العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


020.0 سورة طه


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


020.1 التعريف بالسورة:

1) مكية، ماعدا الآيتان 130، 131 فمدنيتان.  2) من المثاني. 3) عدد آياتها 135 آية. 4) هي السورة العشرون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والخامسة والأربعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “مريم”.  6) أسماء أخرى للسورة: اسم السورة طه وهو أحد أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، تسمّى أيضاً سورة الكليم. ذكره السخاوي في جمال القراء. وسماها الهذلي في كامله سورة موسى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 6 مرّات، إله 1 مرّة، رب 27 مرّة وهو متناسب مع دعوة السورة إلى العبادة والطاعة والتصديق؛ (4 مرات): الرحمن، أنزل؛ (3 مرّات): فتن؛ (2 مرّة): هو، هَدى، يَعْلَم، خلق، مخرج؛ (1 مرّة): الملك، الغفار، البصير، الحق، الحي، القيوم، أعلم، له الأسماء الحسنى، سمع، رضي، تعالى. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي تكررت فيها: {لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ (111)} 1 مره، وفي والبقرة وآل عمران: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.

هي أكثر سورة تكرر فيها ذكر: كلمة التوحيد الله “لا إله إلا” مع (هو / أنا) 3 مرات من أصل 22 مرة في القرآن، موسى عليه السلام 17 مرة هي والقصص 17 مره بعد الأعراف 19 مرة من أصل 131 مرة في القرآن كله، والكلمات: تشقى 3 مرّات، عجلت 3 مرّات هي ويونس.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: ذكر 8 مرّات، وحي 5 مرات، رزق 4 مرات، غضب 4 مرات، نسي 4 مرّات، قرآن 3 مرات، الحياة 3 مرات.

020.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

أخرج بن مردويه، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “أعطيت السّورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأوّل، وأعطيت طه والطواسيم من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصّل نافلة”.

020.3 وقت ومناسبة نزولها:

أخرج البخاري وابن الضريس عن ابن مسعود قال: بنو اسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، هنّ من العتاق الأول وهن من تلادي: أي مما حفظ قديماً.

لقد نزلت هذه السّورة في الفترة التي نزلت فيها سورة مريم والتي هاجر فيها بعض المسلمون الى الحبشة أو بعدها بقليل، وقبل إسلام عمر رضي الله عنه، وذلك أن عمر خرج متوشحاً بسيفه يريد رسول الله عليه السّلام وأصحابه وقد اجتمعوا عند الصّفا، وفي الطريق لقيه نعيم بن عبد الله ودعاه أن يرجع إلى أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد فقد صبآ عن دينهما، وهناك قرأ صدراً من سورة طه فقال عمر (ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!).

020.4 مقصد السورة:

020.4.1- مقصدها هو بيان أن الله ما جعل القرآن شقاء ولكن رحمة ونوراً ودليلاً إلى السعادة في الدنيا والجنة في الآخرة. نزل رحمة للناس وتذكيراً لهم بواجباتهم في الحياة، المبنيّة على فطرة الله، والتي فيها سعادتهم وحمايتهم من الشقاء في الدارين، وأن كل نفس ستجزى في الآخرة بما عملت في الدنيا من خير أو شر.

020.4.2- مقصدها نجده في الآية الثانية والثالثة {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ (3)} أي بيان أن هذا القرآن لم ينزل لشقاء الرسول، ولا من آمن معه، بل رحمة وتذكيراً من الرحمن الذي خلق الأرض والسماوات العلى، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وجعله سبحانه موصلاً للسعادة والفلاح والفوز، بدليل عودة الخير والرزق والسعادة والنعيم بعودة الإيمان. وسهّله غاية التسهيل، لتتلقّاه الفطرة السليمة بالقبول، لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة. يهتدي به العقل المستقيم إلى العمل الصالح الموصل إلى الدّرجات العلى. أما صاحب العقل السقيم المعرض عن آيات الله، فهو في شقاء الدنيا، وغضب الله عليه في الآخرة. والسورة كلّها في تفصيل هذا المقصد.

020.5 ملخص موضوع السورة:

هذه السورة هي مما نزل قديماً، رحمة من {الرَّحْمَنُ (5)} بعباده يبيّن لهم ويذكّرهم بما فيه سعادتهم وفلاحهم ونجاتهم من الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة. وربع آياتها يخبر بأن القرآن نزل رحمة وذكرى لمن يتذكر، وثلاثة أرباعها على شكل قصص تخبر عن أنباء موسى وفرعون وقومهما، وعن تكريم الله لآدم وعداوة إبليس له وإخراجه من الجنّة. وسياقها العام هو التذكير المتواصل لآدم وذرّيته بأنهم عجولون قليلوا العزم كثيروا النسيان، والتذكير بعدوّهم الأوّل الشيطان: {بعضكم لبعض عدوّ (123)}، وقد جُعلت قصّة موسى عليه السلام الواردة في (الآيات 9-98)، المثال العملي الوافي والتطبيقي لهذه التذكرة، قال تعالى: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)}.

وباعتبار ترتيب آياتها احتوت على مقدّمة: تؤكد أن القرآن تذكرة ورحمة، ثمّ ثلاث مجموعات من الآيات (قصّتان وموعظة): تظهر عجلة الإنسان وقلّة صبره وكثرة نسيانه، ثمّ خاتمة: تلخص الحكمة من هذا التذكير بالقرآن وبالقصص، وأن الله يمهل ولا يهمل، ولا يعذّب حتى يبعث رسولاً وقرآناً يذكّر بما يحقق للإنسان الفوز والسعادة والرحمة من الله تعالى، كما يلي:

مقدمة (الآيات 1-8): استهلّت بمختصر بديع لمقصد السورة ومجمل موضوعاتها. وهو أن نزول القرآن تذكرة لمن يخشى الله بعمل ما يُرضيه، وليس ليشقى بما لا طاقة له به من العمل، ورحمة من الرحمن الذي يعلم السرّ وأخفى وله الأسماء الحسنى.

المجموعة الأولى (الآيات 9-98): وهي قصّة استغرقت ثلثي عدد آيات السورة تبيّن عناية الله بموسى عليه السلام ونبوته وإنقاذ بني إسرائيل معه، لتكون تذكرة ورحمة لمن آمن واتبع الهدى من بني إسرائيل ولمن تليت عليهم قصته من أمة محمد عليه السلام. ففي (الآيات 9-16) الحديث عن اختيار الله لموسى لتبليغ رسالته: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وعبادته وإقامة الصلاة لذكره، فقد أخفى ساعة الحساب فلا يعلمها أحد، لتجزى كلّ نفس بما عملت في الدنيا من خير أو شر. ثمّ (الآيات 17-24) تأييد موسى عليه السلام بالآيات الدالة على صدقه وصدق رسالته في دعوة فرعون إلى توحيد الله وعبادته: وهي تحوّل العصا إلى حية، وانقلاب يده إلى بيضاء من غير سوء. ثمّ (الآيات 25-36) استعانة موسى بربه على تبليغ دعوته، بأن يشرح له صدره وأن يشدد أزره بأخيه هارون، فأعطاه الله ما سأل. ثمّ (الآيات 37-40) الحديث عن أن الله أنعم عليه قبل هذه النعمة نعمة أخرى، حين كان رضيعاً فأنجاه مِن بطش فرعون، وتربى في بيت عدوّه وفي أحضان أمه، وحين قتل رجلاً خطأ فأنجاه الله من الغمّ فخرج خائفاً إلى أهل “مدين” ثم أعاده في الموعد المقدّر لتبليغ رسالة ربّه. ثمّ (الآيات 41-46) أخبره تعالى بأنه اجتباه واختاره لرسالته، وأرسله وهارون بالآيات الدالّة على الله وعلى رسالته، إلى فرعون الذي تجاوز الحد في الكفر والظلم، لعله يتذكر أو يخشى، ومطمئناً له بأنّه معهما يسمع ويرى فلا يخافا. ثم (الآيات 47-69) إبلاغ فرعون برسالة ربّه بأن يطلق بني إسرائيل ولا يكلِّفهم ما لا يطيقون من الأعمال، وأراه موسى الآيات الدالّة على صدق دعوتهم، وحاوره وبيّن له بقول ليّن أن الله خلق كلّ شيء على أحسن صنعة وهداه إلى الانتفاع بما خُلق له، وأن السلامة من عذاب الله هي لمن اتبع هداه، والعذاب على من كل كذب وتولّى، لكنّ فرعون امتنع عن قبول الحق وتحدى موسى بأنه سيجمع سحرته ليبطل ما أتوه به من الآيات. ثمّ (الآيات 70-82) إيمان السحرة ومعهم بنو إسرائيل برب هارون وموسى بعد أن ثبت لهم صدق رسالته وآياته، ونجاة بني إسرائيل، وغرق فرعون وجنوده، ونزول الرزق والطيبات عليهم بسبب إيمانهم. ثمّ (الآيات 83-98) التأكيد على عجلة الإنسان وسرعة نسيانه لوعد ربه وانسياقه خلف الفتنه والشرك، فها هم قد نسوا أن إلههم هو الله الذي لا إله إلا هو، وفشلوا في أوّل اختبار، بعد أن ابتلوا بعبادة العجل وأضلهم السامري.

المجموعة الثانية (الآيات 99-114): هذا القصَص من أنباء ما قد سبق فيه عبرة وموعظة وتذكرة، وقد آتيناك هذا القرآن ذكرى لمن يتذكر، ومن أعرض عنه فمصيره الخلود في العذاب، ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً. هذا القرآن أنزلناه باللسان العربي ليفهموه، وفصَّلنا فيه من الوعيد رجاء أن يتقوا ربهم أو يُحدِث لهم تذكرة فيتعظوا، فتعالى الله الملك الحق، الذي كل شيء منه حق، فلا تعجل {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}.

المجموعة الثالثة (الآيات 115-128): قصّة أخذ العهد على آدم في الجنة وتحذيره فيها من عدوّه الشيطان، فوسوس إليه الشيطان فأطاعه، ونسي آدم الوصية ولم يجد له عزماً في حفظ أمر الله، فتاب فقبل الله توبته، وأهبطه مع إبليس إلى الأرض، بعضهم لبعض عدو، فمن اتبع هدى الله فلا يضل ولا يشقى، ومن تولّى فله حياة ضنك في الدنيا وعذاب شديد دائم في الآخرة، وفي كثرة مَن أهلكنا من الأمم المكذبة يمشون في مساكنهم آيات لأصحاب العقول الواعية.

الخاتمة (الآيات 129-135): تلخّص موضوعاتها بأن هذ التذكير المتواصل بقصص عن أنباء السابقين، وإنزال هذا القرآن مفصَّل فيه أنواع من الوعيد ليتذكّروا أنهم مبتلون، وأنه لولا كلمة سبقت من ربّك بإمهالهم إلى أجل مسمى للازمهم الهلاك عاجلاً، لأنهم استحقوه بكفرهم، والله عالم بما هم فاعلون، وما ستؤول إليه أحوالهم، ولكن ليقيم عليهم الحجة، فيبلوهم بأعمالهم، فيريهم حقيقتهم، فلا يعتذرون بأن لم يأتهم رسول ولا نذير يذكّرهم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)}، وتختم بتهديد ووعيد أن انتظروا فستعلمون مَن أهل الطريق المستقيم، ومَن المهتدي للحق منا ومنكم.

إنّ الإنسان عجول كثير النسيان قليل العزم، يريد كلّ شيء بين ليلة وضحاها، يغيب عن ذهنه أنه مبتلى ومحاسب على أعماله، وأن الله تعالى قادر على أن يعاجله بالعقوبة، ولكن سبق منه القول بأن لا يعذب حتى يبعث رسولاً وينزل كتاباً، فالله رحمن رحيم لا يظلم أحداً، ذكّرهم بالقصص وبالقرآن بأنه سبحانه جعل لكلّ شيء ميقاتاً وموعداً ليبتليهم أيّهم أحسن عملاً وليقيم عليهم الحجّة بأعمالهم حتى يعلم المؤمنين منهم والصابرين. فقد استغرق إخراج بني إسرائيل من ظلم فرعون وقتاً طويلاً ولد خلاله موسى ونشأ وترعرع في بيت عدوّه وكفالة أمّه حتى إذا ما صاراً فتيّاً قوياً قتل رجلاً وخرج خائفاً يترقب إلى أهل مدين عشر سنين عاد بعدها حاملاً رسالة ربّه بالقول الليّن والآيات الكثيرة إلى فرعون حتى شاء الله بهلاكه وجنوده بعد أن أقيمت عليهم الحجّة، ورآى بني إسرائيل الآيات البيّنات على قدرة الله وعدله ورحمته، لكن للأسف سرعان ما نسوا وعجلوا أمر ربّهم وعبدوا العجل. وفي هذا القصص وهذا القرآن عبرة وتذكرة لأمة محمّد صلى الله عليه وسلّم لكي يثبتوا ويصبروا على إمهال الرحمن وإن طال الزمان حتى يأتي وعده الحق بإهلاك الظالمين ونصر المؤمنين.

نسأل الله أن يشرح لنا صدورنا وييسّر لنا أمورنا ويشدّ أزرنا ويصبّرنا ويثبتنا على الإيمان والعبادة والصلاة والذكر ويعيذنا من اتباع الهوى والشيطان.

020.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

الآيات (1-8) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}. لم ينزل الله هذا القرآن ليشقى به الرسول، ولا من آمن معه (ضمناً)، بل نزل ليكون كتاب موعظة من الذي أعطى كل شيء خلقه ثمّ هدى. الذي جعل الأرض مهداً وسلك فيها سبلاً وأنزل من السماء ماءاً فأخرج به أزواجاً من نبات شتى. أنزل ليتذكر بآياته من يخاف عقابه، فيطيع ولا يعصي، لأن الله سبحانه خلق الإنسان ليكرمه، على شرط أن يطيع فيما يأمره به من الأوامر التي فيها صلاحه. التنزيل ليس للشقاء بل هو للخير والرزق وسعادة الإنسان.

الآيات (9-16) اختيار الله سبحانه وتعالى لموسى عيه السلام لتبليغ رسالة السماء: وهي شهادة أن لا إله إلا الله وعبادة الله وإقامة الصلاة ليذكر فيها الله، وأن كل نفس محاسبة وستجزى على أعمالها في الدنيا من خير أو شر.

الآيات (17-24) تأييد موسى عليه السلام بالمعجزات والآيات الدالة على صدقه وصدق رسالته: وهي تحوّل العصى إلى حية وانقلاب يده إلى بيضاء كالثلج من غير سوء.

الآيات (25-36) استعانة موسى بربه على تبليغ دعوته، بأن يشرح له صدره وأن يشدد أزره بأخيه هارون. فالله هو مصدر المدد والنعم، لا معطي إلا هو ولا يجيب الدعاء إلا هو.

الآيات (37-40) عناية الله وتوفيقه في الحياة الدنيا تصاحب من يختارهم في صغرهم وعند كبرهم فهي ليس لها حدود ولا تتوقف فقط على دعاءهم. فقد تربى موسى عليه السلام في بيت عدوّه وفي أحضان أمه. وهذا التوفيق والعناية (كما سنراه أيضاً في الآيات 81، 123، 124) ينطبق على من يمشي على خطاهم ويقتدي بهم.

الآيات (41-46) بعد إنعام الله على موسى إجتباءاً منه له واختياراً له لرسالته. أرسله بالآيات الدالّة على الله وعلى رسالته إلى فرعون الذي تجاوز الحد في الكفر والظلم. لعله يتذكر أو يخشى.

الآيات (47-69) بدء العمل بالرسالة، وتذكير موسى لفرعون بآيات الله: ورسالة موسى هي نفسها رسالة كل الرسل أن الله خالق كل شيء على أحسن صنعة وهاديه إلى الانتفاع بما خلقه الله له. وأن السلامة من عذاب الله هي لمن اتبع هداه والعذاب على كل كذب وتولّى.

الآيات (70-82) إيمان السحرة ومعهم بني إسرائيل برب هارون وموسى بعد أن ثبت لهم صدق رسالته وآياته، وعودة الإيمان الذي أضاعه الإنسان، وعبادة رب العباد بدلاً من عبادة العباد، ونجاة بني إسرائيل من فرعون وجنوده، ونزول الرزق والطيبات بسبب الإيمان.

الآيات (83-98) عجلة الإنسان وسرعة نسيانه لوعد ربه وانسياقه خلف الفتنه والشرك: إن لله سنن وأحكام لا بد أن تستوفى وأن تعطى حقها وتأخذ مجراها حتى تقام الحجة على الناس بأن أعمالهم هي سبب سعادتهم أو شقاءهم. كيف لا وقد أراد الله من موسى قبل أن يعجل إلى لقاء ربه وتسلم رسالته أن يلازم قومه حتى يذكرهم فلا ينسوا أنهم مبتلون وأنهم محاسبون على أعمالهم وأن يذكرهم بمقاومة الفتن ومواجهة الابتلاء. فها هم قد نسوا أن إلههم الله الذي لا إله إلا هو، ورسبوا في أوّل اختبار، بعد أن ابتلاهم سبحانه بعبادة العجل وأضلهم السامري.

الآيات (99-101) وها هو الذكر يتنزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، كما تنزل على موسى من قبل، فستتكرر نفس الأحداث لأن الله هو نفسه لا إله إلا هو، والإنسان هو نفسه بصفاته ومميزاته. فكما قصصنا عليك تلك القصص عن تذكرة لأمة سبقت، فقد أتيناك القرآن ذكرى لمن يتذكر، من يعرض عنه يأتي يحمل يوم القيامة إثم عظيم.

الآيات (102-114) التذكير بأهوال يوم القيامة وأن الدنيا قصيرة جداً مقارنة بالآخرة. إن لله سنن وحكمة في هذا الخلق لا بد أن تمضي كما أراد لها أنت تمضي. كم هو عجول الإنسان؟ ويا لقصر مدّة الابتلاء التي مكثوها معرضون عن التذكرة التي في القرآن التي تحرضهم على الإيمان بالحق والعمل الصالح الذي فيه صلاح حياتهم.

تذكرة واضحة تحمل لهم الوعيد بلغتهم التي يعرفونها. هم المعنيون بها، والويل لمن أعرض عن الحق وأشرك بالله مالا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً.

الآيات (115-123) التذكير ببداية التكليف والعهد إلى آدم: قصة آدم عليه السلام والتي تتلخص فيها قصة الإنسان وهي أن الله سبحانه خلقه ليكرمه، على شرط أن يطيع فيما يأمره به خالقه، وأن هذه الأوامر من الله الخالق هي في الأوّل والآخر لمصلحة الإنسان فقط. ومن مظاهر تكريم الله للإنسان في القصة أنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وأدخله الجنة وحذره من أن إبليس عدوّ له ولزوجه، وغفر له بعد أن وسوس له الشيطان فنسي أمر ربه فعصى.

الآيات (124-126) هذه نهاية من ينسى أمر ربه يوم القيامة أن يحشر أعمى. كذلك، كما نسي آدم من قبل فأخرج من الجنة. نفس الأوامر لم تتغير ونفس الآيات، مصير الإنسان متوقف على ما كسبت يداه.

الآيات (127-135) وهكذا تجزى كل نفس ما كسبت: يعاقب الله من لم يؤمن بآياته بعقوبات في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد لأنه دائم لا ينقطع. وهنا ملخص جزاء من يسرف، بدليل الذين هلكوا وبقيت مساكنهم. على الرسول الصبر، والأمر بالصلاة، ليس مطلوباً منهم الرزق فالرزق على الله، لأن العاقبة للتقوى. هذا القرآن فيه بيان وتصديق للحق في الكتب السابقة، وهو حجة عليهم فلينتظر المؤمنين والكافرين، وسيعلم الجميع من هم أهل الصراط المستقيم ومن المهتدي.

020.7 الشكل العام وسياق السورة:

020.7.1- اسم السورة: سميت سورة طه وهو اسم من أسمائه الشريفة عليه الصلاة والسلام تطييباً وتسلية لفؤاده عمّا يلقاه من صدود وعناد، ولهذا ‏ابتدأت ‏السورة ‏بملاطفته ‏بالنداء {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}. وأن واجبه الذي أرسل لأجله هو التذكير فلا عليه من عنادهم.

الإطار العام للسّورة هو التذكير المتواصل لآدم وذرّيته لأنهم عجولون قليلوا العزم كثيروا النسيان، وكذلك تذكيرهم بعدوّهم الأوّل الشيطان {قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدوّ (123)}. وقد جُعلت قصّة موسى عليه السلام الواردة في (الآيات 9-98)، المثال العملي الوافي والتطبيقي لهذه التذكرة {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنّا ذكرا (99)}.

020.7.2- سياق: السورة من حيث أن موضوعاتها تدور حول التذكير بما يحقق للإنسان الفوز والسعادة والرحمة من الله تعالى:

020.7.2.1- بينت السورة في أوّل آياتها أن نزول القرآن تذكرة لمن يخشى، ورحمة من الرحمن الذي له الأسماء الحسنى. الآيات (1-8)

يتلخص فيها مقصد السورة ومجمل موضوعاتها في الحديث عن القرآن وأنه لم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ليشقى به أو بسببه، بل هو كتاب تذكرة من الخالق العظيم، يأمر الناس بطاعته واتباع الحق والهدى الموجود في دينه الذي فيه صلاح الإنسان والكون. وتذكيراً بهجر المعاصي، وترك الهوى الذي فيه الشقاء وفساد السماوات والأرض. هذا إنذار أنزله الخالق الرحمن المالك المدبر الذي لا يخفى عليه شيء في الوجود عالم السر وأخفى الواحد الذي لا يعبد سواه له الأسماء الحسنى.

020.7.2.2- عناية الله بموسى عليه السلام ونبوته وإنقاذ بني إسرائيل هو تذكرة ورحمة لمن آمن واتبع الهدى من بني إسرائيل ولمن تليت عليهم قصته من أمة محمد عليه السلام. الآيات (9-98)

رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه. وهي نموذجا كاملا لرعاية الله سبحانه لمن يختارهم لإبلاغ دعوته فلا يشقون بها وهم في رعايته. كذلك في الآيات بيان كيف اختار الله موسى عليه السلام لتبليغ رسالته، وشد أزره بأخيه هارون وأيّده بالمعجزات، ثم إيمان بني إسرائيل، ونجاتهم بعد إيمانهم من فرعون، ثم عودتهم إلى الشرك واتخاذهم العجل.

020.7.2.3- إدخال آدم الجنة وتحذيره فيها من عدوّه الشيطان هي تذكرة ورحمة لآدم وذريته ولمن علم بقصته من أمة محمد عليه السلام. الآيات (115-128)

التذكير ببداية التكليف والعهد إلى آدم، وأمر الملائكة بالسجود له، ثم نشوء العداوة الخالدة بينه وبين الشيطان، ثم عصيان آدم وهبوطه إلى الأرض. وبيان أن الله مبتلي بني آدم بالأعمال وأنه سيأتيهم بالآيات التي تهديهم وترشدهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم.

020.7.2.4- ذكر الساعة والحساب وأهوال يوم القيامة هي تذكرة ورحمة لمن يخشى عقاب الله. الآيات (99-114)

التعقيب على قصة على موسى عليه السلام بأنها جاءت قرآناً يتلى على أمة محمد، وبيان عاقبة من يعرض عن القرآن ولم يعمل بما فيه، وقد جاءهم مذكراً لهم بأنهم مبتلون بالإيمان والعمل الصالح ومحاسبون على أعمالهم في الدنيا.

020.7.2.5- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن إعراض المعرضين وتكذيبهم، وأن لهم أجل مسمّى سيعلمون عنده أن العاقبة السعيدة في الدارين لأهل التقوى. وأن ينصرف هو إلى عبادة الله وذكره، وأن يأمر بذلك، فترضى نفسه وتطمئن. الآيات (129-135)

التذكرة حاجة ضرورية وملحّة للإنسان بسبب سرعة نسيانه، وهي رحمة من الله خالق الإنسان. والدليل على حاجة الإنسان للتذكرة هو ما ورد في الآيات رقم 133 و 134 من السورة، وهو أنه لو أنهم أهلكوا من قبل أن تأتيهم الرسل بالذكر والآيات وقصص الأمم السابقة، لجعلوا ذلك حجة يحتجون بها على سبب عدم اتباعهم الدين وشرع الله. فعلمه سبحانه (وهو الخالق) بما ستؤول إليه الأمور بعث الرسل وأنزل الكتب تذكرهم بما خلقوا لأجله، وجعل سبحانه ذلك حجة لهم أو عليهم، أي بين لهم وهداهم إلى طريق السعادة وحذرهم من سبيل الشقاء. فأقام بذلك الحجة عليهم، فلا عذر لهم.

020.7.3- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:

حوالي ثلاثة أرباع آيات السورة (100 آية) قصّت علينا قصتين حقيقيتين يتبين من خلالهما كيف أن الله دائم التذكير للإنسان بما يحقق له سعادته ويجنبه الشقاء كما يلي:

020.7.3.1- القصة الأولى في (الآيات 9-98) تتلوا علينا رسالة موسى عليه السلام، حيث تبين أن التذكرة تأتي على شكل رسالة أو كتاب يتنزل من السماء على رسول يختاره الله بعلمه ويربيه بعنايته ليكون قدوة وكأنه كتاب يمشي على الأرض يحكي مضمون رسالة رب العباد للعباد والتي هي بسيطة بتفاصيلها ومضمونها لمن أراد الحق والصلاح وبعيدة بواجبتها عن الذين اتبعوا الهوى وأعماهم الشيطان. (عدد آيات القصة 90 آية)

تحكي الآيات قصة موسى عليه السلام وهي من أوضح قصص التذكير للإنسان بوظيفته، فيها العبر وفيها الفكر، وفيها التذكير بصفات الله الحسنى وعنايته وتدبيره ورحمته بالإنسان. موسى عليه السلام هو دعوة أبيه إبراهيم وهو من ذرية نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم جميعاً الصلاة والسلام، هم وغيرهم من المرسلين اصطفاهم ربهم لتبليغ رسالاته كما سبق بيانه في سورتي آل عمران ومريم. عناية الله المعجزة بموسى ابتدأت من يوم ولادته حين ألقته أمه في التابوت ليتربى من بعد ذلك في حضنها وفي عناية فرعون عدو الله وعدوه.

وفي القصة دليل على أن رسالة السماء ليست للشقاء بل هي تذكرة للإنسان بواجبه، وهو مقصد السورة ومحور موضوعاتها. كذلك فيها ما فيها من شقاء ومعاناة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ومع فرعون ولكن في النهاية يحصل مراد الله ويعود التوحيد في الأرض. كذلك بينما لا يزال الإيمان غضاً جديداً حاضراً ولا يزال وموسى وهارون عليهما السلام حاضرين بين بني إسرائيل، وإذا بالشرك يعود كأسرع ما يكون. وهو تماماً ما سيحصل في القصة التالية حيث عصى آدم ربه وهو غارق في النعيم في الجنة.

020.7.3.2- القصة الثانية في (الآيات 115-124) هي قصة خلق الله آدم عليه السلام، وقد أسجد له الملائكة وأدخله الجنة ليكرمه هو وذريته على شرط أن يحفظ عهد الله له، كما حذره سبحانه من أن له عدوّ متربص به وهو إبليس. ومن سياق القصة يتبين لنا كم كان التذكير لآدم واضحاً ومباشراً بأن إبليس يريد له الشقاء ويريد أن يخرجه هو وزوجه من الجنة. لكن ما أسرع أن نسي آدم عهد ربه فعصاه وهو غارق لا يزال في النعيم في الجنة. (عدد آيات القصة 10 آيات)

ولو لم يعصي آدم ربه ولو بقي في الجنة لبقينا معه. ولكن لحكمة ما أنزلنا الله إلى الأرض ليبتلينا فيها مدّة قليلة جداّ 60 إلى 70 سنه هي عمر الإنسان في المتوسط مقارنة مع الحياة الخالدة الموعودة في الدار الآخرة والتي هي ملايين الملايين من السنين بل هي دار الخلود بلا موت. هذه الدنيا دار ابتلاء يفوز فيها من فاز بالجنة حيث الأصل في التكريم ويخسر فيها من خسر إلى النار حيث جزاء من ظلم نفسه وظلم غيره وعصى ربّه وأطاع الشيطان.

020.7.3.3- كما نستنتج من القصتين أن أسباب حاجة الإنسان لدوام التذكير اثنان: أولهما سرعة عودة الإنسان من الإيمان إلى الكفر كما فعل بنو إسرائيل عندما عبدوا العجل مع وجود نبيهم بينهم، والثاني سرعة نسيان الإنسان كما فعل آدم حين أطاع الشيطان بينما هو موجود في النعيم في الجنة.

كذلك هناك سبب ثالث لحاجة الإنسان للتذكير وهو إقامة الحجة عليه فإن هلك هلك عن بينة وإن نجا فعن بينة أيضاً، فلا يكون له عذر بالكفر وعدم الإيمان كما أشارت إليه الآيتان 133 و 134 من السورة.

020.7.4- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

020.7.4.1- آيات القصص: (9-99، 113-124، 133) = 104 آية.

020.7.4.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (102-112، 125-127) = 14 آية.

020.7.4.3- الأمثال في الآيات: (128، 134) = 2 آية.

020.7.4.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (4-8) = 5 آية.

020.7.4.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-3، 100، 101، 129-132، 135) = 10 آية.

020.7.5- سياق السورة يبين فوائد الإيمان ومساوئ الكفر:

مساوئ الشرك والكفر تتمثل بتسلّط الناس بعضهم على بعض بالقتل والحرب والشقاء والظلم كتسلط فرعون على بني إسرائيل. أما مساوئ المعصية مع الإيمان فتتمثل بالعقاب والشقاء كما حصل مع آدم حين أخرج من الجنة جزاء معصيته مع إمكان عودته إلى النعيم والجنة إذا اعترف بذنبه وتاب.

فوائد الإيمان تتمثل في بناء حضارة فيها العدل والرفاهية والنعمة كما حصل مع بني إسرائيل وقد حرر سبحانه السحرة وبني اسرائيل من فرعون، وأنزل عليهم سبحانه على المن والسلوى وغيره في الدنيا ووعدهم بالدرجات العلى في الآخرة. وكذلك كالإسلام الذي أخرج العرب من الذل والجوع والتبعية للأمم إلى قيادة الأمم، وجعلت لهم أطول حضارة عرفها التاريخ ولا تزال قائمة إلى وقتنا هذا. وكذلك كما منّ سبحانه برحمته على المسلمين في وقتنا الحاضر، رغم تخلفهم، بالثروات الطبيعية والمادّية والبشرية التي يحسدون عليها، مما جعلهم مطمع لكل ناهب من الأمم الأخرى، ولولا هذه النعمة التي أنزلها الله عليهم لهلكوا من الجوع. فالرزق ضمنه الله سبحانه لعباده المؤمنين، وكذلك فالعاقبة الصالحة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى (كما في الآية 132).

الله سبحانه خلق فهدى: والوحي هو للتذكرة بهذا الهدى وليس للشقاء، كما في قصة موسى عليه السلام، وقد حرر الإيمان السحرة وبني اسرائيل من فرعون. فالسعادة هي الإيمان بالوحي واليوم الآخر والشقاء هو رفض ذلك. كما أن قصة آدم قد ذكرت هنا كذلك لتعليل الإشقاء، وتبيان حقيقته وهو معصية الرحمن وإطاعة الشيطان واتباع الشهوات.

020.7.6- سياق السورة في بيان ودوافع الإيمان ودوافع الكفر عند الإنسان:

نفهم من السياق أن للإنسان محركان يحركانه في اتجاهين متعاكسين: الاتجاه الأول هو رسالة السماء تخاطب عقل الإنسان وقلبه ونفسه، تذكره وتحرضه على الإيمان الذي فيه مصلحته وسعادته، فإذا تذكر واستخدم عقله (مناط التكليف) وآمن بما أراد له الرحمن فاز ونجا في الدنيا والآخرة. الاتجاه المعاكس هو حبائل الشيطان ووساوسه تخاطب النفس في الإنسان وتزين له الشرك والمعاصي التي فيها هلاكه وضلاله، فاذا اتبع شهوات نفسه وأعرض عن الحق، هلك وخسر في الدنيا والآخرة.

ونفهم أيضاً دورة الإيمان في حياة الإنسان: إذ بعد أن يستشري الشرك والظلم والجوع والعطش والشقاء بين الناس بسبب الشرك يختار الله الرسول مؤيد بالوحي والآيات البينات فيعود الإيمان، ويعود معه الخير والرزق والسعادة والنعيم بسبب الإيمان. لكن ما أسرع نسيان الإنسان للآخرة وما أسرع اتباعه للفتنة وعودته للكفر والشرك وعبادة الأوثان، فيرسل الله سبحانه الرسل مرّة بعد مرّة ليعيد الإيمان، وهكذا.

استعجال الإنسان وسرعة نسيانه وجهله واتباعه هواه وكفره، هو سبب شقاء الإنسان. أما التنزيل فهو ليس للشقاء بل هو للخير والرزق وسعادة الإنسان، هذا كله أشارت إليه قصة موسى عليه السلام في الآيات 49-55.

020.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

020.8.1- ذكر في سورة مريم أن الله سبحانه رحيم بعباده يفيض عليهم من نعمه، عاجلها في الدنيا، وآجلها في الآخرة. وقد خلق الإنسان للعبادة وفطرت عليها كل حياته، والعبادة من أعظم نعم الله على الإنسان فيها الفوز والفلاح والنجاح، وقد كان مقصد السورة في بيان إفاضة النعمة ورحمة الله بعباده. أما في سورة طه فشقاء الإنسان من عمل يده، فهو حين يعصي يطاله العذاب جزاءاً على معصيته. فالتنزيل إذاً هو رحمة لأن الله لا يريد للإنسان الشقاء فيذكره بواسطة الوحي والتنزيل بأن اتباع الهدى هو سبب سعادته وفلاحه، وأن الإعراض عنه هو سبب الضنك والشدة والخسارة. فالسورة تركز على تذكير العباد بواجبهم وأنهم في هذه الدنيا مبتلون. فهنا يذكرهم سبحانه ليرحمهم كما رحم عباده المقربين من قبلهم الذين ذكروا في سورة مريم، فإن الشقاء والعقاب حصل هنا بسبب عصيان آدم وأكله من الشجرة التي نهي عنها وبسبب ضلال قوم موسى وعبادتهم العجل. وبدمج السورتين قد تكتمل الصورة بأن من يستمر على الهدى يستمر في السعادة والنعيم أما من يعود إلى العصيان كما في القصتين اللتين في سورة طه فإن الشقاء والعقاب لا بد حاصل بما كسبت أيدي من عصى.

020.8.2- أعظم نعم الله على الناس هو التوحيد والعبادة والعمل الصالح لأن فيها رحمة الله والفوز في الدنيا والآخرة، والنجاة من الهلاك والخسران في الدارين الذي يحصل بسبب الشرك وعبادة الشيطان والأوثان وإتباع الشهوات.

– ذكر في سورة مريم أن التوحيد والإيمان بالله واتباع دينه هو مصدر النعم وهو رحمة للناس ونجاة لهم من الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة، وجاء فيها من الآيات التي تدل على رحمته وقدرته وأنه جعل الحساب رحمة ليستقيم العباد وينتهي الظلم.

– وفي سورة طه أن الله أنزل القرآن تذكرة ورحمة للناس ونجاة لهم من الشقاء في الدنيا ومن العذاب والنار.

– وفي سورة الأنبياء أن الله أرسل الرسل تذكرة ورحمة للناس ونجاة لهم من الشقاء في الدنيا ومن العذاب في الآخرة.

020.8.3- قال الإمام جلال الدين السيوطي: عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول‏:‏ أن سورة طه نزلت بعد سورة مريم بعد ذكر سورة أصحاب الكهف. وذلك وحده كاف في مناسبة الوضع مع التآخي بالافتتاح بالحروف المقطعة.

ويظهر وجه آخر وهو‏:‏ أنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء وهم‏:‏ زكريا ويحيى وعيسى الثلاثة مبسوطة وإبراهيم وهي بين البسط والإيجاز وموسى وهي موجزة بجملة أشار إلى بقية النبيين في الآية الأخيرة إجمالاً وذكر في هذه السورة شرح قصة موسى التي أجمل هناك فاستوعبها غاية الاستيعاب وبسطها أبلغ بسط ثم أشار إلى تفصيل قصة آدم الذي وقع مجرد اسمه هناك. ثم أورد في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر في مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وأيوب وذي الكفل وذي النون وأشير إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى وهارون وإسماعيل وزكريا ومريم لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ولم تذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أنه مبسوطاً فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب وبديع هذا الترتيب.

020.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما ذكر سبحانه قصة إبراهيم عليه السلام وما منحه وأعطاه، وقصص الأنبياء بعده بما خصهم به، وأعقب ذلك بقوله تعالى {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم (58)} مريم، وكان ظاهر الكلام تخصيص هؤلاء بهذه المناصب العلية، والدرجات المنيفة الجليلة لا سيما وقد اتبع ذلك بقوله {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً (59)} مريم، كان هذا مظنة إشفاق وخوف فاتبعه تعالى بملاطفة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ملاطفة المحبوب المقرب المجتبى فقال {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}.

وأيضاً فقد ختمت سورة مريم يقوله {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً} بعد قوله {وتنذر به قوماً لداً} وقد رأى عليه الصلاة والسلام من تأخر قريش عن الإسلام ولددها ما أوجب إشفاقه وخوفه عليهم. ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام يحزنه تأخير إيمانهم، ولذلك قيل له {فلا تحزن عليهم} فكأنه عليه الصلاة والسلام ظن أنه يستصعب المقصود من استجابتهم، أو ينقطع الرجاء من إنابتهم فيطول العناء والمشقة، فبشره سبحانه وتعالى بقوله: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} فلا عليك من لدد هؤلاء وتوقفهم، فيستجيب من انطوى على الخشية إذا ذكر وحرك إلى النظر في آيات الله كما قيل له في موضع آخر {فلا يحزنك قولهم (65)} يونس، ثم تبع ذلك سبحانه تعريفاً وتأنيساً بقوله {الرحمن على العرش استوى} إلى أول قصص موسى عليه السلام، فأعلم سبحانه أن الكل خلقه ملكه، وتحت قهره وقبضته لا يشذ شيء عن ملكه. فإذا شاهد آية من وفقه لم يصعب أمره، ثم اتبع ذلك بقصة موسى عليه السلام، وما كان منه في إلقائه صغيراً في اليم، وما جرى بعد ذلك من عجيب الصنع وهلاك فرعون وظهور بني إسرائيل، وكل هذا مما يؤكد القصد المتقدم، وهذا الوجه الثاني أولى من الأول – والله أعلم، انتهى.

 

020.8.5- قصة موسى في القرآن:

قصة موسى عليه السلام هي أكثر قصص المرسلين وروداً وتكراراً في القرآن، ولم ترد القصّة كاملة في مكان واحد، فكل سورة وردت فيها قصّة موسى عليه السلام، كانت تعرض أجزاءاً تتناسب مع مقصد وموضوعات تلك السورة. وكما فصّلناه في مقدّمة كتاب تسهيل فهم القرآن، فإن القصص أخذت الحيز الأكبر من عدد آيات القرآن، لأنها تسهّل فهم مقاصده وموضوعاته بالتجربة الحقيقيّة والمثال، وبالتطبيق العملي للدعوة إلى الهدى، وقد اختار القرآن بعض القصص وأكبرها قصة موسى عليه السلام، وظل ينتقي منها ما فيه موضع الفائدة والعبرة والهدى، أما القصّة كاملة فلا ترد كاملة في سورة واحدة، وقد يكرر أجزاءاً منها بقصد تأكيد ثبات سنن الله عبر القرون، وفي الأمم، بأن يذكر من القصة بالقدر الذي يكفي لأداء ذلك الغرض في تسهيل فهم موضوعات السورة. ومن الفوائد العظيمة التي فعلتها قصّة موسى عليه السلام في تسهيل فهم القرآن، والتي أشرنا إليها في مقدّمة كتاب تسهيل فهم القرآن، ما يلي:

020.8.5.1- بيان كيف يكون الهدى والإيمان بالتطبيق العملي والقصص الحقيقي، وكيف تعامل بنو إسرائيل مع هدي ربهم ونعمته عليهم، وماذا كان جزاء نبذهم لعهودهم ونقضهم ميثاقهم مع ربهم، ومصيرهم النهائي: نجده في تسهيل فهم وتدبّر القرآن، الفرع: 7.1.3.6.2- التأكيد أنه لم يحصل تكرار للقصص والأمثال في القرآن، بدون أن يكون لذلك سبباً يستدعي التكرار … ؛ إلخ.

020.8.5.2- تسهيل فهم معنى وحقيقة الهدى والعبادة والمعاملات، انظر تسهيل فهم وتدبّر القرآن، الفرع: 7.1.3.7.1- سهلت علينا فهم مقصود ربنا عن الهدى والعبادة والمعاملات: ففي سورة البقرة، مثلاً، فإن قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل أخذت حيّزاً كبيراً من السورة، وكانت هي المثال الحي الذي ينبض بالحياة؛ إلخ.

020.8.5.3- تسهيل فهم القضاء والقدر، انظر الفرع: 7.1.3.7.3- وكذلك في قصة موسى مع العبد الصالح العالم في سورة الكهف التي سهلت علينا فهم معنى الحكمة الكونية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة، إلخ.

020.8.5.4- وسيلة توضيحية ونموذج تعليمي، انظر الفرع: 7.1.3.7.4- وكذلك نجد أن في إيراد قصة واحدة كقصة موسى صلى الله عليه وسلم أكثر القصص وروداً في القرآن ما يغني عن مئات الوسائل التوضيحية والنماذج التعليمية في إيضاح معاني وموضوعات ومقاصد مختلفة في القرآن.

وهذا غيض من فيض، لأن الفوائد التي ساهمت بها هذه القصة في تسهيل فهم القرآن لا تحصى، وقد أشرنا إليها في مكانها من السور التي وردت فيها. وقد وردت أجزاء منها حتى الآن في سورة البقرة، والمائدة، والأعراف، ويونس، والإسراء، والكهف، وذلك غير الإشارات إليها في سور أخرى. وما جاء منها في المائدة كان قصّة رفض بني إسرائيل دخول الأرض المقدسة لأن فيها قوما جبارين، وفي الكهف كانت قصّة لقاء موسى مع العبد الصالح وصحبته، وأما في البقرة والأعراف ويونس وفي هذه السورة “طه” فقد وردت منها أجزاء كثيرة، ولكن هذه الأجزاء تختلف من سورة لأخرى بحسب سياق وموضوعات السورة. وكذلك سيأتي ذكر قصة موسى كثيراً في السور التي ستأتي، وخاصّة في السور المكّية الثلاث التي نزلت معاً: النمل والشعراء والقصص، الواحدة تلو الأخرى، فالأجزاء المتفرّقة من القصة في السور الثلاثة يكمل بعضه بعضاً لتكوّن في النهاية قصة واحدة: ففي الشعراء الآيات (10-68) تبدأ القصة عندما ناداه ربّه وأمره أن يذهب يأتي قوم فرعون، فيطلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون، ويبدي تخوّفه من أنهم سيقتلوه، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14)} الشعراء، لكنه يذهب إلى فرعون، ويؤمن به السحرة وينجيه ربه ومن معه ويغرق فرعون ومن معه؛ تليها سورة النمل وبدأت فيها القصة عندما كان موسى مع أهله وفجأة رأى ناراً، كما في الآيات (7-13) وما كان من أمره: حين اصطفاه الله وكلمه، وناجاه وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة، والأدلة القاهرة، وابتعثه إلى فرعون وملئه، فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له؛ ثم سورة القصص من بدايتها إلى الآية (43) تحكي عن قصّة مولده ونشأته ورضاعته وخروجه خائفاً إلى مدين ثمّ عودته: تبدأ بذكر طغيان فرعون وجعله أهل الأرض شيعاً، يذبح أبناءهم ويستبقي نساءهم، وحفظ الله لموسى الرضيع وإعادته إلى أمه، وخروج موسى من أرض فرعون وذهابه إلى أرض مدين وزواجه ومكوثه في مدين عشر سنين، وتكليف موسى بالذهاب إلى فرعون، ورفض فرعون للدعوة وإهلاكه وقومه، ونزول التوراة على موسى بصائر للناس وهدى ورحمة؛ وهكذا تكمل السور الثلاثة مجتمعة (النمل والشعراء والقصص) قصة النبي موسى عليه السلام كاملة.

انظر أيضاً سورة الأحقاف: 046.8.1.4- جميع سور الحواميم تحدثت عن موسى عليه السلام.

020.8.5.5- لقد بيّنا في تسهيل فهم وتدبّر القرآن أن القرآن الكريم ينقسم إلى نصفين متساويين ومتشابهين تتكرر في كلّ منهما نفس مقاصد وموضوعات القرآن مع اختلاف في الأسلوب وطريقة العرض والقصص والموضوعات وعدد السور والآيات (انظر 4.2.0). وقد ابتدأ النصف الأوّل بالتعريف بالله الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة، وفي سورة البقرة ذكرت قصّة موسى عليه السلام، في المدّة التي ابتدأت بعد أن نجاهم الله تعالى من قوم فرعون، بما يتناسب مع حال نجاة المسلمين من قريش وهجرتهم إلى المدينة، وقد ذكرت في القصّة تفاصيل مماطلة بني إسرائيل في قبول أمر ربهم ثمّ أنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض وغيرها من التفاصيل التي تتناسب مع موضوعات سورة البقرة المدنية، وليكون كذلك في قصّتهم عبرة لأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم؛ أما في هذا النصف الثاني من القرآن فقد ابتدأ بسورتين مكّيتين: الأولى هي سورة مريم، وهي أكثر سورة تكرّر فيها ذكر اسم الرحمن في القرآن كله، ومقصدها هو صفات الله الرحمن التي شمل بها جميع خلقه، ثم تلتها سورة طه التي احتلت فيها قصة موسى عليه السلام ثلثي عدد آياتها، وتتحدث عن المدّة ما بين بداية دعوته حين ناداه ربّه في الوادي المقدّس وأمره بتبليغ رسالة ربّه، ثمّ إيمان السحرة ونجاتهم وبني إسرائيل من كيد فرعون، لغاية عودته من لقاء ربه بالألواح وقد وجد قومه من بعده قد فتنوا بعبادة العجل، فحرّقه ثم ذراه في اليم، وهذا يتناسب مع العهد المكّي من بداية الرسالة إلى بداية الهجرة إلى المدينة ثمّ ظهور المنافقين في المدينة. وكما ذكرت قًصّة خلق الله آدم عليه السلام، في البقرة، فقد ذكرت هنا في طه، وقد أسجد الله له الملائكة وأدخله الجنة، في 10 آيات من السورة، هي الآيات (115-123)، فتشابهت البداية في نصفي القرآن الكريم.

انظر أيضاً سورة الأحقاف: 046.8.1.4- جميع سور الحواميم تحدثت عن موسى عليه السلام.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top