العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


060.0 سورة الممتحنة


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


060.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مدنية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 13 آية. 4) الستون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والرابعة والتسعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “الأحزاب”. 6) أسماء أخرى للسورة: قال بن حجر: والمشهور في هذه التسمية أنها بفتح الهاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي نزلت السورة بسببها وعلى الثاني هي صفة السورة كما قيل عن سورة براءة الفاضحة. وفي جمال القراء: تسمّى أيضاً سورة الامتحان وسورة المرأة.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 21 مرّة، رب 4 مرّات؛ (2 مرّة): حكيم، غفور، رحيم؛ أعلم، (1 مرّة): بصير، عزيز، غني، حميد، قدير، عليم، هو، يحكم، يحب، رضي. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: يثقفوكم 1 مرّة.

أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: مودّة 4 مرّات، أسوة 2 مرّة.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: آمن 10 مرّات، كفر 8 مرّات؛ (5 مرّات): أولياء، أخرج؛ (4 مرّات): أنفق، عدو؛ (3 مرّات): قاتل، {يا أيّها الذين آمنوا}؛ (2 مرّة): دياركم، حسنة، قسط، ينهاكم، دين، اسأل، حل، حكم، يئس، أيدي، (1 مرّة): جهاد، هاجر، عصم.

060.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

أخرج أحمد والحميدي وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانه وابن حبان وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وأبو نعيم معاً في الدلائل عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه، فأتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت ما معي من كتاب. قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكّة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقاً من قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم: قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكّة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق، فقال عمر: دعني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضرب عنقه، فقال إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ونزلت فيه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة (1)}.

أخرج البخاري وأبو داود في ناسخه والبيهقي في السنن عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة قالا: لمّا كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو على قضيّة المدّة يوم الحديبية كان مما اشترط سهيل: أن لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن سهيل، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا رده في تلك المدّة، وإن كان مسلماً، ثم جاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل.

أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك (12)} إلى قوله {غفور رحيم (12)} فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله: قد بايعتك كلاماً ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل رضي الله عنه قال: أنزلت هذه الآية أي (الآية 12) يوم الفتح فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا وعمر يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

060.3 وقت ومناسبة نزولها:

تعالج السورة حدثين معروفين من الأحاديث الشريفة وفي السيرة النبوية الطاهرة. الأوّل يتعلق بقصّة حاطب بن أبي بلتعة والذي حاول قبل فتح مكّة بقليل ارسال رسالة سريّة إلى زعماء قريش يعلمهم عن عزم النبي صلى الله عليه وسلّم وبدئه إعداده العدّة لمهاجمتهم. والحادث الثاني يتعلّق بالنساء المسلمات واللاتي بدأن بعد صلح الحديبية يهاجرن من مكّة إلى المدينة، فهل يعيدهن المسلمون إلى الكفار حسب أحد شروط الصلح كما يحصل مع الرجال المهاجرين أم ماذا يفعلون. وبذكر هذين الحدثين في السورة يتبين أنها نزلت في الفترة الواقعة ما بين صلح الحديبية إلى بدئ الاستعداد لفتح مكّة. أضف الى هذا أن الشيء الثالث المذكور في نهاية السورة بخصوص بيعة النساء يرجح أنها نزلت قبل الفتح بقليل، لأنه بعد الفتح جاءت الكثير من النساء كما جاء الرجال للمبايعة على الدخول والالتزام بأوامره ونواهيه.

060.4 مقصد السورة:

060.4.1- مقصدها: وجوب تبرّؤ المؤمنين من أعداء الله وأعداء المؤمنين، وإظهار العداوة لمن بادر وأظهر العداوة منهم، ووجوب البر والقسط للذين لا يظهرون العداء ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم (وهم الآباء وأولوا الأرحام والأقرباء وأهل الذمّة والمعاهدين).

060.4.2- ومقصدها نجده في الآية الأولى (1) بمعنى: النهي عن اتخاذ أعداء الله أولياء أو إظهار المودّة لهم، لأنهم هم من كفر بالحق وبدأ بالعداوة وإخراج المؤمنين من ديارهم. وفي الآية الأخيرة (13): وفيها أمر المؤمنين بأن لا يتخذوا الذين غضب الله عليهم (أي الكفار) أصدقاء وأخلاء، قد يئسوا من ثواب الله في الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، لاعتقادهم عدم البعث.

يقابل ذلك وجوب البر والتعامل بالقسط مع الكفار في بلاد المسلمين والذين لا يظهرون العداء ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم (وهو ما سيأتي بيانه في السورة). فالكفار المسالمون وخاصّة أهل الكتاب لهم معاملة عادلة في المجتمع المسلم لها شروطها، وهم كباقي أفراد المجتمع لهم حقوق كاملة (في عصمة دمهم ومالهم وعرضهم وعبادتهم) لأنهم يدفعون الجزية للدولة كما يدفع المسلمون الزكاة، وكذلك الكفار أولو الأرحام والأقارب لهم واجب الودّ وصلة الرحم طالما لم يظهروا العداوة ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم. (انظر مزيد من التفصيل عن القتال والجزية في الإسلام أدناه)

وفي السورة بشارة للمؤمنين بأنه من الكفار المعادين من سيدخل الإسلام: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم (7)}، أي أن يحيل عداوتكم مع أعدائه مودّة، وذلك بدخولهم الإسلام وقدومهم للمبايعة كما تشير إليه الآيات (10-12) على قدوم النساء مبايعات، وهي البشارة بأنهم سيدخلون الإسلام.

060.4.3- وقال البقاعي: مقصودها براءة من أقر بالإيمان ممن اتسم بالعدوان دلالة على صحة مدعاه كما أن الكفار تبرءوا من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم، وتسميتها بالممتحنة أوضح شيء فيها وأدله على ذلك لأن الصهر أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين، فإذا نفي ومنع دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان بسبب الكفران الذي هو أقبح العصيان.

060.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت في السنة الثامنة للهجرة قبل فتح مكّة بقليل، واستهلّت بذكر مقصدها وهو: النهي عن اتخاذ أعداء الله أولياء أو إظهار المودّة لهم، وختمت بأمر المؤمنين بألا يتخذوا الذين غضب الله عليهم (أي الكفار) أصدقاء وأخلاء، فمدارها حول البراءة من أعداء الله وعدم موالاتـهم، لكنها تضمنت أيضاً البر بأولي الأرحام والأقارب والكفار المسالمين وخاصّة أهل الكتاب، وهي أكثر سورة تكررت فيها المودّة (4 مرّات). وتضمنت آياتها ثلاثة أحداث حقيقية: حدثان كانا من أسباب النزول، والثالث قصة تبرّؤ إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه من أعداء الله وأعداء الدين، كما يلي:

(الآيات 1-3، وآية الخاتمة 13): نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وكان من أهل بدر، حينما حاول إفشاء سرّ رسول الله عليه السّلام إلى قريش، لتكون له يد عندهم فيحمي أهله وماله، ولكنّه بفعلته هذه كان سيتسبّب بوقوع قتال في بيت الله الحرام لم يرده الله ولا رسوله وربما أدّي إلى إزهاق الكثير من أرواح المسلمين والمشركين، فأمر الله بسبب ذلك المؤمنين بألا يوالوا أعداء الله وألا يفشوا لهم أسرار المسلمين.

(الآيات 4-6): قصة تبرؤ إبراهيم عليه السلام من أعداء الله، وفي القصّة قدوة حسنة وموعظة وبيان بأن هذه سنة الله وشرعه الذي أمر به كل الأمم، فلا يجوز موالاة أعداء الله بأي حال من الأحوال.

(الآيات 7-12): قصّة خروج المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإيمان بعد صلح الحديبية، ثم مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لهن على الإيمان. وفيها موعظة بأن ليس كلّ الكفار أعداء لله، بل الكثير منهم مسالمون منعهم من الإيمان أسباب غير عداوة الدين كالخوف أو الضعف أو التقليد أو الجهل أو الانشغال …إلخ، ولا يزال الرجاء في إيمان هذه المجموعة قائم، فلا بد من معاملتهم بالعدل كما هو مذكور في الآيات.

أما باعتبار موضوعاتها، فالسورة نصفان يتحدّثان عن صنفين من الكافرين: وهما (الآيات 1-6) كفار محاربون لا يرجى إيمانهم، يقاتلون المؤمنين ليخرجوهم من ديارهم؛ وهؤلاء يجب التبرؤ منهم وعدم موالاتهم حتى لو كانوا أرحاماً وأولاداً كما تبرأ إبراهيم عليه السلام والذين معه من الكفار، (الآيات 7-12) وكفار في حالهم غير مقاتلين لا يؤذون أحداً من المسلمين، وهؤلاء يرجى إيمانهم. وتختم السورة (الآية 13) بأمر المؤمنين بألا يتخذوا الكفار المغضوب عليهم أولياء.

ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربّنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا ربّنا إنك أنت العزيز الحكيم.

060.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

بينت السورة حكم موالاة أعداء الله وضرب الأمثال في إبراهيم والمؤمنين في تبرؤهم من المشركين، وبينت حكم الذين لم يقاتلوا المسلمين، وحكم المؤمنات المهاجرات وضرورة امتحانهن وغير ذلك من الأحكام التي تتعلق بالتعامل مع الكافرين وقبول بيعة من آمن منهم.

باعتبار تسلسل الآيات نستطيع تمييز أربعة مجموعات من الآيات كل مجموعة ثلاثة آيات، ثمّ في الآية الأخيرة يتلخص مقصد السورة، كما يلي:

الآيات (1-3) النهي عن اتخاذ أعداء الله أولياء أو إظهار المودّة لهم. لأنهم هم من كفر بالحق وبدأ بالعداوة، ولأنهم إن يظفروا بالمؤمنين يحاربوهم بأيديهم وألسنتهم، ويتمنَّوا لو يكفرون مثلهم. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم شيئاً حين توالون الكفار مِن أجلهم، يوم القيامة يفصل الله بينكم، والله بما تعملون بصير لا يخفى عليه شيء.

الآيات (4-6) جعل الله في إبراهيم عليه السلام والذين معه من المؤمنين الذين تبرّأوا من قومهم ومعاداتهم، أسوة حسنة للمؤمنين به وباليوم الآخر، ومن يتولّ ويوالي أعداء الله، فالله غنيّ عن إيمانه وطاعته، وعن جميع خلقه، الحميد عند أهل المعرفة بنعمه وآلائه:

التأسي بالقدوة الحسنة للمؤمنين في إبراهيم عليه السلام والذين معه من المؤمنين حين تبرّأوا من قومهم ومما يعبدون من دون الله، وكفرهم وإنكارهم لما هم عليه من الكفر ومعاداتهم، واستغفار إبراهيم لأبيه، ثمّ تبرؤه منه لما تبين أنه على الكفر وأنه عدوّ لله. والاستعانة بالله بدعاء ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا بعذابك لنا أو تسلط الكافرين علينا فيفتنونا عن ديننا، أو يظهروا علينا فيُفتنوا بذلك، فيزدادوا كفراً، واغفر لنا إنك أنت العزيز الذي لا يغالَب، الحكيم في أقواله وأفعاله. ثم كرَّر سبحانه وتعالى الحثَّ على التأسِّي في إبراهيم عليه السلام والذين معه لمن يطمع في الخير من الله في الدنيا والآخرة، ومن يُعْرِض (ويوال أعداء الله) فإن الله هو الغنيُّ عن عباده، الحميد في ذاته وصفاته على كل حال.

الآيات (7-9) بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين أعداء الله، لأنهم هم من ابتدأ بالعداوة بالكفر بالدين أولاً ثم بالقتال وإخراج المؤمنين بسبب الدين، لكن: {عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} أي محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، {واللّه قدير} أي على ما يشاء، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فتصبح مجتمعة متفقة. ثمّ أن الموالاة الممثلة في الحب والنصرة شيء، والنفقة والصلة والإحسان للأقارب الكفار شيء آخر، كما أن التعامل مع الكفار في البيع والشراء والهدية وخلاف ذلك لا يدخل في مسمى الموالاة، بل يباح للمسلم البيع والشراء مع الكفار الذين لم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من ديارهم، أما من قاتل المؤمنين وأخرجهم من ديارهم فلا موالاة لهم بل عداوة وإخراج بالمثل، حتى يؤمنوا بالله وحده.

الآيات (10-12) وجوب معاهدة المؤمنات وعدم جواز إعادتهن إلى الكفار. إذا جاءكم النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام، فاختبروهن؛ لتعلموا صدق إيمانهن، الله أعلم بحقيقة إيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات بحسب ما يظهر لكم من العلامات والبينات، فلا تردُّوهن إلى أزواجهن الكافرين، فالنساء المؤمنات لا يحلُّ لهن أن يتزوجن الكفار، ولا يحلُّ للكفار أن يتزوجوا المؤمنات.

الآية (13) خاتمة فيها بيان مقصد السورة: أن المؤمنون يريدون رضا الله وهذا يتناقض مع أن يتولّوا ويوادوا من غضب الله عليهم وطردهم من رحمته.

060.7 الشكل العام وسياق السورة:

060.7.1- سميت بهذا الاسم لما ورد فيها من وجوب امتحان المؤمنات عند الهجرة وعدم ‏ردُّهُنَّ إلى الكفار إذا ثبت إيمانهن، وتسمى أيضاً “الامتحان” و “المودة”.

وكذلك لتمييز المؤمنين من غيرهم، فالذين يوالون أعداء الله ويسرّون إليهم بالمودّة كما فعل حاطب بن أبي بلتعة فهم مثلهم أعداء للدين، أما من يعدل بالفعل أو القول مع الكفار الذين لا يقاتلون بحرابهم ولا بألسنتهم المؤمنين فلا حرج عليهم.

ضرورة امتحان الكفار فمن علم أنه عدوّ مقاتل بلسانه وسلاحه فيجب البراءة منه وعدم موالاته وقتاله، ومن علم أنه لا يريد قتال المؤمنين فيعامل بأخلاق الإسلام وهو القسط والبر. بدئت بقـوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء (1)} وختمت بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور (13)}. فالوحدة الموضوعية في السورة بقيت تدور حول البراءة من أعداء الله وعدم موالاتـهم.

060.7.2- باعتبار موضوعات الآيات والقصص تنقسم السورة إلى نصفين كل نصف من 6 آيات يتحدثان عن نوعين من الكافرين وعن طريقة تعامل المؤمنين مع هؤلاء الكافرين، بالإضافة إلى الآية الأخيرة وفيها خلاصة المقصود من موضوعات السورة:

060.7.2.1- الآيات (1-6) كفار محاربين يقاتلون المؤمنين ليخرجوهم من ديارهم، وهؤلاء كفار معاندين لا يرجى إيمانهم:

وجوب التبرّؤ من أعداء الله الذين يظهرون العداء ويبادرون بالعداوة ويقاتلون المؤمنين لإخراجهم من ديارهم. أي إذا تبين أن الكفار محاربين لله ويقاتلون المؤمنين بألسنتهم وأسلحتهم ليخرجوهم من ديارهم، فيجب اتخاذهم أعداء وعدم موالاتهم حتى لو كانوا أرحامهم وأولادهم ومهما كانت صلة قرابتهم. وإظهار العداوة لهم ومبادلتهم القتل بالقتل. ولا يجوز اظهار الود لهم لأي سبب كان، كما في قصّة حاطب بن أبي بلتعة المشهورة، بل يجب التبرؤ منهم كما تبرأ إبراهيم عليه السلام والذين معه من الكفار، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله ورسوله.

060.7.2.2- الآيات (7-12) كفار غير مقاتلين على حالهم لا يؤذون أحد من المسلمين وهؤلاء يرجى إيمانهم:

ليس كل الكفار أو أعداء الله محاربين للمؤمنين بل أن منهم من يعيشون مع المؤمنين بسلام، إنما يمنعهم من الإيمان أسباب أخرى غير العداوة لله والمؤمنين، قد تكون التقليد الأعمى للآباء أو الجهل أو عدم المبالاة أو عدم الرغبة بسماع الحق واتباع الصراط المستقيم، أو غيرها من مثل هذه الأسباب، وهذا هو حال معظم الكفار، فالكثير من الناس يسيرون على الباطل ويمارسون الخطأ إما جهلاً بالصواب منهم أو وهم يعلمون أنه يضرّهم ويضرّ مجتمعهم ويمارسونه جهلاً وتهوراً ولا مبالاة حتى إذا وقع أحدهم في العقاب ولقي ما يمنعه عنوة عمّا كان فيه من الخطأ والضلال ندم أشد الندم وبدأ يختلق الأعذار الواهية التي لا تستند على منطق صحيح ولا على سبب مقنع، لكن هؤلاء سيندمون حين لا ينفع الندم.

060.7.2.2.1- الآيات (7-9) عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتموهم، من أقاربكم من المشركين محبة بعد البغضاء، بدخولهم الإسلام، والله قدير، وغفور لعباده، رحيم بهم. فالذين لم يقاتلوا ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم فلا بأس من إكرامهم بالخير والعدل والإحسان والبر بهم، لأن الله يحب الذين يعدلون. إما الذين قاتلوا وأخرجوا وعاونوا الكفار على إخراج المؤمنين من ديارهم، فلا يجوز موالاتهم، ومن يتولهم، فأولئك هم الظالمون.

060.7.2.2.2- الآيات (10-12) هذه الآيات تعطي مثالاً من الواقع يبين أن من هؤلاء الكفار الغير معادين للمؤمنين من يدخل الإسلام، فتصير محبّة بعد البغضاء، وألفة بعد الشحناء بانشراح صدورهم للإسلام. والمثال هنا هو عن النساء المؤمنات المهاجرات فلا بدّ من قبولهن بعد التأكد من صدق إيمانهن وهجرتهن، وربما اختارت الآيات النساء لأنها الحالة الأصعب، لأن للمرأة خصوصيّة في الإسلام (وحتى في الجاهلية وعند الكفار) بأن القوامة في البيت هي للرجل، فلا يجوز إعادتهن للكفار حتى لا يفتتنّ عن دينهن ويجبرهن الكفار على الكفر.

060.7.2.3- الآية (13) هذه الآية الأخرة تلخص المقصود من موضوعات السورة وهو: أمر المؤمنين بأن لا يتخذوا الكفار الذين غضب الله عليهم أصدقاء وأخلاء، قد يئسوا من ثواب الله في الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، لاعتقادهم عدم البعث.

060.7.3- سياق السورة باعتبار مناسبة النزول وتسلسل الآيات:

لبيان مقصد السورة تضمنت آياتها ثلاثة أحداث حقيقية اثنتان حصلتا مع المسلمين المخاطبين أنفسهم كما هو مبيّن في مناسبة النزول، وواحدة من الزمان الماضي تمثلت في رواية قصة تبرّؤ إبراهيم عليه السلام ومن آمن معه من أعداء الله وأعداء الدين، كما يلي:

060.7.3.1- الآيات (1-3) وآية الخاتمة (13). وقد نزلت في حاطب بن أبي بلتعة (كما ذُكر في مناسبة النزول أعلاه) وكان من أهل بدر، حينما حاول إفشاء سرّ رسول الله عليه السّلام إلى قريش، لتكون له عندهم يد فيحمي أهله وماله، ولكنّه بفعلته هذه كان سيتسبّب بوقوع قتال في بيت الله الحرام لم يرده الله ولا رسوله وربما يؤدّي إلى إزهاق الكثير من أرواح المسلمين والمشركين. فأمر الله بسبب ذلك المؤمنين بأن لا يوالوا أعداء الله.

اختتمت السورة بوصية المؤمنين على ترك موالاة الذين غضب الله عليهم إذ لا أمل ولا رجاء في أن يؤمنوا.

060.7.3.2- الآيات (4-6) فيها قصة تبرؤ أبراهيم عليه الصلاة والسلام من أعداء الله، وفي القصّة قدوة حسنة وموعظة وبيان أن هذه سنة الله وشرعه الذي أمر به كل الأمم، فلا يجوز موالاة أعداء الله بأي حال من الأحوال.

060.7.3.3- الآيات (7-12) تذكر الآيات قصّة خروج المؤمنات مهاجرات بعد صلح الحديبية، ثم مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لهن على الإيمان (كما ذُكر في مناسبة النزول أعلاه). وفي الآيات موعظة بأنه ليس كل الكفار أعداء لله، بل الكثير منهم مسالمين، منعهم من الإيمان أسباب أخرى غير العداوة للدين، ولا يزال الرجاء في إيمانهم قائم فلا بد من معاملة هؤلاء بالعدل كما هو مذكور في الآيات.

القصة في الآيات عن حلّ المشكلة التي واجهت المسلمين بسبب قدوم المهاجرات المؤمنات إلى المدينة من عند الله العليم الحكيم: بالإبقاء على المهاجرات {فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حلّ لهم ولا هم يحلّون لهن وآتوهم ما أنفقوا (10)}. ولأن المرأة في الإسلام تختلف عن الرجل في المسئوليات، فهي تحت قوامة الرجل فلا بد من عدم إعادتها إلى الكفار لأنها لن تتمكن من أداء عبادتها وهي في بيت رجل كافر، لذلك حرّم على المؤمنة الزواج من الكافر. كذلك وجوب امتحان المؤمنات حتى يعلم حقيقة أنهن هاجرن من دار الكفر إلى دار الإسلام.

وكما في الحديث المذكور أعلاه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية، فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله: قد بايعتك على ذلك، كلاماً.

060.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

060.8.1- ولمّا ختمت بأن الله غضب على الكافرين وأمرت بعدم موالاتهم، والممتحنة هي الرابعة من عشر سور مدنيّة متتالية ومتناسبة (من الحديد إلى التحريم) تخاطب المؤمنين وتعلمهم بأن اتباع الدين هو هُدى ونعمة ما بعدها نعمة لأن كل المخلوقات تتبع هدي الله وشرعه والإنسان ليس استثناء. خمسٌ من هذه السور العشر استهلّت بأن السماوات والأرض ومن فيهن يسبحون بحمد الله، وخمس تضمنت قصص وأحداث حقيقية حصلت في حياة المؤمنين توضح معاني التسبيح والاتباع ونقيضهما بالدليل العملي: فالحديد بعد الاستهلال بالتسبيح والتنزيه أمرت بالإيمان والعمل الصالح وقارنت بين أعمال ومصائر المؤمنين والكافرين، أعقبتها المجادلة بمثال عملي عمّا ما فعله المجادلون بما يناقض مراد الله سبحانه، وأمرت بالاتباع وعدم موالاة أحد يخالف شرع الله مهما كانت صلة القرابة بينهم، لا بالأقوال ولا بالأفعال فالله سميع بصير. والحشر التي استهلّت وختمت بالتسبيح والتنزيه أكّدت بأن الله هزم الكفار وحشرهم في الدنيا وأخذ أموالهم بغير قتال وسيحشرهم في الآخرة، وأن من يواليهم بالأقوال والأفعال هو منافق، بينما المؤمنون يتقون الله ويحبون إخوانهم كما يحبون أنفسهم، أعقبتها الممتحنة بثلاث قصص فصّلت بأن الكافرين صنفان، أحدهما عدوّ عنيد كفر بالحق وبدأ بالعداوة وإخراج المؤمنين من ديارهم فيجب قتالهم وإظهار العداوة لهم، والثاني كافر مسالم لا يظهر العداء ولم يخرج المؤمنين من ديارهم فيجب التعامل معه بالبر والقسط كما أمر الله وبينته السورة. وهكذا وبنفس الطريقة أعقبت سورتي الصف والجمعة واللتين مقصدهما العمل الجماعي الخالص لله كالجسد الواحد بسورة المنافقون وفعلهم المتناقض مع حكمة الله وإرادته، وأعقبت سورة التغابن والتي مقصدها التسابق بالعمل الصالح والاستعداد ليوم الحساب والتغابن، بسورتي الطلاق: التي تأمر بتقوى الله ومراقبته في أصعب الحالات الإنسانية اختلافاً عند حصول الطلاق، والتحريم: ومثال عملي عن تحريم الحلال لإرضاء الناس وأن الله لم يأذن لأحد من خلقه بتحريم حلال أو تحليل حرام، كما تمّ بيانه في مكانه من السور.

060.8.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: لما كانت سورة الحشر في المعاهدين من أهل الكتاب، عقبت بهذه، لاشتمالها على ذكر المعاهدين من المشركين، لأنها نزلت في صلح الحديبية ولما ذكر في الحشر موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً، ثم موالاة الذين من أهل الكتاب، افتتح هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء، لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك، وكرر ذلك وبسطه، إلى أن ختم به، فكانت في غاية الاتصال، ولذلك فصل بها بين الحشر والصف، مع تآخيهما في الافتتاح بـ: (سبح).

 

060.8.3- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: افتتحت – يعني هذه السورة – بوصية المؤمنين على ترك موالاة أعدائهم ونهيهم عن ذلك وأمرهم بالتبرؤ منهم، وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم (22)} إلى آخر السورة، وقد حصل منها أن أسنى أحوال أهل الإيمان وأعلى مناصبهم {أولئك الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه (22)} المجادلة، فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء ووعظهم بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم، والاتصال في هذا بين، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه السامع على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الناس إليهم، اعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم، ثم أتبع ذلك ما عجله لهم من النقمة والنكال، ثم عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة له، ثم لما كان أول سورة الممتحنة إنما نزل في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وكتابه لكفار قريش بمكة، والقصة مشهورة وكفار مكة ليسوا من يهود، وطلبوا المعادة للجميع واحد، فلهذا فضل بما هو من تمام الإخبار بحال يهود، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين، والتحمت السور الثلاث وكثر في سورة الممتحنة تزداد الوصايا والعهود، وطلب بذلك كله ولهذا المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء وما يشترط عليهن في ذلك، فمبنى السورة على طلب الوفاء افتتاحاً واختتاماً حسب ما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر وفي خاتمة سورة المجادلة – انتهى.

 

060.8.4- القتال (الجهاد) في الإسلام: تشريع القتال في الإسلام مرّ بأربعة مراحل، كما يلي:

060.8.4.1- المرحلة الأولى: مرحلة الكف والإعراض والصفح حيث كان القتال محرماً:

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً (77)} النساء.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَأَصْحَاباً لَهُ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَكَّةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي عِزٍّ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّةً، فَقَالَ: “إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ، فَلا تُقَاتِلُوا” فَلَمَّا حَوَّلَنَا اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَمَرَنَا بِالْقِتَالِ، فَكَفُّوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ (77)} النساء. رواه ابن جرير والنسائي، وصححه الألباني.

060.8.4.2- المرحلة الثانية: مرحلة الإذن بالقتال:

وقال ابن القيم رحمه الله عن هذه المرحلة: “والله سبحانه يأمرهم بالصبر والعفو والصفح حتى قويت الشوكة واشتد الجناح؛ فأذن لهم بالقتال، ولم يفرضه عليهم فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} الح

060.8.4.3- المرحلة الثالثة: وهي الأمر بالقتال لمن قاتلهم دون مَن لم يقاتل:

قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ (190)} البقرة.

060.8.4.4- ثم المرحلة الرابعة: فرض عليهم قتال المشركين كافة:

قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً (36)} التوبة، وقال: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ (5)} التوبة، وقال: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} التوبة، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ (39)} الأنفال.

وقال صلى الله عليه وسلم: “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللهُ، فَإِذَا قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ” متفق عليه.

وهذه المرحلة الأخيرة هي التي استقر عليها الأمر في معاملة المسلمين للكفار مِن جميع الأجناس، أهل الكتاب وغيرهم، وقال أكثر السلف بنسخ آيات الموادعة والصفح والعفو. ولا يختلف العلماء مِن المذاهب الأربعة، وغيرهم على أنه يلزم المسلمين عند القدرة ابتداء الكفار بالقتال، ولو لم يقاتل الكفار المسلمين، وهذا جهاد الطلب، مع لزوم جهاد الدفع بالإجماع. ورغم أن المستقر عند الفقهاء المرحلة الأخيرة؛ إلا أن عامتهم يصرح بأن حكم المراحل السابقة لم يزل بالكلية، بل يُعمل بها عند الحاجة.

060.8.5- الجزية ومعاملة أهل الذمّة في الإسلام:

قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (29)} التوبة، والجزية لا تعني الظلم والقهر والإذلال للشعوب التي دخلت في رعاية الأمة المسلمة، بل هي عقداً مبرماً بين الأمة المسلمة والشعوب التي دخلت في رعايتها، يتمتعون بموجبه بكل حقوق المواطنة كباقي أفراد المجتمع في الدفاع عنهم وفي عصمة دمهم ومالهم وعرضهم وعبادتهم. وتؤخذ من الرجال الأحرار البالغين، دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني، وهو مبلغ بسيط مقداره بين الدينار والأربعة دنانير في السنة.

وقد امر الله تعالى بالإحسان لأهل الجزية وحسن معاملتهم، وحرّم ظلمهم والبغي عليهم، فأمر بالبر والقسط بأهل الكتاب المسالمين الذين لا يعتدون على المسلمين {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)} الممتحنة، والبر أعلى أنواع المعاملة، فقد أمر الله به في باب التعامل مع الوالدين، وهو الذي وضّحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بقوله: “البر حسن الخلق” رواه مسلم، وقال في حديث آخر: “من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عاما” اخرجه البخاري.

ومن الأمثلة على عقد الذمة في الدولة الإسلامية، ما نقله ابن سعد في طبقاته، فيقول: “وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين”. كما أورد المؤرخون صيغاً أخرى من العقود لأهل الذمة، ومن ذلك العهدة العمرية التي كتبها عمر لأهل القدس، وبمثلها كتب لأهل اللد، وكتب خالد بن الوليد عقداً لأهل دمشق حين دخلها.

ففي مقابل دراهم معدودة يدفعها الرجال القادرون على القتال من أهل الذمة، فإنهم ينعمون بالعيش الآمن والحماية المطلقة لهم من قبل المسلمين علاوة على أمنهم على كنائسهم ودينهم. وهي أن المسلمين يقدمون حياتهم وأرواحهم ودماءهم فدىً لحماية أهل الجزية، ولمن دخل في حماهم، وأصبح في ذمتهم، إنها ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنه ليس للإمام منع أهل الذمة من شرب الخمر وأكل لحم الخنازير واتخاذ المساكن التي صالحوا عليها، وتصون الشريعة نفس الذمي وماله، وتحكم له بالقصاص من قاتله ولو كان مسلماً، وتفك أسره إذا كان وقع في الأسر، وصوناً لمال الذمي فإن الشريعة لا تفرق بينه وبين مال المسلم، وتقطع يد من يسرق ماله، ولو كانت يد مسلم.

انظر أيضاً سورة التوبة (009.8.6) حول القتال في الإسلام.

راجع تناسب سورة الحديد مع غيرها من السور (057.8). حول موضوعات: اسم الله الأعظم، والإنفاق في سبيل الله، والتسبيح في القرآن.

راجع تناسب سورة المجادلة مع غيرها من السور (058.8.1.4 و 058.8.1.5). حول ترابط السور المدنية العشرة مع بعضها، من الحديد إلى التحريم.

راجع تناسب سورة التحريم مع غيرها من السور (066.8). حول ترابط السور المسبحة مع بعضها، ومع ما تلاها من السور المدنية، ومع سورتي الإسراء والأعلى المكّيتين. ومع ما قبلها من بداية سورة الفاتحة حتى سورة الواقعة.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top