العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
010.0 سورة يونس
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
010.1 التعريف بالسورة:
1) مكية. 2) من سور المئين. 3) عدد آياتها 109 آيات. 4) هي السورة العاشرة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والحادية والخمسون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الإسراء”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
010.1.7.1- لفظ الجلالة {الله} تكرر 56 مرّة، {اللهم} 1 مرّه {لله} 5 مرات. أسماء وصفات الله الأخرى المكررة في السورة، وهي: رب 24 مرّة، هو 9 مرّات، خلق 5 مرّات، يهدي 4 مرّات، أنزل 3 مرّات؛ (2 مرّة): عليم، شهيد، حق، يبدأ، يعيد، فضّل، كاشف، بعث؛ (1 مرّة): رحيم، سميع، خير الحاكمين، يحكم، غفور، مولى، غني، ذو فضل، أعلم، أسرع، يحيي، يميت، يقضي، يدبر، تعالى.انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
010.1.7.2- هي السورة الوحيدة التي وردت فيها كلمة {يَهِدِّي} في الآية (35)، مؤكدة بإبدال حرف التاء من أصلها يهتدي بالدال، وكلمة يهتدي مزيدة تأتي في الأصنام بينما يهدي مجردة تأتي في البشر. وفي هذا دلالة على أن الأصنام لا تهدي فجاء تأكيدها.
010.1.7.3- هي أكثر سورة تكررت فيها كلمة حق ومشتقاتها بمجموع 23 مرة، بعد سورة البقرة 24 مرّة، من أصل 287 مرة تقريباً موجودة في القرآن كله. بما يتناسب مع موضوع السورة في الحديث عن الحق وهو أن الله خلق الإنسان ليبتليه بالإيمان والعبادة.
010.1.7.4- تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها:
010.1.7.4.1- آيات 18 مرة، أمر 7 مرات، كتاب 5 مرات، وحي 4 مرات، صدق 4 مرات، قرآن 3 مرات، يقرؤون 1 مرة. إشارة إلى موضوعات السورة عن الوحي والكتاب.
010.1.7.4.2- عمل 12 مرة، يدعوا 10 مرات، عبادة 8 مرات، صالح 3 مرات، صلاة 1 مرة، صراط مستقيم 1 مرة. بما يتناسب مع موضوعات الوحي التي تأمر بالعبادة والدعاء والعمل الصالح.
010.1.7.4.3- كذب 12 مرة، شرك 9 مرات، افترى 7 مرات، مفسدين 3 مرات. إشارة إلى فضحها للمكذبين بالوحي والكتاب، ودحض افتراءاتهم.
010.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج بن مردويه عن أنس رضي الله عنه “سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله أعطاني الرائيّات إلى الطواسين مكان الإنجيل”.
010.3 وقت ومناسبة نزولها:
تدلّ الأحاديث وسياق السورة وتواصل مواضيعها على أنّها جميعها نزلت في مكّة، وربما في نفس الوقت والمناسبة أي الفترة الأخيرة من وجود الرسول عليه السلام في مكة. ويدل أسلوب السورة على أنّه لم يعد هناك أمل في قبول أعداء الإسلام للدين الجديد، وبدأوا محاربته ولم يعودوا تحمّل وجود النبي عليه السلام وأصحابه بينهم.
نزلت بعد سورة الإسراء وقد احتدم الجدل من المشركين حول صدق الوحي وحول هذا القرآن وما يواجههم به من تسفيه لعقائدهم ومن تنديد بجاهليتهم ومن كشف لما في كيانها من تناقض واضح، تناقض بين ما يعتقدونه من أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف في كل شيء القادر على كل شيء وهي الجذور الباقية من حنيفية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبين ما يدعونه لله سبحانه من الولد، حيث كانوا يدعون أن الملائكة بنات الله ويتخذونهم شفعاء عند الله ويعبدون تماثيلهم من الأصنام على هذا الاعتبار، ثم ما ينشأ عن هذا من آثار في حياتهم، من تحريم وتحليل في الثمار والأنعام وغيره. كذلك كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بقرآن غير هذا لا يتعرض لآلهتهم وعقائدهم وجاهليتهم، كي يستجيبوا له ويؤمنوا به كما قال الله عنهم في السورة.
010.4 مقصد السورة:
010.4.1- مقصد السورة: تأكيد أن ما جاء به الوحي في الكتاب: هو دعوة الحق إلى الصراط المستقيم، وهو الحق والهدى إلى دين الله الحنيف، بشقيه الإيمان والإسلام. فأمرت باتباعه، والصبر على ذلك حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين. أي أن القرآن حق، وأن من اتبعه هدي إلى صراط مستقيم، فلا بد من الصبر على اتباع تكاليفه.
010.4.2- ومقصد السورة نجده في الآية الأولى التي تشير إلى آيات القرآن وتصفه بأنه حكيم. ويدافع سبحانه عن الكتاب بوصفه بأنه حكيم لأنه من عند الله، ولما اشتمل عليه من الحكمة والأحكام ونطقه بها فهو محكم مبين. وأنه ليس إلا من عند خير الحاكمين سبحانه لا يصدر عنه العبث ولا الظلم، وأن غيره لا ينفع ولا يضر.
010.4.3- ومن معاني حكيم: أي حكمَ الله فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وحكمَ فيه بالنهي عن الفحشاء والمنكر، وبالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه. وفي الآية الثانية استفهام وتوبيخ في إشارة إلى تعجب الناس من أن يوحي الله إلى رجل منهم ينذرهم ويبشرهم رجوعهم ووقوفهم أمام ربهم للحساب، وقالوا عنه ساحر مبين. والحقيقة أنه لا عجب، ولا علاقة لهذا بالسحر، لأن هذا الوحي جاء ليبين لهم حقيقتين، الأولى: أن الله هو خالق الناس وهو ربهم وهو الأحق بأن يعبدوه، والثانية: أن الله هو مدبر الكون جعل لهم الدين ليصلح به دنياهم وآخرتهم، وجعل يوماً يحاسبهم فيه على مدى التزامهم بهذا الدين. فالأولى أن يحذروا من سوء أعمالهم، ويستبشروا بقدومهم على ربهم، فالوحي رسالة هداية ورحمة، ونعمة عظيمة أنعمها عليهم الرحيم الكريم.
010.4.4- وقد دافعت السورة عن القرآن وحاججت شكوك الناس فيه عن طريق: الإشارة إلى الإيمان الفطري عند الناس. والتأكيد على عدل الله وأنه لا يظلم الناس شيئاً، وعلى جهل الناس وظلمهم لأنفسهم، وعصيانهم لربهم في السراء، بإنعامه عليهم بالصحة والمال وغيره من الخير، وطاعتهم له في الضراء، عند المرض، والحاجة، وفقد النعمة. وقد هدتهم عقولهم إلى الفطرة، بعد أن زالت عنها غفلتها عن الآيات وانشغالها بالنعيم، بأن الذي يملك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، والله غفور رحيم.
010.4.1- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: مقصودها وصف الكتاب بأنه من عند الله، لما اشتمل عليه من الحكمة، وأنه ليس إلا من عنده سبحانه لأن غيره لا يقدر على شيء منه، وذلك دال بلا ريب على أنه واحد في ملكه، لا شريك له في شيء من أمره.
010.5 ملخص موضوع السورة:
لم يعد هناك أمل في قبول أعداء الإسلام للدين الجديد، وبدأوا محاربته ولم يعودوا تحمّل وجود النبي عليه السلام وأصحابه بينهم، وهذا ما يدل عليه أسلوب سورة يونس، فهي تدافع عن القرآن الذي جاء بالدين وعن الرسول الذي جاء بالقرآن. وسياق السورة وتواصُل مواضيعها وتركيزها على ثلاثة من أركان الإيمان هي الملائكة والكتب والرسل، تدلّ كذلك على أنّ السورة جميعها نزلت في الفترة الأخيرة من وجود الرسول عليه السلام في مكّة. وقد نزلت بعد سورة الإسراء بعد احتدام الجدل حول صدق الوحي وحول هذا القرآن وما يواجههم به من تسفيه لآلهتهم وتنديد بجاهليتهم وكشف لما فيها من تناقض واضح، بين ما يعتقدونه من أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر المتصرف في كل شيء القادر على كل شيء وهو ما تبقى من حنيفية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وبين ما يدّعونه لله سبحانه من أنّ الملائكة بنات الله ويتخذونهم شفعاء عند الله ويعبدون تماثيلهم من الأصنام على هذا الاعتبار، ثم ما ينشأ عن هذا من تحريم وتحليل في الثمار والأنعام وغيره. كذلك كانوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بقرآن غير هذا لا يتعرض لآلهتهم وعقائدهم وجاهليتهم، كي يستجيبوا له ويؤمنوا به كما قال الله تعالى عنهم في السورة.
وقد سميت السورة بيونس بينما قصته فيها لا تتجاوز إشارة سريعة، ولكنها مع هذا هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم، فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة، وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين.
وتحتشد السورة بالآيات التي تتثبت صدق الوحي، وما جاء به من الحق والدين، وبيان الفطرة وصفات الإنسان في الحالين حال الغفلة في السراء وحال الإيمان في الضراء، وتعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين عرضا حيّا مؤثرا، فتعرض مع الجزاء الأول وهلاك الأمم في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين، الجزاء والمصير النهائي في الدار الآخرة، النار مأوى من رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، وجنات النعيم تجري من تحتها الأنهار لمن آمن وعمل الصالحات.
010.5.0- مقصد سورة يونس نجده في الآية الأولى التي تصف آيات القرآن بالحكيم، وتدافع عنه بوصفه حكيم لأنه من عند الله، ولما اشتمل عليه من الحكمة والأحكام ونطقه بها فهو محكم مبين. وتختم كذلك بالأمر بالصبر واتّباع ما فيه من الحكمة. ثمّ أن كلّ آياتها هي في إثبات صدق الوحي، وما جاء به من الحقّ والدين، وبيان صفات الإنسان في غفلته وإيمانه، وجزائه في الدنيا ومصيره في الآخرة.
010.5.1- ويمكن تقسيم السورة باعتبار تسلسل آياتها إلى أربع مجموعات مترابطة، يتكرر في كلّ منها مواضيع السورة بطريقة مختلفة وتؤيد بعضها بعضاً. كما يلي:
010.5.1.1- المجموعة الأولى (الآيات 1-13): وهي مقدمة تبين أن الكتاب والوحي والرسالة حق، وأنه سبحانه خلق الناس للعبادة، وأنّ إليه مرجعهم فيحاسبهم على أعمالهم. وأن الناس بحسب أعمالهم فريقان: مؤمنون في الجنة، وكافرون في النار؛ وأنّ الكافرين لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب.
010.5.1.2- المجموعة الثانية (الآيات 14-70): وفيها التأكيد وإقامة الدليل على صدق الوحي (الرسالة والرسول)، في ثماني مجموعات من الآيات تبدأ بالإشارة إلى سنة الله باستبدال الأمم، وآخر هذه الأمم هي استخلاف أمة محمّد صلى الله عليه وسلم، وبقاؤها بالقرآن. ثمّ سنن الله: في الابتلاء، وفي الجزاء على الأعمال، وفي الرزق والهداية إلى الحق، وفي إرسال الرسالات، فمنهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن. ثم الإشارة إلى عدل الله في الجزاء والعقاب والثواب، لذلك يعظهم ويهديهم وينذرهم بأن أعمالهم مكتوبة وأنّ عليهم شهوداً ليوم القيامة، وأنه يبشر أولياءه ويريهم آياته بأنهم على الحقّ، وينذر المكذبين.
010.5.1.3- المجموعة الثالثة (الآيات 71-93): وفيها إعادة تأكيد صدق الوحي من خلال القصص، عن مجيء رسل تنذر وتبشر. وأقوام كذبت فنالت عذاباً دنيوياً قبل الأخروي. وأقوام آمنت فكانت عاقبتها حميدة، واستجاب الله لدعائها. وتوبة عند وقوع العذاب وندم على الكفر، وأنه لا رادّ لقضاء الله. ثمّ الانتفاع بالإيمان من رزق طيب، ثم بعد هذا الرزق الطيب والنعمة، ينتهي بهم الأمر إلى الاختلاف على أمر الدين لمصالح دنيوية – سنة الله.
010.5.1.4- المجموعة الرابعة (الآيات 94-109): وهي خاتمة السورة وتنقسم إلى قسمين، الأول: فيه ملخص لكلّ ما سبق، مفاده توجيه بعدم الشكّ بالحق الذي جاء به التنزيل، والاستفادة من قصص وتجارب الأمم السابقة في هذا الشأن، والثاني: يركز على بيان منافع الإيمان بالوحي، ومضارّ التكذيب.
010.5.2- أما باعتبار موضوعاتها، فالسورة تتكون من شقّين متساويين تقريباً: الشقّ الأول ومجموع آياته خمس وخمسون (55) آية، فيه تأكيد أنّ الكتاب والوحي والرسالة حق، وأنه سبحانه خلق الناس للعبادة، وأنّه إليه مرجعهم فيحاسبهم على أعمالهم. والشق الثاني ومجموعُ آياته أربع وخمسون (54) آية، يبين أنّ الناس بأعمالهم فريقان: مؤمنون في الجنة وكافرون في النار، وأن الكافرين لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب. وهذان الشقّان يمكن تقسيمهما أيضاً إلى أربع (4) موضوعات رئيسية (وكلها تصب في سياق إثبات صدق الوحي بأركانه الثلاثة الكتاب والرسول والملائكة)، كما يلي:
010.5.2.1- الموضوع الأول- تسع وعشرون (29) آية: تأكيد حقيقة الكتاب والوحي والمرسلين، عن طريق التذكير بالآيات، والتأكيد على أنّ ما فيه منسجم مع سنن الله في الكون، وأنه جاء بما فيه مصلحة الناس واستقامة حياتهم.
010.5.2.2- الموضوع الثاني- ست وعشرون (26) آية: الله بدأ الخلق ودلّ الناس (عن طريق الوحي) بأنه فطرهم على الإيمان والعبادة، وأنهم راجعون إليه مجازون بأعمالهم، وأنّ بدء الخلق دليل على الإعادة، وعلى ما جاء في الكتاب.
010.5.2.3- الموضوع الثالث- تسع وثلاثون (39) آية: من يعبد الله ويتبع دينه تستقيم حياته في الدنيا ويفوز بالجنة في الآخرة، ومن يعبد غير الله ويتبع غير دينه فمصيره الهلاك والشقاء في الدنيا والعذاب في النار في الآخرة. وأنّ في قصص الأمم السابقة، وبيان مصائرهم في الدنيا والآخرة، تأكيد على صدق ما جاء به الوحي والكتاب.
010.5.2.4- الموضوع الرابع- خمس عشرة (15) آية: ما يصيب الناس من سراء أو ضراء فهو من الله، وفيه مصلحتهم، وفيه تربية لهم على الإيمان والعمل الصالح. لكنّ الناس في السراء لا يؤمنون، حتى إذا مسّهم الضرّ آمنوا. وهذا دليل على إيمانهم الفطري، وعلى علم الخالق بخلقه وبما فيه هدايتهم، وحاجتهم إلى هذا النوع من التربية، ودليل على صدق الوحي والكتاب وأنّ الذي يهدي إلى الحق أحقّ أن يتبع دينه الذي جاء به كتابه الحكيم.
010.5.3- تبين السورة أن لا نجاة للناس إلا إذا آمنوا بالله الخالق وحده، والتزموا بعبادته وحده قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه (4)}. وتذكر بأن مرجعهم إلى ربهم ليجازيهم على أعمالهم، وأن الذي بدأ الخلق من لا شيء قادر على أن يعيده، وكثيراً ما يتكرر في القرآن التذكير ببدء الخلق دليلاً على إعادته. ثم إن حياة البشر في الدنيا لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وحياتهم وواقعهم. وحين يضطرب فهمهم لحقيقة ربهم، يروحون يؤلهون الأشياء والأحياء والأوهام ويُعبّدون أنفسهم لها. كذلك لا تستقيم حياة البشر إزاء بعضهم البعض إلا استقامت هذه الحقيقة. ذلك كان جوهر الرسالات والكتب، وهو تقرير ألوهية الله سبحانه وربوبيته وحده للعباد {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)} الأنبياء.
010.5.4- السورة تعني بأصول الدين الإسلامي: الإيمان بالله تعالى ونفي الشركاء والشفعاء، ورجعة الأمر كله إلى الله، وسننه المقدرة التي لا يملك أحد تحويلها ولا تبديلها. والإيمان بالكتب والرسل، والوحي وصدقه، والحق الخالص الذي جاء به. والإيمان بالبعث واليوم الآخر والقسط في الجزاء. وسيقت القصص لإيضاحها، وضربت الأمثال لبيانها. وهي تتميز بطابع التوجيه إلى الإيمان بالرسالات السماوية وبوجه أخص إلى القرآن العظيم خاتمة الكتب المنزلة والمعجزة الخالدة.
010.5.5- سورة يونس هي أكثر سورة بعد البقرة تكررت فيها كلمة حق بمجموع ثلاث وعشرين (23) مرة، وذلك بما يتناسب مع ردّها على تعجّبهم وقولهم أنه سحر، ويتناسب مع حديثها عن الحق وهو أن هذا الوحي جاء ليبين لهم حقيقتين، الأولى: أن الله هو خالق الناس وهو ربهم وهو الأحق بأن يعبدوه، والثانية: أن الله هو مدبر الكون جعل لهم الدين ليصلح به دنياهم وآخرتهم، وجعل يوماً يحاسبهم فيه على مدى التزامهم بهذا الدين. فالأولى أن يحذروا من سوء أعمالهم، ويستبشروا بقدومهم على ربهم، فالوحي رسالة هداية ورحمة، ونعمة عظيمة أنعمها عليهم الرحيم الكريم.
إن المشكلة في عدم الإيمان ليس في قلة الآيات أو كثرتها، بل هي كثيرة جداً، أكثر من أن يستوعبها إنسان، وهي حاضرة للعيان، متمثلة في آيات خلق الله لكل ما في الكون، وفي سننه الثابتة وتدبيره الملموس لأمور مخلوقاته وعنايته بها كما أشير إليه في الآيات (14-70) أعلاه، ومتمثلة أيضاً في القصص التاريخية الحقيقية عن الأمم السابقة التي أوردتها السورة في الآيات (71-93)، ولا يخلوا منها أيضاً ما تبقى من الآيات، وكل ما فعلته السورة هي أن أشارت إلى تلك الآيات والحقائق الموجودة ليتدبرها من يريد لنفسه الحق والنجاة.
السياق العام للسورة مأخوذ من تصرفات يونس عليه السّلام وضيق صدره من كفر قومه وتكذيبهم، وتعجّله وقلّة صبره عليهم حين تركهم ظانّاَ أنهم لا يؤمنون ولكن آمنوا فنفعهم إيمانهم. وعلى نفس الوتيرة يأتي الختام مخاطباَ الرسول عليه السلام بالصبر وعدم التعجّل، قال تعالى: {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}. وفي نفس السياق تشير الآيات إلى قلة صبر الإنسان وتهاونه في البحث عن الحق، وحتى مع مجيء الوحي. فإن رضاءه بالعاجل السهل المنال، وغفلته عن الحق بالتشبث بما يسره يعميه عن رؤية ما فيه مصلحته واستقامة حياته في الدنيا وفوزه في الآخرة. حتى إذا ما مسّته ضراء أفاق وتذكر واجباته وعرف مقصد حياته.
اللهم ارزقنا اتباع آيات الكتاب الحكيم واجعلنا من الصابرين، واحكم بيننا كما حكمت بين نبيك صلى الله عليه وسلّم وبين المشركين يوم بدر وأنت خير الحاكمين.
010.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
كما أن الأنعام تدعوا إلى الإيمان بالله وهو أول أركان الإيمان، فإن سورة يونس تدعوا إلى الإيمان بالأركان الثلاثة التي تليه، أي بالملائكة والكتب والرسل، أي الوحي والتنزيل، وما جاء به من الأوامر والنواهي وتكاليف العبادة. وتبين نعمة العبادة التي جاء بها الوحي، أو نعمة الوحي الذي جاء بالحق وهو العبادة. وهي تزيل شكوك الكافرين وافتراءاتهم على القرآن، كتاب الله الخاتم، وتؤكد أنه الحق، وتدعو إلى اتباعه، وتبين نعم الله التي تترتب على العمل بما فيه. ويمكن تقسيم السورة حسب تسلسل آياتها إلى أربعة مجموعات مترابطة، يتكرر في كل منها مواضيع السورة بطريقة مختلفة وتؤيد بعضها بعضاً. وهي مقدمة، ثم تفصيل، ثم قصص، ثم خاتمة (والخاتمة مكونة من قسمين: الأول فيه ملخص لكل ما سبقها، وتوجيه للاستفادة من تجارب الأمم، والثاني يركز على بيان منافع الإيمان بالوحي، ومضار التكذيب)، كما يلي:
010.6.1- الآيات (1-13) وهي مقدمة للسورة، تبين أن الله خلق الإنسان لغرض واضح وعمل محدد.
من نعم الله على الإنسان أن جعل له كتاباً فيه آيات محكمات تهديه وتبين له الغرض من وجوده، ولماذا وجد وما هو مصيره. وتبين له بكلام لا لبس فيه بأن الله الذي خلق وهو أعلم بصنعته، فأكد بأن الإنسان لن ينفعه (في دنياه وفي آخرته) إلا الإيمان بما جاء في الكتاب المحكم من الحق، والعمل بأوامره ونواهيه، وأن إليه المرجع للحساب والجزاء. فأرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، مؤيدين بالآيات البينات، لإبلاغ الناس بهذه الحقيقة. فانقسم الناس في تقبلهم للمرسلين إلى قسمين: قسم لم يؤمن ولم يعمل ورضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، فمأواهم النار، وقسم آمن وعمل الصالحات فمأواهم جنات النعيم. ولما كان من طبع الإنسان تغليبه لشهوات نفسه، وإهماله لعقله الذي هو مكان التدبر، وكشف الحقائق وتغليب الواجبات والالتزامات، ثم لما كان الله رحيم بعباده ويريد لهم استخدام عقولهم لاختيار الأصلح لهم من الأعمال وتغليب النعيم الدائم على شهوات النفس الزائلة، فصار من مصلحة الإنسان أن يبتليه الله بمس من الضر ثم كشفه، وسلب شيء من شهواته ثم إعادتها، لكي يثوب إلى رشده ويستعمل عقله ليميز بين ما ينفعه وبين ما يضره. لكن الثابت أن هلاك القرون السابقة كان بسبب غفلتهم وعدم إيمانهم، وقد أصم آذانهم وأعمى أبصارهم انشغالهم بمتاع الدنيا القليل عن النعيم الخالد الدائم. فيا لجهل الإنسان وظلمه لنفسه.
010.6.2- الآيات (14-70) بيان سنن الله الثابتة التي تؤكد، وفيها الدليل على صدق الوحي (الرسالة والرسول):
احتوت الآيات السابقة على مقدمة استوعبت ولخصت كل ما احتوته السورة من موضوعات. أما في هذه الآيات ففيها إعادة تأكيد ما تضمنته المقدمة من أن الكتاب والوحي والرسالة حق، وأنه سبحانه خلق الناس للعبادة، وأن إليه مرجعهم فيحاسبهم على أعمالهم. وأن الناس بحسب أعمالهم فريقين: مؤمنون في الجنة وكافرون في النار، وأن الكافرون لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب.
ويأتي هذا التأكيد في ثمانية مجموعات من الآيات تضمنت حقائق ووقائع ملموسة يستوعبها كل الناس، وفيها الدليل على صدق الوحي. وتبدأ بالإشارة إلى سنة الله باستبدال الأمم، وآخر هذه الأمم هي استخلاف أمة محمّد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن، ثمّ سنن الله: في الابتلاء، والجزاء على الأعمال، والرزق والهداية إلى الحق، وإرسال الرسالات فمنهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن، ثم الإشارة إلى عدل الله في الجزاء والعقاب والثواب، لذلك يعظهم ويهديهم وينذرهم بأن أعمالهم مكتوبة وأن عليهم شهوداً ليوم القيامة، وأنه يبشر أولياءه ويريهم آياته بأنهم على الحق وينذر المكذبين، كما يلي:
010.6.2.1- في الآيات (14- 20) تفنيد إنكار الكفار للنبوة والكتاب، وبيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان فيهم وعرفوا صفاته وصدقه، وعرفوا إمكانياته وأنه أميّ لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا الكتاب.
إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليست بدعاً من الأمم، بل هي مثلها، فالإنسان هو نفسه الإنسان، من أيام آدم عليه السلام إلى قيام الساعة، لن يغيره زمان عن زمان، ولا تقدم في الحضارة أو تخلف. وقد خلق الله الناس على دين واحد هو الإسلام، ثم اختلفوا بعد ذلك، فكفر بعضهم، وثبت بعضهم على الحق. وهاهم مع القرآن يكررون أعمال من سبقهم، من التكذيب وطلب قرآن بديل وآيات أخرى غير التي جاءتهم، ويستمرون على عبادة مالا يضرهم ولا ينفعهم من دون الله.
010.6.2.2- في الآيات (21-25) سنن الله الثابتة في الابتلاء:
لا بد من ابتلاء الناس بالشر حتى يستقيموا، فيبتليهم بالخير والشر فتنة لينظر كيف يعملون، ثم يتبين لهم الجزاء الذي يستحقون. ومن الأمثلة على الابتلاء أن الإنسان يغفل عن أن الله يسير الفلك في البحر، حتى إذا جاءها ريح عاصف دعا الله النجاة والسلامة. وفيه دليل على أن الإنسان يعرف الله وأنه يرعاه وينقذه. وكذلك الرزق والنبات كله من أمر الله وهو قادر، على إذهابه كما قدر على المجيء به، فليتفكر الإنسان وليستجيب لدعوة الله إلى الصراط المستقيم.
010.6.2.3- الآيات (26- 30) سنة الله الثابتة في الجزاء على الأعمال وأن عطائه أكبر من عقابه:
في هذه الآيات يحدثنا الله سبحانه وتعالى عن ذاته بأنه يدعوا إلى الجنة، وأنه عادل كريم، فمن يعمل الحسنات من المحسنين لهم مثلها وزيادة وفي الجنة خالدون، ومن يعمل السيئة من المسيئين لا يجزون إلا سيئة مثلها وفي النار هم خالدون. وهو حديث عن الآخرة بعد الحديث عن الدنيا، وهو دليل على الحاجة إلى الوحي والكتاب والرسل مبشرين ومنذرين، وبدونه لا نعرف عن أخبار الآخرة.
010.6.2.4- الآيات (31-36) سنة الله الثابتة في الهداية:
الله هو الحق الخالق الرازق مالك السمع والأبصار المحيي المميت المدبر للأمور، هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو الذي يهدي إلى الحق، ويضل الذين يتبعون الظن. فكيف يترك الإنسان بلا هداية؟ وكيف لا يرسل الرسل بالهدى ودين الحق؟
010.6.2.5- الآيات (37-43) سنة الله الثابتة بإرسال الرسالات والرسل:
بيان أن القرآن تصديق لما بين يديه من الرسالات، وأن الكفار كذبوه كما كذب الذين من قبلهم. وأن خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم لا يقدر إسماع الحق لمن لا يعقل، ولا يستطيع هداية فاقدي البصيرة. فتصديقه للكتب السابقة دليل على أنه وحي، آية (37). وعدم قدرتهم على الإتيان بسورة مثله دليل على أنه من عند الله ولم يفتريه رسول، آية (38).
010.6.2.6- الآيات (44- 56) ثبات سنة الله في العدل وعدم الظلم:
إن الله لا يظلم الناس ولكن الناس أنفسهم يظلمون. بدليل أنه جعل لكل أمة رسول، وجعل يوماً ليقضي بينهم بالقسط، وأن وعده حق، فهو الذي يحيي ويميت. وبدليل أنهم رغم تكذيبهم إذا وقع عليهم عذابه آمنوا. وكذلك يوم القيامة، فلو أن للظالم ما في الأرض جميعاً لافتدى به ما يرى من العذاب. وقد بين سبحانه ما أعد لهم في الدنيا والآخرة. والتهديد بالعذاب والهلاك في الآية (46) محقق في الدنيا أو في الآخرة فقد يرى صلى الله عليه وسلم عذابهم في الدنيا فتقر به عينه، أو في الآخرة بعد أن يتوفاه الله.
010.6.2.7- الآيات (57-60) دوام وعظ الله للناس بما فيه شفاء صدورهم وهداهم ورحمته بهم.
وهذا الوعظ الدائم، ببيان ما لهم وما عليهم، هو فضل من الله عليهم فليفرحوا به، فهو خير لهم من حطام الدنيا. وكل ما أنتم فيه من الرزق والنعيم هو أيضاً من الله، وهو لم يأذن لأحد بجعله حلالاً أو حراماً.
010.6.2.8- الآيات (61-70) كل شيء عند الله مسجل عنده في كتاب مبين:
ما يغيب عن الله حتى مثقال الذرة في الأرض ولا في السماء. فأولياءه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لهم البشرى في الدنيا والآخرة. والمشركون المكذبون لهم متاع قليل في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة.
010.6.3- الآيات (71-93) تأكيد صدق الوحي من خلال القصص وذلك بالإشارة إلى القرون الخوالي، وما كان من عاقبة تكذيبهم لرسلهم، واستخلاف من بعدهم:
احتوت الآيات السابقة (1-13) على مقدمة استوعبت ولخصت كل ما احتوته السورة من موضوعات. ثم تلتها الآيات (14-70) وفيها مزيد من التفصيل، وإعادة تأكيد ما تضمنته المقدمة من أن الكتاب والوحي والرسالة حق، وذلك عن طريق تدبر سنن الله الثابتة في الوجود. أما هذه الآيات فقد تضمنت أيضاً مزيد من التفصيل والإيضاح بحقائق تاريخية ووقائع جربتها البشرية، تزيل الشك عند المترددين، وتعطي الدليل على صدق الوحي إلى الرسل، وتبين مصائر الأمم المؤمنة والكافرة. وقد اختارتها السورة كنماذج، ووسيلة لتسهيل فهم معانيها.
وقد تضمنت مواضيعها: بيان مجيء رسل تنذر وتبشر. وأقوام كذبت فنالت عذاب دنيوي قبل الأخروي. وأقوام آمنت فكانت عاقبتها حميدة، واستجاب الله لدعائها. وتوبة عند وقوع العذاب وندم على الكفر. وأنه لا راد لقضاء الله. ثم الانتفاع بالإيمان من رزق طيب، ثم بعد هذا الرزق الطيب والنعمة، سينتهي بهم الأمر إلى الاختلاف على أمر الدين لمصالح دنيوية – سنة الله.
010.6.4- خاتمة السورة في الأيات (94-109) وهي قسمين، الأول: فيه ملخص لما سبقها من مقدمة وقصص وتفاصيل، وفيه توجيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بعدم الشك بالحق الذي جاء به التنزيل، والاستفادة من قصص وتجارب الأمم السابقة في هذا الشأن، والثاني يركز على بيان منافع الإيمان بالوحي، ومضار التكذيب.
010.6.4.1- الآيات (94-97) وفيها إعادة تلخيص لمقصد ومواضيع السورة:
لقد جاءك الحق من ربك. لا تكذب فتخسر، إن الذين حقت عليهم كلمة الله، بأن لا ينتفعوا بالإيمان، لن يؤمنوا، ولن يفيدهم مجيء الآيات، العذاب فقط يعيد إليهم رشدهم فيروا الآيات. فإن كنت في شك من هذا فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك.
010.6.4.2- الآيات (98-109) هذه الخاتمة تلخص كل ما جاء في السورة من موضوعات، وتركز على النتيجة المرجوّة لمن يتدبرها أن يتوصل إليها وهي: الانتفاع بالإيمان بالوحي، وأنه حق ونعمة، لأنه جاء بالحق والنعمة. جاء بالإيمان والعمل الصالح النافعين، والعبادة أيضاً نعمة نافعة جالبة للخير. ولو شاء الله لآمن من في الأرض، ولكن ترك لهم الحريّة في اختيار الإيمان أو عدمه، ولم يكره أحد على شيء، وما كان لنفس أن تؤمن إلا بأذنه.
فالإيمان نافع انتفع به قوم يونس عليه السلام، ولو شاء سبحانه لآمن من في الأرض لينتفعوا. لكن مشيئته الغالبة أن لا ينتفعوا إلا بجهد تدبر الآيات، والعمل بما فيها، وإلا أصابهم ما أصاب الذين خلو من قبل من الهلاك والاستبدال، ونجاة الرسل والمؤمنين وانتفاعهم. ثمرة الإيمان هو الدين والعبادة، حنفاء لله بدون شرك. هذا هو الحق والهدى الذي جاء به الوحي من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، فليتبع باغي النجاة والسلامة وليصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
010.7 الشكل العام وسياق السورة:
010.7.1- إسم السورة:
سميت السورة ”سورة يونس” لذكر قصته فيها وما تضمنته من العظة والعبرة برفع العذاب عن قومه حين آمنوا بعد أن كاد يحل بهم البلاء والعذاب وهذا من الخصائص التي خصَّ الله بها قوم يونس لصدق توبتهم وإيمانهم. واختيار قوم يونس له دلالته تجاه مقصد السورة وأنها اختصت في الدفاع عن الوحي وأنه جاء لهداية الناس، وأن قوم يونس اهتدوا بالوحي. وعدم اختيار قوم نوح الذين لم يؤمنوا بالوحي أو فرعون الذي آمن بعد أن أدركه الغرق، في القصتين الأخريين المذكورتين في السورة، متناسق أيضاً مع ما كانت عليه أحوال الأمم الأخرى التي لم تؤمن بالوحي، وأن الله طبع على قلوبهم بعد أن لم يستفيدوا من الآيات التي جاءتهم على مدار ألف سنة في إلا خمسين عاماً حالة قوم نوح، وكذلك في حالة فرعون وملئه الذين كلما رأوا آية ازدادوا تكذيباً، وقد أهلكت الأمتين بآية الغرق، ولم ينفع أحد منهم معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات. والخلاصة أن من أريدت شقاوته لا ينفعه مشاهدة الآيات، إنما الآيات لمن يرجى له الإيمان مثل قوم يونس فنفعهم إيمانهم.
وقد سميت السورة بيونس بينما قصته فيها لا تتجاوز إشارة سريعة، ولكن القصة مع هذا هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم، فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة، وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين.
السياق العام للسورة مأخوذ من تصرفات يونس عليه السّلام وضيق صدره من كفر قومه وتكذيبهم، وتعجّله وقلّة صبره عليهم حين تركهم ظانّاَ أنهم لا يؤمنون ولكن آمنوا فنفعهم إيمانهم. وعلى نفس الوتيرة يأتي الختام مخاطباَ الرسول عليه السلام بالصبر وعدم التعجّل {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}. وفي نفس السياق تشير آيات السورة إلى قلة صبر الإنسان وتهاونه في البحث عن الحق، وحتى مع مجيء الوحي. فإن رضاءه بالعاجل السهل المنال، وغفلته عن الحق بالتشبث بما يسره يعميه عن رؤية ما فيه مصلحته واستقامة حياته في الدنيا وفوزه في الآخرة. حتى إذا ما مسته ضراء أفاق وتذكر واجباته وعرف مقصد حياته.
010.7.2- الحكمة والحق باتباع الوحي والصبر على ما فيه من تكاليف غرضها إصلاح حال الإنسان:
تبدأ السورة بقوله تعالى: {الر، تلك آيات الكتاب الحكيم}، وتنتهي بِ {واتبع ما يوحى إليك واصبر} أي: بضرورة اتِّباع ما نزل به الوحي من الكتاب والحكمة، والصبر على اتباع ما فيه وعلى ما يلقاه لأجل ذلك من أذى. وتحتشد بالآيات التي تتثبت صدق الوحي، وما جاء به من الحق والدين، وبيان الفطرة وصفات الإنسان في الحالين حال الغفلة في السراء وحال الإيمان في الضراء، وتعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين عرضا حيّا مؤثرا، فتعرض مع الجزاء الأول وهلاك الأمم في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين، الجزاء والمصير النهائي في الدار الآخرة، النار مأوى من رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، وجنات النعيم تجري من تحتها الأنهار لمن آمن وعمل الصالحات.
وقد كان الناس أمة واحدة (آية 19) حنفاء متفقين على طاعة الله وعبادته، فاختلفوا وعبدوا من دونه مالا يضرهم ولا ينفعهم، سبحانه وتعالى عما يشركون. وقد أمهلهم سبحانه مع تماديهم في سوء أعمالهم، ولم يعجل لهم العقوبة، وبين أن هذا الشرك وتحريفهم للفطرة هو أمر طارئ حادث، لم يحاسبهم عليه ولم يقطع إحسانه إليهم، بل أمهلهم رحمة بهم إلى أجل، وأرسل لهم الوحي والرسل بالآيات، وأشار إلى أن ما يدعوهم إليه ليس أمراً طارئاً حادثاً، بل هو أصل ما كان عليه العباد، من الفطرة على الدين.
010.7.3- سياق السورة حسب ترتيب آياتها وموضوعاتها (الجانب العملي: من العبادات والعمل الصالح، وما يترتب عليه من العقاب والثواب):
ينقسم سياق السورة حسب تسلسل وترتيب آياتها (كما هو مفصل أعلاه) إلى أربعة (4) مجموعات مترابطة من الآيات، هي كما يلي:
الآيات (1-13) مقدمة لخصت جميع موضوعات السورة. وهي الموضوعات التي تؤكد وتدافع عن صدق الوحي.
الآيات (14-70) تفصيل في المقدمة، ببيان سنن الله الثابتة التي فيها الدليل على صدق الوحي والتنزيل.
الآيات (71-93) مزيد من التفصيل يعتمد على رواية قصص وتجارب أمم سابقة جاءتهم الرسل والآيات، ودارت فيهم دائرة الأيمان من بدايتها إلى نهايتها.
الآيات (94-109) خلاصة تبين أن الإيمان نافع والتكذيب ضار. فمن أراد المنافع العظيمة في الدنيا والسلامة في الآخرة، فلا بد أن يتبع الحق الذي في الكتاب، وإلا فالشقاء مصيره في الدنيا والآخرة. (أو بمعنى آخر، ملخص عن مقصد السورة، الذي هو مقصد الوحي والرسالات والتنزيل، بأن الله هو المدبر للكون منزل الوحي، وما على الناس سوى الإيمان والعبادة، لأن فيه مصلحتهم).
أما سياق السورة حسب موضوعات آياتها فهي تتكون من شقين متساويين تقريباً: الشق الأول ومجموع آياته (55) آية فيه تأكيد أن الكتاب والوحي والرسالة حق، وأنه سبحانه خلق الناس للعبادة، وأن إليه مرجعهم فيحاسبهم على أعمالهم. والشق الثاني ومجموع آياته (54) آية يبين أن أعمال الناس ستقسمهم إلى فريقين مؤمنون في الجنة وكافرون في النار، وأن الكافرون لا يؤمنون إلا إذا رأوا العذاب. هذين الشقين يمكن تقسيمهما أيضاً إلى 4 موضوعات رئيسية، ثم إلى مواضيع فرعية (وكلها تصب في سياق إثبات صدق الوحي بأركانه الثلاثة الكتاب والرسول والملائكة)، كما يلي:
010.7.3.1- تأكيد حقيقة الكتاب والوحي والمرسلين. (29 آية)
010.7.3.2- الله خلق وهو أعلم بصنعته (فطر على الإيمان والعبادة، وإليه المرجع للحساب). (26 آية)
010.7.3.3- مؤمنون في الجنة وكافرون في النار. (39 آية)
010.7.3.4- لن يؤمنوا حتى يمسّهم الضر. (15 آية)
ولو تأملنا أو حاولنا رسم جدول كالجدول الموجود في سورة الأنعام، فسنجد أن هذه الموضوعات الأربعة المرتبة حسب موضوعات آياتها في هذا القسم، تتكرر في كل مجموعات الآيات الأربعة المرتبة حسب التسلسل والمذكورة أعلاه في تفصيل موضوعات السورة.
وفيما يلي مزيد من التفصيل والإيضاح عن موضوعات السورة الأربعة الرئيسية، حسب موضوعات آياتها، مع مواضيعها الفرعية:
010.7.3.1- الموضوع الأول: تأكيد (ودفاع عن) حقيقة الكتاب، والوحي، والمرسلين مبشرين ومنذرين. وأن الكتاب فيه آيات الله المحكمة، وفيه الدعوة إلى الجنة، وكل ما ينفع الإنسان، فليفرحوا بها من رحمة ونعمة، من الله الداعي الهادي الواعظ. (نعمة القرآن)، في الآيات: (1، 2، 15، 16، 25، 37-43، 47، 57، 58، 71، 72، 75-77، 80-82، 94، 95، 104، 105، 108، 109). = 29 آية.
وفيه المواضيع الفرعية التالية:
010.7.3.1.1- التأكيد على حقيقة الكتاب الحكيم، وما فيه من الهدى: في الآيات (1، 25، 57، 58، 108).
010.7.3.1.2- بيان صدق الكتاب ودحض شكوك المكذبين به: في الآيات (15، 16، 37، 38، 39، 40).
010.7.3.1.3- بيان حقيقة نزول الوحي، وإرسال المرسلين بالآيات والنذر والبشائر، ودحض شكوك المكذبين: في الآيات (2، 41، 42، 43، 47، 71، 72، 75-77، 80-82، 94، 95، 104، 105، 109).
010.7.3.2- الموضوع الثاني: التأكيد على (والدفاع عن فطرة الإنسان) أن الله هو الذي خلق وهو أعلم بصنعته، وبما ينفعها، وقد أمر وأنذر، وجعل يوماً يرجعون فيه إليه يحاسبهم فيه على أعمالهم، فمن آمن وعمل صالحاً فجزاءه الجنة ومن كذب وأفسد فمأواه النار، خالدين فيها. وأن المخلوقات دليل على صانعها. وأنه بجعل يوم للحساب دليل على صدق ما جاء في الكتاب. في الآيات: (3-6، 14، 28-36، 44-46، 61، 65-67، 93، 99، 100، 101، 107) = 26 آية.
وفيه المواضيع الفرعية التالية:
010.7.3.2.1- التأكيد على أن الإنسان لن ينفعه إلا الإيمان والعبادة (وقد ابتلي بالعبادة والعمل كدليل على الإيمان): في الآيات (3، 14، 33، 44).
010.7.3.2.2- التأكيد على أنه إلى الله المرجع للحساب والجزاء، فهو يبدأ الخلق ثم يعيده: في الآيات (4، 28-30، 45، 46، 61، 93، 107).
010.7.3.2.3- انفراد الله بخلق الكون وملكه وتدبير أمره. وكلّ شيء في الكون من مخلوقات هي شواهد على الحق والحكمة، وآيات تدل على صانعها. وعلى صدق ما جاء به الكتاب: في الآيات (5، 6، 31، 32، 34-36، 65-67، 99-101).
010.7.3.3- الموضوع الثالث: الناس فئتان مؤمنون ومكذبون. (فبعد التأكيد على أن الكتاب حق وأن الدنيا هي دار عبادة وعمل وابتلاء للإنسان)، تبين الآيات تمايز الناس إلى فريقين: فريق آمنوا وعملوا الصالحات، وفريق كذبوا واطمأنوا إلى الدنيا فغفلوا عن الآيات. وتبين نهاية محددة ومصير واحد لكل فريق، المؤمنون في الجنة والغافلون المكذبون في النار، في الآيات: (7-11، 17-20، 26، 27، 48-50، 52، 53، 55، 56، 59، 60، 62-64، 68-70، 73، 78، 79، 83-89، 96، 103، 106) = 39 آية.
وفيه المواضيع الفرعية التالية:
010.7.3.3.1- الذين ينكرون البعث والحساب اطمأنوا إلى الدنيا ساهون عن الآيات، فمأواهم النار: في الآيات (7، 8، 17-20، 27، 59، 60، 68-70، 73، 78، 79، 96، 106).
010.7.3.3.2- الذين آمنوا وعملوا الصالحات مأواهم الجنة. في الآيات (9، 10، 26، 62-64، 83-89، 103).
010.7.3.3.3- التأكيد على أن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، وأن الله يمهل في الدنيا، ولا يعجل في الأجل بسبب العمل، ولو يعجل الله للناس العقاب لقضي إليهم أجلهم، فإذا جاء وعد الآخرة بطل العمل، وحل الجزاء: في الآيات (11، 48-50، 52، 53، 55، 56).
010.7.3.4- الموضوع الرابع: إن من صفات الناس أنهم مفسدون في الأرض، يمكرون في آيات الله طالما هم في نعمة. ولا يعرفون قيمتها إلا إذا فقدوها. لن يفيدهم إرسال المرسلين ومجيء الآيات. مس الضر والعذاب بفقدان النعمة، هو فقط ما يعيد إليهم رشدهم، ويزيل عنهم غفلته، ويجلي أبصارهم فيروا الآيات، في الآيات: (12، 13، 21-24، 51، 54، 74، 90-92، 97، 98، 102) = 15 آية.
وفيه المواضيع الفرعية التالية:
010.7.3.4.1- لا بد من ابتلاء الناس بالضر حتى يشكروا النعمة التي هم فيها، ويعودوا إلى فطرتهم التي فطرهم الله عليها بأن يعبدوا لله مخلصين له الدين. في الآيات (12، 21-24، 90-92، 98).
010.7.3.4.2- هلاك القرون حصل بسبب إسرافهم وسوء استخدامهم للنعمة، في المعصية والظلم. ولم يجد فيهم نفعاً إرسال الرسل. في الآيات (13، 74، 102).
010.7.3.4.3- الندم بعد فوات الأوان، ويوم لا ينفع الندم: في الآيات (51، 54، 97).
010.7.4- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها (الجانب الإيماني: عن الإيمان وما يترتب عليه من العقاب والثواب):
كما أن سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها يركز على موضوعين رئيسيين هما العبادة والعمل الصالح وما يترتب عليه من العقاب والثواب، وهو الجانب العملي من التكليف. فإن المتأمل لهذه الآيات سيجدها تركز أيضاً على موضوعين رئيسيين آخرين هما الجانب الإيماني من التكليف، كموضوع رئيسي أولاً ثم ما يترتب عليه من العقاب والثواب ثانياً بنفس طريقة عرض الجانب العملي.
الإيمان هو الأصل في موضوع تكليف الإنسان بالعبادة، وهو مقدم على العمل، بل أن العمل هو الدليل على الإيمان، وهو هنا في السورة كذلك. صحيح أن مقصد السورة هو إثبات أن الوحي والرسول والكتاب حق، وإبطال حجج المكذبين والمفترين عليه، والدفاع عنه، إلا أن باقي أركان الإيمان نالت أيضاً نصيباً وافراً من الإثبات والتفصيل والتأكيد.
ففي الآيات (1-13) وهي مقدمة للسورة، بل وفي أول خمسة آيات منها تم تأكيد أركان الإيمان الستة، ثم تلاها بيان مصير المؤمنين والكافرين. وهنا أيضاً جاء بعد المقدمة مزيد من التفصيل عنها ببيان سنن الله الثابتة، ثم قصص وتجارب أمم سابقة، ثم خلاصة تبين أن الإيمان نافع والتكذيب ضار، بنفس الأسلوب والطريقة التي تم فيها بيان سياق موضوعات الآيات أعلاه باعتبار موضوع العبادة. ويمكن بيان سياق السورة باعتبار موضوع الإيمان، باختصار، كما يلي:
010.7.4.1- أولاً: بيان أركان الإيمان الستة. في آيات مجموعها = 55 آية كما يلي:
الكتاب: في الآيات (1، 57، 108) = 3 آيات.
الوحي، الملائكة: في الآيات (2، 58، 109) = 3 آيات.
الرسل: في الآيات (15، 16، 41-43، 47، 71، 72، 75، 77، 80-82، 105) = 14 آية.
الله: في الآيات (3، 44، 61، 65، 66، 106) = 6 آية.
اليوم الآخر: في الآيات (4، 28-30، 45، 46، 48، 49، 53-56، 104) = 13 آية.
القدر: في الآيات (5، 11، 31-36، 74، 94-97، 99، 100، 107) = 16 آية.
010.7.4.2- ثانياً: بيان آيات الله، وتقبل الناس للإيمان، وعقاب الكفار وثواب المؤمنين، وسنة الله في استخلاف المؤمنين وإهلاك الكافرين. في آيات مجموعها = 54 آية كما يلي:
الآيات للعبرة: في الآيات (6، 37-40، 67، 101) = 7 آيات.
الرضا بالدنيا، ومصيره العقاب في النار: في الآيات (7، 8، 17-20، 27، 59، 60، 68، 69، 70، 73، 76، 78، 79) = 16 آية.
عملوا الصالحات وجزاءهم في الجنات: في الآيات (9، 10، 26، 62-64، 83-89) = 13 آيات.
تأثير الخير والشر على الناس، وإهلاك القرون بسبب الظلم، واستخلافهم بقوم آخرين: في الآيات (12-14، 21-25، 50-52، 90-93، 98، 102، 103) = 18 آية.
010.7.5- سياق السورة باعتبار القصص، واعتمادها على القصة لتسهيل فهم مقصدها وموضوعاتها:
010.7.5.1- آيات القصص كلها تتحدث عن عجب الناس وتكذيبهم للوحي، ويشمل الملائكة والكتب والرسل، واتهامهم لرسلهم بالسحر والكذب، وقد جاؤوهم بالبينات وبحقيقة أن الله خلقهم لعبادته وحده وأنه محاسبهم على ذلك فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار. فآيات القصص احتوت على هذين الموضوعين وعلى تأكيدهما بأسلوب سهل واضح مبين:
010.7.5.1.1- قصص تبين حقيقة حال الناس في الدنيا وعجبهم وتكذيبهم للوحي، في الآيات (2، 13-20، 38-43، 47، 71-93، 98، 102، 103) = 42 آية.
010.7.5.1.2- قصص تبين حالهم في الآخرة وقد وقعوا تحت طائلة الحساب على أعمالهم في الدنيا، في الآيات (28-30، 48-56) = 12 آية.
ومجموع هذه الآيات هو 54 آية، أي حوالي نصف عدد آيات السورة.
010.7.5.2- آيات الآيات وتتحدث عن أن دين الله نعمة لأنه يعيد الناس إلى أصل خلقتهم وفطرتهم، فكل ما في السماوات والأرض من مخلوقات، عدا الإنس والجان، مطيع لله في كل ما خلقه لأجله، ولا يملك، أو ليس له خيار إلا الطاعة. أما الإنسان فقد ابتلاه الله بالتصرف بجزء يسير من حياته، وهو أن ابتلاه بالعبادة وترك له الخيار في ذلك، إن أطاع فاز ودخل الجنة، وإن عصى خسر ودخل النار. وقد جعل سبحانه طاعة السماوات والأرض وما بينهما من مخلوقات لله رب العالمين، في انسجام شامل وتكامل يديم لها بقاءها واستمرار دورانها في أفلاكها. كما جعل سبحانه ذلك كله آيات بينات للإنسان عسى أن يعتبر فيطيع كما أطاع غيره، وأن يبقى حيث قدر الله له أن يكون، وفي فلكه الذي جعله الله له كما بقيت المخلوقات الأخرى في أفلاكها التي جعلها الله لها لكي تظل فيها ولا تتجاوزها.
010.7.5.2.1- آيات تبين طاعة السماوات والأرض لربها والتزامها بما خلقت لأجله، وأن في ذلك عبرة للإنسان كي يعتبر، في الآيات (3، 5، 6، 24، 31-35، 66-68، 101) = 13 آية.
010.7.5.2.2- آيات تبين طاعة الإنسان ومدى امتثاله لما فطره الله عليه من العبادة واتباع الدين، وكيف أنه ليس كالمخلوقات الأخرى في طاعتها التامة، بل هو متردد ومتنقل ما بين الطاعة والمعصية، في الآيات (12، 21-23، 36، 57-65) = 14 آية
ومجموع هذه الآيات هو 27 آية، أي حوالي ربع عدد آيات السورة.
010.7.5.3- آيات الوحي، وتتحدث عن غرض الرحمن الرحيم من إرسال الوحي والرسالة:
010.7.5.3.1- الكتاب الحكيم فيه آيات، وهداية، وتفصيل، وإليه مرجعهم لإحقاق الحق وإقامة العدل وأنه لو شاء لهدى الناس جميعاً: (1، 4، 25، 37، 44، 94، 99، 100، 104-109) = 14 آية.
010.7.5.3.2- فيحاسبهم على أعمالهم فمن أطاع فاز ومن عصى خسر (7-11، 26، 27، 45، 46، 69، 70، 95-97) = 14 آية.
ومجموع هذه الآيات هو 28 آية، أي حوالي ربع عدد آيات السورة.
010.7.6- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
010.7.6.1- آيات القصص: قصص تبين حقيقة حال الناس في الدنيا وعجبهم وتكذيبهم للوحي، في الآيات (2، 13-20، 36-43، 47-65، 71-103) = 69 آية.
010.7.6.2– الأمثال في الآيات: (11، 12، 21-23) = 5 آيات.
010.7.6.3- الآيات في السماوات والأرض: (3-6، 24، 31-35، 66-68) = 13 آية.
010.7.6.4- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1، 7-10، 25-30، 44-46، 69، 70، 104-109) = 22 آية.
010.7.7- من يتدبر السورة يتبين أن له أن المشكلة في عدم الإيمان ليس في قلة الآيات أو كثرتها، بل هي كثيرة جداً، أكثر من أن يستوعبها إنسان، وهي حاضرة للعيان، متمثلة في آيات خلق الله لكل ما في الكون، وفي سننه الثابتة وتدبيره الملموس لأمور مخلوقاته وعنايته بها، كما أشير إليه في الآيات (14-70) أعلاه، ومتمثلة أيضاً في القصص التاريخية الحقيقية عن الأمم السابقة التي أوردتها السورة في الآيات (71-93)، ولا يخلوا منها أيضاً ما تبقى من الآيات، وكل ما فعلته السورة هي أن أشارت إلى تلك الآيات والحقائق الموجودة ليتدبرها من يريد لنفسه الحق والنجاة.
أما عن الآيات والمعجزات من مثل ما يطلبه الناس من أنبيائهم، فقد أوردت السورة قصة نوح عليه السلام، وقد لبث في قومه، ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهي أطول مدة مكثها رسول مع قومة، يذكرهم بآيات الله، ويدعوهم إلى ربهم ليلاً ونهاراً، فكذبوه، إلى أن انتهى بهم الأمر بأن أغرقهم الله بذنوبهم، ولم تنفعهم آية السفينة الخارقة للعادة والعجيبة تجري في موج كالجبال، فأخذوا أشد أخذ، وصار أمرهم إلى زوال وجعلهم الله آية لمن بعدهم من الأمم، مع نجاة رسولهم والقليل ممن آمن معه.
ثم بعث من بعده رسلاً (كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام) بالآيات. فلم تفد الآيات، ولم يفد أن يأتي الرسول من نفس القوم كنوح عليه السلام ومن بعده، ولا من غير قومهم كموسى أرسل إلى فرعون وملئه، أنهم لا يكذبون. وهم لا يؤمنون للسببين ذكرتهما السورة وتكرر ذكرهما في غيرها من سور القرآن الكريم، هما التقليد والحرص على الدنيا (الآية 78). التقليد جهلاً، والحرص على الدنيا حتى لا يسبقهم إليها أحد، أو لكيلا يأخذها أصحابها، أو تعود لأصحاب الحقوق فيها من الفقراء والمظلومين، فيحصل التجبر والكبرياء بغير الحق. ويغفلوا عن الآيات الراسخة والهدى إلى الصراط المستقيم، وقد أعماهم عنها التقليد والتعلق بالشهوات. فأوصلهم جهلهم وظلمهم إلى الباطل من الشرك والكفر والسحر، ثم التكبر عن سماع آيات الحق من الرسل والاعتداء عليهم. كذلك يطبع الله على قلوب المعتدين.
كذلك جاء موسى عليه السلام إلى فرعون، فدعاه إلى الله فكذبه، فأخبره أن معه آية تصدقه، فلما أتاه بها استمر على تكذيبه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً، وكان فرعون علا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء، فطمست أمواله وآثاره، وبقيت أحاديثه وأخباره. وقد أهلكه الله بالغرق كما أهلك قوم نوح، ولم ينفع أحد من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات، بل ما آمن لموسى، بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة، إلا ذرية من قومه، وكذلك آمن لنوح عدد قليل من قومة هم الذين أنجاهم الله في السفينة.
ومن الملاحظ في الأمم الثلاثة المذكورة في السورة أنه ليس للآيات عظيم التأثير على إقناع الناس بالإيمان، بل هي أحياناً يكون لها أثر وأحيانا أخرى لا يكون كما حصل مع قوم نوح لم تؤثر فيهم الآيات ولم يؤمنوا حتى مع وجود الآيات الباهرة ومداهمة العذاب، وفرعون فقد آمن عند تحقق الهلاك، أما قوم يونس فقد آمنوا حين رأوا الآية وقبل وقوع العذاب. وكذلك اشتركت قصص الأنبياء الثلاثة في السورة بوجود الماء وحصول الغرق. فقوم نوح غرقوا في الطوفان بعد أن لم يؤمنوا، وفرعون غرق في البحر وقد آمن بعد فوات الأوان، ويونس عليه السلام ذهب مغاضباً إلى البحر فالتقمه الحوت {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} الانبياء، فأنجاه الله وعاد إلى قومه، وقد آمنوا كلهم بعد أن رأوا العذاب فنفعهم إيمانهم، فكشف الله عنهم العذاب ومتعهم إلى حين. ومن الملاحظ أن الماء استخدم أيضاً كآية على جحود الإنسان وعدم شكره لخالق هذه النعمة في الآيتين (22 و 23) فقد سخر لهم البحر ففرحوا به ولكنهم بغوا ولم يشكروا، فلما هاج وجاءهم الموج آية على عظيم صنع الله وظنوا أنهم هلكوا دعوا الله مخلصين له الدين، فلما أنجاهم عادوا إلى بغيهم ولم يشكروا. واستخدمت آية الماء كذلك في الآية (24) كمثال على الحياة الدنيا وحياة الأمم التي تنموا وتزدهر بعناية الله كما ينبت الزرع ثم تزول بغرور الناس بقوتهم وبأنهم قادرون، مع عدم شكرهم لصاحب الفضل والنعمة.
010.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
010.8.0- انظر سورة الكهف 018.8.0- تناسب السّور من الأعراف إلى الكهف في الربع الثاني من القرآن
010.8.1- بانتهاء سورة المائدة، علمنا بأن دين الله قد اكتمل وأن العهود والمواثيق قد اخذت على العباد واتضحت مضامينها. كما هدت تلك الآيات الناس إلى الطريق المستقيم. وفي سورة الأنعام تفردت ببيان مزايا الإيمان بالله وأنه كله نعمة وخير، رغم قلة المؤمنين. وفي الأعراف عرفنا وجوب الإتباع، والتزام التكاليف، رغم أن المؤمنين قلة والكفار كثرة وعرفنا أن الشقاء والعذاب بالكفران وعدم الإيمان. وفي الأنفال والتوبة تعلمنا واجبات الإيمان (واتباع الصراط) وأهمها التوكل على الله وعلى تدبيره، والدفاع عن الدين والقتال وجهاد الكفار والمنافقين. وفي يونس بيان أن الوحي نعمة لأنه يبين الحق وهو من الحق، ويبين أن العبادة نعمة، رغم أن الذين يعبدون قلة، وأن الناس لا يؤمنون إلا إّذا مستهم البأساء أو فقدوا النعمة، وفي هود سيأتي تفصيل ما جاء به الوحي والكتاب من نعمة العبادة، والعذاب بعدم العبادة، وأن الذين يعبدون قلة والذين لا يعبدون كثرة. وقد أشارت كل السور السابقة إلى قلة المؤمنين وكثرة الكافرين، حتى لا يفتن المؤمنين كثرة أهل الباطل وقلة أهل الحق، فالكل سيحاسب يوم الرجوع إلى الله، فمن أراد السلامة والنجاة بنفسه وجب عليه الإتباع وانتظار النتيجة.
010.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: قد ذكر مناسبتها في سورة الأنفال.
وأيضاً فإن مطلعها شبيه بمطلع سورة الأعراف وأنه سبحانه قال فيها: {أَن أَنذِر النَّاس وَبشِر الذينَ آمنوا} فقدم الإنذار وعممه وأخر البشارة وخصصها وقال تعالى في مطلع الأعراف: {لتُنذِرَ بِهِ وذِكرى للمؤمنين} فخص الذكرى وأخرها وقدم الإنذار وحذف مفعوله ليعم. وقال هنا: {إِنَّ رَبَكُم اللَهُ الذي خَلقَ السمواتِ والأَرضِ في ستةِ أَيام ثُمَ استوى على العَرش} وقال في الأوائل أي أوائل الأعراف مثل ذلك. وقال هنا: {يدبر الأَمر} وقال هناك: {مسخرات بأَمرهِ أَلا لهُ الخلق والأَمر} وأيضاً فقد ذكرت قصة فرعون وقومه في الأعراف فاختصر ذكر عذابهم وبسطه في هذه فهي شارحة لما أجمل في سورة الأعراف منه.
010.8.3- وقال العلامة شهاب الدين الألوسي: ووجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه ابتدأت به. وأيضا أن في الأولى بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه: ٍ{أم يقولون افتراه قل فائتوا بسورة مثله (38)} الآية، وقال جل وعلا: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله (15)}. وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه: {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (126)} التوبة، على أحد الأقوال، وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه (12)}، وفي قوله سبحانه: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين (22)} إلى أن قال سبحانه: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق (23)}. وأيضا في الأولى براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه، وفي هذه براءته صلى الله عليه وسلم من عملهم لكن من دون أمر بقتال، بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالأعراض، وتخلية السبيل، كما قيل على ضد ما في الأولى وهذا نوع من المناسبة أيضا وذلك في قوله تعالى: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون (41)}.
010.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى {إلا تنصروه فقد نصره الله (40)}، وقوله {عفا الله عنك لما أذنت لهم (43)}، وقوله {ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)}، وقوله { لقد جاءكم رسول من أنفسكم (128)} براءة، إلى آخر السورة إلى ما تخلل أثناء آي هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ووصفه بالرأفة والرحمة، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهوره دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه، وكان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك ومثيراً لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم، ما منحه عليه السلام، قال تعالى في هذه السورة: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)} ثم قال تعالى: {إن ربكم الله} الآيات وما بعدها، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد {ذلكم الله ربكم فاعبدوه}، {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكر في عظيم آياته حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا: {مال هذا الرسول يأكل الطعام يمشى في الأسواق} {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا}، وهذه مقالات الأمم المتقدمة: {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا}، {ما نراك إلا بشرا مثلنا}، {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}، {مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ}، فقال تعالى متوعداً للغافلين {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا}، ثم وعد المعتبرين فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} … الآيات، وكل هذا بين الالتحام جليل الالتئام ثم تناسجت آى السورة.