العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


113.0 سورة الفلق


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


113.1 التعريف بالسورة:

1) مكية. 2) من المفصل. 3) عدد آياتها 5 آيات. 4) الثالثة عشرة بعد المائة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والعشرون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الفيل”. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمّى أيضاً هي وسورة الناس المعوّذتان والمشقشقتان.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: رب 1 مرة، خلق 1 مرّة. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (1 مرّة): وقب، نفّاثات.

أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: شرّ 4 مرّات، حاسد 2 مرّة، غاسق 1 مرّة.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: مِنْ 4 مرّات؛ إذا 2 مرّة؛ (1 مرّة): قل، أعوذ، الفلق، خلق، العقد.

113.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله: أقرأ من سورة يوسف وسورة هود؟ قال: “يا عقبة اقرأ بأعوذ برب الفلق فإنك لن تقرأ بسورة أحب إلى الله وأبلغ عنده منها، فإن استطعت أن لا تفوتك فافعل”.

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهنّ قطّ، {قل أعوذ بربّ الفلق} و {قل أعوذ بربّ الناس}. أخرجه مسلم والترمذي والنسائي.

عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه بالمعوذات، وأمسح بيده عليه رجاء بركتها. أخرجه مالك ورواه البخاري وأبو داود والنسائي.

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ عليه السّلام “كان إذا آوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفيه، ثمّ نفث فيهما، وقرأ فيهما، {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ بربّ الفلق} و{قل أعوذ بربّ الناس}. ثمّ يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرّات”

وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنسان فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما. أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة.

113.3 وقت ومناسبة نزولها:

على الرغم من أن هاتين السورتين: (أي الفلق والناس) منفصلتين وموجودتين تحت اسمين مختلفين في القرآن، إلا أن التناسب بينهما كبير ومتبادل وموضوعهما متشابهين وقد تميّزتا باسم واحد مشترك وهو المعوذتين. الإمام البيهقي كتب في دلائل النبوّة، أن هاتين السورتين نزلتا مع بعضهما البعض ولذلك سمّيتا المعوذتين.

تنويه: في هذا الباب “وقت ومناسبة النزول”: فالحديث هو عن سورتي الفلق والناس معاً لأنهما متشابهتين في المقصد والمواضيع. أمّا باقي الأبواب للسورتين فقد تمّ بيانهما والتعليق عليهما منفصلتين.

الحسن البصري وعطاء وعكرمة وجابر بن زيد قالوا إن هذه السورة مكّية وهو ما يؤيده حديث ابن عبّاس. غير أنه في حديث آخر عن ابن عباس يؤكد أنها مدنيّة. ونفس الرأي قاله عبد الله بن الزبير بن قتادة. أحد الأحاديث الذي يقوّي الرأي الثاني هو الحديث المذكور أعلاه والمروي عن عقبة بن عامر، فعقبة أسلم في المدينة بعد الهجرة، كما جاء في أبو داوود والنسائي. والأحاديث الأخرى التي تقوي الرأي الثاني هي الأحاديث التي رواها ابن سعد، ومحي السنة البغوي والإمام النسفي والإمام البيهقي، والحافظ بن حجر، والحافظ بدر الدين العيني وعبد بن حميد وغيرهم أن هاتين السورتين الفلق والناس نزلتا عندما سحر اليهود النبي صلى الله عليه وسلم ومرض من أثره، وقد روى ابن سعد عن الواقدي أن هذا حصل في السنة السابعة بعد الهجرة، وبناءاً عليه وصف سفيان بن عيينة هذه السورة بأنها مدنية.

إلا أنه كما سبق وذكر في سورة الإخلاص، عندما يقال عن سورة معينة أو آية بأنها نزلت في إحدى المناسبات، فلا يعني بالضرورة أنها كانت في تلك المناسبة لأول مرة، بل إنه أحياناً توجد آية أو سورة نزلت في السابق على الرسول صلى الله عليه وسلم بمناسبة سؤال محدد أو مسألة معينة أو بدون مناسبة، ثمّ جدّ بعد ذلك نفس ذلك السؤال أو المناسبة، كان يوحي إليه الله سبحانه وتعالى أن يتلوا نفس الآية أو السورة على السائل لاحتوائها على الإجابة. وهو ما يوصف بتكرار الوحي أي أن الآية أو السورة نزلت عدّة مرّات.

الواقع أن هذا ما حصل بالنسبة للمعوذتين فباعتبار موضوعهما فهما مكّيتان، وقد نزلتا في وقت مبكر من العهد المكّي عندما أصبحت عداوة الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم تزداد كثافة وقوة. ثم بعد ذلك وفي المدينة عندما بدأت العداوة تعصف من جميع فئات اليهود والمنافقين وعبدة الأوثان، أُمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقراءة هاتين السورتين بالذات، كما تم ذكره في الحديث المكتوب أعلاه عن عقبة بن عامر، خاصّة عندما أثر فيه السحر وازداد مرضه، فجاءه جبريل يأمره بأمر من الله أن يتلو هاتين السورتين. وأغلب الظن أن الرأي الذي يقول أن السورة مكية هو الأقرب للصواب، والسبب في ذلك أنه من الصعب اعتبار حادثة السحر هي مناسبة النزول للسورتين، لأن الآية التي تتحدث عن هذه الحادثة هي الآية الرابعة فقط، أما باقي آيات سورة الفلق وكل آيات سورة الناس فلا علاقة لها مباشرة بهذا الموضوع.

113.4 مقصد السورة:

113.4.1- أمر المؤمنين بالاعتصام بالله، رب الفلق من شرّ مخلوقاته: وبالأخص الليل إِذا أظلم، والسواحر بالنفث في العقد، والحاسد الذي يتمنى زوال النعمة عن الناس.

113.4.2- مقصد السورة نجده في الآيتين الأوليين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} تأمرنا بالالتجاء والاعتصام بخالق كل شيء رب الفلق من كلّ شرّ يأتي من مخلوقاته، والآيات الثلاثة الباقية فيها تخصيص ووصف لأكثر ثلاثة مخلوقات يتولّد عنها الشر: وهي والليل إذا أظلم، والسواحر النفاثات في العقد، والحاسد الذي يتمنى زوال النعمة وإن لم يصر له مثلها. (وهذه التي خصصتها في الثلاثة آيات الأخيرة، كل الناس تخاف منها، إلا ما رحم ربّي).

معنى {الفلق}: الفلق هو الصبح وهو قول الأكثرين، قال تعالى: {فالق الإصباح (96)} الأنعام. والقول الثاني هو كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات، قال تعالى: {إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى (95)} الأنعام؛ والجبال عن العيون: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأَنهار (74)} البقرة؛ وقال الحسن: الفلق كل ما انفلق عن شيء كالصبح والحَب والنَّوى؛ وقال الزجاج: وإذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق، كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر؛ وقال الضحاك: أنه الخلق كله؛ وقال الفخر: بل العدم كأنه ظلمة والنور كأنه الوجود، وثبت أنه كان الله في الأزل ولم يكن معه شيء البتة، فكأنه سبحانه هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد والتكوين والإبداع.

معنى: {من شرّ ما خلق}: أي: من شر كل ما خلقه الله كائناً ما كان: الإنس، والجن، والحيوان، والنبات، والجماد؛ ومن شر كل ما يحصل من أذاها كالقتل والجرح والأمراض والحرق والغرق والسحر والحسد والأمراض ولدغ الأفعى والطعام الفاسد، وكل شيء من أنواع الأذى صغيره وكبيره، والذي تولّد عن قوى أو مخلوقات خلقها الله. فهو كلّه شرّ من الناس أنفسهم أو من مخلوقات غيرهم خلقها الله. والله هو خالق هذه المخلوقات كلها، وقد جعل لها سنن وقوانين في غاية الحكمة والعدل والرحمة والتقدير، يتحقق لها بها الخير والصلاح والسعادة في ملكوته؛ لكن الشرّ فعلته مخلوقاته بمخالفة سننه وأمره ونهيه، قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيداً (79)} النساء، فيصير حاصل الآية أنه تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يستعيذ بالله من الله، وهذا صحيح، وهو من باب التعوذ بصفات الله من صفات الله، وبرضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، مصداقاً للحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “ونعوذ برضاك من سخطك، ونعوذ بعفوك من عقوبتك، ونعوذ بك منك لا نحصي ثناء عليك” رواه مسلم، وحديث “أعوذ بكلمات الله التامّات من شر ما خلق” رواه مسلم، فالكلمات صفة من صفات الله يتعوذ بها من شر ما خلق الله سبحانه وتعالى.

انظر إلى المزيد من الشرح والتفصيل أدناه، عن الخير والشر، كذلك وأحاديث الأمر بالاستعاذة.

والخطاب في السورة من الله جل جلاله لنبيِّه عليه الصلاة والسلام، وهذا الخطاب ينسحب علينا، ونحن أَمته المكلفين بتطبيق الدين الذي جاء به وبنشره من بعده، كما في الحديث الصحيح الذي سبق ذكره في الضحى: “إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين”.

113.4.3- وقال البقاعي: مقصودها الاعتصام من شر كل ما انفلق عنه الخلق الظاهر والباطن، واسمها ظاهر الدلالة على ذلك.

113.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت مع سورة الناس في وقت مبكّر من العهد المكّي، واشتركتا في الاسم “بالمعوذتين” والافتتاح ب {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ} وتشابهتا في الموضوع، ومقصدها أمر المؤمنين بالاستعاذة والاعتصام بربهم من شرّ مخلوقاته التي لا قبل لهم بدفعها. واسمها “الْفَلَق” يشير إلى جميع الخلق، {مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2)} وما يتولّد عنها بالفلق، فيُستعاذ من شرّها ومن شرّ: الليل إذا أظلم، والسّواحر النفاثات في العقد، والحاسد الذي يتمنّى زوال النعمة، فتكرّر لفظ {مِنْ شَرِّ} أربع مرّات إطناباً وتأكيداً على الاستعاذة من هذه الشرور، كما يلي:

– {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}. أي قل: أعوذ وأعتصم برب الفلق، وهو الله فالق الصبح والخلق كلّه، من شرّ جميع المخلوقات وأذاها، ومن شرّ ليل شديد الظلمة إذا دخل وتغلغل وما فيه من الشّرور والمؤذيات، ومن شرّ السّاحرات اللاتي ينفخن فيما يعقدن من عُقَد بقصد السّحر، ومن شرّ حاسد مبغض للناس إذا حسدهم على ما وهبهم الله من نعم وأراد زوالها عنهم وإيقاع الأذى بهم.

وهكذا لمّا أمرت المعوّذتان بالاستعاذة، وقد تقدّم في الإخلاص الإعلام بأنّ الله هو الصمد الذي تصمد إليه الحوائج ودفع الشرور، وباستجابته تعالى لدعائهم فقد علموا أنه ربّهم وملكهم وإلههم فازداد إيمانهم، وكان بذلك شرفهم وتكريمهم ورفع درجاتهم وتفضيلهم على المخلوقات وتحقيق مقصد خلقهم وهو سعادتهم بالعلم والعمل في الدنيا وفوزهم بالنعيم المقيم في الجنّة.

ولمّا ابتدأ القرآن في الفاتحة بالدعاء والاستعانة على الهدى إلى الصراط المستقيم، ثمّ تواصل في باقي السّور طلب الرّزق والمال والولد والملك والنصر والمغفرة وتيسير الأمور وشرح الصدور وغيرها من حاجات الدنيا والآخرة، حتى إذا ما تحقّقت الأماني والحاجات ختم بالاستعاذة من كلّ الشرور. ويكون بذلك قد ختم القرآن بثلاث سور تشير إلى أقسامه الثلاث وهي: الأمر بتوحيد ربّهم والعمل بطاعته والإيمان بوعده، وإلى وسائل العلم الثلاثة وهي: تعليم العقل بالقرآن والبدن بالتجربة والقلب بالمحبّة والإرادة. فتناسب بيان كمال الدّين: بتمام العلم وإخلاص العمل وحسن الاستجابة، من بداية القرآن إلى نهايته.

اللهم إنّا نسألك من خير ما سألك منه نبيّك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شرّ ما استعاذك منه نبيّك محمد صلى الله عليه وسلم، أنت المستعان، وعليك التكلان، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

113.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

تبين هذه السورة أن الله يحب مخلوقاته ويحب الناس، ويريد لهم الخير، فيعلمهم ويأمرهم أن يستعيذوا به من كل شر، ليعيذهم، كما يلي:

113.6.1- الآيات (1، 2) قل: أعوذ وأعتصم برب الفلق، وهو الله فالق الصبح والخلق كلّه، من شر جميع المخلوقات وأذاها.

113.6.2- الآيات (3-5) ومن شر ليل شديد الظلمة إذا دخل وتغلغل، وما فيه من الشرور والمؤذيات؛ ومن شر الساحرات اللاتي ينفخن فيما يعقدن من عُقَد بقصد السحر؛ ومن شر حاسد مبغض للناس إذا حسدهم على ما وهبهم الله من نعم، وأراد زوالها عنهم، وإيقاع الأذى بهم.

يُحبّ الله هذه السورة كثيراً، فلن تقرأ بسورة أحب إليه وأبلغ عنده منها، كما في الحديث، لأن من يعمل بمحتواها تعيده إلى ربه، والله يريدهم أن يأتوه ليعيذهم من الشرور ويحميهم، يحبهم ويحبونه، ويريد لهم الخير لا الشر، وأن يجنبهم من كل شرّ قد يصيبهم. لم تبين السورة ما الله تعالى فاعل باستعاذة المستعيذ به، وذلك فيه بشارة ودلالة على أنه قد استجيب له، وأنه قد أعيذ وانتهى، فليراقب ويرى بأم عينيه ويسعد بتحقق النجاة والسلامة من الشر الذي استعاذ بالله منه، إن شاء الله.

113.7 الشكل العام وسياق السورة:

113.7.1- اسم السورة {الفلق}: ومعناه المذكور أعلاه، يدل على قدرة الله على الإحياء وعلى عظمة خلقه وفعله، ويشير وجوب الاستعاذة بالخالق من مخلوقاته، وبأنه جدير بتوفير الأمان والحماية للإنسان من للمخلوقات الشريرة المخيفة المذكورة في السورة والتي تنشر الخوف والشرور في الناس. وبالاستعاذة باسمه {رب الفلق} يكون هو الاسم الأعظم الأنسب الذي نطلب ونستنهض فيه سبحانه قدرته على الخلق والفلق أن يوفر لنا الأمان.

113.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها وموضوعها:

كل القرآن الكريم هو كتاب هداية للمؤمنين، يهديهم به الله إلى صراطه المستقيم، وهو الصراط الذي يأخذهم إلى النعيم في الدنيا والآخرة. وفي السورة بيان نوع عظيم من نعيم الله على الإنسان، هو بأمسّ الحاجة له في الدنيا، ألا وهو نعمة الأمن والسلامة من الشرور. السورة تعلّم الإنسان وتهديه، لا بل تأمره بأن يستعيذ بالله الذي لا معيذ سواه، ثم يتوكّل على الله، أي يذهب وينام ليله الطويل وفي اطمئنان تام ويترك كل شيء لله ليحميه. بكل بساطة يأمر الرب بأن: قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، ثم راقب السكينة والأمان الذي ستحصل عليه، ليس بالكلام بل بالتطبيق. إنها آيات فعلاً لم يرى مثلهن كما قال صلى الله عليه وسلم، وأنى يُرى مثلهن وفيهن يعلّم الله العظيم عباده، بل ويأمرهم أمراً أن يستعيذوا به وانتهى، والسورة لم تكمل ماذا سيحصل بعد ذلك. لم تكمل فالتكميل بما يرى المؤمن لا بما يسمع.

قال تعالى {قل} تعليماً وأمراً {أعوذ} أي أستجير وألتجئ وأعتصم وأحترز بكنف الله وبحماه من كلّ مخوّف. يأمرهم سبحانه بتطبيق ما آمنوا به، بأنه مجير قادر معيذ، ليستجيب لهم ويريهم أنه حقاً كذلك ويستجيب لهم، كما يلي:

113.7.2.1- يأمر الله سبحانه وتعالى الإنسان أولاً بأن يلجأ ويلوذ ويعتصم {برب الفلق} أي: فالق الحب والنوى وفالق الإصباح وكل شيء يفلق فلقاً. من شرّ جميع ما خلق الله من الإنس والجن والحيوانات من الشر الذي فيها، كما هو مذكور في المعنى أعلاه.

113.7.2.2- ثم وبالتخصيص من شر ما يكون في الليل حين يغشى الناس وتنتشر فيه الكثير من الأرواح الشريرة والحيوانات المؤذية؛ ومن شر السواحر، اللاتي يستعن على سحرهن بالنفث في العقد، التي يعقدنها على السحر؛ ومن شرّ الحاسد الذي يحب زوال النعمة عن المحسود فيسعى في زوالها بما يقدر عليه من الأسباب، فاحتيج إلى الاستعاذة بالله من شره وإبطال كيده، ويدخل في الحاسد العين، لأنه لا تصدر العين إلا من حاسد شرّير الطبع، خبيث النفس، فهذه السورة، تضمنت الاستعاذة من جميع أنواع الشرور، عموماً وخصوصاً.

تترك السورة النتيجة مفتوحة لأنها نتيجة أكيده لا تحتاج إلى شرح أو بيان، إنها سبحان الله، الدفء الأكيد والسكينة والأمان الذي يدخل أعماق المؤمن فتطمئنه، وهو ليس شعور فقط بل تطبيق، ولن نجد إنساناً واحداً يناقض كلام الله فيدّعي أنه قرأ هذه السورة وأصابه مكروه بعدها. وهذه هي من طرق ترقية الإيمان التي جعلها الله للناس ليبرهن لهم بها أنه موجود معهم يحميهم، انظر مزيد من التفصيل عن “الاستعاذة بالله نعمة عظيمة” و “تجلب الخير للناس وتنمي فيهم الإيمان ” أدناه.

 

113.7.3- سياق السورة باعتبار مقصدها وهو الأمر بالاستعاذة والاستعانة برب الفلق من شرّ ما خلق:

كل ما في الكون هو من خلق وفعل الله، فلماذا نستعيذ بالله طالما أن كل شيء قضاءه وتقديره؟

113.7.3.1- الله سبحانه وتعالى خلق الكون بحكمة وعدل ودقة ورحمة، وخلق الإنسان ليسعده:

إن الله قد خلق الدنيا ليبتلي الإنسان، وجعل سعادته فيها بالإيمان به وبعبادته، وذلك بعد أن هيّأها له وسخرها ثم هداه وأمره. ثم تتواصل هذه السعادة وتستمر حتى يدخله المستقر النهائي في الجنة، خالداً منعّماً، ودرجات بعضها فوق بعض، بقدر ما عبده وأطاعه، فمن أجل هذا المقصد خلق الله الدنيا. فإذا أنا استعذت بالله فذلك يكون أوّلاً بهدى وأمر من الله وبرحمة منه بي، ثمّ إيماناً واعترافاً منّي به صمداً لحوائجي إليه، فهو {الله الصمد} وسيستجيب لي حتماً بإذنه، فليس شيء عليه بعزيز. تماماً كما يلجأ اصحاب السفينة إلى الله بإخلاص، حين يجتاحهم الموج من كل مكان، فينجيهم الله من الموج ليزداد إيمانهم به، فلمّا أنجاهم عادوا لبغيهم وكفرهم، بعد أن عاينوا بأنفسهم فوائد الإيمان، فما أظلمهم وأجهلهم؟ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} يونس.

113.7.3.2- الله سبحانه وتعالى لم يخلق الشر ليكون شراً، فالشر الذي نستعيذ بالله منه ليس من الله بل من المخلوقات:

الله سبحانه وتعالى لم يخلق الشر، ولم يجعل الباطل، بل خلق كلّ شيء بالعدل والحق والميزان، وكتب على نفسه الرحمة، وأمر بالقسط، وهدى إلى الصراط المستقيم، وجعل يوماً للدين والحساب. لو نظرنا في الكون لرأيناه يعمل بتكامل وانسجام واتزان وكأنه الجسد الواحد، يملأه الخير والصلاح والبقاء. أما الشر في هذه الدنيا، فهو ليس شر في الأصل، وهو نسبي من حيث اعتباره شراً، بل كلّ خلق الله خير. الله سبحانه وتعالى ولحكمة أرادها، خلق من كل شيء زوجين {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)} الذاريات، ليتكامل بهما نظام الكون، فليست المخلوقات شرّاً، وإنما هي خير في ذاتها، خلقها الله بتقدير منه وجعلها في هذا النظام الزوجي، لتأخذ مكانها الضروري والإيجابي والمفيد في بقاء وتكامل وصلاح الكون، كما أراده الله له أن يكون قبل أن يكون. فالله وحده هو الأحد الفرد الصمد فقط لا غير، وهو خالق الأزواج: النور والظلام، والموت والحياة، والليل والنهار، والسالب والموجب، والجنّة والنار، وغيرها. بل أن الإنسان ليس أمامه في حياته سوى أن يختار بين خيارين: إما الحق أو الباطل.

113.7.3.3- الشر أمر نسبي، فما يراه بعض الناس شر محض، يراه غيرهم منتهى النعمة والخير:

والشر نسبي، تفعله المخلوقات، وقد يأتي بمؤثر خارجي، لكن جعل الله له العلاج، باللجوء إليه كما في هذه السورة، أو بانتظار الجزاء والعقاب في الدنيا ثم العدل المطلق في الآخرة. والشر نسبي بدليل أن ما يراه بعض الناس شر محض، يراه غيرهم منتهى النعمة والخير، التي تستحق شكر الله وحمده عليها. وليس ببعيد عن هذا ما نحن كلنا فيه الآن من التكليف والابتلاء بالاختيار بالأسباب، وترك الحرّية لنا ومطلق الخيار في أن نتخذ الأسباب المؤدية إلى الخير أو الأسباب المؤدية إلى الشر، وبهذه الحرّية في الاختيار سنصل إلى النهاية المحددة التي رُسمت طريقها بشكل واضح لا لبس فيه، إما إلى الخير المطلق في الجنة أو الشر المطلق في النار، كله باختيارنا وبما كسبت أيدينا من عمل.

113.7.3.4- المستقر النهائي في الجنة:

وقد أوجدت هذه الدنيا من أجل أن نعمل ونكسب ثم ننال جزاء أعمالنا، فهذا هو المقصد من وجودنا على الأرض، أي أن نعمل بالخيار لا بالجبر، من أجل نيل أقصى ما يمكن أن يناله الإنسان بكسبه في الدنيا، ثم ينال جزاء أعماله النهائي أضعاف مضاعفة في الجنة، وفي نهاية المطاف سيحمد الفائزون الله لأنه جعل لهم الدنيا بخيرها وشرّها، لينالوا من الجنة حيث شاءوا، قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} الزمر. أما أبونا آدم عليه السلام فقد كان منعّماً في الجنة يأكل منها رغداً حيث شاء، ولم تكن الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها لتضرّه أو تأتيه بالشرّ، بل كانت خلق من مخلوقات الله ابتلاه الله بأن نهاه عن أن يأكل منها، فلمّا أكل جلب لنفسه الشر بعصيانه ومخالفته أمر ربّه، فأهبطه الله إلى الأرض إلى حين.

113.7.3.5- كل شيء من الله، والإنسان يختار الشر أو الخير بمنتهى الحرّية:

نعوذ بالله من الله، كما قال صلى الله عليه وسلّم: “اعوذ بك منك”: فكل ما في الوجود من الله، خيره وشرّه، وهو كلّه خير، إن أنت وضعت يدك في النار حرقتك النار وإن أنت جلست في الظل استمتعت بالظل، فخالق النار والظل واحد وأنت الذي اخترت الشر أو الخير بمنتهى الحرّية؛ كذلك يوجد من الناس من اختار طريق النار (أي الشر كما يراه غيرهم) لكي يحقق لهم السعادة الأبدية المطلقة في الآخرة كما فعل أصحاب الأخدود، ومنهم من يختار طريق الترف والنعمة والقوة والمال (أي الخير كما يراه أكثر الناس) لكي يهلك في الشقاء الأبدي المطلق كما فعل فرعون.

113.7.3.6- الجهل واتباع الهوى والشهوات يقلب الخير شراً والشر خيراً:

وقد يرى الناس جهلاً منهم الكثير من الخير شراً، فيتعوذون بالله منه رغبة في تحقيق نقيضه، كالعمل وبذل الجهد والسعي والبحث وطلب العلم، فينشدون الراحة والرفاهية المبالغ فيها والسفر والتمتع بالحياة ظناً منهم أنها هي كل الخير والسعادة الحقيقية ومقصد الوجود. وهذا ليس من الشرّ المستعاذ باللّه منه في سورة الفلق، وهو ليس شرّ أصلاً حتى يكون شرّ في ذاته، لأن الله ما خلق شراً، إنما الشر نسبيّ في تفكير من وقع عليه، وهو الذي يعدّه شرّا بالنسبة له هو، ولكنه في نظام الكون، وسنن الحياة، هو خير مطلق. فالأب حين يجاهد في الحياة ويَجِدّ في عمله ويتعب ويتألم، لكنه يكون سعيداً ذات الوقت لأنه سيحصل على المال، والأم تتألم بالحمل والولادة لكنها سعيدة لأنها تريد المولود، والرياضي يجهد نفسه بالتمارين لكنه سعيد لأنه يريد الفوز، وهذه ليست شرور بل هي خير كبير في مقياس السعادة ودوام الحياة، فالأب بحصوله على المال ربى أسرة وصار غنياً وساعد الناس واستعد وعمل لآخرته في الدنيا ففاز بالجنة، والأم كذلك جاءها مولود أنشأته وربته على الصلاح وخدمة المجتمع فبرّ بها في الدنيا ودخلت بسببه الجنة، وهكذا.

113.7.3.7- الخلاصة: أن كل خلق الله خير، فهو لم يخلق الشر ليكون شرّاً، بل قضى أن يخلق الأشياء على نظام واحد قدّر فيه أن تكون فيه هذه الأشياء أزواجاً يكمل بعضها بعضاً ويربط بعضها بعضاً، وأن نظام الكون متناسق وموزون ومتناغم، إنما المتغير الوحيد فيه هو الأنسان (والجان) الذي أعطي الحرّية في الاختيار بين النقيضين، وتبعاً لاختياره تحصل نتائج منها ما يسُرّه فيعتبره خيراً ومنها ما يضرّه فيعتبره شرّاً، ثم أن مقصد الاستعاذة من شرّ ما خلق الله هو من أجل دفع شرور خارجة عن حدود طاقة الإنسان ربما يكون هو نفسه من أسبابها، ومن أجل تحقيق حاجة ملحّة هو يريدها من دفع مرض أو بلاء، والثمرة الموازية لهذه الاستعاذة هو التدريب على الإيمان والزكاة للنفس كما هو مبين، فيما بعد:

113.7.3.7.1- الله أمرنا بالعمل الصالح لتحقيق سعادتنا وبناء حياتنا بأحسن ما نستطيع، ثم أمرنا بأن نستعيذ به من أخطار قد تحدث لضرورة بقاء ودوام نظام الكون، ولضرورة تحقيق مقصد الابتلاء للإنسان فيه، وقد يبتلينا الله بها قصداً لترقية إيماننا ونيل الدرجات العظيمة، قال تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة (35)} الأنبياء، وقال: {وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّـٰى نَعْلَمَ ٱلمُجَـٰهِدِينَ مِنْكُمْ وَٱلصّـٰبِرِينَ (31)} محمد.

113.7.3.7.2- سورة الفلق (وسورة الناس التي تليها) تأمرنا ببذل أقصى الجهد ثم بعد ذلك صَمْدُ مالا نقدر عليه إلى الله الأحد، والتوكل عليه. أي تأمر، بعد اتخاذ الأسباب، بالاستعاذة برب الأسباب، فإذا ما أخذ الإنسان بالأسباب واستعان بالله على دفع ما ليس له قِبل بدفعه، أو مالا يرى له أسباب تدفعه، فإن الله سيعينه وتصبح كل حياته خير لا شرّ فيها في الدارين، هذا كلام الله الخالق: خالق الخير والشر.

 

113.7.4- الاستعاذة بالله من شر ما خلق نعمة عظيمة:

الله خلق الناس لينعم عليهم وينفعهم ويكرمهم لا ليعذبهم: وأعظم نعمة ومنفعة يحصل عليها الإنسان، هي أن يكون الله الأحد الفرد الصمد خالق كل شيء في معيّة العبد وفي حبه. ولا يحصل هذا إلا بتزكية الإنسان لنفسه وتقوية إيمانه، بالتقرب إلى الله بعد الفريضة بالنوافل، وهذه الاستعاذة بالله من كل شيء هي من النوافل، وليست فرضاً، لكنها تقوي الإيمان وتقرب الإنسان من ربه حتى يحبه، قال صلى الله عليه وسلم: “وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه” البخاري.

لقد كانت دعوة الله لعباده وتعليمه لهم أن يعوذوا به، وأن يصمدوا إليه كل مشاكلهم وحوائجهم والأخطار والشرور المحدقة بهم، هي دعوة عظيمة كريمة من ربّ عظيم رحيم عزيز كريم، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. وقد استعاذ بالله أعظم الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، لأن ذلك هو من الإيمان بالله العزيز القدير، وهو كذلك الإقرار بسلطانه وملكه وربوبيته للسماوات والأرض وما بينهما. الله هو الذي خلق المخلوقات النافعة والضارة، والأقوياء والضعفاء، والأغنياء والفقراء، والظَلَمَة والمظلومين، والمرضى والأصحاء، وهو وحده المغيث المجيب الذي يجب أن نتوجه إليه في السرّاء والضرّاء. فنحن الضعفاء الفقراء إلى رحمته ومنّه وكرمه، يجب علينا أن نستعيذ بعزّته وقدرته، كما فعل نبينا صلى الله عليه وسلّم، الذي استعاذ بالله من كل شيء، ولم يدع أذى أو شراً أو مكروهاً أو بلوى يمكن أن تطاله أو تطال أمته إلا استعاذ بالله منها. لذلك، فإنه وبالإضافة إلى الأحاديث النبوية الشريفة (الخمسة) المذكورة في فضائل السورة أعلاه، نجد في ما يلي طائفة كبيرة من الأدعية التي كان يستعيذ بها نبينا عليه الصلاة والسلام من الشرور، وتدعونا للتأمّل وللاقتداء به والاستعاذة برب الفلق من كل شيء:

ولقد روى الشيخان والنسائي عن أبي هريرة: “أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء”. وروى الخمسة عن أنس: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال”. وروى الترمذي عن عائشة: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي باللّه من شرّ هذا فإنّ هذا الغاسق إذا وقب”. وروى الخمسة عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم ومن فتنة القبر وعذاب القبر ومن فتنة النار وعذاب النار ومن شرّ فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجّال. اللهمّ اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد. ونقّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب”. وروى مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن زيد بن أرقم قال: “لا أقول لكم إلّا كما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها”. وروى أبو داود والنسائي عن أنس قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردّي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبّطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا”. وفي تفسير البغوي حديث عن مطعم جاء فيه: “إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قال فكبّر فقال اللّه أكبر كبيرا ثلاث مرات والحمد للّه كثيرا ثلاث مرات وسبحان اللّه بكرة وأصيلا ثلاث مرات ثم قال اللهمّ إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ولمزه ونفخه ونفثه”.

وكان أيضاً صلى الله عليه وسلم، يتعوّذ من الأمراض ويدعو الله بالشفاء منها: قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء: “بسم الله الكريم، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار، ومن شر حر النار”. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول: “أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة” ويقول: هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق. وقال عثمان بن أبي العاص الثقفي: قدمت على رسول الله وبي وجع قد كاد يبطلني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اجعل يدك اليمنى عليه، وقل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد سبع مرات” ففعلت ذلك فشفاني الله. وروي أنه عليه السلام كان إذا سافر فنزل منزلاً يقول: “يا أرض، ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يخرج منك، وشر ما يدب عليك، وأعوذ بالله من أسد وأسود وحية وعقرب، ومن شر ساكني البلد ووالد وما ولد”. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى فرقاه جبريل عليه السلام، فقال: “بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، والله يشفيك”. وقال عليه الصلاة السلام: “من دخل على مريض لم يحضره أجله؛ فقال: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفي”. وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض قال: “أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت”.

 

113.7.5- الاستعاذة بالله تجلب الخير للناس وتنمي فيهم الإيمان:

إن أفعال الله تعالى كلها حكمة وصواب، وكلّها خير، لا شرّ فيها أبداً: لو كان فعل الله شراً لجاز لنا وصف فاعله بأنه شرير، تعالى الله عن ذلك. بل الشرّ يتولّد عن فعل المخلوق، الذي قد يؤذي نفسه بمخالفته أقدار الله وقوانينه، وقد يؤذي غيره، أو يؤذي نفسه وغيره ويتعداه إلى أذى متواصل ومتصاعد قد لا ينتهي حتى يأذن الله تعالى بانتهائه، قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً (32)} المائدة. وأن الإنسان عندما يتألم بالفعل الخاطئ منه أو من غيره فإنه يعد هذا الألم شراً، وهو حقاً كذلك، فهو الذي جلب لنفسه الشر والألم، بوضع يده في النار، وهو الذي أوقع نفسه في نطاق الألم والشرّ المحظور عليه، بعد أن تعدّى حدود الله، وقد كانت بيده كلّ الحرية أن يتجنب الشر قبل أن يقع، وأمامه الخيار والإرادة بأن لا يخرج من نطاق الخير وأن لا يتعدّى حدود الله التي بيّنها الله وحذّره من الاقتراب منها. لذلك فإذا أراد الإنسان أن يجتنب الشر فليجتنب أسبابه، وقد يستطيع ذلك أو لا يستطيع، لأن الإنسان ليس فرد أحد (فالله وحده الفرد الأحد) بل هو جزء من منظومة من المخلوقات بعضها اختار طريق الخير، وبعضها الآخر اختار طريق الشر؛ فلا بدّ أن يطاله شيء من هذا الخير والشر الذي يحيط به، بأسباب خارجة عنه، قد يكون الشر صغيراً كأن يشاك بشوكة، وقد يكون كبيراً جداً يصل إلى حد القتل أو الجرح أو الإعاقة المستديمة أو السحر أو الحرق أو الغرق أو غيره؛ لأجل هذا أمرنا الله بالعياذ به، أي لأجل دفع هذا الشرّ الذي قد يطالنا بسبب محيطنا والمنظومة التي نعيش فيها؛ أمرنا الله أن نصمد شدائدنا وحوائجنا إليه وأن نستعيذ به منه في سورة الفلق {من شرّ ما خلق} وفي سورة الناس التي تليها {من الجنّة والناس}، عندها فإن الله سيستجيب لمن يستعيذ به، وباستجابة الله يحصل الخير. والخير الذي يأتي باستجابة الله ليس خيراً واحداً فقط، بل خيرات متنامية ومتصاعدة ولا متناهية؛ لأنه بإعاذة الله للمستعيذ به يحصل الإيمان الملموس والمشاهد، فيطمئن قلب المؤمن لقرب الله منه يسمع استعاذته وشكواه ودعاءه، فيجيبه، قال تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186)} البقرة، وفي نفس الوقت يتواصل التدريب على الإيمان بالله وصفاته التي رأى بأم عينيه ثمرتها، ويظل يتكرر معه هذا الشرّ والاستعاذة بالله والنجاة، مرّات ومرّات ومرّات، حتى يؤمن هذا المبتلى بالشر إيماناً قويّاً متصاعداً بالله وكأنه يراه؛ أو على النقيض ينسى ويتعامى عن إعاذة الله له في المرّة الأولى، فيتمادى في الغي والكفر، ثم يتكرر منه هذا الفعل حتى يختم الله قلبه أو يطبع عليه بالكفر {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)} المنافقون.

 

113.7.6- الشر والابتلاء:

قد يخلط الناس بين الشر والابتلاء، فالشر هو أذى صادر عن المخلوقات كما هو مبين هنا في هذه السورة، أما الابتلاء فهو من الله لحكمة أرادها يرفع بها الناس درجات، وهو ليس أذى وليس شرّ، بل يأخذ الله منك القليل ليعطيك الكثير، وبعد تدريب واختبار يقيم به عليك الحجة، أمّا الله فهو ليس بحاجة إلى حجة ولا دليل فعلمه مطلق. وفي الابتلاء الله يعطي الإنسان أموالا كثيرة أو أبناء كثيرون ثم ينقص منها جزء يسير ليبتلي شكره وصبره، أو يجعل حاجته بيد إنسان آخر ليبتلي فعله، فهل يعمل بيده ليحقق حاجته عن طريق البيع والشراء أو غيرها من وسائل تبادل المنافع، أم يغتصب ما في يد الإنسان الآخر غصباً، وهكذا، وكلها من الله وهبها للإنسان بمنّه وكرمه ورحمته لكي يسعده بها فالله صمد ليس بحاجة لأحد.

– انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن (6.2.5) حول الاغترار بالنعمة هي من أسباب الشرك والبغي والفساد في الأرض، وبالتالي زوال النعمة وتبدّل الأحوال.

113.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

113.8.0- وهكذا لمّا أمرت المعوّذتان بالاستعاذة، وقد تقدّم في الإخلاص الإعلام بأنّ الله هو الصمد الذي تصمد إليه الحوائج ودفع الشرور، وباستجابته تعالى لدعائهم فقد علموا أنه ربّهم وملكهم وإلههم فازداد إيمانهم، وكان بذلك شرفهم وتكريمهم ورفع درجاتهم وتفضيلهم على المخلوقات وتحقيق مقصد خلقهم وهو سعادتهم بالعلم والعمل في الدنيا وفوزهم بالنعيم المقيم في الجنّة.

ولمّا ابتدأ القرآن في الفاتحة بالدعاء والاستعانة على الهدى إلى الصراط المستقيم، ثمّ تواصل في باقي السّور طلب الرّزق والمال والولد والملك والنصر والمغفرة وتيسير الأمور وشرح الصدور وغيرها من حاجات الدنيا والآخرة، حتى إذا ما تحقّقت الأماني والحاجات ختم بالاستعاذة من كلّ الشرور. ويكون بذلك قد ختم القرآن بثلاث سور تشير إلى أقسامه الثلاث وهي: الأمر بتوحيد ربّهم والعمل بطاعته والإيمان بوعده، وإلى وسائل العلم الثلاثة وهي: تعليم العقل بالقرآن والبدن بالتجربة والقلب بالمحبّة والإرادة. فتناسب بيان كمال الدّين: بتمام العلم وإخلاص العمل وحسن الاستجابة، من بداية القرآن إلى نهايته.

113.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: سورة الفلق والناس: هاتان السورتان نزلتا معاً كما في الدلائل للبيهقي فلذلك قُرنتا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بقل أعوذ وعقب بهما سورة الإخلاص لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقواقل وقدمت الفلق على الناس، وإن كانت أقصر منها، لمناسبة مقطعها في الوزان لفواصل الإخلاص مع مقطع تبت.

113.8.2- قال الإمام برهان الدين البقاعي ما معناه: أمر الإنسان بالتعوذ برب هذا الدين، موافقة لإياك نعبد وإياك نستعين، من شر كل ما انفلق عنه الخلق الظاهر والباطن، وهو يشمل شياطين الإنس والجن، وفي ذلك إشارة إلى الحث على معاودة القراءة من أول القرآن كما يشير إليه قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن} أي أردت قراءته {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98)} النحل، فقال تعالى: {قل} أي لكل من يبلغه القول من جميع الخلائق تعليماً لهم وأمراً، فإنهم كلهم مربوبون مقهورون لا نجاة لهم في شيء من الضرر إلا بعصمته سبحانه وتعالى.

113.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: وجه تأخرها عن شقيقتها عموم الأولى وخصوص الثانية، ألا ترى عموم قوله {من شر ما خلق} وإبهام {ما} وتنكير {غاسق} و {حاسد} والعهد فيها استعيذ من شره في سورة الناس وتعريفه ونعته، فبدأ بالعموم ثم أتبع بالخصوص ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت الاستعاذة منه، وأوفى بالمقصود، ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم ثم إتباعه بالأخص بتناول الدقائق والجلائل قوله سبحانه وتعالى {بسم الله الرحمن الرحيم} في معنى الرحمن ومعنى الرحيم واحد لا في عموم الصفة الأولى وكونها للمبالغة، وقد تعرض لبيان ذلك المفسرون ولذلك نظائر – انتهى

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top