العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


044.0 سورة الدّخان


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


044.1 التعريف بالسورة:

1) مكية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 59 آية. 4) الرابعة والأربعون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والسابعة والستون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “الزخرف”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

{الله} 3 مرات، رب 9 مرات، هو 3 مرات، خَلَق 2 مرّة؛ (1 مرة): العزيز، الرحيم، السميع، العليم، يحيي، يميت، منتقم، يورث، وقاهم، فضّل، أنعم، أنذر، أنزل، بلاء، فتن، لا إله إلا هو. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: يغلي 2 مرّة؛ (1 مرة): دخان هي والزخرف، عائدون، اعتلوه، رهواً.

أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: فارتقب 3 مرات.

تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (5 مرات): مبين، إنّا؛ (4 مرات): يوم، السماء؛ (3 مرات): الأرض، رسول، موت؛ (2 مرة): جنات، يلعبون، بطشة، خلقنا، ليل، عباد، جحيم، مولى، رحمة، مجرمون، اكشف؛ (1 مرّة): منذرين، مجنون، يفرق، فتنّا، بلاء، مهل، منظرين، حق، ميقات، سواء، يحيي، موقنين، بكت.

044.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

أخرج الطبراني في الأوسط عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المنافق لا يحفظ سورة هود وبراءة ويس والدخان وعمّ يتساءلون”.

أخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه وسلم: “من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له”.

أخرج الطبراني، عن ابن مسعود قال: لقد علمت النظائر التي كان يصلّي بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذاريات والطور والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزّمل ولا اقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان.

وأخرج الطبراني، عن ابن مسعود قال: لأني لأحفظ القرائن التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهن، ثمان عشرة من المفصل وسورتين من آل حم.

انظر فضائلها وما ورد عنها من الأثر في سورة غافر (040.2).

044.3 وقت ومناسبة نزولها:

لا يمكن التعرّف على وقت نزولها بالاعتماد على الأحاديث النبويّة الشريفة، إلا أنه بدراسة موضوع السورة يتبين لنا بأنها نزلت في نفس الفترة الزمنيّة التي نزلت فيها سور الزخرف وبعض السور الأخرى التي سبقتها، إلا أن هذه السورة نزلت متأخرة عنها بعض الشيء. والخلفية التاريخيّة لها هي في الحديث التالي:

أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل، عن مسروق عن عبد الله قال سأحدثكم عن الدخان: إن قريشاً لمّا استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الإسلام قال: “اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف”، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11)} فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل يا رسول الله: استسق الله لمضر، فاستسقى لهم فسقوا، فأنزل الله {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون (15)} أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلمّا أصابتهم الرفاهيّة عادوا إلى حالهم. فأنزل الله {يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون (16)} فانتقم الله منهم يوم بدر، فقد مضى البطشة والدخان واللزام.

وقيل لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما في حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم ” لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس – أو تحشر الناس – تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا ” تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: “إني خبأت لك خبيئا” قال هو الدخ فقال صلى الله عليه وسلم له “اخسأ فلن تعدو قدرك” قال وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان وهم يقرظون العبارة ولهذا قال هو الدخ يعني الدخان فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلى الله عليه وسلم: “اخسأ فلن تعدو قدرك”

وفيه دلالة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ويتماشى مع ظاهر القرآن {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10)} أي بين واضح يراه كل أحد وليس خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد.

راجع ما قاله الإمام جلال الدين السيوطي في سورة غافر (040.8.1). أنظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.

044.4 مقصد السورة:

044.4.1- ملخص المقصد: هو كتاب مبين فيه إنذار من عذاب ينتظرهم إن لم يؤمنوا، ورحمة وخير كثير لمن أراد الفوز والنجاة من العذاب.

بيان مصير الإنسان وإنذاره بالعذاب الأليم لمن لا يؤمن، والفوز بالنعيم للمؤمنين بالله وحده رب العالمين. لهذا السبب كانت تلك الليلة التي نزل فيها الكتاب مباركة لاحتوائها على ذلك الإنذار الشديد، وأنها اختبار لعمل الإنسان، نتيجته إما الفوز أو الخسارة في الدارين.

044.4.2- وبمعنى آخر: عظيم رحمة الله بإنزال الكتاب المبين وإرسال المرسلين، يدعوهم إليه بأنه الله وحده الرب المستحق للعبادة، وينذرهم بالعذاب الأليم الذي ينتظرهم بسبب شكهم ولعبهم، وعدم إيمانهم بما في القرآن الكريم من الحق والبشارة بالخير لهم في الدارين.

044.4.3- مقصدها نجده في الآيات الأولى (1-6) فقد أقسم تعالى بالقرآن المبين الواضح فيه الحلال من الحرام، أنزله في ليلة مباركة كثيرة الخيرات، فيها يفرق كل أمر محكم، لينذر الناس بما ينفعهم ويضرهم، وليبين لهم وينذرهم ويذكرهم بطاعة الله والتزام فطرته وقوانينه. أنزله رحمة بهم لحاجتهم إليه لعلهم يتعظون وينزجرون فيفوزون بالجنة وينجون من العذاب الأليم الذي ينتظرهم لو استمرّوا في شكهم، كما أشارت إليه الآيات (9-16).

044.4.4- وقال البقاعي: مقصودها الإنذار من الهلكة لمن لم يقبل ما في الذكر الكريم الحكيم من الخير والبركة رحمة جعلها بين عامة خلقه مشتركة، وعلى ذلك دلّ اسمها الدخان إذا تؤملت آياته.

044.5 ملخص موضوع السورة:

هي الخامسة في الحواميم “لباب القرآن” كما في الأثر، نزلت بالتتابع بعد سورة الزخرف وترتيبها في القرآن هو نفسه حسب الترتيب الزمني لها، وقد استهلت بالقسم بالكتاب المبين، ولا يقسم العظيم إلّا بعظيم. وفيها إنذار من عذاب ينتظر الناس إن لم يؤمنوا، ورحمة وخير كثير لمن أراد الفوز والنجاة، وتختم بعد البيان والإنذار بوعيد وتهديد: {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}، وقبلها {فَارْتَقِبْ … (10)}، فهي أكثر سورة تكررت فيها كلمة الترقّب بعدد (3 مرّات)، فالمسألة مسألة وقت يُرتقب. فيها نبأ عظيم توعّدت به وبيّنته ثلاث مرّات في ثلاث مجموعات من الآيات هي: مقدّمة (الآيات 1-16) تنذر بنهاية الدنيا التي خلقت لابتلاء الناس بالإيمان بالله وطاعته، يتبعها البعث والحساب، والجزاء على الأعمال؛ ثم (الآيات 17-37) قصص تبين بالدليل عاقبة أقوام جاءهم النذير المبين بالحساب والجزاء على أعمالهم في الدنيا الفانية في الآخرة الباقية؛ ثم (الآيات 38-59) النهاية والمصير النهائي المرتقب يوم القيامة للفصل والقضاء بين الخلق بما قدَّموا في دنياهم، فيكون جزاؤهم إما الجنة وإما النار، كما يلي:

المجموعة الأولى (16 آية) تضمنت أربع موضوعات وهي: (الآيات 1-6) تشير إلى عظيم رحمة الله بهم بإنزال الكتاب بالبيان وإرسال المرسلين، ثم (الآيات 7، 8) يصف تعالى ذاته بأنه الله وحده الرب المستحق للعبادة، ثم (الآية 9) أشارت إلى أن الناس في شك يلعبون، ثم (الآيات 10-16) تبيّن العذاب الأليم الذي ينتظرهم بسبب شكّهم ولعبهم.

المجموعة الثانية (21 آية) فيها تأكيد لما تقدّم بالقصص: (الآيات 17-21) تشير إلى عظيم رحمة الله لهم بالإنذار والمبالغة بالبيان وإرسال المرسلين، ثم (الآية 22) أنهم مجرمون، ثم (الآيات 23-29) العذاب الأليم الذي حاق بقوم فرعون بسبب إجرامهم، وتركهم طعامهم وشرابهم وأمانهم ونعيمهم لغيرهم؛ (الآيات 30-33) ونجاة بني إسرائيل من العذاب المهين؛ (الآيات 34-36) والمشركون يكذبون بالبعث والنشور؛ (الآية 37) كذلك هلاك قوم تبّع والذين من قبلهم بسبب إجرامهم.

المجموعة الثالثة (22 آية) خاتمة توضّح وتؤكد ما ذكر في المجموعتين السابقتين عن أن الله خلق الحياة بالحق وأن مقصد وجود الإنسان وهو الابتلاء بالإيمان بالله وحده، وليس اللعب كما يظنون، وأنه جعل يوماً للفصل والقضاء بين الخلق بما قدَّموا في دنياهم، فيكون مصيرهم إما الجنة والنعيم وإما النار والجحيم، فليرتقبوا يوم الفصل الذي أنذروا به، فهو قادم لا محالة {فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}.

اللهم علّمنا القرآن وارزقنا تدبّره والعمل بما فيه واجعلنا من أهله.

044.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

باعتبار ترتيب آيات السورة نجد أنها احتوت على ثلاثة مجموعات من الآيات: ابتدأت بمقدّمة تبين مقصود السورة وهو: الإنذار بنهاية الدنيا التي خلقت من أجل ابتلاء الناس بالإيمان بالله وطاعته يتبعه، البعث وإعادة الجمع يوم القيامة للحساب على الأعمال؛ ثم موضوعين الأوّل هو عبارة عن قصص تبين بالدليل الحقيقي أن الله عاقب الناس على أعمالهم في الدنيا الفانية، بعد أن أنذرهم بأنهم محاسبون على أعمالهم في الآخرة الباقية؛ ثم خاتمة تبين المصير النهائي يوم القيامة وتطلب من الناس ترقب ذلك المصير في تلك النهاية التي أنذروا بها، وبأنها لا بد قادمة، كما يلي:

044.6.1- الآيات (1-16) مقدّمة تبين مقصود السورة وهو الإنذار بنهاية الدنيا التي خلقت لابتلاء الناس بالإيمان بالله وطاعته وبالبعث وإعادة الجمع يوم القيامة للحساب على الأعمال: 16 آية = 27.12%

الآيات (1-16) احتوت على كل موضوعات السورة: الآيات الأولى (1-6) تشير إلى عظيم رحمة الله لهم بإنزال الكتاب والمبالغة بالبيان وإرسال المرسلين، ثم آيتين (7، 8) يصف تعالى ذاته بأنه الله وحده الرب المستحق للعبادة، ثم آية واحدة (9) أشارت إلى أن الناس وبكل (بساطة) في شك يلعبون، ثم سبع آيات (10-16) تبين العذاب الأليم الذي ينتظرهم بسبب شكهم ولعبهم:

أنزل الله القرآن لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، في ليلة مباركة، بين فيه مقصد خلق الحياة والموت ومقصد وجود الإنسان وهو الابتلاء بالإيمان بالله وحده وكتبه ورسله واليوم الآخر والعمل في طاعته وعبادته. بينه الله لهم في القرآن وبالرسول وأنذرهم بأنهم مقبلون على يوم يحاسبون فيه على أعمالهم. لكنهم كذبوا، حتى إذا ما جاءهم العذاب آمنوا فلم يقبل منهم. وهذه هي قصة الإنسان عبر القرون كما ستؤكده القصة التي تلي عن قوم فرعون.

الآيات (1-6) أقسم تعالى بالقرآن وأثنى عليه، ففيه للناس الخير كلّه، قرآن مبين يبشر بالسعادة ويحذر من الشقاء في الدارين الدنيا والآخرة، أصله عند الله (في اللوح المحفوظ)، أمر بإنزاله (في ليلة مباركة كثيرة الخيرات) رحمة منه لينذر الناس بما ينفعهم ويضرهم فهو السميع العليم. وهو رب كل شيء ليعبدوه.

الآيات (7، 8) إن كنتم موقنين بأن الله رب السماوات والأرض وما بينهما فأيقنوا أنه لا إله يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له، يحيي ويميت، ربكم ورب آبائكم الأولين.

الآية (9) بل هؤلاء المشركون في شك من الحق، فهم يلهون ويلعبون، ولا يصدقون به.

الآيات (10-16) جعل الله لكل شيء في الدنيا وقت وميعاد محدد إذا جاء لا يقدّم ولا يؤخر، فليرتقبوا موعدين في يومين أليمين هما: يوم تأتي السماء بدخان، ويوم البطشة الكبرى.

فانتظر يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يعمُّ الناس، في عذاب مؤلم موجع، فيقولون: ربنا اكشف عنا العذاب، فإن كشفته عنا فإنا مؤمنون بك. كيف لهم بالتذكر والاتعاظ وقد جاءهم رسول بين الرسالة والنذارة. ثم أعرضوا عنه وقالوا علَّمه بشر ثم هو مجنون وليس برسول.

سنرفع عنكم العذاب قليلا، وسترون أنكم تعودون إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلال والتكذيب، وأننا سنعاقبكم على ذلك. يوم نأخذكم بقوّة وهو يوم انتقامنا منكم.

قوله تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون} يحتمل معنيين: أحدهما: أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب. والثاني: أن يكون المراد إنا مؤخروا العذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه.

044.6.2- الآيات (17- 37) قصص تبين بالدليل الحقيقي كيف أن الله يعاقب الناس على أعمالهم في الدنيا الفانية، وينذرهم بأنهم محاسبون على أعمالهم في الآخرة الباقية، وذلك بالحديث عن إرسال الرسالة إلى قوم فرعون وقوم تبّع والذين من قبلهم: 21 آية = 35.59%

توضح القصص هنا نفس ما ذكر في الآيات السابقة عن الحياة والموت وعن مقصد وجود الإنسان وهو الابتلاء بالإيمان بالله وحده وكتبه ورسله واليوم الآخر والعمل في طاعته وعبادته، بينه الله لهم عن طريق الرسل والآيات، وأنذرهم بأنهم محاسبون على أعمالهم. لكنهم كذبوا حتى إذا ما جاءهم العذاب آمنوا فلم يقبل منهم. أما بني اسرائيل فلأنهم آمنوا فقد نجاهم من العذاب المهين. وهذه سنة الله ماضية في كل الامم، وقد أهلكت قبلهم المجرمين الذين كفروا بالبعث من قوم تبّع والذين من قبلهم.

الآيات (17-21) تشير إلى عظيم رحمة الله لهم بإلانذار والمبالغة بالبيان وإرسال المرسلين، ثم آية واحدة (22) أشارت إلى أنهم مجرمون، ثم سبع آيات (23-29) تبين العذاب الأليم الذي حاق بقوم فرعون بسبب إجرامهم، (30-33) ونجاة بني إسرائيل العذاب المهين؛ (الآيات 34-36) والمشركون يكذبون بالبعث والنشور.

الآية (37) كذلك هلاك قوم تبّع والذين من قبلهم بسبب إجرامهم.

ولقد اختبرنا قبلهم قوم فرعون، وجاءهم رسول كريم. أن أظهروا إيمانكم لي يا عباد الله إني لكم رسول أمين على ما أرسلت به. وألا تتكبروا على الله، إني آتيكم ببرهان واضح على صدق رسالتي، إني استجرت بالله ربي وربكم أن ترجموني، وإن لم تصدقوني على ما جئتكم به فخلُّوا سبيلي، وكفُّوا عن أذاي. فدعا موسى ربه حين كذبوه قائلا إن هؤلاء قوم مجرمون.

فأجابه ربه: فأسر بعبادي الذين صدقوك وآمنوا بك ليلا إنكم متبعون. واترك البحر كما هو على حالته التي كان عليها حين سلكته، إن فرعون وجنوده مغرقون في البحر. كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومنازل جميلة، وعيشة كانوا فيها متنعمين مترفين. كذلك يفعل الله فيمن عصاه، وأورثنا تلك النعم قوماً آخرين. فما بكت السماء والأرض حزناً عليهم وما كانوا مؤخَّرين عن العقوبة التي حلَّت بهم.

ولقد نجَّينا بني إسرائيل من العذاب المُهين، من فرعون، إنه كان مسرفاً في العلو والتكبر على عباد الله. ولقد اصطفينا بني إسرائيل على عِلْم منا بهم على عالمي زمانهم. وآتيناهم من المعجزات على يد موسى ما فيه اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به رخاء وشدة.

إن هؤلاء المشركين في إنكارهم البعث والمعاد ليقولون: ما هي إلا موتتنا التي نموتها، وهي الموتة الأولى والأخيرة، وما نحن بعد مماتنا بمبعوثين للحساب والثواب والعقاب. وإن كنتم صادقين في أن الله يبعث مَن في القبور أحياء فأتوا بآبائنا الذين قد ماتوا.

أهؤلاء المشركون خير أم قوم تُبَّع الحِمْيَري والذين مِن قبلهم من الأمم الكافرة بربها؟ أهلكناهم لإجرامهم وكفرهم، ليس هؤلاء المشركون بخير مِن أولئكم فنصفح عنهم، ولا نهلكهم، وهم بالله كافرون.

044.6.3- الآيات (38-59) ثم خاتمة تبين المصير النهائي يوم القيامة وتطلب من الناس ترقب تلك النهاية التي أنذروا بها، وبأنها لا بد قادمة، وذلك بالحديث عن أن هذه الحياة لم تخلق عبث، بل هي مدّة محددة من الزمن، وأن لهذه الحياة غرض وهو طاعة الله مختارين ثم الحساب والجزاء، وهي ليست لعب كما يظنون: 22 آية = 37.29%

إذن تعود هذه الآيات فتوضح ما ذكر في المجموعتين السابقتين من الآيات عن أن الله خلق الحياة بالحق وأن مقصد وجود الإنسان وهو الابتلاء بالإيمان بالله وحده، وليس اللعب كما يظنون، وأنه جعل يوماً للفصل والقضاء بين الخلق بما قدَّموا في دنياهم، فيكون مصيرهم إما الجنة وإما الجحيم.

أي خلق الناس بالحق ليبلوهم في أعمالهم، ثم يأتي يوم الفصل ليفصل بينهم إلى فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير:

وما خلقنا السماوات والأرض وبينهما لعباً، ما خلقناهما إلا بالحق الذي هو سنة الله في خَلْقِه وتدبيرُه، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك، فلهذا لم يتفكروا فيهما، لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً.

إن يوم القضاء بين الخلق بما قدَّموا في دنياهم هو ميقاتهم أجمعين. يوم لا يدفع مولى عن مولى بقرابة أو صداقة عن صاحبه شيئاً، ولا ينصر بعضهم بعضاً، إلا مَن رحم الله إنه هو العزيز في انتقامه الرحيم بأوليائه.

إن شجرة الزقوم طعام أصحاب الآثام الكبيرة. كعكر الزيت يغلي في بطونهم، كغلي الماء الشديد الحرارة. خذوا الأثيم فاعتلوه إلى وسط النار، ثم صبُّوا فوق رأسه الماء الحار، فلا يفارقه العذاب. ذق العذاب {إنك أنت العزيز الكريم} على وجه التهكم والتوبيخ. إن هذا هو العذاب الذي كنتم فيه تشكُّون.

لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني فقال: إن المتقين مكان أمين لا خوف فيه وهو الجنة، في جنات وعيون، وهذا في مقابل شجرة الزقوم وشرب الحميم في النار. يَلْبَسون ما رَقَّ من الديباج وما غَلُظَ منه، يقابل بعضهم بعضاً. وزوَّجناهم بالحسان من النساء واسعات الأعين جميلاتها. يطلبون من كل الفواكه آمنين من انقطاعه.

لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا، ووقاهم عذاب الجحيم، تفضلا وإحساناً منه سبحانه وتعالى، هذا الذي أعطاهم في الآخرة من الكرامات هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده. فإنما سهَّلنا لفظ القرآن ومعناه بلغتك أيها الرسول، لعلهم يتعظون وينزجرون. فانتظر ما وعدتك من النصر على هؤلاء المشركين بالله، وما يحلُّ بهم من العقاب، إنهم منتظرون موتك وقهرك، سيعلمون لمن تكون النصرة والظَّفَر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة، إنها لك ولمن اتبعك من المؤمنين.

044.7 الشكل العام وسياق السورة:

044.7.1- سميت “سورة الدخان” لأن الله تعالى جعله آية لتخويف الكفار، فقد يكون ما أصاب كفار قريش حين امتنعوا من الإيمان واستكبروا على الحق فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله عليهم الجوع العظيم حتى أكلوا الميتات والعظام وصاروا يرون الذي بين السماء والأرض كهيئة الدخان وليس به، وذلك من شدّة الجوع. والدخان أحد علامات يوم القيامة.

044.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها والقصص الموجودة فيها:

معظم آيات السورة تتحدّث عن موضوعين رئيسيين هما الإنذار بالقرآن ثم بيان مصير الناس النهائي في الدنيا وفي الآخرة، وموضوعين فرعيين هما وصف الله لنفسه بأنه الرب المطاع المستحق العبادة، يقابله لعب الناس وفهمهم الخاطئ لمقصد وجودهم.

يمكن تقسيم السورة باعتبار موضوعات آياتها والقصص الموجودة فيها إلى أربعة مجموعات من الآيات كما يلي:

044.7.2.1- الآيات (1-6، 58، 59) بينت مقصد السورة: القرآن كتاب مبين مظهر الحلال من الحرام فيه إنذار من رب العالمين وتخويف بالعقاب لمن يخرج عن أمره وطاعته أرسله رحمة بهم إنه هو “السميع” لأقوالهم “العليم” بأفعالهم، جعل لهم يوم يحاسبون فيه فليرتقبوا قدوم ذلك اليوم الذي يجمعهم فيه وهو يوم القيامة. 8 آيات = 13.56%

044.7.2.2- الآيات (7، 8، 38، 39) مقصد الحياة ووجود الإنسان: يصف الله ذاته بأنه لا إله إلا هو، رب السماوات والأرض وما بينهما، هو الذي خلق الناس وهو الذي يحييهم ويميتهم بالحق لا لكي ويلعبوا، بل لأمر ودور عظيم أراده لهم. 4 آيات = 6.78%

044.7.2.3- الآيات (9، 34-36) فهم الناس الخاطئ لمقصد حياتهم ووجودهم: الناس يلعبون حتى لا يفوتهم حظهم من التمتّع بالدنيا. لأنهم يشكون بأن تكون حياة أخرى بعد الموت، يقولون ماهي إلا موتة واحدة ولا نشور بعدها، ويحتجون أنه لا أحد يستطيع أن يعيد آبائهم الذين ماتوا. 4 آيات = 6.78%

044.7.2.4- الآيات (10-33، 37، 40-57) قريب من ثلثي السورة يركز على بيان نتيجة حياة ووجود الإنسان على الأرض ومصيره بعد الموت. 43 آية = 72.88%

044.7.2.4.1- الآيات (10-16) المصير في الدنيا: تبدأ الآيات بِذكر يوم يأتيهم فيه عذاب أليم بسبب شكهم ولعبهم {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} في ذلك اليوم يطلبون كشف العذاب لكي يؤمنوا. يخبر تعالى مذكراً بحالهم حين جاءهم رسول يبين لهم وينذرهم فلم يؤمنوا، وهو أعلم بهم حين أعرضوا عنه وقالوا علَّمه بشر ثم هو مجنون وليس برسول. ثم يذكر يوم آخر هو يوم {البطشة الكبرى} يأتي بعد أن تقوم عليهم الحجة ويستنفذوا كل ما في جعبتهم من المكر والخداع والتشكيك والتعالي على الحق والمرسلين، عندما يأتي يوم البطشة، فلا رجوع إلى الوراء، لأنهم سيعودون إلى الشك واللعب كما فعلوه أول مرة.

تبين هذه الآيات والتي ستأتي بعدها )عن مصير قوم فرعون ومن كان قبلهم)، ثم الآيات التي تتحدث عن مصير الناس يوم القيامة، أن الله خلق الإنسان لأمر عظيم وجعل له أجل (أمد) محدد، وأقدار مقررة مسبقاً، وطرق مرسومة بدقة يجتازها الإنسان، فتصل به إلى نهايات معلومة في مكانها وزمانها وتفاصيلها هداه الله إلى معرفتها وأنذره رحمة به من نتائجها في الدنيا وفي الآخرة عن طريق الكتاب المبين وإرسال المرسلين كما صرحت به بداية السورة. مما يعني أن مصير كل إنسان يأتي تبعاً لاختياره: إن هو آمن وسار على طريق الحق والصراط المستقيم فاز ووصل إلى نهاية سعيدة، وإن هو اتبع هواه وكفر وسار على طريق الضلال شقي وخسر ووصل إلى نهاية أليمة.

خطورة أمر الدنيا أنها خلقت لتكون دار ابتلاء، وجعل فيها الحياة والموت لغرض واحد محدد لا ثاني له وهو اختبار الإنسان لتحديد مصيره الخالد في الآخرة. خلق الله السماوات والأرض وما بينهما وكل هذا العالم العظيم والمعجز والمحسوس والمسخّر للإنسان (كما بينته الآيتين 12، 13 من سورة الجاثية التي تلي) وأنزل الكتب وأرسل الرسل لغرض واحد هو أن يهتدي الإنسان إلى صراط الله المستقيم باختياره فيفوز. لكن المصيبة العظيمة والطامّة الكبرى هي فيما يفعله أكثر الناس من الشك واللعب واتباع الهوى والضلال واتباع سبل الشيطان فيصير مصيرهم الهلاك والعذاب الخالد في الآخرة.

044.7.2.4.2- الآيات (17-33، 37) مصير الأمم السابقة في الدنيا:

تؤكد قصة فرعون أن الله لم يخلق الناس ليلعبوا، بل ليختبرهم ويبتليهم. فكان هذا زمان قوم فرعون، أرسل إليهم رسول ليهتدوا، فكذبوه فهلكوا. وهذه سنّة من سنن الله في الناس تنطبق على كل من لم يؤمنوا. أما بني اسرائيل فآمنوا ونجوا من الهلاك. كل أمة لها زمان ومكان ووقت مقدّر بدقة يختبر الله فيه إيمانها، يحين زمان الرسول يأتي قومه بالآيات والحجج والبراهين، فيؤمن القليل ويكذب الكثير، فيفصل الله بينهم بالحق كلّ بعمله. هذا ينطبق على قوم تبّع وعلى من سبقهم وعلى كل جيل من أجيال البشرية.

044.7.2.4.3- الآيات (40-57) المصير في الآخرة

هذه المرحلة من حياة الناس هي ما جاء الكتاب ليحذر منها. يأمرهم باتباع الحق والاستقامة عليه ليفوزوا، لأن عدم الاستقامة تعني الفساد والظلم في الدنيا والخسران في الدارين. تبدأ المرحلة بيوم الفصل، الذي جعل للقضاء بين العباد بما قدّموا في دنياهم من خير أو شر، كل إنسان مرهون بعمله، ولن ينفع أحد سوى ما قدم لنفسه في الدنيا، فلا يستوي في عدل الله المستقيم المحافظ على خَلق الله، مع الضال صاحب الآثام المفسد في أرض الله. فمن اتقى الله فآمن وعمل صالحاً جزاءه جنات وعيون جارية، ومن كفر فتعالى على عباد الله وظلمهم في الدنيا ففي العذاب في النار، يقال له توبيخاً له ذق العذاب، إنك أنت العزيز في قومك، الكريم عليهم.

044.7.3- سياق السورة باعتبار ذكر الليلة المباركة وتركيز السورة على عامل الزمن والمواعيد المحددة في عمر الكون:

الله رب السماوات والأرض وما بينهما لا إله إلا هو أنزل الكتاب رحمة لهذه الأمة في تلك الليلة المباركة، التي هي حقاً ليلة مباركة كثيرة الخيرات، فيها إنذار مبارك عظيم للناس بما ينفعهم ويضرهم، وهم في أمس الحاجة له، لأنهم لو اجتمعوا أولهم وآخرهم وإنسهم وجنّهم لكي يعلموا (وبدون عون الله) ما جاءهم به الكتاب من الإنذار ما استطاعوا. في تلك الليلة اختصر الكتاب نبأ مليارات السنوات من عمر الكون، وفيها أيضاً يفرق كل أمر حكيم، أمر من عند الله ورحمة منه هو السميع العليم. أنزل كتاباً يقيم به حجته على عباده بأنه لم يخلق هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه وما بينهما عبثاً، ولم يخلق الموت والحياة من أجل اللعب، بل خلقها بالحق وهو أنه رب كل شيء ومليكه، ومدبر أمره، لا شيء يخرج عن طاعته، بمن فيهم الناس.

بدون القرآن لا يمكن لعقل الإنسان أن يستوعب أن وجوده المؤقت على الأرض مقصود، وأن له وجود آخر لا موت فيه ولا نهاية له. وأنه الآن في مهمّة عظيمة وأن هذا الكون الهائل الذي خلقه الله لا لشيء إلا ليبتلي الإنسان ويختبره بالإيمان والطاعة (اختياراً لا جبراً)، لا أن يستقر فيه، تماماً كما أطاع والتزم الكون (لكن جبراً لا اختياراً). وأن الله جعل يوم الفصل ميقاتهم أجمعين، وأنهم عائدون إلى ربهم وأنهم مرتقبون. صحيح أنهم جزء صغير جدّاً من الكون لا يكاد يرى بالقياس مع زمان ومكان الكون، لكن الله جعل لهم دور عظيم خلقوا ليؤدّوه، يكاد يطغى في أهميته على أدوار كلّ ما سواه، وهو الطاعة والالتزام مختارين.

ذكرت السورة قصّة فرعون (الجاهل المجرم الذي) علا على الله واعتدى على رسله. ولأن عقل هذا الإنسان لم يستوعب حجم المكان والزمان الذي هو فيه قبل أن يتجرّأ ويتعالى على خالقه ورسله، فقد سار الزمان وتركه خلفه لم يحفل به ولم يمهله {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25)} … {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)}. لم يرى فرعون بما منحه الله من العقل والفكر كم هو واسع هذا الكون الذي يتعدى في سعته مدارك الإنسان، وكم هو سحيق في البعد هذا الزمان فلا يقاس بعمر الإنسان. ولم يعي أن إدراكه لشيء من الزمان لا يؤهله هو وغيره لأن يدّعوا أنه: إن هي إلا موتة واحدة، ويعميهم عن لا نهائية الزمن عند الله؟

إن حياة البشر على الأرض آلاف السنين، ولو حتى صارت ملايين السنين، لا تؤهلهم أن يدّعوا شيء من استيعاب بداياته ونهاياته فيقولوا {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)}، لذلك عليهم أن يتأدبوا ويتواضعوا أمام خلق الله، إذا ما قارنوا زمانهم ببلايين السنين الضوئيّة من عمر الكون. وإن سيطرتهم على الأرض أو على القمر أو حتى على كل المجموعة الشمسية لا تؤهلهم لأن يدّعوا شيء من الملك إذا ما قورنوا بمجرتهم التي احتوت بلايين الشموس ناهيك عن الكون الذي احتوى بلايين المجرات ناهيك عن عجزهم عن حتى مجرد إدراك حدود الكون الذي يزداد اتساعاً. بدون وحي من عند الله، لا يمكن أن يدرك هذا الإنسان الضعيف الجاهل أنه سيحاسب على أعماله وسيعاقب على معصيته، وأن الله وعده بالجنة. فلا يفرح بالدنيا التي حصل عليها وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

إذن فليهنأ العاصي بالحقير الذي أوتيه، وهذا هو اختياره لم يجبره عليه أحد، وليخسر الآخرة فقد زهد بها. الله تعالى أقام عليه في هذه السورة الحجّة وبين له المصير المنتهي في الدنيا والمصير اللانهائي في الآخرة، وهو مقصد السورة. كم هو جاهل ظالم هذا الذي اختار الدنيا التي سيتركها خلفه على الآخرة التي لن تتركه يتركها.

تبين السورة أن عامل الوقت مهم، ومحسوب عليهم، وأن عليهم أن يستغلوا من كل وقت ما خصص لأجله، فليلة نزول القرآن مباركة لأن فيها الخير الكثير بسبب نعمة القرآن، وإشارة إلى أن الرحمة استحقت في هذا الوقت. وكذلك الحياة والموت لها توقيتها، ويوم تأتي السماء بدخان مبين إشارة وقت العذاب إذا وقع فلا رجعة، ويوم البطشة، وغرق قوم، ووراثة غيرهم، ويوم الفصل، ويوم لا يغني، وارتقب. وكأن السورة تشير إلى أن عمر الناس هو زمن في اتجاه واحد لا يعود إلى الوراء.

وهذه بعض الإشارات في السورة وتركيزها على عامل الوقت الذي أتى ويأتي وسيأتي ثم يمضي فلا ينتظر ولا يعود: {أنزلناه في ليلة مباركة} {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} {جاءهم رسول} {يوم نبطش البطشة الكبرى} {ولقد فتنّا قبلهم} {فاسر بعبادي ليلاً} {مغرقون} {كم تركوا} {أورثناها قوماً} {وما كانوا منظرين} {ولقد نجينا} {الذين من قبلهم أهلكناهم} {ما خلقناهما إلا بالحق} {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} {يوم لا يغني} {لا يذوقون الموت إلا الموتة الأولى} {فارتقب إنهم مرتقبون}.

044.7.4- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

044.7.4.1- آيات القصص: (9، 17-37) = 22 آية.

044.7.4.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (10-16، 40-57) = 25 آية.

044.7.4.3- الأمثال في الآيات: (38، 39) = 2 آية.

044.7.4.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (7، 8) = 2 آية.

044.7.4.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-6، 58، 59) = 8 آيات.

044.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

044.8.0- وهكذا تتناسب الدخان مع الحواميم (المفتتحة جميعها بالكتاب والوحي) ومع ما قبلها وما بعدها في أن في القرآن بيان الهدى وأنباء الماضي والحاضر والمستقبل، ومقصد وجود الإنسان والمخلوقات من حوله، فإنه لمّا افتتحت الدخان بالقسم بالكتاب الواضح لفظاً ومعنى الذي أنزله الله رحمة بعباده وإنذاراً لهم وتحذيراً بما ينفعهم ويضرّهم والوعيد بالحساب والجزاء {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)}، فقد سبقتها الزخرف أيضاً بالقسم بالكتاب المبين الذي أنزله الله هدى إلى عبادته وحده لا شريك له ونهيهم عن عبادة الأصنام والأنداد، وسبقتهما الشورى بأن القرآن وحي من {اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} جرى في سابق علمه واقتضت حكمته أن تكون حاجتهم ومصلحتهم في عبادته واتباع هديه طائعين ككل مخلوقات الله، وقبلها فصّلت بأن القرآن {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} بشيراً ونذيراً ورحمة منه لمن تعلّمه وعمل بهديه، وقبلها غافر بأن القرآن تنزيل {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} وبأن الإنسان كثير الذنوب فيغفر له كلّما تاب عن ذنبه. فالدخان هي خامس الحواميم السبعة، تلاها سورتان لهما نفس الاستهلال {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} وهما الجاثية: بأن في الكتاب آيات لقوم يعقلون ويعلمون ويوقنون ويتفكرون ويتذكرون ويؤمنون بأنه وحده الله يستحق الحمد والطاعة لا الهزء والجحود، وأن له وحده الكبرياء وليس لغيره شيء من ذلك، والأحقاف: بأن في الكتاب آيات تصديق الوعيد بإهلاك المكذبين وضلال آلهتهم التي يدّعون نصرها، وأن السعادة والنجاة لا تكون إلا بعبادة الله واتباع هدى القرآن. وقد وقعت هذه الحواميم السبعة بين سورتين هما الزمر: التي افتتحت أيضاً ب {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} بأن العبادة لله مخلصين له الدين هي قضاء الله في خلقه، ولا خيار صحيح لهم غيرها، ولا يرضى لهم الكفر، فمن كفر فبإرادته، ومحمّد: التي أكّدت عظيم تكريم الله للمؤمنين ونصرهم باتباعهم الحق، وعظيم هوان الكافرين عليه وتعاستهم باتباعهم الباطل.

فالتحمت هذه السور التسعة التحاماً يبهر العقول يظهر فيه عظيم دور الإنسان وتأثيره، إذ بدون القرآن لا يمكن لعقل الإنسان أن يستوعب أن وجوده المؤقت على الأرض ليس لعباً {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)} بل هو الحقّ {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)}، وأن له وجود آخر لا موت فيه ولا نهاية له {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ (56)}. وأنه الآن في مهمّة عظيمة، وأن هذا الكون الهائل ينفعل لعمله {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ (29)}، وخلقه الله لا ليستقر الإنسان فيه بل ليبتليه ويختبره بالإيمان والطاعة اختياراً لا جبراً، كما أطاع والتزم الكون لكن جبراً لا اختياراً. وأن الله جعل يوم الفصل ميقاتهم أجمعين {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)}، وأنهم عائدون إلى ربهم وأنهم مرتقبون.

044.8.1- أقسم تعالى بالقرآن في هذه السورة وفي الزخرف: هناك ركزت على ما انشغلوا به من زخارف الدنيا وهنا على مصيرهم الذي كان عليهم أن يعملوا لأجله هناك جدال وكبر بالنعمة وهنا شك ولعب.

044.8.2- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز ما قد أشير إليه مما لم تنطو سورة غافر على شيء منه، وحصل من مجموع ذلك الإعلام بتنزيله من عند الله وتفصيله وكونه قرآناً عربياً إلى ما ذكر تعالى من خصائصه إلى قوله {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون (44)} الزخرف، وتعلق الكلام بعد هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة، افتتح تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض، وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة (3)} ثم ذكر من فضلها فقال {فيها يفرق كل أمر حكيم (4)} فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا وتقدم الأهم من ذلك في السورتين قبل، وتأخر التعريف بوقت إنزاله إلى السماء الدنيا إذ ليس في التأكيد كالمتقدم، ثم وقع إثر هذا تفصيل وعيد قد أجمل في قوله تعالى {فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (89)} الزخرف، وما تقدمه من قوله {أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون (79)} الزخرف، وقوله سبحانه {أم يحسبون أنا نسمع سرهم ونجواهم (80)} الزخرف، وتنزيهه سبحانه وتعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد – إلى آخر السورة، ففصل بعض ما أجملته هذه الآي في قوله تعالى في صدر سورة الدخان {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين (10)} وقوله تعالى {يوم نبطش البطشة الكبرى (16)}، والإشارة إلى يوم بدر، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا أن لا فارق إن هم عقلوا واعتبروا، ثم عرض بقرنهم في مقالته ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم، ثم ذكر تعالى: {شجرة الزقوم (43)} إلى قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم (49)} والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول، ثم اتبع بذكر حال المتقين جرياً على المطرد من شفع الترغيب والترهيب ليبين حال الفريقين وينتج علم الواضح من الطريقين، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58)} وقد أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه إنما يتذكر من يخشى ثم قال {فارتقب (59)} وعدك ووعيدهم {إنهم مرتقبون (59)}.

044.8.3- راجع ما قاله الإمام جلال الدين السيوطي في سورة غافر (040.8.1).

انظر أيضاً تناسب وتناسق سورة الأحقاف مع غيرها من السور؛ وتناسب سور الحواميم مع بعضها ومع السورتين التي قبلها والتي بعدها (في 046.8.2)؛ وتناسب وتناسق الحواميم مع بعضها ومع قبلها وبعدها في (046.8.4).

انظر تناسب سورة القمر مع غيرها من السور (054.8.4).

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top