العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


048.0 سورة الفتح


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


048.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مدنية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 29 آية. 4) الثامنة والأربعون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والحادية عشرة بعد المائة حسب ترتيب النزول، نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية، بعد سورة “الجمعة”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

{الله} 36 مرّة؛ (3 مرّات): لله، هو، حكيماً، أنزل؛ (2 مرّة): عليماً، عزيزاً، يغفر، يهدي، كفّ؛ (1 مرة): خبيراً، غفوراً، رحيماً، قديراً، بصيراً، شهيداً، صدَق، أنعم، رضي. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: حميّة 2 مرة؛ (1 مرة): توقروه، معرّة، تزيلوا، شطأه، آزره، استغلظ، مكة، {نصراً عزيزاً}؛ الآيتين {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَليماً حَكِيماً (4)} {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)}.

أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: فتح 4 مرات؛ (3 مرات): سكينة، مغانم، المخلفون، يبايعون.

تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: مؤمن 13 مرة، رسول 8 مرات، عذاب 8 مرات، كافر 7 مرات؛ (4 مرات): يغفر، ظن؛ (3 مرات): حرج، سماوات، أرض، أيدي، أراد، أجراً، يتولى؛ (2 مرة): نصر، زرع، جنود، صراطاً، مستقيماً، سنة الله، رضوان، منافق، مشرك، أرسل، كف، يطع، {جنات تجري من تحتها الأنهار}؛ (1 مرة): عزيزاً، تعزروه، آية، نعمته، محلقين، رءوسكم، مقصرين، بورا، كلام الله، أعر

048.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثمّ قرأ: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا}.

048.3 وقت ومناسبة نزولها:

نزلت هذه السورة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، حين صدّ المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن أداء العمرة هذا العام على أن يعود في العام المقبل، وتوقيعه معهم صلح الحديبية.

أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله، فأخبرنا أنه أنزل عليه {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً}. وفي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: “لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس” وفي رواية “هي أحب إلي من الدنيا جميعا”.

لقد وقعت الأحداث التي نزلت بمناسبتها هذه السورة، حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم رؤيا بأنه يدخل المسجد الحرام معتمراً الآية (27)، ولأنّ رؤيا النبي حق، صار لزاماً أن ينفذ أمر الله سبحانه وتعالى. إلا أن المسجد الحرام الآن تحت سيطرة قريش التي تحاول قتل الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم واستئصال دعوته. وبسبب ذلك، أي في الوقت التي كانت قريش تنفّذ مخططاتها لقتله، هاجر هو وأتباعه إلى المدينة. وبعد أن هاجر من مكّة لحقوه إلى المدينة بجيوشهم في غزوة بدر ثمّ غزوة أحد ثمّ أَضافوا لجيشهم جيوش الجزيرة العربيّة في غزوة الخندق والتي حصلت في السنة الخامسة للهجرة أي قبل سنة من هذا الوقت. ومنذ أن حصلت الهجرة قبل ستة سنوات لم تسمح قريش لأحد من المسلمين بأداء الحج أو العمرة أو حتى دخول مكّة، فكيف ستسمح الآن للنبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه بدخولها. وسط هذا الخطر العظيم الذي لم ينجوا المسلمين من براثنه في المرّات السابقة إلا بمعجزات ومدد من الله، وبعد أن أخبر عليه السلام رؤياه لأصحابه، لم يضع المسلمون صوب أعينهم سوى تصديق وعد الله، فاجتمعوا في 1400 شخص معهم سبعين من الإبل نذروها للهدي ومعهم اسلحتهم الشخصية فقط كما هو متعارف عليه ومسموح به حسب عادات قريش في العمرة أو الحج وقد تخلّف المنافقين وضعاف الإيمان من الأعراب عن الذهاب وأخذوا يختلقون الأعذار لإعفائهم من الذهاب إلى العمرة، لأنّ كل من سمع بهذه الرحلة الخطيرة، عدا المعتمرين أنفسهم، كان على يقين بأنهم ذاهبين إلى الموت، والعرب في الجزيرة العربية كانوا مذهولين مما سيحصل للمسلمين.

أما قريش فكانت مرتبكة من هذه الخطوة الجسورة التي سيقدم عليها محمد صلى الله عليه وسلّم وأتباعه. وشهر ذي القعدة هو من الأشهر المحرّمة عند العرب عبر القرون والتي كرُّست للحج ويحرم فيها القتال. ولا أحد من قريش أو غيرها يستطيع أو عنده الحق أن يمنع حاجّاً أو معتمراً من دخول مكّة لزيارة المسجد الحرام في هذا الشهر. فلو منعتهم بالقوّة فسوف تحدث ضجّة عالية من الاحتجاجات في مكّة، وسيظن العرب بأن قريش احتكرت الكعبة لها وحدها، وأنها كما منعت المسلمين من العمرة الآن فستمنع غيرهم من القبائل العربيّة مستقبلاً، وهذا خطأ كبير سيثير كلّ العرب ضدّهم. وفي المقابل لو سُمح للمسلمين بدخول مكّة بأمان فسوف تفقد قريش هيبتها وصورتها القويّة أمام العرب، وسيقول الناس أن قريش خافت من محمد صلى الله عليه وسلّم. لهذا قرروا أن يمنعوا المسلمين وبقوّة السّلاح من دخول مكّة.

وقد انتهت هذه الأحداث في قصّة طويلة، بأن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين، وعلى أن يعتمر من العام المقبل، وعلى من أراد أن يدخل في عهد قريش وحلفهم دخل، ومن أحبّ أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده فعل.

048.4 مقصد السورة:

048.4.1- يفتح الله أبواب الخير على رسوله والمؤمنين ويريهم معجزاته وآياته العظيمة بنصرهم وفتحه عليهم من حيث لا يحتسبوا، لتكون لهم آية (بأنهم على الصراط المستقيم وفي رضى من الله عنهم)، ويبشرهم بالمزيد من الفتح فيشكروه ويسبحوه ويستغفروه فيغفر لهم ويدخلهم الجنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. وتكون كذلك آية عظيمة تنذر المنافقين والمشركين وتدل على غضب الله عليهم وطردهم من رحمته ووعيد لهم بجهنم وساءت مصيراً. وهي سنة لا تتبدل يكشفها الله للناس ما تقابل الحق والباطل.

048.4.2- ومقصدها نجده في الآيات الثلاث الأولى (1-3) وهو أن الله تعالى فتح على رسوله والمؤمنين فتحاً مبيناً، ونصره نصراً عزيزاً. وفي الآية الأخيرة (29) تلخص مقصد السورة بعد اكتمال الفتح بصورة عجيبة وبشارة عظيمة، ففيها وصف دقيق ومثل (أو تشبيه) يبعث في النفس الفرح والعجب لما سيحصل في المستقبل حين ينتشر الإيمان: فالوصف هو ارتباطهم بالله يعبدونه وحده لا شريك له، رحماء بينهم أشداء على الكفار؛ والمثل يشبههم كالزرع حين اكتمال نباته ونضجه وظهوره في أحسن أحواله يعجب الزراع ويغيظ بهم الكفار.

048.4.3- وقال البقاعي: مقصودها مدلول اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية وفتح خيبر ونحوهما، وما وقع تصديق الخبر به من غلب الروم على أهل فارس وما تفرغ من فتح مكة المشرفة من إسلام أهل جزيرة العرب وقتال أهل الردة وفتوح جميع البلاد. الذي يجمعه كله إظهار الدين على الدين كله. وهذا كله في غاية الظهور بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها في مواضع منها {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}، وانتهاؤها {ليظهره على الدين كله (28)}، {محمد رسول الله (29)} إلى قوله {ليغيظ بهم الكفار (29)} أي بالفتح الأعظم وما دونه من الفتوحات {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة} كما كان في أولها للرسول صلى الله عليه وسلم {وأجراً عظيماً} كذلك بسائر الفتوحات وما حوت من الغنائم للثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء.

048.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت عقب صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلّم: “لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس”، وفي رواية “هي أحب إلي من الدنيا جميعا”. وكانت مناسبتها حينما رأى صلى الله عليه وسلّم رؤيا بأنه يدخل المسجد الحرام معتمراً (الآية 27)، إلا أن المسجد كان تحت سيطرة قريش التي تحاول قتله وتجيّش لاستئصال دعوته الجيوش، خرج المسلمون للعمرة في ألف وأربعمائة شخص معهم أسلحتهم الشخصيّة فقط، وكان كل من سمع بهذه الرحلة الخطيرة، عدا المعتمرين أنفسهم، على يقين بأنهم ذاهبون إلى الموت، والعرب في الجزيرة العربية كانوا مذهولين مما سيحصل للمسلمين، وقد انتهت الأحداث في قصّة طويلة بالمصالحة ووضع الحرب عشر سنين، وعلى أن يعتمروا من العام المقبل.

ومقصدها نجده في الآيات الثلاث الأولى (1-3) وهو أن الله تعالى فتح على رسوله والمؤمنين فتحاً مبيناً، ونصره نصراً عزيزاً. وتختم (الآية 29) بوصف المؤمنين بعد الفتح بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم يبتغون فضل من الله ورضواناً، ومثلهم كالزرع الحسن يعجب الزراع ويغيظ الكفار. وتضمنت أربع مجموعات متساوية من الآيات وخاتمة: الأولى تتحدّث عن فتوحات الله القريبة على رسوله وعلى المؤمنين. والثانية عن فئتين من الناس فئة عاهدوا الله واتبعوا دينه وآخرين تخلفوا. والثالثة عن الذين تخلفوا وأرادوا الدنيا فتوعدهم الله بالعذاب إلا أن يتوبوا ويطيعوا فينالوا الأجر، والذين آمنوا وأرضوا الله فأثابهم الفتح والمغانم ووعدهم بالنصر والتأييد. والرابعة فيها بشائر عن الكثير من الفتوحات والانتصارات والغنائم للمؤمنين في الدنيا ودخول جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، كما يلي:

المجموعة الأولى (الآيات 1-7): لقد فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بصلح الحديبية ليغفر له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر، ويهديه بالشرع العظيم والدين القويم صراطه المستقيم، ثم ينصره (والمؤمنين) ليعز بهم دينه. كذلك أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزداد إيمانهم وطاعتهم وليكفّر سيئاتهم ويدخلهم الجنة، ولله جنود السماوات والأرض، وعد المؤمنين بالنصر وإذلال عدوهم على أيديهم، وبالعذاب للمنافقين والمشركين ومأواهم جهنم.

المجموعة الثانية (الآيات 8-14): أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم شاهداً ومبشراً ونذيراً ليؤمنوا بالله ورسوله ويناصروه ويعظموه ويسبحوه، فمن آمن وبايع وأوفى فالله معه وله أجر عظيم، ومن كفر ونكث فعلى نفسه. ثم ظهور المنافقين الساعين إلى الدنيا دون الآخرة فكانوا قوماً هلكى لا خير فيهم، والكافرون أعدّ لهم سعيراً. ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم.

المجموعة الثالثة (الآيات 15-21): ظهور فئة من الناس لا يريدون العمل لله، بل يؤمنون بألسنتهم طمعاً في الدنيا والغنائم وبما فتحه الله على المؤمنين، فهؤلاء لهم عذاب أليم إلا إن تابوا وأطاعوا الله وجاهدوا في سبيله. أما المؤمنون فيبشرهم برضاه عنهم، ثم المغانم الكثيرة التي عجّلها لهم وكف أيدي الناس عنهم، ومغانم أخرى لم يقدروا عليها، لكن الله سبحانه وتعالى قادر عليها.

المجموعة الرابعة (الآيات 22-28): سنة الله التي لا تتبدّل بنصر المؤمنين، وأنه كفَّ أيديهم (الفئتين) عن القتال من بعد ما أظفر المؤمنين عليهم، لعلمه تعالى بأن بين المشركين بمكّة مؤمنون مستضعفون يخشى عليهم (وبأن النصر العظيم بالصلح وانتشار الإسلام والفتوحات)، فأنزل سكينته على المؤمنين وألزمهم التقوى حتى تم صلح الحديبية رغم أنَفَة الجاهلية عند المشركين. ولقد صدق الله رسوله صلى الله عليه وسلم الرؤيا بأن يدخلوا المسجد الحرام آمنين لا يخافون، فعلم ما لم يعلموا، فجعل مِن دون دخولهم “مكة” الذي وعدوا به، فتحاً قريباً، وهو “الحديبية” وفتح “خيبر”. هو الذي أرسل رسوله بالهدى لينصر المؤمنين ويظهر دينه على كل ما سواه.

وهكذا كان “صلح الحديبية” هو الفتح المبين ورأس الفتوح كلّها، ولا فتح أبين منه ولا أعظم، وقد خرج المسلمون إلى الحديبية في ألف وأربعمائة شخص ثم بعد ذلك بسنتين عادوا لفتح مكة في عشرة آلاف، وهو دليل على صدق القرآن والرسول وعلى أنه من عند الله، بينما رأى فيه المسلمون هوان وهزيمة أمام المشركين، حتى قال بعضهم “فلم نعطي الدنية في ديننـا إذاً؟”، ثم تبين بعد ذلك أنه فتحاً ومغفرة ونصراً بلا قتال، كف به أيدي الناس عن المؤمنين، وأنه بداية لكل الفتوحات ولكل ما أعدّه الله من تمام النعمة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلمّا أمِن الناس بعضهم بعضاً بصلح الحديبية فتح لهم فتحاً في الدعوة إلى دين الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فلذلك سماه الله {فَتْحًا مُبِينًا}، أي ظاهر جلي، وفتح لهم فتحاً في الأرض فبعث صلى الله عليه وسلّم سراياه إلى أنحاء شتى داخل الجزيرة العربية، وكذلك الفتح القريب لحصون خيبر وغنموا منها غنائم عظيمة، ثمّ فتح مكة من غير قتال يذكر، ثمّ توالت فتوحات كثيرة تدل على أنه سبحانه عندما يكافئ فلا حدود لمكافئاته وعندما يفتح فلا حدود لفتوحاته.

وكان من جنود الله تعالى في هذا الفتح المبين: “صلح الحديبية”، والسكينة أنزلها في قلوبهم، والتوفيق والتأييد وكف أيدي أعدائهم، وغيره من عون الله بجنود السماء والأرض. وجعل يده فوق أيدي المؤمنين وهم يبايعون رسوله، وإظهار دينه على الدين كله، ورغبة قريش بالأمان والاعتراف بالمسلمين أنداداً بعد أن لاحقوهم بجيوشهم في غزوة بدر ثمّ غزوة أحد ثمّ أَضافوا لجيشهم جيوش الجزيرة العربيّة في غزوة الخندق والتي حصلت في السنة الخامسة للهجرة أي قبل سنة من هذا الوقت، وهي السورة الوحيدة التي فيها {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَليماً حَكِيماً (4)} تكررت مع {عَزِيزاً حَكِيماً (7)}، وهي أكثر سورة تكرر فيها كلمات: فتح وسكينة ومغانم، تبشّر المؤمنين برضى الله الذي يبتغونه {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا (29)}، وبأنه سيذلّل لهم صعوبات الحياة والرزق لكي تزداد طاعتهم فتزداد عليهم الفتوحات والمغانم وهزيمة وهلاك المنافقين والمشركين وحرمانهم من الغنائم في الدنيا وبعذابهم يوم القيامة، ولتكون كذلك هزيمة المشركين وسلامة المؤمنين وغنيمتهم آية يعتبرون بها ويستدلّون على أن الله حافظهم وناصرهم ومحقق لهم وعده.

اللهم افتح لنا فتحاً مبيناً واغفر لنا ما تقدّم من ذنوبنا وما تأخرّ وأتم نعمتك علينا واهدنا صراطاً مستقيماً وانصرنا نصراً عزيزاً.

048.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

048.6.1- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها: تنقسم السورة إلى أربعة مجموعات متساوية من الآيات ثم خاتمة تلخص مقصد السورة: المجموعة الأولى تتحدّث عن فتوحات الله القريبة على رسوله وعلى المؤمنين. والثانية عن فئتين من الناس فئة عاهدوا الله واتبعوا دينه وآخرين تخلفوا. والثالثة عن أن الذين تخلفوا: فقد أرادوا الدنيا فتوعدهم الله بالعذاب إلا أن يتوبوا ويطيعوا فينالوا الأجر؛ وعن الذين آمنوا: فقد نالوا رضاه فأثابهم الفتح والمغانم ووعدهم بالنصر والتأييد. والرابعة فيه بشائر عن الكثير من الفتوحات والانتصارات والغنائم للمؤمنين في الدنيا ودخول جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة:

048.6.1.1- بيان آيات الله وفتوحاته القريبة على رسوله وعلى المؤمنين لتكون دليلاً على رضى الله عنهم وعنايته بهم وداعياً لاتباع هديه المستقيم والتمسك بدينه فيغفر لهم وينصرهم ويدخلهم الجنة. وليعذب المنافقين والمشركين فتكون دليلاً على غضبه عليهم وطردهم من رحمته ووعيداً بدخول جهنم: الآيات (1-7):

048.6.1.1.1- الآيات (1-3) الفتح على الرسول: لقد فتح الله على رسوله (والمؤمنين) بصلح الحديبية ليغفر له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر (وهي خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم) بسبب طاعته وبيعته (وليغفر للمؤمنين باتباعهم نبيهم وبيعتهم)، ويهديه بالشرع العظيم والدين القويم صراطه المستقيم، ثم لينصرهم ليعز بهم دينه.

048.6.1.1.2- الآيات (4-7) الفتح على المؤمنين: أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين ليزداد إيمانهم وطاعتهم وليكفر سيئاتهم ويدخلهم الجنة، ولله جنود السماوات والأرض (وقد كان الله قادراً على إهلاك عدوهم، لكنه شرع الجهاد وجعلهم من جنوده ووعدهم على ذلك بالنصر وإذلال عدوهم على أيديهم)، وليعذب المنافقين والمشركين ومأواهم جهنم. وقد حصل بسبب الحديبية خير جزيل وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والإيمان.

048.6.1.2- أرسل الله الرسول شاهداً ومبشراً ونذيراً ليؤمنوا بالله وبرسوله، فكان الناس فئتين، فئة عاهدوا الله واتبعوا دينه وآخرين تخلفوا: الآيات (8-14):

048.6.1.2.1- الآيات (8، 9) أرسل الرسول شاهداً ومبشراً ونذيراً ليؤمنوا بالله ورسوله ويناصروه ويعظموه ويسبحوه.

048.6.1.2.2- الآية (10) من آمن وبايع وأوفى فمعه الله وله أجر عظيم ومن كفر ونكث فعلى نفسه.

048.6.1.2.3- الآيات (11-13) ظهور المنافقين الساعين إلى الدنيا دون الآخرة: يختلقون الأعذار الكاذبة يظنون ظن السوء فكانوا قوماً هلكى لا خير فيهم. وأما من لم يؤمن أبداً وهم الكافرون أعد لهم سعيراً.

048.6.1.2.4- الآية (14) لله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. لله وحده ملك السماوات والأرض يجزي المطيع أجراً حسناً ويجازي العاصي عذاباً أليماً.

048.6.1.3- الذين تخلفوا أرادوا الدنيا فتوعدهم بالعذاب إلا أن يتوبوا ويطيعوا فينالوا الأجر، أما المؤمنين فقد بلغهم عن رضاه عنهم فأثابهم الفتح والمغانم ووعدهم بالنصر والتأييد: الآيات (15-21):

048.6.1.3.1- الآيات (15-16) بعد أن تبين فتح الله على المؤمنين وإعزازه لهم، ظهرت فئة من الناس لا يريدون العمل لله ولا يؤمنون بالله، بل يؤمنون بألسنتهم طمعاً في الدنيا والغنائم وبما فتحه الله على المؤمنين فهؤلاء لهم عذاب أليم إلا أذا تابوا وأطاعوا الله وجاهدوا في سبيله.

048.6.1.3.2- الآية (17) وفئة أخرى تخلفت عن العمل في سبيل الله وهم المرضى وفاقدي البصر فهؤلاء استثناهم الله من التكليف لعدم قدرتهم.

048.6.1.3.3- الآيات (18-21) ذكر بعض البشائر والمغانم الدنيويّة التي كافأ وسيكافئ بها الله من رضي عنهم، لإيفائهم ما عاهدوا الله عليه.

يبشرهم الله هنا ببشارات عظيمة أهمها رضاه عنهم، وهذا الرضى هو غاية مراد المؤمن ثم المغانم الكثيرة التي عجلها لهم وكف أيدي الناس عنهم. وهي آية وبشارة بأنه سيذلل لهم الحياة والرزق لكي تزداد طاعتهم فتزداد عليهم الفتوحات والرضى والبشارات، كذلك تكون هزيمة المشركين وسلامة المؤمنين وغنيمتهم علامة يعتبرون بها، ويستدلون على أن الله حافظهم وناصرهم. وقد وعدهم الله غنيمة أخرى لم يقدروا عليها، الله سبحانه وتعالى قادر عليها، وهي تحت تدبيره وملكه، وقد وعدهموها، ولا بد مِن وقوع ما وعد به.

048.6.1.4- فيه بشائر عن الكثير من الفتوحات والانتصارات والغنائم للمؤمنين في الدنيا ودخول جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة: الآيات (22-28):

048.6.1.4.1- الآيات (22، 23) بيان سنة الله بنصر المؤمنين وتولي الكافرين، بدليل:

048.6.1.4.2- الآيات (24-26) أنه كفَّ أيدي المشركين عنهم، وأيديهم عنهم ببطن “مكة” من بعد ما قَدَرْوا عليهم، لعلمه تعالى بأن النصر العظيم ليس هنا (لكن بالصلح وانتشار الإسلام ثم فتح مكة وغيرها) ولعلمه أيضاً بأنه لا يزال بين المشركين الذين صدّوهم عن المسجد الحرام مؤمنون مستضعفون يخشى عليهم أن يقتلهم المؤمنون بغير علم. فأنزل الله سكينته على المؤمنين وألزمهم التقوى حتى تم صلح الحديبية رغم أنَفَة الجاهلية عند المشركين.

048.6.1.4.3- الآية (27) لقد صدق الله رسوله محمداً رؤياه التي أراها إياه بالحق أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، محلِّقين رؤوسهم ومقصِّرين، فعلم الله من الخير والمصلحة (في صرفهم عن “مكة” عامهم ذلك ودخولهم إليها فيما بعد) ما لم يعلموا هم، فجعل مِن دون دخولهم “مكة” الذي وعدوا به، فتحاً قريباً، وهو هدنة “الحديبية” وفتح “خيبر”.

048.6.1.4.4- الآية (28) أرسل رسوله لينصر المؤمنين ويظهر دينه على كل ما سواه: هو الذي أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، بالبيان الواضح ودين الإسلام؛ ليُعْليه على الملل كلها، وحسبك -أيها الرسول- بالله شاهداً على أنه ناصرك ومظهر دينك على كل دين.

048.6.1.5- الآية (29) الخاتمة: تلخص مقصد السورة وهو كيف أن الله فتح أبواب الخير على رسوله والمؤمنين، وذلك ببيان صفة المؤمنين بعد الفتح الذي فتحه الله عليهم ليغيظ بهم الكفار.

048.7 الشكل العام وسياق السورة:

048.7.0- اسم السورة: سميت “سورة الفتح” لأن الله تعالى بشّر المؤمنين بالفتح المبين {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً…} الآيات. هذا الفتح المذكور وهو صلح الحديبية، حين صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا جاء معتمراً، وانتهت بأن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين. وبسبب ذلك لما أمن الناس بعضهم بعضاً، اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عزّ وجل، وصار كلّ مؤمن بأيّ مكان يدعو بحريّة، وأمكن الخائف من الوقوف على حقيقة الإسلام. فدخل الناس في دين الله أفواجاً، فلذلك سمّاه الله فتحاً، ووصفه بأنه فتح مبين.

048.7.1- الحقيقة أن هذه السورة هي دليل على صدق القرآن وعلى صدق رسول الله وعلى أن هذا القرآن هو من عند الله؛ وعلى أن الله موجود مع الناس في كل مكان هم فيه وفي كل لحظة من لحظات حياتهم، يرى أعمالهم ويسمع لقولهم ويدبر أمرهم. فالقرآن هو معجزة أمة محمّد صلى الله عليه وسلّم الدائمة إلى يوم القيامة وفيه الدليل (من داخله) على وجود الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وعلى صدق القرآن وعلى صدق الرسول وصدق كل شيء في القرآن عن الملائكة وعن أخبار الغيب وغيرها. الدليل الموجود في كلام القرآن يعرف بالعقل والحجة والمنطق والبرهان والتجربة: وهو أن القرآن يبين مشيئة الله وحده لا شريك له في الحياة وسننه وقوانينه الثابتة والتي لا يمكن أن تتغير بمشيئة أحد غيره، ثم يراها الناس تتحقق في حياتهم واضحة مبينة كفلق الصبح لا تحتاج إلى برهان. وهي هنا في هذه السورة ثلاثة سنن أو حقائق معجزة ومدهشة غاية في الإعجاز والإدهاش:

048.7.1.1- الفتح المعجز الذي فتحه الله على المؤمنين وهو “صلح الحديبية” وقد قال عنه فتحاً مبيناً لا خفاء فيه، بينما رأى فيه المسلمون هوان وهزيمة أمام المشركين، حتى قال بعضهم “فلم نعطي الدنية في ديننـا إذاً؟”، ثم تبين بعد ذلك أنه فتحاً ومغفرة ونصراً وبداية لكل الفتوحات ولكل ما أعده الله من تمام النعمة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (وقد صدق الله ورسوله وصدق كل ما ذكر في سورة الفتح).

048.7.1.2- يصف الله تعالى نفسه بأنه له جنود السماوات والأرض هو الله (العليم الحكيم العزيز الغفور الرحيم الخبير القدير البصير الشهيد)، له ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. فصدق كلام الله وكان من جنوده السكينة أنزلها في قلوبهم، والتوفيق والتأييد وكف أيدي أعداءهم وغيره من عون الله بجنود السماء. وصدق كلامه فجعل يده فوق أيدي المؤمنين وهم يبايعون رسوله، وأظهر دينه على الدين كله.

048.7.1.3- بشّر المؤمنين ببشارات عظيمة أهمها رضاه عنهم (الذي هو غاية مرادهم) ثم المغانم الكثيرة وبأنه سيذلل لهم صعوبات الحياة والرزق لكي تزداد طاعتهم فتزداد عليهم الفتوحات والرضى والبشارات. كذلك بشرهم بهزيمة وهلاك المنافقين والمشركين وحرمانهم من الغنائم في الدنيا وبعذابهم يوم القيامة. ولكي تكون هزيمة المشركين وسلامة المؤمنين وغنيمتهم علامة يعتبرون بها، ويستدلون على أن الله حافظهم وناصرهم ولا بد مِن وقوع ما وعدهم به.

هذا الفتح المذكور هو صلح الحديبية. وبسبب ذلك لمّا أمِن الناس بعضهم بعضاً اتسعت دائرة الدعوة لدين الله عز وجل، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. فلذلك سماه الله {فتحاً مبيناً}، أي ظاهر جلي. وذلك لأن المقصود في فتح بلدان المشركين إعزاز دين الله، وانتصار المسلمين وهذا حصل بذلك الفتح. وقد يكون المقصود بالفتح هو فتح مكة وقد نزلت السورة مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية موعدة له بالفتح، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره لأنها في تحققها وتيقنها بمنزل الكائنة الموجودة. وقد ترتب على هذا الفتح المبين فتوحات كثيرة تدل على أنه سبحانه عندما يكافئ فلا حدود لمكافئاته وعندما يفتح فلا حدود لفتوحاته:

فكافأ بالمغفرة والثواب. واتمام النعمة. والهداية إلى الصراط المستقيم. والنصر العزيز. وإنزال السكينة. والاعتراف للمؤمنين بالإيمان السابق. وزيادة الإيمان. وتكفير السيئات. وإدخال المؤمنين والمؤمنات جنات. وتعذيب المنافقين والمشركين. وعون السماء بجنود الله. واعتبار بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الله. ورضا الله عن المؤمنين. والمغانم الكثيرة. والفتح القريب وهو فتح حصون خيبر وغنموا منها غنائم عظيمة. وفتح الروم. وكف أيدي الناس عن المؤمنين. تكريم المؤمنين برضاءه عنهم وأنه كان حاضراً وهم يبايعون {تحت الشجرة} والامتنان عليهم بالسكينة، وتبشيرهم بالمغفرة، والثواب، وكتب لهم النصر في المستقبل، والغنائم، والفتوح، وكف أيدي أعدائهم عنهم، ووعدهم بدخول المسجد الحرام آمنين، وبإظهار الدين على الدين كلّه، وإغاظة الكفار. وبصلح الحديبية رغبت إليهم قريش بالأمان وقد رأوا منهم ما يكرهون. اعترفت قريش بالنبي والإسلام واعتبرتهم أنداداً لها بعد أن ظن الأعراب أنهم لن يعودوا من عمرتهم هذه أبداً. وقد فتحت لهم فتحاً في الأرض: فقد أمِن المسلمون شرّ قريش. وبعث عليه السلام سراياه إلى أنحاء شتى داخل الجزيرة العربية. وفتحت لهم فتحاً في الدعوة: أمن الناس بعضهم بعضاً فاتسعت دائرة الدعوة لدين الله. وقد دخل في الإسلام ما بين صلح الحديبية وفتح مكة مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. قال الزهري: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف. فتح الله لرسوله عليه السلام بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كلها إذ لا فتح من فتوح الإسلام ألا وهو تحته متشعب منه.

048.7.2- موضوعات السورة باعتبار ترتيب آياتها: يمكن تقسيمها إلى نصفين متساويين ثم خاتمة: الأول في الآيات (1-14) يتعلق بتقرير ودلائل تثبت أن أحداث فتح صلح الحديبية هو بداية تمام النعمة بالمغفرة والهداية والفضل والنصر للمؤمنين، وبداية نزول غضب الله وعذابه على الكافرين والمنافقين. والآخر في الآيات (15-28) عن بشارات الله للمؤمنين وكأن صلح الحديبية هو بداية الفتوحات العظيمة على المسلمين وانتشار الخير بينهم. ثم خاتمة في الآية (29) تبين كيف يكون الحال المثالي لوجود الناس في الدنيا، التي سعت رسالة السماء لإيصال الناس إليه.

048.7.2.1- فتح صلح الحديبية:

048.7.2.1.1- الآيات (1-3) فتح مغفرة وهداية إلى الصراط المستقيم ونصر: يخبر الله تعالى نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم (ومن آمن معه): بأنه فتح له فتحاً مبيناً لا خفاء فيه، وقضى بنصره على أعدائه إلى النهاية بسبب طاعته وخضوعه، نصراً عزيزاً لا يتبعه ذل، وذلك ليشكر ربه، ويحمده على نعمته بقضائه له عليهم، وفتحه ما فتح له، وليسبحه ويستغفره، فيغفر له بفعاله ذلك ربّه: ما تقدم من ذنبه قبل فتحه له ما فتح، وما تأخر بعد فتحه له، ذلك ما شكره واستغفره.

048.7.2.1.2- الآيات (4-7) إنزال السكينة في قلوب المؤمنين والفتح عليهم: هذه الآيات هي امتداد وتأكيد للمعنى المذكور في المقدمة حيث مهّد هذا الفتح “بصلح الحديبية” لكل ما بعده من الفتوحات التي أشارت إليها السورة. وأن الله بإنزاله السكينة في قلوب المؤمنين يزيدهم إيماناً واتباعاً، ويفتح عليهم به الفوز على الأعداء في الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة:

048.7.2.1.3- الآيات (8-10) أرسل الله رسولاً مبشراً ونذيراً يبلغ بأنه يثيب من آمن وعاهد الله واتبع دينه، ويعاقب من كفر وتخلف عن الطاعة والاتباع (فالله وحده هو المالك المتصرّف في هذا الكون):

الله سبحانه وتعالى ابتلى عباده بالتكليف ليثيب من آمن وأطاع ويعاقب من كفر وعصى: السكينة هي جند من جنود الله ينزلها في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم فيفوزوا في الدنيا والآخرة، أي يفوزوا بأن يدخلهم الجنّة ويكفر سيئاتهم، وبنفس الوقت يعذب على أيديهم المنافقين والمشركين الذين غضب الله عليهم وأعد لهم جهنّم وساءت مصيراً. فالمؤمنون من أمّة محمّد صلى الله هم جند من جند الله الذين يعذب بهم أعداءه وأعداء دينه في الدنيا.

هيّأ الله هذه الأمة لتكون من جنوده يقيم بهم العدل ويهلك بهم أعداءه في الدنيا. وهذه نعمة عظيمة تميزت بها هذه الأمة، على غير حال الأمم السابقة الذين كان يعذبهم الله بنفسه: إمّا بالغرق أو الخسف أو الريح أو غيره. ومن وسائل إعداده الله لهذه الأمّة وتجهّيزهم لهذه المهمّة كما ورد في الآيات ما يلي:

– أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم شاهداً عليهم ومبشراً ونذيراً.

– وفقهم لأن يؤمنوا بالله ورسوله وينصروه ويعظموه، ويسبحوا الله بكرة وأصيلاً.

– وفقهم ليبايعوا الله ورسوله على السمع والطاعة.

– كما بشرهم فيما سيأتي من الآيات (بأنه رضي عنهم بسبب بيعتهم، وأثابهم فتحاً قريباً، ووعدهم مغانم كثيرة، وكفّ أيدي الناس عنهم، وعند اللقاء يتولى أعداءهم الأدبار، ويعذب الكفار بأيديهم، ومغفرة وأجراً عظيماً).

048.7.2.1.4- الآيات (11-13) الكافرين: خسارة المتخلفون عن طاعة الله ورسوله، أن أعد لهم عذاباً أليماً في الدنيا وسعيراً في الآخرة.

المنافقون اقترفوا جرماً وخطأً عظيماً حين تخلفوا عن طاعة الله ورسوله واقترفوا جرماً آخر بأن اختلقوا الأعذار بالانشغال بالدنيا عن الآخرة، وبظنهم السيء بالله ورسوله والمؤمنين: وبأن المؤمنون سيُستأصلون بالقتل ولن يرجعوا إلى أهليهم أبداً. وقد أعد الله لمن لا يؤمن به وبرسوله عذاباً أليماً في الدنيا وسعيراً في الآخرة.

048.7.2.1.5- الآية (14) بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السماوات والأرض، وهو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى.

048.7.2.2- البشارة للمؤمنين:

048.7.2.2.1- الآيات (15-17) تتحدث الآيات عن المستقبل وما سيحدث بعد صلح الحديبة، وهو أن المخلفون أرادوا الدنيا والمغانم لقلة فهمهم، بينما يريد الله من المؤمنين نصر دينه: من أطاع فله الأجر الحسن في الدنيا وجنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، ومن تولّى عوقب وعذّب عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة. ولا حرج على من يتخلف بسبب عذر من عمى أو عرج أو مرض.

048.7.2.2.2- الآيات (18-21) هذه السورة فيها بشارات لكل المؤمنين، فالذين بايعوا وعلم الله ما في قلوبهم وصدق نيتهم فرضي عنهم وأعانهم على الوفاء بعهدهم ثمّ كافأهم.

048.7.2.2.3- الآيات (18-28) بشائر وفتوحات الله على المؤمنين:

لقد فتح الله على المؤمنين بصلح الحديبية ليغفر لهم ذنوبهم بسبب طاعتهم وبيعتهم، ثم لينصرهم ليعز بهم دينه الآيات (1-3)؛ ثم أنزل بعد الصلح السكينة في قلوبهم ليزداد إيمانهم وطاعتهم، ووعدهم على ذلك بالنصر وإذلال عدوهم على أيديهم لأنهم بايعوا رسول الله الآيات (4-10)؛ وبعد هذا الفتح والسكينة في قلوبهم والوعد بالنصر، صاروا مستعدين لأن يبشرهم الله هنا ببشارات عظيمة أهمها رضاه عنهم، وهذا الرضى هو غاية مراد المؤمن ثم المغانم الكثيرة وهي بشارة بأنه سيذلل لهم الحياة والرزق لكي تزداد طاعتهم فتزداد عليهم الفتوحات والرضى والبشارات، كما يلي:

– رضي الله عنهم بسبب بيعتهم،

– فأنزل السكينة عليهم،

– وأثابهم فتحاً قريباً، وعجّل لهم مغانم كثيرة يأخذونها

– ووعدهم مغانم أخرى كثيرة،

– وكفّ أيدي الناس عنهم، لتكون آية للمؤمنين،

– ويهديهم صراطاً مستقيماً،

– وعند اللقاء يولي أعداءهم الأدبار، فلا ناصر لهم،

– كل ذلك سنة ثابتة لا تتبدل،

– يكف أيدي الكفار عن المؤمنين بعد أن ينصر المؤمنين

– وأن يعذب الكفار بأيديهم،

– دخول المسجد الحرام آمنين لا يخافون،

– إظهار الدين على الدين كلّه.

048.7.2.3- الآية (29) الخاتمة والبشارة النهائية:

ثمار طاعة الله ورسوله هو الرحمة بين المؤمنين والشدّة على الكافرين، مثلهم كالزرع الحسن يعجب الزراع ويغيظ الكفار، ووعد من الله بالمغفرة والأجر العظيم.

هذه الآية هي أيضاً آية فتح مثل مقدمة السورة لأنها تمد المؤمن بمشاعر لا توصف من الأمن والطمأنينة على الحاضر والمستقبل وإلى حسن حظهم بتوفيق الله لهم لما فيه صلاح كل شأنهم، يصفهم ربهم بأروع الأوصاف وأكملها وأجملها من حيث الشدة على الكفار، والتراحم فيما بينهم وحسن السمت والنضج العقلي وحسن التصرف والاختيار والصلاح والقوّة والتآزر يشد بعضهم بعضاً، وعلى وعد الله لهم بالمغفرة والأجر العظيم:

يخبر تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب، من صفات أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، جعلهم الله كذلك كثيرون الصلاة لا يرجون إلا فضل الله بدخول الجنة وسعة الرزق في الدنيا ورضوانه عنهم، حسنوا الوجوه لحسن سريرتهم ولكثرة صلاتهم، عظّم الله خبرهم على سائر الأمم في الكتب المتقدّمة، تربّوا ونضجوا على حب الخير وعمل الصالحات، آزروا نبيهم وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء استغلظ واستقام مع الزرع فقوّاه، ليغيظ الله بهم الكفار (أي بشدّتهم واستقامتهم وبحسنهم وتراحمهم وتآزرهم ونصر الله لهم).

048.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:

يمكن تقسيم السورة باعتبار موضوعات آياتها إلى نصفين في ثلاثة مجموعات: النصف الأول فيه المجموعة الأولى: وتتحدّث عن عظيم فتوحات الله على المؤمنين وتوفيقه لهم في الدنيا وفي الآخرة، ثم تختم بآية تصف المؤمنين بعد أن أتم الله عليهم نعمته ورضوانه، والنصف الثاني فيه مجموعتين من الآيات: مجموعة تتحدث عن هلاك المنافقين والمشركين وحرمانهم من الغنائم في الدنيا والعذاب في الآخرة، ومجموعة يصف الله تعالى فيها نفسه ويبين ما الذي يريده من عباده وقد أرسل بذلك رسوله، كما يلي:

048.7.3.1- المجموعة الأولى: تتحدّث عن عظيم فتوحات الله على المؤمنين وتوفيقه لهم في الدنيا وفي الآخرة بطريقة عجيبة لا تخطر على بال إنسان. الآيات (1-5، 18-24، 27، 29) = 14 آية

048.7.3.1.1- هذا الفتح المعجز الذي فتحه الله على المؤمنين هو صلح الحديبية الذي صالح وهادن فيه المؤمنون على كره منهم المشركين (وبعضهم رأوا فيه هوان وهزيمة أمام المشركين)، نسوا قدرة العزيز العليم الحكيم، فلم يعلموا ما تخبئه لهم حكمة الله وقدرته من نصر عزيز لا يتبعه ذل، ولم يكن يخطر على بالهم ما ترتب على الصلح من النصر والفتوحات التي لم تنتهي في حياتهم بل امتدّت لأجيال بعدهم، حتى صاروا كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع. (انظر التفصيل أعلاه)

048.7.3.1.2- الآية (29) الخاتمة تصف المؤمنين بصفات الكمال والجمال:

تبين هذه الآية صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن أتم الله عليهم نعمته بالنصر والمغانم نتيجة اتباعهم الدين: وهي صفات يتمناها كلّ إنسان، أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، على اتصال دائم مع ربهم يبتغون فضله ورضوانه ودخول جنته، فهو القادر على كل شيء الرحيم بهم، مثلهم في كمال طاعتهم وجمال أخلاقهم ونضج مجتمعهم كالزرع أخرج ساقه وتكاثرت فروعه حتى قوي واستقام سيقانه جميلاً منظره يعجب زرّاعه لحسنه، مثّل الصحابة رضي الله عنهم بذلك لأنهم بدأوا في قلة وضعف فكثروا وقووا على أحسن الوجوه، ليغيظ بهم الكفار.

النصف الثاني وفيه مجموعتين من الآيات: مجموعة تتحدث عن هلاك المنافقين والمشركين، ومجموعة يصف الله تعالى فيها نفسه ويبين ما الذي يريده من عباده، كما يلي:

048.7.3.2- المجموعة الثانية: تتحدث عن هلاك المنافقين والمشركين وحرمانهم من الغنائم في الدنيا، هذا عدا عما ينتظر هاتين الفئتين من العذاب يوم القيامة بسبب جحودهم الإيمان وصدهم المؤمنين. ولولا وجود المؤمنين بين المشركين لسلط عليهم عذابه بأيدي المؤمنين وهو ما حصل لاحقاً بعد تميّز الفئتان المؤمنة والمشركة. الآيات (6، 11-13، 15، 25، 26) = 7 آيات

في الآيات وعيد بالعذاب وأن تدور عليهم دائرة السوء، بينما هم يعتذرون من الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يغفر لهم تخلّفهم عن الخروج معه فيكذّب الله تعالى اعتذارهم فالله خبير بما يعملون وأنه لا أحد يملك لهم من الله شيئاً إن أراد بهم ضراً أو نفعاً، وأنهم منافقون هالكون في الدنيا وعذاب سعير في الآخرة. لم يؤذن لهم بالخروج إلى خيبر ليغنموا مع المؤمنين ما وعدهم الله به من الغنائم. هؤلاء المشركون الذين جحدوا توحيد الله، وصدوا المؤمنين عن دخول المسجد الحرام، ولولا الخشية من أن يؤذى بغير علم، رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يعيشون بين أظهر المشركين، ولولا مشيئة الله بأن يدخل من يشاء من هؤلاء المشركين في الإيمان، لسلّط الله المؤمنين على الذين كفروا منهم ليعذبهم عذابا أليماً. هؤلاء الكفار هم الذين جعلوا الجاهليّة والتعصب لآلهتهم حميّة لهم في تعاملهم مع المؤمنين وصدّهم لهم عن عبادة الله وأداء شعائره، فأنزل الله السكينة والطمأنينة على المؤمنين وألزمهم قول لا إله إلا الله التي يتقون بها النار فهم أحق بها من الكفار، وكان الله ولا يزال بكل شيء عليما (أي عليم بمن يستحق الخير ممن يستحق الشر).

048.7.3.3- المجموعة الثالثة: الله تعالى يصف نفسه ويبين ما الذي يريده من عباده أرسل بذلك رسوله: الآيات (7-10، 14، 16، 17، 28) = 8 آيات

048.7.3.3.1- يصف الله تعالى نفسه بأنه له جنود السماوات والأرض هو الحكيم العزيز الغفور الرحيم الشهيد، له ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. الآيات (7، 8، 14، 28) = 4 آيات

048.7.3.3.2- والمطلوب من الناس هو أن يؤمنوا بالله ورسوله ويعظموه ويوقروه ويسبحوا الله في الصباح والمساء. (الآيات 9، 10، 16، 17) = 4 آيات

048.7.3.3.2.1- ثم من يبايع الرسول فإنما يبايع الله: فمن نكث فعلى نفسه، ومن أوفى فسيؤتيه الله أجراً عظيماً.

048.7.3.3.2.2- يدعوهم للقتال: فمن يطيع يؤتيه الله أجراً حسناً، ومن يتولى فيعذبه عذاباً أليماً (لكن ليس الأعمى ولا الأعرج ولا المريض حرج فهم معفون من القتال).

048.7.4- سياق السورة باعتبار آيات القصص الموجودة فيها:

باعتبار القصص تنقسم السورة إلى مجموعتين من الآيات المجموعة الأولى تتكون من عشر (10) آيات تلخص مقصد وموضوعات السورة، ومجموعة أخرى من تسع عشرة آية (19) تبين كيف حصل هذا المقصد والموضوعات على أرض الحقيقة والتجربة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كما يلي:

048.7.4.1- الآيات (1-3، 7-9، 14، 16، 17، 23) المقصد والموضوعات: الآيات الثلاثة الأولى (1-3) تحكي عن مقصد السورة وهو فتح الله على رسوله والمؤمنين ليتم نعمته عيهم وينصرهم نصراً عزيزاً. والآيات الثلاث (7-9) تتحدث عن إرسال الله لجنوده والمرسلين لتتم على المؤمنين نعمة الإيمان والتسبيح لله. وفي الآية (14) أن لله ملك كل شيء، ويعامل الناس بالمغفرة والرحمة. والآيتين (16، 17) ان الله ابتلى الناس بالقتال للدفاع عن الدين والإسلام، فمن يطع الله ورسوله يفوز ومن يتول فله عذاب أليم. وفي الآية (23) أن هذه هي سنة الله التي لا تتبدل، في كل الأمم.

048.7.4.2- آيات القصص (4-6، 10-13، 15، 18-22، 24-29) = 19 آية. ففي الآيات (4-6) أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين فازدادوا إيماناً وفازوا، وفي المقابل تحقق العذاب للمنافقين والمشركين. والآيات (10-13، 15) تأييد الله للمبايعين والمعاهدين، أما المتخلفين الذين انشغلوا بأموالهم وأهليهم فكانوا قوماً بورا، أي هلكى ولا خير فيهم، ولا يفقهون. والآيات (18-22) لقد رضي الله عن المؤمنين وأنزل عليهم السكينة والفتح وغنموا مغانم كثيرة. والآيات (24-29) كف الله أيدي الكفار عن المؤمنين، وصدق رسوله الرؤيا بالفتح والنصر وإظهار الدين.

048.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

048.7.5.1- آيات القصص: السورة كلّها قصة واحدة.

048.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

 

048.8.1- في السور التي قبل سورة محمد (الحواميم وغيرها) تبين لنا أن الله أنزل الكتب وأرسل المرسلين ولم يترك من حيلة ولا وسيلة إلا استعملها لهداية الناس إلى الإيمان ولكنّ أكثرهم كفروا، وعلمنا أن الله أهلك كل الأمم السابقة بسبب كفرها وما نجّا منهم سوى القلّة المؤمنة. وبالوصول إلى سورة محمد صرنا على يقين بأن الإيمان أو الكفر هو سبب سعادة الإنسان أو تعاسته في الدنيا والآخرة، لذلك كان لا بد من التمسك بالإيمان والقتال دونه. فإذا فعلنا ذلك يفتح الله علينا فتحاّ عظيماً معجزاً يشعرنا برضا الله عنّا وعن أعمالنا ويريناً في الحقيقة أن الإيمان هو خير لنا ومن أجل سعادتنا. فيزداد بذلك أيماننا وشكرنا لربنا وتمسكنا بديننا فيغفر الله لنا ذنوبنا ويتم نعمته علينا فينقذنا من الضلال ويهدينا صراطه المستقيم ويبشرنا بالجنة أعدّها لنا. وبهذا الفتح المعجز يعلم المنافقين والمشركين يقيناّ غضب الله عليهم وطردهم من رحمته ووعيده لهم بجهنم، إن لم يتداركوا أنفسهم ويعودوا إلى الإيمان. وثم بعد ذلك وفي سورة الحجرات تبين أن الدين هو قواعد وقوانين تحفظ لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه، وهنا مكمن السعادة. وعلى المؤمنين العمل معاً للحفاظ على هذه الحقوق لمصلحة الجميع لأن الله حبب إلى الناس الإيمان وكرّه إليهم الكفر. وتؤكد الحجرات أن الناس سواسية في نظر الله الذي يرى قلوبهم التي في صدورهم وليس فقط صورهم، وأن العبرة في تطهير باطن الإنسان وليس ظاهره.

048.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: لا يخفى وجه حسن وضعها هنا لأن الفتح (في سورة الفتح) بمعنى النصر مرتب على القتال (في سورة محمد). وقد ورد في الحديث‏:‏ أنها مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين بعد إبهامه في قوله تعالى في الأحقاف‏: {وما أَدري ما يفعل بي ولا بكم} فكانت متصلة بسورة الأحقاف من هذه الجملة.

048.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح من جهات – وقد يغمض بعضها – منها أن سورة القتال لما أمروا فيها بقتال عدوهم في قوله تعالى {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب (4)} الآية، وأشعروا بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله {إن تنصروا الله ينصركم (7)} استدعى ذلك تشوف النفوس إلى حالة العاقبة فعرفوا ذلك في هذه السورة فقال تعالى {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً (1)} – الآيات، فعرف تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعظيم صنعه له، وأتبع ذلك بشارة المؤمنين العامة فقال {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين (4)} – الآيات، والتحمت إلى التعريف بحال من نكث من مبايعته صلى الله عليه وسلم، وحكم المخلفين من الأعراب، والحض على الجهاد، وبيان حال ذوي الأعذار، وعظيم نعمته سبحانه على أهل بيعته {لقد رضي الله عن المؤمنين (18)} وأثابهم الفتح وأخذ المغانم وبشارتهم بفتح مكة {لتدخلن المسجد الحرام (27)} إلى ما ذكر سبحانه من عظيم نعمته عليهم وذكرهم في التوراة والإنجيل ما تضمنت هذه السورة الكريمة. ووجه آخر وهو أنه لما قال الله تعالى في آخر سورة القتال {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (35)} كان هذا إجمالاً في عظيم ما منحهم وجليل ما أعطاهم، فتضمنت سورة محمد تفسير هذا الإجمال وبسطه، وهذا يستدعي من بسط الكلام ما لم تعتمده في هذا التعليق، وهو بعد مفهوم مما سبق من الإشارات في الوجه الأول، ووجه آخر مما يغمض وهو أن قوله تعالى {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38)} إشارة إلى من يدخل في ملة الإسلام من الفرس وغيرهم عند تولي العرب، وقد أشار أيضاً إلى هذا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه (54)} المائدة، وأشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام: “ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا” – وعقد السبابة بالإبهام، أشار عليه الصلاة والسلام إلى تولي العرب واستيلاء غيرهم الواقع في الآيتين، وإنما أشار عليه الصلاة والسلام بقوله “اليوم” إلى التقديم والتأخير، وفرغ هذا الأمر إلى أيام أبي جعفر المنصور، فغلبت الفرس والأكراد وأهل الصين وصين الصين – وهو ما يلي يأجوج ومأجوج – وكان فتحاً وعزاً وظهوراً لكلمة الإسلام، وغلب هؤلاء في الخطط والتدبير الإماري وسادوا غيرهم، ولهذا جعل صلى الله عليه وسلم مجيئهم فتحاً فقال: “فتح اليوم” ولو أراد غير هذا لم يعبر بفتح، ألا ترى قول عمر لحذيفة رضي الله عنهما في حديث الفتن حين قال له “إن بينك وبينها باباً مغلقاً” فقال عمر: أيفتح ذلك الباب أم يكسر؟ فقال: بل يكسر. ففرق بين الفتح والكسر، وإنما أشار إلى قتل عمر رضي الله عنه، ولذا قال عليه الصلاة والسلام “فتح” وقال: “من ردم يأجوج ومأجوج” وأراد من نحوهم وجهتهم وأقاليمهم، لأن الفرس ومن أتى معهم هم أهل الجهات التي تلي الردم، فعلى هذا يكون قوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم (38)} إشارة إلى غلبة من ذكرنا وانتشارهم في الولايات والخطط الدينية والمناصب العلمية. ولما كان هذا قبل أن يوضح أمره يوهم نقصاً وخطأ، بين أنه تجديد فتح وإعزاز منه تعالى لكلمة الإسلام، فقال تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً (1)} الآيات. ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في تلخيص التلخيص علماء المالكية مشيراً إلى تفاوت درجاتهم ثم قال: وأمضاهم في النظر عزيمة وأقواهم فيه شكيمة أهل خراسان: العجم أنساباً وبلداناً، والعرب عقائد وإيماناً، الذين ينجز فيهم وعد الصادق المصدوق، وملكهم الله مقاليد التحقيق حين أعرضت العرب عن العلوم وتولت عنها، وأقبلت على الدنيا واستوثقت منها، “قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! من هؤلاء الذين قال الله {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} فأشار عليه الصلاة والسلام إلى سلمان وقال: لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء” – انتهى.

048.8.4- انظر أيضاً تناسب وتناسق سورة الأحقاف مع غيرها من السور؛ وتناسب سور الحواميم مع بعضها ومع السورتين التي قبلها والتي بعدها (في 046.8.2)؛ وتناسب وتناسق الحواميم مع بعضها ومع قبلها وبعدها في (046.8.4).

انظر تناسب سورة القمر مع غيرها من السور (054.8.4).

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top