العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
011.0 سورة هود
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
011.1 التعريف بالسورة:
1) مكية. 2) من المئين. 3) عدد آياتها 123 آية. 4) الحادية عشرة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثانية و الخمسون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “يونس”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
لفظ الجلالة {الله} تكرر 37 مرّة، {لله} 1 مرّه، إله 1 مرّة. أسماء وصفات الله الأخرى المكررة في السورة، وهي: رب 43 مرّة، هو 7 مرّات؛ (2 مرّة): الرحيم، الخبير، يَعْلَم، خلق، يريد؛ (1 مرّة): العزيز، العليم، البصير، أحكم الحاكمين، الغفور، الحفيظ، المجيب، الحكيم، الودود، المجيد، الوكيل، القوي، الحميد، القدير، القريب، المؤخر، المحيط، أعلم، نبلو، فعال لما يريد، أنشأ. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمة: أَنُلْزِمُكُمُوهَا، تزدري، استعمركم، حنيذ، شقاقي، مجذوذ، ابلعي، أقلعي، الجودي، تتبيب.
هي أكثر سورة بعد الأعراف ورد فيها الأمر {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} 3 مرات، ومرة {فاعبده وتوكل عليه}، ومرتين {ألا تعبدوا إلا الله}، يقابله إصرار على تقليد عبادة الآباء 3 مرات في الآيات (62، 87، 109). وهي أكثر سورة ورد فيها الأمر بالاستغفار {استغفروا} 4 مرات، والأمر بالتوبة {ثم توبوا إليه} 4 مرات. وهذا يتناسب مع مقصد السورة وموضوعاتها التي تتحدث عن عبادة الله والاستغفار والتوبة، وأن الاستغفار والتوبة تلازمان العبادة، لأنه لا أحد يستطيع أن يقوم بحق الله في العمل والعبادة، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر ويتوب إلى ربه في اليوم مئة مرة.
أكثر سورة تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: نوح 8 مرّات؛ (5 مرّات): هود، لوط؛ (4 مرّات): صالح؛ (2 مرّة): المكيال، رهط.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: قوم 33 مرّة، يعبد 12 مرّة، الأرض 11 مرّة؛ (7 مرّات): كفر؛ (6 مرّات): أهل، سماء/السماوات؛ (5 مرّات): أرسل، رسل، أجر، نار؛ (4 مرّات): إبراهيم، شعيب، عاد، ثمود، كتاب، كذب، صبح؛ (3 مرّات): موسى، فرعون، الوِرد، سلام؛ (2 مرّة): إسحاق، مَدين، الميزان، صدور، أذقنا، سمع، الجنة، بشرى، بقية؛ (1 مرّة): يعقوب، شهيق، زفير، بشر، مجراها، مرساها، أوجس، حجارة.
011.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
قال أبو بكر رضي الله عنه سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا رسول الله قد شبت؟ قال “شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كوّرت”، وفي رواية عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “شيبتني هود وأخواتها: الواقعة والحاقّة وإذا الشمس كوّرت”، وروايات أخرى ذكرت سورة الغاشية والقارعة والمعارج والقمر وأخواتها من المفصّل.
وأخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي علي السري رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله روي عنك أنك قلت: شيبتني هود. قال: نعم. فقلت: ما الذي شيبك منه قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال: لا، ولكن قوله {فاستقم كما أمرت (الآية 112)}.
011.3 وقت ومناسبة نزولها:
نزلت السورة بعد سورتي الإسراء ويونس، في المرحلة الرابعة من مراحل نزول القرآن المكي، انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي. في أشدّ المراحل وأشقّها على الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بمكّة، فقد سبقها موت عمّه أبي طالب وزوجته خديجة في عام واحد، ونالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، وقال عليه السلام: “ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب”. وكذلك بعد حادث الإسراء العجيب المعجز، واستهزاء المشركين به، وارتداد بعض ضعاف القلوب ممن كانوا أسلموا قبله، ولم يعد يكاد يدخل في الإسلام في ذلك الوقت أحد من مكة وما حولها؛ واستمرّت الجرأة والحرب المعلنة على المسلمين، حتى نصر الله دينه من خارج مكّة بإسلام نفر من الأوس والخزرج قدموا من المدينة في موسم الحج، وفتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى القلة المسلمة معه ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية.
احتوت على قصص سبعة من الرسل أرسلوا إلى أقوامهم وأمروهم بالعبادة لله وحده، مالهم من إله غيره، ثم كيف أن الغالبية العظمى من هؤلاء الأمم لم يؤمنوا بل استكبروا، وأصروا على اتباع الهوى وتقليد عبادة الآباء، إلى أن أهلكهم الله، واستبدل بهم قوماً غيرهم، وهم القلة القليلة من الذين أمنوا مع رسلهم، واتبعوا دين ربهم؛ فجاءت هذه القصص متناسبة مع الفترة العصيبة التي نزلت فيها، من أجل تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين معه على الحق.
011.4 مقصد السورة:
011.4.1- أحكمت آيات الكتاب ثم فصلت لأجل عبادة الله وحده لا شريك له (الحكيم الخبير)، والاستغفار والتوبة إليه. وأنه سبحانه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق، ولم يخلقهما عبثاً ولا باطلاً. وأرسل في ذلك الرسل مبشرين بالثواب إن هم أطاعوه، ومنذرين من العذاب أن هم خالفوه.
011.4.2- مقصد السورة نجده في الآية الأولى (1) التي تتحدث عن إحكام آيات الكتاب (وهو القرآن) من لدن حكيم (والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها)، وأن الذي أحكمها هو الحكيم (أي الحكيم كامل الحكمة، وهو الحاكم كامل الحكم)، ثم فصلت (بالحق والموعظة والذكرى) وأن الذي فصلها هو الخبير (أي العالم بما كان وما يكون، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء). أما التفصيل فقد جاء في الآية الثانية (2) وهو عبادة الله لا إله إلا هو، وإرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نذير وبشير (وكذلك جميع المرسلين مبشرين ومنذرين). ثمّ تفاصيل العبادة والرسالة في الآية الثالثة (3) وهو الاستغفار من الذنوب والتوبة منها، {ويؤت كل ذي فضل فضله}، قال ابن جرير: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. ثم تهديد لمن تولى بالعذاب يوم المعاد. وفي الآية الرابعة (4) إلى الله مرجعهم يوم القيامة، وهو على كل شيء قدير، فيحسن إلى المحسنين، ويعذب المسيئين المفسدين.
أحكمت آيات الكتاب ثم فصلت بالأوامر والنواهي لأجل أن يعبد الإنسان الله وحده لا شريك له، وأن يستغفر من ذنوبه ثم يتوب إلى الله. فالإنسان خطاء كثير الذنوب مقصر في حق الله خالقه ورازقه ومالك أمره، كما في الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”. ولن يستطيع أحد أن يؤدي حق الله بعمله، كما في الحديث عن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لن ينجي أحد منكم عمله” قال رجل: ولا إياك؟ يا رسول الله! قال “ولا إياي. إلا أن يتغمدني الله منه برحمة. ولكن سددوا”.
011.4.3- ويعود ويتكرر الإشارة إلى هذا التفصيل في الآيات الأخيرة من السورة في قوله تعالى {وَكُلّاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ (120)} أي بإرسال المرسلين، ثم {وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} فالعبادة هي الحق، والقرآن كله موعظة وذكرى، ثم {اعملوا} ثم {وانتظروا} ثم {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ (123)} وإلى الله مَعَادُ كل عامل وعمله، وهو مجازٍ جميعَهم بأعمالهم، فاعبده {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}.
011.4.4- وقال الشيخ محمد الشنقيطي في أضواء البيان: قوله تعالى: {أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}. هذه الآية الكريمة فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها: هي أن يعبد الله جل وعلا وحده، ولا يشرك به في عبادته شيء، لأن قوله جل وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـٰتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ} الآية، صريح في أن آيات هذا الكتاب فصلت من عند الحكيم الخبير لأجل أن يعبد الله وحده. وفيه قوله تعالى: {وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى}. هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعاً حسناً إلى أجل مسمى. لأنه رتب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه. والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن. سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى: الموت، ويدل لذلك قوله تعالى في هذه السورة الكريمة عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَيا ٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ}.
011.5 ملخص موضوع السورة:
011.5.0- مقصد سورة هود كما هو مبين أعلاه، نجده في الآية الأولى، التي تتحدث عن إحكام ثم تفصيل آيات الكتاب (وهو القرآن)؛ وأن الذي أحكمها ثمّ فصّلها هو الحكيم الخبير الذي لا يخفى عليه شيء. والتفصيل جاء في الآية الثانية وهو: عبادة الله وحده الذي أرسل لكم النذير والبشير. ثمّ تفاصيل العبادة والرسالة في الآية الثالثة وهي: الاستغفار من الذنوب والتوبة منها، ثم تهديد لمن تولى بالعذاب. وفي الآية الرابعة: إلى الله مرجعهم وهو على كلّ شيء قدير، فيحسن إلى المحسنين، ويعذب المسيئين.
011.5.1- ملخص الموضوعات باعتبار ترتيب الآيات:
وتتكون السورة باعتبار ترتيب آياتها من ثلاث أجزاء هي: مقدّمة ثم قصص ثم خاتمة؛ تتطابق فيها وتتكرر المعاني، حول موضوع واحد وهو: ابتلاء الله تعالى الناس بالعبادة له وحده لا شريك له، وأنّه أمهلهم ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً؛ فيمتّعهم بحسب أعمالهم في الدنيا، ثم يوفّيهم جزاء أعمالهم غير منقوص في الآخرة، كما يلي:
011.5.1.1- أولاً مقدمة (الآيات 1-24): احتوت على مقصد السورة وهو العبادة والاستغفار من الذنوب ثم التوبة إلى الله، وهو نفس مقصد القرآن الذي ينصّ على الاستقامة على أمر الله بالعبادة واتباع الدين، وهو كذلك نفس المقصد من خلق الإنسان ووجوده على هذه الأرض، للعبادة التي فيها نجاته وفلاحه. وكل ما في المقدمة من موضوعات فهي تخدم هذا المقصد.
011.5.1.2- ثانياً قصص سبعة من الرسل (الآيات 25-99): أرسلوا إلى أقوامهم مبشرين ومنذرين: وهم نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم جميعاً الصلاة والسلام. وفي هذه القصص بيان كيف أنّ هؤلاء الرسل بيّنوا لأقوامهم وأمروهم بالعبادة لله وحده، مالهم من إله غيره. ثم كيف أنّ الغالبية العظمى من هؤلاء الأمم لم يؤمنوا بل استكبروا بما أنعم الله عليهم من النعمة والقوة والتمكين في الأرض، وأصرّوا على اتباع الهوى وتقليد عبادة الآباء، إلى أن أهلكهم الله، واستبدل بهم قوماً غيرهم، وهم القلة القليلة من الذين آمنوا مع رسلهم، واتبعوا الدين الذي جاءهم من عند ربّهم، يأمرهم بعبادته مالهم من إله غيره.
011.5.1.3- ثالثاً خاتمة (الآيات 100-123) تبين وتؤكد أن دوام النعمة على القرى لا يتمّ إلا بالتزامهم بدين الله واتباع شرعه، وأن العبادة ودوام التوبة والاستغفار من الذنوب نعمة جعلّها الله للناس، وقد خلقهم لأجلها. وبسبب عبادة الله وحده: يتنزّل المطر، ويعمّ الرزق والنعيم، وتستمرّ حياة الأمم في الدنيا، ثم ينالهم الجزاء الأعظم في الآخرة بالفوز بالجنة ورضوان الله؛ يقابله الهلاك في الدنيا، والخسارة والنار في الآخرة لمن يعبد غير الله ويتّبع غير دينه.
011.5.2- ونستطيع أن نفصّل أكثر ببيان ستّة مواضيع تكررت معانيها في المقدمة وفي قصص الأنبياء وفي خاتمة السورة، وهي:
011.5.2.1- أولاً: الأمر بالعبادة لله وحده، والاستغفار من الذنوب والتوبة (21 آية).
011.5.2.2- ثانياً: أنّ الله لا يخفى عليه شيء، وأنّ التهرب من سماع الأوامر والنواهي، لن يعفيهم من الابتلاء والتكليف (11 آية).
011.5.2.3- ثالثاً: صرّح تبارك وتعالى بأنّ الحكمة من خلق الخلق هي أن يبتليهم أيّهم أحسن عملاً؛ وقد ضمن لهم رزقهم ومعيشتهم لكي يتفرغوا لعبادته ولما ابتلاهم به (18 آية).
011.5.2.4- رابعاً: إنّ تأخيره العقاب مقصود لغرض الابتلاء بالنعماء والضراء، وإيجاد العذر (17 آية).
011.5.2.5- خامساً: تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين معه بأخبار الأمم، وتحدّي المشركين وبيان عجزهم (22 آية).
011.5.2.6- سادساً: الكفار يريدون الدنيا، فيعطون جزاء أعمالهم فيها، وليس لهم في الآخرة إلا النار. ومن يؤمن يدخل الجنّة (34 آية).
011.5.3- الحكمة العظمى التي أنزل القرآن وفصلت آياته من عند الحكيم الخبير من أجلها: هي أن يُعبد الله جل وعلا وحده، ولا يُشرك به في عبادته شيئاً. وأن الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتّع الله من فعل ذلك متاعاً حسناً وهو سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، إلى أجل مسمى وهو الموت. وكان التركيز في كلّ القصص على العواقب الدنيوية للفئتين، الفئة المؤمنة والفئة الكافرة، لتكون عبرة وتثبيتاً للرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن من أمته إلى يوم الدين، بأن لا تفتنهم قلّتهم، حين يروا الكثرة الغالبة المحيطة بهم تقلّد ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة الطواغيت والأموال والشهوات. وكلّ هذه المواضيع هي مضمون رسالة هود عليه السلام الذي سمّيت السورة باسمه إلى قومه، فقد قال لهم: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}، وهي نفس الرسالة التي تكرّرت في كلّ الأمم على مر العصور.
وهكذا بعد أن برهنت سورة يونس أن الوحيّ (الملائكة والكتب والرسل) على حق، جاءت سورة هود لتؤكّد أن ما جاء به الوحي هو أيضاً حق، وموعظة، وذكرى، قال تعالى: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}. وسيأتي البيان في سورة يوسف التي تبدأ بقوله تعالى: {الر تتِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)}، لتبين كيف يبتلي الله عباده بأشياء كثيرة، ويمتحنهم في أعزّ ما يملكون من فقد الأولاد والأنفس والتعرض للظلم وغيره، فيفهم منه أن الدّنيا دار امتحان وابتلاء، وأن الجزاء العظيم والفوز الكبير يكون بالجنة والنعيم المقيم.
اللهم اجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات واستغفروا وتابوا واستقاموا على دينك وحسن عبادتك.
011.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
تتكون السورة من ثلاثة أجزاء، وهي: مقدمة ثم قصص ثم خاتمة، تتطابق فيها وتتكرر نفس المعاني، حول موضوع واحد وهو ابتلاء الله تعالى الناس بالعبادة له وحده لا شريك له، وأنه أمهل الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأنه يمتعهم بحسب أعمالهم في الدنيا، ثم جعل الدار الآخرة ليجزيهم فيها ويوفيهم جزاء أعمالهم غير منقوص: كما يلي:
011.6.1- مقدمة في الآيات (1-24): وقد تحدثت المقدمة عن المواضيع التالية:
011.6.1.1- بيان أن رسالة الوحي التي في الكتاب هي الأمر بالعبادة لله وحده، والاستغفار من الذنوب والتوبة عن التقصير وعن عدم قدرتهم على أن يقدروا الله حق قدره. حتى يغفر لهم تفريطهم، ويمتعهم إلى أجل مسمى.
011.6.1.2- أن الله لا يخفى عليه شيء، وأن السر عنده كالعلانية، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر، وما يعلن وما يسر. وإن التهرب من سماع الأوامر والنواهي، وعدم التلقي من الوحي لن يعذرهم أو يعفيهم من الابتلاء والتكليف.
011.6.1.3- صرح الله تبارك وتعالى بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملاً، ولم يقل: أيهم أكثر عملاً، فالابتلاء في إحسان العمل، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة. وصرح أيضاً بأن كل ما يصيب المخلوقات فهو من الله، وقد ضمن لهم رزقهم ومعيشتهم لكي يتفرغوا لعبادته ولما ابتلاهم به، كما أبلغتهم عنه الرسل، وأنه جاءهم ما يصلح به حالهم ويهديهم.
011.6.1.4- صرح سبحانه وتعالى أن العذاب والأجر حاصل، وأن تأخيره مقصود لغرض الابتلاء بالنعماء والضراء، وإيجاد العذر، وإقامة الحجة على الناس. وأن تكبر الإنسان لا يحصل إلا بالنعمة التي أنعمها الله عليه، فإذا نزعت منه ازداد كفره بنزعها، بدلاً من أن يتعظ. إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات.
011.6.1.5- لا يضيق صدرك، من كثرة تكذيبهم وطلبهم المعجزات. إنما أنت نذير، والله يعلم ماذا يفعل، فتوكل عليه. وقد تحدى سبحانه المشركين أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، كما يزعمون أن هذا القرآن مفترى، وفيه تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون معه بهذا التحدي من الله وبذلك العجز من المشركين.
011.6.1.6- هم يريدون الدنيا، فيعطوا جزاء أعمالهم فيها، وليس لهم في الآخرة إلا النار، لأن أعمالهم باطلة. والله يريد لهم الحق، والعمل للآخرة. وقد صرح تعالى هنا أن أكثرهم لا يؤمنون. هم لا يعجزون الله وقد خلقهم، فإليه مرجعهم، ومن يؤمن يدخل الجنة.
011.6.2- القصص: الآيات (25-99):
011.6.2.1- جزاء الأعمال في الدنيا: القصص التالية فيها تفصيل العاقبة الدنيوية للطرفين، الرافضين والعابدين لله وحده والعبرة دائماً بالعاقبة، في الآيات التالية:
نوح عليه السلام: (25-48) = 24 آية. هود عليه السلام: (50-60) = 11 آية. صالح عليه السلام: (61-68) = 8 آيات. إبراهيم عليه السلام: (69-76) = 8 آيات. لوط عليه السلام: (77-83) = 7 آيات: القصة هنا تتحدث عن قوم لوط، وورود إسم ابراهيم مع لوط عليهما السلام، لأن الملائكة، والله أعلم، التي جاءت بالعذاب إلى قوم لوط هم نفسهم الذين جاؤوا لإبراهيم عليه السلام بالبشرى بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وقد جادل إبراهيم عليه السلام الملائكة في شأن إهلاك قوم لوط، فأجابته الملائكة بأن أمر الله قد وقع على قوم لوط وأنه مهلكهم لا محالة. مدين عليه السلام: (84-95) = 12 آية.
011.6.2.2- جزاء الأعمال في الآخرة: القصة التالية عن موسى عليه السلام فيها بيان العاقبة النهائية للكافرين والعابدين لله وحده، في الآيات: (96-99)، (110) = 5 آيات.
مجموع آيات القصص = 75 آية.
011.6.2.3- في مقدمة السورة وخاتمتها، تصرح الآيات التالية بأن المقصد من إيراد القصص هي التثبيت والتسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ليأخذوا العبر مما حصل مع من سبقهم من الأمم، فيستقيموا على عبادة ربهم كما أمرهم حتى يفوزوا بالجنة، ولا يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار:
محمد عليه السلام: (12-14، 49)، (100)، (109، 111-115) = 11 آية.
011.6.2.4- الناس مختلفين: اختير من القصص المقاطع التي تفيد في فهم مقصد السورة ومواضيعها، وهو أن الله أعطى الإنسان حرية في اختيار الإله الذي يتخذه للعبادة، ولو شاء سبحانه لجعل الناس أمة واحدة وعلى دين واحد هو دين الإسلام، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، شاء أن يكونوا مختلفين، فريق يسمع النذر ويبصر الآيات البينات، فيؤمن بالإله الحق الخالق، وفريق كالأعمى والأصم، يكفر بالحق ويتبع الباطل. والحقيقة أن الله الذي خلق الإنسان، هو الذي أمره بعبادته وحده، لأنه خلقه للعبادة، ولأن فيها مصلحته، وهي من أسباب الخير والقوة والمطر والرزق. وأن عبادة الآلهة التي لا تضر ولا تنفع، هي طمس للحق وتغيير للفطرة، وهي من أسباب الجور والظلم، وجالبة للخسارة في الدنيا والآخرة. وقد أرسل الله الرسل بالآيات تبين للناس هذا المقصد من وجودهم، وأنه للعبادة كان خلقهم، وتنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب من سبقهم من الأمم التي أهلكت بسبب تكذيبها وكفرها. وهكذا في كل أمة يرسل الله الرسل ويكرر نفس الدعوة إلى العبادة، والتذكير بأنهم خلقوا لها. ولأن الإنسان هو نفسه الإنسان، تتكرر نفس الأخطاء والجهالات، عبر القرون والأجيال، ويتكرر تقليد جهالات الآباء، التي تؤخذ على علّاتها، حتى مع علمهم بأن آباءهم على ضلالة مهلكة، تهلك الحرث والنسل مثل إتيان قوم لوط الفاحشة وأكل قوم شعيب أموال الناس بالباطل، واتباع قوم فرعون موارد الهلاك والنار. إلا القلة القليلة التي تنجوا بإيمانها وباتباعها دين الله خالقها ورازقها وعالم مستقرها ومستودعها.
011.6.3- خاتمة واستنتاج: الآيات (100-123): تعقب هذه الخاتمة على القصص وأن فيها الدليل العملي والعبرة لمن أن أراد أن يعتبر ويتبع الطريق الموصل إلى النجاة. وتشير إلى هلاك الأمم وكيف أن الله سبحانه يؤخرهم ليبتليهم، فمنهم الشقي في النار والسعيد في الجنة. وتطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا بأنهم جاءهم الحق ولكن أكثر الناس يعبدون كما يعبد آباءهم. ولو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين، ولكن شاء أن يكونوا مختلفين. وأن الله لا يظلم أحد لأن العبادة لله هي التي في مصلحتهم ولكنهم عبدوا الآلهة فأوكلهم الله لها فلم تغن عنهم من دون الله شيئاً.
011.6.3.1- حين الوقوف عند هذا القدر من تلاوة هذه السور وما ورد فيها من أنباء عن ستة من القرى أهلكها الله {منها قائم وحصيد} بسبب ذنوبها ومعاصيها وعبادتها لغير الله. يتكشف سلطانه وبطشه، وأخذه الأليم الشديد، فتذهل منه النفوس الحية، وتشيب منه الرؤوس التي تخاف عذاب الآخرة في اليوم المؤخر لأجل معدود. ويكون من هذا الأخذ الدليل على قدوم اليوم الموعود للحساب والعقاب. فتسارع إلى العبادة لله وحده لا شريك له، حتى تتحصل على الخلود في السعادة، ولا يكون عندها أدنى شك في بطلان ما يعبد هؤلاء وآبائهم.
011.6.3.2- يصرح سبحانه أنه بما يعملون خبير، وأنهم ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم، وأنه ليوفينهم أجرهم غير منقوص.
011.6.3.3- يذكر سبحانه عباده بالصبر والصلاة ويأمرهم بالاستقامة على دينه كما أمرهم فإن الحسنات يذهبن السيئات، ونهاهم أن يركنوا إلى الذين ظلموا فتمسهم النار.
011.6.3.4- اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه، من لذات الدنيا ونعيمها، إيثارا له علـى عمل الاَخرة وما ينـجيهم من عذاب الله، وكانوا مجرمين ظالمين.
011.6.3.5- ما جاء في هذه السورة من أنباء الرسل فيه تثبيت لفؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه.
011.6.3.6- فليعملوا الذين لا يقرّون بوحدانـية الله لدنياهم. فإنا عاملون ما نـحن عاملوه من الأعمال التـي أمرنا الله بها، وانتظروا ما وعدكم الشيطان، فإنا منتظرون ما وعدنا الله من حربكم ونصرتنا علـيكم.
وكما ترى ففي الخاتمة تكررت نفس الموضوعات التي وردت في المقدمة والقصص.
وفي تفسير السعدي: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)}. يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما قاله، والضلال في قول غيره. {إلا من رحم ربك} فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي. وأما من عداهم فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم. وقوله: {ولذلك خلقهم} أي: اقتضت حكمته، أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدله، وحكمته، وليظهر ما كمن من الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء. (و) لأنه {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} فلا بد أن ييسر للنار أهلا، يعملون بأعمالها الموصلة إليها.
011.7 الشكل العام وسياق السورة:
011.7.1- إسم السورة:
إسم السورة “هود”: وهو الرسول الذي أرسله الله تعالى إلى قوم ”عاد” العتاة المتجبرين الذين تجرأوا على رسولهم فقالوا: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء (54)}، واغتروا بقوتهم وجحدوا الآيات: {وعصوا رسله واتّبعوا أمر كلّ جبّار عنيد (59)} هود. فكان جوابه لهم {ويستخلف ربّي قوماَ غيركم ولا تضرّونه شيئاَ (57)}، وقد أهلكهم الله ولعنهم بسبب كفرهم: {وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عاداَ كفرو ربهم ألا بعداَ لعاد قوم هود (60)}. وهي سورة شديدة مليئة بالإنذار والوعيد الشديد لمن لا يعمل ولا يلتزم بالعبادة وبالدعوة إليها كما جاء تفصيله بالكتاب (القرآن).
011.7.1.1- وبتدبر قصة هود عليه السلام مع قومه نجد أن مواضيع السورة ومقصدها هي نفسها، وكلها متضمنه في قصته، فقد قال لهم: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين}، وهي نفس ما جاء في بداية السورة بعد قوله: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}، تلاه الأمر بالعبادة والاستغفار والتوبة فإذا فعلوا فإن ربهم يمتعهم {متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير}، ونجد أنها نفس القصة تتكرر على مر العصور. أي أن الله ضمن للناس رزقهم وأمرهم بالعبادة له وحده، لكن الشياطين اجتالتهم فركضوا وراء الرزق وهو المضمون، وتركوا العبادة وهي التي توصلهم إلى ما هو غير مضمون إلا عن طريقها، وزينت لهم الشياطين ما وجدوا عليه آبائهم من الشرك وعبادة الأوثان من دون الله. فهذه هي الحكمة والحق الذي فصلته هذه السورة، وهذا هو كلام الحكيم الخبير، والذي يبين بما لا يحتاج إلى تفسير بأن العبادة واتباع الدين هما سبب الخير في الدنيا والآخرة، وأن ما سواهما هو سبب الشقاء والخسران في الدنيا والآخرة. فهذا ما أوجده تعالى بقضائه وقدره لأجل سعادة الإنسان، وهو ما أقيم عليه هذا الكون وسننه، لأجل تدبير وتصريف حياة الناس، وحسابهم وجزائهم في الخير والشر.
011.7.1.2- والنتيجة فإن هلاك قوم هود وهلاك الأمم الأخرى التي قصتهم علينا هذه السورة، كان سببه الذنوب، فهلاكها بسبب ذنوبها، فالله لا يعذب أحداً ولا يهلكه إلا بذنب، وقد تكرر هذا المعنى في أماكن كثيرة من القرآن، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} الشورى، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)} آل عمران، {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (79)} النساء، {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ…(47)} القصص، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} القصص، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} الروم، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)} آل عمران، وفي الآية (51) الأنفال، والآية (10) الحج، {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)} الروم، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} الأنعام.
011.7.2- سياق السورة حسب ما ورد فيها من موضوعات:
ونستطيع أن نفصّل أكثر ببيان هذه المواضيع الستة التالية تكررت معانيها في المقدمة وفي قصص الأنبياء وفي خاتمة السورة:
011.7.2.1- رسالة الوحي، الأمر بالعبادة لله وحده، والاستغفار من الشرك، والرجوع إلى طاعته، فإن فعلوا، يمتعهم في الدنيا بطيب العيش وسعة الرزق، وفي الآخرة يجازي كل بعمله: في الآيات (1-4، 25، 26، 50-52، 61، 84-86، 90، 96، 112-117) = 21 آية 17.07%
011.7.2.2- تعامل الناس مع الوحي بالتكذيب، وعدم السماع عناداً وجهلاً، واختلاق الأعذار لعدم قبول الوحي، والتمسك بعبادة الآباء. (وهذا لن يعذرهم أو ينجيهم من العذاب): في الآيات (5، 27، 53-55، 62، 87، 97، 109-111) = 11 آية 8.94%
011.7.2.3- فعل الله فيهم بالرزق والآيات ليتعظوا (الابتلاء): كل ما يصيب المخلوقات فهو من الله، وخلق الإنسان لغرض محدد، علم الله بما يصلح حال الناس. هو الذي رزق وهو الذي ابتلى: فقد ضمن سبحانه الرزق لمخلوقاته، والمكان الذي تعيش فيه، وأخبرهم، أن المال والرزق ليس مقصد وجودهم، بل أنه مبتليهم بالعبادة. فركضوا وراء المضمون وتركوا الغير مضمون. قالت لهم رسلهم أنهم لم يأتوا للمال أو الدنيا فهي ليست المقصد من الخلق ولكن لإبلاغ أمر الخالق بالعمل للآخرة باتباع الدين وهذا البلاغ هو رحمة من السماء لهم لأنه سينجيهم من العذاب الأليم. لا حدود لرزق الله فقد رزق إبراهيم عليه السلام الولد من امرأته العجوز، وهو شيخ كبير. في الآيات (6، 7، 28-31، 56، 63، 64، 69-73، 88، 89، 118، 119) = 18 آية 14.63%
011.7.2.4- العذاب للعصاة، وجزاءهم على أعمالهم، لابد حاصل بسبب المعاصي: ولكنه مؤجل حتى يتم الابتلاء للأمم، ثم يستخلف قوماً غيرهم، إلى قيام الساعة. وما تكبر الإنسان إلا بالنعمة التي أنعمها الله عليه، من الرزق والأمان وغيره، ولو نزع الله منه شيء من هذه النعمة ليتعظ، لازداد كفره بالنعم ويأسه من رحمة الله، بدلاً من أن يتعظ. ثم لو أعيدت عليه النعمة، وبسطت له الدنيا لعاد إلى بطره وتكبره وفخره على الناس، إلا من رحم الله، ومن عمل صالحاً فلهم المغفرة والأجر الكبير: الآيات (8-11، 32-34، 57، 65، 91-93، 104-108) = 17 آية 13.82%
011.7.2.5- لا يضيق صدرك أيها الرسول بسبب تعنتهم وطلبهم الآيات، إنما أنت نذير، واجبك هو إبلاغ أمر الله، ثم الله هو الوكيل ومدبر شؤون خلقه ومجازيهم على أعمالهم، ينجي الذين آمنوا برحمته، وعذابه لا محالة واقع على الكافرين. إن العاقبة الطيبة في الدنيا والآخرة للمتقين: الآيات (12-14، 35، 36، 49، 58، 66، 74-81، 94، 100-103، 120) = 22 آية 17.89%
011.7.2.6- هم يريدون الدنيا، فيعطوا جزاء أعمالهم فيها، ولهم في الآخرة النار، لأن أعمالهم باطلة. ومن يؤمن ويعمل الصالحات يدخل الجنة. الله يريد لهم الحق، والعمل للآخرة، ولكن أكثرهم لا يؤمنون. هم لا يعجزون الله وقد خلقهم، فإليه مرجعهم. القصص تبين والآثار تشهد على خسارة المتكبرين واستبدالهم بعد أن تخلي عنهم ما كانوا يعبدون من دون الله، وتبين أيضاً وتشهد على نجاة المؤمنين، واستخلافهم وجعل العاقبة الكريمة لهم. ثم وفي الآخرة الجزاء الأوفى غير منقوص: في الآيات (15-24، 37-48، 59، 60، 67، 68، 82، 83، 95، 98، 99، 121-123) = 34 آية 27.64%
011.7.3- سياق السورة حسب ما احتوته من القصص:
القصص: الآيات (25-99)
إنه من المعلوم أن آدم عليه السلام هو أول البشر وقد أوتي الهدى من الله تعالى، وعرف الدين والعبادة بهدى من ربه مباشرة، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} البقرة. ثم لما طال الأمد وتوالت الأيام والقرون على ذريته، اجتالتهم الشياطين وحرفتهم عن الهدى وعن عبادة الله إلى عبادة غير الله من الأوثان والمخلوقات التي لا تضر ولا تنفع. وفي حديث عياض بن حمار أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما يرويه عن ربه: “إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنه أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، فأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطان” الحديث. فانحرفت الأجيال المتأخرة من ذرية آدم عليه السلام إلى عبادة غير الله. فصار لزاماً أن يرسل الله برحمته المرسلين مبشرين ومنذرين، فأرسل جل وعلا جميع المرسلين برسالة واحدة، إلى جميع الأمم {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير ٌ (24)} فاطر، تذكر الناس وتدعوهم إلى ما خلقوا لأجله وهو العبادة والاستغفار والتوبة:
ابتدأت آيات القصص بنوح عليه السلام، وقد ظهر في زمانه الشرك وعبادة الأوثان والآلهة من دون الله، والتي ستتطور، في الأمم اللاحقة، إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، وبأمراض تتفشى في الأمة كلها، حتى يختلط الحق بالباطل، وتنتشر دعوة الباطل، ويطمس على الأسماع والبصائر، فلا يعود الإنسان العادي يميز بين ما هو الهدى وما هو الضلال، وما هو الدين الصحيح من بين هذه العبادات الأخرى المنتشرة والتي ابتدعها الآباء، ويقلدها الأبناء على أنها مسلمات. وفي صحيح البخاري: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه”. قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: “فمن”. وسيتبين لنا أيضاً من القصص أن كفر الإنسان يتطور وأعذاره تزداد مع مرور الزمان، فبعد أن يجتال الشيطان الإنسان ويخرجه من عبادة الله إلى عبادة غيره من الآلهة التي لا تضر ولا تنفع، يضيع هذا الإنسان ويصير بحاجة ملحة لمن يصوب له الطريق. لأن الشيطان سلب منه بوصلة الاتجاهات التي تحدد له مكان وجوده، وغيب عنه هدف الحياة. فصار عبداً للطواغيت، تشرع له وتهديه إلى مواطن الهلاك، وصارت الشهوات قبلته، والتصارع الحيواني على المال والأرزاق ديدنه. وبدلاً من أن يعين أخيه ويتعاون معه على إعمار الدنيا، ينافسه ويعاديه ويهلك الحرث والنسل. وبدلاً من أن يعطي أخيه وينفق عليه مما آتاه الله، وجعله مستخلفاً فيه من المال والرزق، ينتزع المزيد ويحتكر الحقوق، وينقص الميزان وغيره. فكأن مرض القلوب مرض معدي يصيب المجتمع بأكمله، ويصير الحق والشفاء هو الشاذ وهو الخطأ. فهم يتساءلون بتهكم وسخرية (الآية 87) كيف تأمر الصلاة أن لا يفعلوا في أموالهم ما يشاءون، والحقية أن الأمر ليس من الصلاة بل من الله، فهو الآمر بالصلاة والإنفاق وكل العبادات. وهكذا مع تقدم الإنسان في الحياة وفيض النعمة والخير عليه يزداد طغياناً واختلاقا للأعذار التي تبعده عن العبادة الصحيحة، وتبقيه على عبادة الآباء الضالة والتي اجتالتهم إليها الشياطين.
كما هو الحال في أيامنا هذه، فالإنسان يخشى أن يتكلم عن الدين والعبادة، فإذا قال لأحدهم أننا مخلوقون للعبادة والابتلاء، نظر إليك شذراً لا يكاد يصدق ما يسمع، فكيف يتدخل هذا الدين في حياتنا وفي استمتاعنا بطفولتنا وشبابنا وأوقاتنا وأموالنا وطعامنا وشهواتنا ونعم الله علينا. وقد غاب عن ذهنهم أن الله الذي ابتلاهم بالعبادة لا تغيب عنه منهم لا كبيرة ولا صغيرة إلا ويعلمها ويدبر أمرها، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِين (6)} هود، وهو يعلم سرهم وعلانيتهم، ويتدخل حتى في عدد أنفاسهم ودقات قلوبهم، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة ولكن خلقهم ليكونوا مختلفين، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون َ(123)}.
نوح عليه السلام: الآيات (25-48): نوح هو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد أن كفروا، وقد بعثه الله تعالى بعد أن آل الحال ببني آدم إلى عبادة الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضلالة والكفر، وانتشر الفساد في الأرض. يبدوا أن الله جعل حياة أكثرهم في خير ونعمة، فلما آمن مع نوح القليل من ضعفاء الناس، كالعادة وكما هو عليه حال كل الأمم، استكبروا على من آمن من ضعفاء الناس. فقال لهم نوح أنه لا يريد منهم أجراً أو مالاً يعطونه، بل هو نذير مبين: أن اعبدوا الله خوفاً من العذاب بسبب تكبركم. فما أطاعوه وكان عاقبتهم أن أهلكهم الله بالغرق في الطوفان.
هود عليه السلام: الآيات (50-60) قوم هود: يبدوا أن الله جعل في حياتهم الاستقرار والأموال (فهم أصحاب إرم ذات العماد)، فقال هود لقومه {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وكرر هنا مقالة نوح عليه السلام، أنه لا يريد منهم أجراً، وزاد عليه أن الله عنده الأجر والرزق والزيادة شريطة أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ويتركوا عبادة الآلهة من دونه. وقال لهم أما لكم عقل تميزون به مصدر الخير والرزق. ألا تفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين الذي تشهد به فطرتكم التي خلقتم عليها. وكانت النتيجة أن نجى الله تعالى هود ومن أمن معه وأهلك الكافرين بريح صرصر عاتية.
صالح عليه السلام: الآيات (61-68): قوم صالح: فقد استعمروا الأرض وأعطاهم الله فيها الزروع والثمار، (فهم الذين جابوا الصخر بالواد) وهم أصحاب الحجر الذي مر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك. فدعاهم نبيهم صالح أن {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وزاد عليه أن نهاهم عن تقليد عبادة الآباء. فآمنت طائفة منهم وكفر جمهورهم، وهموا بقتل نبيهم، وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وأهلكهم بالصيحة.
وقال ابن كثير في قصص الأنبياء: وكثيراً ما يقرن الله في كتابه بين ذكر عاد وثمود كما في سورة: براءة، وإبراهيم، والفرقان، وص، وق، والنجم، والفجر. ويقال إن هاتين الأمتين لا يعرف خبرهما أهل الكتاب، وليس لهما ذكر في كتبهم.
إبراهيم عليه السلام: الآيات (69-76)، لوط عليه السلام: الآيات (77-83): قوم لوط: وهم أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم، يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر. فلم تتطرق السورة في قصتهم لموضوع العبادة، ولا حتى في أي مكان آخر من القرآن، لأن بينهم، والله أعلم، وبين العبادة مشوار طويل، فهم غارقون في الفاحشة والشهوات، ابعد ما قال لهم نبيهم أن يتقوا الله ويطيعوه وهو يأمرهم بالطهر وينهاهم عن المنكر. القوم كلهم مرضى، وليس أفراد منهم، فلا بد من علاج مرضهم وإخراجهم من النجاسة أولاً، وهو الذي لم يستطع لوط تحقيقه، إذ ليس فيهم رجل واحد رشيد ينهاهم. فأمطر الله عليهم حجارة من سجيل منضود وجعل الله عليها سافلها. وذكر في القصة ابراهيم عليه السلام وهو يجادل رسل الله في قوم لوط وإهلاكهم، فهو حليم لا يحب المعاجلة في العقاب.
مدين عليه السلام: الآيات (84-95) قوم مدين: وقد تراكمت عندهم المعاصي، وكأن كل أمة تتعلم وتكرر معاصي من سبقهم وتضيف عليها. فهؤلاء كانوا في خير من الله واستقرار، وسعة عيش. وحين دعاهم نبيهم أن {اعبدوا الله مالكم من إله غيره}، وأنه هو مصدر الخير الذي هم فيه، تكبروا على نبيهم وعلى من آمن من الضعفاء كما حصل مع قوم نوح، وقوم هود. وكذلك تمسكوا بعبادة آبائهم بما فاق ما فعله قوم صالح، فقوم صالح كانت تساورهم الشكوك في صدق دعوته، أما قوم شعيب فاعتبروا دعوته لهم لترك عبادة آبائهم ضرب من اللامفهوم واللامعقول، وأن قائله يستحق الرجم. وقد كانوا يقطعون السبيل ويخيفون المارة، يسيئون المعاملة ويبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، وانتشر فيهم كذلك مرض حب المال، فصار وباء في القوم، عبدوا المال كما عبد من قبلهم قوم لوط شهواتهم. وقد آمن بعضهم وكفر أكثرهم حتى أحل الله بهم البأس الشديد، فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
كان التركيز في القصص الخمسة السابقة على العواقب الدنيوية للفئتين، الفئة المؤمنة والفئة الكافرة، وهو ما يفهم منه أن الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له، هو أمر مصيري في حياة الناس، يترتب عليه حصول إحدى نتيجتين: إما حصول العمار في الأرض والخير والرزق وهو للفئة القليلة التي تعبد الله وحده لا شريك، أو الهلاك والدمار وهو للفئة الكبيرة وللكثير من الأمم التي عبدت غير الله وجعلت له الشركاء. وفي هذه القصص عبرة وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن من أمته عليه الصلاة السلام إلى يوم الدين، بأن لا يفتنهم قلتهم حين يروا الكثرة الغالبة المحيطة بهم تقلد ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة الطواغيت والأموال والشهوات.
موسى عليه السلام: الآيات (96-99)، أما القصة السادسة فهي عن إرسال موسى عليه السلام إلى فرعون وملأه، بالآيات والبراهين على وحدانية الله، ودعوتهم إلى عبادة الله، ثم تكذيبهم، وادعاء فرعون الربوبية دونه سبحانه وتعالى، وإطاعة قومه له. أما عن تراكم المعاصي والفساد عندهم فلا تسأل عنه، وإن لم يذكر عنه شيئاً في هذه السورة، فهو لا يحصى لكثرته، وقصة موسى عليه السلام من أكثر القصص تكراراً في القرآن. وردت في حوالي الواحد والثلاثين موضعاً من القرآن: في سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، وابراهيم، والإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والفرقان، والشعراء، والنمل، والقصص، وفصلت، والأحزاب، وغافر، والزخرف، والدخان، والذاريات، والنجم، والنازعات، والبروج، والأعلى، والفجر. وهي تعطي فكرة كاملة عن قصة الابتلاء والإمهال، والابتلاء بالسراء والضراء. فهي لم يتوقف فيها نزول الآيات والمعجزات على فرعون وبني إسرائيل والتي أهمها معجزة العصا واليد البيضاء، ولم تتوقف فيها الابتلاءات من تعذيب فرعون لبني إسرائيل إلى تسليط الجراد والقُمّل والضفادع والدم على فرعون وقومه، واستغاثتهم بموسى، وكف الأذى عنهم، وعودتهم لتعذيب بني إسرائيل، إلى انجاء بني اسرائيل والإنعام عليهم ومقابلتهم هذه النعم بالمماطلة والجحود وعبادة العجل وغيره. ثم هي في سورة هود جاء منها المقطع الذي يتناسب مع موضوعاتها، وفيه إشارة إلى الاهلاك بعد التكذيب. فهي بعد القصص التي سبقتها فيها عبرة بينة لمن أراد أن يعتبر عن مصير من يعبد غير الله، ويتبع الآلهة من دونه، كما اتبع فرعون قومه، فأوردهم النار، بعد العذاب الذي عجله الله لهم في الدنيا والغرق في البحر. فهذه القصة بينت الهلاك والعذاب الذي عجل في الدنيا بإغراق آل فرعون في البحر واللعنة التي حلت ببني إسرائيل في الدنيا، يتبعها لعنة أخرى يوم القيامة بإدخالهم النار، {وإن كلاً لما يوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبيرِ}.
في قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام لم تتحدث عن الوحي ولا عن تعامل الناس معه لأنهم مشغولين بمرضهم (مجتمع مريض يجب شفائه)، بل بدأت بالحديث عن رعايته لرسله، وتركت المعاصي أيضاً فهم مرضى (معطلة أسماعهم وأبصارهم)، ثم انتقلت إلى تسلية الرسل في مواجهة أمراض أقوامهم، ثم إهلاك قوم لوط. أما في قصة موسى عليه السلام فقد تحدثت عن الوحي وعن تعامل الناس معه، ولم تتحدث عن فعل الله فيهم بالرزق والآيات ليتعظوا فيؤمنوا، ولا عن معاصيهم وأسبابها في الشدة والرخاء، ولا عن مواساة رسوله، فقد مات وترك الذين آمنوا من بني إسرائيل في التيه قبل أن ينتهي الأمر ويدخلوا أرض الميعاد. ثم عن النهاية الأليمة لفرعون وملأه وهم الذين ضلوا الطريق وعبدوا الطاغوت.
011.7.4- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
011.7.4.1- آيات القصص: قصص نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط ومدين وموسى في الآيات: (25-48، 50-95، 96-99، 101، 110) = 76 آية؛ محمد عليه السلام: (12-14، 17، 49، 100، 109) = 7 آيات؛ أخرى (5، 116، 117) = 3. ومجموع عددها 86 آية.
011.7.4.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (104-108) = 5 آيات.
011.7.4.3- الأمثال في الآيات: (24، 102، 103) = 3 آيات.
011.7.4.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (6، 7) = 2 آية.
011.7.4.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-4، 8-11، 15، 16، 18-23، 111-115، 118-123) = 27 آية.
011.7.5- السورة ابتدأت في مقدمتها بالأمر بالعبادة لله وحده والصبر وعمل الصالحات. ثم في الوسط أمرت الرسل أممها بالعبادة. وفي خاتمة السورة أمرت بالاستقامة {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}، وبعدم تقليد عبادة الآباء {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}، وختمت في آخر آية بالأمر بالعبادة {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (123)}.
011.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
011.8.0- انظر سورة الكهف 018.8.0- تناسب السّور من الأعراف إلى الكهف في الربع الثاني من القرآن
011.8.1- وهكذا بعد أن برهنت سورة يونس أن الوحيّ (الملائكة والكتب والرسل) على حق، جاءت سورة هود لتؤكّد أن ما جاء به الوحي هو أيضاً حق، وموعظة، وذكرى، قال تعالى: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}. ومن هذا الحق الذي جاء به الوحي أن الله سبحانه أمرهم (في ختام السورة) أمراً جازما، بالاستقامة والالتزام بأوامره وعدم تجاوز حدوده، فمالهم من دونه من ناصر ينصرهم ويتولى أمورهم. وقرر سبحانه بأنه ليوفي كل الخلائق جزاء أعمالهم، فهو خبير بما يعملون. فقد أمرهم بإقامة الصلاة والصبر على الطاعة والإصلاح والنهي عن الفساد، لا خيار لهم، فقد خلقهم للصلاة والعبادة والإصلاح، ولو شاء لجعلهم جماعة واحدة على دين واحد، ولكنه لم يشأ ذلك، بل اقتضت حكمته أن يكونوا مختلفين في أديانهم، فريق شقي وفريق سعيد، وكل ميسر لما خلق له. وقد وعد في قضائه وقدره بأنه سيملأ جهنم من الجن والناس الذين اتبعوا إبليس وجنده، ولم يهتدوا للإيمان. وقد بين سبحانه في يونس كما قال ابن الزبير: {إن ربكم الله (3)} الآيات، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد {ذلكم الله ربكم فاعبدوه (3)}، {ما خلق الله ذلك إلا بالحق (5)} انتهى. وقد شاءت قدرته أن يبتلي الناس بعبادته وحده لا شريك له، وباتباع دينه، وبغيرها من الابتلاءات التي لا تحصى. وستأتي سورة يوسف لتبين كيف يبتلي الله عباده بأشياء كثيرة، ويمتحنهم في أعز ما يملكون من فقد الأولاد والأنفس والتعرض للظلم وغيره. هذه الحقيقة التي إذا أدركها الإنسان وفهمها وعقل الحكمة من ورائها، أعانته على الصبر، وكيف لا يصبر من هو في دار امتحان وابتلاء، وقد تبين له أن النتيجة على صبره، والثمرة المنتظرة هي الجزاء العظيم والفوز الكبير بالجنة والنعيم المقيم.
لقد بينت سورة يونس بأن سبب عدم تصديق الناس للوحي هو انشغالهم بالنعمة عن التفكر في الآخرة. لذلك جرت سنته تعالى أن يبتليهم بسلب شيء من النعمة، فالإنسان عند البلاء غير صابر {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً (12)}، ثم ينعم عليهم ليشكروا، لكن الإنسان عند النعمة والرجاء غير شاكر {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ (12)} وفعل الإنسان العجيب هذا سببه هو الجهل والغرور والفرح بزينة الحياة الدنيا {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون َ (12)}، يونس. لكن الأعجب هو تماديهم، بعد الابتلاء في الكفر والمكر {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)} يونس. وهذا هو نفس المعنى الذي تؤكده سورة هود وتزيد عليه حقيقة أعجب وهي أن الأنسان في الحالتين كفور {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ (9)} هود، أي أنه بعد سلب النعمة منه، بدلاً من أن يصبر على البلاء ويتفكر ويتعظ فإنه يؤوس كفور. ثم أنه إذا أذيق نعماء، بدلاً من أن يشكر، على ذهاب الضر وقدوم النعمة، عاد إلى فرحه وفخره على من دونه {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُور ٌ (10)} هود. وهذا الذي جاء في سورة هود هو نفسه ما عليه أكثر الناس، كما جاء تفصيله في قصص هلاك الأمم، وهو مصداق لوعد الله بأنه أنه سيملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، لأن أكثرهم كافرون سواء كان ذلك في السراء أو في الضراء، وهو ما يتناسب مع مقصد السورة في الحديث عن العبادة لله. أما الذي جاء في الآية (12) من سورة يونس فإنه يتحدث عن الإيمان الذي يحصل بمجرد مس الضر، فإن الإنسان مؤمن بفطرته أن كاشف الضر واحد لا شريك له، فلذلك يلجأ إلى الله لقضاء حاجته، وهو ما يتناسب مع مقصد السورة عن الإيمان بالوحي.
011.8.2- تناسب بداية السور الثلاث يونس وهود ويوسف: في سورة يونس {تلك آيات الكتاب الحكيم} فالكتاب حكيم، وفي سورة هود {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} فصلت آيات الكتاب بعد أن أحكمت، وفي سورة يوسف {تلك آيات الكتاب المبين} أي صار مبين بعد أن فصلت آياته، والمبين هو الظاهر والمظهر.
011.8.3- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وجه وضعها بعد سورة يونس زيادة على الأوجه السابقة: أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جداً مجملة فشرحت في هذه السورة وبسطت بما لم يبسطه في غيرها من السور ولا في سورة الأعراف على طولها ولا في سورة نوح {إِنَّا أَرسَلنا نوحاً} التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في سورة يونس فإن قوله هناك: {واتَبِع ما يوحى إِليك} هو عين قوله هنا: {كتابٌ أُحكِمَت آياتهُ ثُمَ فُصِلت مِن لدن حكيم خبير} فكان أول هود تفصيلاً لخاتمة يونس.
011.8.4- وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: ولما كانت سورة يونس عليه السلام قد تضمنت: من آي التنبيه والتحريك للفطر، ومن العظات والتخويف والتهديد، والترهيب والترغيب، وتقريع المشركين والجاحدين، والقطع بهم، والإعلام بالجريان على حكم السوابق، ووجوب التفويض والتسليم – ما لم تشمل على مثله سورة لتكرر هذه الأغراض فيها، وسبب تكرر ذلك فيها – والله أعلم – أنها أعقبت بها السبع الطوال، (وقد مر التنبيه على أن سورة الأنعام بها وقع استيفاء بيان حال المتنكبين عن الصراط المستقيم على اختلاط أحوالهم، ثم استوفت سورة الأنعام ما وقعت الإحالة عليه من أحوال الأمم السالفة كما تقدم وبسطت ما أجمل من أمرهم، ثم اتبع ذلك بخطاب المستجيبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحذروا وأنذروا، وكشف عن حال من تلبس بهم من عدوهم من المنافقين. وتم المقصود من هذا في سورتي الأنفال وبراءة). ثم عاد الخطاب إلى طريقة الدعاء إلى الله والتحذير من عذابه، بعد بسط ما تقدم، فكان مظنة تأكيد التخويف والترهيب لإتيان ذلك بعد بسط حال وإيضاح أدلة، فلهذا كانت سورة يونس مضمنة من هذا ما لم يضمن غيرها، ألا ترى افتتاحها بقوله: {إن ربكم الله (3)} الآيات، يونس. ومناسبة هذا الافتتاح دعاء الخلق إلى الله في سورة البقرة بقوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم (21)} البقرة. ثم قد نبهوا هنا كما نبهوا هناك فقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله (38)} يونس، ثم تأكدت المواعظ والزواجر والإشارات إلى أحوال المكذبين والمعاندين، فمن التنبيه {إن ربكم الله (3)} يونس، {هو الذي جعل الشمس (5)} يونس، {إن في اختلاف الليل والنهار (6)} يونس، {قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده (34)} يونس، {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق (35)} يونس، {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض (101)} يونس، – إلى غير هذا، وعلى هذا السنن تكررت العظات والأغراض المشار إليها في هذه السورة إلى قوله: {يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم (108)} يونس، فحصل من سورة الأعراف والأنفال وبراءة ويونس تفصيل ما كان أجمل فيما تقدمها كما حصل مما تقدم تفصيل أحوال السالكين والمتنكبين.
فلما تقرر هذا كله أتبع المجموع بقوله: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)} هود، وتأمل مناسبة الإتيان بهذين الاسمين الكريمين وهما {الحكيم الخبير} ثم تأمل تلاؤم صدر السورة بقوله: {يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم (108)} يونس، وقد كان تقدم قوله تعالى: {قد جاءتكم موعظة من ربكم (57)} يونس، فأتبع قوله: {قد جاءكم الحق من ربكم (108)} يونس، بقوله في صدر سورة هود {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت (1)} هود، فكأنه في معرض بيان الحق والموعظة، وإذا كانت محكمة مفصلة فحق لها أن تكون شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، وحق توبيخهم في قوله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه (39)} يونس، والعجب في عمههم مع إحكامه وتفصيله ولكن {الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96)} يونس.
وتأمل قوله سبحانه آخر هذه السورة {وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك (120)} هود، و {جاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120)} هود، فكل الكتاب حق وموعظة وذكرى، وإنما الإشارة، والله أعلم، بما أراد إلى ما تقرر الإيماء إليه من:
– كمال بيان الصراط المستقيم وملتزمات متبعيه أخذاً وتركاً،
– وذكر أحوال المتنكبين على شتى طرقهم، واختلاف أهوائهم وغاياتهم وشرُّهم إبليس فإنه متبعهم والقائل لجميعهم في إخبار الله تعالى {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم (22)} إبراهيم، وقد بسط من أمره وقصته في البقرة والأعراف ما يسر على المؤمنين الحذر منه، وعرفهم به،
– وذكر اليهود والنصارى والمشركون والصابئون والمنافقون وغيرهم، وفصل مرتكب كل فريق منهم،
– كما استوعب ذكر أهل الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفصل أحوالهم ابتداء وانتهاء والتزاماً وتركاً ما أوضح طريقهم، وعين حزبهم وفريقهم {أولئك الذين هدى الله (90)} الأنعام،
– وذكر أحوال الأمم مع أنبيائهم وأخذ كل من الأمم بذنبه مفصلاً،
– وذكر ابتداء الخلق في قصة آدم عليه السلام وحال الملائكة في التسليم والإذعان،
– وذكر فريق الجن من مؤمن وكافر،
– وأمر الآخرة وانتهاء حال الخلائق واستقرارهم الأخروي،
– وتكرير دعاء الخلق إلى الله تعالى طمعاً فيه ورحمة،
– وإعلام الخلق بما هو عليه سبحانه وما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى،
– ونبه العباد على الاعتبار وعلموا طرق الاستدلال،
– ورغبوا ورهبوا وبشروا وأنذروا،
– وأعلموا بافتقار المخلوقات بجملتها إليه سبحانه كما هو المتفرد بخلقهم،
– إلى ما تخلل ذلك مما يعجز الخلائق عن حصره والإحاطة به {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4)} الأحزاب.
فلما تقدم هذا كله في السبع الطوال وما تلاها. أعقب ذلك بقوله: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1)} هود، ثم أتبع هذا بالإيماء إلى فصول ثلاثة عليها مدار آي الكتب، وهي فصل الإلهية، وفصل الرسالة، وفصل التكاليف: أما الأول فأشار إليه قوله: {ألا تعبدوا إلا الله (2)} هود، وأما فصل الرسالة فأشار إليه قوله سبحانه: {إنني لكم منه نذير وبشير (2)} هود، وأما فصل التكالكيف فأشار إليه قوله سبحانه {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه (3)} هود. وهذه الفصول الثلاثة هي التي تدور عليها آي القرآن وعليها مدار السورة الكريمة.
فلما حصل استيفاء ذلك كله فيما تقدم ولم يبق وجه شبهة للمعاند ولا تعلق للجاحد واتضح الحق وبان قال سبحانه وتعالى: {وجاءك في هذه الحق (120)} هود، إشارة إلى كمال المقصود وبيان المطلوب واستيفاء التعريف بوضوح الطريق. وقد وضح من هذا تلاء السورة الكريمة لما تقدمها، ومما يشهد لهذ، والله أعلم، قوله تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه (17)} هود، وقوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا (112)} هود، فقد وضح طريقك وفاز بالفلاح حزبك وفريقك {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا (113)} هود، فقد عرفتم سبيلهم ومصيرهم فقد بان طريق الحق، وكيف ينكب من جزم سلوكه من الخلق! ونظيره قوله سبحانه {وجاءك في هذه الحق (120)} هود، عقب ما ذكر سبحانه {لمن الملك اليوم (16)} غافر، وقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله (19)} الانفطار، فتأمل ذلك والله المستعان، انتهى.