العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


109.0 سورة الكافرون


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


109.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مكية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 6 آيات. 4) التاسعة بعد المائة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثامنة عشرة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “الماعون”. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمّى أيضاً سورة المقشقشة أي المبرئة من الشرك والنفاق وسورة العبادة، والإخلاص.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: لم يذكر لفظ الجلالة فيها. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: أعبد 8 مرّات؛ (4 مرّات): لا، ما؛ (2 مرّة): أنتم، دين؛ (1 مرّة): قل، يا، أيها، الكافرون، أنا، لكم، لي.

109.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن”.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه في الحديث الذي سأل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، رجل من أصحابه: “هل تزوجت يا فلان”؟ قال لا والله يا رسول الله ما عندي ما أتزوّج به. قال: “أليس معك {قل يا أيّها الكافرون}؟ قال: بلى. قال: “ربع القرآن”، إلى آخر الحديث.

وعن الحارث بن جبلة قال، قلت يا رسول الله علمني شيئاً أقوله عند منامي، قال: إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ “يا أيها الكافرون” فإنها براءة من الشرك، أخرجه الإمام أحمد.

وعن جابر بن عبد الله أن رجلا قام فركع ركعتي الفجر فقرأ في الركعة الأولى قل يا أيها الكافرون حتى انقضت السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم “هذا عبد عرف ربه” وقرأ في الآخرة قل هو الله أحد حتى انقضت السورة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “هذا عبد آمن بربه” فقال طلحة فأنا أستحب أن أقرأ بهاتين السورتين في هاتين الركعتين.

109.3 وقت ومناسبة نزولها:

عبد الله بن مسعود وحسن البصري وعكرمة قالوا إنها سورة مكية، بينما قال عنها عبد الله بن الزبير أنها مدنية. وروي القولين عن عبد الله بن عباس وقتادة الأول أنها مكية والثاني مدنية. على أي حال حسب رأي أغلب المفسرين أنها سورة مكية وموضوعها أيضاً يشير إلى أنها نزلت في مكة. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.

ذكر ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس: أن سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا، كنا قد شاركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه، فأنزل الله عز وجل {قل يا أيها الكافرون}. قال أبو صالح عن ابن عباس: أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السورة فيئسوا منه، وآذوه، وآذوا أصحابه.

109.4 مقصد السورة:

109.4.1- الأمر بالتبرؤ من عبادة الكافرين، وأن يخاطبوا إذلالاً لهم واعزازاً لدين الله: إن رضيتم بدينكم، فقد رضينا بديننا، لكم جزاء دينكم، ولنا جزاء ديننا.

يخاطب الله تعالى في السورة نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم تشريفاً له، وهي عامة فيها تشريف لجميع المسلمين؛ وفي المقابل الإهانة الحاصلة لأعدائه المخالفين، وهم الكفار بسبب وصفهم بالكفر، وهم يكرهون أن يقال عنهم الكفار، فهي صفة ذم شنيعة عند جميع الناس.

109.4.2- مقصد السورة نجده في الآية الأخيرة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)}: أي لكم دينكم الكفر ولي دين الإسلام؛ أو لكم جزاء دينكم، ولي جزاء ديني، لأن الدين الجزاء، أي لكم جزاء أعمالكم ولي جزاء عملي، إذاً اعملوا ما شئتم، فالكل حرّ فيما يختاره، وهو تهديد للكفار بعقاب الله، لأن الله يحاسب الجميع على أعمالهم ويجازيهم بما يستحقون من الثواب أو العقاب. ونلاحظ بأن السورة لم تأذن للكافرين بالبقاء في الكفر، بل حذرتهم ليراجعوا أنفسهم، وهددتهم بالعقاب، كقوله: {اعملوا ما شئتم (40)} فصلت، كذلك لم تقرر أو تلزم بقتال الكافرين لأنهم لم يعبدوا الله، كما لم تمنع المؤمنين من القتال. انظر تناسب السورة أدناه حول لا إكراه في الدين.

109.4.3- وقال البقاعي: مقصودها إثبات مقصود الكوثر بالدليل الشهودي على منزلها كامل العلم شامل القدرة لأنه المنفرد بالوحدانية، فلذلك لا يقاوى من كان معه، ولذلك لما نزلت قرأها صلى الله عليه وسلم عليهم في المسجد أجمع ما كانوا، وهذا المراد بكل من أسمائها. أما الكافرون فمن وجهين، ناظر إلى إثبات، وناظر إلى نفي، أما المثبت فمن حيث إنه إشارة إلى تأمل جميع السورة من إطلاق البعض على الكل، وأما النافي فمن جهة أنهم إنما كفروا بإنكار ما هو مقصودها إما صريحاً كالوحدانية وتمام القدرة، وإما لزوماً وهو العلم فإنه يلزم من نقص القدرة نقصه، وأما الإخلاص فلأن من اعتقد ذلك مؤمناً مخلصاً بريئاً من كل شرك وكل كفر، وأما القشقشة فلأنها أبرأت من كل نفاق وكفر، من قولهم: تقشقشت قروحه، إذا تقشرت للبرء، وعندي أنه من الجمع أخذاً من القش الذي هو تطلب المأكول من ههنا وههنا فإنها جمعت جميع أصول الدين، فأثبتتها على أتم وجه، فلزم من ذلك أنها جمعت جميع أنواع الكفر فحذفتها ونفتها، وقد تقدم تمام توجيه ذلك في براءة فأمرهما دائر على الإخلاص، ومن المعلوم أن من أخلص لله كان من أهل ولايته حقاً، فحق له ما يفعل الولي مع وليه. ولذلك، والله أعلم، سنت قراءتها مع {قل هو الله أحد} في ركعتي الفجر ليجوز فاعل ذلك بالبراءة من الشرك والاتصاف بالتوحيد أول النهار ثمرة ما ورد أن من صلى الصبح كان في ذمة الله، ومن كان كذلك كان جديراً بأن ينال ما أشارت إليه السورتان اللتان بين سورتي الإخلاص من الفتح له والنصر والخيبة لعدوه والخسر والحسرة.

109.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت في المرحلة الأولى من العهد المكّي، واسمها {الْكَافِرُونَ} إشارة إلى مفتتحها وكذلك إلى مقصدها لأنها بتمامها نازلة فيهم، خلقهم الله ليعبدوه فعبدوا غيره، لذلك أمرت بالتبرّؤ من عبادتهم. وتضمّنت أربع موضوعات متكاملة، كما يلي:

(الآية 1): الأمر بخطاب الكافرين {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} بِصفتهم الذميمة التي يكرهون سماعها.

(الآيات 2، 3): {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)} يعني الأصنام والأنداد، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)} وهو الله وحده لا شريك له.

(الآيات 4، 5): {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} في الحاضر والمستقبل، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} في الحاضر والمستقبل.

(الآية 6): {لَكُمْ دِينُكُمْ (6) وهو الكفر الذي تدينون به والإشراك باللّه وعليكم وزره {وَلِيَ دِينِ (6)} وهو الإسلام الذي أدين به والإخلاص للّه وحده ولي أجره.

وهكذا لمّا بدأت بالأمر بالبراءة من عبادة الكافرين، ثمّ ختمت بالبلاغ والتسجيل بأنهم كافرون {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} ولم تأمر بإكراههم، فقد سبق القول على كفرهم ولو ردّوا بعد موتهم ومعاينتهم العذاب لعادوا لما نهوا عنه، أي كافرين. وقد تقدّم بيان كلّ ذلك وتفصيله فيما سبق من آيات القرآن: من لدن قوله {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} في سورة البقرة، إلى قوله {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} في الكوثر، وتمّت إقامة الحجّة البالغة على العباد بأنهم فريقان: مؤمنون فائزون وكافرون خاسرون، على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم: ما بين أعلى عليين وأسفل سافلين.

كما تقدّمها كذلك إقامة الحجّة والدّليل على مضمونها في إثنتين وعشرين (22) سورة من الأعلى إلى الكوثر، كانت نزلت متفرّقة من بداية الدعوة ثم رُتّبت في آخر الكتاب متبوعة ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، فسبحان من أنزله مفرّقاً منجّماً بما اقتضته الأحوال وتثبيت القلوب، ورتّب في الكتاب بما تقتضيه البلاغة والأفهام والعقول. ففي اثنتي عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البينة: جاء الأمر بالعمل واتباع الدّين للفوز في الدنيا والآخرة، وفي ستّ (6) سور من الزلزلة إلى الهمزة: التخويف والإنذار من الحساب والجزاء، وفي سورتي الفيل وقريش: الجزاء في الدنيا، وفي سورتي الماعون والكوثر: مصير المكذبين والمؤمنين في الآخرة.

نسأل الله السلامة والعافية والثبات على الدين والإيمان وحسن الخاتمة.

109.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

احتوت السورة على أربعة موضوعات متكاملة تسهل فهم مقصود السورة: وهو أن عبادة الله واحدة ولا ثاني لها، وهي العبادة التي خلق الإنس والجن من أجلها. وقد أمر تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بمخاطبة الكافرين بأن الله خالقهم لن يقبل عبادتهم الباطلة أبداً، ولا يرضى أن يُعبد إلا بهذا الدّين الحق، وأن الناس أحرار فيما يختارونه من الباطل أو الحق، وأن بيدهم تقرير مصيرهم، كما يلي:

109.6.1- الآية (1) قل لمن لا يعبد الله، إذلالاً لهم واعزازاً لدين الله: {يا أيها الكافرون}.

109.6.2- الآيات (2، 3) لا أعبد ما تعبدون من الأصنام والآلهة الزائفة، ولا أنتم عابدون ما أعبد من إله واحد، هو الله رب العالمين المستحق وحده للعبادة.

109.6.3- الآيات (4، 5) ولا أنا عابد ما عبدتم من الأصنام والآلهة الباطلة، ولا أنتم عابدون مستقبلا ما أعبد. وهذه الآيات نزلت في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم الله أنهم لا يؤمنون أبداً.

109.6.4- الآية (6) خلق الله الناس للعبادة، فلا يمكن أن يعيش إنسان بلا إله يعبده، فإن لم يعبد الله عبد غير الله، فالكافرون عبدوا غير الله وخالفوا دينه: فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يتبرأ من دينهم، ويقول لهم: لكم دينكم الباطل الذي أصررتم على اتباعه، ولي ديني الحق الذي لا أبغي غيره.

109.7 الشكل العام وسياق السورة:

109.7.1- سمّيت سورة {الكافرون}، لمفتتحها، ولأن السورة بتمامها نازلة فيهم، وهي صفتهم الذميمة، خلقهم الله ليعبدوه فعبدوا غيره. لقد رفضوا الفطرة التي فطر الله الناس عليها وتركوها ليعبدوا الأوثان وهذا أبشع وأفظع. فتخاطبهم ذماً وتعنيفاً، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرض عليه الإيمان مقابل الكفر، فأمره ربه بالقول والتصريح برفض الكفر، وبتأكيد ذلك، وبالتبرؤ منهم {لكم دينكم ولي دين}.

109.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:

قوله تعالى {قل يا أيها الكافرون} يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المقصودون بهذا الخطاب هم كفار قريش دعوا رسول الله إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية، كما يلي:

109.7.2.1- الآية (1) خطاب كفار قريش، ومن خلفهم كل الكافرين على وجه الأرض، بِصقتهم الذميمة باتباعهم الباطل، وقد خلقهم الله ليعبدوه فعبدوا غيره {الكافرون}.

109.7.2.2- الآيات (2، 3): {لا أعبد ما تعبدون} يعني الأصنام والأنداد، {ولا أنتم عابدون ما أعبد} وهو الله وحده لا شريك له.

109.7.2.3- الآيات (4، 5): ثمّ قال: {ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، ولهذا قال: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه، في عبادته، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم.

109.7.2.4- الآية (6): فتبرأ منهم بجميع ما هم فيه، {لَكُمْ دِينُكُمْ} الذي تدينون به هو الإشراك باللّه وعليكم وزره {وَلِيَ دِينِ} الذي أدين به وهو الإخلاص للّه وحده ولي أجره، وقال البخاري {لكم دينكم} الكفر، {ولي دين} الإسلام.

109.7.3- سياق السورة باعتبار مناسبة نزولها:

باعتبار سبب نزولها المذكور أعلاه فالسورة تؤكد بأن الناس فريقين: فريق اختار أن يتبع الحق ويعبد الله، وفريق اختار أن يتبع الباطل ويعبد غير الله. لأنّ الله تعالى أمر نبيه وقت النزول: بأن قل للفريقين بأن كل فريق منهم له عبادته التي اختار ألا يتبع غيرها، وأن ييأس كل فريق من أن يتبعه مستقبلاً متّبع العبادة الأخرى، فقد اختار كلّ فريق دينه وانتهى، وقد علم الله الذي فطرهم على العبادة، أن الناس فريقان لا يلتقيان، أحدهما اتبع طريق الحق والثاني اتبع طريق الباطل، ولن يجتمعان، إلا من شاء له الله أن يغيّر طريقه.

وفي تفسير الطبري قال: الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبداً، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذين طمعوا فيه وحدَّثوا به أنفسهم، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله صلى الله عليه وسلم مع الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبداً، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا، إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعضٌ قبل ذلك كافراً.

صحيح أن كفار العرب لم يكونوا ينكرون ربوبية اللّه ولم يكونوا منصرفين عن عبادته ودعائه بالمرة، لكنهم كانوا يشركون مع اللّه غيره ويتخذون الأصنام رموزا لشركائهم فيسجدون لها ويقربون القرابين عندها، وكانوا يعتقدون أن الملائكة بنات اللّه ويعبدونهم ويدعونهم ليكونوا شفعاءهم عند اللّه وفي هذا كفر صريح بحق اللّه وواجبه على خلقه وتناقض صريح بين ما يعبد النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوا إليه وهو اللّه وحده لا شريك له ولا كفؤ له ولا ولد له وبين ما يعبدونه ويتجهون إليه.

109.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

109.8.0- وهكذا لمّا بدأت بالأمر بالبراءة من عبادة الكافرين، ثمّ ختمت بالبلاغ والتسجيل بأنهم كافرون {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} ولم تأمر بإكراههم، فقد سبق القول على كفرهم ولو ردّوا بعد موتهم ومعاينتهم العذاب لعادوا لما نهوا عنه، أي كافرين. وقد تقدّم بيان كلّ ذلك وتفصيله فيما سبق من آيات القرآن: من لدن قوله {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} في سورة البقرة، إلى قوله {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} في الكوثر، وتمّت إقامة الحجّة البالغة على العباد بأنهم فريقان: مؤمنون فائزون وكافرون خاسرون، على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم: ما بين أعلى عليين وأسفل سافلين.

كما تقدّمها كذلك إقامة الحجّة والدّليل على مضمونها في إثنتين وعشرين (22) سورة من الأعلى إلى الكوثر، كانت نزلت متفرّقة من بداية الدعوة ثم رُتّبت في آخر الكتاب متبوعة ب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، فسبحان من أنزله مفرّقاً منجّماً بما اقتضته الأحوال وتثبيت القلوب، ورتّب في الكتاب بما تقتضيه البلاغة والأفهام والعقول. ففي اثنتي عشرة (12) سورة من الأعلى إلى البينة: جاء الأمر بالعمل واتباع الدّين للفوز في الدنيا والآخرة، وفي ستّ (6) سور من الزلزلة إلى الهمزة: التخويف والإنذار من الحساب والجزاء، وفي سورتي الفيل وقريش: الجزاء في الدنيا، وفي سورتي الماعون والكوثر: مصير المكذبين والمؤمنين في الآخرة.

109.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما قال: {فصل لربك}‏ أمره أن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد إلا ربه ولا يعبد ما يعبدون وبالغ في ذلك فكرر وانفصل منهم على أن لهم دينهم وله دينه.

109.8.2- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما انقضى ذكر الفريقين المتردد ذكرهما في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره على اختلاف أحوال كل فريق وشتى درجاتهم، وأعني بالفريقين من أشير إليه في قوله سبحانه وتعالى {اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم (7)} الفاتحة، فهذا طريق أحد الفريقين، وفي قوله: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)} الفاتحة، إشارة إلى طريق من كان في الطرف الآخر من حال أولئك الفريق إذ ليس إلا طريق السلامة أو طريق الهلاك {فريق في الجنة وفريق في السعير (7)} الشورى، {فمنكم كافر ومنكم مؤمن (2)} التغابن، والسالكون طريق السلامة فأعلى درجاتهم مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أتباعهم من صالحي العباد وعلمائهم العاملين وعبادهم وأهل الخصوص منهم والقرب من أحوال من تنسك منهم، ورتبتهم مختلفة وإن جمعهم جامع وهو قوله: {فريق في الجنة (7)} الشورى، وأما أهل التنكب عن هذا الطريق وهم الهالكون فعلى طبقات أيضاً، ويضم جميعهم طريق واحد فكيفما تشعبت الطرق فإلى ما ذكر من الطريقين مرجعهما، وباختلاف سبل الجميع عرفت آي الكتاب وفصلت، ذكر كله تفصيلاً لا يبقى معه ارتياب لمن وفق، فلما انتهى ذلك كله بما يتعلق به، وتداولت بيانه الآي من لدن قوله بعد أم القرآن {هدى للمتقين (2)} البقرة، إلى قوله: {إن شانئك هو الأبتر (3)} الكوثر، أتبع ذلك بالتفاصيل والتسجيل فقال تعالى: {قل يأيها الكافرون (1)} الكافرون، فبين سبحانه أن من قضي عليه بالكفر والوفاة عليه لا سبيل إلى خروجه عن ذلك، ولا يقع منه الإيمان أبداً {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله (111)} الأنعام، ولو أنهم بعد عذاب الآخرة ومعاينة العذاب والبعث وعظيم تلك الأهوال وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا وقولهم: {ربنا فأرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل (12)} السجدة، فلو أجيبوا إلى هذا ورجعوا، لعادوا إلى حالهم الأول {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه (128)} الأنعام، تصديقاً لكلمة الله وإحكاماً لسابق قدره {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار (19)} الزمر، فقال لهم {لا أعبد ما تعبدون ولا أنتهم عابدون ما أعبد} إلى آخرها، فبان أمر الفريقين وارتفع الإشكال، واستمر كل على طريقه {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات (8)} فاطر، {إن عليك إلا البلاغ (48)} الشورى، فتأمل موقع هذه السورة وأنها الخاتمة لما قصد في الكتاب يلح لك وجه تأخيرها، والله أعلم.

 

109.8.3- تناسق السورة مع غيرها باعتبار أنه لا إكراه في الدين، وأن الناس أحرارا في اختيار عبادتهم ودينهم، ولا يجوز اكراه أحد على اعتناق دين الإسلام، بل يكفي إنذارهم، وتركهم وشأنهم، لكم دينكم ولي دين، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها، إنما يريد الله أن يقيم عليهم الحجة ليحاسبهم بما يستحقون، ويفاضل بينهم أيهم أحسن عملاً:

لقد أمرت سورة الكافرون الرسول صلى الله عليه السلام بإنذارهم أنهم كافرون، وأنه بريء منهم، ولم تأمره بأكثر من ذلك، فهو مبلّغ عن ربّه، وأنه ليس عليهم مسيطر ولا جبار، فلم تأمره بإكراههم على اتباع دينه أو قتالهم، بل قل لهم لكم دينكم ولي دين. وقد تكرر هذا المعنى في سور كثيرة مكية ومدنية، وأن المسلمين مكلّفون بأن لا يقاتلوا الكفار مالم يقاتلوهم أو يخرجوهم أو يقفوا في وجه الحق، كما في الآيات التالية من السور المدنية والمكية بحسب تسلسلها في القرآن:

109.8.3.1- {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} البقرة.

109.8.3.2- {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} البقرة.

109.8.3.3- {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)} البقرة.

109.8.3.4- {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)} آل عمران.

109.8.3.5- {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقولوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} آل عمران.

109.8.3.6- {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)} النساء.

109.8.3.7- {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقولوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)} المائدة.

109.8.3.8- {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحدا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) وإِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)} التوبة.

109.8.3.9- {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)} يونس.

109.8.3.10- {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)} يونس.

109.8.3.11- {فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} الحجر.

109.8.3.12- {وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)} النحل.

109.8.3.13- {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ (29)} الكهف.

109.8.3.14- {قُلْ إِنَّما يُوحى إلى أَنَّما إِلهُكُمْ إله واحد فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يعلم الْجَهْرَ مِنَ الْقول وَيعلم ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِن أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)} الأنبياء.

109.8.3.15- {إِنَّما أمرتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ البلدةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأمرتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا القرآن فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)} النمل.

109.8.3.16- {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خلق السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقولنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يعلمونَ (25)} لقمان.

109.8.3.17- {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)} سبأ.

109.8.3.18- {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خلقهُمْ لَيَقولنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)} الزخرف.

109.8.3.19- {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} الممتحنة.

109.8.3.20- {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقولونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)} المزمل.

109.8.3.21- {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} الغاشية.

 

– انظر سورة التوبة (009.8.3). وأن سورتي التوبة والممتحنة أوجزتا في سورة {الكافرون}. (كذلك مقصد التوبة وموضوعاتها حول البراءة من المشركين والمنافقين، وقتالهم).

– انظر أيضاً سورة التوبة (009.8.6) حول القتال في الإسلام.

– انظر سورة الممتحنة (060.8.4) حول القتال (الجهاد) في الإسلام. وهي كالخلاصة لسورة التوبة (060.8.3).

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top