العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


009.0 سورة التوبة


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


009.1 التعريف بالسورة:

1) مدنية ما عدا الآيتان 128، 129 فمكيتان. 2) هي من سور المئين وهي الوحيدة في السور المدنية. 3) عدد آياتها 129 آية. 4) السورة التاسعة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثالثة عشرة بعد المائة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة “المائدة”. 6) أسماء أخرى للسورة: تسمّى براءة. والتوبة لقوله تعالى فيها {لقد تاب الله على النبيّ}. والفاضحة: أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة قال: التوبة بل هي الفاضحة ما زالت تنزل {ومنهم} {ومنهم} حتى ظننا أن لا يبقى أحد منّا إلا ذكر فيها. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: قال عمر: ما فرغ من تنزيل براءة حتى ظننّا أنه لم يبق منّا أحد إلا سينزل فيه وكانت تسمّى الفاضحة وسورة العذاب. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: كان عمر بن الخطاب إذا ذكر له سورة براءة فقيل سورة التوبة قال: هي إلى العذاب أقرب. وقال ابن عمر كنّا ندعوها المقشقشة: أي المبرّئة من النفاق. وكانت تسمّى المنقرة: نقرت عمّا في قلوب المشركين. والحافرة لأنها حفرت على المنافقين. وكان يقال لها المثيرة والبَحوث والمبعثرة والمخزية والمتكلة والمشردة والمدمدمة. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 167 مرّة، {اللهم} مرّة واحده، {لله} مرّتين، و {رب} و {ربهم} و {أرباباً} مرّة واحده لكل منها. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

ووردت الأسماء والصفات: عليم 11 مرّة، حكيم 8 مرّت، رحيم 8 مرّات؛ (5 مرّات): غفور، فضّل؛ (3 مرّات): يحب، أنزل؛ (2 مرّة): سميع، عزيز، تّواب، رؤوف، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، يَعْلَم، يريد؛ (1 مرّة): خبير، قدير، المولى، الواحد، علام، خلق، يحيي، يميت، يبين، شاهد، رضي، مخزي الكافرين، مخرج، كتب.

هي السورة الوحيدة التي تكررت فيها هذه الآية مرتين: مرّة {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}؛ ومرّة {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)}

هي أكثر سورة تكررت فيها كلمة رسول ومشتقاتها 35 مرة تليها النساء 31 مرة ثم الأعراف 30 مرة ثم المائدة 22 مرة. وتكرار كلمة الرسول إشارة إلى أن وضع الناس الذين هم مادة القرآن وعليهم يدور جوهر موضوعاته غير مستقيم، وأن مرضاً استشرى في نفوسهم وقلوبهم، ولا بد من علاج لهذا المرض وتصحيح لهذا الاعوجاج بوحي ينزل من السماء عن طريق الرسل، فيه الوصف الكافي للصراط المستقيم، والدواء الشافي لعلاج أمراض القلوب، وفيه إشارة إلى ضرورة أن ينتبه الإنسان، ويسارع إلى إحداث التغيير في حياته، والعلاج لأمراض قلبه. وإحداث التغييرات الحاسمة في حياته نحو الأحسن، ولا تتم إلا باتباع ما جاءت به الرسل عن الخالق ومدبر الكون من أوامر، واجتناب ما نهى عنه من نواهي.

هي أكثر سورة تكررت فيها كلمة جاهد ومشتقاتها بمجموع 11 مرة من أصل 41 مرة تقريباً موجودة في القرآن كله. وهي إشارة صادقة لما تضمنته السورة من أوامر وتحريض على الغلظة وجهاد المشركين، وقد نزلت بالقتال ونبذ عهود المشركين.

هي أكثر سورة تكررت فيها كلمة توبة ومشتقاتها بمجموع 17 مرة من أصل 87 مرة تقريباً موجودة في القرآن كله.

وهي أكثر سورة تكررت فيها كلمة أموال 12 مرّة؛ ووردت فيها لفظة {جهنم} 8 مرّات، تليها سورة النساء 7 مرات. وأكثر سوره بعد سور البقرة 15 مره وآل عمران 11 مره وغافر 8 مرات وردت فيها لفظة {نار} 6 مرات هي والأعراف. وهي أكثر سورة تكرر فيها فوز 4 مرات.

وتكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: مؤمن 32 مرّة، كفر 25 مرّة، يعلم 20 مرّة، عذاب 19 مرّة، شرك 12 مرّة، الذين آمنوا 11 مرّة، نفاق 9 مرّات، ينفق 8 مرّات، جهنم 8 مرّات، ظلم 7 مرّات، فسق 7 مرّات، حق 7 مرّات، نار 6 مرّات، توبة 6 مرّات، جنه 5 مرّات، فوز 5 مرّات، كذب 5 مرّات، رحمه 4 مرّات، مغفره 4 مرّات، طاعة 3 مرّات، توكل 2 مرّة، تقوى 1 مرّة.

009.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

أخرج الطبراني في الأوسط عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المنافق لا يحفظ سورة هود وبراءة ويس والدخان وعمّ يتساءلون”.

أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن أبي عطيّة الهمداني قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تعلموا سورة براءة وعلّموا نساءكم سورة النور.

أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن {بسم الله الرحمن الرحيم} أمان، وبراءة نزلت بالسيف.

وقال في الكشاف: وقيل: سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة كلتاهما نزلت في القتال تعدان السابعة من الطول، وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة، وقال بعضهم: هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من يقول: هما سورتان، وتركت “بسم” لقول من يقول: هما سورة واحدة.

وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: إنما توهموا ذلك لأن الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، ووضعت إحداهما بجنب الأخرى، والمراد بالمثاني هنا ما دون المئين وفوق المفصل. قال أبو جعفر النحاس: قال أبو إسحاق: حدثني بعض أصحابنا عن صاحبنا محمد بن يزيد أنه قال: لم تكتب في أول سورة براءة {بسم الله الرحمن الرحيم} لأن {بسم الله الرحمن الرحيم} افتتاح خير، وبراءة أولها وعيد ونقض للعهود فلذلك لم تكتب في أولها بسم الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت علياً رضي الله عنه: لم لم تكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} هاهنا؟ قال: لأن “بسم الله الرحمن الرحيم” أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد وليس فيها أمان. ولا يعارض هذا خبر ابن عباس عن عثمان رضي الله عنهما، بل هو شبيه لما نزلت من غير بسملة للمعنى المذكور، اشتبه أمرها على الصحابة رضوان الله عليهم ولم يقع سؤال عنها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت موافقتهم للسور في تسميتها باسم يخصها دليلاً على أنها سورة برأسها، ومخالفتهم في ترك إنزال البسملة في أولها مع احتمال أنها تركت للمعنى المذكور أو لغيره دليلاً على أنها بعض سورة، فقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم}. وللحاكم في المستدرك أيضأ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى ينزل {بسم الله الرحمن الرحيم} فلما نزل علم أن السورة قد انقضت. فلما اشتبه أمرها تركوا كتابة البسملة في أولها وفصلوها عن الأنفال قليلاً.

009.3 وقت ومناسبة نزولها:

السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة، ولكنها لم تنزل دفعة واحدة. ويمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل. المرحلة الأولى منها كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام. والمرحلة الثانية كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها. والمرحلة الثالثة كانت بعد العودة منها. أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها فقد نزلت متأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج في ذي القعدة أو في ذي الحجة.

الآيات 1-37 نزلت في شهر ذي القعدة من السنة 9 للهجرة ولأهميّة موضوعها أرسل الرسول عليه السلام علي رضي الله عنه لقراءتها على الحجيج في موسم الحج، والآيات 38-72 نزلت أثناء التحضير لغزوة تبوك، والآيات 73-129 نزلت بعد العودة من غزوة تبوك.

وهي من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد روى البخاري عن البراء بن عازب: أن آخر سورة نزلت سورة براءة وروى الحافظ ابن كثير أن أول هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند مَرْجِعِهِ من غزوة تبوك وبعث أبا بكر الصديق أميراً على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مُبَلِّغَا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما فيها من الأحكام نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وهي السنة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم لغزو الروم واشتهرت بين الغزوات النبوية بـ “غزوة تبوك” وكانت في حر شديد وسفر بعيد حين طابت الثمار وأخلد الناس إلى نعيم الحياة فكانت ابتلاءاً لإيمان المؤمنين وامتحاناً لصدقهم وإخلاصهم لدين الله وتمييزاً بينهم وبين المنافقين.

وتبوك مكان في شمال الجزيرة، وهذه الغزوة تعرف بغزوة العسرة، لما أصاب فيها المسلمين من ضيق اليد بالنفقة. وقد أنفق عثمان بن عفان رضي الله عنه في هذه الغزوة نفقة عظيمة: جهز عشرة آلاف، وأنفق عشرة آلاف دينار (أي ما يعادل اثنين وأربعين ألفا وخمس مئة جرام من ذهب)، وتسع مئة بعير ومئة فرس وجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه بكل ما يملك، وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ما يملك، وتطوع كثير من الصحابة رجالا ونساء بأموالهم، وقد بلغ عدد جيش المسلمين ثلاثين ألف مقاتل. وقد خلَّف النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على المدينة النبوية عليّاً بن أبي طالب وقال له: أنت منى بمنزلة هارون من موسى. وقد كانت هذه الغزوة اختباراً عظيما لكثير من المسلمين، فقد كانت في زمن الصيف الشديد حرُّه، وهي آخر عزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقد كان من شأنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن يورِّي حين يريد الغزو إلا في غزوة تبوك فإنه صرح للمسلمين بمقصده حتى يتموا استعدادهم. يقول “كعب بن مالك” رضي الله عنه، فيما رواه البخاري بسنده: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّى بغيرها حتى كانت غزوة تبوك، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل غزو عدو كثير، فجلّى للمسلمين أمرهم، ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد”.

009.4 مقصد السورة:

009.4.1- الأمر الصريح والمباشر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين بالبراءة من المشركين والمنافقين، وجهادهم، وقتالهم حيث ما وجدوا بالأموال والأنفس، والقعود لهم كلّ مرصد، لعلّهم ينتهون أو يتوبون. وأنّ المنافقين هم كالمشركين، مشتركون جميعاً في عبادة واتباع وإرضاء المخلوق من دون الله الخالق.

وأن الله سبحانه ابتلى عباده بالقتال، ويريد أن يعلم الذين جاهدوا ولم يتخذوا من دونه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة. وأنه سبحانه اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة. وأن في الجهاد الخير والفلاح والبشارة بالفوز العظيم. وأن به يريد سبحانه أن يتوب على من يشاء.

009.4.2- مقصدها نجده في الآية الأولى التي تعلن براءة الله ورسوله من المشركين، والتخلي عن العهود التي كانت بين المسلمين والمشركين الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته، فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}. ثم واصلت الحديث عن المشركين وصفاتهم وأفعالهم لغاية الآية (37)، أي قريباً من ثلث عدد آيات السورة. بعد ذلك انتقلت للحديث عن صفات المنافقين، وكشف خباياهم وفضح أسرارهم، وخبث تفكيرهم ومكرهم بالمؤمنين، مستغرقة الثلثين المتبقيين إلى نهايتها، كما بينّاه في ملخص السورة أدناه. وأن المنافقين في نفاقهم هم كالمشركين في شركهم، يعملون لإرضاء المخلوق لا الخالق ويمكرون بالمؤمنين ليطفئوا نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره. لكن خطر المنافقين أكبر من خطر المشركين، لأنهم يظهرون الايمان ويخفون الكفر، ويفتنون العباد، ولا يستطيع المجتمع الخلاص منهم، لذلك نبهت السورة إلى صفاتهم وفضح أعمالهم، لكي يحذر منهم المؤمنون أكثر من حذرهم من المشركين، ولكي يحذروا من الاتيان بمثل أفعالهم فيصيروا مثلهم، وأمرت المؤمنين بالتخلي عن صفاتهم، فلا يختلقوا الأعذار مثلهم، بل المؤمنون يبادرون إلى المسارعة بالعمل والإنفاق والهجرة والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، لأن الله اشتراها منهم بأن لهم الجنة.

009.4.3- تأمر السورة بالبراءة من المشركين والمنافقين، رجاء حصول التوبة {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (3)}، كما حصل في قصة الثلاثة الذين خلّفوا في الآية (118) فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالبراءة منهم بعد أن اعترفوا بتخلفهم بدون عذر، ثم بعد أن تابوا تاب الله عليهم، وكانت البراءة منهم وهجرانهم سبب التوبة. وأنه سبحانه يبتلي المشركين والمنافقين، ويهددهم بانتقامه منهم، بأن يعذبهم بأيدي المؤمنين، ويذلهم، ويخزيهم، ويذهب غيظ قلوبهم، وبأن يقاتلوا كافة كما قاتلوا المؤمنين كافة، لعلهم ينتهون.

009.4.4- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: مقصد السورة معاداة من أعرض عما دعت إليه السورة الماضية من اتباع الداعي إلى الله في توحيده واتباع ما يرضيه، وموالاة من أقبل عليه.

009.5 ملخص موضوع السورة:

 

009.5.0- احتوت السورة باعتبار ترتيب آياتها وموضوعاتها على ثلاثة مواضيع رئيسيّة كما يلي:

009.5.1- الموضوع الأوّل: بيان الأحكام والآداب التي يجب أن يتعامل بها المؤمنون مع المشركين من حولهم، ومع المنافقين الذين بين ظهرانيهم، والأمر بالتبرّؤ منهم وجهادهم، وفضح ما يخفونه من المكر والإعداد والإنفاق للصدّ عن سبيل الله. وبيان أحكام القتال والسّلم، وأنّ الله سيظهر دينه على سائر الأديان الأُخرى، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}. وبيان أهميّة الجهاد، وتصنيف دقيق لفئات المجتمع المسلم.

009.5.2- الموضوع الثاني: ابتدأت السورة بلفظ البراءة من المشركين، وواصلت الحديث عنهم وعن لزوم قتالهم وإخراجهم، في كلّ مقدّمتها وحتى الآية سبع وثلاثون (37)، أي قريباً من ثلث عدد آيات السورة؛ ممّا قد يوحي بناءً على هذه المقدمة الطويلة وهذا التمهيد، بأنّها ستكمل في بسط صفات المشركين وأفعالهم حتّى نهايتها. لكنّ اللافت والمفاجئ أنها تركت المشركين عند هذه المقدّمة، وانتقلت للحديث عن صفات المنافقين، وكشف خباياهم، وفضحت أسرارهم، وخبث تفكيرهم ومكرهم بالمؤمنين، مستغرقة الثلثين المتبقّيين إلى نهايتها، ولم تعد تذكر المشركين إلا في الآية مئة وثلاث عشرة (113) من السورة، آمرة المؤمنين ألا يستغفروا للمشركين بعد أن ماتوا على الكفر. وفي هذا دلائل وإشارات للمؤمنين، أهمها:

009.5.2.1- أن المنافقين في نفاقهم هم كالمشركين في شركهم، الكل يعمل لإرضاء المخلوق لا الخالق، وهم في نفاقهم هذا كالمشركين سواء، لا يختلفون عنهم، فالمشركون اتخذوا الأحبار والرهبان والأصنام، والمنافقون اتخذوا الناس، أي أن الفئتين اتخذتا المخلوقات أرباباً من دون الله يأتمرون بأمرهم ويسعون في رضاءهم والتودد إليهم.

وروي في الإمام أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، حين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه (31)}، قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: “بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم”.

009.5.2.2- أن خطر المنافقين أكبر من خطر المشركين، فقد استغرق عدد الآيات التي تتحدث عنهم ضعف عدد الآيات التي تتحدث عن المشركين. وفي الواقع هم كذلك لأن أمر المشركين انتهى بهزيمتهم وخروجهم من بلاد المسلمين وبانتصار المؤمنين عليهم وإخضاعهم لحكمهم وأخذ الجزية منهم. أما المنافقين فعداوتهم وشركهم الخفي مع إظهارهم إيمانهم، وبقائهم يشاركون المؤمنين بلادهم وأموالهم وتجارتهم ومساجدهم هو الخطر الحقيقي الذي يحتاج إلى المزيد من الجهد والجهاد للتخلص من خطرهم ومكرهم.

009.5.2.3- أن الإسلام قضى على المشركين عبدة الأصنام والأوثان في بلاده، ولم يبقى من المشركين سوى أهل الكتاب، وهؤلاء لهم دينهم ولنا ديننا، ولهم معاملة خاصّة أوصى بها الإسلام، وأبقاهم على ضلالتهم، لأنه لا فائدة ترجى منهم، فهم لم يفهموا كتبهم ولم يتبعوها، وقد كانت أمرتهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يتبعوا رسله، وهم مع ذلك قلًة في بلاد المسلمين. أما المنافقون فهم محسوبين على الإسلام وهم كثر يملئون البلاد، ويفتنون العباد، ولا يستطيع المجتمع الخلاص منهم، لذلك نبه إلى صفاتهم وفضح أعمالهم، لكي يحذر منهم المؤمنون أكثر من حذرهم من المشركون، ولعلهم يراجعوا أنفسهم، فهم الذين ترجى توبتهم، ويسعى القرآن جاهداً لأن يعيدهم إلى رشدهم وأن يهديهم إلى طريق الحق وإلى عبادة ربهم.

009.5.3- الموضوع الثالث: السورة بفضحها للمشركين والمنافقين وهتك أسرارهم، وأمر المؤمنين بجهادهم تسعى رأفة ورحمة بهم لفتح باب التوبة أمامهم ليتوبوا. وقد تكرّرت فيها من صفات الله: الغفور، والرحيم، والرؤوف، والتواب سبع عشرة (17) مرّة: كَ {غفورٌ رحيم}، {رؤوفٌ رحيم}، {توابٌ رحيم}، {يُحب المتقين}، {أجرٌ عظيم} …إلخ بين الآيات الشديدة، من رحمة الله بهؤلاء، رغم كلّ ما فعلوه من مكر وحرب وصدّ عن سبيل الله.

كما تكرر فيها ذكر الرسول: وفيه إشارة إلى ضرورة أن ينتبه المشركين والمنافقين، ويسارعوا إلى إحداث التغييرات في حياتهم، والعلاج لأمراض قلوبهم. وإحداث التغييرات في حياتهم نحو الأحسن، لا تتم إلا باتباع ما جاءت به الرسل عن الخالق ومدبر الكون من أوامر، واجتناب ما نهى عنه من نواهي. وهي أكثر سورة تكررت فيها كلمة رسول ومشتقاتها 35 مرة.

اللهمّ إنّا توكّلنا عليك ونعوذ بك من الكفر والشّرك والفسوق والنّفاق والسّمعة والرّياء.

009.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

هذه السورة هي من أواخر ما نزل من القرآن، وقد تضمّنت أحكاماً نهائية في العلاقات بين الأمّة المسلمة والأمم الأخرى الكافرة والمشركة من حولها. كما تضمّنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته، وتحديد قيمه وأوضاع كلّ فئة فيه من فئاته الأربعة: المؤمنون، وأصحاب الأعذار من المؤمنين، والمنافقون، والمتخلفون حباً في الدنيا، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته وواقع كلّ طائفة منه وكلّ طبقة وصفاً دقيقاً مبيناً.

الآيات (1-28) تحديد العلاقات النهائية بين المسلمين والمشركين في الجزيرة. بوجوب البراءة منهم، ووجوب قتلهم وقتالهم أينما كانوا وحيثما كانوا، وكيف ظهروا ومهما كانت أعمالهم. وعدم موالاتهم وإن كانوا آباء أو أبناء فقد اختاروا الكفر على الإيمان. فالمشركون العرب ليس أمامهم إلا الإسلام أو الاستئصال لأنهم بدأوا العداوة وأخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من ديارهم، وصدوا عن سبيل الله، وغيره الكثير من أعمالهم التي ذكرتها الآيات.

الآيات (29-37) تحديد العلاقات النهائية كذلك بين المسلمين والمشركين من أهل الكتاب. بالتقرير بأن المشركين نجس، والحكم بوجوب قتالهم ومنعهم من الحج وأهل الكتاب لهم أحكام خاصة، فإما القتل، وإما الإسلام، وإما الجزية، فقد كفروا ونسبوا إلى الله مالا يليق به، وحرصوا على إطفاء نور الله.

بدأت السورة بالكلام عن قتال المشركين، وانتهى في الآيتين (36 و 37)، بالكلام عن قتال المشركين، وفي الوسط تكلم عن قتال أهل الكتاب، مع بيان أسباب قتال المشركين وأهل الكتاب. ثم تحول الكلام عن المشركين فجأة إلى الكلام عن المجتمع الإسلامي وما ظهر فيه من المنافقين وأصحاب الأعذار والمتخلفين.

الآيات (38-41) عتاب شديد للمؤمنين، وتهديد قوي وتوعدّ بالعذاب والاستبدال لهؤلاء المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز للغزوة فتثاقلوا إلى الأرض وتكاسلوا عن النفير. فالله قادر على نصر دينه ونصر رسوله بدونهم، كما نصره عام الهجرة عندما اجتمع المشركون عليه وهموا بقتله.

الآيات (42-72) هؤلاء المتثاقلون المستأذنون ليسوا من المؤمنين بل منافقون كاذبون، وبفعلهم هذا يهلكون أنفسهم كما يتبين من السورة، بدليل لو أن السفر كان لغنيمة قريبة ولمكان قريب، لما تخلفوا ولا طلبوا الإذن. فدليل الإيمان إجابة داعي الجهاد بالأموال والأنفس والصبر على المشقة وبعد المسافة. فالمؤمنون لا يستأذنون، بل يستأذن المنافقون المترددون المرتابون. وهكذا تمضي الآيات في بيان صفات المؤمنين الحقيقيين، وفضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم، ووصف أحوالهم النفسية والعملية، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف، وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المؤمنين.

الآيات (73-96) بعد العودة من غزوة تبوك وما صاحبها من فضح المنافقين، وبيان صفات المؤمنين، تبدأ هذه الآيات بالأمر بجهاد الكفار والمنافقين، وتركز على تحذير المؤمنين من كيدهم فقد كفروا بعد إسلامهم، وتفضح نفاقهم وبخلهم وتوليهم وغمزهم ولمزهم وسخريتهم. فهؤلاء يحلفون ويعتذرون ليرضوا الناس فالله لا يرضى عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم. لكن الرسول والذين آمنوا المؤمنين فلهم البشرى والخيرات والفوز العظيم. يشاركهم في ذلك المرضى والضعفاء إذا نصحوا لله ورسوله.

الآيات (97-110) تصنيف الجماعات المتنوعة التي كان المجتمع المسلم يتألف منها في هذه الفترة الواقعة ما بين فتح مكّة إلى غزوة تبوك. ومنه نعلم أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية، جماعات أخرى. الأعراب وفيهم المخلصون والمنافقون والذين لم تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان، والمنافقون من أهل المدينة. وآخرون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي تماما. وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها، ومتروك أمرها لله وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها. ومتآمرون يتسترون باسم الدين. والآيات تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد، وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم. وتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمخلصين من المسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم.

الآيات (111-127) أموال المؤمنين وأنفسهم ليست ملك لهم فقد اشتراها الله منهم بالجنة وذلك هو الفوز العظيم. لا ينبغي للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين بعد أن ماتوا على الكفر. وقد بين سبحانه أنه ما كان ليضل قوماً حتى يبين لهم ما يتقون. أما الذين تابوا، فإنه يتوب عليهم إنه هو التواب الرحيم. لا ينبغي لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، لما ينتظرهم من البشرى والأجر العظيم. فلينفر المؤمنون رجاء الأجر والثواب لقتال الذين يلونهم من الكفار، وليغلظوا عليهم، ولتنفر طائفة منهم لطلب العلم، أما المنافقون الذين في قلوبهم مرض فهؤلاء قوم لا يفقهون وقد صرفهم الله وماتوا وهم كافرون.

الآيات (128-129) تختم السورة بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده والاكتفاء بكفالته سبحانه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن تولوا فقل: حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم}.

009.7 الشكل العام وسياق السورة:

009.7.1- اسم السورة:

009.7.1.1- سميت ‏هذه ‏السورة ‏‏” ‏سورة ‏التوبة ” ‏لمَا ‏فيها ‏من ‏توبة ‏الله ‏على ‏النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين ‏والأنصار ‏الذين ‏اتبعوه ‏في ‏ساعة ‏العسرة ‏من ‏بعد ‏ما ‏كاد ‏يزيغ ‏قلوب ‏فريق ‏منهم ‏وعلى ‏الثلاثة ‏الذين ‏خُلفوا ‏في ‏غزوة ‏تبوك. وهي سورة معقودة للحث على البراءة مما لا يُرضي الله عز وجل، وممن يدعو إلى مخالفته واتباع الهوى.

009.7.1.2- اسم السورة سواء أكان براءة (وهي أوّل كلمة في السورة) أو التوبة (المذكورة شروطها في الآيات 102 – 118 من السورة) يشير إلى حقيقة التميّز والفصل بين المؤمنين وغير المؤمنين، ففيها البراءة من المشركين وفيها انضمام جميع المؤمنين دون استثناء (إلا لعذر قاهر) إلى فئة المجاهدين بأموالهم وأنفسهم وأوقاتهم كما حصل في غزوة تبوك {انفروا خفافاَ وثقالاَ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.

وهذه السورة جاءت عقب سورة الأنفال “سورة الجهاد”، النازلة في شأن غزوة “بدر الكبرى” وكان من السُّنة قراءة الأنفال قبل التحام المقاتلين. والتوبة هي السّورة الوحيدة التي لا تبدأ بالبسملة أو لم يبدأها الرسول عليه السلام بذلك لأن فيها جهاد وفيها قتل وغلظة {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، {يا أيّها النبيّ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}، {يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفّار وليجدوا فيكم غلظة}.

009.7.2- سياق السورة حسب ما احتوته من موضوعات:

لقد اعتمدت سورة التوبة على القصص الحقيقية والتجارب العملية كوسيلة مهمة لإيصال المعلومات والمعاني التي تضمنتها، حول أنواع الناس في المجتمع الإسلامي، وما يجب أن يكونوا عليه، ومواقفهم وطرق تعاملهم مع الكفار والمشركين؛ وهي في أسلوبها هذا تشبه تماماً أسلوب سورة الأنفال، إذ اعتمدت سورة الأنفال على الأحداث والتجارب التي ارتبطت بأولى معارك المسلمين مع الكفار لتبين حقيقة التوكل على الله، وسورة التوبة هنا اعتمدت وبنفس الطريقة على الأحداث والتجارب التي ارتبطت بغزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وفيها جاء بيان معنى وحقيقة البراءة من المشركين وقتالهم.

ومن يتأمل السورة باعتبار ما احتوته من موضوعات سيتبين له أنّ ثلاثاً من كلّ خمس آيات تقريباً هي عبارة عن قصص تصف أحداثاً وممارسات حقيقية تتعلق بغزوة تبوك، التي نزلت بمناسبتها السورة، وإشارة إلى نبأ الذين من قبلهم تؤكد أن ما جرى لأمة محمد صلى الله عليه وسلّم ما هو إلا تكرار لما جرى مع الأمم الأخرى السابقة، وأنّ الإنسان هو نفسه الإنسان، على مدار التاريخ، بفئاته الثلاث: المؤمنون والكافرون والمنافقون. والخمسان المتبقيان من السورة يبينان أحكام وآداب وأوامر ونواهي أرادت السورة تربية المؤمنين عليها، مستعينة بنتائج تطبيقها على أرض الواقع في غزوة تبوك، مع إشارات إلى ما يقاربها من القرون السابقة.

وقد استهلّت السورة بافتتاح مباشر وصريح إلى مقصدها، وهو البراءة من المشركين وقتالهم، والولاء لله ولرسوله، ثم مقدمة تلخص المواضيع التي تدور حول المقصد، ومنها أن الله فرض البراء اختباراً لجهاد المؤمنين ولولائهم، ثم أكملت إلى سرد القصص وتفصيل الدروس العملية والأحكام والآداب المستفادة منها، وذلك كلّه كما نبينه فيما يلي:

009.7.2.1- أمر الله المؤمنين بالبراءة من المشركين وقتالهم:

هذه الآيات فيها بيان ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من البراءة من المشركين وقتالهم، حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، أو حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. فطالما أن المؤمنون اتخذوا الله ولياً (بعد أن تعلموا في سورة الأنفال كيفية التوكل عليه)، فإن الدليل على هذه الولاية والتوكل هو سماع كلام الله ورسوله، والبراءة مما تبرأوا منه. أي البراءة من المشركين وقتالهم وإبعادهم كما أمر. فجهادهم وعدم اتخاذهم أولياء دليل الإيمان. الآيات (1-6، 14-16، 23، 24، 28، 29، 36، 41، 73، 122، 123) = 18 آية.

009.7.2.2- آيات القصص:

وهي تتحدث عن تجربتين: الأولى وهي التي ركزت عليها السورة عن ما حصل مع المخاطبين أنفسهم في غزوة تبوك، وهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، ومن عاصرهم من الكفار والمنافقين، والثانية عن أحداث منتقاة مما حصل مع الأمم السابقة مع أنبيائهم، لتؤكد أن سنة الله ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل على مر العصور.

009.7.2.2.1- غزوة تبوك:

– تحريض المؤمنين وتسليتهم وتوجيههم إلى الجهاد وإلى طريق الله المستقيم، والبراءة من الكفار والمنافقين.

ربع عدد آيات السورة فيها خطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن آمن معه، وفيها بيان وتوجيهات حول ما يجب أن يتحلوا به من صفات، وأعمال ترضي ربهم وتنتصر لدينه، في الآيات: (7، 8، 11-13، 18-22، 25-27، 38-40، 42-44، 51-53، 80، 88، 89، 108، 113، 117، 118، 120، 121، 124، 126) = 32 آية.

– تخذيل المنافقين وفضح سرائرهم وتقاعسهم وأفعالهم لمحاربة دين الله واستهزائهم وكيدهم للنيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن آمن معه، وصدهم عن سبيل الله.

ربع عدد آيات السورة فيها فضح المنافقين، وبيان صفاتهم وأفعالهم: (45-50، 54-59، 61-66، 74-82، 86، 87، 90، 107، 110، 125، 127) = 34 آية.

009.7.2.2.2- الأمم السابقة:

الآيات التالية تتضمن أحداث ومواقف تؤكد بأن صفات الإنسان وأفعاله وتصرفاته واحدة ومكررة على مر العصور واختلاف الأجيال.

– مشركي العرب في الجاهلية، وصدهم عن سبيل الله، وبذلهم الأموال في سبيل ذلك، وتحريم الحلال وتحليل الحرام، في الآيات: (9، 10، 17، 37) = 4 آيات.

– اليهود والنصارى، وصدهم عن سبيل الله ومحاولاتهم لإطفاء نور الله، وبذلهم الأموال في سبيل ذلك، في الآيات: (30-35) = 6 آيات.

– قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَات، أتتهم رسلهم بالبينات، فاستمتعوا بالدنيا والشهوات، وخاضوا بالكذب والباطل، فخسروا لأنهم استبدلوا الدنيا بالآخرة، في الآيات: (69-70) = 2 آية.

– استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه، وهذا ما كان ينبغي، وقد مات أبوه على الكفر، في الآية: (114) 1 آية.

وبذلك يكون مجموع عدد آيات القصص التي ارتكزت عليها السورة 79 آية أي حوالي ثلاثة من كل خمس آيات في السورة = 61.24%.

009.7.2.2.3- أنواع الناس في المجتمع الإسلامي، بعد استثناء الكفار والمشركون:

بعد استثناء الكفار والمشركون، والذين هم ليسوا جزء من المجتمع الإسلامي، وقد فصلت السورة علاقة المسلمين بهم وطريقة التعامل معهم في مقدمتها. بينت السورة أن نسيج المجتمع المسلم ينقسم إلى أربعة فئات: وهم المؤمنون الصادقون وبالأخص منهم السابقون من المهاجرين والأنصار، ثم المؤمنون المرضى والضعفاء، ثم الذين اختلطت حسناتهم مع سيئاتهم، ثم المنافقون.

009.7.2.2.3.1- المنافقون، في الآيات (83-85، 93-98، 101) = 10 آيات.

009.7.2.2.3.2- المرضى والضعفاء (المعذورون)، في الآيات (91، 92) = 2 آية.

009.7.2.2.3.3- المؤمنون، في الآيات (99، 100) = 2 آية.

009.7.2.2.3.4- الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، أو استوت حسناتهم وسيئاتهم، في الآيات (102-106) = 5 آيات.

المجموع 19 آية.

009.7.2.3- سنن الله في خلقه:

تأكيد سنن الله الثابتة التي لا تتغير: بأنه ليس للناس من دونه ولي ولا نصير، والمؤمنون أولياء بعض، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويجاهدون في سبيل الله. وبأنه رءوف رحيم بالمؤمنين، وقد أرسل الرسالات والمرسلين ليبين لهم طريق الهدى وصراطه المستقيم. وأنه ما كان ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون. وأنه لا يهدي القوم الظالمين، الذين استحبوا الكفر على الإيمان، وأن الكفار والمنافقين بعضهم أولياء بعض، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ. في الآيات (60، 67، 68، 71، 72، 109، 111، 112، 115، 116، 119، 128، 129).

المجموع 13 آية.

009.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

009.7.3.1- آيات القصص: غزوة تبوك في الآيات (7، 8، 11-13، 18-22، 25-27، 38-40، 42-44، 51-53، 88، 89، 108، 113، 117، 118، 120، 121، 124، 126) = 32 آية؛ فضح المنافقين، وبيان صفاتهم وأفعالهم: (45-50، 54-59، 61-66، 74-82، 86، 87، 90، 107، 110، 125، 127) = 34 آية؛ قصص الأمم السابقة في الآيات (9، 10، 17، 30-35، 37، 69، 70، 114) = 13 آية؛ قصص عن أحوال وأعمال الناس في المجتمع الإسلامي (67، 83-85، 91-106) = 20 آية. ومجموع عددها 99 آية.

009.7.3.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (68، 71، 72) = 3 آيات.

009.7.3.3- الأمثال في الآيات: (109، 111، 112) = 3 آيات.

009.7.3.4- الآيات في السماوات والأرض: (116) = 1 آية.

009.7.3.5- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-6، 14-16، 23، 24، 28، 29، 36، 41، 60، 73، 115، 119، 122، 123، 128، 129) = 23 آية.

009.7.4- سياق السورة حسب تسلسل النزول:

من يتأمل كذلك سياق السورة باعتبار مناسبة وتسلسل نزول آياتها سيلاحظ أن مجموعة الآيات التي نزلت أثناء التحضير لغزوة تبوك، والتي نزلت بمناسبتها السورة، ما هي إلا مقدمات وأحداث تحصل ليتوصّل بنتيجتها، بعد انتهاء الغزوة، إلى اقتناع تامّ عند كلّ الأطراف التي اشتركت في الغزوة، مؤمنهم وكافرهم، بأنّ لله تعالى سنناً ثابتةً في الأرض، وأنّه سبحانه هو المدبّر والمسيّر لكلّ ما يجري على ظهرها، وأنه لا يكلّف الناس إلا بما فيه صلاحهم في الدّنيا والأخرة، أمّا اختيارهم هم لأنفسهم ففيه ضررهم وهلاكهم في الدّنيا والآخرة، بسبب حبّهم للدنيا وغفلتهم عن الآخرة. لذلك صار من السهل بعد تلك التجربة وبعد ذلك التمهيد أن يفهم المؤمنون ما معنى أن يخبرهم ربهم بأن أنفسهم وأموالهم في الدنيا ليست ملكاً لهم، ليس لأنه خلقها فقط، بل لأنه أيضاً اشتراها منهم بالجنة، فلا بد أن يبذلوها في القتال في سبيله كما أمرهم. وصار سهلاً أيضاً أن يفهموا معنى أن يأمرهم ربهم بالبراءة من المشركين، وقتالهم وإخراجهم من ديارهم، في آيات مقدمة السورة (1-37)، (التي نزلت بعد كل أحداث غزوة تبوك) وأن يعلموا أيضاً السبب والحكمة من وراء هذا الأمر بالبراء والقتال، وهو أن المشركون هم المعتدون أولاً وهم الذين لا يرقبون في المؤمنين إلاً ولا ذمة، فلا بد يتوبوا فهو خير لهم، أو أن يقاتلهم المؤمنون دفعاً لظلمهم عن العباد:

009.7.4.1- الآيات (38-72): تتحدث عن أن الله أمر المؤمنين بأن ينفروا وينصروا رسوله ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيله، وعن أن قسم كبير منهم تثاقلوا إلى الأرض رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فلم يعدّوا العدة للقتال، بل استأذنوا عن الخروج، وحلفوا الأيمان، واختلقوا الأعذار، لكي لا يخرجوا للقتال في سبيل الله، فكان لا بد من بيان أن هذا الفعل مناف للإيمان، وأن جزاءه العذاب الأليم، والاستبدال بقوم آخرين، من صفاتهم أنهم ينصرون الله، وينصرون دينه ويعلون كلمته. وهذا كله متناسق مع ثبات سنن الله بأنه هو الذي يدبّر الأحداث ويوجهها، (راجع سورة الأنفال التي فصلت سنة الله في اختيار الأحسن للمؤمنين وتوجيههم لما فيه الخير الكثير لهم، وفي تخذيل الكافرين وتثبيطهم وتوجيههم لما فيه هزيمتهم ووقوعهم في شرور أعمالهم، في الفصول: 008.7.4- استخدام السورة للقصص الحقيقية وللأحداث التاريخية الحقيقية، 008.7.6- يستبدل الله سبحانه وتعالى الأمم الكافرة بالمؤمنة، 008.7.7- ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة). فهو الذي ثبط المنافقين عن الخروج لحكمته وعلمه بعدم إيمانهم، وأنهم لو خرجوا لنشروا الاضطراب في الصفوف يسعون بذلك إلى فتنة المؤمنين عن الخروج للجهاد ونصرة دين الله. ولخطر هؤلاء بإظهارهم غير الذي يبطنون في ضمائرهم، ولنفاقهم، تجهد السورة في فضحهم وفضح نواياهم، وفضح مظاهر هذا النفاق والكفر الذي يضمرونه، وتجهد في كشف مظاهره على جوارحهم، ليتعرف المؤمنين عليهم، وتظهر لهم صفاتهم وحركاتهم وأعذارهم، ليأخذوا منهم حذرهم، فلا يكونوا مصدر فتنة لهم وتفريق لصفهم. هؤلاء المنافقون هم الذين اختاروا الشقاء لأنفسهم بمخالفتهم لسنن الله وفطرته التي فطرهم عليها، فقد رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فحصلوا على ما أرادوا، وأهلكوا أنفسهم، باختيارهم طريق الضلال. إن طريق الآخرة يختلف عن طريق الدنيا، وأن فعلهم هذا ليس بدعاً من الزمن، فقد كرروا أخطاء الذين من قبلهم، ولجهلهم فإنهم لا يتعلمون من أخطاء الذين سبقوهم، وظلموا أنفسهم، باختيارهم الفاني على الباقي، فإن الله لا يظلم الناس ولكنهم أنفسهم يظلمون، قال تعالى {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}.

009.7.4.2- الآيات (73-129): ثم ظهرت عن الأحداث والمشكلات التي واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من خلال تخاذل المنافقين عن أمر الله لهم بالخروج والجهاد في سبيله نتائج منها: معرفة أصناف الناس الأربعة الذين صار يتكون منهم المجتمع الإسلامي وهم: المؤمنون، والمعذورون من المرضى والضعفاء، والمنافقون، والذين خلطوا عملاً حسناً وآخر سيئا. ثم نزول الآيات التي تفضح خبث سرائر المنافقين، والآيات التي تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالجهاد والغلظة بحق هؤلاء المنافقين، فقد كفروا بعد إسلامهم، وبعد أن أغناهم الله من فضله، وهم يلمزون المؤمنين ويسخرون منهم، يكرهون الجهاد بالمال والنفس، الذي فيه بقائهم وعزهم وخذلان عدوهم، فهؤلاء قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، فلا ينبغي أن يخرجوا للجهاد مع المسلمين ولا يجوز الاستغفار لهم ولا الصلاة عليهم. وهم بذلك عكس الذين آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يتخلفوا إلا لسبب قاهر من ضعف أو مرض أو عجز عن الإنفاق إذا نصحوا لله ورسوله، فأولئك لهم الخيرات والفوز العظيم. أما الفئة التي اختلطت أعمالهم الصالحة بالطالحة، فتارة يعملون الحسنات وتارة أخرى يعملون السيئات، فقد جعل لهؤلاء فرصة ليتوبوا، ورغبتهم الآيات بالتوبة، عسى أن يتوبوا فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.

009.7.4.3- الآيات (1-37): هذه الآيات هي مقدمة السورة وفيها مقصدها وملخص موضوعاتها، وبياناً كافياً شافياً عن مراد ربنا في الإنسان الذي هو مادة القرآن الأساسية والذي على وجوده جعلت جوهر موضوعاته. فأمرت المؤمنين وبينت حال ومصير المنافقين والمشركين. غير أننا حتى نفهم الفهم الصحيح للأوامر والنواهي في هذه المقدمة الغزيرة المعاني والبعيدة المرامي فلا بد من تجربة حقيقية، تقربنا بالصوت والصورة لتفاصيل أكثر عن الزمان والمكان والظروف، وتتدرج مع فهمنا المحدود بمقدمات وتمهيدات ثم تنطلق منها بأحداث تصل إلى نتائج يعود بعدها فهم المقدمة أكثر يسر وسهولة.

وهذا هو الحاصل، فبعد أن علمتنا الأحداث التي صاحبت غزوة تبوك أنه ليس كل من دخل الإسلام صار مسلماً إلا إذا أخلص دينه، ونصح لله ورسوله وجاهد في سبيله بالمال والنفس. وأن هناك فئة من الذين دخلوا الإسلام يأتون أفعالاً منافية لتعاليم الإسلام وأخلاقه، ويتخاذلون عن نصرة الدين الذي آمنوا به وعن أمر الله لهم بالخروج والجهاد في سبيله. وقد أسمتهم السورة المنافقون، وأنهم ما فعلوا ذلك إلا لمرض في نفوسهم، إذ أنهم يفضلون حظاً من الدنيا الزائلة على الخير العظيم في الآخرة الدائمة، وهذا التفضيل حصل بعد أن أغناهم الله من فضله، فأمرت بقتالهم والبراء منهم ومن أفعالهم، فهم كالمشركون في تمسكهم بالدنيا الفانية، وفي جريهم وراء شهواتهم، وفي سوء ظنهم وفي صدهم عن سبيل الله، بل هم أشد من المشركين لأنهم آمنوا ثم بعد إيمانهم أخلفوا الله ما وعدوه. فالمقدمة تتحدث عن نوعين من المشركين وهم نوع كانوا مشركين وظلوا على شركهم، ونوع آخر أخطر، هم المنافقون، دخلوا الإيمان ووعدوا ربهم بالجهاد، ثم أخلفوا وعدهم، وظلّوا بين ظهراني المؤمنين، يمكرون بهم ويشككونهم في دينهم، يظهرون الإيمان ويخفون الشرك، ليصدوهم عن سبيل الله.

009.7.5- خسارة المنافقين والمشركين الكبيرة، بسبب الجهاد في سبيل الله، في مقابل الفوز العظيم والنعيم العميم الذي جناه المؤمنين في الدنيا والآخرة.

راجع أيضاً سورة الفتح التي نزلت قبل سورة التوبة باعتبار ترتيب نزول الوحي، فقد نزلت أثناء الرجوع من صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة، وكان ترتيبها 111 حسب ترتيب النزول، بينما نزلت التوبة في السنة التاسعة للهجرة، وكان ترتيبها 113 حسب ترتيب النزول. ولا حظ كيف أنها سلطت الضوء هناك على قلوب المؤمنين وبينت مدى صدقهم في إيمانهم وإخلاصهم لدينهم وفي مبايعتهم الصادقة للرسول صلى الله عليه مسلم، وقد علم الله ما في قلوبهم، فجعل يده فوق أيديهم، ورضي عنهم وأنزل السكينة عليهم وأثابهم النصر العظيم والفتح المبين، وغيرها من النعم العظيمة التي أشارت إليها سورة الفتح. في مقابل هذا الإخلاص في الإيمان والصدق في البيعة والبلاء في الجهاد، كان هناك في المجتمع الإسلامي على الدوام المنافقون الذين يتخلفون عن الجهاد ويلتمسون الأعذار ثم يطلبون الاستغفار، هؤلاء هم كالمشركون في تمسكهم بالدنيا الفانية، وفي جريهم وراء شهواتهم، وفي سوء ظنهم وفي صدهم عن سبيل الله. هؤلاء قد طبع على قلوبهم فلا يرون سنته التي قد خلت من قبل في كف الله أذاهم عن المؤمنين، فغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاباً عظيما.

هذه السورة تتجه وجهة مقابلة ومعاكسة لوجهة سورة الفتح. فتبين كم هي خسارة المنافقين والمشركين كبيرة، في مقابل الفوز العظيم والفتح المبين والنعيم العميم الذي جناه المؤمنين في الدنيا والآخرة وأشارت إليه سورة الفتح. تبين هنا في سورة التوبة كيف خسر المشركون والمنافقون كل شيء، فقد هزمهم الله على أيدي جنوده المؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم، وأخزاهم، وأغاظهم بنصر المؤمنين، وأظهر دينه على الدين كله، فلم يبقى لهم سوى الهروب إلى أقرب ملجأ أو مغارات والتواري عن الأنظار لكي لا يدركهم جند الله المجاهدون الذين سلطهم عليهم، بل حتى فضحت ما في قلوبهم فلم يعد لهم مكان حتى داخل أجسادهم يوارون فيه هزيمتهم وفضيحتهم التي فضحهم فيها الله في الدنيا، فقد عذبهم الله مرتين بالقتل والفضيحة والسبي في الدنيا وعذاب القبر بعد الموت ثم عذاب عظيم في نار جهنم، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

 

009.7.6- لماذا فرض الجهاد والقتال في سبيل الله، كما بينته السورة؟

فيما يلي الأسباب التي جعلت الجهاد والقتال فرض وضرورة في دين الله الإسلام، كما بينته السورة:

009.7.6.1- بينت السورة أنه فرض القتال على المؤمنين للأسباب التالية:

الأمر الصريح والمباشر من الله لرسوله وللمؤمنين بقتال المشركين حيث ما وجدوا والقعود لهم كل مرصد. وأن الله يريد أن يعذبهم بأيدي المؤمنين وينصرهم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. ويريد أن يخزي الكافرين. ويذهب غيظ قلوبهم. وأن يقاتلهم كافة كما قاتلوا المؤمنين كافة. وحتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. لأنهم طعنوا في دين الله. ولأنهم أئمة الكفر ولا إيمان لهم. ولعلهم ينتهون. ولأنهم نكثوا أيمانهم. وهمّوا بإخراج الرسول. وهم بدئوا أول مرّة. ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله. ولا يدينون دين الحق.

وكذلك الأمر المباشر والصريح للرسول والذين آمنوا معه بالجهاد بالأموال والأنفس. وجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم. وأن فيه الخير والفلاح والبشارة بالفوز العظيم.

وأنه بالقتال يريد الله سبحانه أن يعلم الذين جاهدوا ولم يتخذوا من دونه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة. ويريد سبحانه أن يتوب على من يشاء. وأنه اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة. وأن في الجهاد بالمال والنفس الدرجات العظيمة، والفوز، والرحمة، والرضوان، والجنات، والنعيم المقيم، والخلود، وأن الله عنده الأجر العظيم والجزاء الحسن. يريد أن يظهر دين الحق على الدين كله. وأن يجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى. وأنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وأن الذين لا يقاتلون يعذبهم الله ويستبدل قوماً غيرهم.

وهذا كله كما جاء في الآيات (2، 5، 12، 13، 14، 15، 16، 20، 21، 22، 29، 33، 36، 38، 39، 40، 41، 71، 73، 88، 111، 112، 120، 121، 123).

009.7.6.2- أمر الرسول والمؤمنين بجهاد وقتال المشركين وذلك للأسباب التالية:

لأنهم اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً وصدوا عن سبيل الله. ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة. وهم المعتدون. وهم أئمة الكفر. وهم بدئوا أول مرة ونكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول. ليذهب الله غيظ قلوبهم. استحبوا الكفر على الإيمان. وهم نجس. يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحله. وأخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم. كما في الآيات (8، 9، 10، 12، 13، 15، 23، 28، 37، 40).

009.7.6.3- الأمر بجهاد وقتال أهل الكتاب للأسباب التالية:

يريدون أن يطفئوا نور الله ويأبى الله إلا أن يتم نوره. تطاولوا على الخالق سبحانه وادعوا بأن له ولد. واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. ويأكلون أموال الناس بالباطل. ويصدون عن سبيل الله. ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله. ولا يدينون دين الحق. كما في الآيات (29، 30، 31، 32، 34).

009.7.6.4- الأمر بجهاد وقتال المنافقين للأسباب التالية:

الريبة والتردد في قلوبهم. ويبغون الفتنة. ويؤذون رسول الله. ويحادون الله ورسوله. ويخوضون ويلعبون بآيات الله. واستمتعوا كما استمتع الذين من قبلهم، وخاضوا كالذي خاضوا. وكفروا بعد إسلامهم. وأخلفوا الله ما وعدوه. وقالوا كلمة الكفر. وبخلوا وتولوا. ويلمزون المؤمنين ويسخرون منهم. وكفروا بالله ورسوله. وكرهوا أن يجاهدوا. ورضوا أن يكونوا مع الخوالف. وطبع على قلوبهم. وكذبوا الله ورسوله. وأنهم رجس. وكفرهم ونفاقهم وجهلهم بحدود الله. ويتربصون بالمؤمنين الدوائر. ومردوا على النفاق. والتفريق بين المؤمنين. والإرصاد لم حارب الله ورسوله. (45-48، 50، 54، 58، 61-65، 67، 73-84، 86، 87، 90، 93، 95، 97، 98، 101، 107، 125-127).

انظر أيضاً تسهيل فهم وتدبّر القرآن 7.2.5.2– القتال في سبيل الله.

 

009.7.7- إفساد الإنسان وتعطشه للظلم وسفك الدماء:

من يقرأ تاريخ الإنسان، أو يتأمل القصص الحقيقية التي وصفته في القرآن، ووصفت تصرفاته في تعامله مع أخيه الإنسان ومع ما يحيط به، سيندهش حينما يرى كم هو كثير سفك الدماء بين الأمم، بغير حق، وتسلط الأقوياء على الضعفاء للاستيلاء على ما في أيديهم، ومكرهم بهم لإفساد حياتهم واستعبادهم. وهذا ينطبق حتى على الأفراد في المجتمع الواحد والذي يبدو لأول وهلة متجانس متماسك، لكن حين الغوص بين أفراده وتأمل أحداثه، تجد العجب العجاب. هذا ما تسعى هذه السورة لتأكيده من خلال أحداث واقعية حدثت زمن نزول الآيات ولا تزال تتكرر إلى يومنا هذا. وركزت على صراعين دائمين مزمنين لا حل ولا نهاية لهما: الأول: صراع بين المؤمنين والمشركين من أهل الكتاب الذين استعظموا أن يبعث الله رسولاً من غيرهم على أمة أمية ضعيفة تابعة للأمم جاهلة تعبد الأصنام، والثاني: صراع بين المؤمنين والمنافقين الذين أنعم الله عليهم وأغناهم من فضله، فبدلاً من أن يشكروا النعمة، إذا هم يكفرون ويمكرون باللذين آمنوا حباً وطمعاً في الدنيا، ورغبة بها عن الآخرة.

وهذه السورة رغم شدتها على الناس بأمرها المؤمنين بالقتال والبراءة من المشركين والمنافقين، وتسليطها سيف الجهاد على رقاب الكافرين، فقد تكررت فيها من صفات الله الرؤوف والرحيم والغفور والتواب كثيراً، وهي أيضاً أكثر سورة في القرآن تكرر فيها ذكر الرسول، مما يشي بأن هذه الشدة والغلظة والتحريض على القتال التي تأمر بها السورة، ما هي إلا رأفة ورحمة بالناس من خالق الناس، الذي يعلم ظلمهم وجهلهم، فيبتليهم لكي يثوبوا إلى رشدهم، والذي يعلم أمراضهم، فيرسل الرسل لتشخيص أمراضهم وعلاجهم، ويصف الدواء الشافي الذي فيه برئهم وسعادتهم.

السورة تركز على الإصرار العجيب عند الإنسان ليظلم أخيه الإنسان، فالكافرون لا يحرمون ما حرم الله، ولا يدينون دين الحق، بل عبدوا الأحبار والرهبان من دون الله، وينفقون أموالهم ليعتدوا ويصدوا عن سبيل الله، وهم لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمة، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم الذي أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق. الكافرون رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، وأخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من ديارهم وأموالهم، ثم لحقوا بهم يشنون عليهم الحرب والقتال في بلاد هجرتهم، وتابعوهم ليخذلوهم عن نصرة دينهم، ويبتغون فيهم الفتنة، ويأمرونهم بالمنكر وينهونهم عن المعروف، ويؤذونهم بالغمز واللمز والسخرية، والخوض في آيات الله. الكافرون هم المنافقون وقد كفروا بعد إسلامهم، وفرحوا بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستأذنوا كاذبين، ورضوا أن يكونوا مع الخوالف، وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون، ولا يفقهون، اتخذوا مسجداً ضراراً ليفرقوا بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله. من يراقب علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ومحاولات إفساد الضال منهم للمهتدي، وتدمير القوي منهم للضعيف، وإبادة الغني منهم لمنافسه الضعيف، يتملكه العجب، ويحسد الحيوانات على السلام الذي تعيشه قطعانها لأنها لا تفترس إلا لتأكل لا لتدمر، ويحسد الحيتان في البحر على السلام والتكامل الحاصل في بيئتها والتي لا يأكل كبيرها صغيرها إلا لكي يعيش. أما الإنسان فيقتل بقصد القتل ويفسد بقصد الإفساد، ويدمر ظلماً وعدواناً بقصد التدمير. فالويل لهذا الإنسان ما أظلمه لنفسه، وما أجهله بحقيقة أمره. لهذا كانت السورة شديدة وصارمة في أوامرها للتصدي لهؤلاء القتلة المفسدين بنفس أساليبهم وأسلحتهم. فأذن الله لمن آمنوا به ورضيهم لدينه أن يهجّروهم كما هجًروا عباده وأن يقتلوهم كما قتلوهم. وهذه الشدة والغلظة ماهي إلا رحمة ورأفة من الرؤوف الرحيم بهذا الإنسان لينصر بها المظلوم، ويوقف الظالم عن ظلمه. ورأفة ورحمة بالظالم والقاتل ليثوب إلى رشده، فيتوب ويؤمن، بعد أن يسلبه الله قوته التي اغتر بها والتي أنعم بها عليه، فعصاه بها بدلاً من يشكرها، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير (74)}.

هذا الصراع على الدنيا والحسد والتنافس والتقاتل بين الناس هو في فطرة الإنسان، كما هو عند الحيوانات الأخرى التي خلقها الله، وهو عند الإنسان أخطر لأنه توج بالعقل. والعقل هو عنوان وآلة المكر والدهاء، فإذا استخدم عقله لخدمة رغباته وشهواته الدنيوية، فإنه يدمر كل شيء ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. وهذا هو عينه ما نراه ونلمسه من أكل لأموال الناس بالباطل، وصد عن سبيل الله، وإهلاك للحرث والنسل، والتدمير، والقتل في عصرنا هذا، عصر التقدم المادي والصناعي، والتأخر الديني والأخلاقي، وهو عينه أيضاً ما نراه حين نطالع كتب التاريخ، وحين نتأمل آيات القصص في القرآن. لذلك تكرر كثيراً في هذه السورة ذكر الرسل إشارة إلى حاجة الناس لمن يقوم تصرفاتهم ويهذب أخلاقهم ويحثهم على التوبة، ويعرفهم على هدف وجودهم وهو الابتلاء بالأعمال مقابل الجزاء يوم القيامة، إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، قال تعالى {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون (105)}.

009.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

009.8.0- وبهذا نكون قد علمنا من سورتي الأنفال والتوبة وجوب التوكل على الله وعلى تدبيره، والدفاع عن الدين والقتال وجهاد الكفار والمنافقين؛ ومن سورة الأعراف وجوب الإتّباع والتزام التكاليف؛ وسيأتي في سورة يونس بيان أنّ الوحي حق ونعمة، والعبادة نعمة، رغم قلة العابدين، وأنّ الناس لا يؤمنون إلا إذا مسّتهم البأساء أو فقدوا النعمة.

انظر أيضاً سورة الكهف 018.8.0- تناسب السّور من الأعراف إلى الكهف في الربع الثاني من القرآن

009.8.1- بعد أن علّم الله سبحانه وتعالى المسلمين في سورة الإنفال سنته التي لا تتغيّر ولا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير لأعدائه، وذلك بدروس من تجربتهم في معركة بدر، وهي أول معركة للمسلمين. وقبله في سورة الأعراف بدروس من تجارب قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم موسى. التي انتصر الله فيها لأنبيائه والمؤمنين وأهلك أمم الكفر. تأتي هذه السورة لتبين الدروس المستفادة من النصر في غزوة تبوك، على الأمم والديانات الأخرى المحيطة، من الكفار والمشركين ومن والاهم من المنافقين، وهي آخر معركة للمسلمين في زمن الرسالة، ولتبين استمرار صلاحيّة سنة الله في نصره لأوليائه على أعدائهم مهما تنوّعوا ومهما كان عددهم مهما بعدوا أو كان يبدوا أن من العسير مواجهتهم والانتصار عليهم. كما أن السورتين تبينان الفرق بين أحوال المسلمين مع الكفار في بداية الرسالة، وأحوالهم في نهايتها، أي مع مرور الزمن بين بداية البعثة ونهايتها.

لهذا فهو يأمرهم هنا في هذه السورة بالبراءة مما لا يُرضي الله عز وجل، وممن يدعو إلى مخالفته واتباع الهوى، وعلى مقاتلة كل من يدعو إلى تلك المفاسد في الأرض. وينهاهم عن الولاء لمن حارب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وإن كانوا الآباء والأبناء والإخوان والأزواج ويوجههم إلى التوكل عليه وحده والاكتفاء بكفالته سبحانه، ويؤكد أنه هو الناصر لهم حين يكونوا أهلا للنصر بطاعتهم لله رب العالمين. وقد جاء هذا الأمر والتوجيه بدروس عملية من غزوة تبوك التي كانت في حر شديد وسفر بعيد حين طابت الثمار وأخلد الناس إلى نعيم الحياة فكانت ابتلاءاً لإيمان المؤمنين وامتحاناً لصدقهم وإخلاصهم لدين الله وتمييزا بينهم وبين الكفار والمنافقين.

009.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: قد ذكر وجه مناسبتها مع سورة الأنفال. وأنه قرن بين الأنفال وبراءة لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على القتال ونبذ العهود وهذه وجه بين المناسبة. وأيضاً أن صدرها تفصيل لإجمال قوله في الأنفال‏: {‏وإِما تخافنَّ مِن قومٍ خيانة فانبذ إِليهم على سواء‏}‏ وآيات الأمر بالقتال متصلة بقوله هنا‏:‏ {‏وأَعِدوا لَهُم ما استَطعتُم مِن قوةٍ}‏ ولذا قال هنا في قصة المنافقين‏: {‏ولَو أَرادوا الخُروجَ لأَعَدوا لهُ عدةً}. ثم بين السورتين تناسب من وجه آخر وهو‏:‏ أنه سبحانه في الأنفال تولى قسمة الغنائم وجعلها خمسة أخماس وفي براءة تولى قسمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف.

 

009.8.3- اقرأ سورة التوبة مع سورة الممتحنة وكيف افتتحت التوبة بالأمر بالبراءة من المشركين، قال تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} وقال تعالى في سورة الممتحنة {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}. فقد جاءت سورة الممتحنة كخلاصة لسورة براءة، ثم إن هاتين السورتين أوجزتا في سورة {الكافرون}.

009.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: اتصالها بالأنفال أوضح من أن يتكلف بتوجيه، حتى أن شدة المشابهة والالتئام، مع أن الشارع عليه السلام لم يكن بيّن انفصالهما، أوجب أن لا يفصل بينهما ب {بسم الله الرحمن الرحيم}، وذلك أن الأنفال قد تضمنت الأمر بالقتال {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة (39)} الأنفال، وبين أحكام الفرار من الزحف وحكم النسبة المطلوب فيها بالثبوت، ولحوق التأثيم للفار، وأنها على حكم الضعف، وحكم الأسرى، وحكم ولاية المؤمنين، وما يدخل تحت هذه الولاية، ومن يخرج عنها. ثم ذكر في السورة الأخرى حكم من عهد إليه من المشركين، والبراءة منهم إذا لم يوفوا، وحكم من استجار منهم، إلى ما يتعلق بهذا، وكله باب واحد، وأحكام متواردة على قصة واحدة، وهو تحرير حكم المخالف، فالتحمت السورتان أعظم التحام، ثم عاد الكلام إلى حكم المنافقين وهتك أستارهم.

009.8.5- وقال العلامة الألوسي: ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف، على ما علمت، وفي هذه قيمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف، على ما ستعلم إن شاء الله تعالى، وفي الأولى أيضا ذكر العهود وهنا نبذها وأنه تعالى أمر في الأولى بالإعداد فقال سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (60)} الأنفال، ونعى هنا على المنافقين عدم الإعداد بقوله عز وجل: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة (46)}، وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى: {براءة من الله ورسوله (1)}، الخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة.

 

009.8.6- القتال في الإسلام:

من تدبر السياق في سورتي الأنفال والتوبة، ودراسة القصص والأحداث التي تتحدثان عنهما، ووقائع الغزوات وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومناسبة النزول، نعلم أنه من بداية ظهور الإسلام كان المشركين يقاتلون المسلمين، ويفتنونهم عن دينهم بالجبر والإكراه ويصدون عن سبيل اللّه، ويضطرون المسلمين إلى الخروج من موطنهم مرغمين. فمن أجل الدفاع عن المسلمين ومنع الأذى والعدوان عليهم وفتنتهم عن دينهم، شرع القتال في الإسلام، لمقابلة الأذى والعدوان والفتنة في الدين إلى أن تضمن الحرية والسلامة للمسلمين في العبادة والدعوة إلى دينهم كما أمرهم ربهم، وظل هذا الأصل الذي شرع من أجله القتال في الإسلام إلى النهاية.

وأول آيات القتال التي نزلت في هذا الصدد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقولوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} سورة الحج، ثم نزلت الآيات: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)} سورة البقرة.

والفتنة في هذه الآيات هي إرغام المسلمين على الارتداد عن الإسلام الذي كان يمارسه زعماء المشركين في مكة ضد ضعفاء المسلمين، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10)} البروج، وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)} النحل، وكلمة الفتنة في الآية {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (191)} البقرة، تعني في سياقها نفس الشيء، أي الإخراج والفتنة عن الدين، وقوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} البقرة، تعني قتال المعتدين إلى أن ينتهوا عن موقف العدوان وفتنة المسلمين عن دينهم وتصبح حرّية المسلمين في دينهم ودمائهم وأموالهم وحقوقهم آمنة من العدوان، وقريب من هذا المعنى قوله تعالى: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)} الأنفال، {فإن انتهوا} الانتهاء من موقف العدوان وفتنة المسلمين، وفي الآية: {وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73)} الإسراء، معنى كلمة الفتنة هو الرد والإرجاع.

والآيات: {بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجزى الله وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجزى الله وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)} التوبة، التي تعلن البراءة من المشركين وتأمر بقتالهم إلى أن يتوبوا ويؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة تبعها استثناءات: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحدا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} التوبة، فالأمر محصورا في المشركين المعتدين والناكثين لعهودهم. وفي الآيات التي تلتها: {وَإِنْ أحد مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يعلمونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يعلمونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}. فالآيات في جملتها تعني أنهم إن آمنوا فبها ونعمت ويصبحوا إخوانا للمسلمين، ويهدر كل ما فعلوه معهم قبل. وإن لم يؤمنوا وحافظوا على عهدهم واستقاموا عليه فلا مانع. وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في الدين فيقاتلون حتى ينتهوا من هذا الموقف العدواني.

ثم في الآية: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (36)} التوبة، والتي يسمّيها بعض المفسرين بآية السيف، فهي ليست منفردة، بل لها تتمة: {كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (36)} التوبة، وهذه التتمة تزيل اللبس الذي ينتج عن اجتزاء بعض الآية واعتبارها آية السيف والقتال، وتعيد الأمر إلى أصله من وجوب قتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين، وقتلهم كافة في مقابل ابتدائهم بالقتال كافة.

في تناسب سورة الكافرون (109.8.3) ذكرنا مجموعة من الآيات المدنية والمكية التي تنص على أن المسلمين مكلّفون بأن لا يقاتلوا الكفار مالم يقاتلوهم أو يخرجوهم أو يقفوا في وجه الحق، ومن هذه الآيات: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)} النساء، وكذلك الآية: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} الممتحنة، التي تحض على البرّ والإقساط للذين لا يقاتلون المسلمين ولا يشتركون في إخراجهم من ديارهم، وتؤيد آية سورة الممتحنة الآية: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)} البقرة، وهي مؤذنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين غير مسؤولين عن هداهم الذي هو في يد اللّه وأن الصدقات هي قربة من المتصدق للّه عن نفسه فلا مانع من إعطائهم منها على شركهم.

وفي سورة الأنفال أمر صريح بأن يسالم المسلمون كل من جنح إلى المسالمة من الأعداء: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}، وفي آيات سورة محمد هذه: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أمثالهمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها (4)} أمر بقتال الكفار الصادّين عن سبيل اللّه إلى أن تخضد شوكتهم ثم يؤسر الباقون إلى أن يفتدوا أنفسهم أو يطلق سراحهم منّا دون إرغام على الإسلام لأن المقصود من القتال قد حصل. ولم يرد أي خبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم رفض في أي وقت طلب صلح أو عهد أمان من أعداء محاربين، كما أنه لم يرد أي خبر بأنه قاتل أو أمر بقتال أناس مسالمين أو حياديين أو معتزلين. والذي يدرس وقائع الجهاد يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث سرية ولم يباشر غزوة ولم يشتبك بقتال مع فئة إلّا ردا على عدوان أو انتقاما من عدوان أو دفعا لأذى أو تنكيلا بغادر أو تأديبا لباغ أو ثأراً لدم إسلامي أهدر أو ضمانة لحرية الدعوة والاستجابة إليها، أو بناء على نكث عهد أو بسبب مظاهرة لعدو أو تأمر معه على المسلمين.

وأمر القتال في سبيل الله هو أمر فيه خلاف بين المسلمين، لأن مفسرون قالوا إن آيات القتال في السور المكية والمدنية قد نسخت بسورة التوبة في الآيات (من 1 إلى 5) المذكورة أعلاه، التي تأمر بقتال المشركين بدون هوادة إلى أن يسلموا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ثم بالآية {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (36)} التوبة، والتي ينعتها بعض العلماء والمفسرين بآية السيف. وقد فسر كثير من مفسري القرآن وعلمائهم كلمة فتنة الواردة في آية سورة البقرة: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)} بمعنى الشرك وقالوا إنها توجب قتال المشركين حتى لا يبقى شرك ومشركون ويسود دين اللّه الإسلام. ومما قاله المفسرون في الآية: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ (256)} البقرة، أن هذه الآية منسوخة بالنسبة للعرب المشركين دون غير العرب. وأن العرب المشركين لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف وإن غير العرب يقبل منهم الجزية دون السيف.

انظر سورة الممتحنة (060.8.4) حول القتال (الجهاد) في الإسلام: مرّ بأربعة مراحل.

انظر سورة الكافرون (109.8.3) تناسق السورة مع غيرها باعتبار أنه لا إكراه في الدين.

انظر أيضاً تسهيل فهم وتدبّر القرآن 7.2.5.2– القتال في سبيل الله.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top