العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
026.0 سورة الشعراء
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
026.1 التعريف بالسورة:
1) مكية، ماعدا الآية 197 ومن الآية رقم 224 إلى أخر السورة فمدنية. 2) من المئين. 3) عدد آياتها 227 آية. 4) هي السورة السادسة والعشرون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والسابعة والأربعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الواقعة”. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمّى بسورة الجامحة. تفسير الإمام مالك.
7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 13 مرّه، وكلمة {رب} 36 مرّه، {العزيز} 9 مرّات، {الرحيم} 9 مرّات، {هو} 4 مرّات، خلق 3 مرّات؛ (1 مرّة): {الرحمن}، {السميع}، {العليم}، أعلم، يورث، يطعم، مخرج، انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
هي السورة الوحيدة التي تكررت فيها الآيات: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربّك لهو العزيز الرحيم} 8 مرّات، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5 مرّات.
هي أكثر سورة تكرر فيها ذكر الكلمات التالية ومشتقاتها: سِحر 10 مرات هي وطه، أمين 6 مرّات.
هي أكثر سورة تكررت فيها {العزيز الرحيم} 9 مرات من أصل 13 في القرآن، وهذا يتناسب مع موضوعات السورة عن قهره وغلبته للكافرين، وكذلك رحمته بعباده بإرسال المرسلين والرسالات. {فاتقوا الله وأطيعون} 8 مرات من أصل 10 في القرآن، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} 5 مرات من أصل 6 في القرآن.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: مؤمنين 18 مرّه، رسول 17 مرّه، اتقوا 17 مرّه، كذبت 12 مره، {رب العالمين} 11 مرّه، أجر 11 مره، أطيعون 9 مرّات، موسى 8 مرّات، يوم 8 مرّات، قوم 7 مرّات، علم 7 مرّات؛ (6 مرّات): فرعون، عمل، عذاب؛ (5 مرّات): أخ، عبد، سمع؛ (4 مرّات): عظيم، بني إسرائيل، ظلم، أنذر؛ (2 مرّة): أصحاب، شياطين؛ (1 مرّة): إبليس، مجنون، كافر، شعراء.
026.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج بن مردويه، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: “أعطيت السّورة التي ذكرت فيها الأنعام من الذكر الأوّل، وأعطيت طه والطواسيم من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصّل نافلة”.
026.3 وقت ومناسبة نزولها:
نزلت السورة في بداية الدعوة العلنيّة إلى الإسلام، وفي الحديث الصحيح، قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله، عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)}، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، الصفا فصعد عليه، ثم نادى: “يا صباحاه”. فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل، تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟”. قالوا: نعم. قال: “فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد”. فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله: {تبت يدا أبي لهب وتب (1)} المسد. ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي، من طرق، عن الأعمش.
وهذا الحديث فيه تأكيد بأن السورة نزلت في المرحلة المكّية الثانية، انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتفسير القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي ، وهي مرحلة الإيذاء التي وتمتد الى سنتين بعد البدئ بإظهار الدّعوة الى العلن. كذلك يشير اسلوب السورة وموضوعها إلى أنها نزلت في منتصف الفترة المكّية. وهذا يؤكده حديث بن عباس في روح المعاني بأن سورة طه نزلت أوّلا تلتها سورة الواقعة ثم سورة الشعراء. ومعروف أن سورة طه نزلت قبل أن يُسلم عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
لقد نزلت السورة في فترة كان كفار مكّة يرفضون قبول الإسلام ويتهمون النبي عليه السلام فيقولون شاعر أو كاذب أو ساحر أو يسخرون مما جاء به ويقولون اتباعه هم صغار السّن وضعاف الناس والعبيد، ولو كان لرسالته قيمه لأتبعه كبار السّن وأشراف الناس. وتزداد قسوتهم وعنادهم مما تسبب للنبيّ بالحزن والكرب {لعلّك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)} الشعراء.
026.4 مقصد السورة:
026.4.1- الدفاع عن القرآن: لأنه الآية والبيان والمعجزة لأمّة محمد وهو ليس بالشعر ولا بالسحر، بل أنه تنزيل رب العالمين على رسوله الأمين ليكون من المنذرين، وبيان أن أكثر الناس لا يؤمنون وذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من إعراض المشركين وتكذيبهم فهم لا عذر لديهم في عدم إيمانهم، وإلى رعاية الله لدعوته والمؤمنين بها.
كذلك مقصد السورة باعتبار النتائج: فهو بيان عاقبة المكذبين بالرسالة بإظهار البطش والنقمة، وطمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلقاه من إعراض المشركين وتكذيبهم، وإلى رعاية الله لدعوته والمؤمنين بها ولو كانوا مجردين من القوة وأعداؤهم أقوياء جبارون في الأرض مسلطون عليهم بالأذى والتنكيل، وهو الموقف الذي كان فيه المسلمون بمكة عند نزول هذه السورة. ولما كان القصص إحدى وسائل التربية في القرآن الكريم، جاءت الأجزاء المعروضة في السورة من قصص الأنبياء مع أممهم عن الرسالة والتكذيب وما كان من عقاب الله للمكذبين وتنجيته للمؤمنين.
026.4.2- مقصد السورة نجده في مطلع السورة وهو أن القرآن مبين، ولكن أكثرهم لا يؤمنون مهما تأتيهم من الآيات. وأن عدم أيمانهم هو بسبب إعراضهم عن البيان والآيات، لا بسبب نقص البيان أو الآيات. إن ربك هو العزيز القادر على إهلاكهم، وهو الرحيم يبين لهم ويمهلهم، فينبئهم بما كانوا يفعلون.
026.4.3- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: إن هذا الكتاب بين في نفسه بإعجازه أنه من عند الله، مبين لكل ملتبس. ومن ذلك بيان آخر (سورة الفرقان) التي قبلها: “بتفصيله، وتنزيله على أحوال الأمم وتمثيله، وتسكين أسفه صلى الله عليه وسلم، خوفاً من أن يعم أمته الهوان بعدم الإيمان، وأن يشتد قصدهم لأتباعه بالأذى والعدوان بما تفهمه {سوف} من طول الزمان، بالإشارة إلى إهلاك من علم منه دوام العصيان، ورحمة من أراده للهداية والإحسان”. وتسميتها بالشعراء أدل دليل على ذلك بما يفارق به القرآن الشعر من علو مقامه، واستقامة مناهجه، وعز مرامه، وصدق وعده ووعيده وعدل تبشيره وتهديده، وكذا تسميتها بالظلة إشارة إلى أنه أعدل في بيانه، أو أدل في جميع شأنه، من المقادير التي دلت عليها قصة شعيب عليه السلام بالمكيال والميزان، وأحرق من الظلة لمن يبارزه بالعصيان.
026.5 ملخص موضوع السورة:
ومقصدها نجده في مطلعها وهو أن القرآن مبين، لكن أكثرهم مهما تأتيهم من الآيات لا يؤمنون بسبب إعراضهم وتكذيبهم، وإن ربك هو العزيز القادر على إهلاكهم، وهو الرحيم يبيّن لهم ويمهلهم، فينبؤهم بما كانوا يفعلون. وهي أكثر سورة تكرر فيها الاسمان: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} بعدد تسع (9) مرات من أصل ثلاث عشرة (13) في القرآن، فالعزيز اقتضى الإهلاك، والرحيم اقتضى الإمهال.
وفي السورة ثلاث مجموعات من الآيات: الأولى تسع (9) آيات تبين مقصدها، وهو أن القرآن مبين واضح في نفسه ولكن أكثرهم معرضون لا يؤمنون؛ الثانية مئة واثنان وثمانون (182) آية فيها سبع قصص تبيّن أن أكثر الناس لا يؤمنون حتى مع وجود الآيات والإنذارات والمبشرات، بل هم كذبوا بالله ورسله وكتبه وخالفوا أمره وارتكبوا نهيه، فأهلك بعزته الكافرين، وبرحمته أمهلهم ولم يعاجلهم؛ الثالثة ست وثلاثون (36) آية تبين أنّ القرآن تنزيل من رب العالمين ونذير بكلام عربيّ مبين، ولا تستطيعه الشياطين، وهو ليس كالشّعر، كما يلي:
المجموعة الأولى: (الآيات 1-9) تشير إلى أن الكتاب مبين واضح في نفسه، ولعلك من شدة حرصك على هدايتهم مُهْلِك نفسك لأنهم لم يؤمنوا، فلا تفعل ذلك، ولو شاء الله لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً، فهو عزيز على كل شيء يقهره ويغلبه، لكنه شاء أن يؤمن الناس باختيارهم، أنزل عليهم برحمته ذكراً محدثاً، يأمرهم وينهاهم، ويبين لهم الآيات، لكنهم أعرضوا وكذّبوا فسيأتيهم خبر ما استهزؤوا به.
المجموعة الثانية: (الآيات 10-68) تحكي قصة رسالة موسى عليه السلام إلى قوم فرعون، وقد كان يستعبد قومه ويعذب بني إسرائيل، وهو بشر مثلهم لا يضر ولا ينفع، بل يضر ولا ينفع، فأرسل إليهم موسى بآيات بينات، يُذكرهم بأن الله هو ربّهم وربّ آبائهم وربّ السماوات والأرض وما بينهما، لكنهم لم يؤمنوا فأهلكوا وأغرقوا، وبقيت أرضهم وديارهم وجناتهم وعيونهم وكنوزهم خاوية من بعدهم، أورثها الله بني إسرائيل، ولتكون آية تتحدث عن أخبارهم لمن يأتي بعدهم من الأمم. إن في قصتهم لآية دالّة على قدرة الله، فبعزته أهلك الكافرين المكذبين وبرحمته نجّى موسى ومن معه أجمعين. ثمّ (الآيات 69-104) قصّة قوم إبراهيم عليه السلام، تركوا الله الذي خلقهم فهو يهديهم، والذي يطعمهم ويسقيهم، وإذا مرضوا فهو يشفيهم، والذي يميتهم ثم يحييهم، والذي يغفر لهم خطاياهم يوم الدين، وعبدوا من دونه أصناماً لا ينصرونهم ولا ينتصرون، فما أظلمها من صفقة خاسرة أهلكتهم في الدنيا، وأورثتهم العذاب والندم الشديد في الآخرة بدلاً من الجنة والنعيم المقيم. (الآيات 105-122) تحكي قصة نوح عليه السلام مع قومه وقد كذبوه بطراً وكبراً، ذلك لأن أتباعه قلّة من عامّة الناس وليسوا أشرافاً، وهددوه إن لم ينته عن دعوته ليقتلونه رمياً بالحجارة، فأنجاه الله ومن آمن في السفينة وأغرق الكافرين المتكبرين. (الآيات 123-140) قصة تكذيب عاد رسولهم هود عليه السلام، بسبب انشغالهم في البناء لا للحاجة بل للعبث، وبناء الحصون المشيدة وكأنهم لا يموتون، ويبطشون جبّارين، فأمروا أن يتقوا الله الذي أمدهم بالأنعام والبنين والجنات والعيون، ووعظوا وحذّروا من العقاب فلم يتعظوا، فكان مصيرهم الهلاك. (الآيات 141-159) قصة تكذيب ثمود رسولهم صالح عليه السلام، بسبب انشغالهم في نحت البيوت في الجبال، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها، فأمروا أن يتقوا الله وقرّعوا ووبخوا ووعظوا وحذّروا نقمة الله أن تحل بهم، وذكّروا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارّة آمنين، فعقروا الناقة التي أُرسلت لهم آية، فأخذهم العذاب. (الآيات 160-175) قصة لوط عليه السلام مع قومه، فقد وصل بهم الترف وبطر النعمة واتباع الهوى حيث صاروا بعدها كالمسخ يأتون كل ما هو مخالف للطبيعة البشرية، فأمروا أن يتقوا الله وأنذروا ليعودوا إلى فطرتهم، فازدادوا عدواناً فأهلكوا ودمّروا، ونجا لوط وأهله والمؤمنون أجمعون. (الآيات 176-191) قصة تكذيب أصحاب الأيكة رسولهم شعيب عليه السلام، فقد بلغ التكالب على الدنيا عندهم مداه بالغش في الميزان، وبإنقاص حقوق الناس، وإكثار الفساد في الأرض بالشرك والقتل والنهب وتخويف الناس وارتكاب المعاصي، فأخذهم العذاب وأهلكوا.
المجموعة الثالثة: (الآيات 192-209) تصرّح بأن القرآن منزَّل مِن رب العالمين لينذر به، بلغة عربية واضحة، ومُبشّر به في كتب الأولين، ولكن جحوده صار متمكّناً في قلوب المجرمين، فلا يؤمنون حتى يرون العذاب الأليم الذي كانوا به يستعجلون، وسيأتيهم بغتة وهم لا يعلمون، فيندمون حين لا ينفع الندم، وما كنا ظالمين فنعذب أمة قبل أن نرسل إليها رسولاً. (الآيات 210-212) إن هذا القرآن لم تتنزل به الشياطين فهم ليسوا أهلاً له ولا يقدرون على استراق سمعه. (الآيات 213-220) النهي عن دعاء غير الله لأنه موجب للعذاب، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بأن أنذر عشيرتك الأقربين، واصبر واخفض جناحك للمؤمنين، وتوكّل على العزيز الرحيم فهو سميع عليم. (الآيات 221-227) إن الشياطين تنزل على الكذوب الأثيم مثلهم، والشعراء يتبعهم الغاوون مثلهم، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله وانتصروا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (تهديد ووعيد).
إن القرآن مبين واضح في نفسه، تنزيل من رب العالمين، ينطق بالحق والهدى والعدل وصدق الوعد والوعيد، ومناف لأقوال الشعراء والشياطين، وأنّ عدم الإيمان ليس لنقص في البيان، وإنما أغوتهم الشياطين، ولسان حالهم في غوايتهم أنهم هائمون يتبعون شعراء يقولون مالا يفعلون. وثمانون بالمئة (80%) من الآيات تتحدّث عن مرحلة متأخرة من حياة سبعة من الأنبياء مع أممهم، لتروي قصّة التكذيب المتواصلة عبر تعاقب الأجيال، وهلاك المكذبين وكسر جبروتهم، في مقابل رعاية الله للمرسلين والمؤمنين ونجاتهم رغم ضعفهم وقلّة عددهم. وحرصت أن تقول بعد كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وهي السورة الوحيدة التي تكررت فيها هاتين الآيتين ثماني (8) مرّات، مرّة لأمة محمّد عليه السّلام وسبعة للأقوام السّبعة المذكورين، وتكرّرت كذلك {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ثماني (8) مرّات، و{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} خمس (5) مرات، والكلمتان: رسول، واتقوا، ومشتقاتها سبع عشرة (17) مرة، في إشارة إلى أنه سبحانه قد أنذر وأعذر، وحذّر وبشّر، وأقام الحجج البينات، مع أنه في سابق علمه أن أكثر الناس لا يؤمنون حتى مع وجود الآيات والإنذارات والمبشرات، ومع ذلك فإنه عزيز قادر على كل شيء، رحيم بعباده المؤمنين منهم والعصاة، فلا يعجل عليهم بل يؤجلهم وينظرهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحاً كريهاً، وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم، ويرفضونها، ويحرمون أنفسهم منها، وهم أحوج ما يكونون إليها.
ربّنا هب لنا حكماً وألحقنا بالصالحين، واجعل لنا لسان صدق في الآخرين، واجعلنا من ورثة جنّة النعيم، واغفر لوالدينا، ولا تخزنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
026.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
تتكوّن السورة حسب ترتيب آياتها من ثلاثة موضوعات في ثلاثة أجزاء رئيسية كما يلي:
026.6.1- الموضوع الأول في الآيات (1-9): فيه إشارة إلى آيات القرآن المبين، وتلخيص قصة الإنسان مع الإيمان: وهي أن أكثرهم لا يؤمنون:
الله خلق الناس وابتلاهم بالإيمان. وهذه آيات القرآن توضِّح كل شيء. لعلك – أيها الرسول – من شدة حرصك على هدايتهم مُهْلِك نفسك، لأنهم لم يصدِّقوا بك ولم يعملوا بهديك، فلا تفعل ذلك. ولو شاء الله لهدى الناس ولأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً (كما هدى باقي مخلوقاته) فهو عزيز على كل شيء يقهره ويغلبه، لكنه شاء أن يؤمن الناس باختيارهم. أنزل عليهم برحمته ذكر محدث، شيئاً بعد شيء، يأمرهم وينهاهم، ويذكرهم بالدين الحق. لكنهم أعرضوا عنه فلم يقبلوه ولم يؤمنوا.
لم تذكر السورة كلمة كافر إلا مرة واحدة في الآية (19) بمعنى إنكار ربوبية فرعون. في مقابل تكرار مؤمنين 15 مرّه. وفيه دلالة على كثرة الكفر وانغماسهم فيه وشيوعه فلا حاجة لذكره، في مقابل غربة الإيمان والجهل به وهجرانه مع حاجتهم إليه، وما كان أكثرهم مؤمنين.
ويعقب في نهاية هذه المجموعة الأولى من الآيات، بآيتين تتكرران في السورة ثماني مرات تلخصان (القصة الكاملة للإيمان في حياة الإنسان بما فيه) حال أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحال الأمم السابقة وذلك كما يلي: أنه في سابق علم الله أن أكثر الناس لا يؤمنون حتى مع وجود الآيات والإنذارات والمبشرات. بل كذبوا به وبرسله وكتبه وخالفوا أمره وارتكبوا نهيه. ومع ذلك فإن الله عزيز على كل شيء يقهره ويغلبه وينتقم من الكافرين. وهو رحيم بعباده المؤمنين منهم، وبالعصاة فلا يعجل عليهم بل يؤجلهم وينظرهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
026.6.2- الموضوع الثاني في الآيات (10-191) = 182 آية = تمثل 80.18% من آيات السورة: وفيه قصص تبين عبث الإنسان وتضييعه لعمره في الإفساد والظلم كما يلي:
وردت قصص سبعة من الأمم يضيعون أعمارهم وجهودهم وطاقاتهم في مالا طائل له في أعمال عبثية فيها الدنيا كل همهم، والآخرة آخر همهم، وياليت أن الدنيا كل همهم وحسب، بل كل جهودهم ضائعة على أشياء فانية، وليست فانية فقط بل على أشياء ليسوا بحاجة لها، وليست فقط أنهم ليسوا بحاجة لها بل هي فساد في الأرض وتعدّ على الإنسانية والفطرة وظلم للعباد كما يلي:
026.6.2.1- الآيات (10-68) تحكي قصة إرسال موسى إلى قوم فرعون ليخلّص بني إسرائيل منهم. وقد كانوا يعبدون فرعون وهو بشر مثلهم لا يضر ولا ينفع، بل يضر ولا ينفع، يستعبد قومه ويسخرهم ويستنفذ جهدهم وطاقاتهم في خدمته وعبادته ويعذب بني إسرائيل (ويستحيي نساءهم ويقتل أبناءهم).
أرسل الله لهم موسى، رسول منهم عاش بينهم وتربى في بيئتهم، يذكرهم بأن الله هو ربهم ورب آبائهم ورب السماوات والأرض وما بينهما. جاءهم بآيات بينات ومعجزات وحجج قاطعات تدلهم على أن حياتهم وجهودهم وطاقاتهم يجب أن تكون في عبادة الله الضار النافع، واتباع دينه الذي فيه أمره ونهيه لإصلاح أمر حياتهم وبناء سعادتهم.
لكن الإنسان يأبى وهو في النعيم إلا أن يكفر، ولا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم حيث لا ينفع إيمان وقد انكشفت الحجب، فيهلكهم الله ويستبدل بهم قوماً آخرين تماماً كما أهلك الله قوم فرعون واستبدلهم بالمستضعفين من بني إسرائيل. فلم تغن عنهم الجنّات والعيون التي حرموا إخوانهم منها، ولا الكنوز التي استعبدوا الناس بها ولا المقام الكريم الذي أنعم الله به عليهم لعلهم يشكروا فضله. فكانت النعمة سبباً في هلاكهم، وقد تركوها وراحوا يهرولون خلف ضعاف الناس متلبسين بالإصرار على قتلهم والخلاص منهم فكان الله لهم بالمرصاد فأغرقهم، وبقيت أرضهم وديارهم خاوية من بعدهم، لتكون آية تتحدث عن أخبارهم لمن يأتي بعدهم من الأمم. والعجيب أن بني إسرائيل لم يعودوا ليستوطنوا ذلك النعيم الذي خلّفه قوم فرعون وما فيه من الجنّات والعيون والمقام الكريم لأن الله سبحانه أرادهم لغير ذلك. بل أنعم عليهم بخير منه من المن والسلوى وفجّر لهم من العيون اثنتا عشرة عيناً، وغيره مما جاء تفصيله في القرآن الكريم.
026.6.2.2- الآيات (69-104) وإذا كان حال قوم فرعون عجيباً بعبادتهم بشر مثلهم، فحال قوم إبراهيم عليه السلام أعجب بعبادتهم أصناماً لا يسمعون، ولا ينفعون ولا يضرون. استبدلوا عبادة الله ربهم بعبادة الأصنام. فما أظلمها من صفقة خاسرة أهلكتهم في الدنيا، وأورثتهم العذاب والندم الشديد في الآخرة، بدلاً من الجنة والنعيم المقيم. كذلك أغوتهم جنود إبليس، فتركوا الله الذي خلقهم فهو يهديهم والذي يطعمهم ويسقيهم وإذا مرضوا فهو يشفيهم والذي يميتهم ثم يحييهم والذي يغفر لهم خطاياهم يوم الدين، وعبدوا من دونه أصنام لا ينصرونهم ولا ينتصرون.
026.6.2.3- الآيات (105-122) تحكي قصة نوح عليه السلام مع قومه وقد كذبوه بطراً وكبراً، ذلك لأن أتباعه قلّة من عامّة الناس وليسوا الأشراف. وهددوه إن لم ينته عن دعوته ليقتلونه رمياً بالحجارة، فأنجاه الله ومن آمن في السفينة وأغرق الكافرين المتكبرين.
026.6.2.4- الآيات (123-140) قصة تكذيب عاد رسولهم هود عليه السلام، بسبب انشغالهم في البناء لا للحاجة بل للعبث، وبناء الحصون المشيدة وكأنهم لا يموتون. وإذا بطشوا بأحد من الخلق قتلاً أو ضرباً فعلوا ذلك ظلماً من غير رأفة. أمرهم هود عليه السلام أن يتقوا الله الذي أمدهم بالأنعام والبنين والجنات والعيون، ووعظهم وحذرهم من عقابه فلم يتعظوا، فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة.
026.6.2.5- الآيات (141-159) قصة تكذيب ثمود رسولهم صالح عليه السلام، بسبب انشغالهم في نحت البيوت في الجبال أشرا وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها. فقرّعهم صالح عليه السلام ووبخهم وقال: أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت. ووعظهم محذراً لهم نقم الله أن تحل بهم ومذكرا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة وجعلهم في أمن من المحذورات.
026.6.2.6- الآيات (160-175) قصة لوط عليه السلام مع قومه. قد تكون قصة لوط عليه السلام أوضح دليل على عظم النعمة التي جاء بها الأنبياء، المتمثلة في عبادة الله واتباع دينه الذي هو نور وأخلاق. وقد رأينا في السور السابقة كيف تكتمل سعادة الإنسان باتباع هذا الدين. ذلك أن الإنسان مخلوق من جسد وروح، وأن تحقيق سعادته تتمثل بتحقيق وإشباع حاجات جسده وروحه. ذلك أن النعيم الذي يبشر به الأنبياء هو أن الرزق في السماء وهو محقق من الله أوّلاً وبجهد بسيط منظّم من الإنسان، ثم العبادة لله الحق الخالق الرازق وحده لا شريك له، وبهذا السعي البسيط إلى الرزق والمسارعة إلى عبادة الله يتحقق للإنسان الأمان الحقيقي لتأمين حاجتيه الضروريتين (حاجات جسده وروحه) في حياته في الدنيا ومن ثم الفوز بالجنة والنعيم بالآخرة.
حياة الإنسان هي وقت محدد، وعمره على الأرض سنوات وأيام معدودة، يقضيها بعمل شيئين ضروريين يلبي بهما حاجات روحه وجسده ليعيش هذه الأيام بسعادة وأمان. جسده يحتاج إلى الطعام وإشباع شهواته، وروحه تحتاج إلى عباده وأمان. ولشدة حرص الإنسان على تحقيق هاتين الحاجتين فإنهما تصبحان هدف حياته وغاية مراده لا يسعى إلا إلى تحقيقهما، دون النظر إلى شرعية الطريقة التي يتبعها. ففي القصص السابقة نجد أن الله رزقهم ووصلوا إلى تحقيق إشباع شهواتهم وأنعم عليهم بالرفاهية والأمان، فنسوا مصدر هذه النعمة فأغواهم الشيطان وظنوا أنهم هم فعلوه بعملهم وجهدهم، ولشدة حرصهم أضاعوا عملهم وجهدهم بأن بنوا القصور والحصون وحاربوا بعضهم بعضاً، للحفاظ على هذا المكتسب وغيره. ثم عبدوا الأصنام والآلهة من دون الله لمجرد العبادة لأنها حاجة ضرورية في حياتهم، فسعوا لتحقيقها بأي شيء زينه الشيطان لهم. فهم بهاذين الفعلين أوقعوا أنفسهم في شقاء ما بعده شقاء في الدنيا، بأن عملوا بالضلال، ثم عذاب شديد في الآخرة.
وبتدبر الآيات يبدوا أن قوم لوط وصلوا إلى مرحلة متقّدمة من الترف والنعيم، قابله فراغ روحي وعدم خوف من الله أوصلهم إلى بطر الحق والنعمة بإتيان الذكران وتعمد قلب الفطرة، والتعدي على الحق. فصاروا كالمسخ يأتون كل ما هو مخالف للطبيعة البشرية، ولن يوصلهم هذا إلى السعادة والراحة والأمان التي ينشدونها، بل إلى الشقاء الذي ما بعده شقاء لأنه بكل بساطة مخالف لفطرتهم. وشتان ما بين هذا الانحراف والضلال وبين وتقوى الله والأخلاق التي تنظم حياة المسلمين.
026.6.2.7- الآيات (176-191) قصة شعيب عليه السلام: وكما هو الحال في قصة قوم لوط، فالتكالب هنا على الدنيا بلغ مداه بالغش في الميزان، وبإنقاص حقوق الناس والإكثار في الأرض الفساد، بالشرك والقتل والنهب وتخويف الناس وارتكاب المعاصي.
026.6.3- الجزء الثالث: في الآيات (192-227) يحتوي على نفس المعنى (الذي تقدم بيانه في أول السورة من إعراض المشركين عن القرآن)، ولكن هنا بالدفاع عن القرآن وتسلية من الله لنبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه، لئلا يشتد وجده بإدبارهم عنه، وإعراضهم عن الاستماع لهذا القرآن، لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه على قبولهم منه، والدخول فيما دعاهم إليه حتى عاتبه ربه على شدة حرصه على ذلك منهم، فقال له: {لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين (3)}
وهاهنا يؤكد سبحانه لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، آخر الأمم، ثبات سنته وجريانها على كل الامم. وأن القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة وذُكِرَتْ فيه هذه القصص الصادقة، لَمنزَّل مِن خالق الخلق، ومالك الأمر كله، نزل به جبريل الأمين، فتلاه عليك يا محمد حتى وعيته بقلبك حفظاً وفهماً. لتكون من رسل الله الذين كانوا ينذرون من أرسلوا إليه من قومهم، فتنذر بهذا التنزيل قومك المكذبين بآيات الله والإنس والجن أجمعين. وقد أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل ليكون بينا واضحا ظاهرا قاطعا للعذر مقيما للحجة دليلا إلى المحجة (وهذا تقريع لمشركي قريش والعرب الذين يعرفون العربية، ولكنهم أعرضوا عنه تكذيبا به واستكبارا).
ثم إن ذكر هذا القرآن والتنويه به موجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك (وهو تقريع لمشركي أهل الكتاب اليهود والنصارى)، أوليس يكفيهم الدليل الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها (والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته كما أخبر بذلك من آمن منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهم).
إن هذا القرآن ليس شعراً ولم تتنزل به الشياطين وليس بشيء مما يجحد به المجرمين. كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين جحود القرآن، وصار متمكناً فيها؛ وذلك بسبب ظلمهم وإجرامهم، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عمَّا هم عليه من إنكار القرآن، حتى يعاينوا العذاب الشديد الذي وُعِدوا به، فينزل بهم فجأة، وهم لا يعلمون قبل ذلك بمجيئه، بل كانوا يستعجلون نزوله من السماء، فيندمون حين لا ينفع الندم.
وما أهلكنا مِن قرية من القرى في الأمم جميعاً، إلا بعد أن نرسل إليهم رسلا ينذرونهم، تذكرة لهم وتنبيهاً على ما فيه نجاتهم، وما كنا ظالمين فنعذب أمة قبل أن نرسل إليها رسولا.
وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي، وظلموا غيرهم بغمط حقوقهم، أو الاعتداء عليهم، أو بالتُّهم الباطلة، أي مرجع من مراجع الشر والهلاك يرجعون إليه؟
026.7 الشكل العام وسياق السورة:
026.7.2- إسم السورة: سميت “سورة الشعراء” لأن الله تعالى ذكر فيها أخبار الشعراء وذلك للرد على المشركين في زعمهم أن محمد كان شاعرا وأن ما جاء به من قبيل الشعر فرد الله عليهم ذلك الكذب والبهتان بقوله: {والشعراء يتّبعهم الغاوون (224)، ألم تر أنهم في كلّ واد يهيمون (225)، وأنهم يقولون مالا يفعلون (226)}. وبذلك ظهر الحق وبان.
كذلك سميت الشعراء لأن الغالبية العظمى من الناس (وفي السورة قصص الكثير منهم) هم من الغاوون الذين أغواهم الشياطين، وحالهم أنهم غاوون، هائمون ويقولون مالا يفعلون. ولا حجة لهم وقد جاءهم قرآن فرقان مبين مناف لأقوال الشياطين. كذلك صفات الناس كصفات الشعراء كذابون ويقولون مالا يفعلون.
اسم السورة وهو صفة الشعراء في الآيات (224-227) وكأنه الإطار العام للأحداث الجارية في السّورة وهو أن الناس في قصص الأنبياء الواردة في السورة، وكل من يأتي بعدهم إلى أن تقوم الساعة، ما عدا {الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً (227)} هم غاوون، هائمون ويقولون مالا يفعلون.
026.7.2- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:
اعتمدت السورة في بيان مقصدها وموضوعاتها (والذي هو الدفاع عن القرآن وبيان أنه هو الآية والبيان والمعجزة لأمّة محمد وهو ليس بالشعر ولا بالسحر، وأنه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما يجده من عناد قومه، وبيان أن أكثر الناس لا يؤمنون) بشكل كبير على القصص، حيث أن أربعة من كل خمسة آيات في السورة تحكي عن قصص أنبياء أرسلهم الله إلى أقوامهم فجاؤوهم بالدين والآيات البينات من عند ربهم، فكذبهم أقوامهم فأهلكهم الله، هؤلاء الأنبياء بشر مثلهم تربوا وترعرعوا بينهم، يخافون كخوفهم، ويتصرفون كتصرفاتهم. اختارهم الله وأيدهم بالآيات والمعجزات، وأمرهم بتبليغ رسالته. فلمّا تأكد صدقهم وقوة حجتهم، قابلهم المتكبرون بالتكذيب والاتهام بالسحر والجنون والتهديد بالسجن والقتل والشروع به، فنصر الله رسله وأعز دينه، إلخ. وباختصار تروي السورة قصة تكذيب الإنسان عبر الأجيال بالآيات البينات الداعية إلى الهدى والإيمان.
تتكون السورة من ثلاثة أجزاء، وهي: مقدمة ثم قصص ثم خاتمة، تتطابق فيها وتتكرر نفس المعاني حول مقصدها وهو الدفاع عن الوحي المنزل من عند الله وأنه ليس شعر، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان أن أكثر الناس لا يؤمنون:
026.7.2.1- الجزء الأول في (الآيات 1-9) فيه التصريح بأن القرآن هو الموضح لكل شيء والفاصل بين الهدى والضلال، فلا تهلك نفسك أيها الرسول لأنهم لم يصدقوا بك، فالله قادر على أن ينزل آية تجبرهم على الإيمان، لكن هذا حال الناس ما يأتيهم أمر من ربهم إلا أعرضوا عنه فسيأتيهم تصديق هذا الذي يستهزئون به، فالله قادر على بعث الأشياء من العدم كما يرون آية ذلك الأرض وكيف ينبت لهم من كل زوج كريم.
026.7.2.2- الجزء الثاني في (الآيات 10-191) وقد أوردت السورة مجموعة من القصص الحقيقية في آيات عددها (182) آية تمثل (80%) من مجموع عدد آيات السورة، لتبين هذه الآيات بالدليل أن الأمر جد وليس شعر كاذب ككلام الشعراء، وأنه رسائل من السماء تأتي تباعاً على كل أمة، تنذر الكافرين وتبشر المؤمنين.
وقد حرصت هذه الآيات على أن تقول بعد كل قصة: إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنون. إذاً فالتاريخ الذي ترويه السورة عن الأمم السابقة هو آية للتأمل والتعلّم بالتجربة، كيف لا والناس كلهم من أب واحد، خلقهم الله لغرض واحد وهو الابتلاء بالعمل والعبادة، فهي تريدنا أن نأخذ من هذا التاريخ عبرة، كي لا نقع في نفس أخطاء الأمم التي هلكت جميعها بسب تلك الأخطاء، والتي أهمها تكذيب الرسل واتهامهم بالسحر والشعر وغيره مما جاء تفصيله في السورة.
فالآيات (10-191) تتحدّث عن أن الأرض تعجّ وتزخر بالآيات منها معجزات الأنبياء ومنها ما هو أصلاً مخلوق في الطبيعة. لكن هؤلاء السفهاء سيظلّون على ضلالهم ولن يهتدوا، ولو رأوا هذه الآيات حتى يتنزل عليهم عذاب الله. ولتأكيد هذا الموضوع أورد الله سبحانه وتعالى سبعة قصص عن أقوام سابقين ممّن أصرّوا على الكفر كما يفعل أهل مكّة الآن. وهؤلاء هم: قوم موسى، قوم إبراهيم، قوم نوح، عاد قوم هود، ثمود قوم صالح، قوم لوط، أصحاب الأيكة قوم شعيب. ويغلب على سياق القصص كما يغلب على السورة كلها، طابع الإنذار، والتكذيب، والعذاب الذي يتبع التكذيب، وفي ذلك إشارة إلى تهديد قريش ومن سار على نهجهم بأنهم إن لم يتركوا التكذيب واتهام القرآن بالسحر والشعر، فعل بهم كما فعل بفرعون وجنوده من الإذلال وفعل بالأمم الأخرى من الهلاك، وخلّص عباده منهم وأعزهم على من كذبهم، كما يلي:
نتعلّم بالتجربة التي مرّت بها سبعة من الأمم أن من طبيعة الناس أن أكثرهم لا يؤمنون وحتى مع وجود الآيات والإنذارات والعذاب. والسورة تبين قصة الإنسانية وصفات الإعراض والتكذيب عند الإنسان في حالات الإنذار، قال تعالى: {لتكون من المنذرين (194)}، {وأنذر عشيرتك الأقربين (214)}. فتكذيب الرسل صفة عامّة عند كلّ الأمم {فقد كذبوا (6)}، كذلك مع وجود التخويف والإنذار من عاقبة التكذيب، إما بعذاب الدنيا الذي يدمر المكذبين، وإما بعذاب الآخرة الذي ينتظر الكافرين: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون (6)}. ونتعلم أيضاً من القصص أن هلاك الأمم أمر حتمي نتيجة تكذيبهم للرسل المنذرين {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208)}، وذلك كما جاء تفصيله في القصص كما يلي:
الآيات (10-68) تتحدث عن قصة موسى عليه السلام: فبعد تكليفه بالذهاب إلى فرعون، قال {أخاف أن يكذبون (12)}، وهو ما حصل فعلاً، فكذبوه، ظلماً وعدواناً على حق الله وحقوق الضعفاء بأن جعلوهم عبيداً لفرعون، فانتهى الأمر بهلاك فرعون ومن معه بالغرق في البحر ونجاة موسى ومن معه المؤمنين. وهذا جزاء الدنيا.
الآيات (69-104) تتحدث عن قصة إبراهيم عليه السلام. وفيها بيان جزاء الآخرة بدخول المتقين الجنة، والمكذبين وجنود إبليس الذين أضلوهم يدخلون النار. هناك في الآخرة ينقلب المكذبين نادمين يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا يقولون {لو أن لنا كرّة فنكون من المؤمنين (102)}، وقد كان تكذيبهم بسبب تقليدهم لآبائهم الذين كانوا يعبدون الأصنام.
الآيات (105-122) فيها قصة نوح عليه السلام ابتدأت بِ {كذبت قوم نوح (105)}، بحجة أن الذين اتبعوه هم الأرذلون.
الآيات (123-140) قصة عاد مع هود عليه السلام ابتدأت بِ {كذبت عاد (123)}، وذلك اتباعاً لدين الأولين وعاداتهم.
الآيات (141-159) قصة ثمود مع صالح عليه السلام ابتدأت بِ {كذبت ثمود (141)}، لأن نبيهم صالح بشر مثلهم.
الآيات (160-175) قصة لوط عليه السلام مع قومه ابتدأت بِ {كذبت قوم لوط (160)}، بسبب انغماسهم في شهواتهم وتعديهم على الفطرة.
الآيات (176-191) قصة شعيب عليه السلام ابتدأت بِ {كذب أصحاب الأيكة (176)}، بحجة أن شعيب بشر مثلهم.
هذه القصص كذلك تدلل على أن آيات الله مبينه لا لبس فيها فهذا موسى عليه السلام يعرفون تاريخه ومنشأه وخاصة عدوّه فرعون الذي رباه، وأنه قد قتل منهم نفساً، ففر منهم خوفاً منهم، ولو كان ساحراً أو شاعراً لفعل ذلك قبل أن يكون نبياً ليحمي نفسه بدلاً من أن يفر، وكان بشراً مثلهم لا يختلف عن أي أحد منهم. اختاره الله لرسالته وكان ممكن أن يختار أحداً غيره، وكذلك اختار معه أخاه هارون وقد تربى فيهم وترعرع بينهم. وأيدهم الله بعد أن اختارهم بمعجزات بينات قضت على تخيلاتهم وسحرهم. ونصرهم على فرعون وأنزل عليهم التوراة. وهو بذلك يشبه قصة محمد عليه السلام إذ هو بشر مثلهم تربى بينهم فلما اختاره الله من بينهم تنكروا له ورموه بتهم يعلمون بطلانها بالشعر والسحر والكذب وغيرها.
026.7.2.3- الجزء الثالث في (الآيات 192-227) وفيها التصريح بأن هذا القرآن الذي ذُكِرَتْ فيه هذه القصص الصادقة، لَمنزَّل مِن رب العالمين، نزل به جبريل الأمين، فتلاه عليك أيها الرسول حتى وعيته، لتكون مِن رسل الله الذين يخوِّفون قومهم عقاب الله، فتنذر بهذا التنزيل الإنس والجن أجمعين. نزل به جبريل عليك بلغة عربية واضحة المعنى، ظاهرة الدلالة، فيما يحتاجون إليه في إصلاح شؤون دينهم ودنياهم. وإنَّ ذِكْرَ هذا القرآن لَمثبتٌ في كتب الأنبياء السابقين، قد بَشَّرَتْ به وصَدَّقَتْه. وحال الناس اليوم هو كحالهم في السابق أكثرهم لا يؤمنون حتى يرو العذاب الأليم وسيأتيهم بغتة كما بينته القصص التي ذكرت في السورة.
وبعد سرد تاريخ سبعة من الأمم، قال تعالى (آية 208): مخبرا عن عدله في خلقه أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم والإنذار لهم وبعثه الرسل إليهم وقيام الحجة عليهم، بكلام بين واضح جلي بلسانهم، تذكرة لما فيه نجاتهم وسعادتهم.
ما من قرية سبقت أهلكها الله إلا جاءها منذر منهم، لأن الله لا يظلم أحد. كذلك وما ينبغي أن يكون هذا كلام شياطين، فأنذر به يا محمد كما أنذر من سبقك من الرسل فربك عزيز رحيم. إن كلام الشياطين يتنزل على الكذابين وأنت لست كاذب ولا يتبع الشعراء إلا الغاوون والمؤمنون ليسوا كذلك.
026.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
026.7.3.1- آيات القصص: (3-87، 103-220) = 203 آية.
026.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (88-102) = 15 آية.
026.7.3.3- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-2، 221-227) = 9 آيات.
026.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
026.8.1- تناسب سورة الشعراء مع ما قبلها وما بعدها:
هذه السورة هي كالدليل على ما جاء في سورة الفرقان من أن القرآن جاء بالبينات (الآيات، المعجزات) لكن أكثر الناس ضالّين مكذبين لأسباب تتعلق بتكبرهم على الحق بالباطل واتباعهم شهواتهم وشياطينهم، فيكون تكذيبهم بهذه الأسباب الخارجة عن نطاق الحجة والعقل والمنطق، يؤهلهم لأن يعاقبوا ويُمنعوا عن إفسادهم في خلق الله: الكفار باتوا يفترون زوراً وبهتاناً على الحق المبين في القرآن العظيم بأنه أساطير الأولين وأن الرسول الكريم اكتتبه ويملى عليه بكرة وأصيلا. وأن الرسول مسحور، وانه يأكل الطعام مثلهم، ويمشي في الأسواق لطلب الرزق. ويكذبون بيوم الدين ولا يوقنون بالمعاد ولا يصدقون بالثواب والعقاب، تكذيبا منهم بالقيامة وبعث الله الأموات أحياء للحساب يوم القيامة. فكل حججهم التي ذكرت في الفرقان جاء دليلها تطبيق عملي من الحياة الحقيقية للناس والتجربة العملية بإرسال الرسل بالآيات البينات، ونلاحظ كيف أن نفس الحجج وحتى نفس الكلمات تتكرر حرفيّاً وكأنها تتناقل بين الأمم.
تبين سورة الفرقان أن القرآن ما نزل إلا للتفرقة بين الهدى والضلال وتمييز الحق من الباطل فكان بذلك حجّة وإنذار للمكذبين بلزوم الجزاء على أفعالهم. وفي الشعراء تصف الكتاب بالمبين أي الواضح في نفسه: أنه من عند الله، وأنه معجز، وأنه فرقان، وأن فيه أدلة الإيمان وآياته، وهو بذلك مناف لكلام الشياطين وليس كالشعر الذين تجمعهما صفات الكذب والغواية وأقوالهم المخالفة لأفعالهم، فيكون بذلك إنذاراً وتهديداً لمن لم يؤمن بالهلاك والعذاب كما حصل للأمم في القصص التي في السورة. وفي سورة النمل تصف الكتاب بالكفاية لهداية الخلق أجمعين كما هدى النمل إلى حسن التدبير، وسداد المذهب في العيش. وفي القصص كتاب مبين كاشف موضح مظهر أكثر الذي فيه يختلفون، ومن خفايا علومهم فلا يقدرون على رده، ومن علو موسى، وما صنع بفرعون وقومه.
026.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وجه اتصالها بسورة الفرقان أنه تعالى لما أشار فيها إلى قصص مجملة بقوله {ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أَخاه هارون وزيراً فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميراً وقوم نوح لما كذبوا الرسل أَغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأَعتدنا للظالمين عذاباً أَليماً وعاداً وثمود وأَصحاب الرس وقروناً بينَ ذَلِكَ كثيراً} شرح هذه القصص وفصلها أبلغ تفصيل في الشعراء التي تليها ولذلك رتبت على ترتيب ذكرها في الآيات المذكورة فبدئ بقصة موسى ولو رتبت على الواقع لأخرت كما في الأعراف فانظر إلى هذا السر اللطيف. ولما كان في الآيات المذكورة بقوله {وقروناً بينَ ذلِكَ كثيراً} زاد في الشعراء تفصيلاً لذلك قصة قوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب ولما ختم الفرقان بقوله: {وإِذا خاطبَهُم الجاهلونَ قالوا سَلاما} وقوله: {وإِذا مروا باللغوِ مروا كِراماً} ختم هذه السورة بذكر الشعراء الذين هم بخلاف ذلك واستثنى منهم من سلك سبيل أولئك وبين ما يمدح من الشعر ويدخل في قوله {سلاماً} وما يذم منه ويدخل في اللغو.
026.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين، وختمت بما ذكر من الوعيد، كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه الصلاة والسلام وتأسفه على فوات إيمانهم، لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق، فافتتحت السورة الأخرى بتسليته عليه الصلاة والسلام، وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه {لعلك باخع نفسك} – الآيتين، وقد تكرر هذا المعنى عند إرادة تسليته عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى (35)} الأنعام، {ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها (13)} السجدة، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً (99)} يونس، {ولو شاء الله ما فعلوه (137)} الأنعام، ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير {أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} ، {وإذ نادى ربك موسى} وقلّما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا معقبة بقصص موسى عليه السلام وما كابد من بني إسرائيل وفرعون، وفي كل قصة منها إحراز ما لم تحرزه الأخرى من الفوائد والمعاني والأخبار حتى لا تجد قصة تتكر وإن ظن ذلك من لم يمعن النظر، فما من قصة من القصص المتكررة في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر إزالتها لنقص من الفائدة ما لا يحصل من غيرها، وسيوضح هذا في التفسير بحول الله؛ ثم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم على الطريقة المذكورة، وتأنيساً له عليه الصلاة والسلام حتى لا يهلك نفسه أسفاً على فوت إيمان قومه؛ ثم أتبع سبحانه ذلك بذكر الكتاب وعظيم النعمة به فقال {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون} فيا لها كرامة تقصر الألسن عن شكرها، وتعجز العقول عن تقديرها، ثم أخبر تعالى أنه {بلسان عربي مبين}، ثم أخبر سبحانه بعلى أمر هذا الكتاب وشائع ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء فقال: {وإنه لفي زبر الأولين} وأخبر أن علم بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة، وأن تأمل ذلك كاف، واعتباره شاف، فقال: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} كعبد الله بن سلام وأشباهه، ثم وبخ تعالى متوقفي العرب فقال: {ولو نزلناه على بعض الأعجمين} – الآية، ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن الكتاب – مع أنه هدى ونور – قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً (26)} البقرة، {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم (125)} التوبة، فقال تعالى في هذا المعنى {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم} الآيات، ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله عن أن تتسور الشياطين على شيء منه أو تصل إليه فقال سبحانه {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون} أي ليسوا أهلاً له ولا يقدرون على استراق سمعه، بل هم معزولون عن السمع، مرجومون بالشهب، ثم وصى تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم – والمراد المؤمنون – فقال: {فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين} ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه، وأهلية ما تخيلوه، فقال: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} ثم وصفهم، وكل هذا تنزيه لنبيه صلى الله عليه وسلم عما تقولوه، ثم هددكم وتوعدهم فقال: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} – انتهى.
قال أبو حيان: وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى والخطاب لموسى وهارون فقط، لأن لفظة ” مع ” تباين من يكون كافراً، فإنه لا يقال: الله معه، وعلى أنه أريد بالجمع التثنية حمله سيبويه كأنهما لشرفهما عند الله تعالى عاملهما في الخطاب معاملة الجمع إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته – انتهى.
026.8.4- القصص وتسهيل فهم السور:
سورة الشعراء هي أكثر السور قصصاً في القرآن، باعتبار عدد آياتها، تليها سورة يوسف ثم سورتي الأعراف والقمر. ولو أضفنا إليها قصص يوم القيامة والآخرة، فتكاد تكون سورة الشعراء كلها قصص، كما بيناه أعلاه (026.7.2.2- الجزء الثاني في (الآيات 10-191)). والقصص في الشعراء لها سياق واحد وتتحدث عن مقصد واحد، لكن نفس هذا القصص سيتغير سياقه وتفاصيل أحداثه في السور الأخرى بما يتناسب مع مقاصد تلك السور وموضوعاتها، كما يلي:
026.8.4.1- قصة موسى عليه السلام (في السورة وفي القرآن):
هذه الجزء من قصة موسى عليه السلام، في سورة الشعراء، يجيء متناسقا مع مقصدها وموضوعاتها، في الإعراض والتكذيب، قال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)}، وتقصد إلى بيان عاقبة المكذبين بالرسالة، وإلى طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته عما يلقاه من إعراض المشركين وتكذيبهم، وإلى رعاية الله لدعوته والمؤمنين بها ولو كانوا لا يملكون القوة، وأعداؤهم أقوياء جبارون في الأرض مسلطون عليهم بالأذى والتنكيل، وهو الموقف الذي كان فيه المسلمون بمكة عند نزول هذه السورة، كما فصّلناه أعلاه (انظر 026.7.2- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها). والآيات المذكورة هنا تتحدّث عن الرسالة والتكذيب وما كان من غرق فرعون وملئه جزاء على هذا التكذيب، وعقاباً على ظلمه لبني إسرائيل، ونجاتهم من كيده. وفي هذا تصديق لقوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)}، وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)}. وقد عرضت كذلك مثل هذه الآيات عن قصّة موسى عليه السلام في سورة الأعراف، وفي سورة يونس، وفي سورة طه، ولكنها عرضتها في كل موضع من جانب مختلف يناسب مقصد تلك السورة وموضوعاتها.
والقصص في الأعراف (الآيات 103-171) يجئ من أجل تسهيل فهم مقصد السورة في الدعوة إلى اتباع الدين، فكان تركيزها على الإنذار والتذكير، قال تعالى: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}، والأمر بالإيمان، والتحذير من الكفر، والتعريف بأن الإنسان خلق لعبادة الله وحده، وهلاك الكافرين كان بسبب إعراضهم وعنادهم مع وجود الآيات، قال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}، ولأن مقصدها هو الأمر باتباع الهدى وإقامة الحجة، ويقابله أن أكثر الناس كانوا كافرين، بدأت قصّة دعوة موسى لفرعون مختصرة، وقصّة السحرة سريعة، بينما اتسع الحديث عن مؤامرات فرعون وملئه، ووقوع آيات العذاب عليهم، ثمّ مجاوزة بني إسرائيل البحر، وغرق فرعون ونجاة موسى ومن آمن معه، ثم عن أحداث كثيرة بعدها، منها اصطفاء موسى بالرسالة والكلمات، نزول الألواح، اتخاذهم العجل، وآيات تفجير العيون، وغيرها، تنتهي بأخذ الميثاق على بني إسرائيل؛ بينما اختصر هذا كلّه هنا في الشعراء فلم يشر إليه، لكن توسّع فيها بذكر الجدال بين موسى وفرعون حول وحدانية الله سبحانه ووحيه إلى رسوله، في تناسب مع الجدل المذكور فيها بين المشركين والنبي صلى الله عليه وسلم. انظر كذلك المزيد في سورة الأعراف: (007.7.2.2- اعتمدت السورة على سرد القصص، 007.7.7- إيمان الأمم يمر بعدة مراحل يبدأ قوياً ثم يتراجع إلى أن يعودوا كفاراً كما بدأوا).
وفي يونس (الآيات 75- 93)، والتي مقصدها هو: الأمر باتباع الدين، والصبر على ذلك حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين؛ جاء موسى عليه السلام إلى فرعون، فدعاه إلى الله فكذبه، فأخبره أن معه آية تصدقه، باختصار ولم يعرضها، بينما توسع بذكر الآيات في سورتي الأعراف وطه. أما في يونس فقد ركزت على إبراز التكذيب أكثر من إبراز الآيات، فلمّا أتى موسى فرعون بالآيات استمر على تكذيبه، وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً، وكان فرعون علا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء، فطمست أمواله وآثاره، وبقيت أحاديثه وأخباره، وقد أهلكه الله بالغرق، ولم ينفعه معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات، وما آمن لموسى، بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة، إلا ذرية من قومه. وكذلك لا نجد تكرارا في ذكر القصة أبدا على كثرة ما عرضت في سور القرآن. لأن هذا التنويع في اختيار الآيات التي تعرض، والأجزاء من القصّة التي تسرد، مختارة بما يتناسب مع مقصد وموضوعات السورة، بما يجعلها جديدة في كل مكان ترد فيه، ومتناسقة معه.
وفي سورة طه (الآيات 9- 98)، والتي مقصدها هو أن الدين رحمة: وأن القرآن نزل رحمة للناس، وتذكيراً لهم بواجباتهم في الحياة، المبنيّة على فطرة الله، والتي فيها سعادتهم وحمايتهم من الشقاء؛ فجاء القصص بما يتناسب مع نفي أن يكون الغرض من نزول القرآن هو شقاء الناس بل هو الرحمة والسعادة، وهذا يتناسب مع الرحمة التي ابتدأت بها السورة {الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)}، وتظهر كذلك رحمة الله بموسى عليه السلام، فأطالت الآيات في ذكر المناجاة الأولى بين موسى وربه، ثم دعائه ربه، وطلب إشراك أخيه في الرسالة، في الآيات (9-47)، ويستمر المدد والعناية والمعية الإلهية في كل خطوة يخطوها موسى في رسالته لغاية الآية رقم (98).
وفي سورة القصص (الآيات 3-48) عن رفع الظلم باتباع الدين، فقد بدأت قصّة موسى حتى قبل مولده، تحكي عن ظلم فرعون لقوم موسى، قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}، وتصف الظروف القاسية التي ولد فيها، من حيث ضعف قومه في ذلّ لا يطيقه بشر؛ ولا تبدأ مثل هذا البدء في أية سورة أخرى من السور الكثيرة التي وردت فيها، وهذا يتناسب مع مقصد سورة القصص، الذي نجده في الآيات الست الأولى (1-6) حيث بدأت بمقدمة صريحة تقول أن الله يريد أن يمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ظلماً وعدواناً، فيجعلهم ورثة الأرض، قادة في الخير دعاة إليه يقتدى بهم. ثم الآيات (7-43) تحكي لنا في قصة متواصلة استغرقت نصف عدد آيات السورة تقريباً، يتبين لنا منها كيف يحقق الله سبحانه هذا في قوم موسى الذين استضعفهم فرعون يذبح أبناءهم ويستبقي نساءهم؛ فتحكي مراحل مولد موسى عليه السلام، ثم شبابه وما آتاه الله من الحكم والعلم، ثم قتله القبطي، وتآمر فرعون وملئه عليه، وهربه من مصر إلى أرض مدين، وزواجه فيها، وعمله في مدين عشر سنوات، ثم في طريق عودته ناداه ربه وكلّفه بالرسالة، ثم دعوته لفرعون وملئه، وتكذيبهم لموسى وهارون؛ ثم ختمت القصّة بذكر غرق فرعون وجنوده، بكلمات مختصرة سريعة. وهو الدرس المناسب الذي كانت القلة المسلمة المستضعفة في مكة في حاجة إلى سماعه، وكانت الكثرة المشركة الباغية الطاغية في حاجة إلى معرفته واستيقانه؛ فقد تلتها مباشرة الآيات (44-61) تحكي قصة تكذيب أهل مكة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وما نزل عليه من القرآن، فلم يستخلصوا العبر من قصة موسى وفرعون التي أظهر الله فيها العدل باتباع دينه وقضى على الفساد في الأرض بإهلاك المفسدين. لكن الله أظهر دينه الخاتم وحفظ قرآنه.
وفي سورة غافر، والتي مقصدها: أن الله خلق الله الناس لكي يذنبوا فيتوبوا فيغفر لهم ويدخلهم الجنة، لكن أكثر الناس جادلوا في آيات الله وتآمروا على رسله ولم يتوبوا، فعاقبهم الله في الدنيا وأدخلهم النار في الآخرة. فقد جاءهم موسى بالهدى والكتاب، فقابلها المتكبرون الجبابرة فرعون وهامان وقارون بالعناد والتكذيب، فيقرر فرعون بعد أن عجز عن منع دعوة موسى، قتل أبناء الذين آمنوا وقتل موسى عليه السلام، ويتدخل رجل مؤمن يكتم إيمانه ينصحهم بعدم التمادي بالقتل، والحذر من بأس الله، و يذكرهم بيوم الأحزاب، وما حصل لنوح وعاد وثمود، وأنهم كانوا في شك من أن يبعث الله رسولا، وأنهم يجادلون بغير سلطان، لكن فرعون يتمادى يريد أن يطلع إلى إله موسى، ثم يستمر المؤمن بوعظهم بأن هذه الدنيا متاع زائل، وغيره، فلا يفيد كل هذا، حتى حاق بآل فرعون أشد العذاب، نفس النتيجة التي في المقصد.
وفي الزخرف، التي مقصدها: أنهم اغتروا بالنعمة وكفر أكثرهم وأعرضوا عن المنعم، فتوعدهم عقاب في الدنيا قبل الآخرة، وتسلط عليهم الشياطين تغويهم وتضلهم، وخزي لهم بنصر المؤمنين؛ وهو يتناسب مع تفاخر فرعون بزخارف الدنيا: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)}.
وفي الدخان التي مقصدها: بيان ما ينفعهم ويضرهم، لعلهم يتعظون وينزجرون فيفوزون بالجنة وينجون من العذاب الأليم الذي ينتظرهم لو استمرّوا في شكهم؛ وهو يتناسب مع تركهم الجنات وأورثها الله قوماً آخرين {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)}.
وفي النازعات والتي مقصدها: تأكيد حقيقة قدوم الساعة التي ينكرونها، ويسألون طغياناً وتعنتاً عن وقتها؛ وهذا يتناسب مع قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)}
في هذه البيان المقتضب عن تناسب قصص موسى عليه السلام مع مقاصد هذه السور التسعة: (الشعراء، الأعراف، يونس، طه، القصص، غافر، الزخرف، الدخان، النازعات)؛ ومع ما سبق بيانه في سورة البقرة عن قصة موسى عليه السلام كنموذج على الدعوة إلى الهدى؛ وما بيناه في سورة الكهف عن قصّة موسى مع الخضر: وأنّ كل ما نراه لابدّ أن وراءه حكمة، قد نعلم أو لا نعلم هذه الحكمة؛ بالإضافة إلى ما بيّناه في سورة طه (020.8.5- قصة موسى في القرآن) حول أن السور المكّية الثلاث التي نزلت معاً: النمل والشعراء والقصص، تكمل بعضها بعضاً لتكوّن في النهاية قصة موسى عليه السلام واحدة؛ هذه السور، الاثنتا عشرة سورة، هي أكثر سور القرآن جاءت فيها مقاطع طويلة عن موسى عليه السلام وعن فرعون والتوراة. لكن القصّة لا تتوقف فقط عند هذه المقاطع الطويلة في هذه السور، بل قد ورد ذكرها في 49 سورة من القرآن وهي:
سورة البقرة، في الآيات: (49-74، 83-88، 92، 93، 108، 122، 211، 246-251)؛ آل عمران: (3، 4، 11، 93)؛ النساء: (153-155، 160-162، 164)؛ المائدة: (12، 13، 20-26، 32، 43-47، 60، 66، 68-71، 78، 79)؛ الأنعام: (84، 91، 146، 154)؛ الأعراف: (103-156، 159-171)؛ الأنفال: (52، 54)؛ التوبة: (30، 31، 111)؛ يونس: (75-93)؛ هود: (96-99، 110، 111)؛ إبراهيم: (5-8)؛ النحل: (118)؛ الإسراء: (2-8، 101-104)؛ الكهف: (60-82)؛ مريم: (51-53)؛ طه: (9-99)؛ الأنبياء: (48، 49)؛ الحج: (44، 17)؛ المؤمنون: (45-49)؛ الفرقان: (35-36)؛ الشعراء: (10-68)؛ النمل: (7-14)؛ القصص: (3-48، 76-83)؛ العنكبوت: (39-40)؛ السجدة: (23، 24)؛ الأحزاب: (7، 69)؛ الصافات: (114-122)؛ ص: (12)؛ غافر: (23-54)؛ فصلت: (45)؛ الشورى: (13، 14)؛ الزخرف: (46-56)؛ الدخان: (17-33)؛ الجاثية: (16، 17)؛ الأحقاف: (12)؛ الفتح: (29)؛ ق: (13)؛ الذاريات: (38-40)؛ النجم: (36)؛ القمر: (41-42)؛ الصف: (5، 6)؛ الجمعة: (5)؛ التحريم: (11)؛ الحاقة: (9، 10)؛ المزمل: (15، 16)؛ النازعات: (15-26)؛ البروج: (17-20)؛ الأعلى: (18-19)؛ الفجر: (10-13).
مجموع السور 49 سورة، وعدد الآيات 563 آية، أي قريباً 20% من مجموع عدد آيات القصص في القرآن ومجموعها 2900 آية هي عن رسالة موسى لفرعون؛ وهذه الآيات التي ذكرناها هي التي تتحدّث عن قصص: موسى وهارون، وآل فرعون، وهامان، وقارون، والتوراة، وبني إسرائيل، قبل رسالة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، ولو أضفنا إليها قصص بني إسرائيل في عهد خاتم النبيين والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، مثل الآيات (40-48) من سورة البقرة، مثلاً، وما شابهها من الآيات، فستكون آيات قصص اليهود المذكورة في القرآن عبر تاريخهم كبيرة. إن مقصد هذه القصص (الغير مذكور في القرآن) هو التسهيل في فهم القرآن بالتجربة والممارسة (والله أعلم)، عدا عن المقاصد المذكور بنصّ القرآن منها التثبيت لأمة محمد صلى الله عليه وسلّم، إلخ.
026.8.4.2- قصة إبراهيم عليه السلام:
وقصة إبراهيم عليه السلام في سورة الشعراء جاءت في نفس السياق بأنهم تأتيهم الآيات فلا يؤمنون: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (103)}، وقد استبدلوا عبادة الله ربهم بعبادتهم أصناماً لا يسمعون، ولا ينفعون ولا يضرون؛ فهلكوا في الدنيا، وورثوا العذاب والندم الشديد في الآخرة، بدلاً من الجنة والنعيم المقيم. وقد ذكرت مراحل أخرى من قصة إبراهيم في السور السابقة: في البقرة: (الآيات 124-141، 258-260) عن قصّة تطهير البيت وبناءه هو وإسماعيل، ودعائه أن يجعل الله البلد الحرام آمنا، ودعائه لذريته التي استجابها الله بأن جعل في ذريته الإسلام والنبوة، والرسول الذي سيزكيهم ويطهرهم، وأن ملّة إبراهيم والمرسلين هي الإسلام، ودينهم هو التوحيد؛ وذكرت قصّة محاجّته للملك الكافر في أن الله يحيي ويميت، ويأتي بالشمس من المشرق، وعجز الملك أن يأتي بها من المغرب، فبهت الذي كفر؛ وذكرت قصّة طلبه من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وأمره بذبح أربعة من الطير، وأن يجعل على كلّ جبل منهن جزءاً، ثم ادعهن، فأتت تسعى إليه. وفي سورة آل عمران: (الآيات 33، 65-71، 84، 95-97) عن اصطفاء الله لإبراهيم بما يتناسب مع سياق ومقصد السورة، ثم أن أولى الناس بإبراهيم هم الذين يتبعون دينه الإسلام الحنيف، ثم الحج إلى أول بيت وضع للناس. وفي الأنعام: (الآيات 74-84، 161) عن قصة تفكّره عليه السلام في ملكوت السماوات والأرض، وفي النجوم والقمر والشمس، ودلالتها على الصانع المبدع فاطر السماوات والأرض وحده لا شريك له. وفي هود: (الآيات 69-77) عن قصة إتيان الملائكة لإبراهيم بالبشرى بإسحاق، وهم الملائكة المكلفين بالعذاب لقوم لوط، إشارة إلى رعاية الله لعباده المصطفين، وتدمير المكذبين. وفي إبراهيم: (الآيات 35-41) دعائه عند البيت المحرم أن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وحمده على أن وهب له على الكبر إسماعيل وإسحاق، وطلبه إلى ربه أن يجعله مقيم الصلاة هو وذريته، وأن يقبل دعاءه، ويغفر له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، في تناسب مع مقصد السورة بأن الدين نعمة ونور. وفي الحجر: (الآيات 51-60) الملائكة تبشره بغلام وبالحق، وتأمره ألا يكون من القانطين، وأن الله سينجي آل لوط من العذاب إلا امرأته كانت من الغابرين، في تناسق مع مقصد السورة بأن الله هو الأمان والحافظ والرازق في الدارين. وفي النحل: (الآيات 120-123) أن الله اجتبى إبراهيم عليه السلام وهداه وأنعم عليه في الدنيا والآخرة، وأوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته باتباع ملة إبراهيم حنيفاً، في تناسب مع مقصد السورة في البشارة والمغفرة والأجر الحسن في الدنيا والآخرة. وفي مريم: (الآيات 41-50) دعوة إبراهيم لأبيه بأن لا يعبد الأوثان، ولا يعبد الشيطان، وخوفه عليه، واستغفاره له، وأن الله وهبه اسحاق ويعقوب وجعلهما أنبياء، في تناسب مع مقصد السورة حول رحمة الله. وفي الأنبياء: (الآيات 51-73) حول رسالة ودعوة إبراهيم لأبيه وقومه، إلى عبادة رب السماوات والأرض، وتحطيم الأصنام، وإلقائه في النار التي كانت بردا وسلاما عليه بأمر الله، ونجاته من كيدهم، هو وابن أخيه لوط إلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، في تناسب مع مقصد السورة بأن الرسالة والنبوة رحمة. وفي الحج: (الآيات 26، 27، 29، 77، 78) الأمر بالحج والعبادة وفعل الخيرات لأن فيه الفلاح. وفي الشعراء: (الآيات 69-90) كما بيناه أعلاه فيها نبأ إبراهيم وإصرار أبيه وقومه على عبادة الأصنام، لأنهم وجدوا آباؤهم كذلك يفعلون، وإعراضهم عن عبادة الله الضار النافع، والذي بيده كلّ شيء.
وكذلك ذكرت مراحل أخرى من قصة إبراهيم في السور التي بعد الشعراء: ففي العنكبوت: (الآيات 16-35) فيها قصّة دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه، بعبادة الله وتقواه، وتحذيرهم بأن لا يكذّبوا كما كذب الأمم من قبلهم، ومقابلة ذلك منهم بالإصرار على قتله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)}، فآمن معه لوط وآله إلا امرأته، وبقي قوم لوط كذلك مصرّين على فعل الفاحشة، فأهلكهم الله جميعاً، في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم، في تناسب مع مقصد السورة في أن الله يمتحن الناس باتباع الدين الذي به يتحدد مصيرهم في الدنيا والآخرة. وفي الصافات: (الآيات 83-113) فقد أراد قوم إبراهيم به كيداً فجعلهم الله الأسفلين، وجعل السلام على إبراهيم، وبارك عليه وعلى إسحاق، {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)} في تناسب مع مقصدها بأن الله عظيم، وفي نفس الوقت قريب يسمع النداء ويستجيب للدعاء. وفي الزخرف: (الآيات 26، 27، 28) إعلان تبرؤ إبراهيم من أبيه وقومه ولجوئه إلى فاطره: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)} وبقائها كلمة باقية في ذريّته، فلم يزل فيهم من يوحد الله من بعده. وفي الذاريات: (الآيات 24-37) فيها قصّة ضيف إبراهيم المكرمين الذين جاؤوا له بالسلام والبشرى والأمان، وهم نفسهم مرسلين إلى قوم لوط بالحجارة المسومة والعذاب، في تناسب مع مقصد السورة بصدق الوعيد بالحساب على الأعمال، والجزاء بالنعيم لمن أطاع والعذاب لمن عصى وأفسد.
هذه السور الخمسة عشرة التي ذكرت فيها أحداث مختلفة عن قصّة إبراهيم عليه السلام، هي أكثر سور القرآن جاءت فيها مقاطع طويلة عن مراحل مختلفة من حياته ورسالته، لكن القصّة لا تتوقف فقط عند هذه المقاطع الطويلة في هذه السور، بل قد ورد ذكرها بمقاطع أقل، وإشارات إلى بعض أحداثها في سور أخرى من القرآن، مثل قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} النجم، بما يتناسب مع مقاصد تلك السور وموضوعاتها.
026.8.4.3- قصّة قوم لوط عليه السلام:
عاش النبي لوط في نفس زمن النبي إبراهيم عليهما السلام، مرسلاً إلى بعض الأقوام المجاورة لإبراهيم، كان هؤلاء القوم كما يخبرنا القرآن الكريم يأتون الفاحشة ما سبقهم بها من أحد، عندما نصحهم لوط بأن يقلعوا عن الفاحشة وأنذرهم ببطش الله وعقابه، كذبوه وأنكروا نبوته ورسالته، وتمادوا في غيّهم؛ وهددوا لوطاً عندما دعاهم إلى إتباع الطريق الصحيح، وقد أنكروا عليه دعوته لهم إلى الحق والطهر، وعزموا على طرده هو والذين آمنوا معه؛ فتوجه لوط إلى ربه يسأله العون فاستجاب الله له، وأرسل ملكين في صورة رجلين، فمر هذان الملَكان على إبراهيم قبل أن يصلوا لوطاً، وأعطوه البشرى بأن امرأته ستلد له غلاماً، وبيّن الملكان لإبراهيم سبب إرسالهم إلى قوم لوط، بأن الله قد حكم على قوم لوط بالهلاك؛ وبعد أن وصل الملَكان لوطاً، اغتم لمجيئهما وخاف عليهما من أن يلحق بهما الأذى من قومه، إلا أن ضيوفه ذَكَّروه بأنهم رسل الله إليه؛ فأنقذ الله لوطاً بمساعدة الملَكين، وفي الصباح أُهلكهم، قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)}؛ ولم ينج منهم إلا لوط وأهله، إلا أن امرأة لوط لم تكن من المصدقين فهلكت مع الهالكين.
وأطول مقاطع قصّة لوط عليه السلام وردت في سورة هود والحجر والشعراء والعنكبوت والصافات والقمر وهي غالباً ما تأتي مقترنة مع قصة إبراهيم عليه السلام، فقد كنت نبوتهما في زمان واحد، وفي بعض السور تأتي وحدها بدون ربطها مع قصّة إبراهيم، إذا اقتضى السياق، كما في سور الأعراف والنمل والقمر والتحريم. ونشير هنا إلى السور والآيات التي ذكرت فيها هذه القصّة، وهي قصص سهلة الفهم، بيّناها في مكانها، بحسب ما اقتضاه سياق السور: ففي سورة الأعراف: (الآيات 80-84)؛ وفي هود: (الآيات 69-83)؛ وفي الحجر: (الآيات: 51-77)؛ وفي الأنبياء: (الآيات: 71-75)؛ وفي الشعراء: (الآيات 160-175)؛ وفي النمل: (الآيات 54-59)؛ وفي العنكبوت: (الآيات 28-35)؛ وفي الصافات: (الآيات: 133-138)؛ وفي الذاريات: (الآيات 31-37)؛ وفي القمر: (الآيات: 33-40)؛ وفي التحريم: (الآية 10).
026.8.4.4- قصة نوح عليه السلام:
وقد ذكرت قصّة نوح عليه السلام من قبل في سورة الأعراف: (الآيات 59-64) في سياق إرسال جميع الرسل برسالة واحدة، هي عبادة الله وحده، بعد هبوط آدم من الجنة عرضا مختصرا، يتلخص في دعوته قومه إلى التوحيد، وإنذارهم عذاب يوم عظيم، واتهام قومه له بالضلال، وعجبهم من أن يبعث الله إليهم رجلا منهم، وتكذيبهم له. ومن ثم إغراقهم ونجاته هو ومن معه بدون تفصيل. وفي يونس (الآيات 71-74) ذكرت باختصار كذلك في نهاية رسالته، إذ تحدى قومه فكذبوه، ثم كانت نجاته ومن معه في الفلك، وإغراق الآخرين. وفي هود (الآيات 25-49) ذكرت الطوفان والفلك، وما بعد الطوفان، كذلك من دعائه لربه في أمر ابنه الذي أغرق مع المغرقين، وما كان بينه وبين قومه قبل ذلك من جدال، وعدم سماعهم لنصحه لهم، وسخريتهم منه، فما آمن معه إلا قليل. وفي الأنبياء (الآيات 76، 77) الإشارة إلى نجاة نوح وأهله من الكرب العظيم، ونصره على المكذبين وإغراقهم، في تناسب مع مقصد السورة حول مصائر الناس بأعمالهم. وفي المؤمنون (الآيات 23-31) قصّة دعوته لقومه إلى عبادة الله الواحد، واعتراضهم عليه بأنه بشر منهم يريد أن يتفضل عليهم، ولو شاء الله لأنزل ملائكة، واتهامه بالجنون، ثم توجهه إلى ربه يطلب نصرته، فأنجاه الله ومن معه في الفلك، وأغرق المكذبين في الطوفان. وفي الفرقان: (آية 37) أغرق الله قوم نوح لمّا كذبوا، وجعلهم للناس آية، ولهم في الآخرة عذاب أليم. وفي الشعراء (الآيات 105-122) دعوته لقومه إلى تقوى الله، وأنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى، ورفضه أن يطرد المؤمنين الضعفاء، استجابة لطلب الكبراء، ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه، واستجابة الله له بإغراق المكذبين وتنجية المؤمنين. ثم بعد الشعراء جاءت قصّة نوح في العنكبوت: (الآيات 14، 15) دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون، وأنجاه الله في السفينة. وفي الصافات: (الآيات 75-82) نادى ربه فاستجاب له، فنجّاه وأهله، وأغرق الباقين. وفي الذاريات: (الآية 46) هلاك قومه الفاسقين. وفي القمر: (الآيات 9-16) نصر الله بإغراق قوم نوح، ففتحت السماء بماء منهمر، وفجرت الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16). وفي التحريم: (الآية 10) ضرب الله مثلاً خيانة امرأة نوح. وفي سورة نوح: (الآيات 1-28) السورة كلها قصة واحدة من أولها إلى آخرها، تحكي مأساة أمة عبدت الأصنام بدلاً عن عبادة رب الأصنام، فأهلكها الله بسبب ظلمها وجهلها. يبين نوح لقومه أنهم خلقوا لعبادة الله وحده، وينذرهم إن أعرضوا بالعذاب الأليم، فيعرض أكثرهم فلا يؤمنون، فيستمر ببيان الآيات وعرض البشارات وضرب الأمثلة وإقامة البراهين، لكنهم في المقابل يصرون على الإعراض ويزداد مكرهم وكيدهم وعداوتهم للرسول والمؤمنين حتى يهلكهم الله جميعاً وينجي القلّة الذين آمنوا، وتنتهي القصّة.
026.8.4.5- قصة عاد مع هود عليه السلام:
وقوم هود كانوا يسكنون الأحقاف، وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن، وقد جاءوا بعد قوم نوح، وكانوا يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)} الفجر، وعاد هم أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، فبعث الله فيهم أخاهم هوداً عليه السلام، فدعاهم إلى الله، وقد وردت هذه القصة في الأعراف مفصّلة في (الآيات 65-72)؛ وفي هود (الآيات 50-60)؛ كما وردت في سورة “المؤمنون” بدون ذكر اسم هود وعاد (الآيات 31-41)؛ وهي ذكرت هنا في الشعراء (الآيات 123-140) مختصرة بين طرفيها: طرف دعوة هود لقومه، وطرف العاقبة التي انتهى إليها المكذبون منهم، وتبدأ كما بدأت قصة قوم نوح {كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هود: ألا تتقون (124)، إني لكم رسول أمين (125) فاتقوا الله وأطيعون (126). وما أسألكم عليه من أجر، إن أجري إلا على رب العالمين (127)}؛ وذكرت في العنكبوت (الآية 38)؛ وفي فصلت: (الآيات 13-16)؛ وفي الأحقاف: (الآيات 21-25)؛ وفي ق: (الآية 13)؛ وفي الذاريات: (الآيات 41، 42)؛ وفي النجم: (الآيات 50-55)؛ وفي القمر: (الآيات 18-22)؛ وفي الحاقة: (الآيات 6-8)؛ وفي الفجر: (الآيات 6-14).
026.8.4.6- قصّة ثمود قوم صالح عليه السلام:
قوم ثمود من العرب البائدة، من سكان شبه الجزيرة العربية القدماء، يسكنون بين الحجر الذي بين الحجاز وتبوك، وقد مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين، وهم قوم ارسل الله اليهم صالح عليه السلام، نبي ورسول منهم يدعوهم لعبادة الله وحده وترك عبادة الاوثان، فاستجابوا لدعوة نبي الله صالح، ثم ارتد أكثرهم عن دينهم وعقروا الناقة التي أرسلها الله لهم آية وتحدوا صالح أن يأتيهم بالعذاب، ودبروا مكيدة لقتل صالح واهله، فأهلك الله الذين ظلموا من قوم ثمود ونجي صالح والمؤمنون، وقصّتهم سهلة وآياتها مفهومة، ومفصّلة في السور التالية: الأعراف: (الآيات 73-79)؛ هود: (الآيات 61-68)؛ الحجر: (الآيات 80-84)؛ الإسراء: (الآية 59)؛ الشعراء: (الآيات 141-159)؛ النمل: (الآيات 45-53)؛ وفي العنكبوت (الآية 38)؛ فصلت: (الآيات 17، 18)؛ وفي ق: (الآية 12)؛ الذاريات: (الآيات 43-45)؛ وفي النجم: (الآيات 50-55)؛ القمر: (الآيات 23-32)؛ الحاقة: ( الآيات 4، 5)، وفي الفجر: (الآيات 6-14) ؛ الشمس: (الآيات 11-15).
وكثيراً ما يقرن الله في كتابه بين ذكر عاد وثمود، كما في السور: الأعراف، وهود، والشعراء، والعنكبوت، وفصلت، و ق، والذاريات، والنجم، والفجر؛ ويقال إن هاتين الأمتين لا يعرف خبرهما أهل الكتاب، وليس لهما ذكر في كتابهم التوراة، ولكن في القرآن ما يدل على أن موسى أخبر عنهما، قال تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ۚ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)} إبراهيم.
026.8.4.7- قصّة مدين قوم شعيب عليه السلام:
قال ابن كثير: كان أهل مدين قوماُ عرباً، يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية من أرض معان، من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز، قريباً من بحيرة قوم لوط، وكانوا بعدهم بمدة قريبة، ومدين قبيلة عرفت بهم القبيلة؛ وكان أهل مدين كفاراً، يقطعون السبيل، ويخيفون المارّة، ويعبدون الأيكة، وهي شجرة من الأيك، حولها غيضة ملتفة بها، وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد، ويدفعون بالناقص؛ فبعث الله فيهم رجلاً منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة، من بخس الناس أشياءهم، وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، فآمن به بعضهم، وكفر أكثرهم حتى أحل الله بهم البأس الشديد، وهو الولي الحميد. كما قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (85)} الأعراف، أي: دلالة وحجة واضحة، وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به، وإنه أرسلني؛ وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلًا، وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالًا؛ {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا (85)} الأعراف، أمرهم بالعدل، ونهاهم عن الظلم، وتوعدهم على خلاف ذلك فقال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ (85)} أي: طريق؛ انتهى.
وقد ورد في كل سورة من السور التالية مقطع من القصّة الذي فيه العبرة بما يتناسب مع تلك السورة التي ذكر فيها وموضوعاتها، وقد بيّناه في مكانه فلا نكرره، وهي: سورة الأعراف: (الآيات: 85-93)، وهود: (الآيات 84-95)، والحجر: (الآيات 78، 79) ، والشعراء: (الآيات 176-191)، والعنكبوت: (الآيات 36، 37).