العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


014.0 سورة إبراهيم


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


014.1 التعريف بالسورة:

1) مكية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 52 آية. 4) هي السورة الرابعة عشرة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والخامسة والسبعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “نوح”.  6) ليس لها أسماء أخرى.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 34 مرّة، {لله} 4 مرّات، رب 17 مرّة؛ (3 مرات): عزيز، أنعم؛ (2 مرّة): هو، واحد، حميد، خلق، أنزل، يفعل، مخرج؛ (1 مرّة): رحيم، قهار، سميع، غفور، حكيم، غني، ذو انتقام، فاطر، يهدي، سريع، يمن، بلاء. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (1 مرّة): صديد، يتجرعه، يسيغه، مصرخكم، مصرخي، دار البوار، مقنعي، سرابيلهم، قطران، والآية {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}.

هي أكثر سورة تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: سخّر 4 مرّات (هي والنحل)، وبرزوا 2 مرّة.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: الأرض 10 مرّات، السماوات 8 مرّات، رسل 7 مرّات، أمثال 5 مرّات، مكروا 4 مرّات؛ (3 مرّات): موسى، سلطان، أرسلنا، ضرب؛ (2 مرّة): الدنيا، الآخرة، الظلمات، النور، بشر، خاف، كلمة، طيبة، خبيثة، جهنم، ذريتي، أفئدة، الحساب؛ (1 مرّة): لسان، صبار، شكور، آل فرعون، يسومونكم، يذبحون، يستحيون، نوح، عاد، ثمود، مقامي، وعيد، الشيطان، الحياة، جنات، تحصوها، إبراهيم، إسماعيل، اسحق، شخص، مهطعين، مقرنين، الأصفاد، زوال.

014.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

وقال الألوسي: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك وهو الذي عليه الجمهور وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فانهما نزلتا بالمدينة وهما {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا} الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين، وأخرج نحوه أبو الشيخ عن قتادة.

014.3 وقت ومناسبة نزولها:

نزلت السورة في المرحلة الأخيرة من العهد المكّي، حيث أن القرآن هدد قريش بأن الله سيهلكهم ويسكن المؤمنين مكانهم. وأن ما قالته قريش قالته الأمم السابقة لرسلها، وقد وعدهم سبحانه بما جرت عليه سنته من أن المؤمنين من كل أمة أسكنهم بعظيم قدرته أرض الكفار. وفي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)} إشارة واضحة إلى أن اضطهاد المسلمين حين نزول هذه السورة كان في أعلى مراتبه وأن أهل مكّة مصمّمون على إخراج المسلمين من ديارهم، كما فعل الكفّار من الأمم السابقة. ولهذا السبب هددهم الله سبحانه في قوله تعالى بأنه: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}. وكذلك الإنذار الشديد في الآيات {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}….. إلى آخر السّورة، يؤكّد أنّها نزلت في المرحلة الأخيرة من العهد المكّي، ويبشّر بنهاية الكفر والظلم قريباً.

014.4 مقصد السورة:

014.4.1- مقصد السورة: بيان أن القرآن نعمة ونور من الله، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتحقيق سعادة الإنسان في الدارين الدنيا والآخرة.

014.4.2- ومقصد السورة نجده في الآية الأولى التي تؤكّد بأن القرآن نعمة ونور من الله، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتحقيق سعادة الإنسان في الدارين الدنيا والآخرة بإذن ربهم الذي لا يمانع ولا يغالب بل هو القاهر لكل ما سواه، المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعته وأمره ونهيه، الصادق في خبره. وفي الآية الثانية فإن الويل في الدنيا وفي الآخرة للذين كفروا بالكتاب، بسبب حبهم الحياة الدنيا على الآخرة التي تركوها وراء ظهورهم. وفي الآية الثالثة أن الله شاء لهم الهداية ولكنهم شاءوا لأنفسهم الكفر فضلّوا. ثمّ في نهاية السورة في الآيتين الأخيرتين تأكيد لما جاء في الآيات الثلاثة الأولى، وهو أن الله واحد يجزي كل نفس بما كسبت، بعد أن بلّغ الناس وأنذرهم وذكّرهم.

014.4.3- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (4)} هذا من لطفه تعالى ورحمته بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم. أمّا آخر المرسلين صلى الله عليه وسلم، فقد جاء لكل الأمم على اختلاف لغاتها، بلسان واحد ولغة واحدة هي العربية وكتاب واحد تكفّل الله بحفظه لتهتدي به كل الألسنة والأمم. فلغة القرآن هي معجزة للعرب الذين أتقنوا العربية في أوج فصاحتها، أما في عصرنا هذا فالذين يتقنون اللغة العربية الفصحى، على أصولها ندرة، فلا شك أن {العزيز الحكيم}، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الحكيم في أفعاله، يضل من يستحق الضلال، ويهدي من هو أهل لذلك، قد سبق في علمه تعالى أنه سيأتي زمان على الناس سيهملون فيه اللغة العربية، فأبقى في القرآن إعجازه حتى وهو مترجم إلى اللغات الأخرى، وأبقاه قرآن يتكلّم ويفهمه الناس بكل لغات العالم وبكل ألسنتها، وحتى الصم البكم لهم لغة يخاطبهم بها القرآن، فإن لم يكن باللغة ففي القصص، وإن لم يكن في القصص ففي الآيات أو الأمثال؛ ليس هذا فحسب، بل رأينا بأعيننا وسمعنا بآذاننا وعلمنا، بفضل ما أنعم الله به على الناس في زماننا هذا من نعمة الاتصالات والمواصلات والشبكات، ما يرويه المسلمين الجدد في الشرق والغرب وكل بقاع الأرض بأنفسهم، عن قصص حقيقية حصلت معهم، عن الكثير من وسائل الخطاب الإلهي للناس في القرآن وغيره، ما تحار له الألباب وتذهل به العقول، للمزيد عن هذه الآية انظر التمهيد في المقدمة والتمهيد، المبحث رقم: (0.2.2).

014.4.4- هذه الأربع آيات الأولى فيها أربعة موضوعات، وسياقها: هو نزول الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ثم نعم الله التي في السماوات وفي الأرض، ثم استحباب الناس للدنيا على الآخرة، ثم أن الناس يجزون على ما يشاؤون، من حب اتباع الضلال أو حب اتباع الهدى؛ وهو نفس السياق الذي يظهر في السورة على اختلاف ترتيب آياتها كما سنبينه، وهو أكثر وضوحاً كما فصّلناه أدناه في باب سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها. وهذا السياق هو نفسه الذي يظهر في ترتيب سور القرآن السابقة: أي أن بيان طريق الهدى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور نجده في السور الخمس الأولى (الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة، ثم بيان نعم الله في سورة واحدة (هي الأنعام)، ثمّ بيان التطبيق العملي لإخراج الناس من الظلمات إلى النور في ست سور (هي الأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود ويوسف)، ثم بيان وتفصيل كيف يكون جزاء الناس بأعمالهم في ست سور (هي الرعد وإبراهيم والحجر والنحل والإسراء والكهف)، كما فصلناه كثيراً في عدة أماكن في باب ترابط السور وفي المقدمة، انظر الفصل 4.2- مقصد القرآن ومقاصد السور.

014.4.5- ومن مقاصد السورة أيضاً بيان أن وظيفة الرسل واحدة، وأن ما جاء به جميع الرسل من انذار وبلاغ وبيان لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله، يخرج كلّه من مشكاة واحدة. وهذه الوحدة في دعوة الرسالة والرسل هي من آيات التوحيد وهي نعمة من الله تزداد بالشكر، لكن أكثر الناس يقابلونها بالكفر والجحود.

014.5 ملخص موضوع السورة:

014.5.1- السورة باعتبار ترتيب آياتها فيها موضوعين رئيسيين في شقين متساويين من حيث عدد الآيات، كما يلي:

الموضوع الأول في الآيات (1-26): عن نزول الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله، ويتضمّن مقدمة وستة أدلة على أن نزول الكتاب نعمة عظيمة، كما يلي:

المقدّمة (في الآية 1) وفيها بيان نعمة إنزال الكتاب، والذي به إخراج الناس من الظلمات إلى النور، إلى صراط العزيز المحمود على كل حال؛ ثمّ (الآيات 2-4) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض هو مرسل الرسل بهذه الكتب ليهدي بها من يشاء ويضل من يشاء؛ ثمّ (الآيات 5-8) البشرى للمؤمنين بما حصل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ونجاة قومه بسبب إيمانهم وعبادتهم لله وحده؛ ثمّ (الآيات 9-17) الإنذار للكافرين مما حصل بهلاك أقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم بسبب كفرهم بما أرسلت به رسلهم وبقائهم على ديانات آبائهم الباطلة؛ ثمّ (الآيات 18-20) ضرب سبحانه مثلاً بأن أعمال الكافرين كالرماد في اليوم العاصف لن يجدوا منها ما ينفعهم، ويؤكد أنه إنما خلق السماوات والأرض بالحق وليس عبثاً، وأنه إن شاء يأت بخلق جديد يطيعونه، وهو أمر عليه يسير؛ ثمّ (الآيات21-23) ما يقرره سبحانه بما سيحصل يوم القيامة من عقاب المشركين وندمهم الشديد على عدم إيمانهم وعلى اتباعهم شياطين الإنس والجن، ومن جزاء على الأعمال الصالحة، ودخول المؤمنين الجنة؛ ثمّ (الآيات 24-26) مَثل بليغ للناس لكي يتعظوا، بالشجرة الطيبة دلالة على ثمرة الإيمان بكلمة التوحيد وحصول خيري الدنيا والآخرة وما فيهما من النعم الطيبة التي لا تحصى بسببها، ومثل آخر بالشجرة الخبيثة دلالة على ثمرة الكفر وحصول الهلاك ومصائب الدنيا والآخرة وفوات النعم التي لا تحصى بسببها.

الموضوع الثاني في الآيات (27-52): عن سنن الله الثابتة في الجزاء ومكافأة الناس على حسب أعمالهم في الدنيا، فمن آمن وعمل صالحاً نال النصر والرزق والنعيم في الدنيا وفاز بالجنة في الآخرة، ومن كفر وعصى خسر الدنيا والآخرة، ويتضمن سبعة أدلة على ثبات سنن الله في الحساب والجزاء وصدق وعده ثم خاتمة، كما يلي:

(الآية 27) تثبيت الله المؤمنين بالحق وكلمة التوحيد وبما جاء من الدين في الدنيا والآخرة، وإضلال الظالمين عن الصواب في الدنيا والآخرة؛ ثمّ (الآيات 28-31) تبديل قريش لنعمة الأمن في الحرم بالكفر المؤدي إلى الهلاك، لذلك حين خرجوا إلى بدر فقُتلوا هنالك وصار مصيرهم النار، أما المؤمنون فعليهم دوام إقامة الصلاة والإنفاق قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا تنفع فيه الأعمال؛ ثمّ (الآيات 32-34) سنة الله في دوام نزول المطر وخروج الثمرات وتسخير الفلك والأنهار والشمس والقمر، وآتاكم من كل ما سألتموه حسب مصالحكم، وإن نعم الله عليكم لكثرتها وتنوعها لا تطيقون عدها، هذا مع ظلم الإنسان لنفسه وكثرة جحوده؛ (الآيات 35-41) قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام واستجابة الله لدعائه بأن أعطاه الله الأمان، وجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وجعل له ذرية تقيم الصلاة، ورزقهم من الثمرات، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ووهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق، وتقبل دعاءه؛ ثمّ (الآيات 42-44) سنّة إمهال الله للظالمين على ظلمهم في الدنيا، حتى يقيم عليهم الحجة يوم القيامة، حين يأتيهم العذاب ويطلبوا أن يمهلهم ويردهم إلى الدنيا، فلا يستجيب لهم لأنهم، أقسموا من قبل وأنكروا وجود الآخرة وحصول العذاب؛ ثمّ (الآيات 45-46) قصّة ومثل، حول حقيقة أنهم يسكنون مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ويرون ماذا فعل الله بهم، وجريان سنته عليهم، مع أنهم مكروا مكراً يكاد يزيل الجبال لعظمته؛ ثمّ (الآيات47-51) تقرير من الله وتأكيد ثبات سننه، بإرسال الرسل، وصدق وعده بأنه سيبعث الناس للحساب، وسيجزي كل نفس بما كسبت؛ ثمّ (الآية 52) خاتمة وفيها تأكيد جميع ما جاء في السورة: وهو أن القرآن نعمة عظيمة، لأنه بلاغ وإنذار للناس، وتذكير لأولي الألباب، بالأصل الثابت ومصدر النعم التي لا تحصى، الله وحده لا شريك له، وما دونه فهو الخبث والبوار والهلاك.

014.5.2- وباعتبار القصص والأمثال فإن نصف عدد آيات السورة هي عبارة عن قصتين عن موسى وإبراهيم عليهما السلام تبيّنان أن نزول الكتاب نعمة للمؤمنين (11 آية)، وقصة عن أقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم تبين أن الكفر بما جاء في الكتاب هلاك وخسران (9 آيات)، ومثلين عن أعمال الكافرين كالرماد اشتدت به الريح فهو لا ينفعهم، وأن الإيمان كالشجرة الطيبة والكفر كالشجرة الخبيثة (6 آيات). والنصف الثاني فيه موضوعين: الأول أن نزول الكتاب نعمة للمؤمنين (13 آية)، والثاني حساب وجزاء الناس على مقدار أعمالهم في الدنيا (13 آية).

014.5.3- سورة إبراهيم تبين أن الحق الذي جاء في الكتاب، وهو القرآن وآياته والمشار إليها في سورة الرعد، هو نعمة ما بعدها نعمة، لأن النعم التي تحصل بسبب الإيمان واتباع الدين وطاعة الله لا تحصى. وفي المقابل فإن الخسائر التي تحصل بسبب الكفر، خسائر عظيمة في الدنيا، وعذاب غليظ مقيم في الآخرة. كل شيء من الله وحده، هذا ما أكدته الآيات والقصص وبينته. ولن ينقذ الناس من ظلمهم لأنفسهم وظلم الطواغيت لهم والآلهة التي لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً سوى إيمانهم واعتمادهم على الله وحده لا شريك له.

014.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

موضوعات السورة حسب ترتيب آياتها:

تنقسم السورة حسب ترتيب آياتها إلى موضوعين رئيسيين في شقين متساويين من حيث عدد الآيات: الشق الأول تدور موضوعاته حول نزول الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه، فهو وحده القادر على ذلك، الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا شريك له (وهي نعمة عظيمة ما بعدها نعمة)، والشق الثاني موضوعاته حول ثبات مشيئة الله وفعله في مخلوقاته، وإمهاله لهم، وثبات سننه في الخلق والرزق وتسخير المخلوقات، ومزيد نعمه التي لا تحصى، ونفاذ وعده، وجزاءه الناس كل على حسب أعماله وكسبه في الدنيا، إنه سريع الحساب.

014.6.1- الموضوع الأول عن نزول الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله، في الآيات (1-26) ويتضمن مقدمة وستة أدلة على أن نزول الكتاب نعمة عظيمة، كما يلي:

014.6.1.0- مقدمة وفيها بيان نعمة إنزال الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي به إخراج الناس من الظلمات إلى النور، إلى صراط العزيز المحمود على كل حال، في الآية (1).

014.6.1.1- الدليل الأول على نعمة نزول الكتاب يتمثل في أن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض هو مرسل الرسل بهذه الكتب ليهدي بها من يشاء ويضل من يشاء، في الآيات (2-4).

014.6.1.2- الدليل الثاني على نعمة نزول الكتاب هو البشرى بما حصل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ونجاة قومه بسبب إيمانهم وعبادتهم لله وحده، في الآيات (5-8).

014.6.1.3- الدليل الثالث على نعمة نزول الكتاب هو الإنذار مما حصل بهلاك أقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم بسبب كفرهم بما أرسلت به رسلهم وبقائهم على ديانات آبائهم الباطلة، في الآيات (9-17).

014.6.1.4- الدليل الرابع على نعمة الإيمان واتباع الكتاب، يتمثل في أنه سبحانه ضرب مثلاً بأن أعمال الكافرين كالرماد في اليوم العاصف لن يجدوا منها ما ينفعهم. ويؤكد أنه إنما خلق السماوات والأرض بالحق وليس عبثاً، وأنه إن شاء يأت بخلق جديد يطيعونه، وهو أمر عليه يسير، الآيات (18-20).

014.6.1.5- الدليل الخامس هو ما يقرره سبحانه بما سيحصل يوم القيامة من عقاب المشركين وندمهم الشديد على عدم إيمانهم وعلى اتباعهم شياطين الإنس والجن، ومن جزاء على الأعمال الصالحة، ودخول المؤمنين الجنة، في الآيات، (21-23).

014.6.1.6- الدليل السادس يأتي على صيغة مثل بليغ للناس لكي يتعظوا، بالشجرة الطيبة دلالة على ثمرة الإيمان بكلمة التوحيد وحصول خيري الدنيا والآخرة وما فيهما من النعم الطيبة التي لا تحصى بسببها. ومثل آخر بالشجرة الخبيثة دلالة على ثمرة الكفر وحصول الهلاك ومصائب الدنيا والآخرة وفوات النعم التي لا تحصى بسببها، في الآيات، (24-26).

014.6.2- الموضوع الثاني عن سنن الله الثابتة في الجزاء ومكافأة الناس على حسب أعمالهم في الدنيا، فمن آمن وعمل صالحاً نال النصر والرزق والنعيم في الدنيا وفاز بالجنة في الآخرة، ومن كفر وعصى خسر الدنيا والآخرة، كما في الآيات (27-52) ويتضمن سبعة أدلة على ثبات سنن الله في الحساب والجزاء وصدق وعده ثم خاتمة، كما يلي:

014.6.2.1- الدليل الأول تثبيت الله المؤمنين بالحق وكلمة التوحيد وبما جاء من الدين في الدنيا والآخرة، وإضلال الظالمين عن الصواب في الدنيا والآخرة، في الآية (27).

014.6.2.2- الدليل الثاني هو تبديل قريش لنعمة الأمن في الحرم بالكفر المؤدي إلى الهلاك، حين خرجوا إلى بدر فقتلوا هنالك وصار مصيرهم النار (والمراد العموم)، وقد جعلوا لله الأنداد ليضلوا بهم عن سبيله فليتمتعوا فإن مصيرهم النار. أما المؤمنون فعليهم دوام إقامة الصلاة والإنفاق قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا تنفع فيه هذه الأعمال، الآيات (28-31).

014.6.2.3- الدليل الثالث هو سنة الله في دوام نزول المطر وخروج الثمرات وتسخير الفلك والأنهار والشمس والقمر، وآتاكم كل ما سألتموه حسب مصالحكم، وإن نعم الله عليكم لكثرتها وتنوعها لا تطيقون عدها، هذا مع ظلم الإنسان لنفسه وكثرة جحوده، الآيات (32-34).

014.6.2.4- الدليل الرابع هو قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام واستجابة الله لدعائه بأن أعطاه الله الأمان، وجنبه وبنيه عبادة الأصنام، وجعل له ذرية تقيم الصلاة، ورزقهم من الثمرات، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ووهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق، وتقبل دعاءه، الآيات (35-41).

014.6.2.5- الدليل الخامس هو سنة إمهال الله للظالمين على ظلمهم في الدنيا، حتى يقيم عليهم الحجة يوم القيامة، حين يأتيهم العذاب ويطلبوا أن يمهلهم ويردهم إلى الدنيا، فلا يستجيب لهم لأنهم، أقسموا من قبل وأنكروا وجود الآخرة وحصول العذاب، الآيات (42-44).

014.6.2.6- الدليل السادس على صيغة قصة ومثل، وهو حقيقة أنهم يسكنون مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ويرون ماذا فعل الله بهم، وجريان سنته عليهم، مع أنهم مكروا مكراً يكاد يزيل الجبال لعظمته، الآيات (45-46).

014.6.2.7- الدليل السابع وفيه تقرير من الله وتأكيد ثبات سننه، بإرسال الرسل، وصدق وعده بأنه سيبعث الناس للحساب، وسيجزي كل نفس بما كسبت، الآيات (47-51).

014.6.2.8- خاتمة وفيها تأكيد جميع ما جاء في السورة: وهو أن القرآن نعمة عظيمة، لأنه بلاغ وإنذار للناس، وتذكير لأولي الألباب، بالأصل الثابت ومصدر النعم التي لا تحصى، الله وحده لا شريك له، وما دونه فهو الخبث والبوار والهلاك، الآية (52).

014.7 الشكل العام وسياق السورة:

014.7.1- إسم السورة:

014.7.1.1- سُميت ‏السورة ‏الكريمة ‏‏”سورة ‏إبراهيم‏‏” ‏لأنه أوضح عنوان وخير دليل على نعم الله التي لا تحصى عليه وعلى ذريته عبر آلاف السنين، منذ أن ولد عليه الصلاة والسلام على هذه الأرض إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة. فذِكره وذِكر آله خالد على ألسنة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يصلّون عليه وعلى آله كما يصلّون على نبيهم وآله في كل صلواتهم خمس مرات في اليوم. وقد جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، استجابة لدعائه بأن يبعث فيهم رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. والبيت الذي بناه وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، لا يزال في أحسن ما يكون عليه من الأمن والرزق والإسلام استجابة لدعائهما، والأفئدة التي تهوي إليه لم تتوقف إلى اليوم، وشعائر الحج التي كانت في حياته لا تزال تؤدى وستظل كذلك طالما في الدنيا مسلم يؤمن بالقرآن وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم.

014.7.1.2- اسم السورة ودعاء ابراهيم عليه السلام الخاشع يطلب فيه من الله: الأمان، والذرّية المؤمنة والمقيمة للصلاة والسكن ذي الزرع والثمرات. والذي لا يتحقق إلا بالإيمان وباجتناب عبادة الأصنام، يحدد الإطار العام للسورة وهو أن كلّ الناس تطلب نعمة الأمان والذريّة والسكن والزرع. وان كلّ الأمم {جاءتهم رسلهم بالبينات} وهذه نعمة الله على البشر ليحقق لهم مطلبهم بالأمان ورغد العيش، وزيادتها بالشكر. {لئن شكرتم لأزيدنكم} لا بالكفر والجحود {ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد}.

014.7.1.3- إن أعظم نعم الله هي نعمة الإيمان بالله، وما نعمة المال والأولاد والشهوات إلا تبع لها. وأعظم مصيبه هي الكفر والبعد عن سبيل الله تعالى. وقال الرازي: اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أمورا سبعة: طلب من الله نعمة الأمان، والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به، والمطلوب الثاني: أن يرزقه الله التوحيد، ويصونه عن الشرك، الثالث: طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات، الرابع: ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل، وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها، أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح، كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب. الخامس: {رب اجعلني مقيم الصلواة ومن ذريتي}، السادس: {ربنا وتقبل دعاء}، السابع: {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}

014.7.2- قراءة سياق السورة حسب موضوعات آياتها (أي تتبع معاني آياتها وموضوعاتها):

بتأمل موضوعات السورة باعتبار ترتيب آياتها نجدها تنقسم إلى شقين متساويين من حيث عدد الآيات، يحتويان على موضوعين متكاملين: في الأول تنزيل الكتاب لهداية الناس إلى طريق النور وفي الثاني جزاء الناس بحسب أعمالهم (كما بيناه أعلاه). ولو أعدنا ترتيب الآيات باعتبار موضوعاتها (لا ترتيب آياتها) سنجد أنها أيضاً تضمنت نفس الموضوعين الرئيسيين ولا ثالث لهما، ويقسمان السورة إلى نصفين متساويين من حيث عدد الآيات: الأول يتحدث عن نعمة نزول الكتاب وبيانه للحق القائم على الإيمان بالله وعبادته وحده لا شريك له، والشقاء المترتب على الكفر والشرك وعبادة غير الله؛ والموضوع الثاني هو حساب الناس على إيمانهم أو كفرهم بما جاء في الكتاب، وجزاءهم في الدنيا والآخرة على مقدار أعمالهم أو طاعتهم واتباعهم أو عدم اتباعهم لما جاء فيه من الأوامر والنواهي. كما يلي:

014.7.2.1- نعمة كون الله خالق الخلق ومدبر أمرهم وآمرهم بما فيه صالحهم وخيرهم في الدنيا والآخرة. في الآيات (1، 2، 4-14، 19، 20، 24-27، 32-34، 42، 47، 51-52) = 26 آية.

واتبعت السورة في بيان هذا الموضوع أيضا على أسلوبين في التعبير يقسمانه إلى شقين متساويين الأول تقرير وبيان نعمة الكتاب في الآيات (1، 2، 4، 19، 20، 27، 32-34، 42، 47، 51-52) = 13 آية. والثاني قصص وأمثال توكد ما قررته وبينته الآيات، وتسهل فهمه بالحقائق من تجارب الإنسان في الآيات (5-14، 24-26) = 13 آية.

014.7.2.2- حساب المتبعين الحق على أعمالهم وجزاءهم النصر في الدنيا والجنة والنعيم يوم القيامة، كما وعد الله وهذا هو الأصل. وجزاء المخربين للحق بالعذاب وأكثر الناس من المخربين الحق والمصدقين الباطل والمتبعين وعد الشيطان. في الآيات (3، 15-18، 21-23، 28-31، 35-41، 43-46، 48-50) = 26 آية.

وهي بدورها تنقسم إلى شقين متساويين الأول تقرير وبيان نعمة الكتاب في الآيات (3، 21، 22، 23، 28-31، 43، 44، 48-50) = 13 آية. والثاني قصص وأمثال توكد ما قررته وبينته الآيات، وتسهل فهمه بالحقائق من تجارب الإنسان في الآيات (15-18، 35-41، 45، 46) = 13 آية.

014.7.3- سياق السورة واعتمادها على القصص والأمثال:

بعد أن تبين لنا أعلاه أن السورة باعتبار ترتيب آياتها، ثم تبين لنا أيضاً أنها باعتبار تبويب موضوعاتها، تنقسم إلى شقين متساويين في أحدهما أن الكتاب يهدي إلى النور والثاني أن الناس مجازون بأعمالهم، سنجد كذلك أن السورة باعتمادها على القصص والأمثال كوسيلة لبيان معانيها تنقسم إلى شقين متساويين يتضمنان نفس الموضوعين عن الهدى في الكتاب والجزاء على الأعمال، في خمسة مجموعات من الآيات، كما يلي:

الشق الأول وعدد آياته 26 آية، وفيه ثلاثة مجموعات من الآيات: في الأولى: قصتين عن موسى وإبراهيم عليهما السلام تبينان أن نزول الكتاب نعمة للمؤمنين 11 آية؛ وفي الثانية: قصة عن أقوام نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم تبين أن من كفر بما جاء في الكتاب هلك وخسران 9 آيات؛ وفي الثالثة: أمثال لزيادة الإيضاح وإفهام المعنيين المبينين في القصص 6 آيات.

الشق الثاني وعدد آياته 26 آية، وفيه مجموعتان من الآيات: في الأولى: تقرير أن نزول الكتاب نعمة للمؤمنين كما جاء دليله وتوضيحه بالقصص والأمثال 13 آية؛ وفي الثانية: تقرير حساب وجزاء الناس على مقدار أعمالهم كما جاء دليله وتوضيحه بالقصص والأمثال 13 آية.

وفيما يلي تفصيل هذان الشقان اللذان يتكرر فيهما (باعتبار القصص والأمثال) نفس الموضوعان، موضوع نعمة نزول الكتاب وبيانه للحق، وموضوع حساب الناس على إيمانهم أو كفرهم، وجزاءهم على مقدار أعمالهم:

014.7.3.1- هذا القرآن كتاب أوحى به الله إلى رسوله عليه السلام ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، إلى صراط الله العزيز الحميد، هو نعمة من الله ما بعده نعمة، إنه يفوق كل ما عداه من النعم التي يتطلع إليها الناس: من الأموال والبنين والأنعام والحرث وكل النعم المادية المحسوسة الأخرى. وأول دليل ساقته السورة على ذلك هو:

014.7.3.1.1- قصة قوم موسى عليه السلام (الآيات 5-8) إذ أنعم الله عليهم بسبب اتباعهم لنبيهم موسى بأن أنجاهم الله من آل فرعون الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم. أخرجهم الله بإيمانهم واتباعهم لما جاء به الوحي، في صحف موسى، من العبودية لفرعون إلى عبودية خالق فرعون، ثم أنعم عليهم بالأمان على أنفسهم وعلى أزواجهم وأولادهم، وأخرج لهم الماء من العيون ورزقهم (من المن والسلوى ومن الثمرات كما جاء بيانه في السور الأخرى). وبشرهم سبحانه بأنهم إن شكروا ليزيدنهم، وحذرهم من عواقب الكفر بالعذاب الشديد، الذي حل بالأمم اتي سبقتهم، كما جاء بيانه بعده مباشرة، في قصص قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم أهلكهم الله بكفرهم وأسكن المؤمنين الأرض من بعدهم.

014.7.3.1.2- والدليل الآخر على هذه النعمة هو في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام (الآيات 35-41)، فقد عرف عليه السلام النبع الصافي، ومصدر النعمة والرزق، وهو أنها من عند الله خالقها وواهبها، فطلبها منه. لقد طلب الأمان بالإيمان، واجتناب الضلال والضياع باجتناب عبادة الشيطان.

كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام دائم الهمّ والفكر والدعاء لكي يدوم الدين في الأمم، وفي ذريته بأن يجعلهم مقيمين الصلاة، وأن يرزقهم ليكونوا من الشاكرين. لقد استجاب الله لدعاءه وجعلت قصّته أعظم دليل لنا على نعمة الإيمان واتباع الدين. والتي لا نزال نرى آثارها ماثلة أمامنا إلى يومنا هذا، فكل الأنبياء من بعده جاؤوا من ذريته، منهم موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام الذين نعرفهم جيداً من قصصهم وأخبارهم في قرآننا، ونعرفهم من أتباعهم الذين يملأون الأرض شرقاً وغرباً، ومن كتبهم المحرّفة. وآخر ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الأنبياء هو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نحن من أمته وأتباعه، خاتم الأنبياء إلى يوم القيامة ليس بعده نبي، وكتابه القرآن الذي لا يزال غضاً طرياً كما نزل من السماء، لم يصله التحريف ولا التبديل، وقد تعهد الله بحفظه ليكون نوراً للناس إلى يوم القيامة. وها هي البلاد التي عاشت فيها ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نراها بأم أعيننا، تملأها البركة والرزق والإيمان والثمرات ببركة إيمانه وعبادته لربه ودعائه.

رزقهم بواد غير ذي زرع وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ورزقه على الكبر اسماعيل وإسحاق وجعل في ذريته النبوة والكتاب، وغيره الكثير من النعم التي لا تحصى، ذكرها القرآن الكريم، ولا نزال ننعم ونعيش آثارها وبركتها الي ستظل خالدة إلى يوم الدين.

014.7.3.1.3- إن النعم التي تحصل بسبب الإيمان لا تحصى، هذا ما أكدته القصص وبينته. ولن ينقذ الناس من ظلم الطواغيت والآلهة التي لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً سوى إيمانهم. ولن يرزقوا ولن تسخر لهم الدنيا إلا بالدعاء لله وحده لا شريك له. كل ما في الأرض من الثمرات والرزق هو من الله سخرها للإنسان، وكذلك غيرها من النعم التي لا تحصى سواء في الدنيا أو في الآخرة، كله من الله. وبدون هاتين القصتين عن موسى وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام لن نستطيع استيعاب كيف يكون الإيمان والعبادة نعمة. بل أصبحنا نعرف قيمة الإيمان وإقامة الصلاة في حياتنا من أصحاب هاتين القصتين وقد هداهم ربهم ووفقهم لذلك بمنه وكرمه وفضله وهو الغني عنهم وعن جميع مخلوقاته.

014.7.3.2- إن الذين لا يؤمنون بالله ويعبدون غيره قد ظلموا وأهلكوا أنفسهم بجهلهم لحقيقة وجودهم، وتجنيهم على صاحب الفضل على وجودهم وبقائهم. لقد خلقهم وعبدوا غيره، ورزقهم وشكروا سواه. والدليل الذي ساقته السورة على هذا هو قصص قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم (الآيات 9-17) جاءتهم رسلهم بالبينات، فكفروا بها تجبراً وعناداً، وتمسكوا بما كان يعبد آباءهم من دون الله، وآذوا الرسل وهددوهم بالطرد من البلاد. فلجأ الرسل إلى ربهم طالبين النصرة على أعداء دينه والحكم بينهم، فاستجاب لهم، وأهلك كل متكبر لا يقبل الحق. خسروا الدنيا والآخرة بسبب كفرهم وعبادتهم غير الله.

إن الخسائر التي تحصل بسبب الكفر، خسائر عظيمة، فهي خيبة في الدنيا، وعذاب غليظ مقيم في الآخرة، هذا ما أكدته هذه القصص وبينته. ولن ينقذ الناس من ظلمهم لأنفسهم باتباعهم الطواغيت والآلهة التي لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً سوى إيمانهم بالله وحده فاطر السماوات والأرض، وعبادته لا شريك له.

014.7.3.3- الأمثال: ولمزيد من البيان ووضع النقاط على الحروف وإفهام المعاني اعتمدت السورة على الأمثال في الآيات (18، 24-26، 45، 46).

والأمثال كعادتها، فهي لزيادة الإيضاح وإفهام المعاني تستخدم حقائق ملموسة مألوفة، شديدة الوضوح، تعبر عنها وتصورها بقليل من الكلمات، ليستطيع الإنسان من خلالها تخيل وفهم المعنى الذهني المراد إيصاله له. فينتج عن وصف المعني الذهني وتشبيهه على شكل، حقيقة معاشة مألوفة، معاني ودلالات لا حصر لها تغني عن الكثير من الكلمات النظرية المجردة. وهذ الأسلوب استخدمته السورة وسيلة مساعدة لكي تلخص المعاني والدروس المستفادة من السورة: فأعمال الكافرين كالرماد اشتدت به الريح فهو لا ينفعهم. وكلمة التوحيد وكلام الإيمان كالشجرة الطيبة تعطي ثمرها في كل الأوقات بإذن ربها، أما الكفر وكلام الكفر فكالشجرة الخبيثة لا ثبات لها. أما عن القصص الواردة في السورة فخبرهم أنكم قد سكنتم في مساكن من كان قبلكم من الأمم، وترون ما فعل الله بهم سواء مؤمنهم أم كافرهم. وأما مكر الكفار وإن عظم مكرهم لتزول منه الجبال فإنه عند الله لا يساوي شيء، وسيعود عليهم.

014.7.3.4- انظر إلى أهل الكتاب كيف أنهم ببركة كونهم أهل كتاب استوعبهم الإسلام واحتضنهم وحماهم وعاشوا في نعيمه طوال هذه القرون. انظر إلى الخير الذي تعيش فيه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بينما الأمم الأخرى تتسابق على خدمتهم لما جعله الله من الطاقة التي تنبع من تحت أرجلهم، ولما جعله من الخير والبركة في أراضيهم. فوالله لولا عناية الله بهذه الأمة، ببركة وجود كتابه بينهم، والدين الذي جعله فيهم، لماتوا من الجوع، ولداستهم الأمم الأخرى المتقدمة، التي سبقتهم في العلوم والصناعات واستخراج الخيرات من الأرض التي سخرها الله لعباده المؤمنين. فلتتوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن تفريطها بحق دين ربها، وعن جهلها بما أعزها، لكي ينعم عليها ربها ويخرجها من المهانة والذل الذي يحيق بها، فوالله لولا الله ما بقيت هذه الأمة إلى اليوم، ولولا هدايته ودينه، لما رأوا خيراً ولا بركة في بلادهم، فهو وحده القادر، رزق ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بواد غير ذي زرع بأن أقاموا الصلاة، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.

تلك كانت آيات القصص والأمثال وعددها 26 آية، أي نصف عدد آيات السورة، وقد استخدمتها السورة كوسيلة لتسهيل فهم معانيها ولإيضاح مقاصدها ومواضيعها، هذه المقاصد والمواضيع التي تم بيانها وتقريرها في النصف المتبقي من آيات السورة. والنصف الثاني المتبقي ينقسم بدوره إلى نصفين كل واحد منهما يشكل ربع عدد آيات السورة. الربع الأول يقرر ويتحدث عن الموضوع الأول حول كون نزول الكتاب نعمة من الله وفضل على الناس، والربع الآخر يقرر ويتحدث عن أن الناس محاسبون ومجازون على مدى ومقدار التزامهم بما جاء به وقرره الكتاب المنزل من الله خالق الناس ومدبر أمورهم.

014.7.3.5- نعم الله على الناس: الآيات (1، 2، 4، 19، 20، 27، 32-34، 42، 47، 51-52) = 13 آية

أنزل الله الكتاب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. القائم على حقيقة أن له وحده ما في السماوات والأرض، والويل لمن أشرك به شيئاً منهما أو فيهما. وقد أرسل الرسل لبيان الدين. وهو خلق السماوات والأرض بالحق أي على الوجه الصحيح الدال على الحكمة لا العبث. المحيط علماً وقدرة على تثبيت المؤمنين، وإضلال الظالمين. خلق السماوات والأرض لخدمة الناس ورزقهم، وسخرها لهم لتحقيق مصالحهم، وآتاهم من كل ما سألوه. يؤخر الظالمين ليقيم عليهم الحجة. إن الله لا يخلف رسله ما وعدهم به من النصر وإهلاك المكذبين. يجازي الله كل إنسان بما عمل من خير أو شر. وفي هذا القرآن بلاغ وإعلام للناس، ليتعظ أصحاب العقول بأن الله هو الإله الواحد، فيعبدوه وحده لا شريك له.

014.7.3.6- حساب الله للناس على أعمالهم يوم القيامة: الآيات (3، 21-23، 28-31، 43، 44، 48-50) = 13 آية

بينت السورة من النعم التي لا تحصى التي تحصل بسبب الإيمان والعبادة، وبينت أيضاً أن الذي يستبدل هذا بالدنيا ويختار الطرق المعوجة التي توافق أهواءهم، هم في الحقيقة بعيدون كل البعد عن الحق والهدى. وحين يقفون يوم القيامة هم وآلهتهم الباطلة، وأولياءهم من الإنس، ومن أضلهم من شياطين الجن أمام الله، فلن يغنوا عنهم من عذاب الله من شيء. أما المؤمنين فيدخلون جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.

الكفار هم الذين جنوا على أنفسهم بأن استبدلوا نعمة الإيمان بالكفر وتمتعوا بالدنيا ونسوا الآخرة، أما المؤمنين فقد أقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقهم الله، وادخروه ليوم تشخص فيه الأبصار، ولا بيع فيه ولا خلال.

014.7.4- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

014.7.4.1- آيات القصص: (3-17، 28-30، 35-41) = 25 آية.

014.7.4.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (21-23، 43، 44، 47-50) = 9 آيات.

014.7.4.3- الأمثال في الآيات: (18، 24-26، 45، 46) = 6 آيات.

014.7.4.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (2، 19، 20، 32-34) = 6 آيات.

014.7.4.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1، 27، 31، 42، 51، 52) = 6 آيات.

014.7.5- سياق السورة في بيان أن جميع الأمم جاءتهم رسلهم بالبينات:

014.7.5.1- لقد احتوت السورة على إشارة إلى أن جميع الأمم جاءتهم رسلهم بالبينات، وأن لم تذكر الأمم صراحة بالاسم. بل أشارت إليهم بما جاء في الآية {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ (9)}، وهؤلاء الأقوام هم الذين (في غالبيتهم العظمى) كفروا، فأهلكهم الله بسبب كفرهم بما جاءتهم به رسلهم: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}. كذلك جاء تفصيل هلاكهم في الدنيا، وما تبعه من العذاب الشديد يوم القيامة، (الآيات 9-17). هؤلاء هم الأقوام الذين جاءوا قبل إبراهيم عليه السلام. أما الأقوام الذين جاءوا بعد إبراهيم، فجميع من جاءهم من الرسل هم من ذريته عليه السلام، ابتداءاً بإسماعيل وإسحاق، وانتهاءاً بنبينا محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وكثير من هؤلاء الأمم آمن ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام لهم بالإيمان. لقد انتفعت الأمم المتأخرة من بعد إبراهيم عليه السلام واستفادوا من الرسل التي أرسلت إليهم الكتب التي أنزلت عليهم، فأنجاهم الله بإيمانهم من ظلم الآلهة والطواغيت، كما أنجى قوم موسى عليه الصلاة والسلام {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ (6)}، ورزقهم الله من الثمرات، وأنعم عليهم بالأمن والإيمان. ثم بعد ذلك تطاول عليهم الزمان فاجتالتهم الشياطين، واستجابوا لدعوتها لهم إلى الكفر والشرك. فأهلكوا بسبب كفرهم واستبدلوا بقوم مؤمنين غيرهم، سكنوا مساكنهم، كما جرت عليه سنة الله في عباده، ووعده لرسله بإهلاك الظالمين {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)}. وقد استخلفت جميع هذه الأمم بأمة باقية خالدة، أمة محمد عليه الصلاة والسلام، خاتمة الأمم ورسولها خاتم النبيين المرسلين عليه السلام، من ذرية إبراهيم وإسماعيل، ودعوته {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ُ (129)} البقرة.

014.7.5.2- وفي إرسال الرسل للناس نعمة تعدل تلك النعم الدنيوية المذكورة أو تربو عليها: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور (1)}، رسل يذكرون أقوامهم بأيام الله (الآية 5) وبأنعمه عليهم (الآية 6)، وزيادة النعمة بالشكر: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7)}، مع أنه تعالى غني عن الشكر وعن الشاكرين، ووظيفة الرسل مجتمعين إيصال دعوة الله للناس: {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم (10)}، والتذكير بوعد الله وسنته: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (14)}، وهي نعمة من نعم الله الكثيرة التي لا تحصى. إن في تلك النعم لآيات {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5)}، وهم الذين يتدبرون آيات الله، وتتفتح لها بصائرهم ويصبرون على البأساء ويشكرون على النعماء.

014.7.6- قراءة سياق السورة باعتبار ثبات سنن الله في كل الأمم على اختلاف مرور الزمان وتغير المكان:

الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وعرّفه على نفسه، ليؤمن به ويسعد بمعرفته وبمحبته وطاعته، ثم يعبده فيسعد بعبادته وشكره. هذا ما أراده الله تعالى، وقضاه، يدعوهم ليغفر لهم ذنوبهم، ويؤخرهم ليجزيهم بما عملوا، ولأجله: خلق الإنسان، وخلق الموت والحياة، وخلق السماوات والأرض وما بينهما وسخرهما للإنسان ليستعين بهما على ما خلق له؛ لكن أكثر الناس أعرضوا، باستحبابهم الحياة الدنيا التي سخرها الله لهم ليعرفوه ويعبدوه، فكفروا وعصوا، وشقوا وعذبوا بذنوبهم. هذا ما تبينه السورة بأبلغ تفصيل وأوجزه: وذلك بأن عرّفت كل الأطراف في هذا المقصد، وأوضحت كذلك حقيقة ما حصل وما سيحصل، في الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى اختلاف الأمكنة والأزمان. فالأطراف: هم الله الخالق جلّ جلاله، والإنسان المخلوق، والسماوات والأرض المسخرات، والشيطان اللعين عدوّ الإنسان. والمقصد الحقيقي للخلق هو نعمة الله على البشر وزيادتها بالشكر، ومقابلة أكثر الناس لها بالجحود والكفران، فباؤوا بالعذاب بذنوبهم. (للمزيد من التفصيل حول التعريف بالله والتعريف بالإنسان والأطراف الفاعلة في حياته والعبادة ونعم الله على الإنسان، انظر أيضاً المقدمة، في باب بعض التفاصيل عن مواضيع القرآن)، وفيما يلي بيان تفاصيل ثبات سنن الله تعالى في السورة:

014.7.6.1- الآية الأولى (1) فيها بيان مقصد خلق الإنسان وهو أن الله تعالى يريد أن يهدي الناس إلى الصراط ليخرجهم من الظلمات إلى النور، {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور (1)}، وهو مقصد ثابت، وهو مقصد نزول القرآن بمجمله (انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن في باب مقصد القرآن الكريم).

014.7.6.2- الآيات (2-4) فيها بيان أن الناس كفروا بأن الله له ما في السماوات والأرض، ورضوا بالحياة الدنيا، فأرسل إليهم المرسلين ليبينوا لهم الحق وطريق الهدى. وهي أيضاً سنة ثابتة كما بيناه أدناه.

014.7.6.3- الآيات (5-8) قصة موسى عليه السلام وهو أحد المرسلين ليخرج قومه من الظلمات إلى النور، وهي نفس مهمّة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، كما هو مذكور في الآية الأولى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور (5)}.

014.7.6.4- (الآيات 9-17) سنن الله الثابتة تؤكدها هذه الآيات بحديثها عن الأمم على مرّ العصور وكأنهم أمة واحدة في زمان واحد: وبأن جميع الأمم، بمن فيهم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم جاءتهم رسلهم بالبينات، وجميع هؤلاء الأقوام كفروا بما جاءت به الرسل، ثم جميع هؤلاء الأمم أهلكهم الله في الدنيا، ثم عذبهم في الآخرة، إلا القلة القليلة ممن آمنوا مع رسلهم فأنجاهم الله تعالى من العذاب وأسكنهم الأرض من بعد هلاك الكافرين؛ فمهما تباعد الزمان واختلف المكان، فسنن الله في الذين آمنوا والذين كفروا هي واحدة، لأن الله تعالى خلق الزمان والمكان، وخلق الناس والدنيا وما فيها، وخلق الموت والحياة لأجل أن يبتلي الناس بأعمالهم، فالأمم في هذه الآيات من لدن نوح، مؤمنهم وكافرهم، وكذلك المرسلين إلى كلّ أمة بلسانهم، جميعهم هم هؤلاء الناس المخاطبين في الآية الأولى، فلا يتغيّرون مع تغير الزمان ولا باختلاف المكان. الناس جميعهم أمة واحدة، وجميع المرسلين رسالتهم واحدة، والمؤمنون مصيرهم واحد في الاهتداء إلى الحق والخروج من الظلمات إلى النور، والكافرون مصيرهم واحد وهو الهلاك في الدنيا، ثم العذاب الذي ينتظرهم هناك في الآخرة.

014.7.6.5- الآيات (18-20) تأكيد ثبات سنن الله لأنها الحق، فمن أراد الباطل يذهبه الله ويأت بخلق جديد، فالباطل زاهق كما تذهب الرياح الشديدة العاصفة الرماد الخفيف {وما ذلك على الله بعزيز}.

014.7.6.6- الآيات (21-31) كلها تشير إلى أن سنن الله واحدة ثابتة تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة، وتكمل إحداهما الأخرى بلا انقطاع ولا انفصال، وأن اختلاف الناس وعداوتهم في الدنيا تمتد إلى الآخرة، فيصيب المكذبين ما يصيبهم من الهلاك في الدنيا، وينتظرهم العذاب يوم الحساب، كذلك المؤمنين ينصرهم الله تعالى في الدنيا، ويدخلهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، حتى الشيطان اللعين يعترف للناس بأن وعد الله هو حق، وبأنه خدعهم وأنه يكفر بما أشركوه من قبل، فلا سلطان له عليهم. وتكمل الأمثال التي تبدأ في الدنيا وتنتهي في الآخرة كذلك إبراز ثبات الحق وسنن الله وشرائعه القائمة على الأسباب وثبات نتائجها في الدنيا، ونتائجها الأخيرة: مثل الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة: شجرة النور، والصراط المستقيم، والنبوة، والإيمان، والخير؛ والكلمة الخبيثة: كالشجرة الخبيثة: شجرة الظلام والجهل والباطل والتكذيب والشر. يثبت الله الذين آمنوا على الحق وعلى الصراط المستقيم الثابت الذي لا يتغير حتى يصل بهم إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، أما الظالمين فلا شيء ثابت في حياتهم فهم في ضلال كالشجرة الخبيثة ما لها من قرار. وتكمل بعد هذه الأمثال بأن الذين بدلوا نعمة الله عليهم بالنبوة والهدى في الدنيا بالكفر والضلال فمأواهم في الآخرة جهنم وبئس القرار، أما عباد الله فأقاموا الصلاة وأنفقوا في الدنيا ليوم لا بيع فيه ولا خلال.

014.7.6.7- الآيات (32-41) تعداد نعم الله التي لا تحصى على الناس: الدينية بالإيمان، والدنيوية بالرزق والأمان:

014.7.6.7.1- الآيات (32-34) يعدد الله تعالى نعمه العظيمة على الناس مؤمنهم وكافرهم وطائعهم وعاصيهم لعلهم يشكرون. وآتاهم من كل ما سألوه، لكن الثابت أن الإنسان في عمومه لا يشكر النعمة حق الشكر: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار (34)}.

014.7.6.7.2- الآيات (35-41) وتمثل قصّة أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام أوضح مثال على نعم الله الدينية على الناس بالإيمان، والنعم الدنيوية بالرزق والأمان، وأنه تعالى يؤتي عباده الصابرين الشاكرين من كل ما يسألونه، وأن نعمه عليهم لا تحصى، فقد سأل الله تعالى للبلد الحرام الأمان، وأن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، وأن يهبه الذرية الصالحة، وقد استجاب الله لدعائه وأنعم عليه من الكرامات بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب، وأن يرزقهم من الثمرات ليكونوا من الشاكرين، وغيرها كما فصلناه أعلاه في سياق السورة واعتمادها على القصص، فلا نكرره. وإن قصة أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي أعظم دليل لنا على هذه النعم التي خلق الله الناس لينعموا بها، لكنهم يجحدون بها كما سيأتي في الآيات التي تلي.

014.7.6.8- الآيات (42-52) النعيم في الآيات السابقة يقابله هذا الجحيم الذي في هذه الآيات بسبب ظلم الناس لأنفسهم، وسنة الله تعالى بإمهالهم إلى يوم الحساب، لعله يذّكر أولو الألباب:

014.7.6.8.1 الآيات (42-44) يمهل الله تعالى للظالمين على ظلمهم في الدنيا، حتى يقيم عليهم الحجة يوم القيامة، حين يفاجئهم العذاب فيطلبوا أن يردهم إلى الدنيا، فلا يستجيب لهم، فقد أقسموا من قبل وأنكروا وجود الآخرة وحصول العذاب.

014.7.6.8.2- الآيات (45-46) يضرب تعال مثلاً بهلاك الظالمين، يسكنون مساكنهم، ويرون ماذا فعل الله بهم، وجريان سنته عليهم، مع أنهم مكروا مكراً يكاد يزيل الجبال لعظمته.

014.7.6.8.3- الآيات (47-51) وفيها تأكيد ثبات سنن الله تعالى وصدق وعده بأنه سيبعث الناس للحساب، وسيجزي كل نفس بما كسبت.

014.7.6.8.4- الآية (52) تأكيد أن القرآن نعمة عظيمة، لأنه بلاغ وإنذار للناس، وتذكير لأولي الألباب، بأن الله واحد لا شريك له، هو الحق والنور، وأن ما دونه فهو الباطل والظلمات.

014.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

014.8.0- انظر سورة الكهف 018.8.0- تناسب السّور من الأعراف إلى الكهف في الربع الثاني من القرآن

014.8.1- بعد أن تحدثت سورة الرعد عن الحق وآياته وتفاصيله. تأتي سورة إبراهيم لتبين أن الحق الذي جاء في الكتاب (المنزل) نعمة ما بعدها نعمة لأن الغرض منها إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الحق، ومن عبادة العباد التي توصل إلى العذاب والهلاك، إلى عبادة رب العباد التي توصل إلى الفوز والنجاة. بدليل أن عبادة بني إسرائيل لفرعون كان فيها العذاب وتذبيح الأبناء واستحياء النساء. أما إيمانهم بعد ذلك بالكتاب وتحولهم إلى عبادة الله فقد أوصلهم إلى الفوز والنجاة، الآيات (5-8). وبدليل أنه أعطى إبراهيم الحليم الأواه المنيب عليه السلام من كل ما سأله، ولا تزال نعم الله عليه وعلى ذريته متواصلة، وآثارها شاخصة إلى يومنا هذا، ببركة عبادته ودعائه، كما في الآيات (35-41). والحقيقة أنه بهذه الطاعات والعبادات فإن المنافع عائدة إلى الإنسان العابد نفسه، لا لمنافع عائدة إلى الإله المعبود، والذي يدل على أن الأمر كذلك قوله تعالى: {إن الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}. الذي استحق الحمد لذاته، وكونه غنيا حميدا يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين، ولا ينتقص بكفران الكافرين.

الناس يحبون الدنيا لأنهم غافلون عن الآخرة، والسورة السابقة تبين أن الناس يحبون الدنيا، وهنا تبين أن حب الدنيا وما جعل الله فيها من النعم التي لا تحصى، يجب ألا يجعلهم يؤثرونها على الآخرة. ويقول الرازي: أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموما إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموما حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة.

014.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وجه وضعها بعد سورة الرعد زيادة على ما تقدم‏:‏ أن قوله في مطلعها‏:‏ {كتاب أنزلناهُ إِليكَ} مناسب لقوله‏:‏ في اختتام تلك‏: {ومن عِندَهُ علم الكتاب} على أن المراد بِ {‏من‏}‏ هو‏:‏ الله تعالى جل جلاله وأيضاً ففي الرعد‏: {‏ولقَد استهزئ برسُلٍ مِن قبلِكَ فأمليت للذين كفروا ثم أَخذتهم} وذلك مجمل في أربعة مواضع‏:‏ الرسل والمستهزئين وصفة الاستهزاء والأخذ وقد فصلت الأربعة في قوله‏: {أَلم يأَتِكُم نبأَ الذينَ مِن قبلِكُم قوم نوح وعاد وثمود}.

014.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما كانت سورة الرعد على ما تمهد بأن كانت تلك الآيات والبراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لتعظيم شأنها وإيضاح أمرها. قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور (1)} إبراهيم، أي إذا هم تذكروا به واستبصروا ببراهينه وتدبروا آياته، {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض (31)} الرعد. ولما كان هذا الهدى والضلال كل ذلك موقوف على مشيئته سبحانه وسابق إرادته وقد قال لنبيه عليه السلام {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (7)} الرعد، قال تعالى هنا {بإذن ربهم (1)} إبراهيم، إنما عليك البلاغ.

ولما قال تعالى: {وكأين من آية من السماوات والأرض (105)} يوسف، تم بسطها في سورة الرعد، أعلم هنا أن ذلك كله له وملكه فقال: {الذي له ما في السماوات وما في الأرض (2)} إبراهيم، فالسماوات والأرض بجملتهما وما فيهما من عظيم ما أوضح لكم الاعتبار به، كل ذلك له ملكاً وخلقاً واختراعاً، {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً (83)} آل عمران، {وويل للكافرين من عذاب شديد (2)}، إبراهيم، لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه {ويصدون عن سبيل الله (3)} إبراهيم، مع وضوح السبيل وانتهاج ذلك الدليل، ثم قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه (4)} إبراهيم، وكأن هذا من تمام قوله سبحانه {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية (38)} الرعد، وذلك أن الكفار لما حملهم الحسد والعناد وبعد الفهم بما جبل على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى قالوا: { أبشر يهدوننا (6)} التغابن، { ما أنتم إلا بشر مثلنا (15)} يس، وحتى قالت قريش: { لولا أنزل عليه ملك (8)} الأنعام، {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (7)} الفرقان، {وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (31)} الزخرف، فلما كثر هذا منهم وتبع خلفهم في هذا سلفهم، رد تعالى أزعامهم وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج في هذا الغرض شيئاً فشيئاً، فأول الوارد من ذلك في معرض الرد عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى: أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم (2)} يونس، الآية ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية، وفي طي ذلك أنه يفعل ما يشاء لأن الكل خلقه وملكه، وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال الرسل وكونهم من البشر، فأرغم الله تعالى بمضمون هذه الآي كل جاحد معاند؛ ثم ذكر تعالى في سورة هود قول قوم نوح {ما نراك إلا بشراً مثلنا (27)} هود، الآية وجوابه عليه السلام {أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون (63)} هود، أي أني وإن كنت في البشرية مثلكم فقد خصني الله بفضله وآتاني رحمة من عنده وبرهاناً على ما جئتكم به عنه، وفي هذه القصة أعظم عظة، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام، وديدن الأمم أبداً مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات، وفيها من الحيد والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى وما هو شاهد على تعنتهم، ثم زاد سبحانه تعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعريفاً بأحوال من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام ليسمع ذلك من جرى له مثل ما جرى لهم فقال مثل مقالتهم، فقال تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية (38)} الرعد، وأعلم سبحانه أن هذا لا يحط شيئاً من مناصبهم، بل هو واقع في قيام الحجة على العباد. ثم تلا ذلك بقوله: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه (4)} إبراهيم، أي ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للعذر، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة: لا نفهم عنهم، إذ قالوا ذلك مع اتفاق اللغات، فقد قال قوم شعيب عليه السلام {وما نفقة كثيراً مما تقول (91)} هود، هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم فكيف لو كان على خلاف ذلك بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم في التبتل وعدم اتخاذ الزوجات والأولاد واستعمال الأغذية وغيرها من مألوفات البشر لكان منفراً، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)} الأنعام، أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر فكونهم من البشر أقرب وأقوم للحجة. ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، كان عليه الصلاة والسلام يخاطب كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها بما تفهم، وتأمل كم بين كتابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنس رضي الله عنه في الصدقة وكتابه إلى وائل بن حجر مع اتحاد الغرض، وللكتابين نظائر يوقف عليها في مظانها، وكل ذلك لتقوم الحجة على الجميع، واستمر باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخرة وعذابها – انتهى.

014.8.4- وقال الألوسي: وارتباطها بالسورة التي قبلها واضح جدا لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب وبيان انه مغن عما اقترحوه ما ذكر، وافتتحت هذه بوصف الكتاب والايماء إلى أنه مغن عن ذلك. أيضا وإذا أريد {بمن عنده علم الكتاب} الله تعالى ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة. وأيضا قد ذكر في تلك انزل القرآن حكما عربيا ولم يصرح فيها بحكمة ذلك وصرح بها هنا. وأيضا تضمنت تلك الأخبار من قبله تعالى بأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية الا بإذن الله تعالى وتضمنت هذه الاخبار به من جهة الرسل عليهم السلام وأنهم قالوا: {ما كان لنا أن نأتي بسلطان إلا بإذن الله (11)}. وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة والسلام بأن {عليه توكلت (30)} الرعد، وحكى هنا عن اخوانه المرسلين عليهم السلام توكلهم عليه سبحانه وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه واشتملت تلك على تمثيل للحق والباطل واشتملت هذه على ذلك أيضا بناء على بعض ما ستسمعه إن شاء الله تعالى في قوله سبحانه: {مثلا كلمة طيبة} الى آخره. وأيضا ذكر في الأولى من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر إلى غير ذلك ما ذكر وذكر هنا نحو ذلك إلا أنه سبحانه اعتبر ما ذكر أولا آيات وما ذكر ثانيا نعما وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الآخر. وأيضا قد ذكر هناك مكر الكفرة وذكر هنا أيضا وذكر من وصفه مالم يذكر هناك. وقد اشتركت السورتان مما عدا افتتاح كل منهما بالمتشابه بأن كلا قد افتتح بالألف واختتم بالباء وجمعا أيضا في آخر ما ختما به وبقي مناسبات بينهما غير ما ذكرنا لو ذكرناها لطال الكلام والله تعالى أعلم بما في كتابه.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top