العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


114.0 سورة الناس


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


114.1 التعريف بالسورة:

1) مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 6 آيات. 4) الأخيرة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والحادية والعشرون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الفلق”. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمّى أيضاً هي وسورة الفلق المعوّذتان والمشقشقتان.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: (1 مرّة): رب، ملك، إله. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: يوسوس 2 مرّة، الخناس 1 مرّة.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: الناس 5 مرّات، من 2 مرّة، (1 مرّة): قل، أعوذ، شر، الذي، في، صدور، الجِنّة.

114.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ عليه السّلام “كان إذا آوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفيه، ثمّ نفث فيهما، وقرأ فيهما، {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ بربّ الفلق} و{قل أعوذ بربّ الناس}. ثمّ يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرّات”

عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال رسول الله عليه السّلام: “الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا غفل وسوس”.

114.3 وقت ومناسبة نزولها:

على الرغم من أن سورتي الفلق والناس منفصلتين، وموجودتين تحت اسمين مختلفين في القرآن، إلا أن التناسب بينهما كبير ومتبادل، وموضوعهما متشابهين، وقد تميّزتا باسم واحد مشترك وهو المعوذتين. الإمام البيهقي كتب في دلائل النبوّة، أن هاتين السورتين نزلتا مع بعضهما البعض ولذلك سمّيتا المعوذتين.

تنويه: في هذا الباب “وقت ومناسبة النزول”: فالحديث المذكور أعلاه في سورة الفلق هو عن سورتي الفلق والناس معاً لأنهما متشابهتين في المقصد والمواضيع. أمّا باقي الأبواب للسورتين فقد تمّ بيانهما والتعليق عليهما منفصلتين.

انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.

114.4 مقصد السورة:

114.4.1- الأمر بالعياذ برب الناس وملكهم وإلههم من شر الشيطان، الذي يوسوس في صدور الناس، {من الجنّة والناس}، الذي لا قبل لهم بدفعهما إلا بعون الإله.

114.4.2- مقصد السورة نجده في الآية الرابعة {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)}، وهو الأمر بالاعتصام بالله من الشرّ المذكور، وباقي السورة في بيان صفة المعيذ وهو رب الناس وملكهم وإلههم، ومصدر الشر وهو شياطين الجن والإنس، وصفة الشرير أنه يوسوس ويخنس، ومكان الوسوسة في الصدر.

صفات الله في السورة: أنه سبحانه {رب الناس} أي مربيهم، والقائم عليهم بعد خلقهم؛ وأنه جلّ شأنه: {مَلِكِ النَّاسِ} أي مالك أمرهم، وباسط سلطانه عليهم؛ وأنه سبحانه: {إِلهِ النَّاسِ} أي سيدهم، وهم عبيده، يتصرف فيهم كيف يشاء، بما له من سلطان عليهم. وتكررت {النَّاسِ} خمس مرّات لأنهم المستعيذون، وفيه تشريف وتكريم وتفضيل لهم على المخلوقات.

114.4.3- وقال البقاعي: مقصودها الاعتصام بالإله الحق من شر الخلق الباطن، واسمها دال على ذلك لأن الإنسان مطبوع على الشر، وأكثر شره بالمكر والخداع، وأحسن من هذا أنها للاستعاذة من الشر الباطن المأنوس به المستروح إليه، فإن الوسوسة لا تكون إلا بما يشتهي، والناس مشتق من الأنس، فإن أصله أناس، وهو أيضاً اضطراب الباطن المشير إليه الاشتقاق من النوس، فطابق حينئذ الاسم المسمى، ومقصود هذه السورة معلول لمقصود الفاتحة الذي هو المراقبة، وهي شاملة لجميع علوم القرآن التي هي مصادقة الله ومعاداة الشيطان ببراعة الختام وفذلكة النظام، كما أن الفاتحة شاملة لذلك لأنها براعة الاستهلال، ورعاية الجلال والجمال، فقد اتصل الآخر بالأول اتصال العلة بالمعلول، والدليل بالمدلول، والمثل بالممثول، والله المسؤول في تيسير السؤل، وتحقيق المأمول، فإنه الجواد ذو الطول، وبه يستعان وعليه التكلان.

114.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت بعد سورة الفلق في وقت مبكّر من العهد المكّي، واشتركتا في الاسم “بالمعوذتين” والافتتاح ب {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ} وتشابهتا في الموضوع، ومقصدها أمر المؤمنين بالاستعاذة والاعتصام بربّهم وملكهم وإلههم من شرّ الوسواس الذي لا قبل لهم بدفعه. واسمها “الناس” تكرّر خمس مرّات إشارة إلى أمور خمسة تضمّنتها، وهي: أنّهم أشرف المخلوقات بتربية ربّهم لهم، وهو ملكهم ومعيذهم بإحسانه، وملجؤهم ومعبودهم لأنه إلههم، وفيهم شرّ يستعاذ منه وإرادة قادرة على اختيار الخير والشر، وأنهم باستعاذتهم بربّهم واستجابته لدعائهم يعلمون على الحقيقة أنه ربّهم وملكهم وإلههم فيزداد إيمانهم، وفي ذلك شرفهم وتكريمهم وتفضيلهم على المخلوقات، كما يلي:

– {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)}: أمر العباد بالاستعاذة بربّهم ومالك أمرهم وإلههم الذي يعبدونه وملاذهم إذا ضاق بهم الأمر.

– {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)}: المستعاذ منه يوسوس عند الغفلة ويختفي عند ذكر الله، فيحسّن الشر وينشّط لفعله ويقبّح الخير ويثبّط عنه.

– {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)}: يوسوس في القلوب التي في الصدور مكان الخواطر والاختيار وحبّ الشهوات، بعيداً عن العقل والحواس، فإذا عمل أو تكلّم قامت الحجّة واستوجب الجزاء.

– {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}: والوسوسة تكون من الجِنّة بالإضلال والأماني الكاذبة والأمر بالمعصية، ومن الناس لأنفسهم أو لغيرهم باتباع الشهوات والفساد في الأرض وقتل النفس بغير الحق.

ولمّا علمنا أن للإنسان عدويّن يعملان على إفساد دينه هما النفس والشيطان، ولا قبل له بدفع شرّهما إلا بالاستعاذة والاعتصام بالرّب والملك والإله، وقد تقدّم في الفلق الاستعاذة بربّ الفلق من شرّ ما خلق والغاسق والنفاثات والحاسد التي تعمل على الإضرار بالبدن، فالأسماء المستعاذ بها في النّاس ثلاثة أمّا في الفلق فواحد في إشارة إلى أن مضرّة الدين أعظم من مضارّ البدن المتنوّعة.

ولمّا افتتح القرآن في الفاتحة بالاستعانة على الخير وختم في المعوذتين بالاستعاذة من الشر، فتناسب حسن البدء وحسن الختام من بداية الأمر إلى نهايته. ففي الفاتحة: الاستعانة برب العالمين الرّحمن الرّحيم مالك يوم الدّين الهادي إلى الصّراط المستقيم، ثمّ تفصيل الكتاب: لا ريب فيه من لدن الفاتحة إلى الإخلاص، ثم في الإخلاص: الله الأحد الصمد هو الخالق لهذه الأمور العظيمة ومقدّرها ومدبرّ أمرها، ثمّ في الفلق: أعاذهم من الشرور البدنيّة وأعدّ لها النعيم يوم الدّين في الفاتحة، ثمّ في الناس: أعاذهم من الشرور الدينيّة وأعان عليها بالهدى إلى الصراط المستقيم في الفاتحة. وكذلك تناسب الأمر بالاستعاذة عند البدء بالقرآن {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} في سورة النحل، مع الأمر به عند الختم في سورة الناس.

اللهم احفظنا من وساوس النفس وأهوائها، ومن كيد الشيطان وإضلاله، واجعل لنا من لدنك وليّاً، واجعل لنا من لدنك نصيراً.

114.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

باعتبار ترتيب آياتها احتوت السورة على أربعة موضوعات تصف بدقّة: المعيذ من الشرّ وهو الله الملك الرب؛ والشر وهو الوسوسة والخنس في الإنسان، والمكان في صدور الناس، ومصادر الشر هم شياطين الجن والإنس، كما يلي:

114.6.1- الآيات (1-3) وفيها الأمر بالاعتصام بالله العاصم المعيذ، وذكر صفاته التي يعيذ بها الإنسان وهي:

114.6.1.1- الرب: الذي يُربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره. قل: ألجأ وأستعين برب الناس، وهو رب العالمين كلِّهم والخالق للجميع، القادر وحده على ردِّ شر الوسواس.

114.6.1.2- الملك: ملك الناس الذي ينفذ فيهم أمرُه وحكمه وقضاؤه ومشيئته دون غيره. المتصرف في كل شؤونهم، الغنيِّ عنهم.

114.6.1.3- الإله: إله الناس الذي يعبدونه ويلجأون إليه، وملاذهم إذا ضاق بهم الأمر، دون كل شيء سواه.

114.6.2- الآية (4) من شرّ الشيطان الذي يوسوس عند الغفلة، ويختفي عند ذكر الله. أي صفة الشر وطريقة حصوله، بالوسوسة والخنس في الصدر.

114.6.3- الآية (5) مكان حدوث الشر هو صدور الناس: والشيطان يبثُّ الشر والشكوك فيها، بالإلقاء الخفيّ في النفس، إما بصوت خفيّ لا يسمعهُ إلا من ألقي إليه، وإما بغير صوت.

114.6.4- الآية (6) مصدر الشر: اثنان، شياطين الجن والإنس: فشياطين الجن، وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم، وإنما نجد في أنفسنا أثراً ينسب إليهم؛ وضرب شياطين الإنس كالمضلِّلين من أفراد الْإِنْسَاْن، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقول غُرُوراً} [الأنعام: 112]، وإيحاؤهم هو وسوستهم.

114.7 الشكل العام وسياق السورة:

114.7.1- اسم السورة “الناس” يشير إلى محتوياتها وهي الإنسان وحاجته الدائمة إلى حماية ربه، ودفع شرّ عدوّه. فالله هو رب كل شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة عبيد له، أمر الإنسان بأن يتعوذ به من شر الوسواس الخناس، وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش ولا يألوه جهداً، والمعصوم من عصمه الله. وقد ثبت في الصحيح أنه “ما منكم من أحد إلا قد وكل به قرينه”، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: “نعم إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير”؛ كما أمر بالتعوذ من أعوان إبليس من شياطين الإِنس والجن، الذين يغوون الناس بأنواع الوسوسة والإِغواء. والوسوسة كذلك، تكون من الإنس كما هي من الجن، فيوسوس إنسان لإنسان، وجهاً لوجه دون أن يكون مستتراً عن البصر، والنفس كذلك توسوس، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (16)} ق، والشر من الجهتين جميعاً {من الجنة والناس}.

114.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعاتها:

مقصد السورة واحد وهو أمر الإنسان وتعليمه كيف يستعيذ من أخطر عدويّن له يعملان ليل نهار على إضلاله وإيقاعه في الشر ثم هلاكه وهما الشيطان والنفس. قد يستطيع الإنسان أن يتعرّف على الشر الذي يوسوسان به، أو يلمس أثره، لكن خطورة هذا الشر تكمن في أن الإنسان لا يراهما، ولكنهما، ولأنهما يستخدمان أسلوب التضليل والكذب والخداع، لذلك فلا قدرة للإنسان على دفع خطرهما إلا بالاستعاذة بالرب الملك الإله. ولتسهيل فهم هذا المقصد احتوت على الموضوعات الأربعة التالية:

114.7.2.1- الآيات (1-3): الأمر بالاستعاذة برب الناس ومالكهم وإلههم من شرّ الوسواس الخناس. وقد ذكر في السورة الرب للدلالة على تربيتهم على اللجوء إليه لمواجهة مالا قبل لهم بدفعه، وذكر الملك للدلالة على قدرته على التصرف بملكه كما يشاء ويريد، والإله للدلالة على واجب الناس أن تكون له عابدة مطيعة. فالإنسان لذلك يستعطف الله بصفة الربوبية، ويستجيش قدرته بصفة الملكية، ويستدر رحمته بصفة الألوهية أن يحميه.

114.7.2.2- الآية (4): شرّ الوسواس الخناس: وهو فعل الشيطان (بفريقيه الجان والإنس) الذي هو أصل الشرور كلها ومادتها، الذي من فتنته وشره.

114.7.2.3- الآية (5): يوسوس في صدور الناس: فيحسن لهم الشر، ويريهم إياه في صورة حسنة، وينشط إرادتهم لفعله، ويقبح لهم الخير ويثبطهم عنه، ويريهم إياه في صورة غير صورته، وهو دائماً بهذه الحال يوسوس ويخنس أي: يتأخر إذا ذكر العبد ربه واستعان على دفعه.

114.7.2.4- الآية (6): والوسواس كما يكون من الجن يكون من الإنس، ولهذا قال: {من الجنّة والناس}، فيجب على الإنسان أن يستعين ويستعيذ ويعتصم برب الناس وملكهم وإلههم، فقد خلقهم ليغيثهم ويرحمهم ويسعدهم باعتصامهم به واعتمادهم عليه وعبادته وحده لا شريك له.

114.7.3- الله يريد الخير للإنسان، لذلك أمره بالاستعاذة به من عدوّه الذي يأمره بالشر:

لقد خلق الله الإنسان ليُكرمه لا ليُهينه، وليُسعده لا ليشقيه، فالله لا يريد من الإنسان شيء سوى أن يسعد بفضله ونعمته عليه، وأن يلجأ إليه إذا لقي شراً، أو حين لا يقدر أن يدفعه عنه. وهذا الشر الذي يلقاه الإنسان هو من نتائج فعله الخاطئ، هو يجلبه لنفسه أو يوقعها فيه بعمله المخالف لسنن الله، وهو ليس من الله، بل شرّ يحصل نتيجة خطأ فعله الإنسان، فآذى نفسه به. لكن عمل الإنسان لا يضر الله تعالى ولا ينفعه، فالله هو الضار النافع {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (78)} النساء، بل الإنسان يضرّه مخالفة شرع الله وسننه، قال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً (147)} النساء، أي أنه لا يريد تعذيب الإنسان إن هو آمن به وشكر نعمته.

لكن لأنه سمح للإنسان بأن يكون مختاراً لأفعاله، فقد كثرت أخطاءه لأسباب كثيره أهمها جهله بمعرفة الحق، ثم بعده عن ربه بسبب وسوسة شيطان الجن ونفسه الأمارة بالسوء. ومن رحمة الله بالإنسان أنه يبين له ويأمره ويرسل له المرسلين والرسالات حتى يتركه على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، فإن هو أطاع واتبع الحق سلم وإن عصى واتبع الباطل هلك. قال صلى الله عليه وسلم: “كل بن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”. هذه السورة دليل على أن الله لا يريد الشر للإنسان، لأن الله تعالى يأمره أمراً بأن يستعيذ به، وخاطبه سبحانه بخطاب عظيم فيه تخْصيص تشْريف وتكْريمٍ لِهذا الإنسان؛ فالله تعالى هو رب وملك وإله العالمين جميعاً بمن فيهم الإنسان، لكنه هنا خصص وقال، فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)} تشريفاً لهم. وكذلك باختيار هذه الأسماء التي تدلّ على عظيم عناية الله بالإنسان وحفظه له وتربيته وهدايته يزداد هذا التشريف تشريفاً: ففيها إشارة إلى أنه سبحانه ربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلهم ومعبودهم: فقد بدأ بذكر {رب الناس} الذي رباهم بعد أن خلقهم، وأنشأهم وأمدّهم بكل ما هم في حاجة إليه وأنعم عليهم نعمه ظاهرة وباطنة؛ حتى إذا صاروا كباراً وصار عندهم العقل عرفوا أنه {ملك الناس} هو من قدّم لهم، وعلموا أنه ملكاً قيوماً عليهم وعلى كلّ شيء، وأنه تفتقر كل الأشياء إليه، وهم يفتقرون إلى كل شيء، وكذلك لا يستطيعون دفع الضر عن أنفسهم، فلا مفرّ من ملازمته والبقاء في معيته، لأنه مالكهم ومالك كل شيء؛ حتى إذا ما نضج علمهم واتسع فهمهم وإدراكهم أرسل {إله الناس} إليهم رسوله يعرفهم أنه إلههم ويبلغهم رسالته التي فيها أمرهم ونهيهم ووعده ووعيده، فآمنوا به إلهاً يستحق العبادة، فعبدوه وأطاعوه، واعتصموا به وحده.

وبالإضافة إلى أمر الله الناس بالاستعاذة من شياطين الجن والإنس، فقد حذرت آيات القرآن من عداوتهم، وكشفت كل صفاتهم، وإغراءاتهم بالشر والفساد، وأساليبهم في غواية وإضلال ونشر الكفر والظلم والمنكر بين الناس وصدّهم عن عبادة الله، وتكرر كثيراً ذكرهم وذكر أسماءهم مثل: شياطين الإنس والجن، إبليس وجنوده وذريته وقبيله، والشيطان، والشياطين؛ والآيات التي تحدثت عنهم كثيرة منها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقول غُرُوراً (112)} الأنعام، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (16)} ق، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} فصلت، {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)} فاطر، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)}، المؤمنون، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201)} الأعراف، وغير هذه الآيات الكثير.

114.7.4- انظر أيضاً إلى ما يلي في الشكل العام وسياق سور الفلق:

– انظر سورة الفلق (113.7.3) سياق السورة حول الاستعاذة: وأن كل ما في الكون هو من خلق وفعل الله، فلماذا نستعيذ بالله طالما أن كل شيء قضاءه وتقديره؟

– انظر سورة الفلق (113.7.4) الاستعاذة بالله من شر ما خلق نعمة عظيمة.

– انظر سورة الفلق (113.7.5) الاستعاذة بالله تجلب الخير للناس وتنمي فيهم الإيمان.

– انظر سورة الفلق (113.7.6) الشر والابتلاء.

 

114.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

114.8.0- ولمّا علمنا أن للإنسان عدويّن يعملان على إفساد دينه هما النفس والشيطان، ولا قبل له بدفع شرّهما إلا بالاستعاذة والاعتصام بالرّب والملك والإله، وقد تقدّم في الفلق الاستعاذة بربّ الفلق من شرّ ما خلق والغاسق والنفاثات والحاسد التي تعمل على الإضرار بالبدن، فالأسماء المستعاذ بها في النّاس ثلاثة أمّا في الفلق فواحد في إشارة إلى أن مضرّة الدين أعظم من مضارّ البدن المتنوّعة.

ولمّا افتتح القرآن في الفاتحة بالاستعانة على الخير وختم في المعوذتين بالاستعاذة من الشر، فتناسب حسن البدء وحسن الختام من بداية الأمر إلى نهايته. ففي الفاتحة: الاستعانة برب العالمين الرّحمن الرّحيم مالك يوم الدّين الهادي إلى الصّراط المستقيم، ثمّ تفصيل الكتاب: لا ريب فيه من لدن الفاتحة إلى الإخلاص، ثم في الإخلاص: الله الأحد الصمد هو الخالق لهذه الأمور العظيمة ومقدّرها ومدبرّ أمرها، ثمّ في الفلق: أعاذهم من الشرور البدنيّة وأعدّ لها النعيم يوم الدّين في الفاتحة، ثمّ في الناس: أعاذهم من الشرور الدينيّة وأعان عليها بالهدى إلى الصراط المستقيم في الفاتحة. وكذلك تناسب الأمر بالاستعاذة عند البدء بالقرآن {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} في سورة النحل، مع الأمر به عند الختم في سورة الناس.

114.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وقد جاء ‏(‏اقرءوا الزهراوين‏:‏ البقرة وآل عمران‏)‏ فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس المشتركتين في التسمية بالمعوذتين.

114.8.2- وقال الصابوني: وقد ختم الكتاب العزيز بالمعوذتين وبدأ بالفاتحة، ليجمع بين حسن البدء، وحسن الختم، وذلك غاية الحسن والجمال، لأن العبد يستعين بالله ويلتجئ إِليه، من بداية الأمر إِلى نهايته.

114.8.3- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتتاح القرآن بعد ختمه كما أشار إليه اتصال المعنى، وسمي ذلك الحال المرتحل، وكأن القارئ ذكر بالأمر بالاستعاذة إرادة افتتاح قرائته، فكأنه قيل: استعذ يا من ختم القرآن العظيم لتفتتحه، وكأنه لما استعاذ بما أمر به في هذه السورة قبل له: ثم ماذا تفعل؟ فقال: أفتتح، أو أنه لما أمر بالاستعاذة قال: ماذا أفعل؟ فقيل: افتتح بسم الله الرحمن الرحيم الذي تجب مراقبته عند خواتم الأمور وفواتحها، لأنه لا يكون أمر إلا به. وقال أيضاً: وذلك لأنه لما أمر بهذا التعوذ، وكان قد قال سبحانه {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98)} النحل، علم أن المراد ابتداؤه بالقرآن فنسبتها إلى الفاتحة نسبة المعلول إلى علته. وقال أيضاً: اشتد تشاكل الرأسين، فكانت هذه السور الثلاث الأخيرة مشاكلة للثلاث الأولى في المقاصد، وكثرة الفضائل والفوائد: الإخلاص بسورة التوحيد آل عمران، وهو واحد. والفلق للبقرة طباقاً ووفاقاً، فإن الكتاب الذي هو مقصود سورة البقرة خير الأمر، فهي للعون بخير الأمر، والفلق للعوذ من شر الخلق المحصي لكل خير، وفي البقرة {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67)}، {يعلمون الناس السحر (102)}، {ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم (109)}. والناس للفاتحة، فإنه إذا فرغ الصدر الذي هو مسكن القلب الذي هو مركب الروح الذي هو معدن العقل كانت المراقبة، فكان ذلك بمنزلة تقديس النفس بالتوحيد والإخلاص، ثم الاستعاذة من كل شر ظاهر ومن كل سوء باطن للتأهل لتلاوة سورة المراقبة بما دعا إليه الحال المرتحل وما بعدها من الكتاب.

114.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: وجه تأخرها عن شقيقتها عموم الأولى وخصوص الثانية، ألا ترى عموم قوله {من شر ما خلق} وإبهام {ما} وتنكير {غاسق} و {حاسد} والعهد فيها أستعيذ من شره في سورة الناس وتعريفه ونعته، فبدأ بالعموم ثم أتبع بالخصوص ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت الاستعاذة منه، وأوفى بالمقصود، ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم ثم إتباعه بالأخص بتناول الدقائق والجلائل قوله سبحانه وتعالى {بسم الله الرحمن الرحيم} في معنى الرحمن ومعنى الرحيم واحد لا في عموم الصفة الأولى وكونها للمبالغة، وقد تعرض لبيان ذلك المفسرون ولذلك نظائر.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top