العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
072.0 سورة الجن
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
072.1 التعريف بالسورة:
1) مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 28 آية. 4) الثانية والسبعون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والأربعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “الأعراف”. 6) وتسمّى أيضا سورة {قُلْ أُوْحِيَ إَليّ (1)}. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 9 مرّات، رب 8 مرّات؛ (1 مرّة): لله، عَالِمُ الْغَيْبِ، تعالى، يهدي، فتن، أحصى. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: (2 مرّة): القاسطون، رصداً، عدداً؛ (1 مرّة): قدداً، جدّ، تحرّوا، غدقاً.
أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: وأنّا 8 مرّات، رشداً 4 مرّات؛ (2 مرّة): شهاب، يسلك.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (7مرّات): لن، إن؛ (6 مرّات): أحد، أنه، قل، استمع 5 مرّات، ظن 4 مرّات؛ (3 مرّات): الجن، يجد؛ (2 مرّة) الإنس، رجال، أريد، نعجز، أرض، رهقاً، يهدي، أن؛ (1 مرّة): شططاً، طرائق، بخس، سماء، لبداً، صعداً، أحصى.
072.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر والحاكم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: مالكم؟ فقالوا: أحيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، فقالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء؟ فانصرف أولئك الذين ذهبوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا {إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً (2)}، فأنزل الله على نبيه {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن (1)} وإنما أوحي إليه قول الجنّ.
072.3 وقت ومناسبة نزولها:
هذا الحديث وغيره من الأحاديث وكذلك كتب السيرة لم تذكر متى ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه إلى سوق عكاظ. إلا أنه بالنظر إلى ما ذكر في الآيات (8-10) يتبيّن أن هذه السورة نزلت في بدايات مرحلة النبوّة. حيث ذكر في هذه الآيات أن الجن قبل بداية نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يسترقون السّمع إلى أخبار الغيب من السماء، أما بعدها فقد حرست السماء فجأة بالملائكة وصار من يحاول من الجن استراق السمع يرمى منها بالشهب. وهذا غير ما تعوّدوا عليه، فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فلما استمعوا القرآن، قالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.
072.4 مقصد السورة:
سهولة كلام الله وقربه من العباد (وعدم تعقيده)، وبساطة دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل، وأن من أراد الهدى يؤمن بأسهل الأسباب، كما آمن ذلك النفر من الجن، ليكون فيه درس وموعظة للإنسان فهو المخاطب بالقرآن.
072.4.1- للسورة مقصدين في آن واحد يتحدثان عن سهولة كلام الله وقربه من العباد، وبساطة دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل، وأن من أراد الهدى يؤمن بأسهل الأسباب: المقصد الأول عن التعريف بالجن، والثاني درس وموعظة للإنسان (لأنه هو المخاطب بالقرآن)، كما يلي:
072.4.1.1- بيان أن الجنّ مثل الإنسان مكلّفين ويملكون القوّة والإرادة على الاختيار ما بين الطاعة والعصيان، والكفر والإيمان. وأنهم مكلفون مأمورون ومكلفون منهيّون، مجازون بأعمالهم. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول إلى الجن كما هو رسول إلى الإنس. وأن ليس للجن شيء من أمر النبوّة والكتاب فهم مأمورون ومنهيون، مبشرون ومنذرون كالإنس تماماً.
072.4.1.2- في السورة موعظة للإنسان مفادها بأنه: كما فعل النفر من الجن حين لاحظوا الآيات والإشارات الربانية (فهم لمّا منعوا فجأة من الوصول إلى خبر السماء على غير ما اعتادوا من قبل، عرفوا بفطنتهم أن هذا الأمر يريده الله، ولا يدرون هل هو خير أم شر)، فانطلقوا يبحثون عن السبب، حتى إذا سمعوا القرآن كلام الحق والرشاد آمنوا به واتبعوه من فورهم، كما علموا جدّ الله وعظمته بعد أن كانوا مغترّين بأكاذيب من سبقهم من الجن والإنس الذين أنكروا البعث وأقدموا على الشرك. وقد وجاء أيضاً إيمانهم بالهدى طمعاً بالخير والرزق والأمان من الله، وإنكارا للتشتت الذي كانوا عليه، وظن الكثير منهم بأنهم خارجون عن قدرة الله. فلا يتردد الإنسان ولا يتبع الأماني ولا كذب وضلالات الشيطان. فإنه باتباع الهدى والاستقامة على طريق الحق تتحقق مصالح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.
وباختصار فإن مقصد السورة هو: سهولة كلام الله وقربه من العباد، وبساطة دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل: لذلك على الإنسان أن يستمع ويبصر ويلاحظ ولا يغفل عما يرسله الله إليه من وسائل الهدى إلى الحق والرشاد، بالإرسال المباشر للرسل أو بإظهار الآيات في الكون والإشارات والعبر التي تبين وتدعوا إلى ترك الباطل واتباع الهدى. بل عليه أن يبادر بالبحث، فقد جاء إلى هذه الحياة لا يعلم شيئاً {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78)} النحل، وأنّه وجد آباءه على أشياء قد تخالف عقله وفطرته.
072.4.2- قال البقاعي: سورة الجن وتسمى {قل أوحى} مقصودها إظهار الشرف لهذا النبي الكريم الفاتح صلى الله عليه وسلم وعلى أنه وأصحابه وذريته، أهل بيته حيث لين له قلوب الإنس والجن وغيرهما، فصار مالكا لقلوب المجانس وغيره، وذلك لعظمة هذا القرآن، ولطف ما له من غريب الشأن، هذا والزمان في آخره وزمان لبثه في قومه دون ربع العشر من زمن نوح عليه السلام أول نبي بعثه الله تعالى إلى المخالفين وما آمن معه من قومه إلا قليل، وعلى ذلك دلت تسميتها بالجن وبقل أوحي، وبتأمل الآية المشتملة على ذلك وما فيها من لطيف المسالك، أعاذنا الله بمنه وكرمه من الوقوع في المهالك.
072.5 ملخص موضوع السورة:
نزلت في بداية النبوّة، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فضَربوا مشارق الأرض ومغاربها بحثاً عن السبب، فلما استمعوا للقرآن قالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فآمنوا ثمّ ولّوا إلى قومهم منذرين. ومقصدها الإشارة إلى سهولة كلام الله وقربه من العباد، وبساطة دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل، وأن من يريد الهدى يؤمن بأسهل الأسباب، ومقصدها كذلك الإعلام بأن الجنّ خلق مكلّفون مثل الإنس، منهم المؤمنون ومنهم المشركون.
وتقصّ السورة علينا تفاصيل كثيرة عن حياة الجن، وأنهم مكلفون ومحاسبون على أعمالهم، ويروننا ولا نراهم، ويسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا، ويؤمنون برسولنا، ويشاركوننا حياتنا في الدنيا ثم في الآخرة. وتضمّنت ثلاث مجموعات من الآيات: استهلّت (12 آية) بالإعلام عن إيمان رجال من الجن كانوا يترقبون ويبحثون عن الهدى، وأن منهم مكذّبون وصالحون كالإنس وعلى مذاهب شتى، ثمّ (5 آيات) بأنهم لمّا سمعوا الهدى آمن فريق وأعرض فريق، وفي اتباع الدين الخير الكثير وفي الإعراض العذاب، وختمت (11 آية) بالإعلام بأن العبادة لله وحده، أرسل المرسلين ليعلم بأنّه مبلّغ دينه وحافظه ومحيط بكلّ شيء ومحصيه، كما يلي:
(الآيات 1-12): استهلّت بالإعلام عن سماع نفر من الجن القرآن، فآمنوا به بعد أن كانوا مشركين، وأنه تعالى {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} ولكن سفهاء الجن قالوا على الله شططاً وكذباً، وزادوا من استعاذ بهم من الإنس خطيئة وإثماً، وظنّوا بأن لن يبعث الله أحداً، وطلبوا خبر السماء فحرسها الله وهم لا يدرون {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)}، وأنّ منهم الصالحون ومنهم دون ذلك على طرق متفرقة، علموا يقيناً أن الله قادر عليهم ولا يعجزونه هرباً.
(الآيات 13-17): وأنّ الجن لمّا سمعوا القرآن آمنوا به، فمن أسلم فقد قصد الحق، ومن عصى فهو حطب جهنم. وأن لو استقاموا على طريق الإسلام لسقاهم الله ماءً غدقاً ووسّع عليهم في الرزق ليختبرهم فيه، ومن عصى يسلكه عذاباً شديداً.
(الآيات 18-28): الإعلام بأن المساجد جعلت لعبادة الله وحده، فأخلِصوا له فيها الدعاء والعبادة، وأنه لمّا قام صلى الله عليه وسلم يعبد ربه، وازدحمت عليه جماعات الجن لسماع القرآن أخبرهم: بأن الله واحد، وأنه لا يملك لهم ضرّاً ولا رشداً، ولن ينقذه من عذاب الله إن عصاه أحداً، فالرسل مبلغون ولا يعلمون الغيب إلا ما يُعلمهم به الله عن طريق الوحي، ومَن يعص الله ورسوله فإن جزاءه جهنم خالدين فيها أبداً، ليعلم الله والرسول والجن والإنس أنّ الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم بالحق والصدق، وأن الله أحاط علمه بما عندهم وأحصى كل شيء عدداً.
ربنا اجعلنا من الذين اهتدوا واستقاموا على دينك، وأبرم لنا أمر رشد يعزّ فيه أهل موالاتك ويذلّ فيه أهل معاداتك.
072.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
السورة كلها قصة واحدة من أولها إلى آخرها، تحكي حادثة واحدة حصلت مع الجن، الذين هم خلق من مخلوقات الله التي لا تحصى (ولكن الله أحصى كلّ شيء عدداً): والجن من عالم الغيب الذي لا نراه وهو يرانا، يخبرنا عنه القرآن لكي نعتبر ونعلم أننا نحن البشر ذرّة واحدة في خلق الله الواسع العظيم الذي نرى بعضه ولا نرى أكثره. وهي قصة إيمان طائفة من الجن برسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، عندما سمعوه يقرأ القرآن. لنعلم منها أن في الوجود خلق آخر ابتلاهم الله بالعمل ليحاسبهم أيهم أحسن عملاً، كما ابتلى الإنسان، فإن لم نؤمن نحن فقد آمنوا هم، ولتكون مثالاً عن قصة الإسلام والإيمان عند الجن التي تنتهي بالشرك، وهي القصة المتكررة على هذه الأرض التي تبدأ بالإيمان والعبادة وتنتهي بالشرك والمعصية، تماماً كما رأيناها تتكرر عند الإنسان. وملخصها هنا: أن رسول الله كان يقرأ القرآن وفيه البيان لقومه أنهم خلقوا لعبادة الله وحده، فآمن بقراءته النفر الذي استمع من الجن، فمن هؤلاء الجن مؤمنون ومنهم جائرون، فمن أسلم وخضع لله بالطاعة فقد قصد طريق الحق والصواب، وأما من جار عن طريق الإسلام فسيكون وَقوداً لجهنم.
وباعتبار ترتيب آيات السورة نجد أنها احتوت على ثلاثة موضوعات رئيسية كما يلي:
072.6.1- قصة إيمان طائفة من الجن برسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، عندما سمعوه يقرأ القرآن. وأنهم كالبشر يشركون ويكذبون، فيبعث الله لهم رسولٌ من الإنس يجدد لهم وللإنس دين التوحيد الإسلام والإيمان.
072.6.1.1- الآيات (1، 2) إيمان ذلك النفر من الجن، الذين كانوا يترقبون ويبحثون عن الهدى والرشد، وقد آمنوا فور سماعهم القرآن. (وهو عند الإنسان كإيمان النفر من الأنصار الذين جاؤوا من المدينة، وكانوا من قبل يسمعون من أهل الكتاب عن أن هذا أوان قدوم رسول، فآمنوا به من فورهم وبايعوه صلى الله عليه وسلم على النصرة).
072.6.1.2- الآيات (3-12) تبين الآيات أن الجن (تماماً كما هو الحال عند الإنس) يشركون ويكذبون على الله، ويضلون الإنس، ويلتمسون معرفة الغيب من السماء فهم لا يعلمون الغيب، منهم صالحون ومنهم طرق متفرقة، وهم يعلمون ان الله قادر عليهم ولن يهربوا منه:
الجن كانوا مشركين فقد اعتدوا على جدّ ربهم بأن أشركوا معه الولد في الآية (3)، وقالوا على الله شططاً في الآية (4)، وقالوا على الله كذباً آية (5)، وعاذ بهم الإنس فزاد الجن الإنس خطيئة وإثماً آية (6)، واعتدوا على ربهم بأنه لن يبعث أحداً رسولاً آية (7)، وطلبوا خبر السماء فحرسها الله آية (8)، واستمعوا من الملائكة أخبار السماء ليلقوها إلى الكهنة آية (9)، وظنوا الشر بأهل الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، بأنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلكت الأمم، ولم يذكروا ما يقابل الشر وهو الخير بل قالوا {أم أراد بهم رشداً} والرشد جزء من الخير آية (10)، وقدّموا لأنفسهم الصلاح مقابل {دون ذلك} أي لم يكن الجن كفاراً بل كانوا مختلفين على مذاهب شتى آية (11)، وأنهم علموا يقيناً أنهم في قبضة الله وسلطانه آية (12).
072.6.2- الآيات (13-17) الجن مكلفون بعبادة الله وطاعته ومحاسبون على أعمالهم: كذلك الجن (تماماً كما هو الحال عند الإنس) فريقان، فريق اتبع الهدى فنجا وفاز، وفريق لم يتبع الهدى فخسر ووقع في العذاب. وكذلك في الدنيا السعادة بالاستقامة والشقاء بالإعراض عن الاستقامة.
وأنهم لمّا سمعوا القرآن آمنوا به، وأقروا أنه حق من عند الله، فمن يؤمن بربه، فإنه لا يخشى نقصاناً من حسناته، ولا ظلماً يلحقه بزيادة في سيئاته. (13) وأن منهم المسلمون ومنهم القاسطون، أي الظالمون أو الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق (ولم يقل الكافرون)، فمن أسلم فقد قصد طريق الخير آية (14)، ومن جار فعدل عن طريق الخير والإيمان فهم حطب جهنم آية (15). وأنهم لو ساروا على طريقة الإسلام، لأنزل الله عليهم ماءً كثيراً، ولوسَّع عليهم الرزق في الدنيا آية (16)؛ ليختبرهم: كيف يشكرون نعم الله عليهم؟ ومن يُعرض عن طاعة ربه واستماع القرآن وتدبره، والعمل به يدخله عذاباً شديداً شاقّاً آية (17).
072.6.3- الآيات (18-28) أرسل الله المرسلين مبلغين (وهم لا يعلمون الغيب) وجعل المساجد من أجل عبادته وحده: بيان أن المساجد جعلت لتوحيد الله، وأن وظيفة الأنبياء والمرسلين كمبلغين هي نفسها عند الجن والإنس، (فهم اجتمعوا عليه لبداً ليحاربوا رسالته في أحد التفاسير أو لسماع القرآن منه في تفسير آخر) فيخبرهم الرسول أن الله واحد وأنه، أي الرسول، لا يملك أن يدفع عن أحد من الخلق ضرّاً ولا يجلب لهم نفعاً، ولن ينقذه من عذاب الله إن عصاه أحداً، بل هم مبلغين ولا يعلمون الغيب.
072.6.3.1- تدعوا هذه الآيات إلى عبادة الله وحده لا شريك له: وأن المساجد جعلت لعبادة الله وحده، فلا تعبدوا فيها غيره، وأن أخلصوا له الدعاء والعبادة فيها؛ فإن المساجد لم تُبْنَ إلا ليُعبَدَ اللهُ وحده فيها، دون من سواه، آية (18) وأنه لما قام محمد صلى الله عليه وسلم، يعبد ربه، كاد الجن يكونون عليه جماعات متراكمة، بعضها فوق بعض؛ مِن شدة ازدحامهم لسماع القرآن منه، وفي تفسير آخر أنه لما قام بالدعوات تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره آية (19) قل: إنما أعبد ربي وحده، ولا أشرك معه في العبادة أحداً، آية (20).
072.6.3.2- بيان أن كلّ شيء بيد الله تعالى: النفع والضرر والرشد والضلال، وأن المرسلين مبلغين عن الله، ليصلوا العباد بخالقهم لا ليحجبوهم عن خالقهم كما تفعل الأوثان: قل إني لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً، ولا أجلب لكم نفعاً، الآية (21)، قل إني لن ينقذني من عذاب الله أحد إن عصيته، ولن أجد من دونه ملجأ أفرُّ إليه مِن عذابه، الآية (22) لكن أبلغكم عن الله ما أمرني بتبليغه لكم، ورسالتَه التي أرسلني بها إليكم. ومَن يعص الله ورسوله، ويُعرض عن دين الله، فإن جزاءه نار جهنم لا يخرج منها أبداً، الآية (23). حتى إذا رأوا ما يوعدون به من العذاب، فسيعلمون عند حلوله بهم: مَن أضعف ناصراً ومعيناً وأقل عدداً الآية (24).
072.6.3.3- لا أحد يعلم الغيب إلا الله: قل للمشركين: ما أدري أهذا العذاب الذي وُعدتم به قريب زمنه، أم يجعل له ربي مدة طويلة؟ آية (25) وهو سبحانه عالم بما الغيب، فلا يظهر على غيبه أحداً من خلقه، آية (26) إلا من ارتضاه الله لرسالته، فإنه يُطلعه على بعض الغيب، ويرسل من أمامه ومن خلفه ملائكة يحفظونه من الجن، آية (27) ليعلم الله والرسول والجن والإنس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم بالحق والصدق، وأن الله سبحانه أحاط علمه بما عندهم، وأنه تعالى أحصى كل شيء عدداً، فلم يَخْفَ عليه منه شيء.
072.7 الشكل العام وسياق السورة:
072.7.1- أسم السورة “الجن”: سميت بهذا الاسم لأنها ذُكر فيها أوصاف الجن وأحوالهم وطوائفهم. وتسمّى أيضاً سورة {قُلْ أُوْحِيَ إَليّ (1)}.
وأن الجن مخلوق عاقل يعرف الحق حيث كان شديد الحرص على الاستماع لرسول الله، فآمنوا بالقرآن وأبلغوا قومهم، وأن إيمانهم كان عن قناعة وليس تقليداً. وحسن أدبهم في خطابهم حين نسبوا الخير لله والشر للمجهول {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً (10)}. وأن لا أحد يعلم الغيب، لا الرسل ولا الجن، إلا ما أراد أن يظهره الله على من ارتضاه من خلقه. وقد تناولت الآيات بعض الأنباء العجيبة الخاصة بهم: كاستراقهم للسمع، ورميهم بالشهب المحرقة، واطّلاعهم على بعض الأسرار الغيبية، إلى غير ذلك من الأخبار المثيرة. وشهادة من الجنّ أنفسهم بالوحدانية، والرسالة، والبعث، والجزاء، التي يجحدها المشركون ويجادلون فيها، وزعمهم أنّ محمّداَ عليه السلام يتلقى من الجنّ. ولكن الجن مكلفون مأمورون ومنهيون ومجازون بأعمالهم، مثل الإنسان.
072.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعاتها: السورة تقصّ علينا حادثة واحدة حصلت في عالم الجن، وعلمنا منها تفاصيل كثيرة عن حياة تلك المخلوقات التي تشاركنا حياتنا في الدنيا ثم في الآخرة، وعلمنا أنهم مكلفون بعبادة الله ومحاسبون على ذلك. ومن هذه القصّة نستنتج أن للسورة مقصدين في آن واحد: الأول عن معرفة بعض من صفات ووظيفة الجن، والثاني عن ما يستفيده الإنسان من هذه المعرفة، كما يلي:
معرفة الجن: السورة من بدايتها إلى نهايتها تحكي لنا قصة حقيقية لم نرها ولن نرى مثلها أبداً فهي من علم الغيب، أو من عالم لا نراه، ولكن الله أخبرنا بها، عن أن الجن، وأنهم مخلوقات مكلفون كالإنس، وأنهم محاسبون على أعمالهم كالأنس، وهم يسمعون كلامنا، ويفهمون لغاتنا، وليس لهم رسول من جنسهم، ولكنهم مبلغون بدعوة رسولنا، فمحمّد عليه الصلاة والسلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن، ولأنه خاتم الرسل فهم مكلفون بالتبليغ عنه لبني جنسهم، كما الإنس مكلفون بتبليغ الدين لبني جنسهم حتى قيام الساعة.
العبرة أو الدرس الذي يستفيده الإنسان من معرفته للجن: نعلم من القصّة أن دين الله واحد، وأن الله واحد، وأنه خَلق من المخلوقات والعوالم ما لا نعلمه ولا ندركه، وأن عِلم الإنسان ضئيل ومحدود، وحواسّه محدودة، فهو لا يعلم ولا يرى ولا يسمع ولا يدري عن أشياء كثيرة كمثل هذه المخلوقات العاقلة المكلّفة مثله، وتشاركه من حياته في المكان والزمان والتكليف والعمل في الدنيا، وفي المصير الجزاء في الآخرة، ولكنه لا يراها. ولولا خبر السماء لما عرف الإنسان أن الجان تعبد الله مثله، وتشاركه كلّ شيء، وأن لهم نفس الرسول والقرآن، ويتعبدون الله بنفس الأوامر والنواهي الموجودة في القرآن المنزل علينا، وأن دين الله وسنن الله ماضية فيهم كما هي فينا. كذلك (ولولا خبر السماء لما عرف الإنسان أيضاً أن هناك مخلوقات أخرى غير الجان من عالم الغيب لا يراها، كالملائكة تشاركه فضاءه تسجل عليه أعماله وتحفظه من أمر الله. ولما عرف كذلك أن الله خلق ما لا يحصى من الأمم والجماعات أمثاله، ومن المخلوقات والجمادات التي كلها تعبد الله وتسبح بحمده {وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (44)} الإسراء. فلهذه السورة غرض سامٍ عظيم، يهدف لأن يضع حداً لغرور الإنسان المدمّر واستكباره المهلك، فلا يتكبّر ولا يظلم وقد علم أنه شيء يكاد لا يذكر مقارنة بما في هذا الكون العظيم، وأنه بحاجة إلى هدي الله ورعايته وحمايته، وهو كغيره من المخلوقات التي خلقها الله لعبادته، فيجب أن يطيع أمر الله لكي يسعد ويفلح بنعم الله، ولا يعصيه لكي ينجوا من العذاب والشقاء، لأن الله ليس بحاجة عبادته بل هو بحاجة لأن يعبد الله. وفي إيمان الجن حجّة على الكافرين من الإنس فهم الأولى بتدبر الآيات والأحق بالإيمان وقد جاءهم الرسول منهم.
ومن أجل تسهيل فهم هذين المقصدين، تحدثت السورة كاملة عن رسالة الله للجن (كما تحدثت في سورة نوح السابقة كاملة عن رسالة الله للأنس) ليكون في ذكرهم تسلية للمؤمنين بأنهم ليسوا وحدهم يعبدون الله؛ وتبكيتاً للكافرين لأن كل المخلوقات في الوجود تعبد الله، وأن الله ليس بحاجة لعبادتهم، بل هم محتاجون، وأنهم مخطئون ظالمون لأنفسهم بإعراضهم عن العبادة. وقد احتوت السورة على ثلاثة موضوعات: الأول نعلم منه أن الجن مخلوقات تعبد الله ومكلفون كالإنسان وأن منهم مؤمنون وكافرون، الثاني أنهم مجازون على أعمالهم في الدنيا والآخرة، والثالث، أن لهم مساجد جعلت لعبادة الله وحده ورسول من الإنس وظيفته دعوتهم إلى توحيد الله لا شريك له، وتبليغهم رسالة ربهم، هذا الرسول لا يعلم الغيب ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، كما يلي:
072.7.2.1- الآيات (1، 2) مقدمة تلخص مقصد السورة: وهو سماع الجن للقرآن وأيمانهم به، وأنهم مكلفون بالإيمان والعبادة، مختارون لأفعالهم، مع الإشارة إلى أنهم كانوا من قبل سماعهم القرآن على الباطل، وأن رسولهم هو نفسه الرسول الإنسي الذي بعثه الله إلى الناس يبلغونهم رسالته.
072.7.2.2- الآيات (3-17) أن دورة الإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر الموجودة عند البشر هي أيضاً عند الجن وأن تصرفات الجن حيال الدعوة تشبه تصرفات الإنس، منهم المطيع ومنهم العاصي، فها هم الآن يشركون ولذلك جاءهم الرسول، فمن يستقيم يسقيه الله ماءاً غدقاً ومن يعصي فله عذاب جهنم.
072.7.2.3- الآيات (18-28) بيان أن المساجد جعلت لتوحيد الله، وأن وظيفة الأنبياء والمرسلين كمبلغين هي نفسها عند الجن والإنس، (فهم اجتمعوا عليه ليحاربوا رسالته في أحد التفاسير أو لسماع القرآن منه في تفسير آخر) فيخبرهم الرسول أن الله واحد وأنه لا يملك أن يدفع عن أحد من الخلق ضرّاً ولا يجلب لهم نفعاً، ولن ينقذه من عذاب الله إن عصاه أحداً، بل هم مبلغين ولا يعلمون الغيب إلا ما يعلمهم الله به عن طريق الوحي.
072.7.3- سياق السورة باعتبار سهولة فهم وتقبّل دين الله، وأنه دين رشد وصلاح لا زور وباطل:
الجن أقبلوا على كلام الله فآمنوا بأقصر وقت وبأقصر طريق وأهون سبب، فهو كلام عجيب وليس كلام جن أو بشر، كلام مباشر من خالق الكون يقول اعبدوا الله خالق كل شيء واكفروا بالأوثان والشركاء فالله الواحد غني عن الشركاء. العبادة فطريّة ضرورية لسعادة الإنسان فبدلاً من عبادة مالا يضر ولا ينفع اعبدوا الله خالق كل شيء. يعني أن أهم مقاصد هذه السورة هو إثبات أن الدين واضح والرسالة سهلة لمن شاء أن يؤمن، ويتبع سبيل الرشاد، ورسالة القرآن هي رسالة هدى.
استمع نفر من الجن القرآن فآمنوا من فورهم. أما سبب إيمانهم فهو اقبالهم على سماع القرآن، فعلموا أنه كلام رشد، وأن ما كان يقوله سفيههم شططا، وتدبروا آيات الله في السماء، وفهموا سنن الله وأسبابه، وعلموا أن من يتبع الهدى فلا يخاف، ومن لا يتبع له جهنم. وعلموا أن من يستقيم يرزقه الله في الدنيا وأن هذا الرزق فتنة، وأن من يعرض عن ذكر الله يسلكه عذاباً. (سنلاحظ أن هذه السورة ابتدأت بإيمان ذلك النفر من الجن الذين أرادوا الهدى وبحثوا عنه، عكس قوم نوح لم يشاؤوا الإيمان فلم يؤمنوا رغم تبليغهم بكل وسائل الدعوة).
هذه السورة بحديثها عن تبليغ رسالة الله للجن تحقق غرضين بنفس الوقت: الأول تعريف الإنسان بالجن وأن الجن مكلفون كالإنس، الثاني أن دين الله واحد وكلامه ورسالاته واحدة، وأن مهمّة المرسلين هي البلاغ، أمّا الهداية فهي من الله، وأن دين الله سهل واضح قريب على من يقبل عليه ولمن شاء الهداية، وأنه صعب ثقيل على من يعرض وشاء الجور والظلم، ثم تكون النتيجة الفوز في الدارين لمن آمن وأطاع، والخسران في الدارين لمن كفر وعصى. ويعاقب الكافرون على كفرهم لأنه ظلم لأنفسهم، واعتداء على حق مولاهم في العبادة له وحده لا شريك له، ولأنهم قد أبلغوا بالعاقبة وبأن مصيرهم سيكون النار. أما من آمن فله جنات تجري من تحته أنهارها، فليختر العاقل ما يرى أنه يرغبه ويهواه.
الإنسان يحتاج إلى الرزق والأمان والسلام لكي يهنأ أو يسعد في حياته، وحين يكون بعيد عن الدين يستشري الشرك والظلم والجوع والعطش والشقاء بين الناس. وبسبب الشرك يختار الله الرسول مؤيدا بالوحي والآيات البينات لكي يعود الإيمان، ويعود معه الخير والرزق والسعادة والنعيم بسبب الإيمان. نحن لا ندري ما هي حاجات الجن الضروريّة لسعادته، ولكن يبدوا أنها هي نفس حاجات الإنسان، لذلك تخبرنا السورة أنهم إذا آمنوا وساروا على طريق الإسلام سقاهم الله ماءاً غدقاً، يعني وسّع عليهم الرزق، وأن هذا فيه سعادتهم وهناء عيشتهم على الأرض، أما في الآخرة فإمّا جنة أو نار. لذلك هذه السورة تتحدث عن تفاصيل وكيفية دعوة الجن إلى الإيمان بالله وحده، وأن الأمر بسيط جداً، وكان ذلك بسماعهم القرآن من رسول الإنس، وأن القرآن هداهم سبيل الرشاد الذي به تتحقق مصلحتهم وسعادتهم في الدارين. ثم وأن الجن في صفاتهم تجاه رسالة ربهم تماماً كالإنس، منهم: مؤمن أراد الإيمان وكافر أراد الكفر. ثم تكون النتيجة فريقان: فريق مؤمن في الجنة وفريق كافر في السعير.
وكما هو الحال عند الإنس، ما أسرع نسيان الجن للآخرة وما أسرع اتباعه للفتنة وعودته للكفر والشرك وعبادة الأوثان، فيرسل الله سبحانه الرسل مرّة بعد مرّة ليعيد الإيمان، وهكذا.
072.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
072.8.0- لمّا تحدثت السورة عن رسالة الله إلى الجن، وعلمنا أن نفراً منهم شاؤوا الهداية فاهتدوا بدعوة رسول ليس من جنسهم وبلغة ليست لغتهم، وتبيّن من ذلك أنّ دين الله سهل، بسيطة وغير معقدة رسالته، وهو دين حق فيه أمر رشد، خلاصته: أن الخالق أمر عباده بما فيه صلاحهم وسعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وهم مخيرون بين الاستجابة أو المعصية؛ سبقتها سورة نوح عن رسالة الله إلى الإنس جاءهم رسول منهم دعاهم بلغتهم وبكل الوسائل والسبل والآيات والبراهين، فأعرضوا وكفروا فأهلكوا، وقد كانت استجابتهم لرسولهم أقرب من استجابة الجن لرسول ليس من جنسهم. وفي القصّتين برهان على عدل الله ورحمته وعظيم عنايته وتدبيره وهديه للعباد إلى سبل السعادة والرشاد، وإقامة الحجة عليهم، فاهتدى من سعى إلى الإيمان وضلّ من قصد الكفر.
وهي الأخيرة من أصل ستّ سور (من الملك إلى الجن) بيّنت وبرهنت ودافعت عن كل ما يخصّ إرسال الرسالات والمرسلين وإقامة الحجة على العباد بالهدى وتبليغ الدين: ففي الملك برهنت على ملك الله وقدرته وخَلقه ودافعت عن عدله وإنذاره ووعيده بالحساب على الأعمال، ثمّ القلم دافعت عن الرسول وخلقه العظيم، ثمّ الحاقّة عن القرآن وصدقه، ثمّ المعارج عن حسن تدبير الله الأمر، ثمّ نوح عن تمام البلاغ والرسالة والمرسلين، ثمّ الجن عن سهولة كلام الله وقربه من العباد وبساطة دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل. فلله الحمد والمنّة.
072.8.1- تناسب نوح مع الجن: في سورة نوح لم يَدَع سبحانه حيلة ولا أسلوب ولا وسيلة إلا دعاهم بها إلى عبادته: من الإنذار وطول الإمهال والانتظار من رسول يبلغهم ولم يمل من دعوتهم في الليل والنهار ومن إغراء بالمغفرة وبالأمطار والجنات والأنهار والأموال والبنين وبيان الآيات والجدال بالحجة والتخويف بالعذاب وبيوم القيامة، لكنهم عصوا وأغلقوا آذانهم وأسماعهم وعقولهم، حتى أنهم رأوا الماء يحيط بهم ورأوا الغرق بأم أعينهم مع ذلك لم يؤمنوا، ثم واتبعوا الأصنام ومن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ثم مكروا مكراً كباراً. في المقابل في الجن الدعوة لم تأتي لهم مباشرة بل لاحظوا تغيراً طرأ على الأرض فبحثوا عن السبب لأنهم يعلمون أن كلّ شيء قائم على الأسباب، فسمعوا القرآن فآمنوا من فورهم ولم يتوقفوا عند هذا بل رجعوا إلى قومهم مبلغين ومنذرين. من هاتين السورتين نستنتج رحمة الله وعدله فلم يترك عباده بدون تدبير أرسل لهم ما به يهتدون وأقام عليهم الحجة والشهداء بأنهم ما يصيبهم إلا بما كسبت أيديهم ولا ينالون إلا جزاء أعمالهم فلا يلومون إلا أنفسهم أهل الجنة يستحقونها بطاعتهم واتباعهم سنن الله، وأهل النار استحقوها بمكرهم ومعصيتهم وظلمهم وإفسادهم سنن الله.
072.8.2- تناسب وترابط مقاصد السور، من سورة النبأ إلى سورة الجن: سنلاحظ أن هذه السور الستة، وكأنها دفاع عن عدل الله، وعن عظيم عنايته وتدبيره وتبليغه وهديه للإنسان، إلى سبل السعادة والرشاد، بينما الإنسان هو ظالم لنفسه بجهله وبإعراضه عن رسل لله وهديه ورسالاته وآياته، كما يلي:
– سورة الملك: دفاع عن الله، لأن أكثر الناس يكفرون ولا يشكرون وأكثر الآيات تتحدث عن العقاب وعن الإنذار من العقاب في إشارة إلى كثرة المكذبين والكافرين.
– سورة “ن”: دفاع عن الرسول لأنهم قالوا مجنون.
– سورة الحاقة: دفاع عن القرآن، وإثبات صدق القرآن.
– سورة المعارج: دفاع عن حسن تدبير الله الأمر.
– سورة نوح: دفاع عن الدعوة (أو المرسلين) واستنفاذها كل الوسائل (فلم ولن ينفعهم التذكير) فلا عذر لمن لم يؤمن (ثم استحقاق العذاب) وأن من لا يشاء الإيمان لن يؤمن مهما بلغت الحجج والحيل (والعذاب طال من يستحقه). وأن أكثر الناس يعصون ولا يؤمنون (وفيها إثبات ظلم الإنسان لنفسه وعظيم جهله حين يعبد الأصنام ويعرض عن عبادة الله).
– سورة الجن: دفاع عن سهولة كلام الله وقربه من العباد، وبساطة دينه الهادي إلى الرشد الناهي عن الباطل. وحاجة العباد لنور الله وهديه في قرآنه. من شاء الإيمان يؤمن بأسهل الأسباب، فالجن آمنوا.
072.8.3- علمنا من سورة الجن (والسور الخمسة التي قبلها) أن دين الله سهل الفهم وسهل القبول بسيطة جداً رسالته. وهو دين الحق فيه أمر رشد، خلاصته: أن الله الخالق يأمر عباده بما فيه صلاح حياتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، ونجاتهم من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة. وهم مخيرون في أن يطيعوا الله فتنصلح حياتهم أو يعصوا فتفسد حياتهم. فهو خيار ما بين السعادة والشقاء، لأن السعادة طريقها واحد (فلا يمكن أن يكون غير الأمان والصلاح والسلام للجميع)، وهو عند العاقل لا خيار، فكيف يرى النعيم والجحيم فيختار الجحيم؟ فلا مجال للسؤال. إن أطعت الله سعدت لأن الله خلقك ليسعدك بقربه حتى يكون الله معك في كلّ شيء كما في الحديث الصحيح: “كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني، أعطيته، ولئن استعاذني، لأعيذنه” لا لكي يعذبك بالبعد عنه، لا مجال للاختيار من هذا الخيار إلا الطاعة فإن اخترت المعصية والبعد عن الله الخالق المنعم وفطرته الواضحة البيضاء وسننه العادلة فأنت حينها تستحق الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وقد تطيع الله ببعض أوامره أو تعصيه باقتراف نواهيه، فكل فعل معصية ستحصل على جزاءها بعدل الله ورحمته بمقدارها، وكل عمل خير يجزيك الله بعشرة أمثاله والله يضاعف لمن يشاء. جزاء العمل الصالح السعادة والعمل السيء الشقاء، يحسب عليك بميزان دقيق يزن الذرّة، وحساب عادل لا يغيب عنه شيء. إن كذبت سيكذب عليك، وإن استهزأت سيستهزأ بك، وإن زنيت سيزنى بك، وإن ظلمت فستظلم، وإن قتلت فستقتل، وإن أشركت فسيحبط ولن يقبل عملك، كل ذنب أذنبته فستحصل على جزاءه في الدنيا والآخرة، ولا بد لمن كسر شيئاً أن يعيده كما كان أو يستبدله بمثله، ومن سرق أن يعيد سرقته لصاحبها، ومن تكلم في عرض أحد أن يتكلم في عرضه، وهكذا؛ في المقابل إن عبدت الله أسعدك الله برحمته، وإن تصدقت، وإن ساعدت، وإن أسعدت، وإن وصلت، وإن عدت مريضاً، وإن وصلت رحماً، وهكذا كل فعل أمرك الله به أو نهاك عنه فالحسنة بعشرة أمثالها أو يزيد فالله يضاعف أضعافاً مضاعفة {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ (261)} البقرة. هذه بساطة الدين في أنه هو العمل الصالح لا السيء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبادة الله الضار النافع لا عبادة الأوثان التي لا تضر ولا تنفع، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (31)} آل عمران.
السورة المناسبة التي يجب أن تلي سورة الجن هي سورة المزمل: إذاً فقد آن الأوان وصار الوقت مناسباً لسورة المزمل لتأمرنا بأفضل الصلوات التي يستجاب فيها الدعاء وهي قيام الليل، وأفضل الكلام الذي نقرأه وهو القرآن، وأفضل الأعمال وهي التبتل إلى الله.
072.8.4- قال الإمام جلال الدين السيوطي: قال سبحانه في سورة نوح: {استغفروا ربكم إِنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً} وقال في هذه السورة: {وأَن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} وهذا وجه بيّن في الارتباط.
072.8.5- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم ذكر حال كفار قريش في تعاميهم عن النظر وجريهم في اللدد والعناد حسبما انطوت عليه سورة ن والقلم، ثم أتبعت بوعيدهم في الحاقة ثم بتحقيقه وقرب وقوعه في المعارج ثم بتسليته عليه الصلاة والسلام وتأنيسه بقصة نوح عليه الصلاة والسلام مع قومه، أعقب ذلك بما يتعظ به الموفق ويعلم أن القلوب بيد الله: فقد كانت استجابة معاندي قريش والعرب أقرب في ظاهر الأمر لنبي من جنسهم ومن أنفسهم فقد تقدمت لهم معرفة صدقه وأمانته، ثم جاءهم بكتاب بلسانهم الذي به يتحاورون ولغتهم التي بها يتكلمون، فقد بهرت العقول آياته، ووضحت لكل ذي قلب سليم براهينه ومعجزاته، وقد علموا أنهم لا يقدرون على معارضته إلى ما شاهدوه من عظيم البراهين، ومع ذلك عموا وصموا غضب الله عليهم ولعنهم، وسبق إلى الإيمان من ليس من جنسهم ولا سبقت له مزية تكريمهم، وهم الجن ممن سبقت لهم من الله الحسنى فآمنوا وصدقوا، وأمر صلى الله عليه وسلم بالإخبار بذلك، فأنزل الله تعالى عليه {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن (1)} الآيات، إلى قوله إخباراً عن تعريف الجن سائر إخوانهم بما شاهدوه من عناد كفار العرب {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً (19)} ثم استمرت الآي ملتحمة المعاني معتضدة المباني إلى آخر السورة.
انظر تناسب سورة المزمل مع غيرها من السور (073.8.1).
انظر في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفرع 7.1.5.8.2- الجنّ في القرآن.