العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
104.0 سورة الهمزة
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
104.1 التعريف بالسورة:
1) مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 9 آيات. 4) الرابعة بعد المائة من حيث الترتيب في المصحف.5) والثانية والثلاثون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “القيامة”. 6) ليس لها أسماء أخرى.
7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 1 مرة. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: الحطمة 2 مرّة.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: (2 مرّة): مالاً، مَا؛ (1 مرّة): ويل، همزة، لمزة، عدده، يحسب، لينبذن، الموقدة، تطلع، الأفئدة، مؤصدة، عمد، ممددة.
104.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
104.3 وقت ومناسبة نزولها:
وهي مكّية عند الجمهور. موضوعها وأسلوبها يشير بوضوح إلى أنها نزلت في وقت مبكّر من العهد المكي، بل وحتى أنها نزلت مع أوائل السور التي نزلت في مكّة. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.
104.4.1- الخزي والعذاب لكل من يحسب أن نجاته وخلوده بجمع المال، فيطعن ويعيب على الناس محقراً أعمالهم ومترفعاً عليهم. بل إن جمع المال يطرح صاحبه في النار الموقدة، جزاءاً على تعاليه واغتراره به وعدم إنفاقه.
104.4.2- مقصد السورة نجده في الآية الثالثة {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} أي أن الإنسان لجهله {يحسب أن ماله أخلده} فيطعن ويعيب على غيره، ممن ليس لديهم مال. وما المال إلا سبب أو وسيلة جعلها الله لكي تسهل مبادلة الخير والمنافع والتعاون بين الناس. فإذا جمعها نفر منهم ولم ينفقها، فقد عطلوا مصالح الناس.
104.4.2.1- إن الأرزاق والصحة والأعمار والخلود بيد الله وليس بالمال، ولو كان بالمال لنفع قارون ومنع عنه الموت؟ فإنفاق المال دليل الإيمان، وليطلب المؤمن ما يشاء من الله، ولا يركن إلى المال، فالمال لا شيء سوى أنه سبب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَداً” والشح أشد البخل. والمال بين الناس هو كالدم في الجسد، وهو الناقل الذي بواسطته تنقل المنافع والأشياء التي يستلزم نقلها لمن يحتاجها ويسهل حركتها لتصلح الحياة، فإذا توقف توقفت الحياة وفسدت. فالذي يجمع المال ولا ينفقه هو عدوّ للحياة وبذلك استحق الذم والتوبيخ ثم العقاب بالإهانة والنبذ كما تنبذ النفايات في النار وفي العذاب الشديد، ويؤصد عليه ويوثق بالأعمدة حتى لا يخرج، كما بينته السورة.
104.4.2.2- والحقيقة أن الله لم يجعل هذا المال مقصداً للحياة على الأرض، ولا للجمع والتكاثر والتفاخر، بل جعله سبباً يسهل تبادل المنافع بينهم، أما مقصد الحياة فهو العبادة والعمل الصالح. وقد ضمن تعالى لهم الرزق لأنه هو الرزاق، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} الذاريات. أما مصدر الرزق فقد أقسم على أنه في السماء وليس في المال {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} الذاريات. ثم أنه سبحانه وتعالى جعل التفاضل بين الناس بالتقوى لا بالمال بل بالتقوى، قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم (13)} الحجرات. والبخل بالمال هو من سوء الظن بالله عز وجل وعدم الإيمان (التصديق) فيما تكفّل به من الأرزاق، وفيما وعد من الخلف على الإنفاق والثواب في الآخرة.
104.4.3- وقال البقاعي: مقصودها بيان الحزب الأكبر الخاسر الذي ألهاه التكاثر، فبانت خسارته يوم القارعة الخافضة الرافعة، واسمها الهمزة ظاهر الدلالة على ذلك.
104.5 ملخص موضوع السورة:
نزلت في المرحلة الأولى السرّية من العهد المكي بعد سورة القيامة، واسمها “الهُمَزَة” لمفتتحها بالهُمزة اللمَزة الذي يغتاب الناس وينتقص منهم بسبب إعجابه بما جمع من المال، وظنّه أن في تكثيره الشرف والفضل والخلود. ومقصدها كذلك الإعلام بأن هذا الهمّاز اللمّاز الذي ألهاه جمع المّال وتعداده ستحطمه نار الله الموقدة. واستهلّت بالتهديد بالويل لكلّ همزة لمزة وأفعاله في الدنيا، فالموت ينتظره وليس الخلود، ثم إنّ مصيره أن يُطرح خالداً في النار الموقدة يوم القيامة، كما يلي:
(الآيات 1-3): الويل والهلاك لكل مغتاب للنّاس، طعّان فيهم، الذي كان همّه جمع المال وتعداده، ويظن جهلاً أنّه ضَمِنَ لنفسه بهذا المال الخلود في الدنيا فلا يموت ولا يحاسب، إنّما الخلود بالعلم والعمل الصالح والسعي للآخرة باتباع الدين.
(الآيات 4-9): كلّا، ليُطرحنَّ في النار التي تهشم كل ما يُلْقى فيها، إنّها نار الله الموقدة التي من شدّتها تنفُذ من الأجسام إلى القلوب (محل الكفر)، إنها عليهم مطبَقة في عمد ممدّدة.
ولمّا أنذرت الإنسان وخوّفته من أن يقضي كلّ عمره يعدد المّال ويراكمه لحوادث الدهر ومخافة الفقر، فهو يعلم أنه وُلد بلا مال، ثمّ عندما يجمع المال ويكتمل الجمع – ولا يحصل هذا إلا في كبره، تأتيه المنيّة ثمّ يموت فيكون المال حجّة عليه لا له، وبهذا يكون هذا الهُمزة اللمَزة كالمثال على الخسران الذي تقدّم ذكره في سورة العصر فيخسر الإنسان عمره مشغولاً بالفاني عن الباقي. وهي السورة الأخيرة من ستّ (6) سور من الزلزلة إلى الهمزة، تضمنت الدّعوة إلى الانتباه لما بعد هذه الحياة الدّنيا والإنذار والتخويف من الحساب على الأعمال والجزاء في الآخرة، وتقدمتها أيضاً اثنتا عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البيّنة تأمرُ بالعمل في التسبيح والذكر والإنفاق والإطعام والتزكية وطلب العلم وغيرها من أعمال الدّين للنجاة والفوز في الدنيا والآخرة. وأعقبها كذلك في سورتي الفيل وقريش تأكيد على أنّهم مجازون على أعمالهم في الدنيا قبل الآخرة، ثمّ في سورتي الماعون والكوثر بأنهم مجازون على أعمالهم في الآخرة.
الحمد لله على واسع فضله وعطائه. اللهم اجعل الدنيا في أيدينا ولا تجعلها في قلوبنا، وارزقنا الإخلاص في القول والفعل والعمل.
104.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
احتوت السورة على مجموعتان من الآيات تتحدثان عن هلاك الإنسان بسبب اعتقاده جهلاً بأن الخلود يكون بتكثير المال وليس بالعمل الصالح أو بقدر من الله: الأولى عن التهديد بالويل له من همزه ولمزه وأفعاله في الدنيا، فالموت ينتظره وليس الخلود؛ والثاني عن أن مصيره أن يطرح خالداً في النار الموقدة يوم القيامة.
104.6.1- الآيات (1-3) شر وهلاك لكل مغتاب للناس، طعان فيهم. الذي كان همُّه جمع المال وتعداده. يظن أنه ضَمِنَ لنفسه بهذا المال الذي جمعه، الخلود في الدنيا والإفلات من الحساب.
104.6.2- الآيات (4-9) ليس الأمر كما ظن، ليُطرحنَّ في النار التي تهشم كل ما يُلْقى فيها. إنها نار الله الموقدة التي من شدتها تنفُذ من الأجسام إلى القلوب. إنها عليهم مطبَقة في سلاسل وأغلال مطوَّلة؛ لئلا يخرجوا منها.
104.7 الشكل العام وسياق السورة:
104.7.1- اسم السورة الهُمَزة، لمفتتحها: الهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس وينتقص منهم، والسبب هو إعجابه بما جمع من المال وظنه أن في تكثيره الشرف والفضل والخلود، وانشغاله به بدلاً من الاستفادة منه. هذا الهماز اللماز الذي ألهاه جمع ماله وهو يظن أن جمعه المال أعطاه الحق ليزدري الناس وينتقص منهم، ستحطمه نار الله الموقدة، فهو إذاً يستحق العقاب وهذه النهاية.
104.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:
في السورة ذمّ وتقبيح للإنسان الذي يسيطر عليه المال ويظنّ أنه هو الحافظ من نوائب الدهر والقيمة العليا والذي يديم الحياة، ويغفل عن حقيقة أن هذه دار عبادة وابتلاء. أعطاه الله المال ليستعين به ويستخدمه في الاستعانة على طاعته، لا أن يجمعه وينشغل ويلتهي به فيصير الإنسان عبداً للمال، كما يلي:
104.7.2.1- الآيات (1-3) وبال ووعيد وشدّة عذاب لكل من يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل. ومن صفة هذا الهماز اللماز، أنه لا هم له سوى جمع المال وتعديده والغبطة به، وليس له رغبة في إنفاقه {يحسب} بجهله {أن ماله أخلده} في الدنيا، فلذلك كان كدّه وسعيه كلّه في تنمية ماله، الذي يظن أنه ينمي عمره ويخلده في هذه الدار، وليس الأمر كما حسب.
104.7.2.2- الآيات (4-9) بل ليلقين في الحطمة، وهي من أسماء النار، لأنها تحطم من فيها، وتحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء، وهي مطبقة عليهم.
104.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:
احتوت السورة على ذمّ وتقبيح للبخيل الذي يكنز المال يحسب أن فيه خلوده، ثم وصف للعذاب الذي سيطرح فيه جزاءاً على تعاليه واغتراره، وعدم إنفاقه المال الذي استخلفه الله عليه لينفقه على مصالح الناس من كما أمر الله تعالى، كما يلي:
104.7.3.1- {ويل}: أي خزى وعذاب، وهو لفظ يستعمل في الذم والسخط والتقبيح والمراد به التنبيه على قبح ما سيذكر بعد من صفاتهم، وهي:
104.7.3.1.1- {لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} والهمزة اللمزة: هو الطعّان العيّاب، الذي يطعن في أعراض الناس ويظهر عيوبهم ويحقّر أعمالهم، تلذذا بالحط منهم وترفعا عنهم قال تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} القلم، وَقال: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ (58)} التوبة، وَقال: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ (79)} التوبة. وعن مجاهد وعطاء: الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة: الذي يغتاب من خلفه إذا غاب.
104.7.3.1.2- {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2)}: أي عدّه مرة بعد أخرى شغفا به، وكنزاً يحميه لنوائب الدهر، أو أَعَدَّه لما يكفيه في السِّنين. وهذا الفعل هو نقيض الإيمان والتوكل على الله، لأن الإنفاق من علاماته، بدليل أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم، في مرض الموت، كان في بيته سبعة دنانير، فأمر عائشة بالتصدق بها، وقال: “ما ظنُّ محمّد بِرَبِّه، لو لقي الله وعنده هذه الدنانير. تصدقوا بها كلها” فتصدقوا بالدنانير كلها. أما البخيل الذي يجمع المال ويعدده فقد وصف بالطعن في الناس والعيب لهم، كبراً وفخراً وخيلاء و{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} لقمان، فالهمزة اللمزة هو المختال الفخور الذي ينتقص غيره؛ وأن الله لا يحبه، وهو المناع للخير البخيل كقوله تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ (13) أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)} القلم، فمحبة المال تحمل على البخل، وضد ذلك من أعطى فلم يبخل واتقى فلم يهمز ولم يلمز، وأيضاً فإن المعطي نفع الناس والمتقي لم يضرهم، وأما البخيل الفخور جامع المال فإنه ببخله منعهم الخير وبفخره ضرّهم ولم ينفعهم، فمثله كمثل قارون، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ (76)} القصص.
والمال: هو كل ما يقتنى الإنسان ويملك من كل شيء سواء كان عيناً أو منفعة، من طعام ولباس ومسكن أو من ذهب أو فضة أو حيوان أو نبات. وهو ملك لله تعالى وحده، قال تعالى: {وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ (33)} النور، وقد سمّاه تعالى مال الله، إلا أنه تفضل على عباده باستخلافهم فيه، قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (7)} الحديد. فأصل الملك لله سبحانه وتعالى، وأن العبد ليس له إلا التصرف، والله جل جلاله سيحاسبه عن هذا المال من أين اكتسبه، وفيم أنفقه.
104.7.3.1.3- {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)} تهكم وإِنكار عليه في حرصه على جمع المال وتعديده لأنه لا يُوجد من يَحْسب أن ماله يقيه الموت فيُخلده، لأن العمل الصالح هو الذي يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخر في النعيم المقيم.
104.7.3.2- {كلا} ردع له عن حسبانه، أي: لا يخلده ماله ولا يبقى له {ليُنْبَذَنَّ} والنبذ دليل على الإهانة، أي: ليُطْرَحَنَّ {فِي الْحُطَمَةِ (4)}، وهي نار الله: وإضافة {نَارُ} إلى اسم الجلالة للترويع بها بأنها نار خلقها القادر على خلق الأمور العظيمة. {الْمُوقَدَةُ (6)} يفيد أنها لا تزال تلتهب ولا يزول لهيبها. {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)} أي تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على جنانها وخباياها، ربما إشارة إلى زيادة تعذيب للقلب لأنه محل الكفر والعقائد الفاسدة. {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مؤصدة (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)} قال مقاتل: أُطبقت الأبواب عليهم، ثم شُدَّت بأوتادٍ من حديد، حتى يرجع عليهم غَمُّها وحَرُّها. و{ممدَّدة} صفة العُمُد، أي: أنها ممدودة مطوّلة، وهي أرسخ من القصيرة.
104.7.4- سياق السورة باعتبار تعريضها وتحريضها على طلب العلم والإنفاق:
الحقيقة أن هذه السورة الصغيرة الخطيرة والمخيفة تقتضي منا التفكر العميق؛ ويجب علينا أن نفهمها وأن نعي سبب ما جاء فيها من التخويف الشديد ونتجنب أسبابه. فهي بحديثها عن البخيل الذي يكنز المال ويقضي حياته يجمعه ويتلذذ بتعديده، وعن استخفافه بمن هم دونه ممن لا يملكون المال بالهمز واللمز. فهي بذلك تتحدث عن عصب الحياة وقد أمسك به إنسان جاهل جهل شديد، أو إنسان متكبّر مفسد بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات، فاستحق من الله النبذ والإهانة والعذاب الشديد. لذلك يجب على العاقل أن يعلم وعلى المفكر أن يتأمل بأن من مقاصد السورة هو التعريض ولفت الانتباه إلى نقيض جمع المال المهلك وهو الإنفاق. أي ضرورة إنفاق المال الذي يبعث الحياة والخير والسعادة في الناس. وهذا هو من أهم مقاصد الدين ووجود الإنسان على الأرض لكي يستعمرها إلى حين بعبادته وببعث الحياة والصلاح فيها ومحاربة الكفر والموت والفساد، قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (61)} هود.
السورة تصرح بأن جامع المال يحسب (جهلاً) أن ماله أخلده، فهي إذاً تحذّره من الجهل. فأين عقله الذي وهبه الله إياه لكي يتعلم ويفكر، فلطالما هو يحسب جاهلاً فالويل له من جهله وقد خلقه الله ليتعلم. كذلك بشدّة حرص البخيل وحبه للمال فكأنه قد عَبَد المال وأطاعه كما في الحديث: “تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ”، وأعرض عن الله وعصاه، ظلماً وجهلاً بعد أن حمل أمانة عبادة الله وطاعته مختاراً على علم، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)} الأحزاب، فاختار أن يعبد المال جهلاً ما أتعسه. قال علي كرم الله وجهه: ” العلم خَيرٌ من المَال، العِلمُ يَحْرُسُكَ وأنتَ تَحرُسُ المَال، العلم يَزكوُ على العَمَل والمالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ ومحبةُ العَالم دِينٌ يدانُ بِهَا، العلمُ يُكسِبُ العَالِمَ الطَاعَة في حَيَاتهِ وجميلَ الأحدوثَةِ بعد موتِهِ وصَنيعةُ المَالِ تَزولُ بِزَوَالِهِ. ماتَ خُزَّانُ الأمْوَالِ وهم أَحْيَاء والعلماءُ باقونَ ما بقي الدَهْرُ”.
المضحك المبكي أن الإنسان يولد بلا مال، ثم يقضي كل عمره يعدده ويراكمه لحوادث الدهر ومخافة الفقر، فهو يعمل عمل من يظن أنه خالد في الدنيا ولا يظن أنه يموت، غافلاً عن إدراك أنه ليس لهذا خُلِق، ثمّ عندما يجمع المال ويكتمل الجمع، ولا يحصل هذا إلا في كبره، تأتيه المنيّة، ثمّ يموت، فيكون المال حجة عليه لا له، يعذّب به في النار لأنه اعتدى على حقوق الغير فاكتنزه، ومنعه عن عمل الخير، ولم ينفقه لتتحرّك به المنافع والأسواق ولتعمر به الحياة؛ ويتركه لورثته يضيعونه لأنهم لم يتعبوا بجمعه، أو يقتتلون عليه فيظلم بعضهم بعضاً، فلا المال أخلده، وكان يحسب هذا المسكين أنه سيخلد بهذا المال، وإنما الخلود في الآخرة، ولا ورثته عرفوا قيمته فاستفادوا منه وقد جاءهم فجأة فأنفقوه، لا لحاجة إنفاق ولكن كيفما اتفق.
راجع أيضاً ما يلي:
– انظر سورة الحديد 057.8.7 عن الإنفاق في سبيل الله
104.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
104.8.0- ولمّا أنذرت الإنسان وخوّفته من أن يقضي كلّ عمره يعدد المّال ويراكمه لحوادث الدهر ومخافة الفقر، فهو يعلم أنه وُلد بلا مال، ثمّ عندما يجمع المال ويكتمل الجمع – ولا يحصل هذا إلا في كبره، تأتيه المنيّة ثمّ يموت فيكون المال حجّة عليه لا له، وبهذا يكون هذا الهُمزة اللمَزة كالمثال على الخسران الذي تقدّم ذكره في سورة العصر فيخسر الإنسان عمره مشغولاً بالفاني عن الباقي. وهي السورة الأخيرة من ستّ (6) سور من الزلزلة إلى الهمزة، تضمنت الدّعوة إلى الانتباه لما بعد هذه الحياة الدّنيا والإنذار والتخويف من الحساب على الأعمال والجزاء في الآخرة، وتقدمتها أيضاً اثنتا عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البيّنة تأمرُ بالعمل في التسبيح والذكر والإنفاق والإطعام والتزكية وطلب العلم وغيرها من أعمال الدّين للنجاة والفوز في الدنيا والآخرة. وأعقبها كذلك في سورتي الفيل وقريش تأكيد على أنّهم مجازون على أعمالهم في الدنيا قبل الآخرة، ثمّ في سورتي الماعون والكوثر بأنهم مجازون على أعمالهم في الآخرة.
104.8.1- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما قال سبحانه وتعالى {إن الإنسان لفي خسر (2)} العصر، أتبعه بمثال من ذكر نقصه وقصوره واغتراره، وظنه الكمال لنفسه حتى يعيب غيره، واعتماده على ما جمعه من المال ظناً أنه يخلده وينجيه، وهذا كله عين النقص، الذي هو شأن الإنسان، وهو المذكور في السورة قبل، فقال تعالى {ويل لكل همزة لمزة (1)} فافتتحت السورة بذكر ما أعد له من العذاب جزاء له على همزه ولمزه الذي أتم حسده، والهمزة العياب الطعان وللمزة مثله، ثم ذكر تعالى ماله ومستقره بقوله: {لينبذن في الحطمة (4)}أي ليطرحن في النار جزاءاً له على اغتراره وطعنه.
104.8.2- تناسب السور: الزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر والعصر والهمزة (6 سور) مع بعضها ومع ما قبلها وبعدها:
السور من سورة الأعلى حتى البينة (12 سورة) تأمر بالعمل، والسور من الزلزلة إلى الهمزة (6 سور) تخويف من الحساب والجزاء في الآخرة، وسورتي الفيل وقريش عن الجزاء في الدنيا، وسورتي الماعون والكوثر عن مصير المكذبين والمؤمنين، كما يلي:
بعد أن أمرت السور السابقة من الأعلى حتى البينة (12 سورة) بالعمل في التسبيح والذكر والإنفاق والإطعام والتزكية وطلب العلم وغيرها من العبادات والعمل الصالح. وعلمنا أن العمل واجب، وأن الإنسان موجود على الأرض ليعمل ويكافح، تأتي السور من الزلزلة إلى الهمزة (6 سور) لتؤكد وتذكر بعض التفاصيل عن أن الناس محاسبون ومجازون على أعمالهم في الآخرة، ثم سورتي الفيل وقريش تؤكدان أنهم أيضاً مجازون على أعمالهم في الدنيا أيضاً قبل الآخرة. وسورتي الماعون والكوثر تلخصان مصير الفريقين في الماعون فالويل للمكذبين بالحساب ويعملون الأعمال التي ذكرتها السورة والكوثر فالكوثر والخير الكثير للنبي ومن آمن معه. ثم للكافرين دينهم ولي دين، فإذا جاء النصر فسبح واستغفر أما الكافرون فلم يغني عنهم لا مالهم ولا كسبهم من العذاب. فالله أحد استعن به على شر المخلوقات والحساد وشياطين الجن والإنس.
لم يخلق لنا الله الدنيا لنلعب بل لنعمل، ثم نحاسب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} الأنبياء. خلقها الله لنا لنحمل الأمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)} الأحزاب، وخلقها لنا لنرث الجنّة بأعمالنا: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} الزخرف.
هذه السور المباركة (من الزلزلة إلى الهمزة) تحذّر الإنسان وتنذره وتدعوه الى الانتباه لما بعد هذه الحياة المادية التي نعيشها على الأرض، وأنه بعد الموت مقبل على حساب شديد في اليوم الآخر الذي يُنصّب فيه ميزان العدل المطلق لكي تردّ المظالم إلى أصحابها ويأخذ كل صاحب حق حقه، فيثاب فيه المحسن ويعاقب المسيء. كما يلي:
وهذه السور الست ما عدا الهمزة نجد مقصدها في خاتمتها (الخلاصة): ففي الزلزلة التحذير من عدالة الميزان وإرجاع الحقوق لأصحابها، وفي العاديات التهديد بأن ربهم بهم لخبير فيظهر ما في الصدور، وهكذا.
– سورة الزلزلة: فيها تخويف للإنسان بالزلزلة وتنبيهه الى ما بعد هذه الحياة، والمحاسبة التي تقع بعد، في اليوم الآخر. وختمت بالآية {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}، والخطاب هنا عن العدل وميزان الأعمال موجّه لعقل الإنسان ليقارن ويختار بين الخير والشر. أي بعد أن حرّكت قلبه وعواطفه ليخاف فتستسلم النفس إلى حكم العقل والمنطق وترضى النفس بحكمه فتختار بميزان العدل والأسباب الذي يزن مثاقيل الذرات.
– سورة العاديات: خوفت الإنسان من قبائح أفعاله لأن الله به خبير، وذلك بعد أن بدأت بذكر نعمة الخيل التي تغير على الأعداء، وتعدد من صفاتها العظيمة المنفعة للإنسان، وأنذرت وحذرت من كنوده وجحوده وبخله الشديد وحبه للدنيا. وفي آخرها {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)}. والخطاب هنا عن حب المال والعواطف القلبيّة موجّه لقلب الإنسان الموجود في صدره وهو المتحكم في عواطف الإنسان.
– سورة القارعة: خوّفت الإنسان من ذلك اليوم الذي يكونون فيه: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5)}، وختمت بقوله: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}. والخطاب هنا موجّه لجوارح وشهوات الإنسان بالعيشة الراضية أو النار الحامية بالميزان للعقل وبالعيشة الراضية أو النار الحامية لعواطف الإنسان في القلب.
– سورة التكاثر: التخويف بالموت والمقابر، وختمت بالتهديد يقوله: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}. انشغال الإنسان بملذات جسده وبقلبه في الذي يحب التكاثر والنعيم، وتهديده بأنه محاسب على أعماله فليستعمل عقله ورشده قبل أن يهوي في الجحيم. أي بعد أن حرّكت غرائزه وحرصه على الخلود في الحياة والتكاثر بأن سيموت ويفقد كل هذا فتستسلم غرائزه إلى العقل والمنطق وترضى بحكمه فيختار بميزان العدل والأسباب أن يستخدم النعيم في رضوان الله وأمره ونهيه.
– سورة العصر: أقسم تعالى على أن الإنسان لفي خسر أي خسارة وهلاك، واستثنى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. خطاب واضح لقلب الإنسان الذي يحب الفوز لا الخسران فيفضّل فوز دائم خالد على شهوة سريعة زائلة، فليضع العواطف والشهوات جانباً، وليختار بميزان الحق والعدل بين الأعمال الرابحة أو الخسارة، فالقرار قراره.
– سورة الهمزة: التخويف بالويل والعذاب في خطاب موجّه للجوارح والجسد والشهوات لكل من يحسب أن نجاته وخلوده بجمع المال. وهو إنذار وتخويف شديد وتهديد بالويل لمن لم يستخدم عقله ووعيد بنار موقدة تتطلع على الأفئدة التي أحبت جمع المال، فلا يلومن الإنسان إلا نفسه، وقد أعذر من أنذر.
– سورة الفيل: إنذار شديد من غضب الله وقدرته على صرف كيد أصحاب الفيل، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود، فأضل الله عملهم، وأبادهم ومحى أثرهم.
– سورة قريش: إنذار أنهم إذا أرادوا المحافظة على نعمة الله وهي الرزق والأمن فعليهم بالطاعة لما أمر
– سورة الماعون: مقصدها ذمّ أعمال من يكذب بالجزاء والحساب في الآخرة (يوم الدين) لأنه لن يردعه رادع عن ظلم الناس وأخذ حقوقهم. والوعيد للمنافقين (فحالهم كحال المكذبين بالبعث والجزاء) وهم الساهون عن صلاتهم والمراؤون بأعمالهم والمانعون الماعون وكل ما ينفع الناس ويعينهم، وذلك لتكذيبهم بالجزاء.
– سورة الكوثر: الوعد بالعطاء والخير الكثير للرسول صلّى الله عليه وسلم، ومن آمن معه، والذل والحرمان لأعدائه ومبغضيه.
– راجع أيضاً سورة الكوثر (108.8.3): وقال الفخر: هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور.