العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
015.0 سورة الحجر
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
015.1 التعريف بالسورة:
1) مكية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 99 آية. 4) هي السورة الخامسة عشرة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والسابعة والخمسون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “يوسف”. 6) ليس لها أسماء أخرى.
7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 2 مرّة، رب 9 مرّات، أنزل 5 مرّات، خلق 3 مرّات؛ (2 مرّة): هو، عليم؛ (1 مرّة): رحيم، بارئ، حافظ، غفور، حكيم، خلاق، خالق، وارث، نحيي، نميت، منتقم، وارث، كافي، يقضي. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي تكررت فيها الآية {مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} 3 مرّات، {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)} هي والمؤمنون آية (43).
السورة الوحيدة التي تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (3 مرّات): حمإ، مسنون؛ (1 مرّة): ربما، الحجر، فاصدع، عضين، سكّرت، سكرتهم، لواقح، عضين، لعمرك، للمتوسمين.
هي أكثر سورة تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: الساجدين/سجد 6 مرّات هي والأعراف، أجمعين 4 مرات، صلصال 3 مرّات؛ (2 مرّة): رجيم، يقنط، فاصفح، ضيف.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: بشّر 5 مرّات، المرسلين/رسول 4 مرّات؛ (3 مرّات): قرآن، الملائكة؛ (2 مرّة): سبعة، يستهزئون، الأولين، حافظ/حفظ، إبليس، نبئ، بشر، لوط، مصبحين؛ (1 مرّة): مجنون، شيع، نسلكه، قلوب، يعرجون، شيطان، شهاب، إبراهيم، أصحاب الأيكة، المثاني، موزون، السموم.
015.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
وفي تفسير الطبري: حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ مولى زيد بن ثابتٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: ” أنزل اللّه تعالى ذكره: {فاصدع بما تؤمر} فإنّه أمرٌ من اللّه تعالى ذكره نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم بتبليغ رسالته قومه وجميع من أرسل إليه.”ويعني بقوله: {فاصدع بما تؤمر} فأمض وافرق.
015.3 وقت ومناسبة نزولها:
نزلت سورة الحجر في السنوات الأخيرة قبل الهجرة، لتشحذ همم المؤمنين وتثبّتهم في مرحلة صعبة، وفي نفس الوقت تحبط كيد الكافرين وتدخل اليأس والقنوط في قلوبهم، بأن الباطل زائف زائل، والحق باق قادم، وفيه الخير والأمان والرزق والنعيم الدائم للمؤمنين، وقد اقترب أوانه. كانت تلك أوقات مليئة باليأس والإحباط، وسنوات عجاف على الدعوة، بدأ يضيق فيها صدر الرسول صلى الله عليه وسلّم بسبب ما يقوله المشركون، واستهزاؤهم واتهامهم له بالجنون والكذب، ومطالبته تعجيزاً بأن يأتيهم بالملائكة دليلاً على صدقه. ومن التحذيرات المتكررة في السورة نعلم أنه على الرغم من استمرار الرسول صلى الله عليه وسلّم في دعوته طوال السنوات الماضية، فإنّ قومه لم يُبدوا أيّ ميل تجاه قبول هذه الدعوة وبدلاً من ذلك ازداد عنادهم واشتدت قسوتهم في اضطهادهم وعداوتهم وسخريتهم مع مرور الأيام. لهذا فالسورة تواسي الرسول صلى الله عليه وسلم وتسرّي عنه مرّة بعد مرّة عن طريق إعلامه بأن كل الأمم السابقة كذبت واستهزأت برسلها من أمثال قصّة قوم لوط وأصحاب الحجر، وأنهم لا يؤمنون حتى لو فتح لهم باباً إلى السماء يعرجون فيه. فتأمره صلى الله عليه وسلّم بأن يعرض عنهم، وألا ينظر إلى ما عندهم من متع الدنيا الزائلة، وألا يضيق صدراً بأقوالهم واستهزائهم، فهم مسؤولون ومحاسبون، وقد توعّدهم ربّهم بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)}.
015.4 مقصد السورة:
015.4.1- مقصد السورة: بيان أن الله هو الأمان، وهو الحافظ والرازق في الدنيا والآخرة (المحيط بكل شيء): أي أن آيات الكتاب بيّنت بما لا شكّ فيه من أن الأمن الذي ينشدونه (والرزق والسعادة) لا يأتي من عند غير الله. (ويشمل الأمان على النفس، والرزق، وتحقيق السعادة باطمئنان القلب، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)} الرعد).
مقصد سورة الحجر هو: بيان أن الله هو الأمان، وهو الحافظ والرازق في الدنيا وفي الآخرة، وأن الأمن الذي ينشده الناس لا يأت إلا من عند الله، لا من البيوت التي ينحتونها. لكن هذا الأمان له سنن وقوانين مذكورة في الكتاب والقرآن المبين؛ لقد خلق الله الناس ليكونوا مسلمين، لكنهم سينشغلون عن الإسلام، ويلههم الأمل، قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}. فطريق الإسلام محفوف بالشهوات والآمال والملاهي، بالإضافة إلى غواية الشيطان الذي يزيّنها لهم، فيتبعونه ويتخذونه وليّاً ويعصون أمر ربهم.
لن يحصل الأمان والرزق والسعادة إلا بالإسلام الذي هو: تسليم الصنعة لصانعها لكي يسيرها ويدبر أمرها. بعلمه بما جعله كامن فيها من خصائصها ومتطلبات بقاءها. بدليل أن الذين كفروا حين يرون العذاب والشقاء الذي هم فيه بسبب كفرهم يودون لو كانوا مسلمين. وكذلك بدليل ما نسمعه من ندم كل من أسلم متأخراً من الكفار على تأخير إسلامه، لما علمه من فضل الإسلام، ورأى عظم ما فاته من الأمن والخير والنعيم وهو بعيد عنه، وسيكون هذا الندم يوم الحشر وقبله وبعده. والكافر كلما رأى حالاً من أحوال الشقاء والعذاب ورأى ما يقابله من أحوال سعادة المسلم ودّ لو كان مسلماً. وفي السورة قصص تسرد حال من أسلم، وحال من لم يسلم، ثم ما حصل لهؤلاء المسلمين بإسلامهم، وللكفار وهم بعيدين عن الإسلام.
015.4.2- مقصد السورة نجده في اسمها في الآية: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)}، فالحجر من الأمان والحفظ، ونجده في غيرها من الآيات المنتشرة على امتداد السورة: فالله هو الأمان وهو الحافظ والرازق والغفور والرحيم في الدنيا والآخرة باتباع الإسلام. فقد حفظ القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}، وحفظ السماء {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)}، وأمّن المعيشة والأرزاق {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)}، وعنده خزائن كل شيء {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)}، وسقاهم الماء {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)}، بيده الموت والحياة وإليه الرجعى فهو الوارث {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)}، والحشر {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)}، وحفظ العباد من الشيطان {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (42)}، وحمى الرسول عليه السلام {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ (95)}، هذا وغيره في الدنيا، والأمان والسلام الخالد الحقيقي هو الذي ينتظرهم في الجنة {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46)}، عندئذ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)}، وليست البيوت التي ينحتون، ولا كما في اعتقاد العباد أن الأمن في الجبال {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آَمِنِينَ (82)}. إن لفظ الحجر يدل على ما دلّ عليه مقصود السورة من الجمع والاستدارة والإحاطة المميزة للمحاط به من غيره بلا لبس.
015.4.3- لقد خلق الله الناس ليكونوا مسلمين (مشتغلين بالعبادة والطاعة). وجعل سعادتهم وبناءهم وفطرتهم وجماعتهم متوافقة ومنسجمة على هذا الإسلام. لا تصلح حياتهم أفراداً وجماعات إلا به. فمن أسلم كان على الفطرة التي فطره الله عليها، فنال الأمن والرزق والسعادة من الله في الدنيا لانسجامه مع الفطرة، وفي الآخرة لوعد الله، بالنعيم المقيم في الجنة. ومن كفر فقد خالف الفطرة، فشقي في الدنيا بانشغاله بما لا يتفق مع طبيعة خلقته، وبالعذاب في الآخرة لعصيان خالقه ومخالفة أمره ونهيه (وإفساده صنعته).
015.5 ملخص موضوع السورة:
015.5.1- تتكون السورة من أربع مجموعات من الآيات تتحدث ويتكرر فيها معنى واحد هو أنه لا بد من الإسلام لمن أراد السلامة والنجاة والأمن الجسدي والغذائي وتحقيق المتع والشهوات في الدنيا، ثمّ النعيم المقيم في الآخرة، كما يلي:
المجموعة الأولى (الآيات 1-15): تبين أن الله هو الملجأ والأمان باتباع الإسلام، ولكن الكافرين لا يصدّقون حتى ولو عاينوا عجائب السماء بأنفسهم. الآيات فيها طمأنة للمؤمنين بحفظ الله وحفظ القرآن الذي جاءهم بالأمان والنعمة لهم وللإنسانية جميعاً إلى أن تقوم الساعة، وإنذار للكافرين الذين يودّون لو يكونوا مسلمين بما يرونه من نعمة الإسلام، والخيبة التي هم فيها بسبب كفرهم وانشغالهم بالأكل والمتع والأماني.
المجموعة الثانية (الآيات 16-25): الدليل على أن الله تعالى هو مصدر الأمان والرزق والنعيم، وهو ما نراه من أنه جعل السماء وحفظها من الشياطين، ومد الأرض وثبتها بالجبال، وجعل كل ما يخرج منها متعايش بتوازن، وجعل لكل حي ما يبقيه على قيد الحياة، وعنده وحده خزائن الطعام والمياه وكل ما يحتاج إليه الإنسان لبقائه. وسيحشر مخلوقاته، ليكتمل ميزان عدله، الذي بدأ على الأرض، فيأخذ كل صاحب حق حقه وينال كل عامل جزاءه على قدر ما قدمت يداه.
المجموعة الثالثة (الآيات 26-84): وفيها سبعة (7) مقاطع عن قصص حقيقية تبدأ بالدليل على نعم الله وتكريمه للإنسان، ثمّ تبين أن ميزان عدل الله ورحمته وعذابه دقيق جداً، ثمّ الإشارة إلى هلاك قريتين طلبتا الأمان من غير الله، كما يلي:
1- خلق الله الإنسان من صلصال (5 آيات): ونفخ فيه من روحه وكرّمه بسجود الملائكة. ولكي يدوم هذا التكريم، فلا بد للإنسان من أن يحرص على رضا خالقه وموجده فيسلم له نفسه وكل عمله.
2- عداوة إبليس (10 آيات): أمر الله سبحانه إبليس أن يسجد كما سجدت الملائكة تكريماً للإنسان، لكن إبليس عصى وتكبر عن السجود لبشر مخلوق من صلصال، بينما هو مخلوق من نار، لظنّه أن النار خير من الطين. فلعنه الله وطرده من رحمته، وأمهله، بناءً على طلبه إلى يوم البعث، لكي يغوي الناس فيعصوا ربهم كما عصاه هو بسببهم.
3- قال الله تعالى أن مصير كل مخلوق مرهون بعمله (10 آيات): وأن الطريق الموصل إليه وإلى دار كرامته مستقيم. وأن من اتبع ابليس من الغاوين موعده العذاب في جهنم، وأن من اتقى وأسلم ففي الأمن والسلام في الجنة، فالله غفور رحيم بالمسلمين المطيعين، وعذابه أليم بالمفسدين العاصين.
4- إرسال الملائكة بالسلام والبشرى لإبراهيم (10 آيات): وبالنجاة لآل لوط عليهما السلام، بسبب دعوتهما إلى الحق والإسلام، فكان هذا هو الحق الذي يستحقونه.
5- إرسال الملائكة بالصيحة والعذاب للمجرمين من قوم لوط (17 آية): لاعتدائهم على حرمات الله واتباعهم شهواتهم التي زيّنها لهم الشيطان، فكان الدمار والاستئصال هو الحق الذي استحقوه بأعمالهم.
6- قصّة أصحاب الأيكة (2 آية): انتقم الله منهم لأنهم كانوا ظالمين، يقطعون السبيل، وينقصون المكيال والميزان، فيأخذون أموال الناس بغير حق، كما جاء بيانه في سور أخرى.
7- قصّة أصحاب الحجر (5 آيات): أعرضوا عن آيات ربهم، وانشغلوا عنها ينحتون البيوت في الجبال، آمنين من عذاب الله، ويحسبون أن الجبال تحميهم، فأخذتهم الصيحة مصبحين، ولم تغن عنهم بيوتهم الحصينة في الجبال.
المجموعة الرابعة (الآيات 85-99): وفيها إعادة تأكيد أن الأمر جد وحق، وأن الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، مما يعني أن كل حاجات الإنسان من الأمن والرزق والمتع وإشباع الشهوات لا بد إلا أن تأتي من عنده. وقد بين سبحانه في القرآن العظيم الطريق الموصل إلى ذلك ممثلاً بدين الله الإسلام. وتختم بأمر من الكريم واسع الكرم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ممثلة برسولها خاتم الرسل أن يبلغ دينه، وبأن يجهر بدعوة الحق، وأن يتواضع للمؤمنين، ويعرض عن المشركين، وألا ينظر إلى ما عندهم من متع الدنيا الزائلة، وألا يضيق صدراً بأقوالهم واستهزائهم، لأن كلاً مسؤول ومحاسب أمام الله.
015.5.2- موضوعات السورة التي تسهّل فهم مقصدها اثنان (بيان ودليل): الأول هو تقرير ما جاء به المقصد وبيانه، ويأتي تقريباً في 3 من كل عشرة آيات من السورة (بمجموع 30 آية)، والثاني هو إقامة الدليل على ما قررته السورة وهو أكثر آياتها، ويأتي في 7 من كل عشرة آيات من السورة (بمجموع 69 آية).
015.5.2.1- بيان وتقرير ما جاء به المقصد، ويتضمن مقدمه (15 آية) وخاتمه (15 آية).
– مقدمة فيها أن الكتاب المبين يقرر ويبين بأن الكافرين يودّون لو يكونوا مسلمين إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين (لو كانوا مسلمين) (15 أية). وفي هذا التقرير تثبيت للمسلمين على الحق وتحريض للكافرين على دخول الإسلام، فهم ليسوا على الحق، بل هم في أكل فان، وتمتع ناقص مؤقت، وانشغال عن الحق، بالأمل وبطول العمر وغيره.
– خاتمة فيها أن الأمر جد وحق (15 آية). خلق الله الإنسان وخلق السماوات والارض لغرض واحد محدد، يتلخص بالإيمان والعبادة. وسوف يحاسب سبحانه الناس أجمعين على ما كانوا يعملون. ويجازيهم بميزان العدل عنده.
015.5.2.2- الأدلة على ما قررته السورة وتأتي في آيات كونية (10 آيات) وقصص (59 آية) وأكثرها قصص تسرد ما حصل للكفار وهم بعيدين عن الإسلام.
– آيات فيها بيان أن الله تعالى: خلق السماء وحفظها من الشياطين، ومد الأرض، وثبتها بالجبال، وجعل كل ما يخرج منها متعايش بتوازن، وجعل لكل حي ما يبقيه على قيد الحياة، عنده خزائن الطعام والمياه. وأنه كما بدأ الخلق فسوف يعيده للحشر والحساب.
– قصص أقوام ثلاثة أساءوا التصرف وأساءوا المسألة وضلوا الطريق. قوم لوط لهثوا وراء شهواتهم بالفاحشة، وأصحب الأيكة سعوا إلى الرزق بقطع الطريق، وأصحاب الحجر طلبوا الأمان في نحت البيوت في الجبال، هؤلاء أقوام خابوا وخسروا باتباعهم غواية إبليس لعنه الله. وما هكذا أمرهم ربهم، بل أمرهم بالإسلام وإقامة الصلاة واستعمار الأرض بإنبات الزرع واستمطار خزائنه وطلب رحماته وبركاته، كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فرزق هو وذريته الأمن والإيمان والزرع في الدنيا، ووعد الله بنعيم الجنة في الآخرة.
ملحوظاً في هذا القصص أنه يعرض على قريش مصارع أقوام يمرون على أرضهم، على طريقهم إلى الشام ويرون آثارهم: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين (75). وإنها لبسبيل مقيم (76)} في طريق تجارتهم وهم يمرون عليها. وفي هذا تسرية وتطمين وتشجيع للرسول صلى الله عليه وسلم، ولمن آمن معه.
015.5.3- لقد خلق الله الإنسان وخلق السماوات والأرض لغرض واحد محدد، وهو الإيمان والعبادة، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}. وسوف يحاسب الله الناس في الدنيا قبل أن يسألهم يوم القيامة عما كانوا يعملون، هل أطاعوا ما أمروا به ونهوا عنه أم هل اتبعوا غواية الشيطان، وسوف يحاسبهم ويجازيهم بميزان العدل عنده. وقد ذكرت السورة قصص أقوام ثلاثة أساءوا التصرف وأساءوا المسألة وضلوا الطريق. وهم: قوم لوط لهثوا وراء شهواتهم بالفاحشة، وأصحب الأيكة سعوا إلى الرزق بقطع الطريق، وأصحاب الحجر طلبوا الأمان في نحت البيوت في الجبال، هؤلاء أقوام خابوا وخسروا باتباعهم غواية إبليس لعنه الله، وقد بقيت آثار خيبتهم ماثلة مدهشة إلى يومنا هذا، يراها الذاهب والقادم ما بين المدينة وبلاد الشام. وما هكذا أمرهم ربهم، بل أمرهم بالإسلام وإقامة الصلاة واستعمار الأرض بإنبات الزرع واستمطار خزائنه وطلب رحماته وبركاته.
كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي لا نزال نعيش إلى يومنا هذا آثار دعواته وصلواته لربه، بأن رزقت ذريته الأمن والإيمان والزرع، نراها في بلاد المسلمين المباركة العامرة بما فيها من خيرات فوق الأرض وثروات تحتها، وفي بقاء رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، التي حفظها الله تعالى بحفظ القرآن العظيم وحفظ أمّته وحفظ لغتهم العربية وبقائهم على التوحيد، رغم عظيم كيد الأمم ضدهم وتكالبهم على تفتيتهم ونهب خيراتهم وتدمير بلادهم. بل وعلى النقيض من ذلك فإن الإسلام كلَّما مرّ عليه الوقت ازدادَ أتباعه، وكثر دخول الناس فيه وقلّ المشركون، وحتى لا يقنطوا من حفظ الله لهم، وعدهم بأن يعزّ الإسلام وأهله، ويظهره على الدين كلّه، وبشّرهم أن يبلغ دينهم ما بلغ الليل والنهار، فلن يترك بيت حجر ولا مدر إلا سرى فيه النور، حتى يتمّ نوره ويعمّ الأرض كلّها قريباً إن شاء الله.
015.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
تتكون السورة من أربعة مجموعات من الآيات تتحدث ويتكرر فيها معنى واحد وهو أنه لا بد من الإسلام لمن أرد الأمن (الجسدي والغذائي والسلامة والنجاة وتحقيق المتع والشهوات) في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، كما يلي: (30% من الآيات تقرير + 70% أدلة)
015.6.1- الآيات (1-15): الله هو الملجأ والأمان / الإسلام هو الأمان، ولكن الكافرين لا يصدقون حتى ولو عاينوا عجائب السماء بأنفسهم.
الكلام الموجه هنا للمسلمين فيه تسلية وتطمين بأن الآيات والقرآن فيهما البيان الكافي والشافي لهم لكي يهتدوا إلى الحق ويكونوا من المفلحين. أما الكلام الموجه إلى الكافرين فهو إنذار أن الآيات والقرآن فيهما البيان لمن أراد أن يصل إلى برّ الأمان، وهم يعلمون ذلك ويودون لو يكونوا مسلمين بما يرونه من النعم التي لا تحصى التي نالها المسلمين بسبب إسلامهم، والخيبة التي هم فيها بسبب كفرهم. ولكن ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل، وهي نقاط الضعف الثلاثة، وأيضاً المنافذ الثلاثة التي يستخدمها الشيطان لإضلال الإنسان، أي حب الإنسان للأكل والشهوات، والتمتع بالأموال والأولاد، والآمال العريضة التي ينسجها في خياله (بعيداً عن الواقع) عن طول العمر والصحة وبعد الأجل، والأماني بالصلاح في آخر العمر أو بمغفرة الله وعفوه عن أفعالهم. وقد ورد عن الحسن أنه كان يقول: إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
إن تجارب الإنسان، عبر تاريخه، وتعامله مع الآيات والكتب والرسل كانت سيئة ومخيبة لكل الآمال، فهم لم يتركوا كتاباً إلا وحرفوه ولا رسولاً إلا واستهزأوا به وجادلوا فيه واتهموه بالجنون، واعتدوا عليه أو حاولوا قتله. لهذه الأسباب تعهد الله سبحانه لهذه الأمة الخاتمة بحفظ هذا الذكر الذي فيه الأمان والنعمة لهم وللإنسانية جميعاً إلى أن تقوم الساعة. فمن أراد أن يؤمن فالهدى موجود في القرآن غضاً طرياً كما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من أول يوم. أما المجرمون فلن يؤمنوا، ولو فتحت عليهم أبواب السماء، ولقالوا أنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون، فوجود الآيات والهدى وعدمه في حقهم سواء.
015.6.2- الآيات (16-25): الدليل من الآيات في السماوات والأرض.
من آيات الله الواضحة الدالة على أنه مصدر الأمان والرزق والنعيم: هو ما نراه من أنه جعل السماء وحفظها من الشياطين، ومد الأرض وثبتها بالجبال، وجعل كل ما يخرج منها متعايش بتوازن، وجعل لكل حي ما يبقيه على قيد الحياة، وهو عنده وحده خزائن الطعام والمياه وغيره، وكل ما يحتاج إليه الإنسان لبقائه.
وهو الذي كما بدأ الخلق، وحفظ الماء والغذاء والأرض والسماء، وجعل كل شيء فيهما موزون. أخبر أنه سيحشر مخلوقاته، ليكمل ميزان عدله، الذي بدأ على الأرض، فيأخذ كل صاحب حق حقه وينال كل جزاءه على قدر أعماله وما قدمت يداه.
015.6.3- الآيات (26-84): الدليل من القصص الحقيقية (59 آية):
015.6.3.1- قصة خلق الإنسان (5 آيات): الله الذي خلق الإنسان من صلصال، ونفخ فيه من روحه وكرّمه بسجود الملائكة. ولكي يدوم هذا التكريم ويحافظ عليه، فلا بد للإنسان من أن يحرص على رضى خالقه وموجده فيسلم له نفسه وكل عمله.
015.6.3.2- قصة عداوة إبليس (10 آيات): لقد أمر الله سبحانه إبليس أن يسجد كما سجد الملائكة تكريماً للإنسان، لكن إبليس عصى وتكبر عن السجود لبشر من صلصال، بينما هو مخلوق من النار (لاعتقاده بأن النار خير من الطين). فلعنه الله وطرده من رحمته، وأمهله، بناءاً على طلبه، إلى يوم البعث، لكي يغوي الناس فيعصوا ربهم، كما عصاه هو بسببهم.
ومن اللافت في قصة خلق الإنسان وعداوة إبليس، أنه لم يذكر هنا إخراج آدم من الجنة، مما يعني أو يدل على أمر مهم يجب أن يعيه الإنسان، وهو: أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مكرماً من بداية وجوده حين أسجد له الملائكة، ثم واصل تكريمه فأدخله الجنة بدون سابق عمل عمله الإنسان، وحين عصى ربه وأكل من الشجرة لم يلعنه كما لعن إبليس، بل أخرجه منها تأديباً له، لكي يعود إليها مسلماً مطيعاً. وهذا هو الحال الذي عليه الإنسان، والذي يجب أن يعلمه عن سبب وجوده على الأرض، لقد خرج من الجنة بمعصية. وحتى يبقى في كنف كرمه المتواصل هنا في الدنيا ولاحقاً عندما يرجع إلى الأمن والسلام في الجنة {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)}، عليه أن يسلم لربه ولا يعصيه.
أما سبب معصية الإنسان لربه، فلا بد له أن يبحث عنه جيداً، وينتبه له، ويحذر منه، فهو سبب قوي يعمي بصره ويسكر عقله عن هذا التكريم العظيم الذي أكرمه به ربه: بالأمن والسلام والنعيم. لقد بينت الآيات وبكل صراحة: أن كل معاصي الإنسان سببها إبليس، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}، هو الذي يزين له ويحسن المعاصي القبيحة، ويغويه بالأماني والضلالات عن الحق المبين. وبدون غواية إبليس فإن الإنسان مسلم بفطرته وأصل خلقته، بدليل ندم كل من أسلم متأخراً من الكفار على تأخير إسلامه، حين وعى بشاعة فعلته ومعصيته، ولما علمه من فضل الإسلام، كما جاء بيانه أعلاه. وبدليل أيضاً أن كل إنسان، وفي قرارة نفسه إنما يريد الخير، والإسلام، والإيمان، والصدق، والعلم، والحق، وغيره من فضائل الأعمال، فلما كان إنه لا يحصل ذلك، وإنما يحصل الكفر والباطل، علمنا أن حصول ذلك الكفر هو بفعل فاعل (إبليس)، أي بغوايته للإنسان وتزيينه له الباطل.
015.6.3.3- إكمال قصة الإنسان وإبليس، وبيان أن مصير كل مخلوق مرهون بعمله (10 آيات): فقد قال تعالى: أن الطريق الموصل إليه وإلى دار كرامته مستقيم. وأن من اتبع ابليس من الغاوين فموعده العذاب في جهنم، وأن من اتقى وأسلم ففي الأمن والسلام في الجنة. فالله غفور رحيم بالمسلمين المطيعين، وعذابه أليم بالمفسدين العاصين.
015.6.3.4- إرسال الملائكة بالسلام والبشرى لإبراهيم، وبالنجاة لآل لوط عليهما السلام، بسبب دعوتهما إلى الحق والإسلام، فكان هذا هو الحق الذي يستحقونه (10 آيات).
015.6.3.5- إرسال الملائكة بالصيحة والعذاب للمجرمين من قوم لوط، لاعتدائهم على حرمات الله واتباعهم شهواتهم التي زينها لهم الشيطان، فكان الدمار والاستئصال هو الحق الذي استحقوه بأعمالهم (17 آية).
015.6.3.6- قصة أصحاب الأيكة: انتقم الله منهم لأنهم كانوا ظالمين (يقطعون السبيل، وينقصون المكيال والميزان، فيأخذون أموال الناس بغير حق، كما جاء بيانه في سور أخرى) (2 آية).
015.6.3.7- قصة أصحاب الحجر: أعرضوا عن آيات ربهم، وانشغلوا عنها ينحتون البيوت في الجبال، آمنين من عذاب الله ويحسبون أن الجبال تحميهم، فأخذتهم الصيحة مصبحين، ولم تغن عنهم بيوتهم الحصينة في الجبال. (5 آيات).
015.6.4- الآيات (85-99) إعادة تأكيد أن الأمر جد وحق (15 آية):
تعيد هذه الخاتمة تأكيد ما جاء تفصيله في السورة من أن الأمر جد وحق: وهو أن الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، مما يعني أن كل حاجات الإنسان من الأمن والرزق والمتع وإشباع الشهوات لا بد إلا أن تأتي من عنده. وقد بين سبحانه الطريق الموصل إلى ذلك ممثلاً بدين الله الإسلام كما جاء في السبع المثاني والقرآن العظيم. وتختم السورة بأمر من الكريم واسع الكرم، الذي خلق الإنسان وفضّله على كثير من خلقه، وأكرمه ورزقه من الطيبات بدون سابق عمل عمله الإنسان أو جهد بذله، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)} الاسراء. تأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممثلة برسولها خاتم الرسل أن يبلغ دينه، وبأن يجهر بدعوة الحق، وأن يتواضع للمؤمنين، ويعرض عن المشركين، وألا ينظر إلى ما عندهم من متع الدنيا الزائلة، وألا يضيق صدراً بأقوالهم واستهزائهم، لأن الكل مسئول ومحاسب أمام الله.
015.7 الشكل العام وسياق السورة:
015.7.1- إسم السورة:
015.7.1.1-سُميت السورة الكريمة ”سورة الحجر” لأن الله تعالى ذكر ما حدث لقوم صالح وهم قبيلة ثمود وديارهم بالحجر بين المدينة والشام فقد كانوا أشداء ينحتون الجبال ليسكنوها وكأنهم مخلدون في هذه الحياة لا يعتريهم موت ولا فناء فبينما هم آمنون مطمئنون جاءتهم صيحة العذاب في وقت الصباح.
015.7.1.2- وفي اسم السورة إشارة إلى أصحاب الحجر وتكذيبهم وإعراضهم ظناً منهم بأنّ بيوتهم المنحوتة في الجبال فيها أمنهم وهي ستغنيهم عن الله، لذلك فهم لا يؤمنون، وقد زيّن لهم الشيطان صنعتهم في النحت وأغواهم بقوتهم عن الله الحق الذي خلقهم من صلصال من حمأ مسنون {لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39)}.
015.7.1.3- يسير سياق السورة (باعتبار دلالة اسمها الحجر من الإحاطة) في اتجاه بيان أن الله محيط بكل شيء: فقد أهلك القرى، وجعل للأمم أجل، وينزل الملائكة، وينزل الذكر ويحفظه، ويرسل الرسل، ويسلكه في قلوب المجرمين، وجعل السماء بروجاً، وحفظ السماء، ومد الأرض وجعل فيها رواسي، وأنبت فيها، وجعل فيها معايش، وعنده خزائن الأشياء، وأرسل الرياح لواقح، وأنزل من السماء ماءاً، ويحيي ويميت، وهو الوارث، وعلم المستقدمين والمستأخرين، وهو يحشرهم، وخلق الإنسان من صلصال، وخلق الجان من نار، وأمر الملائكة بالسجود للإنسان، وأخرج إبليس من رحمته ولعنه، وأنظره إلى يوم البعث، إلخ.
015.7.2- بيان سياق السورة باعتبار ما جاء فيها من موضوعات:
اعتمدت السورة على القصص بشكل كبير وأساسي كوسيلة لإفهام مقصدها، ثم على ما فيها من آيات الله في السماوات والأرض. ولبيان سياق السورة بالاعتماد على ما فيها من موضوعات نلاحظ أنها احتوت على (أربعة مجموعات من الآيات): مقدمة، ثم آيات، ثم قصص، ثم خاتمة، كما يلي:
015.7.2.1- الآيات (1-15): مقدمة: في هذه الآيات نجد أن الكتاب المبين يقرر ويبين بأن الكافرين يودون لو يكونوا مسلمين إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين (لو كانوا مسلمين). (15 أيه).
وفي هذا التقرير والبيان تحريض لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وأمته بأن يمضوا في طريق الهدى فلا يعيقنهم إعراض الكافرين المنشغلين بدنياهم، وأن لا ينظروا (أو يلتفتوا) إليهم وأن لا يبالوا بالمتاع الزائل الذي عندهم. فهو ليس بحق، بل هو أكل فان، وتمتع ناقص مؤقت، وانشغال بالأمل وبطول العمر وغيره عن الحق. وأن هذا لن ينفعهم، وقد كذبت من قبلهم أمم، ولم تنفعهم الآيات، فكذبوا الرسل واستهزأوا بهم واتهموهم بالجنون وغيره، فجرت عليهم سنة الله بإهلاكهم، وإنجاء المؤمنين، لأن لكل أهل قرية أجل لهلاكها، بسبب كفرها وإفسادها، لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه.
015.7.2.2- الآيات (16-25): آيات الله في السماوات والأرض: من هذه الآيات نعلم أن الله هو الحافظ، وهو الرازق، وهو المحيي والمميت وإليه الرجعى والمآل للحساب والثواب (10 آيات)
آيات الله في السماوات والأرض، وإحاطته بهما، وتحكمه بكل ما فيهما، وفي الموت والحياة، واستسلام كل شيء لقدرته، فيها بيان ودليل على أنه الملجأ والملاذ الوحيد في الدنيا والآخرة، وفيها دليل على البعث والحشر والحساب. إن الانشغال بالأكل والتمتع وطول الأمل هي الأسباب الحقيقية والدوافع الأصلية للتكذيب وليست قلة الآيات، بل إن الآيات مشاهدة والحق واضح. وكما سيأتي بيانه في الآيات القادمة فإن الشيطان هو أساس البلوى، هو الذي يغوي الناس ويزين لهم ما في الأرض. وهو لا يظهر بل يعمل في الخفاء، لأنه لو رآه الإنسان لعلم أنه هو سبب الغواية، فيحتاط له ويحذر من عداوته.
من هذه الآيات نعلم أن الله هو الحافظ وهو الرازق. ثم وكما سيأتي بيانه لاحقاً في السورة: فإن الجنة هي أمان الله وسلامه {ادخلوها بسلام آمنين (46)} وليست البيوت التي ينحتون {وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين (82)}. وأن الحق هو رحمة الله {نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49)}، والضلال هو القنوط من رحمة الله {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (56)}.
015.7.2.3- الآيات (26-84): القصص حوالي ثلاثة من كل خمسة آيات. 59 آية 59.6%.
من أجل إقامة الدليل على مقصد السورة: وهو أن الأمان والرزق والسعادة لا تتحقق إلا بالإسلام، اعتمدت السورة على القصص كوسيلة سهلة لإيصال المعاني وإفهام المقصد، فاحتوت على مختصر عن بدئ خلق الإنسان من صلصال، ثم سجود الملائكة، وظهور عداوة إبليس وتسلطه على الناس، ثم هبوط كليهما إلى الأرض، ثم إرسال الرسل بالآيات والذكر، تذكرهما بأصل خلقتهما، وبعداوة الشيطان المستميتة للإنسان وغوايته له، ووسوسته وعمله في الخفاء، وغفلة الإنسان عن هذا العدو، والسبب الذي خلقا لأجله وعن النهاية ومصير كل منهما يوم القيامة، واحتوت على الكثير من التفاصيل عن العلاقة التي قامت بين هذين المخلوقين من ناحية، ومن ناحية أخرى وعن خلق الملائكة وأنها مطيعة لربها من فورها دون تردد، وتقوم بتنفيذ أوامره دون إبطاء. وقد جاء بيان هذا كله في السورة كما يلي:
015.7.2.3.1- الآيات (26-30): احتوت على قصة خلق الإنسان وخلق الجان، وتعظيم خلق الإنسان بسجود الملائكة، (5 آيات).
015.7.2.3.2- الآيات (31-40): عصيان إبليس أمر الله له بالسجود، وتكبره، وطرده من رحمة الله، وعداوته للإنسان، (10 آيات).
015.7.2.3.3- الآيات (41-50): وعد الله بالرحمة والمغفرة والجنة لعباده، وبالعذاب الأليم وجهنم لمن يتبع غواية ابليس، وأن الكل مجازى بعمله، (10 آيات).
015.7.2.3.4- الآيات (51-77): قصتين مختلفتين في قصة واحدة، تبين أن ميزان رحمة الله وعذابه دقيق جداً، لا تتأثر فيه رحمته بعذابه ولا عذابه برحمته، ولا حتى تتأثر ملائكته بهذا، (27 آية).
ففي نفس الوقت الذي أرسل فيه، جلت قدرته، ملائكته بالسلام والبشرى لإبراهيم، وبالنجاة لآل لوط عليهما السلام، جاءت نفس الملائكة بالصيحة والعذاب للمجرمين من قوم لوط. فالحق والميزان لا يتأثران بالعاطفة. من يسلم لله في عبادته ومعاملاته يحصل على الرحمة والمغفرة والجنة، ومن يتبع غواية الشيطان يطرد من رحمة الله كما طرد إبليس ويكون جزاءه الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. إبراهيم عليه السلام أسلم لربه وأخلص له العبادة، وعرف أنه مصدر الخير والرزق والفلاح، فدعا ربه لبنيه وذريته، أن يجعلهم مسلمين وأن يبعث فيهم الرسل وينزل عليهم الآيات، ليقيموا الصلاة. لقد أحب عليه السلام بنيه وذريته (وكل إنسان يحب بنيه وذريته) فاستمطر لهم خزائن ربهم بالهداية والبركة وإقامة الصلاة، فاستجاب الله لدعائه. أما قوم لوط فقد أغواهم الشيطان بإشباع شهواتهم بالحرام فلهثوا وراءه، وازدادوا شبقاً، لم يكفيهم ما عندهم، فراحوا يتصيدون ما عند غيرهم، ويعتدون على الضيوف بدلاً من إكرامهم. فإن طالب الدنيا لا يشبع، كما في الحديث عن أنس قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم منهومان لا يشبعان منهوم في علم لا يشبع ومنهوم في دنيا لا يشبع” وهو حديث صحيح على شرط الشيخين. لقد هلكوا بعد أن أضلهم إبليس وضلوا الطريق، ولم يحققوا عنده مبتغاهم، لأن خزائن السماوات والأرض عند الله وليست في مكان آخر.
015.7.2.3.5- الآيات (78-84): قصتين مختلفتين عن هلاك قريتين طلبتا الأمان من غير الله، (7 آيات):
كذلك أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، والأيكة: هي الشجر الملتف، وكانوا يقطعون السبيل، وينقصون المكيال والميزان، فيأخذون أموال الناس بغير حق، ولو ابتغوا سبل ربهم كما شرعه لهم لعمهم الخير والبركة لكنهم اتبعوا غواية ابليس فأهلكوا أنفسهم، خسروا الدنيا والآخرة. أما أصحاب الحجر، وهم ثمود كذبوا نبيهم صالح عليه السلام، وأعرضوا عن آيات ربهم، وانشغلوا عنها ينحتون البيوت في الجبال، آمنين من عذاب الله ويحسبون أن الجبال تحميهم، فأخذتهم الصيحة في وقت الصباح، ولم تغن عنهم بيوتهم الحصينة في الجبال ولا شدة اطمئنانهم وثقتهم في وقت الصباح أي بداية نشاطهم وقوتهم واعتدادهم بأنفسهم، فما أغنت عنهم ولا دفعت عنهم عذاب الله لا أموالهم ولا حصونهم ولا قوتهم وجاههم.
هؤلاء أقوام ثلاثة أساءوا التصرف وأساءوا المسألة وضلوا الطريق. قوم لوط لهثوا وراء شهواتهم بالفاحشة، وأصحب الأيكة سعوا إلى الرزق بقطع الطريق، وأصحاب الحجر طلبوا الأمان في نحت البيوت في الجبال، هؤلاء أقوام خابوا وخسروا باتباعهم غواية إبليس لعنه الله، وقد بقيت آثار خيبتهم ماثلة مدهشة إلى يومنا هذا يراها الذاهب والقادم ما بين المدينة وبلاد الشام. وما هكذا أمرهم ربهم، بل أمرهم بالإسلام وإقامة الصلاة واستعمار الأرض بإنبات الزرع واستمطار خزائنه وطلب رحماته وبركاته، كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، الذي لا نزال نعيش إلى يومنا هذا، آثار دعواته وصلواته لربه، أن رزقت ذريته الأمن والإيمان والزرع، نراها في بلاد المسلمين المباركة العامرة، وفي خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، ونراها في الذكر الذي حفظه الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} الحجر.
015.7.2.4- الآيات (85-99): خاتمة: الأمر جد وحق: أعبد ربك وأعرض عن المشركين: (15 آية)
خلق الله الإنسان وخلق السماوات والارض لغرض واحد محدد، وهو ما جاء بيانه في السبع المثاني (وهي سورة الفاتحة) والقرآن العظيم، ويتلخص بالإيمان والعبادة {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}. وسوف يسأل سبحانه الناس أجمعين عما كانوا يعملون، وهل أطاعوا ما أمروا به ونهوا عنه أم هل اتبعوا غواية الشيطان، وسوف يحاسبهم على أعمالهم ويجازيهم بميزان العدل عنده. الأمر هنا موجه للرسول الخاتم ولأمته بأن يجهر بدعوة الحق، وأن يتواضع للمؤمنين، ويعرض عن المشركين، وألا ينظر إلى ما عندهم من متع الدنيا الزائلة، وألا يضيق صدراً بأقوالهم واستهزائهم، لأن الكل مسئول ومحاسب أمام الله.
015.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
015.7.3.1- آيات القصص: (4-13، 28-42، 51-84، 90-97) = 67 آية.
015.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (43-48) = 6 آيات.
015.7.3.3- الأمثال في الآيات: (14، 15) = 2 آية.
015.7.3.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (16-23، 26، 27، 85، 86) = 12 آية.
015.7.3.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-3، 24، 25، 49، 50، 87-89، 98، 99) = 12 آية.
015.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
015.8.0- انظر سورة الكهف 018.8.0- تناسب السّور من الأعراف إلى الكهف في الربع الثاني من القرآن
015.8.1- الغرض من خلق الإنسان، ووجوده على الأرض، هو العبادة. عبادة الله وحده لا شريك له باتباع دينه واتباع أوامره واجتناب نواهيه. وان لله حكمة بالغة في جعل هذا الدين: ألا وهي إصلاح حياة الناس، وإنقاذهم من براثن عدوهم الشيطان. لقد جعل سبحانه للناس مجال للاختيار بين ما ينفعهم وما يضرهم في حياتهم، جميع المخلوقات ليس لديها خيار في تصريف أي شيء من حياتها. جعل سبحانه للإنسان فسحة صغيرة للاختيار في حياته، لحكمة أرادها الله، وأرسل له الرسل تبين له عواقب اختياره. وتبين سورة الحجر أن أكثر الناس لم يستفيدوا من رسالة السماء، على الرغم من أن هذه الرسالة نعمة من أعظم النعم التي أهداها للناس، إذ تبين لهم الحق في حياتهم، وتنير لهم الطريق. ومن أروع المناسبات في ترتيب السور أن جاءت هذه السورة بعد سورة إبراهيم التي تحدثت وأفاضت في الحديث عن نعمة الدين في حياة الناس. لكن قصر نظر الإنسان جعله يترك نعمة الدين، الذي أنعم به عليه خالقه، ويتبع غواية الشيطان العدو المضل المبين، الذي تعهد بتزيين الأرض وغواية الناس أجمعين.
015.8.2- تناسب الحجر مع الأعراف:
015.8.2.1- وهذا يشبه ما جاء في سورة الأعراف، إذ بينت أن أكثر الناس كافرين، على الرغم من تكريم الله لهم بسجود الملائكة، ودخول الجنة، وتوبته عليهم، وستر عوراتهم، وتسخير الأرض لهم، وإرسال الرسل، وإقامة الحجة عليهم، وأعذارهم، وبيان أن مصائرهم هي نتاج أعمالهم. وبيان أن اتباع أوامر الله خالقهم، والتزام دينه الذي أرسلت به رسله، هو لمصلحتهم، وهو شرط لدوام النعمة عليهم والتكريم. ومن أروع المناسبات أن جاءت سورة الأعراف بعد سورة الأنعام التي تحدثت عن نعم الله التي لا تحصى على مخلوقاته، لكنهم لم يحافظوا عليها بمخالفتهم للفطرة وتخريبهم لصنعة الخالق. والحجر بينت عدم إسلام الظالمين، وأن الناس لم يستفيدوا من الرسالة، وقد جاءت بعد سورة إبراهيم التي تحدثت عن نعمة الدين.
015.8.2.2- ومن أوجه التشابه بين السورتين (الحجر والأعراف) أنه قد ذكر في السورتين خلق آدم، وعداوة إبليس، وذكر إبراهيم عليه السلام وقوم لوط. وذكر إهلاك القرى، وأن لكل أمة أجل، وأن الله سيسألهم أجمعين، وأنه سيقص عليهم بعلم، وأنهم يأكلون ويتمتعون ويلههم الأمل، ويستهزئون بالدين، وبالرسل، ويتهمونهم بالجنون، وقد أمر سبحانه الرسل بالأمر بالمعروف، وبالعفو والإعراض عن المشركين، انظر الآيات (3، 4، 5، 11، 24، 92، 94) من سورة الحجر، والآيات (4، 6، 7، 34، 51، 101، 199) من سورة الأعراف.
015.8.2.3- سورة الحجر تذكّر الإنسان بنعمة الدين الذي في القرآن، وهلاك من لم يلتزم بالدين، وأن القوم الضالون قانطون من رحمة ربهم (آية 56) لأنهم يركضون وراء الدنيا فلم تنفعهم بل أهلكتهم ولم تغن عنهم من الله شيئاً. وأنه باتباع الدين لن يكون للشيطان عليهم سلطان (آية 42)، وأن الله سيغفر لهم (آية 49). كذلك سورة الأعراف تذكر الإنسان بنعمة الإيمان الذي يتنزل بسببه الخير والبركات، وأنه لو أن أهل القرى آمنوا لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذهم الله بذنوبهم (آية 96).
015.8.2.4- معصية الشيطان في سورة الأعراف كانت في اعتراضه على نعم الله فبدلاً من أن يشكر ربه على نعمة خلقه من نار وجعله مع الملائكة، حسد الإنسان على التكريم الذي حظي به، وأخذته الكبرياء {خلقتني من نار وخلقته من طين (12)}، نعمة الخلق والتكريم والرزق هذه من فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس لأحد من خلقه تدخل فيه، وهذا يشبه ما يحصل حين يتكبر أقوياء القوم عن اتباع الدين لوجود الضعفاء فيه أو لسبقهم إياهم إلى اتباعه. وهذا يتناسب مع قول الشيطان في سورة الأعراف أنه سيضلنهم حتى لا تجد أكثرهم شاكرين، أي شاكرين نعمة التكريم وغيرها من نعم الله التي لا تحصى. أما في الحجر فركزت على معصية إبليس ورفضه اتباع أمر ربه له بالسجود {لم أكن لأسجد لبشر (33)}، فأوامر الخالق يجب أن تتبع وليس لأحد من مخلوقاته معصيتها، ليس أمام المخلوقات سوى خيار واحد لا ثاني له، الاستسلام لأوامر الله ودينه، أو الطرد من رحمته والعيش في العذاب المقيم. وهذ يشبه كفر الناس وعدم اتباعهم دين الله الحق وتقليدهم دين آباءهم ولو كانوا على ضلالة. وهو يتناسب مع قول الشيطان في الحجر {لأزينن لهم الأرض ولأغوينهم أجمعين (39)} أي يحسن لهم المعاصي ويضلهم عن طريق الهدى.
015.8.2.5- سورة الأعراف ركزت على بيان إنعام الله على القرى، وتمكينهم في الأرض وجعل لهم الرزق والمعايش، كما سبق وأن مكن لهم في الجنة، لكن إبليس اللعين فتنهم، وجرأهم على المعصية، وحال بينهم وبين شكر النعمة، فخابوا وخسروا. أما سورة الحجر فهي ركزت على بيان نعمة الإسلام والإيمان، وقد جعل سبحانه للناس الأرض معايش ليعتبروا من التوازن وعدم الاختلاف أو التفاوت في خلق الله، بل أن لكل شيء مقاديره وخزائنه وموازينه، وأن الإسلام جاء ليضع الإنسان في النظام العام الذي يوحد المخلوقات، ويلزمه بعدم الإخلال في توازن الكون، لكن إبليس اللعين زين لهم المعاصي ومخالفة أوامر الدين، وأضلهم عن طريق الهدى، فكان السبب في هلاكهم.
015.8.3- تناسب مقاصد وموضوعات وسياق السور السبع التي ذكرت فيها قصة خلق آدم وعداوة إبليس في القرآن (وهي سور: البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وص):
بداية نذكر: تناسب مقاصد وموضوعات سور: الحجر والبقرة والأعراف، مع سياق قصّة آدم وإبليس، وهي السور الثلاث التي ذكرت فيها تلك القصة إلى الآن؛ ثم نذكر باختصار تناسب قصة خلق آدم وعداوة إبليس في السور السبعة، موزّعة في القرآن، بأقسامه الأربعة، كما يلي:
فالشيطان حسود متكبّر مطرود من رحمة الله، بينما الإنسان خطّاء توّاب مهتدي، وهو يتناسب مع مقصد وموضوعات سورة البقرة؛ والشيطان يدعي كذباً أنه ناصح أمين للإنسان، وأكثر الناس يصدقونه وهو يتناسب مع سورة الأعراف؛ والشيطان يزين للناس في الأرض ويغويهم، وأكثرهم يتبعونه وهو يتناسب مع سورة الحجر؛ كما يلي:
015.8.3.1- مقصد سورة البقرة هو الهداية إلى الصراط المستقيم، قال تعالى: {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)}، لذلك فهي حين ذكرت قصّة آدم مع إبليس، ركزت على بيان قابليتهما للهداية، وسماعهما كلمات الله، وكأنها تبين خصائص هذين المخلوقين، أو الفرق بين الإنسان والشيطان من حيث استعدادهما للإقبال على سماع الهدى، وقبول التوبة والتعلم من أخطائهما: وهي في الإنسان أنه متعلّم، عنده قابلية التعلم المباشر، والتعلم بالخبرة، وأنه مخلوق يعمل ويجتهد ويخطئ، ثمّ يتوب بعد أن يقع في الزلل، فيتوب الله عليه؛ أمّا إبليس فهو على النقيض من ذلك: مخلوق حسود، ومتكبّر، يصر على الخطأ، ويتمادى فيه، لا يتعلّم من تجربته، ويتحدّى كلمات ربّه، ولا يبالي باللعنة والطرد من رحمة الله. فكان هذا الجزء من القصّة في تناسب تام مع مقصد السورة وموضوعاتها، وهي أن الله أنزل الكتاب ليهدي الناس، فمن أقبل واتقى واهتدى فقد فاز وأفلح، ومن تكبّر وأعرض ولم يهتدي فقد خاب وخسر.
015.8.3.2- مقصد سورة الأعراف هو: الأمر باتباع الهدى المنزل، وعدم اتخاذ الأولياء من دون الله. لكن طريق الهدى هذا سيكون محفوفاً بالمخاطر، أخطرها عداوة إبليس؛ وقد ابتدأت السورة بالإنذار والتذكير بأن النجاة تكون باتباع التنزيل، وبأن الله هو الولي، قال تعالى: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (3)}، لكن مع هذا لإنذار وهذه الذكرى فإن أكثر الناس لا يتذكرون، بل يستمعون إلى نصيحة الشيطان ويتخذونه ولياً من دون الله، مع أنه عدو يحلف كاذباً وينصح خادعاً، فقد أخرج آدم وزوجه من الجنة، وقد حذرهما ربهما وقال لهما: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22)}، لكن يستمر نفس الخطأ الذي ابتدأ في الجنة، فلا يفيدهم الإنذار، وأكثرهم لا يتذكرون، بل يستمعون نصيحة العدو إبليس ويتخذونه ولياً من دون الله، فتهلك القرى والأمم بنفس الداء. وهذا القصص يتناسب مع سياق السورة، وهي أن الإنسان عصى وهو في الجنة فعوقب؛ منحه الله فرصة في الدنيا لكي يتوب ويزكّي نفسه ويتعلّم فيعرف أن الله خلقه لينعم بمعرفة أسماء ربّه وصفاته، وأن الله كما أنه غفور رحيم فإنه شديد العقاب، ويتدرّب على الإيمان بالإسلام والعبادة والطاعة، أرسل الله له بذلك الرسل وأقام عليه الحجة، فمن قامت عليه الحجة العمليّة الدامغة وتبيّن كفره ومعصيته وإجرامه دخل النار، ومن ظهر صلاحه بالعمل وإيمانه زكاته واصل حياة السعادة والنعيم في الجنة؛ فالدنيا دار ابتلاء: وأن هناك آخرة وحساب على الأعمال. وأنه يترتب على الأعمال فلاح أو خسارة، في الدنيا والآخرة؛ وأن الله قد أعذر الناس وأقام عليهم الحجة، وأن الكفر والفساد متأصل في اصحاب النار. وأنه دعاهم إلى الاعتبار بهلاك من سبقهم من الأمم وأن أكثرهم كافرين. وأنه أشهدهم على أنفسهم بالإيمان وبأنه ربهم.
015.8.3.3- مقصد سورة الحجر هو: بيان أن الله هو الأمان، وهو الحافظ والرزاق في الدنيا وفي الآخرة، وأن الأمن الذي ينشده الناس لا يأتي إلا من عند الله، وليس من البيوت التي ينحتونها. لكن هذا الأمان له سنن وقوانين، مذكورة في الكتاب والقرآن المبين، لقد خلق الله الناس ليكونوا مسلمين، لكنهم سينشغلون عن الإسلام، ويلههم الأمل، قال تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)}، فطريق الإسلام سيكون محفوفاً بالشهوات والآمال والملاهي، بسبب غواية الشيطان وتزيينها لهم، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}، انشغلوا بالدنيا فعصوا أمر ربهم واتبعوا غواية الشيطان واتخذوه وليّاً، وهو سياق يتناسب فيه سياق هذا الجزء من القصّة مع سياق السورة.
015.8.3.4- تناسب قصة خلق آدم وعداوة إبليس في السور السبعة، موزّعة في القرآن، بأقسامه الأربعة:
في الربع الأول من القرآن وفي سورة البقرة كان سياق قصّة آدم مع الشيطان يتحدّث عن الهدى نظرياً: بأن الله تعالى أَمَرَ الملائكة فسجدوا، وأَمَرَ الشيطان فعصى واستكبر، وأَمَرَ الإنسان فنسي وتاب، أما في الربع الثاني من القرآن وفي سورة الأعراف فالسياق في القصّة يتحدث عن الهدى عملياً: بأن أشارت إلى حقيقة تصرّف كل طرف بالتفصيل التام والحوار وبيان الأسباب والتجربة والدرس المستفاد منها وهو أن الشيطان عدوّ يريد هو وقبيله أن يفتن الإنسان، فليحذر من ذلك. أما سورة الحجر ففيها مزيد بيان وتأكيد بأن النعم المحققة هي لعباد الله المخلصين، وبأن ليس للشيطان عليهم سلطان إلا من اتبعه منهم، بينما وقعت اللعنة على الشيطان بسبب عصيانه أمر ربه وتكبره؛ وتكرر هذا الأمان للإنسان في سورة الإسراء بأن الشيطان ليس له على الإنسان سلطان فالله هو الوكيل، بما يتناسب مع سياق السورة؛ وفي سورة الكهف آية واحدة تأمر الإنسان وتحذّره بأن لا يتخذ الشيطان وذريته أولياء من دون الله وهم لهم عدوّ.
ويعود هذا التناسق ويتكرر في النصف الثاني من القرآن ففي سورة طه (وهي في الربع الثالث من القرآن) تتحدث القصّة في سورة طه عن الهدى نظرياً، وبصورة مشابهة للقصّة في سورة البقرة، ثمّ في بداية الربع الأخير من القرآن في سور ص تتحدث القصة عن الهدى عملياً بصورة مشابهة للقصة التي في سورة الأعراف. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن المطلب 7.4.8.2 وقد تكررت قصّة خلق آدم عليه السلام والأمر بسجود الملائكة وعداوة إبليس له، ثم زلّته بعصيانه أمر ربه، سبع مرات.
(انظر المزيد من التفصيل عن الجن في الباب السابع، الفرع 7.1.5.8.2- الجنّ في القرآن، في تسهيل فهم وتدبّر القرآن).
015.8.4- قال الإمام جلال الدين السيوطي: تقدمت الأوجه في اقترانها بالسورة السابقة (راجع سورة الأنفال) وإنما أُخرت عنها أقصرها بالنسبة إليها وهذا القسم من سور القرآن للمئين فناسب تقديم الأطول مع مناسبة ما ختمت به لبراعة الختام وهو قوله: {واعبُد ربَكَ حتى يأَتيكَ اليقين} فإنه مفسر بالموت وذلك مقطع في غاية البراعة. وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة ففي آخر آل عمران: {واتقوا اللَهَ لعلَكُم تُفلِحون} وفي آخر الطواسين: {كل شيء هالك إِلا وجهه له الحكم وإِليه تُرجَعون} وفي آخر ذوات {الر}: {وانتَظِر إِنَهُم مُنتَظرون} وفي آخر الحواميم {كأَنَهُم يومَ يرونَ ما يوعدونَ لم يلبثوا إِلا ساعة من نهار بلاغ}.
أما وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورة إبراهيم فإنه تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة: {وبرزوا للهِ الواحدِ القَهّار وتَرى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأَصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} قال هنا: {رُبما يود الذينَ كفروا لو كانوا مسلمين} فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار ورأوا عصاة المؤمنين الموحدين قد أخرجوا منها تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك وجه حسن في الربط مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب وافتتاح هذه به وذلك من تشابه الأطراف.
015.8.5- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة ابراهيم من لدن قوله سبحانه {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون (42)} إبراهيم، إلى خاتمتها، أعقب ذلك بقوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2)} أي عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل، ثم قال تعالى تأكيداً لذلك الوعيد {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3)} ثم أعقب تعالى: هذا ببيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان، لا انفكاك لها عنها ولا تقدم ولا تأخر، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه، وقال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (4)} وكان هذا يزيد إيضاحاً قوله عز وجل: {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42)} إبراهيم، وقوله: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب (44)} وقوله: {يوم تبدل الأرض غير الأرض (48)} إبراهيم الآية؛ وتأمل نزول قوله: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2)} على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله، وأما افتتاح السورة بقوله: {الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1)} فإحالة على أمرين واضحين: أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل والآيات كما يفسر، والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضاً، فكيف لا يكون المتوعد به في قوة الواقع المشاهد، لشدة البيان في صحة الوقوع فالعجب من التوقف والتكذيب! ثم أعقب هذا بقوله {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (1)} انتهى.