العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


058.0 سورة المجادلة


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


058.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مدنية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 22 آية. 4) الثامنة والخمسون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والخامسة بعد المائة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “المنافقون”. 6) أسماء أخرى للسورة: وسميت أيضاً سورة الظهار، وقد سمع.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 40 مّرة؛ (3 مرّات): هو، خبير؛ (2 مّرة): غفور، كتب، بعث؛ (1 مّرة): عليم، سميع، بصير، عفو، رحيم، قوي، عزيز، شهيد، يَعْلَم، أنزل، رضي، سمع، أحصى. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: افسحوا 3 مرّات، يتماسّا 2 مّرة، تشتكي 1 مّرة، ستين مّرة 1.

أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: نجوى 9 مرّات، حزب 4 مرّات، حاد (خالف) 3 مرّات؛ (2 مّرة): كبت، انشزوا، يظاهرون.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: رسول 9 مرّات؛ (6 مرّات): قول، تعملون؛ الشيطان 4 مرّات؛ (2 مّرة): حيوك، سمع، يعلم، معصية؛ (1 مّرة): تجادل، تحاور، توعظون، أحصاه، استحوذ، شهرين، ثلاثة، رابع، خمسة، سادس.

058.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

أخرج سعيد بن منصور والبخاري تعليقا وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية من البيت لا أسمع ما تقول فأنزل الله {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها (1)} إلى آخر الآية.

058.3 وقت ومناسبة نزولها:

لا يوجد حديث يدل على وقت حصول حادثة المجادلة هذه والتي نزلت السورة بمناسبتها. لكن هناك إشارة إلى موضوع السورة وبناءاً على هذه الإشارة يمكن القول أنها حصلت بعد غزوة الخندق (شوّال من السنة الخامسة للهجرة). ففي سورة الأحزاب تتحدّث الآية {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيائكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4)}، عن إبطال عادة التبني. لأنها عبارة عن كلام وليست حقيقة ومثلها الظهار فمجرّد قول كلمة بالفم لا يمكن أن تحيل زوجة الرجل إلى أمّه على الحقيقة. لكن في سورة الأحزاب لم يُذكر أي شيء، شرعياً بخصوص حصول الطلاق من عدمه بكلمة الظهار، أو بخصوص كونه إثم يترتب عليه كفارة. بينما في هذه السّورة فقد ذكر كلّ ما يتعلّق بموضوع الظهار من قوانين شرعيّة، وهو ما يعني أنه تفصيل لاحق لما سبق وأشير إليه في الأحزاب.

058.4 مقصد السورة:

058.4.1- يأمر الله الناس أن يتبعوا شرعه ولا يخالفوا أمره، وأن يوالوه ولا يوالوا أعداءه لأنه معهم، يسمع سرّهم وجهرهم، وأن يتعاملوا فيما بينهم (كأفراد) بالبرّ والتقوى، وينهاهم عن الإثم والعدوان، لأنهم محاسبون على كل أعمالهم وأقوالهم، مجازون عليها في الدنيا والآخرة.

وفي السورة تنبيه وتحذير شديد من خطورة استخدام الكلمة وبيان أثرها العظيم في حياة الناس، فهي تأمرهم وتنهاهم باعتبار أن الكلام تعبير عن النيّة على القيام بعمل أو الالتزام بفعل، وهو وسيلة التواصل والتعبير عن مكنونات النفس والنوايا تجاه بعضهم البعض، تؤلّف بسببها القلوب أو تهدم البيوت.

058.4.2- الله مع الناس قريب منهم (قويهم وضعيفهم). الله يريد الخير للناس (أفراد) تكريماً لهم، مهّد لهم الكون لخدمتهم، وجعل لهم شرعاً فيه سعادتهم، ثم طلب منهم أن يطيعوه، وأن يجعلوه وليّهم لأجل فلاحهم، لذلك عندما حمّلهم الأمانة باختيارهم، أمرهم بالبر والتقوى وتقوى الله (الإحسان) ونهاهم عن الإثم والعدوان ومعصية الرسول (الإسلام).

058.4.2.1- مقصد السورة باعتبار ما يريده الناس من خالقهم: هو تعريف المؤمنين بأن كل ما فرض عليهم من شرائع وحدود هو لأجل تحقيق صلاح حياتهم وسعادتهم، وهو مطلوب منهم لأن فيه خلاصهم في الدنيا والآخرة، فالله يعلم ما في السماوات والأرض ولا يخفى عليه خافية فهو مع الناس يسمع تحاورهم ويبصر أعمالهم ويضع لهم الحدود لتعاملاتهم بما يحقق لهم العدل والمساواة التي تحفظ لهم مصالحهم.

058.4.2.2- مقصد السورة باعتبار ما يريده الله من الناس: هو أنه خلق الناس ليعفو عنهم ويغفر لهم ذنوبهم، وذلك بأن بيّن لهم حدوده لكي لا يعتدوا عليها وجعل لهم كفارة لذنوبهم إن هم اعتدوا على حدوده ومحارمه، فالإنسان جاهل وخطّاء، ولا بدّ من وضع حدود لجهله فلا يعتدي أو يفسد، ولا بدّ من وضع حلّ لتجاوزات قد يفعلها حين يخطئ أو يغفل.

058.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت في السنة الخامسة هجريّة واستهلّت بالإعلام بأن {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ … إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}، أي سميع لجميع الأصوات بصير بالأعمال، وجلّها في تفصيل هذا المعنى. وتكرر لفظ الجلالة {الله} في الآية الأولى أربع مرّات وفي الأخيرة خمس مرّات وفي كامل السورة أربعين مرّة بما يقارب ضعف عدد آياتها، فأكثر ما يتكرر لفظ الجلالة في السور المدنية التي فيها أحكام وتشريعات تستدعي تقوى الله ومراقبته. والاسم {الله} الجامع للأسماء الحسنى يدلُ على القهرِ والهيبة والترغيب والترهيب، وأن في السورة أحكام وأوامر ونواهي تتطلب عملاً أو اجتناباً، وكلّما ازدادَ ثقلُ الأحكام وصعوبة تطبيقِها يزداد ذكر {الله}. وكذلك ذكرت الأسماء: خبير، غفور، رحيم، عزيز… إلخ بعدد آياتها.

و”المجادلة” تعني الكلام لإظهار الحجّة، ووسيلة التواصل والتعبير عن مكنونات النفس والنوايا تجاه بعضهم البعض، فيه تنبيه إلى خطورة استخدام الكلمة وبيان أثرها العظيم، تؤلّف بسببها القلوب أو تهدم البيوت. وتضمّنت أربع مجموعات من الآيات: (6 آيات) أعلمت بأن الكلام له تأثير كبير على الأفراد والمجتمع المسلم، قد يبني وقد يهدم، ثمّ (4 آيات) أعلمت بأن الله يعلم كلّ شيء وهو معهم أينما كانوا فليتكلّموا بالخير وبما يقربهم منه ويبعدهم عن سخطه، ثمّ (3 آيات) الأمر بأن يكون لمجالس العلم والإيمان شروط وآداب تظهر مكانتها ومكانة المؤمنين والعلماء وفضلهم، ثمّ (9 آيات) فئات الناس باعتبار كلامهم ثلاث: المنافقون كاذبون مغضوب عليهم، والكفار مخالفون وأولئك في الأذلين، والمؤمنون لا يوادّون المخالفين ويدخلون الجنّة، كما يلي:

(الآيات 1-6) نزلت في رجل من الأنصار، اشتكته زوجته إلى الله وجادلته إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، لمّا حرّمها على نفسه بعد الصّحبة الطويلة والأولاد، وكان رجلاً شيخاً كبيراً فشكت حالها وحاله وكررت ذلك وأبدت فيه وأعادت، وهي قصّة حقيقية بيّنت خطورة الكلام على مصائر العباد، حتى كاد أن يهدم بيتاً ويشتت أسرة مسلمة، لكنّ لطف الله بالناس وحضوره يسمع الجدال ويبصر الأفعال، جعل للكلام أحكاماً وآداباً تضمن للناس السلامة في الدنيا والآخرة، ولمن خالف وكفر العذاب المهين {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}.

(الآيات 7-10) الله الذي {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (7)} أمر المؤمنين بألّا يتكلّموا إلا بالخير لأنهم محاسبون على أقوالهم وأعمالهم، مجازون عليها في الدنيا والآخرة، أما الذين يعودون لما نهوا عنه ويتحدّثون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول فمأواهم جهنم وبئس المصير. إنما النجوى من الشيطان ليحزُن المؤمنين وليس بضارّهم إلا بإذن الله {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}.

(الآيات 11-13) من آداب المجلس أن يفسح الجالسون بعضهم لبعض أو لغيرهم من القادمين عليهم، وإذا طُلب منهم التنحّي لمصلحة بادروا إلى فعل ذلك، وأن يقدّموا أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم الصدقة لمن كان قادراً على ذلك {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ (12)}، وهو من الأدب والإكرام لكلام الله ورسوله، قال تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)}.

(الآيات 14-22) أنواع الناس باعتبار كلامهم الذي يدلّ عليهم: هم المنافقون: يحلفون كذباً وهم يعلمون أنهم كاذبون ساء ما يعملون، ويصدّون عن سبيل الله {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)}، لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)} أولئك حزب الشيطان {هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)}، والكافرون: الذين يخالفون أمر الله ورسوله، أذلهم الله في الدنيا والآخرة {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}، والمؤمنون: لا يوادّون من خالف الله ورسوله ولو كانوا أقرباءهم {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} في الدنيا والآخرة.

اللهم اجعلك كلامنا في طاعتك وما يقربنا منك ويبعدنا عن سخطك، وأحاديثنا في ذكرك وشكرك والدعوة إلى مرضاتك.

058.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

في هذه السورة أحكام تنظم حياة المؤمنين، وتأمرهم بما فيه خلاصهم في الدنيا والآخرة، وفيها أوامر وتعليمات للمسلمين حول مشاكل مختلفة، حصلت بينهم بسبب كلام وأيمان وأحاديث قيلت وقت نزول السورة وذكرت بعض تفاصيلها. ولا شك أن في ذكرها هنا عبرة وتحذير من خطورة الكلام وتأثيره على الناس والمجتمع المسلم، وبنتيجتها ذكرت أحكاما تشريعية كثيرة كأحكام الظهار والكفارة التي تجب على المُظَاهِر وحكم التناجي وآداب المجالس وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم موالاة أعداء الله أو موادتهم ولو كانوا أقرباءهم الى غير ذلك، كما يلي:

الآيات (1-6) نزلت في رجل من الأنصار اشتكته زوجته إلى الله، وجادلته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمّا حرّمها على نفسه بعد الصّحبة الطويلة والأولاد، وكان هو رجلاً شيخاً كبيراً فشكت حالها وحاله إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكررت ذلك وأبدت فيه وأعادت. وعادة الظهار هذه، هي من مخلّفات الجاهلية التي كان من المفروض أن تترك بعد قبول الإسلام. فكيف يتكلمون بهذا الكلام الذي يعلم أنه لا حقيقة له، فيشبهون أزواجهم بأمهاتهم اللاتي ولدنهم؟ ولهذا عظّم الله أمره وقبّحه فقال إنه قولاً منكراً وكذباً، وعاقب عليه في الدنيا ووعد عليه بالحساب في الآخرة.

الآيات (7-10) أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يتكلّموا إلا بالخير وبما يقربهم من الله ويباعدهم من سخطه. والفاجر يتهاون بأمر الله ويتحدّث بالإثم والعدوان ومعصية الرسول كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

الآيات (11-13) من آداب المجلس أن يفسح الجالسين بعضهم لبعض أو لغيرهم من القادمين عليهم. وإذا طُلب منهم التنحّي لمصلحة بادروا إلى فعل ذلك.

يأمر الله المؤمنين بالصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن كان قادراً على ذلك، تأديباً لهم وتعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم. فمن لم يقدر فقد عفا الله عنه لكن بشرط المحافظة على المقصود من الأمر وهو الأدب مع الرسول والإكرام له. ويجب طاعة الله ورسوله والقيام بأهم العبادات من صلاة وزكاة، التي فيها حقوق الله وحقوق العباد.

الآيات (14-22) يوجد ثلاثة أنواع من الناس في المجتمع المسلم. أوّلهم المنافقون: فقد بينت الآيات شناعة حال المنافقين الذين يكذبون في كلامهم ويحلفون على الكلام الكذب ويتولّون الكافرين وأنهم ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين فأعدّ الله لهم عذاباً أليماً. لا تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئاً من العذاب ولا تحصّل لهم شيئاً من الثواب. النوع الثاني من الناس في المجتمع الإسلامي هم الذين يخالفون الله ورسوله قولاً أو فعلاً بالكفر والمعاصي وأنهم مخذولون بعكس من آمن فقد وعدهم الله بالنصر. النوع الثالث من الناس هم المؤمنون حقاً بالله واليوم الآخر فهم يبغضون من لم يقم بالإيمان ولو كانوا أقاربهم، ويحبون من قام بالإيمان ويوالونه فهؤلاء ثبّت الله الإيمان في قلوبهم وأيدهم بوحيه ومعونته في الدنيا ويدخلهم الجنة في الآخرة.

058.7 الشكل العام وسياق السورة:

058.7.1- إسم السورة هو “المجادلة”: وتعني الحديث أو الكلام بين الأفراد لإثبات وإظهار الصواب، وكذلك المناجاة للتعبير عمّا يجول في الخاطر. والحديث هو الموضوع الرئيسي الذي ركزت عليه وعلى نتائجه السورة. إذ أن الحديث والكلام والمناجاة بين الناس له تأثير كبير وخطير على المجتمع المسلم، قد يبني وقد يهدم، لكن قد يستسهله البعض ويعتقد أنه لا خطورة منه طالما هو لم يصدر عنه عمل، وهو اعتقاد غير صحيح لأن اللسان ترجمان القلب، ويدل على فكر ونوايا الإنسان، كما هو واضح من السورة، كذلك نبهت عليه الأحاديث الشريفة، كما في الحديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة مِنْ رضوان الله لا يُلْقِي لها بالاً يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم” أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، والترمذي في سننه، ومالك في الموطأ.

والسورة فيها تأكيد على رعاية الله للمسلمين كأفراد وأنه معهم أينما كانوا يسمعهم ويراهم ويبين لهم ما فيه سعادتهم ونجاتهم: جعل لكل شيء حدوداً، فليحذر الناس في تعاملاتهم بأن لا تكون إلا لله، وأن لا يتعدّوا حدوده، وحتى في كلامهم فهو معهم يسمع كل شيء، واللسان ترجمان القلب فليقولوا الحق والمعروف (البر والتقوى وتقوى الله) وليتجنبوا المنكر والزور (الإثم والعدوان ومعصية الرسول)، فالله يحصي كل شيء ليوم البعث والحساب ولا ينسى وهو الشهيد عليهم وهو بكل شيء عليم. وهو يعاملهم بما يستحقون من العناية والرعاية والتوفيق باتباعهم لهديه وحفاظهم على سننه، أو بالطرد من رحمته والعقاب إن هم خالفوا أمره ونهيه وأفسدوا في ملكه.

058.7.2- سياق السورة باعتبار أن الحديث والجدال بين الناس أمر مهمّ جعل الله له آدابه وحدوده لعظيم تأثيره على ترابط الأسر والجماعات، وأن الكلام هو عمل كالنظر وكالسمع يحاسب الإنسان على فعلهما:

الله خلق الإنسان ليعيش في جماعة ضمن جماعات (تتكون من: أُسر، وعائلات، وعشائر، وقبائل، وقرى، ومدن، ودول، وأمم) لكل فرد منها حقوق وواجبات ومسئوليات يصلح بها المجتمع ككل، بيّن الله تعالى لهم حدودها وجعل لهم الخيار ليبتليهم بها. ووسيلة الاتصال بين الناس كجماعة هي الحوار والجدال وتبادل الأفكار والمعلومات باستخدام الكلام والنطق، كوسيلة تميّز بها الإنسان عن سائر المخلوقات الأخرى. فبالكلام يتم التفاهم وإقامة العقود والعهود، ووضع القوانين والشروط التي تحدد الحقوق والحدود للأفراد والجماعات، وأوّل هذه العقود والحدود هي كلام الله للناس في القرآن المنزل، وحديث الرسول المرسل صلى الله عليه وسلّم، يليه العقود والحدود التي وضعها الناس لأنفسهم وبين بعضهم البعض، وتعاهدوا على الوفاء بها، والتي هي عبارة عن كلام يتحاورن به ويدل على مكنونات أنفسهم وعن عزمهم على القيام بأعمال وواجبات وأمور تُلزم وترضي الأطراف المتحاورة، ولا يجوز التفريط أو نقض بنودها، وهم مسئولون عن الوفاء بها حسب شروطها المتعاقد والمتفق عليها، وفي هذه السورة تأكيد بأن الله سبحانه وتعالى جعل نفسه مع المتعاقدين يسمع كلامهم ويشهد على تحاورهم ويحاسبهم على وفائهم أو نقضهم لعقودهم وشروطهم وكلامهم، كما أن عقودهم وشروطهم التي يشترطونها على أنفسهم يجب أن تكون ضمن الإطار الذي قرّره الله لهم في قانونه الفطري والأزلي. وباعتبار أقوال الإنسان التي تعبّر عن مكنونات نفسه وفكرة نجد السورة احتوت على أربعة مجموعات من الآيات كما يلي:

058.7.2.1- الآيات (1-6) قصّة حقيقية تبين خطورة الكلمة على مصائر العباد، فهنا أربعة كلمات معدودات كان يقولها الزوج في الجاهلية وهو في حالة من الغضب فتهدم ميثاقاً غليظاً ورباطاً مقدساً جعله الله، وبناءاً هو الأسرة، التي جعلها الله ليتحقق فيها السكن للزوجين وتكون الحاضنة لتربية الأبناء. حتى إذا ظهرت خطيئة الهدم بعد نعمة البناء ندم فاعلها أشدّ الندم. فوضع الله تشريعاً يعيد البناء إلى سابق عهده بكفارة تزيل أثر القول الذي هدم الأسرة.

058.7.2.2- الآيات (7-10) أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يتكلّموا إلا بالخير وبما يقربهم من الله ويباعدهم من سخطه. والفاجر يتهاون بأمر الله ويتحدّث بالإثم والعدوان ومعصية الرسول كالمنافقين الذين هذا دأبهم وحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

058.7.2.3- الآيات (11-13) من آداب المجلس (وهي مجالس للحديث) أن يفسح الجالسين بعضهم لبعض أو لغيرهم من القادمين عليهم. وإذا طُلب منهم التنحّي لمصلحة بادروا إلى فعل ذلك، وأن يسمع القول وأن يكون ليناً مع أخوته في الدين إذا طلب من أن يفسح في المجلس أو ينصرف منه، وكذلك تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

058.7.2.4- الآيات (14-22) في الآيات بيان مواقف الناس الثلاثة (مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم) وأسلوب تعاملهم في الكلام وحلفان الأيمان من عدمه كما يلي:

058.7.2.4.1- الآيات (14-19) المنافقون يحلفون على الكذب، ويظنون أنهم بحلفانهم الأيمان تكون وقاية لهم، فيختفون خلف أيمانهم حتى لا يعلم حقيقتهم المؤمنين وحتى تحميهم من عذاب الله، فيتمادوا في نفاقهم في صدّهم عن سبيل الله. أنساهم الشيطان ذكر الله، وكذلك يوم البعث يحلفون على الكذب كما كانوا يفعلون في الدنيا. أولئك حزب الشيطان وهم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

058.7.2.4.2- الآيات (20، 21) الكافرون الذين يخالفون أمر الله ورسوله (قولاً أو فعلاً)، أولئك من جملة الأذلاء المغلوبين المهانين في الدنيا والآخرة. وقد كتب الله بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين.

058.7.2.4.3- الآية (22) المؤمنون يصدِّقون بالله واليوم الآخر، ويعملون بما شرع الله لهم، ولا يوالون مَن عادى الله ورسوله وخالف أمرهما، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو أقرباءهم، ثَبَّتَ الله في قلوبهم الإيمان، وقوَّاهم بنصر منه وتأييد على عدوهم في الدنيا، ويدخلهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله وأولياؤه، الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة.

058.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

058.7.3.1- قصص تحكي ما فعله الناس من ظلم بحق أنفسهم وعدوان بسبب مخالفتهم أوامر الله، كما ذكرناه في مقصد السورة، يأمرهم أن يتبعوا شرعه ولا يخالفوا أمره، وأن يوالوه ولا يوالوا أعداءه لأنه معهم، يسمع سرّهم وجهرهم، في الآيات: (1-5، 8، 14، 16، 19، 20) = 10 آيات.

058.7.3.2- قصص عن جزاء يوم القيامة: (6، 15، 17، 18، 22) = 5 آيات.

058.7.3.3- مقصد السورة وموضوعاتها علم الله بكلام الناس ووجوده معهم أين ما كانوا، وأمره لهم بما يصلح لهم أمورهم، في الآيات: (7، 9-13، 21) = 7 آيات.

058.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

058.8.0- ولمّا بيّنت المجادلة أحكام الأقوال والأفعال، فكانت ضمن عشر من السور المدنيّة المتتالية: افتتحت خمسة منها بالتسبيح وهي: الحديد، الحشر، الصف، الجمعة، التغابن؛ والتسبيح هو التنزيه لله تعالى عن كل عيب وسوء. وثلاث سور هي الأكثر تكراراً للاسم {الله} بالنسبة لعدد آياتها وهي: الطلاق ثم المجادلة ثم الممتحنة، وتكرر كذلك في المنافقون والتحريم بزيادة واحد عن عدد آياتها. وتتناسب هذه السور العشرة وتكمل بعضها في خطاب المؤمنين والمؤمنات بما ينفعهم من الأحكام والتشريعات والطاعات، وتركّز كباقي السور المدنيّة في القرآن على التكاليف التي تحتاج إلى مجاهدة النفس كالإنفاق والقتال، وعلى أمور التشريع المتّصلة بالعبادات والمعاملات والحدود والعقوبات وتنظيم الأسرة وبناء المجتمع المسلم وتثبيت أركانه وعلاقاته مع غير المسلمين، كما تفضح المنافقين وتكشف أسرارهم، وتجادل أهل الكتاب وتدحض باطلهم.

058.8.1- لقد كرّم الإنسان وخلقه في أحسن تقويم، وسخر له السماوات والأرض جميعاً منه، ومهّد له ما فيهما لخدمته، وأسبغ عليه نعمه، ثم طلب منه أن يعبده وحده، فهو مالك الملك يفعل ما يشاء، فعلى الإنسان أن يطيع خالقه ويعبده، فكيف إذا كانت هذه العبادة لله وحده هي أيضاً تكريم للإنسان، أي أن يعبد خالقه وصاحب الفضل عليه بدلاً من أن يعبد غير الله، من المخلوقات التي لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً. وهل يعقل أن يعصى الله النافع ويعبد المخلوق الذي لا يضر ولا ينفع؟!

058.8.1.1- في هذا الجزء الثامن والعشرون من القرآن بالإضافة إلى سورة الحديد السابقة، يوجد لدينا عشرة من السور المدنيّة المتتالية، افتتحت خمسة سور منها بالتسبيح (وهي الحديد، الحشر، الصف، الجمعة، التغابن)، والتسبيح هو التنزيه لله تعالى عن كل عيب وسوء، وإثبات صفات الكمال له. فكل المخلوقات تسبح بحمده {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (44)} الإسراء، والإنسان مأمور بذلك وهو ليس استثناء {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ ….. وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ (8)} الحديد. ومن صفات كماله سبحانه وتعالى المذكورة في القرآن والتي تخصّنا ويهمّنا معرفتها كبشر أنه خلقنا في أحسن تقويم {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} التين، وأحسن صورنا {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (3)} التغابن، وأكرمنا وفضلنا على خلقه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ …. وَفَضَّلْنَاهُمْ (70)} الإسراء، وليغفر لنا ذنوبنا {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (12)} الصف، وليجزينا أيّنا أحسن عملاً {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (2)} الملك، وأنه مالك يوم الدين الذي تؤخذ فيه الحقوق كاملة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} الفاتحة، وبالعدل المطلق والميزان فمن يعمل مثقال ذرّة يره {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ (40)} النساء، وأنه ما خلق الإنسان إلا ليعبده {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات، وأعظم تكريم للإنسان أنه عبد لله، فقد وصف خير خلقه حين أسري به بعبده {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ (1)} الإسراء، وهو الذي يصلي علينا وملائكته ليخرجنا من الظلمات إلى النور {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (43)} الأحزاب، وأعد لنا أجراً كريماً {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)} الأحزاب، ولو حاولنا وصف تكريم الله للإنسان في الدنيا ووصف ما أعد لهم من الأجر الكريم في الآخرة، فسوف تجف الأقلام وينتهي المداد قبل أن ينتهي هذا الوصف. أمّا العبادة التي خلق لأجلها الإنسان، وكذلك الإيمان الذي تناولته هذه السور كباقي السور المدنيّة كثيراً، فتصف مجتمعة ومتفرقة أن الله تعالى خلقنا لينعم علينا بالإيمان وبعبادته ومعرفته والتذلل له، وتقديم أوامره ونواهيه على شهواتنا ورغباتنا، لننعم بالوجودين والحياتين في ظل طاعته.

 

058.8.1.2- هو الله رب العالمين وحده لا شريك له، يسبح له ما في السماوات وما في الأرض، له الملك وله الحمد على نعمة وجودنا ومعرفتنا له والتي لا يعدلها أي نعيم. وكذلك نعمة العبادة وطاعة الله، التي هي سرّ سعادة الإنسان لأنه جبل عليها في أصل خلقته، فهو إن لم يعبد الله فسيعبد غيره من المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع ومن الأوثان والأموال والأولاد وغيره. ثم كل طاعة لله فهي عبادة، وكذلك الدعاء هو العبادة كما في الحديث، وهو واجب أمر به {ادعوني أستجب لكم} والصلاة كلها دعاء (دعاء عبادة ودعاء مسألة) ولا يخفى على أحد عظمة وسحر الدعاء وتأثيره في حياة الناس، فقد دعا الأنبياء والصالحون ربهم واستجيب لهم بنَصّ القرآن، وكذلك دعاه المضطرون والمحتاجون، خوفاً وطمعاً، وكل الناس محتاجون، واستجيب لهم بتأكيد الله، وقد جرّبه كل الناس وتواترت به الأخبار في البر والبحر وفي كلّ الأوقات وعلى كلّ المستويات. واستجابة الدعاء تبرهن على أن الله حيّ قيوم سميع بصير كريم ودود رحيم غني قوي قدير مالك الملك، وهو مع الناس أينما كانوا، وغيرها من صفات الكمال لله التي يتعلمها ويعلم حقيقة وجودها الإنسان بتكرار الدعاء ودوام استجابة الله، حتى يصل به العلم إلى حد اليقين بصفات الكمال لله والإيمان بها.

 

058.8.1.3- جعل الله العبادة لأنها ضرورة للإنسان (ولغيره من المخلوقات)، فهي صلة بالله تحقق له السعادة والأمان والاطمئنان، وهي ضرورة لانسجامها مع فطرة الله وسننه وقدره القائم على العدل والميزان والأسباب، والتي تحفظ حقوق المخلوقات وتديم الصلاح وتمنع الفساد في الأرض. ويشير القرآن إلى ترابط عجيب في العلاقة بين الطاعة وأمور كونية خارجية تؤثر في الإنسان، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96)} الأعراف، وقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (10)} نوح.

 

058.8.1.4- تخاطب هذه السور العشرة المؤمنين والمؤمنات والذين آمنوا بالله وأطاعوه: فالإيمان هو إيمان بكمال صفاته الحسنى وبوجود ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ليتحقق لنا بالإيمان السعادة والأمان النفسي بالتوكل على الله، والطاعة هي بالعبادة وامتثال الأوامر لأنه بالطاعة يحصل النعيم والسعادة بالانسجام مع فطرة الله، وبالمعصية يحصل الإفساد بسنن الله فطرته وبالتالي الشقاء والعذاب. والعبادة ليست للإنسان فقط فكل المخلوقات خلقت لتعرف الله وتعبده وتطيعه في كل قوانينه: فإذا فسّرنا العبادة بالطاعة، فالخلق كله مطيع يسير بقانون واحد متناسق ونظام واحد لا يخرج عمّا قدّره الله، وإذا فسّرنا العبادة بالمعرفة والإيمان فالخلق بمن فيهم الإنسان مجبول في أصل خلقته ومفطور ليعرف أن الله ربه {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا (172)} الأعراف، وأن له إله يعبد ويسبح بحمده {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)} الإسراء. لكن من تكريم الله للإنسان جعل له كامل الخيار في أن يطيع فيسعد أو أن يعصي فيشقى. وهذه هي الأمانة التي حملها الإنسان وظنّ جهلاً أنه قادر على حملها، أمانة فيها تكليف بالحفاظ على فطرة الله واتباع سننه وقوانينه، تكليف فيه إنفاق بالمال الذي يحب، وجهاد بالنفس الغالية، ومناجاة بالبرّ والتقوى، ونهي عن الإثم والعدوان ومعصية الرسول، وغيره مما ذكر في السور.

058.8.1.5- هذه السور المدنية العشرة (الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الصف، الجمعة، المنافقون، التغابن، الطلاق، التحريم) تركّز كباقي السور المدنيّة في القرآن على التكاليف التي تحتاج إلى مجاهدة النفس، كالإنفاق والجهاد والاستشهاد في سبيل الله، وعلى أمور التشريع المتّصلة بالعبادات والمعاملات والحدود والعقوبات وتنظيم الأسرة وبناء المجتمع المسلم وتثبيت أركانه وعلاقاته مع غير المسلمين، كما تفضح المنافقين وتكشف أسرارهم، وتجادل أهل الكتاب وتدحض باطلهم، كما يلي:

سورة الحديد: ركّزت على أهميّة الإنفاق والقتال في صلاح أمر الدنيا: الله أمَرَ الإنسان بالإيمان لتصلح به حياته، وبالإنفاق لتصلح به حياة الجماعة، والقتال في سبيله للحفاظ على الدين والإيمان. افتتحت بسبح لله ما في السماوات والأرض، أي تنزه الله عن كل عيب وسوء، عزيز حكيم صاحب الكمال حسن الصفات.

سورة المجادلة: التنبيه والتحذير من خطورة الكلام والمناجاة وبيان أثرها العظيم في حياة الناس. فقد تكون المناجاة في البر والتقوى وهي مناجاة المؤمنين، وقد تكون في الإثم والعدوان وهي مناجاة الكفار والمنافقين.

سورة الحشر: التنبيه والتحذير من خطورة الإنفاق وبيان أثره العظيم في حياة الناس. المؤمنون ينفقون على الفقراء والمساكين وأعمال البر فهم الفائزون، والكفار والمنافقون ينفقون في العدوان وبناء الحصون لتمنعهم من الله والمؤمنين فهم الخاسرون المهزومون. افتتحت بسبح لله ما في السماوات وما في الأرض، أي تنزه لأنه هو الذي يدبر أمور الناس بحسب أعمالهم فيسلط المؤمنين على الكافرين لينصرهم ويدب الرعب في قلوب الكافرين ليهزمهم.

سورة الممتحنة: النهي عن اتخاذ الأعداء أولياء، فهم لا ينفعون، يقابله مضار ترك مدبّر الأمور الضار النافع، ويمكن تمييز الأعداء من ألسنتهم أو إظهار عداوتهم أو إخراجهم للمؤمنين. أي موالاة أعداء الله ضارّة لأن غير الله لا ينفع ولا يضر.

سورة الصف: القول والفعل للمؤمن واحد، وفي الاصطفاف على قلب رجل واحد لنصر الدين، دين النجاة في الدنيا والفوز في الآخرة. هو دين التجارة مع الله التي فيها الفوز العظيم والنجاة من العذاب، وعكسها من الكذب والنفاق. ابتدأت بسبح لله ما في السماوات وما في الأرض العزيز الحكيم الذي دلّنا على التجارة الرابحة والاصطفاف لنصرة دينه.

سورة الجمعة: فضل الله العظيم بأن بعث فيهم رسولاً يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ضلال مبين. فعمروا الأرض بالتجارة في الدنيا والآخرة، وبتجارة الدين استعداداً لما عند الله من الخير والفضل في الآخرة. ابتدأت بيسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم يزكي الناس ويعلمهم الكتاب والحكمة ليصلوا إلى الخير بفضله.

سورة المنافقون: المنافقون يظهرون الإيمان لكنهم كاذبون مضِلّون ولا ينفقون، انشغلوا بالأموال والأولاد عن ذكر الله. على عكس المؤمنين الذين لم تلههم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله والإنفاق مما رزقهم الله في الصدقات كما أمرهم.

سورة التغابن: جعل الله مقصد وجود الإنسان واضح وسهل الفهم للجميع، وهو: أما إيمان وإما كفر، من يؤمن بالله والرسول والنور ويعمل صالحاً يدخل الجنة، ومن يكفر يدخل النار، وكذلك في الدنيا من يسمع كلام الله ويطيع وينفق فقد أفلح ومن لا يفعل فقد خسر فإنه ما من مصيبة تصيب الناس إلا بإذن الله بسبب كفرهم وبما كسبت أيديهم.

ابتدأت بيسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض، فهو يستحق الحمد والتسبيح، فهو الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى قدير بصير عليم غني حميد خبير غفور رحيم شكور عليم عزيز حكيم. خلقهم وأحسن صورهم وقص من أخبار من كان قبلهم وأرسل الرسل وأخبر بالبعث وإليه المصير وعنده الأجر والفوز العظيم. سيجمع الناس ليوم يجتمع فيه المؤمن والكافر، وسترون ذلك حقيقة في يوم القيامة، فيه أهل الجنة يغبنون أهل النار، وأهل النار يتهمون بعضهم بعضاً بالكذب والإضلال.

سورة الطلاق: ينبغي التعامل بين الناس بالعدل والمعروف، وأن لا يظلم بعضكم بعضاً، وانتظروا النتائج المبهرة أن أطعتم:

هذه السورة العظيمة تبين كيف أن الله سبحانه وتعالى حاضر مع عباده وعلمه محيط بهم يحاسبهم بميزان دقيق لا يفوته شيء، يأمرهم (تكررت أمر) بما ينفعهم، فمن يتق الله ويطيع أمره تصبح حياته في الدنيا ميسرة، وطريقه في النور، وله من كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وفي الآخرة له أجر عظيم ورزق وجنات. أما من يعص الله ففي الظلمات وحسابه شديد وعذابه نكراً وعاقبة أمره خسراً وفي الآخرة عذاب شديد.

ذكرت في السورة حالة إنسانيّة صعبة تظهر فيها نقطة ضعف في الناس، قد يحصل فيها تعدي على حدود الله بالكلام وبالنفقة. وذكرت كمثال على أن الإنسان إذا لم يراقب الله ويتقه في تصرفاته فقد وضع نفسه في الظلام والظلم المهلك، لكن العكس لمن راقب الله واتقاه فقد سار على الهدى والنور المفضي إلى السعادة في الدارين.

سورة التحريم: ينبغي اتباع أمر الله، واتباع الحق، ففيه النجاة في الدنيا والفوز في الآخرة، وأن لا تحرموا حلالا ولا تحلوا حراما لأجل مخلوق.

هذه السورة تبين أنه لا مجاملة في الدين فالعمل الصالح ليس كالعمل السيّء، كالفرق بين النور والظلام، فليجد الكافر والمنافق الغلظة من المؤمنين لأنه لا تساهل في الحق ولا مجاملة مع الباطل. فامرأة فرعون بقيت على الحق ولم يرهبها الباطل وامرأة لوط ونوح كانتا على الباطل ولم يذعنا للحق.

في سورة الطلاق ذكرت مشكلة بين طرفين مرتبطين برباط مودة رحمة سينكسر، لأنه قد يرتبط المؤمن بآخر ثم يقرر أن ينفصل، ومن أعظم وأقدس هذه الروابط هو الزواج، فوضع الله لها القوانين والحدود والعلاج المبني على تقوى الله، لكي يبقي المؤمنين أخوة متحابين لا يظلم بعضهم بعضاً. وفي التحريم ذكرت مشكلة مع طرفين نقيضين هذا يسعى للحق والثاني يسعى للباطل، فكان العلاج مبني على الغلظة وعدم المجاملة في الباطل. كان الخلاف في الطلاق دنيوي بين مؤمنين، فهو في التحريم ديني أحدهم كافر يهتم بالدنيا والآخر مؤمن يهتم بالآخرة.

058.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: لما كان في مطلع الحديد ذكر صفاته الجليلة ومنها‏:‏ الظاهر والباطن وقال‏: {يعلمُ ما يلجُ في الأَرضِ وما يخرجُ منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كُنتُم (4)} افتتح هذه بذكر أنه سمع قوله المجادلة التي شكت إليه صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالت عائشة رضي الله وذكر بعد ذلك قوله‏: {أَلم تر أَن اللَهَ يعلمُ ما في السموات وما في الأَرض ما يكون من نجوى ثلاثة إِلا هو رابعهم (7)} المجادلة، ‏وهو تفصيل لقوله‏: {وهوَ معكُم أَينما كنتُم (4)} الحديد، وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تآخيهما في الافتتاح ب ‏{سبح}‏.

058.8.3- وقال الإمام البقاعي في نظم الدرر (بتصرّف): مقصود سورة المجادلة هو الإعلام بإيقاع البأس الشديد، الذي أشارت إليه الحديد، بمن حادّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لما له سبحانه من تمام العلم، اللازم عنه تمام القدرة، اللازم عنه الإحاطة بجميع صفات الكمال، وعلى ذلك دلت تسميتها بالمجادلة بأول قصتها وآخرها، وعلى تكرير الاسم الأعظم {الله} الجامع في القصة وجميع السورة تكريراً لم يكن في سواها بحيث لم تخل منه آية (تكرر الاسم {الله} أربعين مرّة، في حين أن عدد آيات السورة اثنان وعشرون آية)، وأما الآيات التي تكرر في كل منها المرتين فأكثر فكثرة كل ذلك للدلالة على أن الأكثر منها المراد فيها بالخطاب من يصح أن ينظر إليه تارة بالجلال، وتارة بالكمال، فيجمع له الوصفان، وهو من آمن ووقع منه هفوة أو عصيان، ولهذا ضمتها أشياء شدد النكير فيها حين وقع فيها بعض أهل الإيمان، ولم يبحها لهم عند وقوعهم فيها رداً للشرع إلى ما دعا إليه الطبع، وهذا مؤيد لما تقدم من سر إخلاء الواقعة والرحمن والقمر من هذا الاسم الجامع، لأنه لم يذكر في واحدة من الثلاث أحد من أهل المعصية المصاحبة للإيمان، ليخاطب بالاسم الجامع للإهانة والإحسان، وإنما ذكر أهل الكفر المستوجبين للإهانة في النار وأهل الإيمان المستوجبين للإحسان في الجنة.

058.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما نزه سبحانه نفسه عن تقول الملحدين، وأعلم أن العالم بأسره ينزهه عن ذلك بألسنة أحوالهم لشهادة العوالم على أنفسها بافتقارها لحكيم أوجدها، لا يمكن أن يشبه شيئاً منها بل يتنزه من أوصافها ويتقدس عن سماتها، فقال: {سبح لله ما في السماوات والأرض (1)} الحديد، ومضت أي تعرف بعظيم سلطانه وعليّ ملكه، ثم انصرف الخطاب إلى عباده في قوله: {آمنوا بالله ورسوله (7)} الحديد، إلى ما بعد ذلك من الآي، وكان ذلك ضرب من الالتفات، والواقع هنا منه أشبه بقوله سبحانه في سورة البقرة {وإذ قال ربك للملائكة (30)} البقرة، فإنه بعد تفصيل حال المتقين وحال من جعل في طرف منهم وحال من يشبه بظاهره بالمتقين وهو معدود في شرار الكافرين، فلما تم هذا النمط عدل بعده إلى دعاء الخلق إلى عبادة الله وتوحيده {يا أيها الناس اعبدوا ربكم (21)} البقرة، ثم عدل بالكلام جملة وصرف الخطاب إلى تعريف نبيه عليه الصلاة والسلام بين أيدي الخلق {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة (30)} البقرة، فجاء ضرباً من الالتفات فكذا الواقع هنا بين سبحانه حال مشركي العرب وقبح عنادهم وقرعهم ووبخهم في عدة سور غالب آيها جارٍ على ذلك ومجدد له أولها سورة “ص” كما نبه عليه في سورة القمر، وإلى الغاية التي ذكرت فيها إلى أن وردت سورة القمر منبئة بقطع دابرهم، وانجر فيها الإعذار المنبه عليه وكذا في سورة الرحمن بعدها، ثم أعقب ذلك بالتعريف بحال النزل الأخراوي في سورة الواقعة مع زيادة تقريع وتوبيخ على مرتكبات استدعت تسبيحه تعالى وتقديسه عن شنيع افترائهم فأتبعت بسورة الحديد، ثم صرف فيها الخطاب إلى المؤمنين، واستمر ذلك إلى آخر السورة، جرت سورة المجادلة على هذا القصد مصروفاً خطابها إلى نازلة تشوف المؤمنين إلى تعرف حكمها، وهو الظهار المبين أمره فيها، فلم يعد في الكلام بعد كما كان قد صرف إليه في قوله {آمنوا بالله ورسوله (7)} الحديد، بأكثر من التعرض لبيان حكم يقع منهم، ثم أن السور الواردة بعد إلى آخر الكتاب استمر معظمها على هذا الغرض لانقضاء ما قصد من التعريف بأخبار القرون السالفة والأمم الماضية، وتقريع من عاند وتوبيخه، وذكر مثال الخلق واستقرارهم الأخراوي، وذكر تفاصيل التكاليف والجزاء عليها من الثواب والعقاب، وما به استقامة من استجاب وآمن وما يجب أن يلتزمه على درجات التكاليف وتأكيدها، فلما كمل ذلك صرف الكلام إلى ما يخص المؤمنين في أحكامهم وتعريفهم بما فيه من خلاصهم، فمعظم آي سورة بعد هذا شأنها، وإن اتجر غيرها فلا استدعاء موجب وهو الأقل كما بينا – انتهى.

راجع تناسب سورة القمر مع غيرها من السور (054.8.4).

راجع تناسب سورة الحديد مع غيرها من السور (057.8). حول موضوعات: اسم الله الأعظم، والانفاق في سبيل الله، والتسبيح في القرآن.

راجع تناسب سورة المجادلة مع غيرها من السور (058.8.1.4 و 058.8.1.5). حول ترابط السور المدنية العشرة مع بعضها، من الحديد إلى التحريم.

راجع تناسب سورة التحريم مع غيرها من السور (066.8). حول ترابط السور المسبحة مع بعضها، ومع ما تلاها من السور المدنية، ومع سورتي الإسراء والأعلى المكّيتين. ومع ما قبلها من بداية سورة الفاتحة حتى سورة الواقعة.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top