العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
062.0 سورة الجمعة
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
062.1 التعريف بالسورة:
1) سورة مدنية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 11 آية. 4) الثانية والستون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والعاشرة بعد المائة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “الصف”. 6) ليس لها أسماء أخرى.
7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 10 مرّات؛ (مرتين): لله، هو، العزيز، الحكيم، فضّل؛ (مرّة واحدة): الملك، القدوس، عالم الغيب والشهادة، ذو فضل، بعث، خير الرازقين. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: (مرّة واحدة): يوم الجمعة، أسفار.
أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: تجارة 2 مرة.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (3 مرات): فضل، خير، يحمل؛ (2 مرّة): ظالمين، قوم، موت، صلاة، لهو؛ (1 مرّة): ضلال، هادوا.
062.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم يوم الجمعة فقرأ بسورة الجمعة يحرض المؤمنين، وإذا جاءك المنافقون يوبخ بها المنافقين.
062.3 وقت ومناسبة نزولها:
نزل الجزء الأول من السورة، وهي الآيات (1-8) في السنة السابعة للهجرة، واحتمال أن تكون نزلت بمناسبة فتح خيبر أو بعدها بقليل. البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه أنها نزلت بينما كان هو وآخرين من الصحابة جالسين مع الرسول صلى الله عليه وسلم. ومعلوم تاريخياً أن أبو هريرة أسلم بعد صلح الحديبية وقبل فتح خيبر. وقد فتحت خيبر كما ورد في سيرة ابن هشام في محرّم، وابن سعد روى أنها في جمادى الأول من السنة السابعة للهجرة. لهذا فإنه من المحتمل أن الله سبحانه وتعالى أنزل هذه الآيات مخاطباً اليهود عند سقوط آخر حصونهم في أيدي المسلمين، أو من المحتمل أنها نزلت بعد استسلام جميع اليهود في شمال الحجاز للدولة الإسلامية بعد مشاهدتهم لنهاية خيبر.
نزل الجزء الثاني من السورة، الآيات (9-11) بعد الهجرة بقليل، حيث جمع الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين لصلاة الجمعة في اليوم الخامس من وصوله إلى المدينة. والحادث الذي تشير إليه الآية الأخيرة من هذا الجزء لا بدّ أن يكون حصل في الوقت الذي لم يكن فيه المسلمون قد تعلّموا فيه آداب صلاة الجمعة.
062.4 مقصد السورة:
062.4.1- الناس خلقوا لمقصد عظيم وهو معرفة الله وعبادته فمن فضل الله العظيم عليهم أن بعث فيهم رسولاً يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ضلال مبين. فإن هم تزكّوا بالإيمان والأخلاق وتعلموا القرآن والحكمة وعملوا بهما فقد فازوا، وإن بقوا على جهلهم في الشرك والفساد خسروا، فكانوا كالحمار يحمل الكتب ولا يعقل شيئاً منها، يدور مع صاحبه حيث أداره.
062.4.2- ومقصدها نجده في الآيات الأربعة الأولى: وهو أن معرفة الإنسان الله العزيز الحكيم وآياته، وعبادته وتسبيحه كما يسبح لله ما في السماوات والأرض هو نعمة عظيمة وفضل عظيم من الله وزكاة وخروج من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والمعرفة.
ولعلها اختيرت صلاة الجمعة لأن في أداءها الخير العظيم: من اجتماع المؤمنين في مكان واحد وفي وقت محدد وفي جماعة من الناس، يلتزمون بشروط وآداب لا يصح أداؤها الا بها، وفي التجرد عن غيرها، والانقطاع عن مشاغل الدنيا من تجارة أو لهو، يسمعون آيات الله ويتعلمون الحكمة، ومشاعر الأخوّة والألفة والأمان، والانتماء للجماعة، ووحدة الدين والهدف والمصير، والإله الواحد، ويحصل لهم بذلك من الخير الكثير، مالا يعلمه إلا الله.
062.4.3- وقال الإمام البقاعي: مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام، وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية الاجتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن بعث للتزكية بالاجتماع عليه في الجهاد وغيره في العسر واليسر والمنشط والمكره، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته، الحاثة على قوة التواصل والاجتماع، والحاملة على دوام الإقبال على المزكي والحب له والاتباع.
062.5 ملخص موضوع السورة:
نزلت على مرحلتين: الأولى (الآيات 9-11) في السنة الأولى من الهجرة تعلّم المؤمنين آداب صلاة الجمعة، والثانية (الآيات 1-8) في السنة السابعة للهجرة تبين فضل الله العظيم بأن أرسل في الأميين رسولاً يعلمهم ويزكيهم.
واستهلّت بتنزيه الله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (1)}، {الْمَلِكِ}: له ملك الدنيا والآخرة، {الْقُدُّوسِ}: الطاهر من كلّ ما يصفه به المشركون، {الْعَزِيزِ}: الشديد في انتقامه من أعدائه، {الْحَكِيمِ}: في تدبيره خلقه وتصريفه أمورهم. وتضمنت ثلاث مجموعات من الآيات وهي: (4 آيات) بعث فيهم رسولاً منهم {َيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (2)} إلى قوله: {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}، ثمّ (4 آيات) الوعظ بالتنبيه والتحذير من اتباع حال أمّة عمُوا عن الهدى فمُقتوا ولعنوا فكانوا {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (5)}، ثم (3 آيات) أمر المؤمنين بالمسارعة لأداء الصلاة لأنها خير لهم في الدنيا والآخرة، كما يلي:
(الآيات 1-4): التنبيه بأن الله {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)} الذي تسبح له كل المخلوقات {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ (2)} أي: يتلو عليهم آيات القرآن، ويزكيهم يعني: يطهرهم (من الضلال، والجهل، والشرك، والذنوب، والمعاصي، والشهوات) ويعلمهم القرآن والحكمة، ذلك فضل الله {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}.
(الآيات 5-8): التنبيه والتحذير من ارتكاب أفعال أهل الكتاب الذين كذّبوا بالتوراة (وفيها الآيات والحكمة والتزكية) فمثلهم: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (5)}، وقد ضلّوا وظلموا وزعموا أنهم أولياء الله من دون الناس، فليتمنوا الموت إن كانوا صادقين، لكن فرارهم من الموت هو دليل كذبهم وخوفهم وقبح مرتكباتهم وبيعهم آخرتهم بدنياهم، فالموت ملاقيهم ثمّ يردّون {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ (8)} ليحاسبوا على ما اقترفته أيديهم.
(الآيات 9-11): أمر المؤمنين بتلبية النداء لصلاة الجمعة وما فيها من الذكر وترك البيع، لأن في ذلك خيرهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة إن كانوا يعلمون أن ذكر الله الرازق وما عنده خير وأبقى {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}.
وهكذا لمّا افتتحت بالإعلام بأن معرفة أسماء الله والانشغال بتسبيحه هي أعظم نعمة على مخلوقاته، وتوسطها تقبيح حال المكذبين المعرضين فهم كالحمار يحمل أسفاراً، وختمت بالتنبيه على أن الصلاة خير مما عداها من اللهو والتجارة، وكان مقصدها أن الخير والسعادة والفلاح يكمن في ثلاثة أعمال وهي الزكاة: أي النماء في الفضائل والطهارة من الرذائل بتلاوة آيات القرآن وأنباء الغيب والساعة وأركان الإيمان والإحسان والتخلق بأخلاق القرآن، والتعليم: بتدبر آيات القرآن المقروءة والمشاهدة وأحوال الأمم ومصائرهم وأخذ الدروس والعبر، والعبادة: بالصلاة والإسلام بأركانه والعمل في طاعة الله واتباع أوامره ونواهيه، أما الرزق فأمره على الله {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}. علم أن الإنسان مخلوق ناقص محتاج إلى رب يرعاه، وأن فيه نفساً متغيرّة متطوّرة في سعيها لا تشبع، مجبولٌ على النماءِ والزيادة، لا تكتَمِل سعادته بالثبات على حالٍ. هيّأ الله لهم أسباب الطعام والشراب والأمن، ثم بعث فيهم رسولاً منهم يزكيهم ويعلمهم بعد أن كانوا في ضلال مبين؛ فكانت السورة حقاً كما وصفت نفسها تحمل أنباء الخير وبشارات الفضل العظيم {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)}.
ربنا آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليّها ومولاها.
062.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
الله خلق الناس ليزكيهم (أي يطهرهم بالإيمان والأخلاق من الشرك والفساد) بعبادته بالصلاة والذكر والتسبيح، وجعل التجارة واللهو وسيلة لتحقيق مقصد العبادة، فإن هم استعانوا بالتجارة كما شرع الله لهم وباللهو المباح لكي يعملوا فيفوزوا في الدنيا والآخرة فهو المطلوب، أما إن تركوا العمل بشرع الله وجعلوا الدنيا هي غايتهم التي توجههم فهذه مصيبة وجهل وضلالة.
تدعو السورة أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقرأوا قرآنهم ويتدبروا ما فيه من كلام الله والهدى والحكمة والعمل في طاعة الله كي لا يضلّوا كما ضلّت الأمم من قبلهم. لأجل بيان هذا المقصد ذكرت ثلاثة موضوعات تتناول المقصد من ثلاثة زوايا تكمل بعضها بعضاً، كما يلي:
062.6.1- الآيات (1-4) الله وحده المالك القدوس العزيز الحكيم، ينزهه ما في السماوات وما في الأرض، أرسل في العرب الأميين رسولاً، يقرأ عليهم آياته ويطهرهم ويعلمهم القرآن والحكمة ليخرجهم من الضلالة إلى الهدى. وأرسل إلى قوم آخرين لم يجيئوا بعدُ، الله وحده العزيز الحكيم، يؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
062.6.2- الآيات (5-8) في الآيات مثالان حقيقيان عن اليهود، يبينان إصرار الناس على الجهل والتكذيب، وعداوتهم لأنفسهم بتقديمهم الدنيا على الآخرة، وباتباعهم وبقاءهم في الضلال وعدم الخروج إلى النور والهداية. وفي هذا تحذير وإنذار لأمة محمد حتى لا يخسروا كما خسر الذين من قبلهم.
062.6.2.1- الآية (5) فلمّا أن جاءهم رسول من عند الله يهديهم إلى الحق والحكمة أعرضوا، ولم يعلموا ما فيها، وحتى وإن علموا فهم لم يفعلوا انشغالاً بالعاجل عن الآجل وبالباطل عن الحق، فكانوا كالحمار يحمل أسفاراً.
062.6.2.2- الآيات (6-8) ثمّ أن هؤلاء اليهود هم على باطل ويزعمون جهلاً أنهم أولياء الله، هم يريدون الدنيا والله يريد لهم أن يبيعوا الدنيا ليفوزوا بالآخرة. فإذا كانوا حقيقة أولياء الله فليتمنّوا الموت إن كانوا صادقين، لكن خوفهم وفرارهم من الموت هو الاختبار الذي يدل على بيعهم آخرتهم بدنياهم وكفرهم بالله وبالبعث والحساب، وهو ملاقيهم ليحاسبوا على أعمالهم وما اقترفته أيديهم.
062.6.3- الآيات (9-11) يأمر الله المؤمنين بأداء الفرائض على وقتها وعدم الانشغال بمباحات الدنيا على ضرورات الدنيا والآخرة، لأن في طاعة الله خيري الدنيا والآخرة.
يأمر الله الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، تلبية النداء لصلاة الجمعة وما فيها من الذكر، وترك البيع، لأن في ذلك الذي أُمروا به خير لهم، إن كانوا يعلمون مصالح أنفسهم فليفعلوا ذلك. فاذا أدّوا الصلاة فليتشروا في الأرض، ويطلبوا من رزق الله بسعيهم، ويذكروا الله كثيراً، لعلهم يفوزون بخيري الدنيا والآخرة.
وإذا رأوا تجارة أو لهو الدنيا وزينتها تفرَّقوا إليها، وتركوك أيها النبي قائماً على المنبر تخطب. قل لهم ما عند الله من الثواب والنعيم أنفع لكم من اللهو ومن التجارة، والله خير مَن رزق وأعطى، فاطلبوا منه، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة.
062.7 الشكل العام وسياق السورة:
062.7.1- سميت بهذا الاسم لأنها تناولت أحكام صلاة الجمعة، التي هي شعار الجماعة والأخوّة والمحبة بين المؤمنين، ودليل الخير والمصير المشترك بينهم، ولأن لها وقت محدد ومكان مخصص وجماعة من الناس وشروط وآداب ولا يصح أداؤها الا بها. فدعت المؤمنين إلى المسارعة لأداء الصلاة، وحرّمت عليهم البيع وقت الأذان، ووقت النداء، وختمت بالتحذير من الانشغال عن الصلاة بالتجارة وغيرها.
اسم السورة يوحي بأنّ هذه الأمّة تعيش في جماعة دائماَ، فهي تلبي نداء الحكيم وتطّبق ما في كتابه في ترابط كمثل الجسد الواحد، ولا تنتشر أو تتفرّق إلا لغرض قضاء حاجاتها المعيشيّة الضروريّة. وهذه الجماعة الأمية ومن سيلحق بهم إلى قيام الساعة، هي نفسها كما كانت أيام موسى عليه السلام مطلوب منها الانكباب على فهم كتابها وفعل ما جاء فيه من الخير والحكمة والالتزام بالجماعة، من لدن آدم عليه السّلام إلى هذا الوقت، بل والالتزام بالجماعات الأخرى المسبحة في السماوات والأرض.
062.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:
باعتبار ترتيب آياتها يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مجموعات من الآيات: الأولى أن الله أرسل إليهم رسوله بالحكمة التي فيها فوزهم ومصلحتهم، والثاني تحذيرهم من عدم اتباع الحكمة فتضيع عليهم الدنيا والآخرة، والثالث فضل الله في الآخرة خير من الدنيا وهي الأهم، وعليهم إذا التقى الخيرين فالآخرة أولى.
062.7.2.1- الآيات (1-4) ينزِّه الله تعالى عن كل ما لا يليق به كلُّ ما في السماوات وما في الأرض، وهو وحده المالك لكل شيء، المتصرف فيه بلا منازع، المنزَّه عن كل نقص، العزيز الذي لا يغالَب، الحكيم في تدبيره وصنعه.
وهو بذلك يطمئن المؤمنين بأنهم على الحق الذي عليه كلُّ ما في السماوات وما في الأرض، ثم يبشرهم بأنه بذلك يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في الضلال المبين، وأن آخرين سيلحقون بهم وهم كل من سيدخل في الإسلام إلى يوم القيامة. وهذا فضل من الله عظيم، يعطيه مَن يشاء من عباده.
062.7.2.2- الآيات (5-8) وفي درس وعبرة من الأمم السابقة، ذكرت الآيات قصّة أمّة لها حاله مماثلة، إذ بعث الله إليهم التوراة فيها كلام الله والحكمة والتزكية، فلم يحملوها وألغوا عقولهم فصاروا كالحمار الذي يحمل الأسفار ولا يعقل ما فيها. فتشبه الآيات فعل الذين رضوا بالحياة الدنيا عن الآخرة بعد أن جاءهم الرسول والكتاب، بالحمار يحمل كتب العلم والحكمة على ظهره ولا يقرأها ولو قرئت له فلا عقل له فيفهمها، بئس ما فعلوا هم كالحمير ألغوا عقولهم واكتفوا بحمل كلام الله دون أن يعملوا به.
والحقيقة هي أن الدنيا دار عمل فانية والآخرة هي دار نعيم خالدة. الله جعل الدنيا ليبلو الناس أيهم أحسن عملاً {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً (2)} الملك، خلق الناس لكي يخلدوا في الآخرة {وإنّ الآخرة هي دار القرار (39)} غافر، وليست الدنيا. فما فائدة التوراة، التي فيها الحكمة والهدى وبيان طريق الفوز والسعادة، فلم يتدبروا ما فيها ولم يتبعوا كلام الله، بل ظلوا متمسكين بالدنيا ولم يعملوا للآخرة التي إليها مآلهم فلم يرغبوا بالذهاب اليها وترك الدنيا، ففرّوا من الموت الذي هو ملاقيهم، ولا مناص.
ومعنى {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} أي كلفوا علمها، والعمل بها، ثم لم يحملوها، أي لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل. وفي ذلك تسهيل من حيث المعنى، لمن حمل القرآن، فترك العمل به، ولم يؤدّ حقه، ولم يرعه حق رعايته.
062.7.2.3- الآيات (9-11) تأمر الآيات بالسعي إلى ذكر الله وبالصلاة إذا جاء وقتها، وترك الانشغال بالمباحات الأخرى لما بعد أداء ما أمر به الله.
الإنسان في هذه الدنيا يسعى ويختار ما عند الله ويطيع أوامر الله كأولوية على كل ما عداها من المباحات (ولا يجوز العكس أي أن يسعى في المباحات الدنيوية ويترك الضروريات التي لا تتم السعادة في الدارين بدونها) وهذا هو الإشكال الضار والمهلك الذي يقع في الناس الذين ينشغلون في العاجل عن الآجل وبالمفضول عن الأفضل وبالحاضر عن الغائب، فيتكالبون على الدنيا الفانية ويهملون الآخرة الباقية، إنه قِصر نظر عجيب، هو حال أغلب الناس في كل شيء {يحبون العاجلة (27)} الإنسان، ويذرون الآخرة، كالبهائم التي لا ترى إلا شهواتها وما يقع أمامها، فتتنافس ويأكل أقوياءها ضعفاءها.
أما الصلاة والزكاة والصوم والإنفاق وغيرها من الأوامر والنواهي التي جاء بها الكتاب والتي فيها الخير والصلاح والسعادة لهم في الدنيا والآخرة فلا يبالي بها إلا القليل: من العبادات المهمّة والضرورية التي فرضها الله على الناس لأن فيها الخير لهم صلاة الجمعة، التي لها وقت معلوم ومكان محدد هو المسجد، فإذا آن أوانها فيتركوا كل شيء من أجل أداء الصلاة. صحيح أن التجارة واللهو مباحات مهمّة وضرورية لاستمرار حياة الناس في الدنيا لكنها إذا تعارضت مع صلاة الجمعة (وغيرها من الواجبات) التي فيها خير الدارين، فتترك التجارة واللهو مدّة أداء الصلاة ثم يعود كل إنسان لما كان عليه من التجارة واللهو.
062.7.3- سياق السورة باعتبار القصص والأمثال الموجودة فيها:
062.7.3.1- الآيات (5-8) ضربت لنا السورة مثلين حقيقيين يسهلان فهم مقصدها، وهو أن اليهود بقوا على ضلالتهم فلم يهتدوا، ثم هم يفرّون من الموت لعدم اتباعهم الهدى الذي جاءهم في التوراة، كما يلي:
062.7.3.1.1- الآية (5) في مثال وصورة معبّرة بديعة شبّه المولى عز وجل بني إسرائيل بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا يعي ولا يعلم ما فيها، وهم كذلك، التوراة بين أيديهم لكنهم لا يتدبرون كلام الله وما فيها من الحكمة، لا بل هم أشد بؤساً من الحمار لأن لهم عقول ميزهم الله بها فلم يستخدموها لفهم مقصد وجودهم ولم يفهموا ولم يعقلوا مكان الدنيا بالنسبة للآخرة، أي بأن الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، فتركوا العمل للآخرة وجعلوا سعيهم في التنافس على حطام الدنيا الفانية فتقاتلوا وأفسدوا وظلم بعضهم بعضاً وسعوا يفسدون في الأرض فخسروا الدنيا والآخرة.
062.7.3.1.2- الآيات (6-8) مثال آخر عن اليهود: وهو أن الآخرة خير من الدنيا، فمن عَمِل للآخرة بالصلاة والزكاة واتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، فالموت بالنسبة له هو انتقال من مرحلة إلى مرحلة، فهو يتمنى الموت لكي ينال ما وعد الله من الفضل والنعيم، أما الذين لم يعملوا للآخرة فهم يفرّون من الموت ويتمنون أن لا تنتهي هذه الحياة التي فضّلوها على الآخرة، كمثل بني اسرائيل وهم الذين حمّلوا التوراة فلم يحملوها فإنهم يفرّون من الموت، وهذا خير دليل على أنهم لم يستعدّوا للآخرة، لكنهم ميتون ومحاسبون على سوء عملهم.
062.7.3.2- الآيات (1-4) يحرض الله المؤمنين أن يطيعوا رسوله ويتبعوا كلامه والحكمة، ويطمئنهم بأن كل ما في السماوات والأرض يسبحون لله وأنهم ليسوا استثناء من قانون الله وشرعه، ثم يبشرهم بأنهم في خير وفي فضل من عنده إن هم أطاعوا رسوله واتبعوا كلامه والحكمة التي بعثها لهم لتخرجهم من الضلال الذي كانوا فيه.
062.7.3.3- الآيات (9-11) يعلم الله المؤمنين بأنه لا فرار من الموت والحساب على الأعمال والجزاء، لهذا السبب إذا تعارضت مصلحة دنياهم مع مصلحة آخرتهم فليبادروا إلى العمل للآخرة الباقية أولاً ثم يعودوا ليعملوا للدنيا بعد أداء ما فرضه الله عليهم من الصلاة والعبادة.
062.7.4- سياق السورة باعتبار مناسبة النزول:
062.7.4.1- الآيات (1-8) نزل هذا الجزء بعد أن فشلت جميع جهود اليهود في السنوات الستة السابقة من إحباط دعوة الإسلام. وكانت النتيجة أن مكّن الله المسلمون من إجلاء قبيلتي بني قينقاع وبني النضير ثمّ قتل وسبي بني قريظة وأخيراً سقوط خيبر آخر حصونهم، حيث لجأ اليها عدد كبير من اليهود الذين سبق وأن أجلاهم المسلمون عن المدينة، واستسلموا بدون كبير جهد من المسلمين، وبطلب من اليهود وافق المسلمون على أن يبقوهم في أرضهم ويعملوا فيها كأجراء عندهم. وبذلك انتهت قوّة اليهود في الجزيرة العربيّة. ثمّ ما تلاه من استسلام وادي القرى وفدك تيما وتبوك الواحدة تلو الأخرى إلى أن أصبح كل اليهود خاضعين لنفس الإسلام الذي لم يكونوا مستعدّين في السابق لقبول التعايش معه. بل وحاربوه بأقصى ما عندهم ثمّ بالتآمر والمكيدة حرّضوا وجمعوا العديد من القبائل العربية واستقدموهم إلى المدينة للقضاء على المسلمين لكن الله ردّ كيدهم وشتت شملهم بأن أشاع الفرقة بينهم في غزوة الخندق. وفي هذا عبرة ودرس للعرب بأن يعملوا بما جاءهم من الكتاب والحكمة وأن لا يضيعوه بالانشغال عنه في التنافس على الدنيا بغير الحق وبالباطل فيخسروا كما خسر اليهود، وفي نفس الوقت وكأنه الخطاب الأخير الذي يوجهه الله سبحانه لليهود في القرآن مذكراً إياهم بثلاثة أشياء:
062.7.4.1.1- أنهم رفضوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من بني إسرائيل، فالله لم يجعل النبوّة حكراً لهم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (4)}. لهذا فقد بعث للعرب {الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة (2)} وهو يتلوه عليكم أيضاً وترون ما يدعوا اليه أمامكم.
062.7.4.1.2- لقد أنزل الله عليكم التوراة فكنتم {كمثل الحمار يحمل أسفاراً (5)} وتزعمون أنكم {أولياء لله من دون الناس (6)}.
062.7.4.1.3- إذا كنتم حقيقة أولياء الله {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (6)} لكن خوفكم وفراركم من الموت هو الذي أذاقكم ذلاً بعد ذل في السنوات الأخيرة. وهو الاختبار الذي يدل على إدراككم لذنبكم ومعرفتكم في ضميركم أنكم عند الموت ستواجهون ذلاً أكبر وأخزى من ذل وخزي الدنيا.
062.7.4.2- الآيات (9-11) بيان آداب لصلاة الجمعة فمتى سُمع الأذان فيجب ترك البيع واللهو لغاية الانتهاء من أداء الصلاة.
أخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً إذا قدمت عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا اليها (11)} إلى آخر السورة.
062.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
062.7.5.1- القصص في الآيات: (2، 3، 11) = 3 آيات
062.7.5.2- الأمثال في الآيات: (5-8) = 4 آيات.
062.7.5.3- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1، 4، 9، 10) = 4 آيات.
062.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
062.8.0- كذلك تحرّض المؤمنين على الزكاة والعلم والعمل، وقد أتبعت بسورة المنافقون توبخ المنافقين المتظاهرين بالإسلام، ثم التغابن توبخ وتقرع الذين كفروا وكذّبوا بالآيات وأن مصيرهم النار، ثم الطلاق تأمر المؤمنين بالتقوى وتنهى عن تعدي حدود الله عند وقوع أبغض الحلال الطلاق، ثم التحريم تنهى عن أعمال تحرّم ما أحل الله وتحل ما حرّمه لإرضاء الناس؛ وقد سبقتها الحديد تأمر بالإنفاق وقتال الكافرين والمنافقين والمشركين، والمجادلة عن العذاب والذل للذين يحادّون الله ورسوله ويتناجون في الإثم والعدوان ويتولّون المغضوب عليهم، والحشر في إخراج أهل الكتاب المعاهدين بالرعب بغير قتال، والممتحنة تحرم موالات أعداء الله المشركين عبدة الأوثان ولو كانوا أولي قربى، والصف في زيغ وتكذيب أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وبهذا تكون اشتملت هذه السور العشر المدنية (من الحديد إلى التحريم) كل أصناف الناس والأمم، وعالجت وبيّنت كل ما فيه سعادتهم وفلاحهم ووبخت كل قبيح فيه شقاؤهم، بحكمة بليغة وتقدير دقيق من لدن عزيز حكيم. فلله الحمد.
062.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: يظهر في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في سورة الصف حال موسى مع قومه وأذاهم له ناعياً عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلى الله عليه وسلم وفضل أمته تشريفاً لهم ليظهر فضل ما بين الأمتين ولذا لم يعرض فيها الذكر اليهود. وأيضاً لما ذكر هناك قول عيسى: {ومُبشراً برسول يأَتي من بَعدي اسمُهُ أَحمد (6)} الصف، قال هنا: {هوَ الذي بعث في الأُميين رَسولاً منهم (2)} الجمعة، إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى وهذا وجه حسن في الربط. وأيضاً لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تجارة ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أنها خير من تجارة الدنيا. وأيضاً: فتلك سورة الصف والصفوف تشرع في موضعين: القتال والصلاة فناسب تعقيب سورة صف القتال بسورة صلاة تستلزم الصف ضرورة وهي الجمعة لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات فهذه وجوه أربعة.
062.8.2- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما ختمت سورة الصف بالثناء على الحواريين في حسن استجابتهم وجميل إيمانهم، وقد أمر المؤمنين بالتشبه بهم في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مرم للحواريين من أنصاري إلى الله (14)} الصف، كان ذلك مما يوهم فضل أتباع عيسى عليه السلام على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فاتبع ذلك بذكر هذه الأمة، والثناء عليها، فافتتحت السورة بالتنزيه عما أشار إليه قوله: {وكفرت طائفة (14)} الصف، فإنهم ارتكبوا العظيمة وقالوا بالنبوة، فنزه سبحانه نفسه عن ذلك ثم قال: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم (2)} الجمعة، إلى قوله {ذو الفضل العظيم (4)} الجمعة. ثم أعلم تعالى بحال طائفة لاح لهم نور الهدى ووضح لها سبيل الحق فعميت عن ذلك وارتبكت في ظلمات جهلها ولم تزدد بما حملت إلا حيرة وضلالة فقال تعالى: {مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً (5)} الجمعة، الآيات وهي في معرض التنبيه لمن تقدم الثناء عليه ورحمه الله إياه، لئلا يكونوا فيما يتلو عليهم نبيهم من الآيات ويعلمهم من الكتاب والحكمة مثل أولئك الممتحنين، فإنهم مقتوا ولعنوا بعد حملهم التوراة، وزعموا أنهم التزموا حمله والوفاء به فوعظ هؤلاء بمثالهم لطفاً من الله لهذه الأمة { وما يذكر إلا أولوا الألباب } انتهى.