العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


018.0 سورة الكهف


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


018.1 التعريف بالسورة:

1) مكية عدا الآية 38، فمدنية. 2) من المئين. 3) عدد آياتها 110 آيات. 4) هي السورة الثامنة عشرة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثانية والسبعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الغاشية”.  6) أسماء أخرى للسورة: ويقال لها سورة أصحاب الكهف.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 14 مرّة، {لله} 1 مرّة، إله 2 مرّة، رب 38 مرّة، أعلم 4 مرّات؛ (2 مرّة): خلق، أنزل، بعث؛ (1 مرّة}: هو، واحد، غفور، حق، مقتدر، ذو الرحمة، يُعَلّم، جامع، نقلب، نبلو. أنظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

هي أكثر سورة تكرر فيها ذكر: صبر ومشتقاتها 8 مرات من أصل 95 مرة في القرآن كله (هي والبقرة أيضاً 8 مرات)، وسبباً ومشتقاتها 4 مرات من أصل 5 مرات في القرآن، ورشد ومشتقاتها 4 مرات (هي والجن) من أصل 5 مرات في القرآن.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: قال 33 مرة، علم 12 مرّة (منها أعلم 4 مرّت، يعلّم 1 مرّة)؛ (10 مرّات): يقول، أحد؛ (9 مرّات): عمل، ظلم، كافر؛ (8 مرّات): هدى، خير؛ (7 مرّات): صالح، حسن، حق، مؤمن، رحمة؛ (6 مرّات): عباد، تبع؛ (5 مرّات): شرك، عذاب، شاء؛ (4 مرّات): ولي، آمن؛ (3 مرّات): أجر، ينذر؛ (2 مرّة): ولد، غيب، تطع، يبشر؛ (1 مرّة): فعل، حمد، يسرا.

018.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

عن البراء رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فغشيته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: “تلك السّكينة تنزّلت بالقرآن”.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من الدجّال”. وفي رواية أخرى “من قرأ العشر الأواخر من الكهف”.

عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، كانت له نورا من مقامه إلى مكّة، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها فخرج الدجّال لم يسلّط عليه”. وله في رواية: “من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين”.

018.3 وقت ومناسبة نزولها:

أخرج البخاري وابن الضريس عن ابن مسعود قال: بنو اسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، هنّ من العتاق الأول وهن من تلادي: أي مما حفظ قديماً.

نزلت سورة الكهف قبل بداية المرحلة الثالثة من الفترة المكيّة، أي قبل أن يُجبر عدد كبير من المسلمين على الهجرة إلى الحبشة، حيث يفهم هذا من موضوعها وهو كيف استطاع أهل الكهف المحافظة على دينهم بهجرة بلد الكفر واللجوء إلى الكهف، وهذا تشجيعاً للمضطهدين من المسلمين على الهجرة. وتشير الأحاديث الصحيحة إلى أن سور الكهف ومريم وطه والأنبياء نزلت في أوقات متقاربة ومن أقدم السور نزولاً.

والمرحلة الثالثة من الفترة المكّية: هي مرحلة الهجرة من مكة إلى الحبشة، ومقاطعة الرسول وقومه بني هاشم وبني المطلب، وتمتد إلى خمسة سنوات، من السنة الخامسة من بداية نزول الوحي إلى العاشرة. وهي مرحلة ابتدأ بها تعذيب المسلمين جسدياً ثم المقاطعة التي الجئوا فيها إلى شعاب أبي طالب وحوصروا فيها ثلاث سنوات في شدّة وبلاء لا يصلهم شيء من الطعام إلا خفية، حتى كانوا يأكلون ورق الشجر، وكانوا يمنعون التجار من مبايعتهم. وهذا يتطلّب الكثير من الصبر الذي أشارت إليه قصّة موسى عليه السلام مع العبد الصالح.

أنظر أيضاً شرح ابن الزبير والسيوطي عن أسباب النزول، هنا في الباب (018.8.3 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور).

018.4 مقصد السورة:

018.4.1- مقصد السورة: بيان أن سبب وجود الناس على الأرض هو الابتلاء بالأعمال والتكاليف وأن مصيرهم يوم القيامة متوقف على هذا الابتلاء. وبيان ما أعده الله لهم من الثواب والعقاب جزاءاً على أعمالهم في الدنيا.

إن الله هو خالق الأسباب ومسببها. كل ما في الكون هو آية من آيات الله تدل على أنه لا شريك له وأن كل ما في الحياة هو من عدله وحكمته، ومقدّر وموزون بموازين دقيقة جعلها بحكمته، لتدوم الحياة كما أراد لها الله أن تكون. بين سبحانه للناس عن طريق الوحي أسباب صلاح الحياة، وجعله تكليف لهم وابتلى إيمان الناس بهذا التكليف. فمن آمن والتزم وعمل صالحاً فاز برضوان من الله وفضل، ومن أعرض وأشرك وكفر خسر هو وأوليائه الذين اتخذهم شركاء لله، في الدنيا والآخرة.

018.4.2- مقصدها نجده في الآيات الثماني الأولى: ففي الآيات الثلاث الأولى (1-3) أخبر جل ثناؤه أنه أنزل على عبده الكتاب (بشيراُ ونذيراً، بأنهم مكلفون) ولم يجعل له عوجاً، قَيِّماً مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدق بعضا، وبعضه يشهد لبعض، لا عوج فيه، ولا ميل عن الحق، لينذركم أيها الناس بأسا من الله شديداً (وهو العذاب العاجل في الدنيا ثم في الآخرة)، والبشارة بالأجر الحسن، على الأعمال الصالحة. ماكثين في دار خلد لا يموتون فيها أبداً. وفي الآيات الثلاث التي تليها (4-6) ينذر المشركين أنهم كاذبون لا يعلمون، فلعلك يا محمد صلى الله عليه وسلم، قاتلٌ نفسك ومهلكها حزناً على آثار قومك الذين لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنـزلته عليك. وفي الآيات (7، 8) يقول عز ذكره: إنا جعلنا ما على الأرض زينة للأرض، اختباراً لهم أيهم أحسن عملاً، ثم بعد انتهاء سبب وجودها يهلك كلّ شيء عليها ويبيد.

ويتكرر نفس المعنى في وسطها (الآيات 50-59)، فتتحدّث عن بداية خلق السماوات والأرض وخلق أنفسهم وعدواة إبليس، وعن أنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة، بل لهم موعد يجازون فيه بأعمالهم، لا مندوحة لهم عنه ولا محيد.

وتختم بنفس المعنى في الآيات الثمانية الأخيرة: ففي الآيات (103-106) أخسر الناس أعمالا هم الذين ضلَّ عملهم في الحياة الدنيا وهم يظنون أنهم محسنون في أعمالهم، فجزاؤهم نار جهنم بسبب كفرهم بالله واتخاذهم آياته وحجج رسله استهزاءً وسخرية. والآيات (107، 108) والذين آمنوا وعملوا الصالحات، لهم الفردوس الأعلى في الجنة، خالدين فيها أبداً، لا يريدون عنها تحوُّلاً، لحبهم لها. الآية (109) لو كان البحر حبراً يكتب كلام الله تعالى (وعلمه) به، لنفذ البحر قبل أن ينفذ كلام الله ولو أمدّه بحار أخرى. الآية (110) فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك في العبادة معه أحداً غيره.

وهي أكثر سورة تكرّر فيها ذكر كلمة الرشد، والرشد هو من المقاصد التي سعى الفتية إلى تحصيلها وطلبها من الله تعالى، في قوله: {رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)}، وذكرت في قوله تعالى: {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}، وهو ما سعى موسى عليه السلام إلى تعلمه في قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)}، وأن الله تعالى هو المرشد في قوله: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)}. ومعنى الرشد: هو الصلاح والاستقامة وهو يأخذ إلى الصواب. وهو العمل الذي ينفع صاحبه ونقيضه الغيّ وهو العمل الذي يضر صاحبه فعمل الخير رشد وعمل الشرّ غيّ.

هي أكثر سورة تكرّر فيها ذكر كلمة سبباً (في الآيات 84، 85، 89، 92)، وهي من المقاصد أو الوسائل والطرق التي اتبعها ذي القرنين للتمكين له في الأرض وفيه إشارة إلى أن الله تعالى جعل لكلّ شيء على هذه الأرض أسبابه وطرقه الخاصّة والمناسبة لأجل تحقيقه أو الوصول إلى بسببه ما يريد الوصول إليه.

018.4.3- سعادة الإنسان هي بمعرفة الله، ومعرفة أسماءه وصفاته، لأن معرفة الله وصفاته سوف تجعل الإنسان على يقين بأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليسعده لا ليعذبه، وكلما عرف الإنسان ربه أكثر أحبّه أكثر واتقاه أكثر، كما في صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلّم “إِنَّ أتْقَاكُمْ وَأعْلَمَكُمْ بِاللهِ أنَا”. وقد سبق في علمه تعالى أن سعادة الإنسان لا تكتمل إلا أن يكون مبتلى ومختاراً لأعماله، فقد خلقه ليرتقي بالعلم ويزكوا بالعمل ويسعد بالاختيار، وأن شقاءه بأن يبقى على حال واحد كالمخلوقات الأخرى. ولا يكون هذا الرقي إلا بالمعرفة والتجربة والابتلاء، وأول المعرفة هي معرفة الإنسان نفسه ومقصد وجوده ومعرفة خالقه، فإذا علم أن الله خلقه ليهديه ويسعده، أحب الله وأطاعه واتبع صراطه المستقيم، فتحققت له بذلك السعادة، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31)} المائدة. فهذا الابتلاء هو نعمة عظيمة من الله (وللمزيد من التفصيل حول موضوع الابتلاء رحمة: أنظر سورة مريم، المبحث: 019.7.6- سياق السورة في بيان حاجة العباد لرحمة ربهم وأن الابتلاء رحمة) يرتقي به ويزكو أعلم الناس بالله، وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد رأينا عظيم درجاته وعظيم تكريم الله له في سورة الإسراء. لقد خلق الله الإنسان ليزكوا ويرتقي، لا ليبقى على حال واحد، والزكاة والرقي تبدأ بالعلم وتنتهي بالعمل، أما العلم فهو لا نهاية له كما في الآية {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109)}، أما العمل فقد ختمت به السورة {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)}، فالناس مختلفون وطبيعة خلقتهم تقتضي أن ينالوا درجاتهم بالعلم وبالعمل الصالح. والناس لا يسعدوا الا إذا عرفوا ربهم، ثم اتبعوا طريقه الذي فيه زكاتهم، وهذا يحتاج إلى التجربة والممارسة والابتلاء، فإذا بقوا على جهلهم، وغرتهم زينة الحياة الدنيا، فقد ضلّوا السبيل، وأوردوا أنفسهم موارد الهلاك. هذا ما تسعى السورة من خلال موضوعاتها والقصص والأمثلة التي فيها إلى بيانه، والله أعلم.

018.5 ملخص موضوع السورة:

ومقصدها أن الناس وُجدوا على الأرض لغرض الابتلاء بالأعمال، وأن مصيرهم يوم القيامة متوقف على هذا الابتلاء، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)}. ونجده في الآيات الثماني الأولى بأن أنزل الكتاب لينذر المشركين بأسَ الله الشديد، ويبشر المؤمنين بالأجر الحسن على الأعمال الصالحة؛ وبعد انتهاء وظيفة الأرض والاختبار، يُهلك كلّ شيء عليها ويباد. ويتكرر نفس المعنى في وسطها (الآيات 50-59)، وتختم به أيضاً في الآيات الثمانية الأخيرة: بأنّ أخسر الناس أعمالاً هم الذين ضلَّ عملهم في الحياة الدنيا وهم يظنون أنهم محسنون، وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الفردوس الأعلى في الجنة {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}. وفي الحديث الصحيح عصم من فتنة الدجال “من قرأ العشر الأواخر من الكهف”.

وتحتوي باعتبار ترتيب آياتها على مجموعتين متساويتين من الآيات (49 آية لكلّ منها)، الأولى عن الابتلاء بفتنتيّ الدين والدنيا، والثانية عن أسرار الابتلاء وخفاياه ومسبباته، ثم خاتمة (12 آية) تلخّص محتواها عن الابتلاء، كما يلي:

المجموعة الأولى (الآيات 1-49): عن الابتلاء بالدين والدنيا، تبدأ بمقدمة تثني على الله تعالى بصفات كماله، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي تفضَّل فأنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، ولم يجعل فيه شيئاً من الميل عن الحق، كتاباً مستقيماً بشيراً ونذيراً. ثمّ قصتين الأولى عن فتنة الدين والثانية عن فتنة الدنيا، ومثال يُختصر فيه حالها وسرعة زوالها، كما يلي:

الآيات (1-8) وهي مقدّمة عن أن الله هو المستحق للحمد بسب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. يستحق الحمد لأنه أنزل على عبده الكتاب، يبشر المؤمنين وينذر المشركين بأن من يؤمن ويعمل صالحاً فهو في الجنة، ومن يشرك فهو في النار. هذه الأرض وما عليها ما هي إلا زينة، جعلها الله للناس للابتلاء، لكن مصيرها الزوال بعد انتهاء وظيفتها التي خلقت لأجلها. ثمّ الآيات (9-26) وفيها قصة أصحاب الكهف وفتنة الدين: وهم فتية آمنوا بربهم، وزادهم هدى، يقابلهم قوم أشركوا وافتروا على الله الكذب، اغترّوا بقوتهم فراحوا يفتنون المؤمنين عن إيمانهم ويرجمونهم، ولكن سنة الله ثابتة ووعده حق بتولي المؤمنين وتدمير الظالمين. الآيات (27-31) يليها توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر مع الذين آمنوا، لأنهم سيفتنون عن دينهم كما فتن أصحاب الكهف، فليؤمن بالحق من شاء، وليكفر ويتبع هواه من شاء، وكلّ سينال جزاءه يوم القيامة. ثمّ الآيات (32-44) عن قصة أصحاب الجنتين وفتنة الدنيا: حيث تبين اعتزاز المؤمن بالله، وبإيمانه في وجه المال والجاه والزينة، واغترار الكافر بالدنيا واستغنائه بها عن خالقه وخالقها. فالإيمان يحتاج إلى الثقة بالله لأنه سيدخله الجنة، والصبر على الإغراءات الدنيوية لأنها طريق النار. يتبعها مثال (الآيات 45-49) عن زينة الدنيا بالنباتات التي تنموا فما تلبث أن تيبس وتموت، فكذلك المال والبنون زينة ما تلبث أن تزول، أما الباقي الصالح فهو عمل الإنسان الذي سينال عليه الأجر في اليوم الموعود.

المجموعة الثانية (الآيات 50-98): بيان أسرار الابتلاء وخفاياه ومسبباته التي فصّلها القرآن، وأخطرها خفاء مسبّباته، وجهل الإنسان بوجود أعداء له لا يستطيع إدراكهم بحواسّه. وجهله أيضاً بسنن وقوانين ربانيّة لا يفهم مغزاها، غرضها اختبارهم أيّهم أحسن عملاً. وأن يعلم ويتوكل على أن تدبير الله فوق كلّ تدبير، وأن ما يجري للناس هو بما كسبت أيديهم. وقد ضربت الآيات لذلك ثلاثة أمثال على شكل قصص، كما يلي:

الآيات (50-59) تبدأ بقصّة عداوة إبليس حين أمره تعالى بالسجود لآدم لكنه خرج عن طاعته ولم يسجد كبراً وحسداً، وتعجب من طاعتهم للشيطان وأعوانه بدلاً عن طاعة الرحمن الذي يجب أن تطاع أوامره سواء فُهم مغزاها وأسرارها أم لم يفهم. وقد وضَّح القرآن هذا للناس، ونوَّع الكثير من الأمثال، ليتعظوا بها ويؤمنوا. فكان سبب هلاكهم هو كثرة جدالهم وإعراضهم عن سماع القرآن، وطلبهم أن يصيبهم العذاب، فلم يستفيدوا من رحمته سبحانه، وإمهاله لهم، وإرساله المرسلين بالهدى، مبشرين للناس بالثواب على اتباع الحق ومنذرين لهم بالعقاب على اتباع الباطل. ثمّ الآيات (60-82) وفيها قصة موسى مع العبد الصالح، وبيان بعض أسرار الله في الابتلاء، وأن الأمور ليست على ظاهرها، بل أن هناك حكمة عظيمة تحركها، أظهر الله بعضها على يدي العبد الصالح لكي يستدل بها العباد على رحمته بعباده وكرمه، وعلى لطفه في قضائه وقدره، وأنه يقدّر على العبد أموراً يكرهها وفيها صلاح دينه كما في قتل الغلام الكافر لكيلا يفسد إيمان والديه، أو فيها صلاح دنياه كما في خرق سفينة المساكين ليحافظ عليها، وفيها يتولى الله المؤمنين وذرياتهم وأموالهم ويحفظ لهم أسباب رزقهم، كما في حفظ الكنز لأولاد الرجل الصالح. ثمّ قصة ذي القرنين (الآيات 83-98): وهو الملك الذي لم يشرك بربه، ولم تفتنه أسباب القوة والتمكين التي هي من عند الله، فلم يظلم أحداً من خلقه، بل نشر العدل وأقام الحق، وأجرى الله على يديه الكثير من الخير إلى الناس؛ وهكذا قد يمكّن الله لبعض عباده في الأرض ويعطيهم من القوة والأسباب ما يجعلهم يغيّرون الكثير من الفساد ويزيلون الكثير من الظلم، ويجعلهم سوطه المسلط على رقاب الظلمة، ورحمته المهداة إلى عباده الصالحين.

أخيراً الخاتمة (الآيات 99-110): تتحدّث عن الحساب وبيان سبب ونتائج الابتلاء، فالغرض الذي وجد من أجله الإنسان هو العبادة لله وحده لا شريك له، وأن كل إنسان على هذه الأرض مبتلى بأعماله ومحاسب عليها، فالذين ضلّ سعيهم فكفروا بآيات الله ولقائه جزاؤهم جهنّم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم الجنة. وأن الله ربّهم واحد لا حدود لكلماته، فمن أراد العاقبة وحسن الخاتمة فليعمل الصالحات ولا يشرك بربه أحداً، فالأخسرون أعمالاً هم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاّ.

أما باعتبار موضوعاتها، فإن ثلث السورة تقريباً (36 آية) يتحدث عن أسباب وجود الناس على الأرض، وفيه تفاصيل عن الابتلاء والتكليف، وعن مصير الناس يوم القيامة، وما أعده الله لهم من الثواب والعقاب جزاءً على أعمالهم في الدنيا. وثلثي عدد آياتها (74 آية) عبارة عن قصص تبين كيف يكون الابتلاء بالتكليف، وما هو المقصود منه، وكيفية تقبّل الناس له، وأمثلة تبين أن كل مخلوقات الله مأمورة بالطاعة والعبادة، وأن هذه الحياة الدنيا زائلة.

لإيضاح مقصد السورة في الابتلاء بالفتن، الذي هو من سنن الله في تمحيص أعمال الإنسان، جاء ذلك على طريقة أمثلة ودروس عمليّة حقيقية من تجارب سابقة للإنسان فكان القصص هو العنصر الغالب في السورة: ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة الجنتين، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس. وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح. وفي نهايتها قصة ذي القرنين. ويستغرق القصص معظم آيات السورة، وما يتبقى من آيات السورة هو إمّا تعليق وتعقيب على القصص فيها، أو بعض مشاهد القيامة تبين مصير الناس في الآخرة جزاءاً على أعمالهم في الدنيا.

وهي أكثر سورة تكررت فيها كلمة “صبر” ومشتقاتها (8 من أصل 95 مرّة في القرآن)، سبع منها في قصّة العبد الصالح، إشارة إلى قلّة صبر الإنسان مع أن الحياة الدنيا مؤقتة وهي دار اختبار تقتضي الصبر، أمّا دارُ القرار فهي الدار الآخرة، فإما في الجنّةِ أو في النار، فإذا انقضى غرض الابتلاء، فنيت الدنيا واستبدلت، ثمّ يؤتى بالموت ثمّ يذبح، قال صلى الله عليه وسلم: “إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ”.

وهي إحدى خمس سور بُدِئت بـ “الحمد لله” (هي: الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر) وكلها تبتدئ بتمجيد الله والاعتراف له بالكمال والجلال والرحمة بعباده، فلا يتركهم بدون وحي أو كتاب يبين لهم أنه ربهم ووكيل أمرهم. وفي الكهف يعلّمهم الثبات على دينه وعدم الخوف من الفتن التي تعترضهم في الدين ولو اضطرّوا إلى الهجرة، والاعتزاز بإيمانهم في وجه فتنة المال والجاه والزينة، والتوجّه إليه بالدعاء لكي يعصمهم من الفتن، وقد صحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلّم أنه كان يستعيذ دبر كلّ صلاة من الفتن ما ظهر منها وما بطن ومن فتنة الأعور الدجّال.

نسألك اللهمّ الثبات على الدين والصبر وحسن العمل، والاعتزاز بك والتوكّل على قدرتك وحفظك، ونعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ومن فتنة الأعور الدجال.

018.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

الآيات (1-8) الله هو المستحق للحمد بسب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. يستحق الحمد لأنه أنزل على عبده الكتاب، قيّماً يبشر المؤمنين، وينذر المشركين، أنه من يؤمن ويعمل صالحاً فهو في الجنة ومن يشرك فهو في النار. هذه الأرض وما عليها ما هي إلا زينة، جعلها الله للناس للابتلاء، ثم سيدمرها بعد أن تنتهي وظيفتها التي خلقت لأجلها.

الآيات (9-26) قصة أصحاب الكهف وفتنة الدين: وهم فتية آمنوا بربهم، وزادهم هدى، يقابلهم قوم أشركوا وافتروا على الله الكذب، اغتروا بقوتهم فراحوا يفتنون المؤمنين عن إيمانهم ويرجموهم. ولكن سنة الله ثابتة ووعده حق بتولي المؤمنين وتدمير الظالمين.

الآيات (27-31) توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر مع الذين آمنوا، لأنهم سيفتنون عن دينهم كما فتن أصحاب الكهف، فليؤمن بالحق من شاء منهم، ومن شاء فليكفر ويتبع هواه، وكلّ سينال جزاءه يوم القيامة.

الآيات (32-44) قصة أصحاب الجنتين وفتنة الدنيا: حيث تبين اعتزاز المؤمن بالله، وبإيمانه في وجه المال والجاه والزينة. واغترار الكافر بالدنيا واستغنائه بها عن خالقه وخالقها. فالإيمان يحتاج إلى الثقة بالله لأنه سيدخله الجنة، والصبر على الإغراءات الدنيوية لأنها تؤدي إلى النار.

الآيات (45-49) مثال عن زينة الدنيا بالنباتات التي تنموا فما تلبث أن تيبس وتموت. فالمال والبنون كذلك زينة ما تلبث أن تزول، أما الباقي الصالح فهو عمل الإنسان موضع التكليف والابتلاء والذي سينال عليه الأجر في اليوم الموعود.

الآيات (50-59) بيان سنة الله في إهلاك الظالمين حيث لم يستفيدوا من رحمته سبحانه، وإمهاله لهم بعد إرسال الرسل والآيات.

الآيات (60-82) قصة موسى مع العبد الصالح. وفيها بيان بعض أسرار الله في الابتلاء، وأن الأمور ليست على ظاهرها، بل أن هناك حكمة عظيمة من خلفها تحركها.

الآيات (83-98) قصة ذي القرنين: وهو الملك الذي لم يشرك بربه، ولم تفتنه أسباب القوة والتمكين التي هي من عند الله. فلم يظلم أحداً من خلقه، بل نشر العدل وأقام الحق، وأجري الله على يديه الكثير من الخير إلى الناس.

الآيات (99-108) قد جعل سبحانه يوم لحساب الناس على أعمالهم. الذين ضل سعيهم فكفروا بآيات الله ولقائه فجزاؤهم جهنم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات فجزاؤهم الجنة.

الآيات (109-110) الله واحد لا حدود له ولا لكلماته، فمن أراد العاقبة وحسن الخاتمة فيعمل الصالحات ولا يشرك بربه أحداً. الأخسرين أعمالاً هم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاّ.

018.7 الشكل العام وسياق السورة:

018.7.1- سورة الكهف هي إحدى سور خمس بُدِئت بـ “الحمد لله” وهذه السور هي: الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر. وكلها تبتدئ بتمجيد الله جل وعلا وتقديسه والاعتراف له بالعظمة والكبرياء والجلال والكمال.

أسم السورة (الكهف) كالملجأ لمن يلجأ اليه، واعتزال الكفار والصبر والهجرة كإطار عامّ للحفاظ على الإيمان والدين.

وقد ذكرت السورة أنواع الفتن التي تمر بالمرء، إذ ذكرت فيها الفتنة في الدين في قصّة الفتية، وفتنة الجلساء في قوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه}، وفتنة المال في قصّة أصحاب الجنتين، وفتنة العلم في قصّة موسى والخضر، وفتنة السلطان في قصّة ذي القرنين، وفتنة القوّة والكثرة في خبر يأجوج ومأجوج، وذكرت السورة المخرج من كلّ واحدة من هذه الفتن، فكأنها كهف لمن اعتصم بها من الفتن: وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف عصم من الدجّال”.

بدئت السورة بـ {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} بشارة للمؤمنين وإنذاراً للكافرين، وختمت ببشارة من يثبت ويسلّم بوحدانية الله عز وجل ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، فهذا هو الذي يرجو لقاء الله.

018.7.2- قراءة سياق السورة باعتبار موضوعات الآيات فيها:

لقد قمنا بإعادة ترتيب الآيات بغرض قراءة سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها، فوجدنا أن السورة تنقسم إلى مجموعتين من الآيات، كما يلي:

– ثلث السورة تقريباً (36 آية) يتحدث عن أسباب وجود الناس على الأرض. وينقسم هذا الثلث أيضاً إلى نصفين متساويين، فيه 18 آية تتحدث عن موضوع التكليف، و 18 آية تتحدث عن مصير الناس يوم القيامة، وما أعده الله لهم من الثواب والعقاب جزاءاً على أعمالهم في الدنيا.

– ثلثي السورة تقريباً فيه 70 آية عبارة عن قصص تبين المقصود من التكليف وكيفية تقبل الناس له، و 4 آيات فيها أمثلة تبين أن كل مخلوقات الله مأمورة بالطاعة والعبادة، وأن هذه الحياة الدنيا زائلة. وهذه الآيات هي كما يلي:

018.7.2.1- أسباب وجود الإنسان على الأرض (وهو مقصد أو موضوع السورة الرئيسي): الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليبتليه بالأعمال. الله خالق الأسباب وهو مسببها. كل ما في الكون هو آية من آيات الله تدل على أنه لا شريك له وأن كل ما في الحياة هو من عدله وحكمته وعلمه. أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن كتاب هداية وجعل فيه البيان الواضح المؤيد بالقصص والأمثلة على أن الغرض من خلق الإنسان هو الابتلاء بالأعمال (كما صرحت به الآية 7)، فمن يؤمن ويعمل صالحاً فهو في الجنة ومن يشرك ففي النار. ولأن العمل الصالح يحتاج إلى جهد ومخالفة للشهوات فقد كرهه الإنسان، ولم يتبعه. كما أرسل سبحانه المرسلين بالهدى، مبشرين للناس بالثواب على اتباع الحق والعمل الصالح ومنذرين لهم بالعقاب على اتباع الباطل وعلى شركهم وكفرهم، ولكن أكثرهم أعرضوا فلم يهتدوا. وقد كان مصير كل الأمم الهلاك بسبب ظلمهم وشركهم. (الآيات 1-8، 27، 28، 54-59، 109، 110) = (18 آيه).

018.7.2.2- مصير الناس يوم القيامة من الثواب والعقاب وما أعده الله لهم جزاءاً على أعمالهم التي أحصاها لهم في الدنيا: الآيات فيها وصف ليوم القيامة وما فيه من إقامة العدل وإحقاق الحق، ووصف للحشر والآخرة وأحوالها وأهوالها وما أعده الله للناس من الثواب والعقاب. (الآيات 29-31، 47-49، 52، 53، 99-108) = (18 آيه).

018.7.2.3- القصص التي احتوتها السورة: (70 آية).

018.7.2.3.1- قصة أصحاب الكهف: وفيها بيان عناية الله ورحمته بعباده المؤمنين وإرشادهم وربطه على قلوبهم إلى ما فيه هداهم وصالح أعمالهم، وحمايتهم من الكفرة المشركين حتى لا يعيدوهم في ملتهم. إنه من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له. (الآيات 9-26) = (18 آية).

018.7.2.3.2- قصة أصحاب الجنتين: وفيها بيان ولاية الله لعباده المؤمنين واعتمادهم على مدده ونصره في طلب الخير والقوة. وعقابه للمشركين وجعلهم عبرة بسلب النعمة منهم بعد أن كفروا بمن أنعمها عليهم وتركهم لشركائهم لعلهم ينصرونهم من دون الله، ولن يفعلوا. (الآيات 32-44) = (13 آية).

018.7.2.3.3- قصة موسى عليه السلام مع العبد الذي آتاه الله رحمة وعلماً: فهو يسعى بذلك بأمر الله، يطبّق رحمته وعلمه على خلقه. ونتعلم من قصته أنه ما من شيء يحصل على هذه الأرض إلا بسبب يوجب حصوله، لكن قلة علم الناس تجعلهم يكفرون جهلاً وعدواً واعتراضاً على عدل الله ورحمته وحكمته وتقديره. (الآيات 60-82) = (23 آية).

018.7.2.3.4- قصة ذي القرنين وبيان أن الله خالق الأسباب ومسببها ومذللها، وأن كل ما أوتيه الإنسان من إمكانيات وقدرات على فعل الأسباب فهو برحمة من الله وبتمكين منه. (الآيات 83-98) = (16 آية).

018.7.2.4- يضرب الله سبحانه للناس مثلين عن إنبات الزرع بالماء ثم يصبح هشيماً وعن أمر الملائكة بالسجود لآدم، يبينان أن كل مخلوقات الله مأمورة بالعبادة والطاعة لله وحده، وأن الحياة الدنيا زائلة ولا يبقى إلا العمل الصالح. وأن ولاية المؤمنين لا تكون إلا لله، وما دون الله من المشركين والفساق فهم أعداء لهم مضلين. (الآيات 45، 46، 50، 51) = (4 آيات).

018.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

018.7.3.1- آيات القصص: (6-28، 32-44، 60-98) = 75 آية.

018.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (29-31، 47-49، 52، 53، 99-108) = 18 آية.

018.7.3.3- الأمثال في الآيات: (45، 46، 50، 51، 54-59، 109) = 11 آية.

018.7.3.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: 0 آية.

018.7.3.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-5، 110) = 6 آيات.

018.7.4- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:

بتأمل سياق السورة حسب ترتيب آياتها نجد أنها ابتدأت بمقدمة فيها بيان أن الله سبحانه خلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وجعل سبحانه ما على الأرض لهذا الابتلاء. وسنجد أن الابتلاء سيكون بفتنة الدين، وبالمال، وبالمكاره، وبالقوة والملك وتذليل الأسباب. ثم احتوت السورة بعد المقدمة على أربعة من القصص العجيبة، تبين عظمة الإيمان والعمل الصالح في حياة الإنسان، إذ بهما وبسببهما لا يبالي بما سوى الله، فلا تغرره زينة في الحياة ولا ترده عن سبيل الهدى فتنة. وبعد كل قصة يأتي التعليق الذي يبين كم هو مفيد ورائع العمل الصالح لحياة الناس، وكم هو ضار ومهلك الكفر والشرك في حياتهم. ونفهم من القصص أيضاً قصر نظر الإنسان وأنه في كثير من الأحيان قد يسيء إلى نفسه حين يرى الصورة من حوله ناقصة، بمحاولته تجهم فهم مالم يحط به خبراً، لأن الكثير من التفاصيل والأحداث الخفية عنه لم يرها بسبب محدودية معرفته وخبرته، وضعف إمكانياته.

قصة أصحاب الكهف، وقصة الرجلين أصحاب الجنتين، والخضر، وذي القرنين. أقوام نصحوا الله فناصحهم، عرفوا الحق لصاحبه فهداهم، أمنوا به فحماهم وتولى أمرهم. فالأسباب هي ليست كل ما نراه، بل من الأسباب بل وأكثرها هو مالا نراه. الأسباب التي يراها الناس العاديين هي المرئية والمسموعة والمحسوسة بحواسه الخمسة نتائجها هزيلة. أما الأسباب التي يجريها خالق الأسباب لعباده المؤمنين الصالحين المحسنين في أعمالهم فنتائجها عظيمة معجزة تحمي لأصحاب الكهف دينهم وإيمانهم وسط بحر من الكفر والشرك، وتزيدهم إيماناً وهدى فلا تغريهم ولا تفتنهم كثرة ملة الظلم وتسلطهم، وتفني الجنة التي ظن صاحبها أنها لن تبيد أبداً حتى تكون الولاية لله الحق ولا يفتتن بها فيشرك المؤمنون، وتحفظ للأب الصالح أولاده بعد موته فلا يقلق على ذريته، وتفني للأبوين المؤمنين ابنهما المفسد فلا يرهقهما، وتحفظ للمساكين سفينتهم، وتصنع المعجزات والخوارق وتقيم الحق على يدي ذي القرنين.

ها هي الأسباب الحقيقية، إنها أسباب خالق السماوات والأرض وما بينهما وخالق الأسباب، الذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون. فلماذا أحدهم مريض والآخر فقير، أو فلان فقير والآخر غني ولماذا هذا أسود وذاك أبيض، أو هذا عربي والآخر أعجمي، الجواب نجده عند الواحد الذي لا شريك له حين يتدخل لرفع أولياءه، ووضع أعداءه.

018.7.4.1- (الآيات 1-8): {الحمد لله}: هو المستحق للحمد بسب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد، حمداً غير مقيد بزمن معين، ولا بفاعل معين، بل هو مستمر ثابت غير منقطع. يستحق الحمد لأنه أنزل على عبده الكتاب، قيّماً يبشر المؤمنين، وينذر المشركين، أنه من يؤمن ويعمل صالحاً فهو في الجنة ومن يشرك فهو في النار. هذه الأرض وما عليها ما هي إلا زينة، جعلها الله للناس للابتلاء، لكن مصيرها أنه سيدمرها بعد أن تنتهي وظيفتها التي خلقت لأجلها.

018.7.4.2- (الآيات 9-26): إنه من يؤمن ويطع الله ويتبع آياته يتولاه الله، ويهديه إلى سبل النجاة والنجاح والفلاح في هذا الابتلاء الذي كتبه الله عليه. أما من يتخذ من دون الله آلهة، فلن تنقذهم هذه الآلهة التي اتخذوها ولن تتولاهم ولن ترشدهم إلى الصواب، وسيهلكهم الله هم وآلهتهم. هذا المعنى جعله الله سبحانه في قصة أصحاب الكهف، وهم فتية آمنوا بربهم، وزادهم هدى، يقابلهم قوم أشركوا وافتروا على الله الكذب، اغتروا بقوتهم فراحوا يفتنون المؤمنين عن إيمانهم ويرجموهم. ولكن سنة الله ثابتة ووعده حق بتولي المؤمنين وتدمير الظالمين. هذه القصة تريد من الإنسان أن يسأل نفسه ماذا سيحصل بعد جيل أو بعد عدد من السنوات، وهل سيظل الحال على ما هو عليه الآن أم أن الله سيغيره. والجواب أن الله يغير الأحوال ويجعل الغلبة في النهاية لعباده المؤمنين.

018.7.4.3- (الآيات 27-31) هذه الآيات توضح الدرس المستفاد من القصة السابقة. أن على الإنسان أن يتبع هدى الله سبحانه، ولا يغتر بزينة الحياة الدنيا، وأن يعلم أن هدى الله إلى دينه هي من أعظم نعم الله على الإنسان، وأن يصبر نفسه مع أهل الحق وهم المؤمنين، لأن أجرهم الجنة. وألا يطيع أهل الباطل وهم الذين كفروا، لأن مصيرهم النار.

018.7.4.4- (الآيات 32-44) هذا من الناحية الدينية فالله هو الهادي (نعمة الهداية إلى الدين)، أما من الناحية الدنيوية (نعمة الحياة والرزق) فالله هو الخالق، وقد جعل الحياة زينة للابتلاء، وسوف يزيلها من الوجود كما خلقها أول مرة. الولاية يجب أن تكون لله والتوكل عليه وليس على غيره من عزة النّفر (الخدم والحشم والشركاء) والشركاء، الأمان بالله وليس بالأموال أو الزرع أو الدنيا، لأنها كلها مخلوقه ولله هو خالقها. فلا تشرك أيها الإنسان بالذي خلقك من تراب ثم سوّاك رجلاً.

018.7.4.5- (الآيات 45-49) من الأمثلة السريعة المتكررة عن زينة الحياة الدنيا وأنها زائلة، يتمثل بالنباتات التي تنموا فما تلبث أن تيبس وتموت. فالمال والبنون كذلك زينة ما تلبث أن تزول، أما الباقي الصالح فهو عمل الإنسان موضع التكليف والابتلاء والذي سينال عليه الأجر في اليوم الموعود الذي لا ظلم فيه.

018.7.4.6- (الآيات 50-59) ما هو الابتلاء في هذه السورة: هو تكليف من الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته، لحكمة يعلمها ولا نعلمها، أراد لبعض مخلوقاته أن تختار ما بين إطاعة أوامره التي هي خير كلها، أو عصيان أوامره الذي هو شرّ كله. أمر الملائكة وأمر الجن والإنس وغيرها مما نعرفه ومالا نعرفه من المخلوقات. جعل للإنسان الخيار باتباع الحق الواضح الذي نزل في القرآن مؤيد بكل الأمثلة (التي توضح الحلال والحرام وجزاء الأعمال الصالحة، التي حفّت بالمكاره)، واجتناب الباطل (الذي حفّ بالشهوات) والذي هو من صنع الإنسان، وصنع عدو الإنسان الشيطان. كما في قصة إبليس، إذ كره اتباع أمر الحق له بأن يسجد لآدم تكبراً واعتقاداً منه بأن النار خير من الطين، وغرّه إعجابه بهذه النعمة التي أنعم الله عليه بها وهو أنه خلق من النار الذي هو خير من الطين. وغاب عنه أن أسرار الله في خلقه لا تقاس بهذه الطريقة (كما سيأتي بيانه في قصة موسى عليه السلام مع العبد الذي آتاه الله علماً). فأوامر الله يجب أن تطاع سواء فهمنا مغزاها وأسرارها أم لم نفهم. في حال الإنسان، فقد أرسل سبحانه المرسلين بالهدى، مبشرين للناس بالثواب على اتباع الحق والعمل الصالح ومنذرين لهم بالعقاب على اتباع الباطل وعلى شركهم وكفرهم. وكذلك فالله سبحانه وتعالى أنزل القرآن كتاب هداية وجعل فيه البيان الواضح المؤيد بالقصص والأمثلة على أن الغرض من خلق الإنسان هو الابتلاء بالأعمال (كما صرحت به الآية 7). ولأن العمل الصالح يحتاج إلى جهد ومخالفة للشهوات فقد كرهه الإنسان. وفي المقابل اتخذ الناس بجهلهم العدو إبليس وذريته أولياء من دون الله، فهو يضل الناس ويزين لهم سوء أعمالهم. فأعرض أكثرهم ولم يهتدوا.

018.7.4.7- (الآيات 60-82) الأسباب الرئيسية (الأساسية) لإعراض الناس عن الحق وعدم اتباعهم الهدى، هي جهل سبب وجودهم وسر الله في خلقهم وبالتالي الاعتراض على حكم الله، ثم العجلة والرضى بالمكسب البسيط السريع والسهل والزهد بالمكسب العظيم لبعده، ثم ظلم الإنسان لنفسه باتباع الشيطان وجعله وليه وهو له عدو. لذلك على الإنسان أن يتعلم الرشد والصواب، ويعرف حكمة الله في خلقه وأن يبذل في سبيل ذلك الوقت والجهد. وعليه أن يواصل التعلم حتى يعرف فيصبر على قدر الله فيه وما يرى أنه مكره عليه، لأن التكليف يحتاج إلى الصبر والمجاهدة، فقد حف بالمكاره كما حفت المعاصي بالشهوات.

إن هذه الأمور التي أجراها الله على يدي العبد الصالح هي من قدره، جعلها لكي يستدل بها العباد على رحمته بعباده وكرمه، وعلى لطفه في قضائه وقدره. وأنه يقدّر على العبد أمورا يكرهها، وهي صلاح دينه، كما في قضية الغلام، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة. كذلك فوائد الإيمان عظيمة حتى في الدنيا، فإن الله يتولى المؤمنين وذرياتهم وأموالهم ويحفظ لهم أسباب رزقهم، كما في القصص فقد حافظ على سفينة المساكين وقتل الغلام الكافر لكيلا يفسد إيمان والديه، وحفظ الكنز لأولاد الرجل الصالح.

018.7.4.8- (الآيات 83-98) وقد يمكّن الله لبعض عباده في الأرض ويعطيه من القوة والأسباب ما يجعله يغيّر الكثير من الفساد ويزيل الكثير من الظلم. فقد يجند الله للحق بعض أولياءه، ويمكنهم في الأرض لتنفيذ أحكامه، وقد يرزقهم ويجعل لهم بسبب علو همتهم وقوة إيمانهم، ما يمكنهم من تغيير الباطل وإقامة الحق. ومثل هؤلاء العباد فقد نسبوا لصاحب الحق حقه، لم يشركوا بربهم، ولم يظلموا أحداً من خلقه، بل نشروا العدل وأقاموا الحق، فكانوا بذلك عباداً مؤمنين يعملون الصالحات، وصالحين مصلحين في الأرض كما أمر الله، جعلهم سوطه المسلط على رقاب الظلمة، ورحمته المهداة إلى عباده الصالحين. فهذا ذي القرنين كان عبداً ناصحاً لله فناصحه. والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً، أجرى الله على يديه الكثير من الخير إلى الناس.

018.7.4.9- (الآيات 99-108) يوم الحساب: تؤكد هذه الآيات الغرض الذي وجد من أجله الإنسان، وهو العبادة لله وحده لا شريك له وأن كل إنسان على هذه الأرض مبتلى بأعماله، وقد جعل يوم لحساب الناس على أعمالهم. الذين ضل سعيهم فكفروا بآيات الله ولقائه فجزاؤهم جهنم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات فجزاؤهم الجنة.

018.7.4.10- (الآيات 109-110) الله واحد لا حدود له ولا لكلماته، يدعو عباده إلى العمل الذي يقربهم منه، وينيلهم ثوابه، ويدفع عنهم عقابه. فكيف بالإنسان المحدود لا يطيع هديه، بل ويعترض على مالا علم له به ويتبع الآلهة المخلوقة المحدودة في المكان والزمان والكيان.

018.7.5- سياق السورة باعتبار سبب النزول:

لقد أنزلت هذه السّورة لتجيب عن ثلاثة أسئلة سألها مشركي مكّة بالتعاون مع أهل الكتاب بغرض إحراج النبيّ عليه السّلام، واختبار مدى قدرته على معرفة الغيب. وهي من تاريخ اليهود والنصارى ولم يكن يعلمها أهل الحجاز. سألوه عن أهل الكهف وعن قصّة الخضر وعن ذي القرنين. فأجاب عنها القرآن بإجابات كاملة ردّت كيدهم في نحرهم حين وظّفها الله سبحانه لغير صالح سائليها كما يلي:

لقد قيل للسائلين بأنّ أهل الكهف آمنوا بنفس دين التوحيد الذي جاء به القرآن، وأنهم واجهوا نفس ظروف الظلم التي يواجهها الآن المسلمون في مكّة. ومن ناحية أخرى قيل لهم بان الظّلمة الذين اضطهدوا أهل الكهف تصرّفوا بنفس اسلوب الاضطهاد الذي يمارسه حاليّاً كفار قريش مع المسلمين. من قصّة أهل الكهف تعلّم المسلمون أن عليهم الثبات على دينهم ولو اضطرّوا إلى الهجرة. أمّا أهل مكّة فأخبروا بقدرة الله على إحياء الموتى التي يكفرون بها كما أحيا أهل الكهف {أنّ وعد الله حقّ وأن الساعة لا ريب فيها (21)}. وفيها إنذار لزعماء مكّة لاستضعافهم للفئة القليلة المسلمة. وتوجيه للرسول عليه السلام ألا يعطي أهميّة كبيره للظلمة على حساب المؤمنين الضعفاء {اصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه (28)}. وتلتها قصّة أصحاب الجنتين لتبيّن كيف يعتزّ المسلم بإيمانه في وجه المال والجاه والزينة، وهي أيضاً إنذار لقريش بأنهم لن ينتصروا بكفرهم هذا {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً (43)}.

أمّا قصّة الخضر مع موسى: ففيها إجابة على سؤال الكفّار وطمأنة للمؤمنين: أنّ كل ما نراه حاصلا لابدّ أن لله سبحانه وتعالى حكمة وراءه، قد نعلم أو لا نعلم هذه الحكمة، لكن علينا أن نؤمن بتدبير الله لظروف حياتنا وبعلمه اللامحدود بمصلحتنا {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً (109)}.

وأمّا قصّة ذي القرنين، فهي أيضاً إنذار لزعماء مكّة فهو لم يغترّ بِ {زينة الحياة الدنيا (28)} ولا بقوّته بل {قال هذا من رحمة ربّي (98)}.

في نفس الوقت الذي أجاب به القرآن الإجابة الكاملة على أسئلة الكفّار وردّه كيدهم في نحرهم، قام أيضاً في نهاية السورة كما حصل في بدايتها ببيان أنّ التوحيد والآخرة هما حقيقتان علينا أن نؤمن بهما وأن نعمل صالحاً، وأنّ هذه الدار دار ابتلاء {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً (7)}، وأنّ وعد الله حقّ.

 

018.7.6- سياق السورة باعتبار قضاء الله وقدره:

قال صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه” رواه الترمذي.

الشيء المشوق في السورة أنها تعطي جواباً قاطعاً لكل من له سؤال حول ظروف معيشته، والإمكانيات التي أعطيت له من صحة أو مال أو ممتلكات. تجيب الناس بأنه ما في الإمكان أحسن مما كان، وأن كل ما يحصل عليه أي شخص هو أنسب شيء له في حياته الدنيا، وفيه ما فيه صالحة حسب الظروف والمقومات المحيطة. الفقير والغني والمحروم والمعطى يوجد سبب لما هو فيه من الفقر أو الغنى أو الحرمان أو الإعطاء. هذا كله ابتلاء من الله لكي يميز بين الناس بالأعمال فعلى الإنسان أن يؤمن ويعمل صالحا، كما أمرت به الآيات من السورة (آية 2، 30، 88، 107، 110).

أنت أيها الإنسان، مبتلى بوجودك، سواء كنت ذكر أو أنثى، عربي أو أعجمي، أسود أو أبيض أو اصفر، فقير أو غني، حاكم أو محكوم، إلخ، وأنت مبتلى بالعمل والعبادة، مجبر على الحياة بدون سابق اختيار، ومختار لبعض الأعمال التي تحدد مصيرك، أنت بين الجبر والاختيار ولا تعرف كيف أو لماذا، كيف المزج بين الجبر والاختيار، هو كله من أمر الله سبحانه وهو من الأسرار التي يعجز عن فهمها الإنسان كعجزه عن فهم ماهية روحه، كلها من علم الله وأمره، القضاء والقدر من علم الله. أنت أيها الإنسان لا تعلم (لا تعرف) لماذا خلقك الله. أنت أيها الإنسان تخطيء وتصيب لقلة علمك وجهلك بأسرار وجودك. علم الله واسع لا حدود له، لا يكفي لكتابته (كلماته) مداد البحر. عليك أن تصبر على حكمة الله في إيجادك، حتى تصل نهاية الطريق وترى النتيجة، لا مفر من السير والحياة، ولا من العمل والرجاء. العلم درجات. هكذا تعلمنا السورة أنه حتى موسى عليه الصلاة والسلام، وهو من أولي العزم من الرسل، كان ينقصه الكثير من المعرفة عن أسرار الابتلاء ووجود الإنسان، فقد تعلم من العبد الذي آتاه الله من لدنه علماً. أن القدر سر الله في خلقه.

أنظر أيضاً في كتاب مقدمة تسهيل فهم القرآن: المبحث 8.1.4- القضاء والقدر؛ والمبحث 7.3.7- تكامل الأسباب المادية والمعنوية.

018.7.7- سياق السورة باعتبار أن الله سبحانه جعل الأرض للابتلاء، أرسل به الرسل، وأنزل به الوحي والكتاب:

إن الله رحيم بعباده يبتليهم بالفتن ليعلموا أنه لا وكيل لهم دونه وأنه لا إله إلا هو وأنه يفعل ما يشاء. يبتلي سبحانه الناس بالفتن ليمحّص بذلك اعتقادهم ويصحح طريقة تفكيرهم ونظرتهم للأمور، ويصحح قيمهم لتوزن بشرعه القويم الذي في الكتاب. فهو سبحانه لا يتركهم هملاً، بدون بيان لأسباب نجاتهم وسبل سلامتهم. أي أنه سبحانه بين أنه يريدهم موحدين لا مشركين، مسلمين لأمره مهاجرين إليه، متّكلين على علمه الذي لا ينتهي، وحكمته، وتدبيره، وأن أعمالهم صالحة وعلى شرعه ومنهاجه. وذلك كما يلي:

018.7.7.1- بيان أن الله سبحانه يستحق الحمد لإنزاله الكتاب. يبين لهم أن من رحمته بعباده أن يبتليهم بالفتن.

018.7.7.2- يصحح فيه إيمان الناس بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له. ولم يتركهم بدون بيان بل أنزل به الوحي {قل: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)}.

018.7.7.3- ويصحح فيه فكر الإنسان ونظرته للأمور وذلك باستنكار دعاوى المشركين الذين يقولون ما ليس لهم به علم، والذين لا يأتون على ما يقولون ببرهان، {ما لهم به من علم ولا لآبائهم (5)}، {لولا يأتون عليهم بسلطان بيّن (15)}.

018.7.7.4- وتوجيه الإنسان إلى أن يحكم بما يعلم ولا يتعداه، وما لا علم له به فليدع أمره إلى الله.

018.7.7.5- ويصحح القيم: حيث يردها إلى الإيمان والعمل الصالح، ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية، فكل ما على الأرض من زينة إنما جعل للابتلاء والاختبار، ونهايته إلى فناء وزوال {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا (7)، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8)}.

018.7.7.6- العبر المستفادة من القصص في السورة: هي أن الإنسان لا يعلم أن هذه الأرض وما عليها من زينة خلقت له للابتلاء، فجاءت القصص في السورة لتبيّن هذه الحقيقة وتوضّح سنن الله في الابتلاء، وذلك عن طريق ضرب الأمثال وبدروس عملية حقيقية عن الفتن بالدين والمال والعلم والسلطة، ومن ثم بيان العلاج الأمثل لهذه الفتن وأسلوب مواجهتها: وأهم علاج هو الصبر {واصبر نفسك (28)}، وعدم الشرك {لكنّا هو الله ربّي ولا أشرك بربّي أحداً (38)}، التوكل على الله وطلب ما عنده، فثواب الله خير {والباقيات الصالحات خير عند ربّك تواباً وخير أملاً (46)}، عدم موالاة الشيطان {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني، وهم لكم عدو، بئس للظالمين بدلا (50)}، أخذ العبرة من التاريخ بأن الناس لا تؤمن إلا أن يأتيهم العذاب {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين، أو يأتيهم العذاب قبلا (55)}، وتعلم علم الله {فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (65)}، وأن لا يسعوا في الضلال {قل: هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104)}، العمل الصالح وعدم الإشراك {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (104)}. ومن الجدير بالملاحظة أن هذه علاجات لأمراض وآفات جاء تفصيلها في سورة الإسراء، أنظر: 017.7.6- أسباب عدم توكّل الناس على الله وعدم طاعتهم.

018.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

018.8.0- تناسب السّور من الأعراف إلى الكهف في الربع الثاني من القرآن:

مقصد الربع الثاني من القرآن هو البيان العملي لطريق الهدى إلى الصراط المستقيم، بعد أن تمّ في الربع الأول البيان النظري، وفيه اثنتا عشرة (12) سورة (هي: الأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل والإسراء والكهف) في مجموعتين من ست (6) سور لكلّ منهما، بدأ ببيان طريق الهدى ثمّ بيان نعمة الهدى ونعم الله التي لا تحصى، كما يلي:

018.8.0.1- بيان طريق الهدى بدأ بثلاث سور هي: الأعراف: تعرّف بالقصص عن هلاك الأولين وأخبارهم وتجاربهم على طريقيّ السعادة (أي الإسلام) والشقاء، ثمّ الأنفال: عن قصة المؤمنين مع الأنفال والتوكّل على الله والرضا بتدبيره (أي الإيمان)، ثمّ التوبة: فضح الكفار والمنافقين والدعوة إلى الاستقامة ومراقبة الله في اتباع الدّين (أي الإحسان)، تبعتها ثلاث أمْثلة على هذا البيان العملي لطريق الهدى في ثلاث سور هي: يونس: وعنوانها قصّة قوم يونس عليه السّلام الذين تداركوا أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم، فثابوا إلى ربّهم وفي الوقت سعة، أي آمنوا جملة بعد تكذيب فكشف عنهم العذاب، ثمّ هود: ذكرت قصص سبعة من الرسل أرسلوا إلى أقوامهم وأمروهم بالعبادة لله وحده، مالهم من إله غيره، ثم كيف أن الغالبية العظمى من هؤلاء الأمم لم يؤمنوا بل استكبروا، وأصرّوا على اتباع الهوى وتقليد عبادة الآباء، إلى أن أهلكهم الله، واستبدل بهم قوماً غيرهم، ثمّ يوسف: قصّة عناية الله التي أحاطت بيوسف عليه السلام بعد أن أخرج من حضن أبيه فأصبح لا يساوي دراهم معدودة وواجه الابتلاءات كلّها بثبات على الحق وحُكمِه لينتهي به الأمر بعد ذلك إلى النصر والتمكين والسّلطان المطلق المتصرّف بأقوات الناس ورقابهم.

018.8.0.2- بيان نعمة الهدى إلى الصّراط المستقيم ونعم الله التي لا تحصى بدأ بثلاث سور هي: سورة الرّعد: تعرّف على نعمة الحق الذي في الكتاب، قال تعالى: {المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)} باشتماله على نعمة معرفة صفات الله، وخلقه، وتدبيره، وتقرير وحدانيّته، ورسالته، والبعث والجزاء، وآياته في جميع خلقه، ونعمه عليهم، وبديع صنعه وتسخيره وتدبيره، وقال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)} يخاطب حواسّ الإنسان بما تلمسه وتراه بالتجربة، فيعلم علم اليقين بوعد الله ويسلم لأمره، وقال: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)} يتفكرون بعقولهم، وقال: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)} يعقلون بقلوبهم، فالعلم والإيمان والاختيار تمّ بكل الأدوات: الفكر والعقل والجوارح، ثمّ سورة إبراهيم: نعمة الكتاب الذي هو القرآن النور المبين لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)}، خاطب القلب ليختار الحق والإيمان فيفوز في الدنيا والآخرة، فإن لم يفعل يُستبدل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)}، ثمّ سورة الحجر: نعمة الآيات والبيان، قال تعالى: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1)} ومقصد السورة بيان أن الله هو الأمان، وهو الحافظ والرازق في الدنيا وفي الآخرة، حَفظ القرآن وحفظ السماء وحفظ العباد من الشيطان وحمى الرسول صلى الله عليه وسلّم وأمّن المعيشة والأرزاق وسقاهم الماء وعنده خزائن كل شيء، وأنّ الأمن الذي ينشده الناس لا يأتي إلا من عند الله، وليس من البيوت التي ينحتونها، هذا نعيم في الدنيا، والأمان والسلام الخالد الحقيقي هو الذي ينتظرهم في الجنة {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46)}، عندئذ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}، وأن الغرض من خلق الإنسان ووجوده على الارض هو العبادة واتّباع الحق، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}.

أعقبها ثلاث سور هي أمْثلة على نعم الله التي لا تحصى ونعمة الهدى والصّراط المستقيم: ففي سورة النّحل: يشير اسمها إلى نعمة اتخاذ النّحل البيوت واتباع سبل الله تعالى فتحصل الفوئد العظيمة لها وللنّاس، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}، كذلك نعمة اتباع النّاس هدى الإسلام، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)}، وهكذا ركزت بأمثلتها على نعم الله وآيات خلقه وهديه وتسخيره، ثمّ سورة الإسراء: يشير اسمها إلى عظيم تكريم الله للإنسان ممثّلاً بالإسراء بالرّسول صلّى لله عليه وسلّم ليرى من آيات ربّه الكبرى، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}، وتكريمه في البرّ والبحر والرزق والتفضيل على المخلوقات بحمله الأمانه، وبالعبادة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} حتى جعله خير مخلوقاته، فكان التركيز فيها على تثبيت المؤمنين بإظهار نعمه عليهم وتكريمهم وهدايتهم وعصمتهم من الفتن ما داموا مؤمنين به ويتوكلون عليه، ثمّ سورة الكهف: واسمها يشير إلى نعمة عناية الله بأولياءه المحسنين ممثلة بقصّة أصحاب الكهف المسمّاة باسمهم، وكذلك بالقصص عن والجنتين، وآدم وإبليس، وموسى مع العبد الصّالح، وقصّة ذي القرنين، وركّزت على العمل والتجربة والأخذ بالأسباب لبيان أنه سبحانه جعل الأرض للابتلاء بالفتن والنعم، مع بيان أسباب النجاة، ومصير الناس يوم القيامة، ليعلموا أنه لا وكيل إلا الله، وأن لا إله إلا الله، وهو الملجأ والمنعم، وأنّ وعده الحق، وأنه يفعل ما يشاء، فمن كان يرجو لقاء ربّه وأراد النّجاة فليعمل العمل الصّالح، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}.

وهكذا علمنا أن سورة الرعد أظهرت نعم الله وفضله وآياته وتدبيره، وسورة إبراهيم رسالات الله ونوره ووحيه، وسورة الحجر بيانه وحفظه ورزقه وعمله فيهم، ثمّ أمثلة بينت في سورة النحل نعم وآيات وسورة الإسراء رسالات وسورة الكهف عمل وتجربة.

018.8.1- قد يتساءل المؤمن الذي قرر الاتكال على الله، لماذا لا يكرمني الله كما وعد في سورة الإسراء؟ والحقيقة أن الله خلق الإنسان ليكرمه، وخلقه ليبتليه بالعمل، وبما أكرمه به من النعم، أيشكر أم يكفر. فكل أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب هو خير محض فيه مصلحة الإنسان وأمنه وصلاحه وحفظ حقوقه، ويستفيد منه في الدنيا ثم بعد ذلك (وهو الأهم) يسعد به في الآخرة كما جاء تفصيله في سورة الإسراء. أما نصيبه من الدنيا فهو أيضاً خير محض. لكن الإنسان بسبب قلة علمه ومحدودية مداركه قد يجهل الحكمة وراء ما يحصل في حياته من الأحداث، فقد يموت له ولد أو يخسر مالاً أو يفقد متاعاً، وهذا في ظاهره شر، لكن من سورة الكهف والقصص التي فيها، نرى العكس، لأن ما نراه في ظاهره شراً (بسب عدم إدراكنا للحكمة، أو قلة علمنا وفهمنا، أو محدودية مداركنا، وسوء تقديرنا لمجريات الأمور) هو في باطنه خير. لأن هذا الشر هو علاج لتصحيح خطأ مصدره الإنسان، فأن يخسف الله بإنسان الأرض مثلاً هو في ظاهره شر ولكنه في حقيقته خير جعل لتصحيح خلل أوجده إنسان متكبر ومغرور بنفسه وبما آتاه الله من النعمة (التي بسببها) نسي خالقها وموجدها ونسي السبب الذي جعله الله وكيلاً عليها، فافتتن هو بها وافتتن الناس بما عنده وبما نسبه لنفسه، وفي هذا هلاكه وهلاك غيره. ولأن الله يريد للإنسان الخير فلا بد من علاج هذا الشر الذي وقع فيه الإنسان بأن يسترد شيئاً (في الأصل هو) مما أعطاه لهذا الإنسان واستخلفه فيه (فأساء استخدامه)، فيحوله إلى غيره ويستخلف عليه قوم آخرين.

الشيء الآخر أنه سبحانه ربما يكرم أناس آخرين أو يعذبهم بفضل الصالحين منهم، كما أكرم الغلامين وحفظ كنزهما لأن أبوهما كان صالحاً (الآية 82)، وكما قتل الغلام حتى لا يرهق أبويه كفراً (الآية 80). أو يحرم كثير من الناس بوزر الظالمين منهم مثل أخذ الملك كل سفينة غصباً، وبنفس الوقت يتولى الضعفاء من الناس ويحميهم من الظالمين كما حمى أصحاب السفينة المساكين وحفظ لهم سفينتهم (الآية 79).

018.8.2- لقد كان مقصد سورة الإسراء بيان أنه لا وكيل دونه، ولا إله إلا هو، وذكرت أخبار قوم قد فضلوا في أزمانهم وفق ما وقع به الخبر في السورة ومن أنه يفضل من يشاء، ويفعل ما يشاء. أما في سورة الكهف فقد وصف الكتاب بأنه قيّم، لكونه زاجراً عن الشريك الذي هو خلاف ما أثبتته سورة الإسراء، وأقامت عليه الدليل. ويدل على هذا المقصد قصة أهل الكهف. وكونه أيضاً يصحح طريقة تفكير الناس ونظرتهم للأمور، ويصحح قيمهم لتوزن بشرعه القويم الذي في الكتاب بأنه سبحانه لا إله إلا هو.

018.8.3- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وقيل إن مناسبة وضعها بعد سورة الإسراء‏:‏ افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد نحو‏:‏ {فسبِح بحمدِ ربك} وسبحان الله وبحمده. و‏مع اختتام ما قبلها بالتحميد أيضاً وذلك من وجوه المناسبة بتشابه الأطراف.

وجه آخر أحسن في الاتصال وذلك‏:‏ أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء‏:‏ عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر سورة بني إسرائيل فناسب اتصالها بالسورة التي اشتملت على جواب السؤالين الآخرين فإن قيل‏:‏ هلا جمعت الثلاثة في سورة واحدة فالرد‏:‏ لما لم يقع الجواب عن الأول بالبيان ولكن قيل {قل الروح من أمر ربيّ}، ولم يفصل، ناسب فصله في سورة.

وجه آخر‏:‏ وهو أنه لما قال فيها‏: {وما أُوتيتُم مِن العلمِ إِلا قليلا (85)} الإسراء، والخطاب لليهود واستظهر على ذلك بقصة موسى في بني إسرائيل مع الخضر التي كان سببها ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من إحاطة معلومات الله عز وجل التي لا تحصى فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم وقد ورد في الحديث أنه لما نزل‏: {وما أُوتيتُم مِن العلمِ إِلا قليلا} قال اليهود‏:‏ قد أُوتينا التوراة فيها علم كل شيء فنزل‏: {قُل لو كانَ البحرُ مِداداً لكلمات رَبي لنَفدَ البحر قبلَ أَن تنفد كلمات ربي ولَو جِئنا بمثلهِ مدداً} فهذا وجه آخر في المناسبة وتكون السورة من هذه الجهة جواباً عن شبهة الخصوم فيما قدر بتلك وأيضاً فلما قال هناك‏: {فإِذا جاءَ وعد الآخرةِ جِئنا بكُم لفيفاً} شرح ذلك هنا وبسطه بقوله‏: {فإِذا جاءَ وعد ربي جعله دكاء} إلى {ونُفِخَ في الصور فجمعناهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذٍ للكافرين عرضاً} فهذه وجوه عديدة في الاتصال.

018.8.4- وقال ابن الزبير في برهانه: من الثابت المشهور أن قريشاً بعثوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأجابت يهود بسؤاله عن ثلاثة أشياء، قالوا: فإن أجابهم فهو نبي، وإن عجز فالرجل متقول فارؤا فيه رأيكم، وهي الروح، وفتية ذهبوا في الدهر الأول وهم أهل الكهف، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فأنزل الله عليه جواب ما سألوه، وبعضه في سورة الإسراء {ويسألونك عن الروح (85)} الآية الإسراء، واستفتح سبحانه وتعالى سورة الكهف بحمده، وذكر نعمة الكتاب وما أنزل بقريش وكفار العرب من البأس يوم بدر وعام الفتح، وبشارة المؤمنين بذلك وما منحهم الله تعالى من النعيم الدائم، وإنذار القائلين بالولد من النصارى وعظيم مرتكبهم وشناعة قولهم { إن يقولون إلا كذباً } وتسلية نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أمر جميعهم {فلعلك باخع نفسك (6)}، والتحمت الآي أعظم التحام، وأحسن التئام، إلى ذكر ما سأل عنه الكفار من أمر الفتية {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً (9)} ثم بسطت الآي قصتهم، وأوضحت أمرهم، واستوفت خبرهم؛ ثم ذكر سبحانه أمر ذي القرنين وطوافه وانتهاء أمره، فقال تعالى {ويسألونك عن ذي القرنين (83)} الآيات، وقد فصلت بين القصتين بمواعظ وآيات مستجدة على أتم ارتباط، وأجل اتساق، ومن جملتها قصة الرجلين وجنتي أحدهما وحسن الجنتين وما بينهما وكفر صاحبهما واغتراره، وهما من بني إسرائيل، ولهما قصة، وقد أفصحت هذه الآي منها باغترار أحدهما بما لديه وركونه إلى توهم البقاء، وتعويل صاحبه على ما عند ربه ورجوعه إليه وانتهاء أمره – بعد المحاورة الواقعة في الآيات بينهما – إلى إزالة ما تخيل المفتون بقاءه، ورجع ذلك كأن لم يكن، ولم يبق بيده إلا الندم، ولا صح له من جنته بعد عظيم تلك البهجة سوى التلاشي والعدم، وهذه حال من ركن إلى ما سوى المالك، ومن كل شيء إلا وجهه سبحانه وتعالى فان وهالك {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو (36)} محمد، {ففروا إلى الله (50)} الذاريات، ثم أعقب ذلك بضرب مثل الحياة الدنيا لمن اعتبر واستبصر، وعقب تلك الآيات بقصة موسى والخضر عليها السلام إلى تمامها، وفي كل ذلك من تأديب بني إسرائيل وتقريعهم وتوبيخ مرتكبهم في توقفهم عن الإيمان وتعنيفهم في توهمهم عند فتواهم لكفار قريش بسؤاله عليه السلام عن القصص الثلاث أن قد حازوا العلم وانفردوا بالوقوف على ما لا يعلمه غيرهم، فجاء جواب قريش بما يرغم الجميع ويقطع دابرهم، وفي ذكر قصة موسى والخضر إشارة لهم لو عقلوا، وتحريك لمن سبقت له منهم السعادة، وتنبيه لكل موفق في تسليم الإحاطة لمن هو العليم الخبير، وبعد تقريعهم وتوبيخهم بما أشير إليه عاد الكلام إلى بقية سؤالهم فقال تعالى {يسئلونك عن ذي القرنين (83)} إلى آخر القصة، وليس بسط هذه القصص من مقصودنا وقد حصل، ولم يبق إلا السؤال عن وجه انفصال جوابهم ووقوعه في السورتين مع أن السؤال واحد، وهذا ليس من شرطنا فلننسأه بحول الله إلى موضعه إن قدر به – انتهى.

– أنظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– أنظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top