العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
096.0 سورة العلق
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
096.1 التعريف بالسورة:
1) سورة مكيّة. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 19 آية. 4) السادسة والتسعون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والأولى حسب ترتيب النزول، هي أول ما نزل من القرآن الكريم. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمى سورة اقرأ.
7-) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 1 مرة، رب 3 مرّات، خلق 2 مرّة، علّم 2 مرّة، الأكرم 1 مرّة. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (1 مرّة): لنسفعاً، الزبانية.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (3 مرّات): خلق، الإنسان، علّم، أرأيت، كلّا؛ (2 مرّة): اقرأ، ناصية، يدع؛ (1 مرّة): علق، قلم، أمرَ.
096.2 فضائلها و ما ورد عنها من الأثر:
وأخرج ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: أول ما نزل من القرآن {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)}.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن الأنباري والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن أبي موسى الأشعري قال {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)} أوّل سورة أنزلت على محمد.
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي وصححه عن عائشة قالت: إن أول ما نزل من القرآن {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1)} ويدل على أن هذه السورة أول ما نزل الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة، وفيه فجاءه الملك، فقال: اقرأ، فقال: “قلت: ما أنا بقارئ”، قال: “فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد فقال {اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4)} الآية. وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة.
أخرج ابن الضريس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكّة كتبت بمكّة، ثم يزيد الله فيها ما شاء، وكان أول ما نزل من القرآن {اقرأ باسم ربك (1)} ثمّ “المزمّل” ثم ” المدثر”.
096.3 وقت ومناسبة نزولها:
هذه السورة تتضمن جزئين الأول في الآيات (1-5) والثاني في الآيات (6-19). فيما يتعلق بالجزء الأول فقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآيات أوّل ما نزل من القرآن كما في الأحاديث المذكورة أعلاه.
الجزء الثاني في الآيات (6-19)، نزل فيما بعد، في أبو جهل، كما في الحديثين التاليين:
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن عنقه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “لو فعل لأخذته الملائكة عياناً”.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ إنك لتعلم أنّ ما بها رجل أكثر نادياً مني، فأنزل الله {فليدع ناديه (17) سندع الزبانية (18)} فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقيل ما يمنعك؟ فقال: قد اسودّ ما بيني وبينه. قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
096.4 مقصد السورة:
096.4.1- الأمر بالقراءة وطلب العلم مستعينين بالله، على تدبر آياته وسننه في مخلوقاته ونعمه وكتبه ورسالاته، فبالقراءة يهتدي الإنسان ويرتقي ويتقرب من ربه ويتقيه ويطيعه ويعبده.
يقابله استغناء الإنسان عن القراءة، وانشغاله مستعيناً بالنعمة على الطغيان والمعصية، وغفلته عن المآل والوعيد بالرجعى إلى ربه للحساب والجزاء.
096.4.2- ومقصد السورة نجده في الآية الأولى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} فهي تأمر بالقراءة وطلب العلم. ونجده في الآية الأخيرة {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} التي تأمر بالعبادة والتقرب من الله تعالى.
هذه هي السورة الأولى التي نزلت من القرآن، استفتحت بما تميّز به الإنسان وهو القراءة، باسمه تعالى نزل القرآن والدين ليُعلّم الإنسان، واختار من أسماءه الرب فهو المربّي، فالقراءة للتعليم والتربية. وأول قراءة هي في معرفة صِفة الله واسمه الذي بدأ به الحياة {الذي خلق}، وأوّل مخلوق يقرأه هو الإنسان نفسه، خلق من علق صغير حقير لا يقوى على شيء. وثاني أمر بالقراءة في صفة الله واسمه {الأكرم}، فهو رب خالق كريم، خلق الكون وسخره لخدمة الإنسان في حفظ وجوده وتربية نفسه وترقيته حتى رفعه إلى إنسان كامل قادر على التعلّم بالقلم وتعلّم مالم يكن يعلم من ماضيه وحاضره ومستقبله وكل ما يحيط به.
لقد كان من المتوقّع من الإنسان الذي ميّزه الله بالقراءة والقدرة على التعلّم أن يعرف صفات ربه وخالقه الذي كرّمه فيقترب منه ويعبده ويطيعه، لكنه انشغل عن القراءة والمعرفة وبقي في الجهل، أبطره الغنى، وغفل عن التهديد والوعيد في قوله تعالى: {إن إلى ربك الرجعى}.
وضرب سبحانه مثلاً سهّل فهم مقصود السورة وقرر حقيقة ما حصل: بأن قد خلق الإنسان بقدرات وتطلعات لا تقف عند حد، فكما أن التعليم والتربية لا نهاية له، بل يظل يترقى حتى يصل إلى ما شاء الله من الكمال، كذلك الجهل والطغيان: فقد تجاوز الإنسان بطغيانه نفسه إلى سواه، نهى العباد عن الصلاة والهدى والتقوى، وكذب الحق وتولّى إلى الباطل، يحارب ربه، {ألم يعلم بأن الله يرى}؟ ليأخذنه أخذاً شديداً من مقدّم رأسه المتكبر الكاذب الخاطئ، ولن ينفعه أهله وصحبه وناديه، حين يأتي الزبانية.
096.4.3- وقال البقاعي: مقصودها الأمر لاسيما للمقصود بالتفضيل في سورة التين بعبادة من له الخلق والأمر، شكراً لإحسانه واجتناباً لكفرانه، طمعاً في جنانه وخوفاً من نيرانه، لما ثبت من أنه يدين العباد يوم المعاد، وكل من اسميها دال على ذلك لأن المربي يجب شكره، ويحرم غاية التحريم كفره، على أن {اقرأ}: يشير إلى الأمر، و {العلق} يشير إلى الخلق، و {اقرأ}: يدل على البداية وهي العبادة بالمطابقة، وعلى النهاية وهي النجاة يوم الدين باللازم، والعلق يدل على كل من النهاية ثم البداية بالالتزام، لأن من عرف أنه مخلوق من دم عرف أن خالقه قادر على إعادته من تراب، فإن التراب أقبل للحياة من الدم، ومن صدق بالإعادة عمل لها، وخص العلق لأنه مركب الحياة، ولذلك سمي نفسا.
096.5 ملخص موضوع السورة:
هي أوّل ما نزل من القرآن، وأوّل كلماتها {اقْرَأْ}. أشارت إلى مقصدها وإلى مقصد خلق الإنسان وهو تكريمه بنعمة العلم، وهي أوّل أمر بالتعلّم، وأوّل تكليف بقراءة القرآن مفتتحاً ومستعيناً {بِاسْمِ رَبِّكَ}، وأوّل تعريف على أسماء الله الحسنى وصفاته العلى بأنه الخالق، لا خالق إلا هو خلق الإنسان، وأنه الربّ ربّاه منذ كان علقاً، وأنه الأكرم أكرمه بنعمة العلم لا لعوض أو حاجة دعتهُ إلى ذلك، وعلّمه بالقلم القراءة والكتابة وأسمائه تعالى وعلوم الغيب وصفات الإنسان ومصائر الأمم، فبلغ بعلمه مبلغاً لم يبلغهُ سواه، فعرف الحقّ من الباطل والهدى من الضلال، وعلم أن له إرادة يعمل ما يشاء وينال الجزاء، لكنه للأسف يطغى لمّا يرى أنه بذلك العلم والنعمة استغنى، فأعقبه تهديد وتحذير من عاقبة طغيانه {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)} بالحساب والجزاء، لقد كان من الواجب بعد العلم أن يسجد لربّه طاعة وشكراً ويترك كلّ ما سواه ويقترب حتّى يحبّه ويهديه ويبرّه بمزيد نعمته. وتضمّنت باعتبار مناسبة نزولها مجموعتين من الآيات كما يلي:
(الآيات 1-5): وهي أوّل ما نزل من القرآن تأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم بأن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} خلق جميع المخلوقات، و{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)}، وخصّه بالذكر تشريفاً وتعظيماً لشأنه ولأنه المأمور وموضع العبرة وتعداد النعم، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} في ذاته وأفعاله، {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} وهي نعمة بعد القرآن من أعظم النعم، {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}.
(الآيات 6-19): نزلت في أبي جهل الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند البيت؛ لتُعلم أنّ الإنسان يتجاوز حدود ربّه إن رأى نفسه استغنى، {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)} وأن مصيره إلى ربّه فيجازيه، ثمّ تعجب مِن طغيان الذي ينهى عبداً إذا صلَّى، أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى فكيف ينهاه؟ أرأيت إن كذَّب هذا الناهي وتولّى ألم يعلم بأن الله يرى؟ كلّا لئن لم ينته لنأخذنَّ بناصيته الكاذبة الخاطئة ويُطرح في النار، فليدعُ ناديه، سندعُ ملائكة العذاب فتهلكهم، كلّا لا تطعه واسجد لربك واقترب بطاعته.
ولمّا بدأت بالأمر بالقراءة فانتقل الإنسان من ظلمة الجهل إلى نور العلم والهدى، فبلغ بعلمه مبلغاً لم يبلغهُ سواه، ولمّا أعلمت بالحجّة والدليل أنه مكرّم ومبتلى بالنعمة ومحاسب عليها في إنذار وتهديد لمن يرى نفسه مستغنياً بالنعمة عن المُنعم ومستعيناً بها على الطغيان والمعصية، فقد ختمت بالأمر بالسجود والاقتراب من الخالق الرب الأكرم، وتناسب البدء بالعلم مع الختام بالعمل. وقد تقدم على نفس السياق حول الإنعام والطغيان والإنذار في سورة التين {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)}، أي فكيف تكذّبون بالحساب، وقد علمتم أن ربّكم وهو {أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}، قد خلقكم في أحسن تقويم. وأوضحت كذلك السورتان قبلها ما ابتدأه تعالى وأعطاهم من عظيم الآلاء والنعم، ففي الضحى: الإيواء والهدى والغنى، وفي الشرح: شرح الصدر وغفران الذنوب ورفع الذكر.
وقد أعقبها على نفس السياق في القدر: الإشارة إلى عظيم فضل القرآن وعلوّ قدره، أنزله تعالى في ليلة سلام مباركة هي خير من ألف شهر، ثمّ في البيّنة: الأمر بالعبادة وتأكيد أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير ما برأ الله والذين كفروا هم شرّ ما برأ الله. وتناسب بذلك الأمر باتباع الهدى الذي في القرآن في سورة القدر مع العمل به وثمرته في سورة البينة وكذلك مع البدء والختام في سورة العلق.
اللهم إنّا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً وطاعة وقرباً وحبّاً وتعظيماً لك ولكتابك ولرسولك صلى الله عليه وسلّم.
096.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
أمر الله للإنسان بالقراءة مستعيناً باسمه فهو {الذي خلق}. وأول مخلوق مأمور بقراءته وتدبر آيات الله فيه هو الإنسان، ومراحل تطوره من العلق إلى العلم. فقد أمر الله سبحانه الإنسان بالبحث والتأمّل في الحياة وبدئ الخلق ومصيره، وأول ما يبدأ به حقيقة أنه نشأ من شيء صغير حقير انتقل إلى إنسان كامل، وأنه نشأ لا يعلم فإذا به يتعلّم ويعلم. ثم بيان ظلم الإنسان لنفسه، بغفلته عن نشأته ومصيره وحقيقة وجوده، وبطره بالغنى وتكذيبه بالحق وطغيانه. وكان الواجب عليه أن يشكر ربه على إِفضاله، لا أن يجحد النعماء، فذكرته بالعودة إِلى ربه لينال الجزاء. وتوعدته بأشد العقاب إِن استمر على ضلاله وطغيانه، كما أمرت الرسول الكريم بالتقرب من ربه وعدم الإِصغاء إلى وعيد أولئك المكذبين ونهيهم عن الصلاة والهدى. كما يلي:
096.6.1- الآيات (1-5) أمر النبي (والناس أجمعين) بأن اقرأ باسم ربك المتفرد بالخلق، الذي خلق كل إنسان من علق، وإن ربك لكثير الإحسان واسع الجود، الذي علَّم الإنسان الكتابة بالقلم، وعلَّمه ما لم يكن يعلم.
096.6.2- الآيات (6-8) حقاً إن الإنسان ليتجاوز حدود الله إذا أبطره الغنى، فليعلم أن المصير إلى الله، فيجازي كلَّ إنسان بعمله.
وهو ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه: فمفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان؛ إذ ينعم عليه بتسوية خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم، وإنعامه بما لا كفء له، ثم يكفر بربه الذي فعل به ذلك ويطغى عليه أن رآه استغنى.
096.6.3- الآيات (9-18) تشير إلى فعل أبو جهل بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم: أرأيت أعجب مِن طغيان هذا الرجل الذي ينهى عبداً لنا إذا صلَّى لربه؟ أرأيت إن كان المنهي عن الصلاة على الهدى، أو إن كان آمراً بالتقوى فكيف ينهاه؟ أرأيت إن كذَّب هذا الناهي بما يُدعى إليه، وأعرض عنه، ألم يعلم بأن الله يرى كل ما يفعل؟ لئن لم يرجع عن شقاقه وأذاه لنأخذنَّ بمقدَّم رأسه أخذاً عنيفاً، ويُطرح في النار، ناصيته كاذبة خاطئة. فليُحْضِر هذا الطاغية أهل ناديه الذين يستنصر بهم، سندعو ملائكة العذاب.
096.6.4- الآية (19) إنه لن ينالك، أيها الرسول، هذا الذي يطغى بسوء، فلا تطعه فيما دعاك إليه مِن تَرْك الصلاة والهدى، واسجد لربك واقترب منه بالتحبب إليه بطاعته.
096.7 الشكل العام وسياق السورة:
096.7.1- اسم السورة: سميت بالعلق لوقوع هذا اللفظ في أوائلها، وسميت بإقرأ. وسواء أكان “العلق” أو “اقرأ” فهي تعني غفلة الإنسان عن منشأه وعن حقيقة وجوده، وحاجته المتواصلة لمن يحثه على البحث والتعلم لمعرفة سبب وحكمة هذا الوجود. وأن كلّ شيء باسم الله وعائد إليه: هو الذي خلق، وهو الذي علّم، وهو الذي أكرم. فليعرف الإنسان هذا الحق، ويشكر ويقترب.
096.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:
احتوت السورة باعتبار ترتيب آياتها على أربعة مجموعات من الآيات: الأولى تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم (والمؤمنين) بالقراءة والتعلم مستعينين على ذلك بربهم الذي خلقهم (ليعلمهم مالم يكونوا يعلمون). تقول: اقرأ أو اطلب العلم وتعلم: أن الله خلق الكون وخلق الإنسان وأكرم الإنسان وعلمه بالقلم علوم قديمة وعلوم في المستقبل. الثانية تتحدث عن استغناء الإنسان عن التعلم والقراءة وانشغاله بالطغيان مستخدماً نعم الله عليه، غافلاً عن أن الله استخلفه عليها وسوف يحاسبه ويجازيه على ما فعله بها. المجموعة. الثالثة دروس من قصة حقيقية تشرح وتفصل النتيجة وكيفية تسلط الطاغية المستبد بجهله وإعراضه وانحرافه عن علم الله وهديه على عباده المتواضعين لعظمة الله والرحماء المهتدين السائرين على صراطه المستقيم. الرابعة تأمر بالعبادة والاقتراب من الرب.
096.7.2.1- الآيات (1-5) أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها أمّة محمد عليه السلام، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، تأمر بالقراءة، للقرآن، باسم الرّب، الذي لا خالق سواه. فاعتذر، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ما أنا بقارئ أي: أمّي لا يعرف القراءة والكتابة. فبيّن الخالق صاحب الأمر أن القراءة المأمور بها هي القراءة في كتاب الكون، أي: البحث والتأمّل في الحياة وبدئ الخلق ومصيره، وأول ما يبدأ به {خلق الإنسان من علق (2)}. سيتبيّن له حقيقة أنه نشأ من شيء صغير حقير، انتقل إلى إنسان كامل في مراحل عجيبة معجزة، وأنه نشأ لا يعلم فإذا به يتعلّم ويعلم. هذا كرم عظيم من الله تعالى على الإنسان ونعمة بالتفضيل بهذا الخلق القويم، وتشريف له وبشارة بالعلم، بأن جعل له السمع والبصر والفؤاد ويسر له أسباب العلم فعلمه القرآن وعلمه الحكمة، وعلمه بالقلم الذي به تحفظ العلوم.
096.7.2.2- الآيات (6-8) كان من المتوقع أن يعرف الإنسان هذا الفضل العظيم، وأن يشعر بأنه صار شيء من لا شيء. لكنه نسي منشأه وأبطره الغنى وأعماه عن أنّ مرجعه إلى ربّه. وتجاوز بطغيانه نفسه إلى سواه فنهى عن الصلاة ونهى عن الهدى وعن الأمر بالتقوى. فيقول تعالى أرأيت؟ أي إنها لكبيرة! فيكررها في المواضع الثلاثة للإخبار عن المرئي. والاستفهام للتقريع والتوبيخ، فهل يحسن أن ينهى من هذا وصفه؟
096.7.2.3- الآيات (9-18) فما بال هذا المخلوق الإنساني غافلاً عن كلّ شيء غفلته عن نشأته ونقلته؟ {أرأيت إن كذب (13)} الناهي بالحق {وتولى (13)} عن الأمر، أما يخاف الله ويخشى عقابه {ألم يعلم بأن الله يرى (14)} ما يعمل وما يفعل؟ فالتهديد الشديد إن استمر على حاله فقال: {لئن لم ينته (15)} عما يقول ويفعل {لنسفعاً بالناصية (15)} أي: لنأخذن بناصيته أخذاً عنيفاً وهي حقيقة بذلك، فإنها {ناصية كاذبة خاطئة (16)} أي: كاذبة في قولها خاطئة في فعلها. وقد يخطر على باله أن يدعوا من يعتز بهم من أهله وصحبه {فليدع ناديه (17)} ومن فيه، أما نحن فإننا {سندع الزبانية (18)} أي خزنة جهنّم.
096.7.2.4- الآية (19) الأمر بالمضي في تبليغ الرسالة والسجود والتقرب من الرّب، والنهي عن طاعة طغيان الطاغي وتكذيبه.
096.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعاتها والقصص المذكورة فيها:
يمكن تقسيم السورة باعتبار موضوعاتها والقصص المذكورة فيها إلى نصفين تقريباً: الأوّل في الآيات (1-8، 19) وفيه الأمر بالقراءة وطلب المعرفة، والعبادة والتقرب إلى الله، يقابله إعراض الإنسان وانشغاله عن ذلك بالغنى؛ الثاني في الآيات (9-18) فيه قصّة أو مثل يسهّل فهم هذا المعنى بأحداث حقيقية.
096.7.3.1- وقد بدأت السورة بالأمر بالقراءة والتعلم، وختمت بالأمر بالصلاة والعبادة، وبذلك يقترن العلم بالعمل، ويتناسق البدء مع الختام؛ وفي وسط السورة، أو بين هذين الأمرين بينت إعراض الإنسان وانشغاله عن ذلك بالغنى والنعيم.
096.7.3.1.1- الآيات (1-5) يأمرنا تعالى بأن نقرأ ونطلب العلم ونتعلم مستعينين باسم الرب: وهو {الله} الاسم الأعظم من قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}. نقرأ ونتعلم كيف أن الله أوجدنا وأغنانا وأكرمنا في ثلاثة من آلائه ونعمه العظيمة المديدة الكريمة، كما يلي:
096.7.3.1.1.1- نعمة الإيجاد والخلق: نرى من خلالها كمال قدرة الله وحكمته وعلمه ورحمته: ففي الآية (1) إشارة إلى خلق الله الكون وتسخيره، والآية (2) خلق الله الإنسان من علق ولم يك من قبل شيئاً مذكوراً.
096.7.3.1.1.2- نعمة البقاء والرزق والمال والأنعام والأولاد واستعمار الأرض والخلافة عليها: في الآية (3) إشارة إلى تكريم الرب الأكرم لجميع مخلوقاته بمن فيهم الإنسان.
096.7.3.1.1.3- نعمة الهداية بالوحي والرسالات والمرسلين والكتب: في الآية (4) تعليم الإنسان بالقلم: علمه الأسماء كلها في بداية الخلق، وأخيراً القرآن، الآية (5) تعليم الإنسان مالم يعلم: من علوم قديمة عن بدئ الخلق وأخبار الأمم وعلوم في المستقبل عن الموت وأشراط الساعة وعن البعث والحساب والجنة والنار في اليوم الآخر. وكلها علوم الحق والهدى والصراط المستقيم التي فيها سعادة البشرية، والتي يتوجب أن يكون كل إنسان في غاية الشوق والتحفّز إلى أن يقرأها ويجلس إلى مجالس علومها.
وقد تكفل الله تعالى بكل شيء: بتعليم الإنسان فهو {الَّذِي عَلَّمَ}، وتكفّل أيضاً الرب {الأَكْرَمُ} برزقه وتسخير السماوات والأرض له، وإمداده بما لا يحصى من النعم، وذلك من أجل مقصد واحد لا غير، علّمه الله إياه، وهو أن يعمر الأرض ويحافظ عليها بالأعمال الصالحة ويعبد ربه على عِلم، فيفوز في الدنيا والآخرة.
096.7.3.1.2- الآيات (6-8) لكن لسوء الحظ، ففي مقابل هذا الخلق الفريد المعجز والتعليم اللامحدود والتكريم العظيم، قد أهمل الإنسان القراءة وطلب العلم، وترك العمل الصالح، وانشغل بدلاً منه بالطغيان مستخدماً ما حباه الله به من المعرفة بالفطرة والتعلم بالتجربة وأغناه به من المال والأنعام والأولاد. ولسوء حظ هذا الطاغية الذي استغنى أنه راجع إلى الله يوم القيامة لكي يحاسبه على الأمانة التي احتملها، وذلك بأنه كان خليفة الله في الأرض، فهو تهديد ووعيد فيجازى ويعاقب بعمله وطغيانه، وهو أيضاً بشارة ووعد للمؤمن الذي أطاع الله فيجازى ويثاب بعمله وإصلاحه.
تدل هذه الآيات على خطورة الغنى على حياة وأخلاق الإنسان، فالغنى يفسد أخلاقه، وينقله من مصاف الذين يصلحون في الأرض ويعمرونها ويحافظون عليها، وتحمله الى مصاف المفسدين المستهلكين المدمرين، وذلك بممارسة الطغيان والظلم والتسلط على الفقراء، وبمنعهم من حقهم في الحرية والنعيم وصدهم عن عبادة ربهم، كما سيبينه المثال في الآيات التالية.
096.7.3.1.3- الآية (19) خلاصة السورة هو بالأمر بالسجود والاقتراب من الله، والنهي عن طاعة من يدعو إلى غير ذلك: كلا لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وصلّ حيث شئت فإن الله حافظك وناصرك وهو يعصمك من الناس، واسجد واقترب. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه وَهُوَ سَاجِد فَأَكْثِرُوا الدُّعَاء”.
096.7.3.2- الآيات (9-18) ما بين بداية السورة وختامها مثال حقيقي يبين كيف يطغى الإنسان بنعمة ربه ويعرض عن أمره له بالعلم والعبادة (أو العلم والعمل): فهذه الآيات نزلت لتحكي أحداث قصّة حقيقية عن طاغية حارب ظلماً وطغياناً عبداً كريماً مستغرقاً بعبادة ربه ويدعو الناس لعبادته، حصلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان فرعون هذه الأمة (ابو جهل) يتوعده ويتهدده، وينهاه عن الصلاة، انتصارا للأوثان والأصنام. وفي المثال تقبيح وتشنيع لحال ذلك الطاغية (وكل الطغاة من أمثاله) وتعجيب منها ومن غرابتها، كما يلي:
096.7.3.2.1- الآيات (9، 10) أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى: أين عقله هذا الناهي لا عقل له: وما أسخف فعله يطغى بالغنى والكبر فينهى عبداً من عبيد الله عن صلاته، خصوصاً وهو في حالة أدائها، وما أبشع فعله.
كلمة أرأيت: تستعمل بمعنى أخبرني، لكنها هنا يقصد بها إنكار المستخبر عنه وتقبيحه.
096.7.3.2.2- الآيات (11-18) فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الهدى والصراط المستقيم في فعله؛ أو أمر بالتقوى بقوله وأنت تزجره وتتوعده على صلاته. أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه وسيجازيه على فعله أتمّ الجزاء. وقال تعالى متوعداً ومتهدداً لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد لنسفعاً بناصيته يوم القيامة. ناصية كاذبة في مقالها خاطئة في أفعالها. فليدع نادية كناية عن قومه وعشيرته يستنصر بهم. سندع الزبانية وهم ملائكة العذاب حتى يعلم من يغلب أحزبنا أم حزبه؟
بعض المفسرين رأوا أن خطاب الهدى والتقوى المقصود به الطاغية: أي: أخبرني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهدى وعلى صراط الحق، أو أمر بالتقوى مكان نهيه عن الصلاة، أفما كان ذلك خيراً له وأفضل؟ ونبئني عن حاله إن كذب بما جاء به النبيون، وتولى عن العمل الصالح، أفلا يخشى أن يصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله؟ أجهِل أن الله يطلع على أمره؟ فإن كان تقياً على الهدى أحسن جزاءه، وإن كذب وتولى لم يفلت من عقوبته. ثم تهديد لئن لم يرتدع عن هذا الطغيان، وعن النهي عن الصلاة، وعن التكذيب والتولي، لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار. والأخذ بالناصية هنا مَثَلٌ في القهر والإذلال والتعذيب والنكال. فليدع أهل مجلسه، ليمنع المصلين ويؤذي أهل الحق الصادقين، اتكالاً على قوتهم وغفلة عن قهر الحق وسخطه. والنادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون. سندع زبانية العذاب من جنوده تعالى فيهلكونه في الدنيا، أو يردونه في النار في الآخرة وهو صاغر.
096.7.4- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
096.7.4.1- آيات القصص: (9-14) = 6 آيات.
096.7.4.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (15-18) = 4 آيات.
096.7.4.3- آيات الله في السماوات والأرض: (2، 4، 5) = 3 آيات.
096.7.4.4- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1، 3، 6-8، 19) = 6 آيات.
096.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
096.8.0- ولمّا بدأت بالأمر بالقراءة فانتقل الإنسان من ظلمة الجهل إلى نور العلم والهدى، فبلغ بعلمه مبلغاً لم يبلغهُ سواه، ولمّا أعلمت بالحجّة والدليل أنه مكرّم ومبتلى بالنعمة ومحاسب عليها في إنذار وتهديد لمن يرى نفسه مستغنياً بالنعمة عن المُنعم ومستعيناً بها على الطغيان والمعصية، فقد ختمت بالأمر بالسجود والاقتراب من الخالق الرب الأكرم، وتناسب البدء بالعلم مع الختام بالعمل. وقد تقدم على نفس السياق حول الإنعام والطغيان والإنذار في سورة التين {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)}، أي فكيف تكذّبون بالحساب، وقد علمتم أن ربّكم وهو {أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)}، قد خلقكم في أحسن تقويم. وأوضحت كذلك السورتان قبلها ما ابتدأه تعالى وأعطاهم من عظيم الآلاء والنعم، ففي الضحى: الإيواء والهدى والغنى، وفي الشرح: شرح الصدر وغفران الذنوب ورفع الذكر. وقد أعقبها على نفس السياق في القدر: الإشارة إلى عظيم فضل القرآن وعلوّ قدره، أنزله تعالى في ليلة سلام مباركة هي خير من ألف شهر، ثمّ في البيّنة: الأمر بالعبادة وتأكيد أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير ما برأ الله والذين كفروا هم شرّ ما برأ الله. وتناسب بذلك الأمر باتباع الهدى الذي في القرآن في سورة القدر مع العمل به وثمرته في سورة البينة وكذلك مع البدء والختام في سورة العلق.
096.8.1- تناسبها مع سور الضحى والشرح والتين: ذُكر في سورة الضحى أنه قد شاء الله أن يبدأ محمد صلى الله عليه وسلم حياته على الأرض يتيماً وضالاً وعائلاً، ثمّ بعد ذلك آواه وهداه وأغناه وشرح له صدره وحطّ عنه وزره ورفع له ذكره. وفي سورة الشرح أنه شرح صدره، ورفع له ذكره. وفي موازات ذلك ذكرت سورة التين أن الله خلق الإنسان (والرسل) في أحسن تقويم، إلا أن مشيئته اقتضت أن يبدأ حياته في هذه الدنيا من أسفل سافلين، فيعلي من يشاء ويسفل من يشاء عن طريق الإيمان والعمل {الذين آمنوا وعملوا الصالحات (6)} التين. وفي العلق علّمه بِ {اقرأ} وأكرمه حتى أغناه {أن رآه استغنى} وجعل له نادياً {فليدع ناديه}؛ فابتدأت بالأمر بالعلم لمعرفة الخالق، والتعريف بأن خالقه هو الأكرم، وأنه سيغنيه، وأن المصير بالرجوع إليه، وبالتعلم تمت التربية على العبادة والعمل والتقرب من الله للوصول إلى أعلى عليين.
096.8.2- وقال الإمام جلال الدين السيوطي: لما تقدم في سورة التين بيان خلق الإنسان في أحسن تقويم بين هنا أنه تعالى: {خَلقَ الإِنسانَ مِن عَلق} وذلك ظاهر الاتصال فالأول بيان العلة الصورية وهذا بيان العلة المادية.
096.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فما يكذبك بعد بالدين (7) أليس الله بأحكم الحاكمين (8)} التين، وكان معنى ذلك: أيّ شيء حمل على هذا بعد وضوح الأمر لك وبيانه وقد نزهه سبحانه وتعالى عن التكذيب بالحساب وأعلى قدره عن ذلك، ولكن سبيل مثل هذا إذا ورد كسبيل قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك (65)} الزمر، وبابه، وحكم هذا القبيل واضح في حق من تعدى إليه الخطاب وقصد بالحقيقة به من أمته صلى الله عليه وسلم من حيث عدم عصمتهم وإمكان تطرق الشكوك والشبهة إليهم، فتقدير الكلام: أيّ شيء يمكن فيه أن يحملكم على التوقف أو التكذيب بأمر الحساب، وقد وضح لكم ما يرفع الريب ويزيل الإشكال، ألم تعلموا أن ربكم {أحكم الحاكمين (8)} التين؟ أفيليق به وهو العليم الخبير أن يجعل اختلاف أحوالكم في الشكوك بعد خلقكم في أحسن تقويم؟ أفيحسن أن يفعل ذلك عبثاً؟ وقد قال تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما باطلاً (27)} ص، ولكن قراءتنا {وما خلقنا السماء} لا بالجمع، فلما قرر سبحانه العبيد على أنه أحكم الحاكمين مع ما تقدم ذلك من موجب نفي الاسترابة في نوع الحق إذا اعتبر ونظر، ووقعت في الترتيب سورة العلق مشيرة إلى ما به يقع الشفاء، ومنه يعلم الابتداء والانتهاء، وهو كتابه المبين، الذي جعله الله تعالى {تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)} النحل، فأمر بقراءته ليتدبروا آياته فقال {اقرأ باسم ربك (1)} مستعيناً به فسوف يتضح سبيلك وينتهج دليلك {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً (1)} الفرقان، وأيضاً فإنه تعالى أعلم عباده بخلقه الإنسان في أحسن تقويم {ثم رددناه أسفل سافلين (5)} التين، وحصل منه على ما قدم بيانه افتراق الطرفين وتباين القائلين، كل ذلك بسابق حكمته وإرادته {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها (13)} السجدة، وقد بين سبحانه لنا أقصى غاية ينالها أكرم خلقه وأجل عباده لديه من الصنف الإنساني، وذلك فيما أوضحت السورتان قبل من حال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وجليل وعده الكريم له في قوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى (5)} الضحى، وفضل حال ابتداء {ألم نشرح} على تقدم سؤال {رب اشرح (25)} طه، إلى ما أشارت إليه آي السورتين من خصائصه الجليلة، وذلك أعلى مقام يناله أحد ممن ذكر، فوقع تعقيب ذلك بسورة تضمنت الإشارة إلى حال من جعل في الظرف الآخر من الجنس الإنساني، وذلك حال من أشير إليه من لدن قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى (9) عبداً إذا صلى (10)} إلى قوله {كلا لا تطعه (19)}، ليظهر تفاوت المنزلتين وتباين ما بين الحالتين، وهي العادة المطردة في الكتب، ولم يقع صريح التعريف هنا كما وقع في الظرف الآخرة ليطابق المقصود، ولعل بعض من لم يتفطن يعترض هنا بأن هذه السورة من أول ما أنزل فكيف يستقيم مرادك من ادعاء ترتيبها على ما تأخر عنها نزولاً، فنقول له: وأين غاب اعتراضك في عدة سور مما تقدم بل في معظم ذلك، وإلا فليست سورة البقرة من المدني، ومقتضى تأليفنا هذا بناء ما بعدها من السور على الترتيب الحاصل في مصحف الجماعة إنما هو عليها وفيها بعد من المكي ما لا يحصى، فإنما غاب عنك نسيان ما قدمناه في الخطبة من أن ترتيب السور ما هي عليه راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام أكان ذلك بتوقيف منه أو باجتهاد الصحابة رضى الله عنهم على ما قدمناه، فارجع بصرك، وأعد في الخطبة نظرك، والله يوفقنا إلى اعتبار بيناته وتدبر آياته، ويحملنا في ذلك على ما يقربنا إليه بمنه وفضله- انتهى.
– راجع سورة البينة (098.8.5): تناسب الأعلى حتى البينة (اثنتا عشرة سورة). حول موضوع أمر الإنسان بالقيام بواجبه وما فيه مصلحته وبما يحقق له السعادة والفوز.