهم من الجوع والخوف.

السورة تحث على الاعتراف بالفضل وترغب بأداء الشكر لصاحب الفضل وذلك بعرض النعم العظيمة والخير الكثير والرحمة الواسعة.

106.7 الشكل العام وسياق السورة:

106.7.1- سمّيت سورة قريش: لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها، ولذكر أُلفتهم فيها. {لإيلاف قريش (1)} والإيلاف من قولك: آلفت المكان. أو لمؤالفة قريش واجتماعها، وهو متعلق بقوله {فليعبدوا (3)}، أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم في الرحلتين. وقيل هو متعلق بما قبله أي: {فجعلهم كعصف مأكول (5)} الفيل، {لإيلاف قريش (1)} قريش. وعن عمر: أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأولى: {والتين}. وهي امتداد لسورة الفيل، بمعنى أن الله بفضله أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيتهيبوهم زيادة تهيب ويحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم فلا يجترئ أحد عليهم وكانت لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام فيمتارون ويتجرون وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته فلا يتعرض لهم الناس وغيرهم يتخطفون ويغار عليهم.

وقال الفخر: اتفقوا على أن قريشاً ولد النضر بن كنانة، وذكروا في سبب هذه التسمية وجوهاً أحدها: أنه تصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، ولا تنطلق إلا بالنار، وعن معاوية أنه سأل ابن عباس: بم سميت قريش؟ قال: بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، تعلو ولا تعالى. والتصغير للتعظيم، ومعلوم أن قريشاً موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة، فإن الأئمة من قريش. وثانيها: أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد. وثالثها: قال الليث: كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكناً، فسموا قريشاً لأن التقرش هو التجمع، يقال: تقرش القوم إذا اجتمعوا، ولذلك سمي قصي مجمعاً. ورابعها: أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج، فسموا بذلك قريشاً، لأن القرش التفتيش.

106.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:

احتوت السورة على موضوعين: الأول عن التذكير بنعم الله الكثيرة على قريش، حيث إيلافهم وانتظام رحلتان لهم من أجل التجارة، الثاني عن الأمر بعبادته وحده فهو رب البيت وصاحب الحق والفضل. وفيه إنذار أنهم إذا أرادوا المحافظة على نعمة الله هذه فعليهم بالطاعة لما أمر، كما يلي:

106.7.2.1- الآيات (1، 2) التذكير وبنفس الوقت التعجيب من نعم الله التي لا تحصى على قريش: أي اعْجَبوا من قريش ومن عظيم تكريم الله لهم: أي ألّف جماعتهم، أو ألفوا رحلتي {الشتاء والصيف (2)} صيفاً وشتاءاً تجاراً آمنين لا يخافون شيئاً لحرمهم، وكانت العرب لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعونه من الخوف.

106.7.2.2- الآيات (3، 4) الأمر بالعبادة: فليشكروا، وليعبدوا رب هذا البيت الذي شرفوا به، وليوحدوه ويخلصوا له العبادة. فهو الذي أطعمهم من جوع شديد، وآمنهم من فزع وخوف عظيم. فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة العظيمة الظاهرة {لإيلاف قريش (1)}.

فقد أعطاهم الرزق والألفة والأمان بدون سابق فضل منهم، بل رحمة منه وفضلاً، لا يريد منهم سوى أن يعبدوا رب البيت وصاحب النعمة. وهذا يتضمن بشارة بأنهم لو أطاعوا أمر ربهم واتبعوا دينه لدامت عليهم نعمته.

وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن أم سلمة الأنصاريّة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول {لإيلاف قريش (1) إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (2)} “ويحكم يا معشر قريش اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف”.

106.7.3- سياق السورة باعتبار الفئة المخاطبة بالسورة وهم قريش:

تعجيب من عدم شكر قريش نعمة ربهم عليهم وعبادته، وترغيبهم أن يعبدوا اللّه. وقد احتوت على موضوعين مترابطين في الأول تذكير لقريش بنعم اللّه عليهم، والثاني دعوة لهم إلى عبادته، كما يلي:

106.7.3.1-الآيات (1، 2): التذكير بنعم الله على قريش: فقد يسّر ربّ البيت، كناية عن الكعبة، لهم ببركته الأمن من الخوف والوقاية من الجوع كما يسّر لهم رحلتي الشتاء والصيف اللتين كانوا يتهيأون لهما كل عام ويعدّون لهما العدّة ويجنون منهما أسباب الرخاء والرفاه، فمن واجبهم شكر أفضاله عليهم بالإيمان وعبادته وحده.

106.7.3.2- الآيات (3، 4) بعد أن ترغبهم تذكرهم بأفضال اللّه عليهم؛ تنبههم وتدعوهم إلى وجوب مقابلة ذلك الفضل بالإلفة والرزق والأمان، بالشكر والاستجابة لدعوته لهم بالعبادة.

 

106.7.4- سياق السورة باعتبار أن ما فعلته قريش يتكرر في كلّ الأمم:

عبر التاريخ يكون الناس في أول أمرهم في نعمة، ثم يفسدوا بسبب النعمة، فيرسل الله المرسلين يأمرونهم بالعبادة والإصلاح ليحفظ عليهم النعمة. وهذه قاعدة مذكورة في القرآن الكريم وهي سنّة ثابته ومضطرده في الناس أفراداً أو جماعات، أي: رزق وأمان يؤدي إلى ظلم وفساد، ثم يرسل الله رسولاً يبشر بالتمكين في الأرض للمؤمنين وينذر بالعذاب للكافرين، كما يلي:

من سنن الله تعالى، أنه يرسل المرسلين إلى الأمم وهم في بحبوحة من العيش والأمان، لكي يديم عليهم نعمتا الرزق والأمان، إن هم اتبعوا المرسلين الذين يأمرونهم: بشكر المنعم والحفاظ على النعمة بكف الظلم وأداء حقّ الله فيها؛ والمفارقة أن معصية الله لا تحصل في الأمم إلا بعدما يعم الخير والأمان؛ وهو طبع في الناس، وأوّل مثال: آدم عليه السلام عصى ربّه وهو في الجنة، قال تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} طه، ثم قال: {وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ (121)} طه؛ وكذلك المتتبع لقصص القرآن يجد أن كلّ الأمم التي جاءتها الرسل كانت في خير عظيم من الله: أي في جنات ومساكن وقصور وحياة طيبة وأمان، ثم يبدأ الظلم والطغيان والفساد وعبادة الأوثان، فيهلكهم الله بذنوبهم قال تعالى: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)} الفجر؛ لكنّه تعالى قبل أن يهلكهم ويستبدل قوماً غيرهم، يرسل إليهم المرسلين يدعونهم إلى الإيمان ويبشرونهم بالرزق والأمان إن هم أطاعوا، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} النور. وهي سنّة ثابته في الناس أفراداً أو جماعات، أي: رزق وأمان يؤدي إلى ظلم وفساد، ثم يرسل الله رسولاً يبشر بالتمكين في الأرض للمؤمنين وينذر بالعذاب للكافرين؛ وأما الآيات التي وردت في تقرير هذا المعنى فكثيرة، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} الشورى، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} القصص، وقوله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} الروم، وقال جل وعلا: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} آل عمران، وتكررت في الآية (51) الأنفال، والآية (10) الح.

– انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن (6.2.5) حول الاغترار بالنعمة هي من أسباب الشرك والبغي والفساد في الأرض، وبالتالي زوال النعمة وتبدّل الأحوال.

106.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

106.8.0- ولمّا أمرت بعبادة الله الذي ألّف شملهم وتجارتهم وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، والخطاب لجميع الناس وليس محصوراً بقريش، فالله تعالى ينعم ابتداءً بالخلق والرزق والأمان ثم يأمر باتّباع الدّين الذي فيه حفظهم وحفظ نعمه عليهم، وهي سنّته التي لا تتبدّل ولا تتحوّل، بدليل ما فيه قريش من الرزق والأمان وإهلاك عدوّهم، وهي كالامتداد لسورة الفيل بمعنى أن الله بفضله أهلك أصحاب الفيل ليحمي بيته الحرام ويرتفع ذكره وتزداد هيبة قريش حتى ينتظم لهم الأمن في بلدهم وتجارتهم فلا يجترئ أحد عليهم، بينما غيرهم في خوف يتخطفون ويغار عليهم.

والسورتان دليل وبشارة على أنّ النعيم يسبق التكليف، والجزاء يقع في الدنيا قبل الآخرة، أعقبهما في سورتي الماعون والكوثر الإنذار بالويل للمكذبين بالدين والبشارة بالخير الكثير للمؤمنين في الآخرة. وتقدم كذلك على نفس السياق ستّ (6) سور من الزلزلة إلى الهمزة في التخويف والإنذار من الحساب والجزاء، وتقدم أيضاً اثنا عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البينة تأمر بالعمل واتباع الدّين للفوز في الدنيا والآخرة.

106.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: سورة قريش هي شديدة الاتصال بما قبلها لتعلق الجار والمجرور في أولها بالفعل في آخر تلك ولهذا كانتا في مصحف أبي بن كعب سورة واحدة.

106.8.2- وقد قال الإمام الفخر: إعلم أن الإنعام على قسمين: أحدهما دفع ضر وهو ما ذكره في سورة الفيل، والثاني: جلب منفعة وهو ما ذكره في هذه السورة ولما دفع الله عنهم الضر وجلب لهم المنفعة وهما نعمتان عظيمتان أمرهم تعالى بالعبودية وأداء الشكر {فليعبدوا رب هذا البيت (3) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (4)}.

106.8.3- وقيل إن هذه السورة متصلة بالتي قبلها في تكامل المعنى. يقول: أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش، أي لتأتلف، أو لتتفق قريش، أو لكي تأمن قريش فتؤلف رحلتيها. وممن عد السورتين واحدة أبي بن كعب، ولا فصل بينهما في مصحفه. وقال سفيان بن عيينة: كان لنا إمام لا يفصل بينهما، ويقرأهما معا. وقال عمرو بن ميمون الأودي: صلينا المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فقرأ في الأولى: {والتين والزيتون (1)} التين، وفي الثانية {ألم تر كيف (1)} الفيل، و {لإيلاف قريش (1)} قريش. وقال الفراء: هذه السورة متصلة بالسورة الأولى، لأنه ذكر أهل مكة عظيم نعمته عليهم فيما فعل بالحبشة، ثم قال: {لإيلاف قريش (1)} أي فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش.

– راجع سورة الفيل (105.8.3): تناسب سورتي الفيل وقريش.

– راجع سورة الهمزة (104.8.2): تناسب الزلزلة إلى الهمزة (6 سور) مع بعضها ومع ما قبلها وبعدها. حول موضوع التخويف من الحساب والجزاء في الآخرة.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top