العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


054.0 سورة القمر


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


054.1 التعريف بالسورة:

1) السورة مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 55 آية. 4) الرابعة والخمسون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والسابعة والثلاثون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “الطارق”. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمى أيضاً سورة اقتربت.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: نُذُرِ 6 مرّات، مقتدر 2 مرّة، (1 مرّة): رب، مليك، خَلق، أنعم، فتن. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: ازدجر 2 مر ّة، أشر 2 مر ّة؛ (1 مر ّة): منقعر، محتظر، محتضر، مستطر، مليك، أدهى، دسر.

أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: نذر 12 مرة، مدّكر 6 مرات، سعر 2 مرّة، الزبر 2 مرّة.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: كذب 9، عذاب 7، ذكر 5؛ (3 مرّات): داع، واحد، ساعة؛ (2 مرّة): قدر، آية؛ (1 مرّة): جراد، أجداث، حكمة، هشيم، مقعد، صدق، سقر.

054.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

وأخرج ابن جرير عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما نزلت هذه الآية (49) من سورة القمر {إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)}، قال رجل: يا رسول الله ففيم العمل أفي شيء نستأنفه أم في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر نيسره لليسرى ونيسره للعسرى.

أخرج ابن عساكر من طريق عطاء عن أبن عباس رضي الله عنهما أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب. قال: “أجل شيبتني هود وأخواتها”. قال عطاء رضي الله عنه: أخواتها: اقتربت الساعة والمرسلات وإذا الشمس كوّرت.

054.3 وقت ومناسبة نزولها:

أخرج البخاري ومسلم وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما.

وقد حصلت هذه الآية في منى القريبة من مكة حوالي خمسة سنوات قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

054.4 مقصد السورة:

054.4.1- يؤكد سبحانه وتعالى إصرار الناس على الإعراض والتكذيب، رغم كل ما جاءهم من الأنباء والنذر، وعن أن الساعة قادمة قريباً، وأن كل أمر مستقر، وأن كل شيء خلقه الله بقدر، وأن أمر الله سريع كلمح البصر، وأن كل أعمال الإنسان مسجلة في الكتب يحاسب عليها في الدنيا ويوم القيامة.

054.4.2- مقصدها نجده في مطلعها في الآيات (1-5) وهو تأكيد إصرار الناس على الإعراض والتكذيب، برغم كل ما جاءهم من الأنباء والنذر التي تكفي لتنبيههم ووعظهم، بما سيأتي تفصيله في السورة: بأن الإنسان وجد في الدنيا لأجل مهمّة ومقصد محدد (أي الابتلاء بالأعمال، ثم الحساب على الأعمال)، وبيان حقيقة ما فعله الإنسان (التكذيب)، ثم بيان ومصيره (الهلاك في الدنيا والعقاب في الآخرة). وفيه ثلاثة موضوعات:

– الأول (مقصد السورة) يؤكد سبحانه وتعالى إعراض الناس وتكذيبهم حقيقة أن الساعة قادمة قريباً وأن كل أمر مستقر (وكلُّ أمر من خير أو شر واقع بأهله يوم القيامة عند ظهور الثواب والعقاب)،

– والثاني أن كل شيء خلقه الله بقدر (ومنه أن من يعمل الخير ييسّر الله أمره وينال الثواب، ومن يعمل الشر يعسّر الله أمره وينال العقاب) في الدنيا وأن أمر الله سريع كلمح البصر،

– والثالث أن كل أعمال الإنسان (خيرها وشرها) يحاسب عليها، وكل كبير وصغير مسجل في الكتب للحساب يوم القيامة.

054.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت في السنة الخامسة قبل الهجرة مستهلّة بأمر الساعة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}، وختمت به: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} وكانت بداية السورة لبداية الساعة ونهايتها للنهاية، وزادت النهاية بيان أن السبب الموجد لها، وهو قدرته {مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}. وتضمنت ثلاث مجموعات من الآيات: أولها (8 آيات) إعلام الناس بقرب قيام الساعة، وإصرارهم على الإعراض والتكذيب واتباع الهوى، وأن {كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)} بأهله، وقد جاءهم فيه من الأنباء الزاجرة والنذر؛ ثمّ (38 آية) قصص خمس من الأمم هلكت بتكذيبها وكفرها، وعبرة وإنذار للأمة الخاتمة بأن اعتبروا؛ وختمت (9 آيات) بإعلامهم بأن كل شيء خلقه الله بقدر، وأن أمره سريع {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}، وأن كل أعمال الإنسان مسجلة {فِي الزُّبُرِ (52)} يحاسب عليها في الدنيا ويوم القيامة، كما يلي:

(الآيات 1-8): أعلمهم سبحانه بقرب قيام الساعة بدليل آية انشقاق القمر ليزدجروا، ثمّ هم كذبوا وأعرضوا واتبعوا الهوى، فما زجرتهم الأنباء وما أغنتهم الحكمة البالغة والنذر شيئاً {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)}، فتولّ عنهم وانتظر فقد أعذروا حتى انقطعت حجتهم، فسيأتيهم الداع إلى ما أنكروا من الحساب العسير والجزاء.

(الآيات 9-46): قصص هلاك خمسة أقوام حذرهم تعالى عذابه وأنذرهم فكذبوا، يريد بها تأديب المكذبين في مكّة بلطف ورحمة، فيلفت انتباههم لينزجروا فلا يتمادوا في التكذيب والعناد فيهلكهم كما أهلكهم. بدأ بقصة قوم نوح {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح (9)} إلى {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}، أي فهل من متعظ يتعظ؟ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)}؟ وقد كان عذاباَ أليماً شديداً للمكذبين. ويستمرّ التكذيب أمّة بعد أمّة: {كَذَّبَتْ عَادٌ (18)} و{كَذَّبَتْ ثَمُودُ (23)} و{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ (33)} و{آَلَ فِرْعَوْنَ (41)} كذّبوا فأهلكوا، وتكررت خلالها {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} و{عَذَابِي وَنُذُرِ} ست (6) مرّات. ولمّا ذكر سبحانه عواقب الأمم في تكذيبهم قال: {أكفاركم خير من أولئكم (43)} مبرّؤون فلا يعذبون؟ بل كلّهم في الجزاء سواء {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)}، وقد قالها لهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر، {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)}.

وتخلل القصص {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ (22)} أي: يسّرنا على من أقبل عليه ألفاظه وفهم معانيه غاية اليسر وأعنّاه عليه؛ ولهذا كان علم القرآن حفظاً وتفسيراً أسهل العلوم وأجلّها وأنفعها على الإطلاق، فدعاهم إلى الإقبال عليه والتذكر {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)} يا أمّة القرآن.

(الآيات 47-55): إن المجرمين في تيه عن الحق وعذاب في النار، والمتقين في جنّات عظيمة وأنهار واسعة يوم القيامة. قدّر الله مقادير وسنّ سنناَ ليختبر أعمالهم، وما أمره {إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}، ذكّرهم بقصص هلاك الأمم فكذّبوا (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} وأنذروا فانقطعت حجتهم {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)}؟ فعلى من سمع النذر (تكررت كلمة النذر 12 مرّة) أن يقارن بين المصيرين ويزدجر ويرتدع فكلّ كبير وصغير مسجل للحساب والجزاء {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)}.

اللهم اجعلنا ممن آمن واتقى واتبع الهدى.

054.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

يمكن تقسيم السورة باعتبار ترتيب آياتها إلى ثلاث مجموعات من الآيات: الأولى هي مقدمة للسورة احتوت على كل مقاصدها المذكورة أعلاه والتي سيتم (فيما يليها من الآيات) تفصيلها وتأكيدها بقصص حقيقية عن الأمم السابقة الهالكة، الثانية قصص عن خمسة من الأمم هلكت بسبب تكذيبهم وكفرهم وفي ذلك عبرة أن كل الكفار معذبون لا فرق بين أمة وأمة، وفيه إنذار إلى الأمة الخاتمة بأن قد رأيتم عذابهم وهلاكهم في الدنيا فاعتبروا ولا تكذّبوا، الثالثة أنباء عن يوم القيامة فكما أنه قد جاءكم نبأ هلاكهم في الدنيا وصدق ذلك وقد رأيتم آثارهم، فها قد جاءكم نبأ عذاب وثواب الآخرة فاحذروا.

054.6.1- الآيات (1-8) هذه الآيات هي مقدمة للسورة احتوت على كل مقاصدها: وفيها تأكيد تكذيبهم وإعراضهم واتباعهم الهوى رغم كثرة الإنذارات والآيات الإلهية (الدالّة على أنهم مبتلون بالأعمال) التي جاءتهم وقد اكتملت أركانها بما لا يدع مجالاً للعذر، وقد سيق لهم في هذه السورة من الأنباء (عمّا حصل في الماضي وسيحصل في الحاضر والمستقبل) وظهرت لهم آية انشقاق القمر، وتأكيداً على اكتمال الإنذارات قال تعالى: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغن النذر (5)} ما فيه كفاية لردعهم عن كفرهم وضلالهم. فأعرضوا وقالوا سحر وكذبوا واتبعوا أهواءهم. وهم في ذلك لا فرق بينهم وبين من سبقهم من الأمم ممن جاءتهم أخبارهم ورأوا آثارهم، وهم كذلك لم تبرئهم مِن عقاب الله الكتب المنزلة أو بالسلامة من العقوبة، قال تعالى: {أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر (43)}.

054.6.2- الآيات (9-42) بينت السورة أن الله خلق كل شيء وقدّره تقديراً محكماَ وخلق الأسباب (وسجله في السطور)، فمن خالف تقدير الله فيما جعله من أسباب السعادة خسر وهلك ومن وافق تقدير الله ربح ونجا. أمر الله فوري كلمح البصر فسواء الإنسان خالف تقديره أو وافقه فالنتيجة فوريّة (كل شيء له مقداره وميزانه، الفعل ونتائجه المترتبة على ذلك الفعل، وكلّه مسجل عند الله للحساب – قد علمه قبل حصوله وظهور نتائجه). هذا كلام واضح، سهّل الله فهمه في كتابه القرآن لمن أراد أن يفهم، فمن أراد الفهم فوسائل التفهيم متنوّعة وعديدة ابتداءاً من القرآن الذي يسّر على المتعلّم والأمي كل يفهم منه الحق على قدر استيعابه، مروراً بالآيات الكونية والتكوينية، وانتهاءاً بالترغيب والترهيب بذكر أنباء الساعة وبمصائر وآثار الأمم المشار إليها في القرآن.

ماذا فعل الناس عندما جاءهم الرسل، وأتتهم الحكمة، وسمعوا الأنباء ورأوا الآيات؟ لقد أعرضوا عن الآيات وقالوا عنها سحر وكذّبوا واتبعوا أهواءهم رغم كل ما جاءهم من الأنباء الزاجرة والحكمة البالغة، فلم تغن عنهم. ولأجل تأكيد هذا الإعراض والتكذيب، والاعتبار مما حصل، تقصّ علينا الآيات هلاك خمسة أقوام سابقة حذّرهم الله عذابه ونذره، وهم: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون وملئه؛ ثمّ تسأل المكذبين بالقرآن {فكيف كان عذابي ونذر؟} تطلب منهم أخذ العبرة والاستجابة، فهل من متذكّر للآيات؟ المذكورة في القصص، كما يلي:

– العبرة من هلاك الأمم وبقاء آثارهم، في الآيات (10-15)

– حذرهم الله عذابه ونذره، في الآيات (16، 18، 21، 30، 39، 41)

– القرآن للذكر، في الآيات (17، 22، 32، 40)

– قصص الآيات المادية والمعجزات، في الآيات (27-29)

– قصص عذاب المكذبين، في الآيات (19، 20، 31، 34، 37، 38، 42)

– قصص نجاة المؤمنين، في الآيات (34، 35)

– التهديد بالعذاب والبطش، في الآيات (26، 36)

– الاعتراض على شخص الرسول وتكذيبه وتكذيب الآيات، في الآيات (9، 18، 23-25، 33، 37، 42)

– آيات كثيره كلها كذبوها، في الآية (42)

– هل عندهم من يبرئهم من عواقب كفرهم، في الآية (43)

ولقد يسرنا القرآن للذكر أي: يسرنا وسهلنا ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم، فكل من أقبل عليه يسّر الله عليه مطلوبه غاية اليسر، وسهله عليه. والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، الأمر والنهي، والجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة. ولهذا كان علم القرآن حفظاً وتفسيراً، أسهل العلوم وأجلّها على الإطلاق. وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولذا يدعوا الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله: {فهل من مدّكر}.

054.6.3- الآيات (43-55) خاتمة تضع النقاط على الحروف بأن الكل مكلّف لا فرق ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى: كفار اليوم ككفار الأمس لا براءة لأحد كلهم ضالون مجرمون وسيهزمون أمام قدر الله وجنود الحق فلا مفرّ لهم من الهلاك في الدنيا ثم العذاب في النار في الآخرة.

لقد خلق الله آدم ليكرمه، وأدخله الجنة لأنها هي دار الكرامة والنعيم الدائم، فلما عصى ربه وأطاع الشيطان أهبطه إلى الأرض ابتلاءاً له ولذريته، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ثم جعل الساعة موعدهم كلّ ينال جزاءه بحسب عمله في الدنيا التي هي دار الابتلاء.

تبين هذه الآيات أن المصير النهائي بعد هذا الابتلاء هو: أن المجرمين في تيه عن الحق وعذاب في النار، وأن المتقين في جنّات عظيمة وأنهار واسعة يوم القيامة.

فعلى من يسمع النذر (تكررت كلمة النذر في السورة 11 مرّة، وأنذَرَهُم 1 مرّة) أن يقارن بين المصيرين ويزدجر ويرتدع {ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدّكر (51)}. أي: فهل من متذكر يعلم أن سنة الله في الأولين والآخرين واحدة، وأن حكمته كما اقتضت إهلاك أولئك الأشرار، فإن هؤلاء مثلهم، ولا فرق بين الفريقين.

054.7 الشكل العام وسياق السورة:

054.7.1- اسم السورة من انشقاق القمر وهي آية سألها أهل مكّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كدليل على نبوته، وقد رأوها بأعينهم ومع ذلك فلم يؤمنوا وأصرّوا على تكذيبهم. وهذه الآية هي خير عنوان على مقصد ومواضيع السورة وهي تكذيب الأنباء والنذر عن قيام الساعة، والسبب اتباعهم الهوى وليس قلّة الآيات.

054.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:

تنقسم السورة باعتبار موضوعات آياتها إلى ثلاثة مجموعات من الآيات: الأولى يبين الله فيه أنه خلق كل شيء بتقدير وأسباب، وبذلك أرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، وأنزل الكتب، وبين الآيات، ونبّأهم من أنباء الغيب، وقصّ عليهم القصص. فمن اتبع أسباب الفلاح أفلح، ومن اتبع أسباب الهلاك هلك. الثانية فيها بيان ماذا فعل الناس لما جاءهم الرسل وأتتهم الحكمة وسمعوا الأنباء ورأوا الآيات؟ والثالثة المصير في الدنيا وفي الآخرة. (أي باختصار: فعل الله – فعل الناس – النتيجة) كما يلي:

054.7.2.1- فعل الله: يبين سبحانه وتعالى أن الساعة التي سيحاسبون فيها على أعمالهم قد اقترب وقتها وظهرت علاماتها ومنها انشقاق القمر. ويبين أنه قد جاءهم من أنبائها ومن أنباء من هلك قبلهم من الأمم ما فيه رادع عن تكذيبهم وإعراضهم وعظة لمن أراد لنفسه النجاة والفوز. وبين أنه أرسل الرسل وأنزل القرآن ويسّر للناس قراءته وفهم ما فيه من الحكمة والموعظة والنذر. (27 آية) أي نصف عدد آيات السورة تقريباً.

054.7.2.1.1- يؤكد سبحانه وتعالى أن الساعة (التي فيها الحساب على الأعمال) قادمة وأن كل أمر مستقر (وكلُّ أمر من خير أو شر واقع بأهله يوم القيامة عند ظهور الثواب والعقاب) وأن كل شيء خلقه الله بقدر (ومنه أن من يعمل الخير ييسّر الله أمره وينال الثواب، ومن يعمل الشر يعسّر الله أمره وينال العقاب) وأن أمر الله سريع كلمح البصر، وأن كل أعمال الإنسان (خيرها وشرها) يحاسب عليها، وكل كبير وصغير مسجل في الكتب للحساب. الآيات (1، 4-6، 10، 26-28، 41، 43، 46، 49، 50، 52، 53) = 15 أية

054.7.2.1.2- إنذارات شديدة ومتكرّرة من خلال الإشارة إلى قصص الأمم الهالكة بانه سيصيبهم ما أصابهم إن كذبوا. وفي القصص عبرة ودليلاً على قدرة الله على إهلاك المكذبين في مكّة وغيرهم. وعبرة وعظة بما حلَّ بهذه الأمة التي كفرت بربها، فهل من متعظ يتعظ بهذه الآيات التي يرونها وأهلكت من كان قبلهم؟ فكيف كان عذاب الله ونذره لمن كفر به وكذب رسله (إنه كان عظيماً مؤلماً).

ولقد سَهَّل سبحانه لفظ القرآن ومعانيه لمن أراد أن يتذكر ويعتبر بهذه القصص والأنباء والآيات فهل من متعظ به؟ فلا بدّ لمن أراد النجاة والفوز من الاستكثار من تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه. الآيات (15-17، 21، 22، 30، 32، 36، 37، 39، 40، 51) = 12 آية

{ولقد تركناها آية فهل من مدّكر (15)}، {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر (17، 22، 32، 40)}، {ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدّكر (50)}.

054.7.2.2- فعل الناس: ماذا فعل الناس لمّا جاءهم الرسل وأتتهم الحكمة وسمعوا الأنباء ورأوا الآيات؟ لقد أعرضوا عن الآيات وقالوا عنها سحر وكذبوا واتبعوا أهواءهم رغم ما جاءهم من الأنباء الزاجرة والحكمة البالغة، فلم تغن عنهم. الآيات (2، 3، 9، 18، 23-25، 29، 33، 42، 44، 45) = 12 آية

في كلّ مرة بعد أن قصّت الآيات على المكذبين بالنُذُر هلاك خمسة أقوام سابقة حذرهم الله عذابه ونذره، في الآيات (16، 18، 21، 30، 39) وهم: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون وملئه، وتسألهم {فكيف كان عذابي ونذر؟} (وقد كان عذاباَ أليماً شديداً)، ثمّ تطلب منهم أخذ العبرة والاستجابة، فهل من متذكّر للآيات؟

054.7.2.3- جزاء ومصير الناس في الدارين: أنزل الله القرآن ويسره وجعل فيه من الأنباء والآيات والقصص لكي يعتبروا ويتذكروا، بأن الله قدّر الأشياء بقدرها وزمانها وأسبابها ورتب النتائج على هذا التقدير. (16 آية)

054.7.2.3.1- مصير الناس في الدنيا وكيف أن الله أهلكهم بسبب ظلمهم ومخالفتهم تقدير الله وقوانين الحق. الآيات (11-14، 19، 20، 31، 34، 35، 38) = 10 آيات

054.7.2.3.2- مصير الناس يوم القيامة: آيتان تصفان حال الناس يوم قيام الساعة وكيف هم اليوم مطيعين مسرعين إلى ما دعوا إليه، على عكس ما كانوا عليه من التكذيب والإعراض في الدنيا. آيتان تصفان حال عذاب أهل النار وقد استحقوه بسبب إجرامهم. آيتان تصفان حال أهل الجنة وقد فازوا بسبب تقواهم. الآيات (7، 8، 47، 48، 54، 55) = 6 آيات

054.7.3- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:

054.7.3.1- الآيات (1-8) مقصد السورة: وفيه يؤكد سبحانه وتعالى أن الساعة (التي فيها الحساب على الأعمال) قادمة وأن كل أمر مستقر (وكلُّ أمر من خير أو شر واقع بأهله يوم القيامة عند ظهور الثواب والعقاب) وأن كل شيء خلقه الله بقدر (ومنه أن من يعمل الخير ييسّر الله أمره وينال الثواب، ومن يعمل الشر يعسّر الله أمره وينال العقاب) وأن أمر الله سريع كلمح البصر، وأن كل أعمال الإنسان (خيرها وشرها) يحاسب عليها، وكل كبير وصغير مسجل في الكتب للحساب. (8 آيات)

054.7.3.2- الآيات (9-46) الناس تعرض عن الآيات ويقولون عنها سحر ويكذبوا ويتبعوا أهواءهم رغم ما جاءهم من الأنباء الزاجرة والحكمة البالغة فلم تغن عنهم. (38 آية)

تقصّ على المكذبين بالنُذُر هلاك خمسة أقوام سابقة حذرهم الله عذابه ونذره، في الآيات (16، 18، 21، 30، 39) وهم: قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون وملئه، ولإيقاظهم مما هم فيه من الغفلة انشغالهم بالهوى الذي هو سبب هلاكهم، تسألهم {فكيف كان عذابي ونذر؟} ثمّ تطلب منهم أخذ العبرة والاستجابة، فهل من متذكّر للآيات؟

054.7.3.3- الآيات (47-55) خاتمة تبين المصير النهائي يوم القيامة وأن الله قدّر مقادير وسنّ سنن في هذه الدنيا ليختبر أعمال الناس، ثم يوم القيامة يكون مصيرهم تبعاً لأفعالهم في الدنيا: فمن أحسن فله الحسنى ومن أساء فله السوءى. (9 آيات)

054.7.4- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

054.7.4.1- آيات القصص: (2-5، 9-46، 50-52) = 45 آية.

054.7.4.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (6-8، 47، 48، 53-55) = 8 آيات.

054.7.4.3- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (1، 49) = 2 آية.

054.7.5- وقال الإمام البقاعي (في آخر سورة القمر): ابتدأت السورة بأمر الساعة {اقتربت الساعة وانشق القمر (1)}. وختمت به {في مقعد صدق عند مليك مقتدر (55)}، وكانت بداية السورة لبداية الساعة ونهاية السورة للنهاية، وزادت النهاية بيان أن السبب الموجد لها، وهو قدرته {مليك مقتدر (55)} سبحانه وعز شأنه وعظمت رحمته وإحسانه، وعفوه ومغفرته ورضوانه، ولتصنيف الناس فيها إلى كافر مستحق الانتقام، ومؤمن مؤهّل لغاية الإكرام، لم يذكر في السورة الاسم الأعظم الجامع للأسماء الحسنى واشترك معها في ذلك السورتين اللتين بعدها في هذا الغرض، فلم يذكر {الله} في أيّ منها، وجاء فيها من الصفات ما يقتضي العظمة على أهل الكفران، والإكرام والإحسان لأهل الإيمان، ولهذا ختمت القمر بصفة الملك المقتضي للسطوة التامّة والإكرام البالغ وعدم المبالاة بأحد كائن من كان، لأن الملك من حيث هو ملك إنما يقتضي مقامه إهانة العدوّ وإكرام الولي، وجعل ذلك على وجه المبالغة أيضاً، كل ذلك للإعلام بأن تصريفه سبحانه لإحوال الآخرة كما قصد في سورتي الرحمن والواقعة هو من تصريفه في أحوال الدنيا من إهلاك الأعداء وإنجاء الأولياء. بتصرّف.

(انظر تناسب سورة الحديد مع غيرها من السور (057.8.1))

054.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

054.8.0- لمّا اكتمل الإنذار والإعذار في سورة القمر، فقد سبقه طريق طويل من البيان والبرهان استغرق سبع عشرة (17) سورة بدءاً بالصافات: بالتنبيه بالآيات والبرهان، ثم ص: باستهجان عنادهم وسوء حالهم وتوبيخهم في عبادتهم مالا يضر ولا ينفع، ثم تضمنت السور بعدها من التوبيخ والتقريع ما يكفي الإشارة إلى مطالعها بالغرض، ففي: الزمر {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (3)}، وغافر: {مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا (4)}، وفصلت: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (5)}، والشورى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ (6)}، والزخرف: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا (5)}، والدخان: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( (9)}، والجاثية: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)}، والأحقاف: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)} ومحمد: الأمر بقتالهم {فَضَرْبَ الرِّقَابِ (4)}، وأما الفتح: فما تضمنته من البشارة والفتح أشد على الكفار من كل ما قرّعوا به، وكذلك الحجرات: لتضمنها ائتلاف أمر المؤمنين وجمع كلمتهم وتآخيهم، وأما ق: فبالوعيد، والذاريات: بالجزاء بالأعمال، والطور: وقوع الجزاء، والنجم: صدق الوعيد؛ وبعد أن انتهى طريق الوعظ والإنذار بكل نبأ وآية ليزدجروا، افتتحت القمر بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)}.

054.8.1- الآية {فكيف كان عذابي ونذر؟} في سورة القمر التي تأتي بعد كلّ حلقة عقاب، وهذا يشبه تكرار الآيتين في سورة الشعراء {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} أي أن الله بسبب تكذيبهم وإعراضهم أهلكهم بعزته بعد أن أمهلهم برحمته. وهو يشبه تكرار الآية في سورة الرحمان {فبأيّ آلاء ربّكما تكذبان} التي تأتي عقب كلّ نعمة من نعم الله. وكذلك آية {ويل يومئذ للمكذبين} في سورة المرسلات وهي تخاطب المكذبين باليوم الآخر، فبعد كلّ مشهد من مشاهد القيامة أو الجزاء تأتي آية {ويل يومئذ للمكذبين}.

تدل الآية {وما ينطق عن الهوى (3)} النجم على أنه سبحانه أوحى بالحق (لا بالهوى) وأمر به وباتباعه. وتدل الآية {كذبوا واتبعوا أهوائهم وكلّ أمر مستقر (3)} القمر، على أنهم يتبعون الهوى (لا الحق). والآية (كذبوا بآياتنا كلّها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42)} القمر، أي: أنهم كذبوا بآيات الله كلّها، وهي الحق، لأنهم أرادوا الباطل.

054.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: لا يخفى ما في توالى السورتين النجم والقمر من حسن التناسق في التسمية، لما بين هاتين السورتين من المناسبة، ونظيره توالى سورة الشمس والليل والضحى وقبلها سورة الفجر. ووجه آخر وهو‏:‏ أن هذه السورة بعد النجم كالأعراف بعد الأنعام، وكالصافات بعد يس، في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم إلى قوله في سورة النجم‏: {وأَنه أَهلكَ عاداً الأولى (50) وثمود فما أَبقى (51) وقوم نوح من قبل إِنهم كانوا هُم أَظلم وأَطغى (52) والمؤتَفِكة أَهوى (53)}.

054.8.3- وقال البقاعي: مقصود سورة القمر هو بيان آخر النجم في أمر الساعة من تحققها وشدة قربها وتصنيف أهلها – باعتبار ما ذكر في النجم من العجب من القرآن والضحك والبكاء والعمل – إلى طالب علم مهتد به، وإلى متبع نفسه هواها وشهواتها ضال بإهمالها فهو خائب. وذلك لأنه سبحانه وعد بذلك بإخبار نبيه صلى الله عليه وسلم وتحقق صدقه بما أيده به من آياته التي ثبت بها اقتداره على ما يريد من الإيجاد والإعدام، فثبت تفرده بالملك.

 

054.8.4- وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما أعلمهم سبحانه بأن إليه المنتهى، وأن عليه النشأة الأخرى (النجم)، وإذا ذاك يقع جزاء كل نفس بما أسلفت، أعلمهم سبحانه بقرب ذلك وحسابه ليزدجر من وفقه للازدجار فقال تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر (1)} القمر.

ثم إن سورة ص تضمنت من عناد المشركين وسوء حالهم وتوبيخهم في عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ما يكاد يوجد في غيرها مما تقدمها، وبعد التنبيه في السورة قبلها والتحريك بآيات لا يتوقف عنها إلا من أضله الله وخذله، وأثبتت السورة بعد على تمهيد ما تضمنته سورة ص فلم يخل سورة منها من توبيخهم وتقريعهم لقوله في الزمر: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (3)} الزمر، وقوله: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء (4)} الزمر، وقوله: {قل الله أعبد مخلصاً له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه (14)} الزمر، وقوله مثلاً لحالهم: {ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون (29)} الزمر، الآية إلى ما بعد من التقريع والتوبيخ، وقوله في سورة غافر: {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد (4)} غافر، وقوله: {ذلكم بأنه إذ دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله (12)} غافر، وقوله: {أو لم يسيروا في الأرض (21)} غافر الآية، وقوله: {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه (56)} غافر، وقوله: {ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون (69) الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون (70)} إلى قوله: {فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77)} غافر، وقوله: {أفلم يسيروا في الأرض (82)} غافر، إلى ما تخلل هذه الآيات، وقوله في فصلت: {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة (5)} فصلت، {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه (26)} فصلت، {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا (40)} فصلت، إلى قوله: {أولئك ينادون من مكان بعيد (44)} فصلت، وقوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم (53)} فصلت، إلى آخر السورة، وقوله في الشورى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل (6)} الشورى، {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم (13)} الشورى الآية، {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (21)} الشورى الآية، {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ (48)} الشورى، وقوله في الزخرف: {أفنضرب عنكم الذكر صفحاً (5)} الزخرف الآية، {وجعلوا له من عباده جزءاً (15)} الزخرف، إلى ما تردد في هذه السورة مما قرعوا به أشد التقريع، وتكرر في آيات كثيرة فتأملها مثل قوله تعالى في الدخان: {بل هم في شك يلعبون (9)} الدخان إلى قوله: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16)} الدخان، وقوله: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40)} الدخان، إلى قوله: {هذا ما كنتم به تمترون (50)} الدخان، وقوله في الجاثية: {فبأيّ حديث بعد الله وآياته يؤمنون (6)} الجاثية، إلى قوله: {والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11)} الجاثية، وقوله: {أفرءيت من اتخذ إلهه هواه (23)} الجاثية، إلى آخر السورة، وقوله في الأحقاف: {والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3)} الأحقاف، ومعظم هذه السورة لم يخرج عن هذا إلى ختامها، وكذلك سورة القتال ولم يتضمن إلا الأمر بقتلهم وأسرهم وتعجيل حربهم {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب (4)} محمد، وأما سورة الفتح فما تضمنته من البشارة والفتح أشد على الكفار من كل ما قرعوا به، ولم تخرج عن الغرض المتقدم، وكذا سورة الحجرات لتضمنها من الأمر بتقدير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله ما يقر عين المؤمن ويقتل العدو الحاسد وما فيها أيضاً من ائتلاف أمر المؤمنين وجمع كلمتهم وتآخيهم، وموقع هذا لا يخفى على أحد، وأما سور ق والذاريات والطور والنجم فما تضمنته مما ذكرناه قبل أوضح شيء، وبذلك افتتحت كل سورة منها فتأمل مطالعها ففي ذلك كفاية في الغرض – والله تعالى هو أعلم بالصواب.

فلما انتهى (في السور السابقة: ستة عشرة سورة: ابتداءاً من سورة ص وانتهاءاً بسورة النجم) ما قصد من تقريع مكذبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغت الآي في هذه السورة (القمر) من ذلك أقصى غاية، وتمحض باطلهم وانقطع دابرهم، ولم يحيروا جواباً فيما عرض عليهم سبحانه في سورة القمر من أحوال الأمم مع أنبيائهم، وكان القصد من ذلك – والله أعلم – مجرد التعريف بأنهم ذكروا فكذبوا فأخذوا ليتبين لهؤلاء أن لا فرق بينهم وبين غيرهم وأن لا يغرهم عظيم حلمه سبحانه عنهم، فهذه السورة إعذار عند تبكيتهم وانقطاع حجتهم بما تقدم وبعد أن انتهى الأمر في وعظهم وتنبيههم بكل آية إلى غاية يعجز عنها البشر، ولهذا افتتح سبحانه هذه السورة بقوله تعالى: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغن النذر (5)} القمر، وختمها سبحانه بقوله {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر (43)} القمر، وهذا يبين ما قدمنا، وكان قد قيل لهم: أي فرق بينكم وبين من تقدم حتى ترتكبوا مرتكبهم وتظنوا أنكم ستفوزون بعظيم جزائكم، فذكر سبحانه لهم قصة كل أمة وهلاكها عند تكذيبها بأعظم إيجاز وأجزل إيراد وأفخم عبارة وألطف إشارة، فبدأ بقصة قوم نوح بقوله: {كذبت قبلهم قوم نوح (9)} إلى قوله: {ولقد تركناها آية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16)} ثم استمر في ذكر الأمم مع أنبيائهم حسبما ذكروا في السورة الوارد فيها إخبارهم من ذكر أمة بعد أمة إلا أن الواقع هنا من قصصهم أوقع في الزجر وأبلغ في الوعظ وأعرق في الإفصاح بسوء منقلبهم وعاقبة تكذيبهم، ثم ختمت كل قصة بقوله: {فكيف كان عذابي ونذر} وتخلل هذه القصص بقوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وهي إشارة إلى ارتفاع عذر من تعلق باستصعاب الأمور على زواجره وتنبيهاته ومواعظه ويدعي بعد ذلك واستعلاقه فقيل له إنه ميسر قريب المرام، وهذا فيما يحصل عند التنبيه والتذكير لما عنده يكون الاستجابة بإذن الله تعالى ووراء ذلك من المشكل والمتشابه ما لا يتوقف عليه ما ذكره وحسب عموم المؤمنين الإيمان بجميعه والعمل بمحكمه، ثم يفتح الله تعالى فهم ذلك على من شرفه به وأعلى درجته، فيتبين بحسب ما يشرح الله تعالى صدره {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (11)} المجادلة، ومن تيسر المقصود المتقدم تكرار قصص الأنبياء مع أممهم في عدة سور أيّ حفظ مها اطلع على ما هو كاف في الاعتبار بهم، ثم إذا ضم بعضه إلى بعض اجتمع منه ما لم يكن ليحصل من بعض تلك السورة، فسبحان من جعله حجة باهرة وبرهاناً على صدق الآتي به محمد صلى الله عليه وسلم، وصراطاً مستقيماً ونوراً مبيناً، ولما ذكر سبحانه عواقب الأمم في تكذيبهم قال لمشركي العرب: {أكفاركم خير من أولئكم (43)} القمر، ومن هذا النمط قول شعيب عليه السلام: ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد (89)} هود، ثم قال تعالى: {أم يقولون نحن جميع منتصر (44) سيهزم الجمع ويولّون الدبر (45)} القمر، أي إنكم تعلقتم بتألفكم وجماعتكم فسأفرق ذلك بهزيمتكم يوم بدر بقتل صناديدكم فما حجتكم بعد هذا، إنما مساق القصص في هذه السورة واعتماد التعريف بحال من ذكر في أن كذبوا وعاندوا، فأعقب تكذيبهم أخذهم وهلاكهم، ثم تعقب هذا كله بصرف الكلام في مشركي العرب في قوله: {أكفاركم خير من أولائكم (43)} القمر، وليس شيء من السور المذكورة فيها قصص على هذا الاستيفاء كالأعراف وهود، وبظاهرهما ليس في شيء من ذلك تعقيب بذكر مشركي العرب على الصفة الواردة هنا، فأنبأ ذلك بكمال المقصود من الوعظ والتحريك بذكره وانقضاء هذا الغرض، وذلك أنهم ذكروا أولاً بعرض أحوال الأمم والتعريف بما آل إليه أمرهم، وكان ذلك في صورة عرض من يريد تأديب طائفة من إليه نظرهم قبل أن يظهر منهم تمرد وعناد، فهو يستلطف في دعائهم ولا يكلمهم تكليم الواجد عليهم، بل يفهم الإشفاق والاستعطاف وإرادة الخير بهم ثم يذكرهم بذلك ويكرره عليهم المرة بعد المرة وإن تخلل ذلك ما يبين منهم فظاعة التهديد وشدة الوعيد، فلا يصحبه تعيين المخاطب وصرف الكلام بالكلية إليه، بل يكون ذلك على طريق التعريض والتوبيخ، ثم لو كان لا يحتقر بما قبله وما بعده من التلطف حتى إذا تكررت الموعظة فلم تقبل، فهنا محل الغضب وشدة الوعيد، وعلى هذا وردت السور المذكور فيها حال الأمم كسورة الأعراف وهود والمؤمنين والظلة (الشعراء) والصافات، وما من سورة منها إلا والتي بعدها أشد في التعريف وأمل في الزجر بعد التعريف، فتأمل تعقيب القصص في سورة الأعراف بقوله تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (174)}، وقوله بعد موعظة بالغة بذكر من حرمه بعد إشرافه عل الفوز وهو الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه فقال بعد ذلك {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176)}، وتذكيره إياه لمحنة الغفلة إلى ما ختمت به السورة وذلك غير خاف في التلطف بالموعظة وقال تعالى بعد قصص سورة هود: {وكذلك أخذ ربك (102)}، وقال تعالى: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (109)}، وتكررت الآية إلى آخر السورة يجاري ما ذكر ولم تبق هذه وآي الأعراف في تلطف الاستدعاء، وقال تعالى في قصص آخر سورة المؤمنين: {فذرهم في غمرتهم حتى حين (54) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)}، ثم قال: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون (63) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون (64)}، استمرت الآي على شدة الوعيد يتلو بعضها بعضاً إلى قوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون (115)}، وقوله تعالى بعد: {إنه لا يفلح الكافرون (117)}، ولم يبيّن هذه الآي، وبين الواقعة عقب قصص سورة هود، وقال في آخر قصص الظلة: {وإنه تنزيل رب العالمين (192)} الشعراء، إلى قوله خاتمة السورة {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)} الشعراء، فوبخهم وعنفهم ونزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن توهمهم وعظيم إفكهم وافترائهم، وكل هذا تعنيف وإن لم يتقدم له مثله في السورة المذكورة، ثم هو صريح في مشركي العرب معين لهم في غير تلويح ولا تعريض، ثم إنه وقع عقب كل قصة في هذه السورة قوله تعالى: {إن في ذلك} الشعراء، وفيه تهديد ووعيد، وقال تعالى في آخر والصافات: {فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون (150) إلا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152)} وهذا أعظم التوبيخ وأشد التقريع، ثم نزه نبيه سبحانه عن بهتان مقالهم وسوء ارتكابهم وقبح فعالهم، بقوله: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180)}. فلما أخذوا بكل مأخذ فما أغنى ذلك عنهم قال تعالى في سورة القمر: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغني النذر (5)}، ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فتول عنهم (6)}، ولم يقع أمره صلى الله عليه وسلم بتركهم والإعراض عنهم والتولي إلى بعد حصول القصص في السورة المذكورة وأخذهم بكل طريق، وأول أمره بذلك صلى الله عليه وسلم في سورة السجدة {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (30)}، ثم في سورة والذريات {فتول عنهم فما أنت بملوم (54)}، بأشد وعيد وأعظم تهديد بعقب كل قصة بقوله: {ولقد تركناها آية فهل من مذكر} وقوله: {فكيف كان عذابي ونذر} ثم صرف إليهم بما تقدم قوله: {أكفاركم خير م أولئكم أم لكم براءة في الزبر (43)}، فبلغ ذلك أعظم مبلغ في البيان والإعذار، ثم قال تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر (52)}، ففرق سبحانه بسابق حكمته فيهم {إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)}. وانقضى ذكر القصص فلم يتعرض لها مستوفاة على المساق فيما بعد إلى آخر الكتاب – فسبحان من رحم به عباده المتقين وجعله آية وأي آية باهرة إلى يوم الدين، وقطع عناد الجاحدين وغائلة المعتدين وجعله بياناً كافياً ونوراً هادياً وواعظاً شافياً – جعلنا الله سبحانه وتعالى ممن اهتدى واعتلق بسببه إنه أهل الاستجابة والعفو والمغفرة – انتهى.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top