العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
008.0 سورة الأنفال
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
008.1 التعريف بالسورة:
1) مدنية ماعدا الآيات من 30 إلى 36 فمكية. 2) هي من سور المثاني. 3) عدد آياتها 75 آية. 4) هي السورة الثامنة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والحادية والتسعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة البقرة. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمّى أيضاً سورة بدر كما قال ابن عباس. وقال البقاعي وتسمى الجهاد، فقد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
ورد لفظ الجلالة {الله} في السورة 84 مرّة، و {اللهم} مرّة واحده، {لله} 4 مرّات، و {ربهم} 3 مرّات و {ربك} مرّتين و {ربكم} مرّة واحده. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
ووردت الأسماء والصفات: عليم 7 مرّات، حكيم 5؛ وتكرر (4 مرّات): عزيز، سميع، شديد؛ (3 مرّات: يغفر؛ (2 مرّة): رحيم، غفور، بصير، مولى، هو، يقضي، أنزل، يريد؛ (1 مرّة): قوي، قدير، نصير، محيط، ذو فضل، يَعْلَم، طَهَّرَ، أنعم، بلاء، خير الماكرين، مخرج.
السورة الوحيدة التي ذكر فيها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ (72)}، وتشبهها {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ (74)}؛ {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}؛ ويشبهها في سورة الحج {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}؛ {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ} 2 مرّة.
السورة الوحيدة التي ذكر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: رميت/رمى 3 مرّات؛ (2 مرّة): الأنفال، غنمتم، مئتين، العدوة؛ (1 مرّة): خُمُسَهُ، الشوكة، مردفين، متحيزاً، عشرون، ألفين، مكاء، تصدية، رباط.
أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: هاجروا 5 مرّات؛ خيانة 4 مرّات؛ (3 مرّات): أَلَّفَ، ألف، (2 مرّة): أسرى.
وتكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: الذين آمنوا/مؤمنين/مؤمنون 22 مرّة؛ الذين كفروا/كفر 16 مرّة؛ يعلم 10 مرّات؛ وتكرر (9 مرّات): قلوب، حق، يا أيها؛ (8 مرّات): عذاب، بعض؛ (7 مرّات): الرسول، نصر؛ (6 مرّات): تقوى، سمع، قتال؛ (5 مرّات): مغفرة، أولياء/ولاية، هاجروا؛ (4 مرّات): نبي، رزق، ينفق، فئة، فتنة، شديد، عقاب، يمكر؛ (3 مرّات): توكل، طاعه، الملائكة، ظلم، جاهد، طيب، الدين، جهنم، رمى، أدبار، يريكهم، اضربوا؛ (2 مرّة): الشيطان، يشاقق، خبيث، يحشرون، شرّ الدواب، مئة؛ (1 مرّه): بشرى، يميز، أعناق، نار، كذب، نفاق، نكص، فشرّد، عشرون، يثخن.
008.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال قال: تلك سورة بدر.
قال الإمام برهان الدين البقاعي: وتسمى الجهاد، فقد سنت قراءتها في الجهاد لتنشيط المؤمنين للجلاد. ذكر الحافظ أبو الربيع في كتابه في سيرة المصطفى وشيخه الخطيب أبو القاسم في كتابه الذي جمعه في الفتوح، قالا: في وقعة اليرموك من فتوح الشام عن حديث سيف بن عمر قال: وكان القارئ يوم ذاك المقداد، قالوا: ومن السنة التي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر أن نقرأ سورة الجهاد عند اللقاء، وهي سورة الأنفال، ولم يزل الناس بعد على ذلك؛ قالا في وقعة القادسية من فتوح فارس قالوا: ولما صلى سعد – يعني ابن أبي وقاص – رضي الله عنه الظهر أمر غلاماً كان عمر رضي الله عنه ألزمه إياه وكان من القراء يقرأ سورة الجهاد، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتيبة التي تليه، وقرئت في كل كتيبه، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها، قال مصعب بن سعد: وكانت قراءتها سنه يقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الزحوف ويستقرئها، فعمل الناس بذلك.
008.3 وقت ومناسبة نزولها:
نزلت في السنة الثانية هجرية بعد معركة بدر وهي أوّل معركة بين الإسلام والكفر. وهي باحتوائها على الكثير من التفاصيل وتناولها الشامل لمواضيع هذه المعركة توحي بأنها نزلت مرّة واحدة. ومن الممكن أن تكون بعض الآيات نزلت في أحداث وأوقات متفرقة تلت المعركة ثم ضمت إلى بعضها البعض لاحقا.
والقول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية. فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة، بل أن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد. وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات. ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين. وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة، تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين، وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي. ولكن المعول عليه في قولهم: إن هذه السورة نزلت بعد هذه السورة، هو نزول أوائل السور.
008.4 مقصد السورة:
008.4.1- الاستسلام لأوامر الله بالإيمان والهجرة والجهاد في سبيله وإقامة دينه، وعدم الإخلاد للأرض واتباع الهوى الذي فيه هلاك الناس. فإن إحقاق الحق وإقامة دين الله نعمة عظيمة أرادها الله للإنسان ليفوز في الدنيا والآخرة، وأما اتباع الباطل الذي تمليه الشهوات وتزينه الشياطين للإنسان فهو هلاك في الدنيا وعقاب شديد في الآخرة.
008.4.2- ومقصد السورة نجده في الآية الأولى التي تأمر المؤمنين بتقوى الله وطاعة الله ورسوله. وهذا الأمر جاء في سياق إجابته سبحانه على سؤال الصحابة عن قسمة الغنائم يوم “بدر”. إذ يقول جل جلاله في الآية الأولى من السورة: أن أمرها لله ورسوله، وأن إيمانهم يدعوهم ويلزمهم الطاعة وترك التنافس على الأموال وأن يصلحوا الحال بينهم. ثم الآيات الثلاثة التي تليها فيها تأكيد أن تقوى الله وطاعته هي صفات المؤمنين حقاً: ففي الآية الثانية (2) أن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفاً منه، وفَرَقاً من عقابه، وإذا قرئت عليه آياته زادته إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون، فلا يرجون غيره، ولا يرهبون سواه. وفي الآية الثالثة (3) أن المؤمنون حقاً يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله. والآية الربعة (4) وأن هؤلاء المؤمنون حقاً لهم درجات ومغفرة ورزق كريم.
ثم تمضي السورة في تعليم المسلمين كيف يكون الإيمان بالله وكيف تكون عبادة الله وحده ومتى يأتي نصر الله ومدده وعونه؛ ويكون ذلك بتقوى الله والتوكل عليه والاستجابة لله والرسول والإيمان بأنه ينصر دينه. وذلك بدرس عملي طبّقه المسلمون في غزوة بدر تبعه تعليق وتقييم للدروس المستفادة يبين مدى فهم المسلمين واستيعابهم لما فصّله الله في كتابه وعرّف به على نفسه وعلى دينه. ثم إعادة توجيههم لترسيخ الإيمان {ويكون الدين كله لله}.
008.4.3- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: ومقصدها تبرؤ العباد من الحول والقوّة، وحثهم على التسليم لأمر الله، واعتقاد أن الأمور ليست إلا بيده وأن الإنسان ليس له فعل. ليثمر ذلك الاعتصام بأمر الله، المثمر لاجتماع الكلمة، المثمر لنصر الدين وإذلال المفسدين، المنتج لكل خير. ففي قصّة الأنفال التي اختلفوا في أمرها وتنازعوا قسمها فمنعهم الله منها وكف عنهم حظوظ الأنفس وألزمهم الإخبات والتواضع، وأعطاها نبيه صلى الله عليه وسلم، فكأن الأمر له وحده، يمنحه من يشاء.
008.5 ملخص موضوع السورة:
008.5.0- تأمر سورة الأنفال المؤمنين بالالتزام بالطاعة والاستسلام لإرادة الله، بإقامة الدين والجهاد في سبيله وعدم الانجرار وراء الشهوات. وتثبت كذلك أنّ اختيار الله دائماً هو الأكمل والأحسن للمؤمنين؛ لأنّ مسار الأحداث قد يأتي بما يكرهه المؤمنون، ومخالف تماماً لاختيارهم، وكأنّ المخالفة مقصودة، ليكتشفوا بعد ذلِك أنّ اختيار الله لهم عن طريق الوحي المنزل، أو كما فرضته عليهم الأحداث والظروف المحيطة والوقائع، كان دائماً هو الاختيار الأمثل والأفضل لهم، في الدنيا والآخرة. هذا درس مهم تعلمناه من معركة بدر التي نزلت بمناسبتها السورة وتحدّثت كلّ مواضيعها عن أحداثها وأسبابها ونتائجها، وخلاصة هذا الدرس هو أنّ تقوى الله والتوكّل عليه وطاعته في الحقّ أهمّ من النصر أو الغنيمة، وأنّ تدبير الله أعظم من طمع الإنسان، ومداه أبعد من نظرة الإنسان القصيرة، وأنّه لا أحد يستطيع أن يقف في وجه إرادة الله وتدبيره في إحقاق الحقّ وإبطال الباطل وقطع دابر الكافرين.
008.5.1- تفاصيل السورة باعتبار ترتيب آياتها وما احتوته من موضوعات كما يلي:
اسم السورة هو الأنفال، أو الغنائم التي اختلفوا في أمرها وتنازعوا قسمتها، فمنعهم الله منها. ورد اسم السورة في ثلاثة أماكن متباعدة، أي في الآية الأولى (1)، والحادية والأربعين (41)، والتاسعة والستين (69). وقد جاء ترتيب الموضوعات في السورة بعد هذه الآيات متماثلاً، وكأنّ سياق السورة مكوّن من ثلاثة مقاطع أو مجموعات من الآيات، متشابهة ومتناظرة، ولكن غير مكرّرة. وقد تمّ التركيز على وجوب توكّل المؤمنين على ربّهم في المجموعة الأولى، وعلى وجوب العمل والإنفاق في المجموعة الثانية، وعلى استحقاق المؤمنين للمغفرة والرزق في المجموعة الثالثة، كما يلي (وتفصيل مجموعات السورة الثلاث المتناظرة التالية موجود في باب التفاصيل الذي يلي مباشرة)
1- المجموعة الأولى حول وجوب توكّل المؤمنين على ربّهم؛ وتبدأ في الآية الأولى (1) فتبين أنّ أمر الغنائم متروك لله ولرسوله، يليها بيان سبب ذلك في كونه أخرجهم من بيوتهم بالحق، وأنّ طرفيّ القتال كانا بيده يحرّكهما نحو النتيجة التي حسم أمرها منذ البداية، يليه تحريض المؤمنين على الطاعة والاستسلام لتدبير الله، يليه إحباط الله مكر الكافرين، يليه نتيجة المعركة وهي انتصار دين الله بتدبير الله.
2- المجموعة الثانية حول موضوع وجوب العمل والإنفاق، وتبدأ في الآية (41) فتبيّن أحكام الغنائم وطريقة توزيعها، يليها مباشرة حصول المواجهة بتوجيه الله وأيدي المؤمنين، يليها تحريض الذين آمنوا على الثبات والطاعة والصبر وعدم التنازع أو الخروج بطراً ورئاء الناس، يليها تزيين الشيطان للكافرين وإهلاكهم بذنوبهم، يليه بيان أحكام القتال والتي إذا طبّقها المؤمنون استحقّوا نصيبهم من الغنائم.
3- المجموعة الثالثة حول موضوع استحقاق المؤمنين للمغفرة والرزق، وتبدأ في الآية (69) فتبين أنّ الله أمكنهم من أكل الغنائم فصارت حلالاً طيباً، يليها أنّ المؤمنين انتصروا بتمكين الله وصار في أيديهم أسرى، يليها أنّ المؤمنين المهاجرين المجاهدين أولياء بعض، يليها أنّ الذين كفروا أولياء بعض، يليها أنّ المؤمنين استحقوا بسبب هجرتهم وجهادهم المغفرة والرزق الكريم.
008.5.2- تفاصيل السورة باعتبار القصص وما احتوته من موضوعات كما يلي:
إنّ من رحمة الله بعباده من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم أن نصرهم وهم قلّة مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس باتباعهم لدينه. وهذه سنّة الله التي لا تتغيّر ولا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير لأعدائه. إنّ هناك قوانين وسنن أوسع من القوانين والسنن التي يراها الناس، فإنّ كلّ شيء من صنع الله وتدبيره، وقضائه وقدره. أراد الله أن تفلت القافلة وأن تتأدب قريش، وأراد أن يجعل فرقاناً بين الحقّ والباطل. هذا تدبير الله، فهو غير تدبير الناس ويحتويه. المؤمنون رغبوا بالمال والحياة حين اختاروا لأنفسهم واعتمدوا على تدبيرهم. لكن حين دبّر لهم ربّهم واختار لهم القتال في سبيله، أعطاهم أكثر مما أرادوا، لأنّهم أطاعوه واتّبعوا اختياره مفضّلين له على المال والحياة.
اللهم رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقلّ من ذلك، وأصلِح لنا شأننا كلّه إنك أنت العزيز الحكيم.
تأمر السورة الناس بالاستجابة لله والاستسلام الكامل لأوامره ونواهيه لأن فيها صلاح الحياة في الدنيا والآخرة:
008.5.2.1- تأمر المؤمنين بالالتزام بالطاعة والاستسلام لإرادة الله بإقامة الدين والجهاد في سبيله وعدم الانجرار وراء الشهوات، وتأمرهم بترك التنافس على الأنفال وهي الغنائم فإن مردّ أمرها إلى الله ورسوله. جاء هذا في سياق قصة الأنفال التي اختلفوا في أمرها، فمنعهم الله منها، فهو وحده المعطي والمانع كما يشاء. وبيان أحكام الغنائم، وأن هذه نعمة من الله، حلالاً طيباً للمؤمنين، الذين آمنوا بالله وبما أنزل، وأطاعوا الله ورسوله، وثبتوا وذكروا الله، وصبروا، فكان لهم النصر والغنيمة.
008.5.2.2- تعلمهم هذا الدرس عن الإيمان بالتجربة الحقيقية التي عاشوها في وقعة بدر ومن الأحداث التي سبقتها والتي تلتها: إيواء الله سبحانه ونصره للمؤمنين، وأنه يفعل ما يريد ويدبر الأمور كيفما يشاء، وتبين بالتجربة أيضاً أن لا أحد يستطيع أن يقف في وجه إرادة الله وتدبيره في إحقاق الحق وإبطال الباطل وبأنه يقطع دابر الكافرين.
من هاتين التجربتين في “بدر” في الآيات (5-19، 26، 30-35، 41-49، 59)، وفي “قريظة” في الآيات (55-58)، ومجموع عددها (37 آية) أي حوالي نصف السورة: تعلم المسلمون هذا الدرس عن الإيمان وطاعة الله بتجربة حقيقية عاشوها في وقعة بدر وما سبقها وتلاها من أحداث. (ملاحظه: لم يرد في السورة عن قصص وأخبار الأمم السابقة سوى في الآيتين 52 و 54 عن إهلاك آل فرعون).
008.5.2.3- الإيمان والتقوى والتوكل على الله واتباع دين الله نعمة عظيمة فيها صلاح الدنيا والآخرة، وأن هذه النعمة لا تزول إلا بالكفر، إذ تتحوّل إلى هلاك في الدنيا وعذاب في الآخرة. لذلك يأمر سبحانه المؤمنين بالإيمان والهجرة والجهاد في سبيله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله (39)}. ويأمرهم بالاستجابة والاستسلام الكامل لأوامره ونواهيه والتوكل عليه لأن في هذه الاستجابة صلاح الحياة في الدنيا والآخرة، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريضهم على تطبيق دعوة الحق والتحلي بصفات المؤمنين التي بينتها السورة، وعلى التفاني والقتال في سبيلها، واتباع أحكام وآداب السلم والقتال، وأحكام الأسر والغنائم، والمعاهدات والمواثيق، والثبات وعدم التولي لأنهم مكلفون بطاعة الأوامر واجتناب النواهي ومحاسبون يوم القيامة فيجازى كل بما يستحق.
008.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
008.6.1- تفاصيل السورة باعتبار ترتيب آياتها وما احتوته من موضوعات:
كما ذكر في الملخص أعلاه فإن موضوع الأنفال والغنائم ورد في السورة في ثلاثة أماكن متباعدة، أي في الآية الأولى (1)، والحادية والأربعين (41)، والتاسعة والستين (69). وقد جاء ترتيب الموضوعات في السورة بعد هذه الآيات متماثلاً، وكأنّ سياق السورة مكوّن من ثلاثة مقاطع أو مجموعات من الآيات، متشابهة ومتناظرة، ولكن غير مكرّرة، كما يلي:
008.6.1.1- المجموعة الأولى حول موضوع وجوب توكّل المؤمنين على ربّهم؛ وتبدأ في الآية الأولى (1) من السورة فتبين أنّ أمر الغنائم متروك لله ولرسوله، يليها بيان سبب ذلك في كونه أخرجهم من بيوتهم بالحق، وأنّ طرفيّ القتال كانا بيده يحرّكهما نحو النتيجة التي حسم أمرها منذ البداية (5-14، 17-19)، يليه تحريض المؤمنين على الطاعة والاستسلام لتدبير الله (15، 16، 20-29)، يليه إحباط الله مكر الكافرين (30-36)، يليه نتيجة المعركة وهي انتصار دين الله بتدبير الله (37-40).
008.6.1.2- المجموعة الثانية حول موضوع وجوب العمل والإنفاق؛ وتبدأ في الآية واحد وأربعين (41) فتبيّن أحكام الغنائم وطريقة توزيعها، يليها مباشرة حصول المواجهة بتوجيه الله وأيدي المؤمنين (42-44)، يليها تحريض الذين آمنوا على الثبات والطاعة والصبر وعدم التنازع أو الخروج بطراً ورئاء الناس (45-47)، يليها تزيين الشيطان للكافرين وإهلاكهم بذنوبهم (48-56)، يليه بيان أحكام القتال والتي إذا طبّقها المؤمنون استحقّوا نصيبهم من الغنائم (57-68).
008.6.1.3- المجموعة الثالثة حول موضوع استحقاق المؤمنين للمغفرة والرزق؛ وتبدأ في الآية تسع وستين (69) فتبين أنّ الله أمكنهم من أكل الغنائم فصارت حلالاً طيباً، يليها أنّ المؤمنين انتصروا بتمكين الله وصار في أيديهم أسرى (70-71)، يليها أنّ المؤمنين المهاجرين المجاهدين أولياء بعض (72)، يليها أنّ الذين كفروا أولياء بعض (73)، يليها أنّ المؤمنين استحقوا بسبب هجرتهم وجهادهم المغفرة والرزق الكريم (74-75).
008.6.2- تفاصيل عن السورة باعتبار موضوعاتها:
مقصد السورة هو الأمر بتطبيق دين الله والقتال دونه لأنه هو الحق الذي سيظهره سبحانه وسيتولى من يعمل على إظهاره، ويخذل من يحاربه. لذلك أتت مواضيع السورة وسياقها لتؤكد هذه الحقيقة لجميع المخاطبين مؤمنهم وكافرهم، ويثبتها بالدليل العملي الذي رأوه بأعينهم كيف أن الله تولى المؤمنين ونصرهم. ويؤكد بأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ويعدهم بالمغفرة والرزق الكريم. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض {هم شر الدواب عند الله} أهلكهم بذنوبهم وإفسادهم، وفي الآخرة لهم عذاب عظيم.
008.6.2.1- الأنفال والغنائم لله، أنزل حكمه فيها وفي توزيعها من السماء، فهي له ولرسوله، الأرزاق بيده يصرفها حيث يشاء وكيفما شاء، هو الذي أخرجهم وهم كارهون للقتال الذي جاءت بسببه هذه الغنائم، وهو الذي دبر التقاء الجمعان وجعل النصر للمؤمنين والهزيمة على الكافرين: (1) (41) (69) (3 آيات)
008.6.2.2- صفات المؤمنين كما أرادها سبحانه في السورة هي: فزع قلوبهم بذكر الله، وزيادة إيمانهم بتلاوة آياته، وتوكلهم عليه، وأنهم يقيمون الصلاة وينفقون فيما أمرهم به. ثم تكريم الله لهم بالمغفرة والرزق الكريم (وهي ملخص موضوعات السورة): (2-4) (3 آيات)
008.6.2.3- تدبير الله للحرب بين الحق والباطل بتجربة حقيقيه: ففي غزوة بدر أخرجهم الله للقتال وهم كارهون ليُحق بهم الحق ويُبطل الباطل، وربط على قلوب المؤمنين وثبت أقدامهم وألقى الرعب في قلوب الكافرين وأوهن كيدهم، وهيأ جميع أسباب النصر للمؤمنين، ووزع الأدوار {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}. (5-14، 17-19) (42-44) (70-71) (18 آية)
008.6.2.4- أمر المؤمنين وتحريضهم على تقوى الله والتوكل عليه والاستسلام الكامل لأوامره ونواهيه لأن فيه صلاح الحياة في الدنيا والآخرة: (15، 16، 20-29) (45-47) (72) (16 آية).
تكررت في هذه الآيات الكلمات {يا أيها الذين آمنوا}، وعن عبد الله بن مسعود قال إذا سمعت الله يقول {يا أيّها الذين آمنوا}، فارعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شرّ ينهى عنه.
008.6.2.5- مكر الكافرين وأسبابه، من العناد والجهل، وصدهم عن سبيل الله، وتزيين الشيطان أعمالهم، وافشالهم بتجربة حقيقية عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه: (30-36) (48-56) (73) (17 آية)
008.6.2.6- أحكام القتال في الإعداد، ما استطاعوا عليه من قوة، وفي السلم، والحرب، والأسرى، والمعاهدات، والمواثيق، والهجرة، وكلها قائمة على تقوى الله وطاعته والاستسلام له ولأوامره والثبات عليها والتوكل عليه واجتناب نواهيه: (37-40) (57-68) (74-75) (18 آية)
الخلاصة أن المؤمنون مكلفون بالقتال حتى يكون الدين كله لله: فهو يتولى وينصر ويغفر لمن يلتزم به ويقاتل دونه ويهلك ويعذب من يكفر به ويتولى عنه. وجوب الإيمان بقدر الله وتدبيره، للأمور كلهاً، وبمدد الله وعونه للمؤمنين وأن نتائج الأعمال تابعة لإرادة الله فيها، وأن العلاقات بين المسلمين بعضهم مع بعض وبين غيرهم من الأمم يجب أن تقوم على أساس من الإيمان.
008.7 الشكل العام وسياق السورة:
008.7.1- اسم السورة: سواء أكان الأنفال أو بدر يشكّل الإطار العام لمحتوياتها ويشير إلى أن تقوى الله والتوكل عليه وطاعته في الحق أهم من النصر أو الغنيمة. ففي جهاد المسلم ينظر إلى أن عطاء الله هو الحق وفيه الخير سواء كان نصراَ أم غنيمة. وأن تدبير الله أعظم من طمع الإنسان في الغنائم، قال تعالى: {وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم}. ومداه أبعد من نظرة الإنسان القصيرة، قال تعالى: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين}.
في السورة فئتان من الناس فئة آمنت بربها فوثقت به وتوكلت عليه، ثم اتبعت أوامره والتزمت بنواهيه فأعطاها الله أكثر مما أرادت، وبلا حدود. وقد خرج المؤمنون متوكلين على وعد ربهم، للقاء القافلة، وكان أقصى آمالهم أن يغنموها بما حملته من التجارة والأموال. فاختار الله لهم الأحسن، بلقاء عدوهم في بدر، فانتصروا، رغم ضعفهم وقلة عددهم، وأسروا وأخذوا الغنائم. وفي ذلك حصلت الهيبة للمؤمنين، وفيه تشجيع لهم، وفتح الطريق للفتوحات الكبرى، وتحقيق النصر للإسلام والمسلمين. وكله خير لا يحصل بدون ما اختاره الله من القتال.
والفئة الثانية فئة كفرت بربها وخالفوا أوامره وأوامر رسوله، فمكروا وخرجوا بطراً ورئاء الناس، وأنفقوا الأموال وكان أقصى آمالهم أن يصدوا عن سبيل الله وقتل المؤمنين. فباءت جهودهم حسرة عليهم، وحصلوا على عكس مرادهم، رغم كثرتهم وحسن استعدادهم، فقد عجل الله لهم عذاب الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار. وقد ألقي الرعب في قلوبهم، واستؤصلت شوكتهم، وهزموا وعذبوا بأيدي المؤمنين.
إن هناك قوانين وسنن أوسع من القوانين والسنن التي يراها الناس. فإن كل شيء هو من صنع الله وتدبيره، وقضاءه وقدره.
008.7.2- غزوة بدر: سياق السورة ومواضيعها كلها تدور حول أحداث غزوة بدر وأسبابها ونتائجها. وهي النموذج العملي لتعليم المؤمنين أحكام وشروط وآداب وأخلاق قتال الأعداء، والسلام معهم، وأحكام المعاهدات، والصلح، وما يحيط به وما يستتبع ذلك. وقد ابتدأت مسببات الغزوة منذ أن كان المسلمون في مكة قليلو العدد مستضعفون مقهورون يخافون أن يأخذهم الكفار، فجعل لهم مأوى إلى المدينة، ثم نصرهم عليهم في بدر كما جاء بيانه في الآية (26). وابتدأت مسبباتها أيضاً مع بدايات الأحداث العدائية الخطيرة، والتي من أهمها تآمر قريش حين اجتمعوا في دار الندوة، في محاولة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، بسيوفهم تشترك فيه جميع قبائلهم، كما جاءت الإشارة إليه في الآية (30)، ونجاته عليه السلام بمبيت علي رضي الله عنه في فراشه، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وهاجر إلى المدينة بصحبة أبو بكر الصديق رضي الله عنه. ثم تسلسلت تطوراتها وتراكمت مسبباتها باستكمال خروج المهاجرين إلى المدينة والمؤاخاة بينهم وبين الأنصار. ثم خروج المسلمين للقاء قافلة تجارة قريش، ثم وقعة بدر، وانتصار المسلمين وخذلان الكافرين، ووقوعهم أسرى، وحصول الغنائم وفداء الأسرى. ثم استمر سرد القصة متواصلاً، وامتدت إلى ذكر بعض الأحداث التي حصلت بعد الغزوة، كخيانة بني قريظة ونقض عهدهم في غزوة الخندق كما أشارت إليه الآيات (55-58)، وفي هذا الامتداد بيان أحكام ودروس عن الوفاء بالعقود وعدم نقضها، وعدم الخيانة، وعن أحكام السلم، وهي مكملة لأحكام الجهاد التي بينتها السورة.
ومن خلال غزوة بدر، يتعلم المؤمنون الدروس العملية عن فرضية الجهاد في الإسلام بأحكامها وآدابها وشروطها، وما يترتب عليها من الأمور التي لها بها علاقة من الاستعداد والثبات وعدم التولي والهجرة والسلم والمعاهدات ونقضها. والسورة فيها من الوضوح بحيث لا يحتاج من يتأملها إلى كثير من الجهد لفهم معانيها وموضوعاتها، التي تدور حول حقيقة الإيمان والقتال والجهاد بالمال والنفس والهجرة ابتغاء مرضاة الله، وكره الناس للقتال، وحبهم للغنائم، وفتنة المؤمنين عن دينهم ومحاولة ردهم أو إعادتهم إلى الكفر.
008.7.3- الهجرة: وقد كانت الهجرة أعظم حدث في تاريخ الإسلام، وقد اتخذها، خيار الناس رضوان الله عليهم، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية للتاريخ الإسلامي، ابتدأ عندها تسجيل التقويم الهجري دلالة على عظم تلك الحادثة، وقد ورد ذكرها في السورة في أربعة مواضع:
في الآية رقم (26) تذكر المؤمنين بأيام ضعفهم يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم بالهجرة إلى المدينة ثم نصرهم ثم رزقهم من الطيبات.
في الآيتين (72، 73) قسمت السورة الناس، حسب حادثة الهجرة، إلى أربعة أقسام:
008.7.3.1- الذين آمنوا وهاجروا.
008.7.3.2- والذين آمنوا ونصروا.
008.7.3.3- والذين آمنوا ولم يهاجروا.
008.7.3.4- والذين كفروا ولم يؤمنوا.
فقضى بأن الفئتين الأوليين هم بعضهم أولياء بعض، أما الفئة الثالثة فهؤلاء ليس للمؤمنين من ولايتهم من شيء فقد بقوا بعيدين عن دار الإسلام، والفئة الرابعة هم الكفار بعضهم أولياء بعض.
في الآية (74) وأن هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا مع إخوانهم الذين آووهم ونصروهم، هم المؤمنون حقاً قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم (74)}.
في الآية (75) واللاحقون من المؤمنون في الأجيال القادمة، بعد السابقين إلى الهجرة، هم منهم إذا فعلوا مثل فعلهم من الهجرة والجهاد. وأولوا الأرحام لهم حقوق زائدة على الولاء، كحق الإرث وغيره.
وقد ترتب على حادثة الهجرة أنها فرقت بين المؤمنين وبين الكافرين، فهي الفرقان بين الحق والباطل، وصار المسلمون أقوياء لهم دولة، بعد أن كانوا ضعفاء خائفون. ولعظم حادثة الهجرة في الإسلام فقد تكرر ذكرها في عشر سور من السور المدنية وهي سورة البقرة في الآية (218)، آل عمران في الآية (195)، النساء في الآيات (89، 97، 100)، الأنفال في الآيات (26، 72-75)، التوبة في الآيات (20، 40، 100، 117)، والآية (40) من سورة التوبة تتحدث عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبو بكر رضي الله عنه وقد نزلت بعد الهجرة بسنوات أي في السنة التاسعة للهجرة، سورة الحج في الآية (58)، النور في الآية (22)، الأحزاب في الآيات (6، 50)، الحشر في الآيات (8، 9)، الممتحنة في الآية (10). ومرة في السور المكية عن المهاجرين إلى الحبشة في سورة النحل في الآيات (41، 110). ولعظم حادثة الهجرة أيضاً، اختارها الصحابة من بين الكثير من الأحداث المهمّة (كميلاد النبي صلى الله عليه وسلّم، وبداية الوحي، وحادثة الإسراء، وفتح مكّة، وغيرها)، بداية للتقويم الهجري، لتؤرخ تاريخ المسلمين، فجعل الخليفة عمر بن الخطاب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكّة إلى المدينة هي أول يوم في التقويم الهجري.
008.7.4- استخدام السورة للقصص الحقيقية وللأحداث التاريخية الحقيقية، وأسلوب التعلّم بالتجربة:
لقد ارتكزت سورة الأنفال على القصص كوسيلة مهمة لإيصال المعلومات والمعاني الغزيرة حول فرض الجهاد وتوزيع الغنائم. وفي بيان مواقف وردود أفعال المؤمنين، ومدى تقبلهم للأوامر والنواهي حول تطبيق شرائع الدين، في الظروف المختلفة من الأمن والخوف، ووجود الأعداء من الإنس والجن. إذ سلطت الأضواء على غزوة بدر، وما سبقها من الأحداث وما ترتب عليهم من النتائج وهو أسلوب معجز اعتمده الخالق ليربي عباده على اتباع الحق واجتناب الباطل، أسلوب فيه تسلية وتشويق لسماع الأحكام والأوامر والنواهي بدون ملل، والتي بدون هذا الأسلوب ستبدو لكثرتها وتنوعها ثقيلة على النفس صعبة التطبيق، عدا عن أن هذا الأسلوب المعجز هو أفضل ما اكتشفه وعرفه الإنسان في وسائل التربية والتعليم، بأن يتعلم الإنسان بالتجربة، وأن يربي نفسه بنفسه اعتماداً على نتائج تجاربه العملية وليست النظرية أو الافتراضية. في هذه السورة وفي كل السور السابقة واللاحقة احتلت التجربة جزءاً مهماً في الخطاب، فنصف سورة الأنفال تصف قصة بدر، والنصف الآخر يبين الأحكام والآداب والأوامر والنواهي المراد تربية المؤمنين عليها. فهي بلا تشبيه كمن يريد أن يتعلم صنعة معينة، فالتعليم النموذجي أن تعطيه التعليمات والأوامر بناءاً على إنجازه واتقانه للأوامر والتعليمات السابقة، وعلى درجة تقدمه في التعلم والتنفيذ، لا أن تضعها في كتاب أو تدرجها في قوائم تطلب مه أن يحفظها ثم يطبقها. هذا عدا عن أنه كم ستحتاج من الصفحات لوصف الشيء وتعليمه.
إن كتابة أحكام الجهاد والغنائم وما يتبعهما من شروط وأسباب ونتائج وواجبات وآداب وأوامر ونواهي على طريقة ما يفعله الناس من كتابة وتبويب وتصنيف، سيكون على شكل أبحاث دينية، وعلمية، وقانونية، واجتماعية، وسياسية، وغيرها من الأبواب الطويلة المملة والتي تحتاج إلى المتخصصين. وستكون خالية من التبسيط والتشويق الذي يحتاجه الإنسان العادي ليلتزم بما فيه من الواجبات والأحكام. هذا عدا عن أنها تخاطب فئات مختلفة الثقافات والذكاء، ووجهات نظر متناقضة من المؤمنين والمنافقين والكفار، إلخ.
لا أدري، بدون قصة بدر كيف كنا سنستطيع فهم معنى إرادة الله وإرادة مخلوقاته، وفهم مقصود ربنا حين يقرر بأن المؤمنين لا يخرجون من أنفسهم بل هو الذي يخرجهم، وهو الذي يثبتهم ويربط على قلوبهم، ويري أعدائهم كثرتهم رغم قلتهم، وينزل الملائكة، ويرمي عنهم، إلخ. وكيف سنفهم فعل الشيطان ومكره والذي قد يصل إلى تقمصه لشخصية إنسان حكيم يدير معارك الباطل، ثم يولّي ويترك من أضلهم ليلاقوا مصيرهم المشئوم. وكم كان سيستغرق منا الوقت وكم سنحتاج من الشرح والبيان حتى نعلم كل توجيهات رب العالمين، وكل ما يدور في الخفاء في صدور وأفكار المؤمنين والكافرين، وفي وضلالات الشيطان اللعين، واختلاف المؤمنين على الأنفال ورغبتهم في الدنيا وتأثيرها على اختياراتهم، وإنفاق الكافرين أموالهم لتكون حسرة عليهم، وكيف أنهم شاقوا الله ورسوله، وخرجوا بطراً ورئاء الناس، ومعنى القلة والكثرة، وعلاقة الدعاء بالنصر، وغيرها الكثير من المعاني التي احتوتها السورة.
008.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
008.7.5.1- آيات القصص وخروج المؤمنين للقتال: في وقعة بدر في الآيات (5-19، 26-36، 39-49، 59)؛ وفي “قريظة” في الآيات (56-58)؛ أسرى بدر والمهاجرين والأنصار في الآيات (63، 67-75) = ومجموع عدد آيات القصص فهي بالإجمال: (5-19، 26-36، 39-49، 56-75) = 57 آية.
008.7.5.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (50، 51) = 2 آية.
008.7.5.3- الأمثال في الآيات: (20-25، 37، 38، 52-55) = 12 آية.
008.7.5.4- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (1-3، 27-29، 39، 40، 60-62، 64-66) = 14 آية.
008.7.6- يستبدل الله سبحانه وتعالى الأمم الكافرة بالمؤمنة:
008.7.6.1- في هذه السورة تأكيد لسنة الله التي عرفناها من سورة الأعراف بأن الله سبحانه يستبدل الأمم الكافرة بالمؤمنة. فقد آن الأوان لكي يستبدل المشركون عبدة الأوثان والأصنام في جزير العرب ومن حولهم من أهل الكتاب الذين حرفوا دينهم، بالمؤمنين حقاً الذين محصهم الله في مكة، فصبروا على العذاب، وشكروا ربهم على نعمة الهداية إلى الدين والصراط المستقيم، فهاجروا تاركين أموالهم وديارهم، راضين بدينهم، إلى الفئة الأخرى المؤمنة حقاً، وهم الأنصار، في المدينة، التي آوت المهاجرين وناصرتهم وشاركتهم في الصبر والجهاد والدفاع عن الدين وصراط الله المستقيم.
وفي السورة تأكيد لسنن الله الثابتة، وتذكير للمؤمنين بتسلسل الأحداث وتطوراتها حتى وصلت بهم إلى النصر المبين. فهي تذكرهم بأنهم كانوا قلة مستضعفين في الأرض {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون (26)}. لتظل هذه الأحداث لهم، ولمن سيأتي بعدهم عبرة ودرساً لا ينتهي بانتهاء الجيل الأول من المؤمنين حقاً.
كذلك ما فعله سبحانه من هزيمة منكرة للكافرين والمشركين، على أيدي جنده المؤمنين، هو تماماً كفعله بالأمم السابقة الكافرة، الهالكة، فهذه هي سنته على مر العصور وعلى مدار التاريخ، يأخذهم بسبب ذنوبهم فيهلكهم، وأنه من تمام عدله وحكمته أنه لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب أذنبه، وقد أهلك آل فرعون والذين من قبلهم بسبب ذنوبهم {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)}، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم من جنات وغيرها، إلخ. فهذه سنة ثابتة، أن ينتصر للمؤمنين ويجعلهم خلفاءه في الأرض، وينتقم من الكافرين ويعذبهم بسبب ذنوبهم.
008.7.6.2- من يتأمل سياق السورة سيلاحظ بوضوح لا يحتاج إلى تأويل بأنها تعمل جاهدة لكي يفهم منها قارئها أن كل الأحداث الحقيقية والوقائع التي حصلت في غزوة بدر وما سبقها من أسباب وما ترتب عليها من نتائج وكل ما احتوته من أوامر ونواهي وأحكام، ماهي إلا أحداث ووقائع مرسومة رسماً دقيقاً، ومحاكة أدوارها مسبقاً، وكأنها قصة مكتوبة أدوارها بنص حرفي في كتاب، وأن الناس بلا تشبيه يقومون بتمثيل هذه الأدوار كما كتبت في ذلك الكتاب، لكنها ليست تمثيل بل هي الحق في علم الله الأزلي والسنن والأسباب. فقد ابتدأت الأحداث عند نقطة معينة ومحددة سلفاً وهي ظهور الإيمان مما ترتب عليه تكذيب الكفار والمشركين للمؤمنين. ثم تطور الأمر إلى تشكيك الكفار بالمؤمنين وبأخلاقهم وبقواهم العقلية، ثم إلى الصد عن المؤمنين والمنع من سماعهم، ثم تطور إلى اضطهاد وتعذيب الكفار للمؤمنين لإعادتهم إلى دين آباءهم وأجدادهم، ثم تطور إلى محاولات قتل المؤمنين، ثم هجرة المؤمنين من أرضهم وديارهم إلى مكان يأمنون فيه على حياتهم وعلى إقامة شعائر دينهم، مما يؤدي إلى أن ينفصل المؤمنين عن الكافرين، ويصير للمؤمنين جماعة ودولة. في هذا الوقت تحدث سنة الله التي عرفتنا عليها سورة الأعراف بأن يهلك الله الكافرين والمشركين، وقد حصل هذا الإهلاك في بدر بأيدي المؤمنين. ثم تطور الأمر بأن ثبّت الله دينه وجعل له عنواناً معروفاً وهو “المدينة المنورة”، لمن أراد الإيمان. فابتدأت الدعوة تنتشر بسرعة، مما أغاظ الكفار فصاروا يتحرشون بالمؤمنين ويغيرون عليهم في كرّ وفرّ، ثم يماطلون بإقامة المعاهدات ثم نقضها، إلى أن يأتي اليوم الموعود بانتصار المؤمنين نصراً مبيناً يقضي على الكفر والشرك قضاءاً نهائياً لا رجعة بعده. هؤلاء المؤمنين كما عرفناه من السن في سورة الأعراف، سوف يبدأ إيمانهم بالتناقص، إلى أن يقتنصهم الشيطان في غفلة منهم ويعيدهم إلى الكفر والشرك.
008.7.6.3- نفهم كذلك أن المؤمنين ما أقاموا أمر الله فإن سنته في الانتصار بهم من الكافرين قائمة، لأن سنته خذلان الكافرين وتعذيبهم، فإذا أقام المؤمنون أمر الله فإنهم أداة هذا العذاب؛ وبهذا أيضاً استقر أن الكافرين ستصيبهم سنة الله بهم وهي العذاب، إما العذاب المباشر المستأصل من الله، وإما العذاب بأيدي المؤمنين؛ كما استقر أن على المؤمنين أن ينفذوا أمر الله، فيكونوا أهلاً لأن ينتقم الله بهم من الكافرين. فالسياق بقدر ما فيه من رفع لمعنويات المؤمنين، فيه كذلك تحذير لهم أن يداخلهم شيء يستحقون به عذاب الله وزوال نعمه.
008.7.7- ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة:
ما نلاحظه بوضوح أن المؤمنين حين يختارون ويرغبون حصول أشياء، فإن تطور الأحداث، مع ما يصاحبه من نزول الوحي، يأتي بما يكره المؤمنون، ومخالف تماماً لاختيارهم، وكأن المخالفة مقصودة. ليكتشفوا بعد ذلك أن اختيار الله لهم عن طريق الوحي، أو كما فرضته عليهم الظروف التي المحيطة بهم، والوقائع التي تحركهم، كان هو الاختيار الأفضل لهم، والذي حصلوا بسببه على خيري الدنيا والآخرة، وبأضعاف أضعاف ما أرادوه وما تمنوه. بينما كان سيكون نتيجة اختيارهم لو تحقق هو حصول خير الدنيا فقط مع احتمال حصول خير للآخرة بالمصادفة بدون ترتيب منهم. والسبب في ذلك أن هناك إرادة أعظم من إرادة الإنسان، إرادة الله بإحقاق الحق وإبطال الباطل {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}.
لقد كره المؤمنون القتال، وتمنّوا السلامة والغنيمة، فاختار الله سبحانه ما كرهوه من القتال، كما كره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مع بعض أصحابه قتل الأسرى لصلة الدم والقرابة، فكان اختيار الله ما كرهوه، من قتل الكفار وعدم استبقائهم أسرى لأنهم أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم في مكة، وواصلوا ملاحقتهم لهم إلى دار الإسلام في المدينة، لا لوجه حق، بل بطراً ورئاء الناس. ثم عفى سبحانه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين اختيارهم الخاطئ، واجتهادهم بأن اختاروا فداء الأسرى، {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم (67)}. وهذا الاختيار من رب العالمين لما يكرهه المؤمنون، هو اختيار عزيز حكيم، ليرفع به من شأنهم في الدنيا والآخرة، بينما اختيارهم لأنفسهم، هو اتباع هوى وشهوة، وهو تفضيل للدنيا على الآخرة. وهو ما يؤكده الحديث عن أنس بن مالك. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “حفت الجنة بالمكاره. وحفت النار بالشهوات”.
إن الله سبحانه قادر على أن ينصر المؤمنين ويهلك الكافرين بغير قتال، فهو قادر على كل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} يـس. وهو قادر على أن يجعل الحق يحصل بسبب ما يختاره المؤمنون، أو حتى بدون سبب، وبدون اختيار ولكنه سبحانه يريد أن يعلم الكافر بأنه يستحق العقاب عن بينة، جزاءاً على ظلمه وعلى اعتدائه على حقوق غيره. وأن يعلم المؤمن أنه يستحق الثواب رحمة من ربه باتباعه لأوامره واجتنابه لنواهيه. قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيم (42)}. فالله سبحانه يحب العذر كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “ولا شخص أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه مدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة”، فالعذر هنا بمعنى الإعذار والإنذار قبل أخذهم بالعقوبة ولهذا بعث المرسلين كما قال سبحانه وتعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً (15)} الإسراء، والمدحة بكسر الميم وهو المدح بفتح الميم، ومعنى من أجل ذلك وعد الجنة أنه لما وعدها ورغب فيها، كثر سؤال العباد إياها منه والثناء عليه، والله أعلم.
يمنّ سبحانه على المؤمنين بأنه أسمعهم لعلمه بأن قلوبهم ستفقه وتعقل ما يأتيها من أوامر ونواهي، فيأمرهم بإن {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)}. وأما هؤلاء الذين لم يسمعهم فهم كالدواب لا يفقهون ولا يعقلون أوامر ربهم ونواهيه فلا حاجة لأن يسمعهم {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}.
008.7.8- انظر أيضاً في تسهيل فهم وتدبّر القرآن، المبحث 7.3.7- تكامل الأسباب المادية والمعنوية.
008.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
008.8.0- انظر سورة الكهف 018.8.0- تناسب السّور من الأعراف إلى الكهف في الربع الثاني من القرآن
008.8.1- من رحمة الله بعباده من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن نصرهم وهم قلّة مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس باتباعهم لدينه. وهذه سنة الله التي لا تتغيّر ولا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير لأعدائه. وهذا الترتيب لسورة الأنفال مناسب لما سبق تفصيله في قصص الأنبياء: قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقوم موسى في سورة الأعراف. التي انتصر الله فيها لأنبيائه والمؤمنين وأهلك أممهم الكافرة. فهناك في سورة الأعراف بينت كيف استقبلت الأمم السابقة رسالة ربها وكنا نتعلم من أخطاء السابقين والآن في سورة الأنفال تبين كيف استقبلت أمة محمد رسالة ربها لنتعلم من أخطاءنا ونتدرب عملياً على الإيمان. فهي إذاً في التعريف بكيف يكون المؤمنين حتى تهيئ لسورة التوبة بعدها بالبراءة من الكفار والمشركين.
008.8.2- لما بين سبحانه في السور السابقة (سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة) طريق الهداية والصراط المستقيم. وعرف (في سورتي الأنعام والأعراف) على نعمه الكثيرة التي لا تحصى، في الخلق والملك والتمكين لعباده في الأرض، وإغداقه عليهم من الرزق والنعيم، ثم رحمته بهم بأن بيّن لهم الهدى ودين الحق، وإرسال الرسل تترا إلى الأمم، كلما كذبت أمة رسولها، يتبع بعضهم بعضا. وبعد التفصيل المبين المصحوب بكل وسائل التفهيم من الآيات والقصص والأمثال، بأن هذا هو الحق، وأنه أنزل الفرقان بين الحق والباطل. يأتي الآن (في سورة الأنفال) دور الأمر بالإتباع والفزع لذكر الله، وزيادة الإيمان بتلاوة آياته، والتطبيق لدينه بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة، والتوكل عليه والجهاد في سبيله، والثقة بوعده، فهو المدبر لكل مجريات الأحداث، ومؤلف القلوب، وصانع النصر للمؤمنين، ومهلك الكافرين.
008.8.3- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: ومناسبتها للأعراف أنه لما ذكر تعالى قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم في تلك، ناسب أن يذكر قصة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع قومه، وأنه لما أطنب سبحانه في قصة موسى عليه السلام كان ذلك ربما أوهم تفضيله على الجميع، فأتى بقصة المخاطب بهذا القرآن في سورتين كاملتين: الأنفال في أول أمره وأثنائه، وبراءة في ختام أمره وانتهائه.
008.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير ما خلاصته: لما قصَّ سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأعراف أخبار الأمم، وافتتح السورة من ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة الذي أخلد إلى الأرض (واسمه بلعام)، وكلاهما كفر على علم ولم ينفعه ما قد كان حصل عليه، ونبه تعالى عباده على الباب الذي أتى منه على بلعام بقوله سبحانه {ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه (176)} الأعراف، فأشار سبحانه إلى أن اتباع الأهواء أضل كل ضلال، نبهوا على ما فيه الحزم من ترك الأهواء جملة فقال تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول (1)}، فكان قد قيل لهم: اتركوا ما ترون أنه حق واجب لكم، وفوضوا في أمره لله وللرسول، فذلك أسلم لكم وأحزم في ردع أغراضكم وقمع شهواتكم، وأوفى لدينكم وأبقى في إصلاح ذات البين وأجدى في الأتباع {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم (1)}، ثم ذكروا بما ينبغي لهم يلتزموا فقال تعالى: {إنما المؤمنون} إلى قوله: {زادتهم إيماناً (2)} الأنفال. ثم يريهم حسن العاقبة فيما اختاره لهم، فقد كانوا تمنوا لقاء العير، واختاروا ذلك على لقاء العدو ولم يعلموا ما وراء ذلك {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (7)} الأنفال، إلى ما قصه تعالى عليهم من اكتنافهم برحمته وشمول ألطافه وآلائه وبسط نفوسهم ونبههم على ما يثبت يقينهم ويزيد في إيمانهم، ثم أعلم أن الخير كله في التقوى فقال: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً (29)} الأنفال، وهذا الفرقان هو الذي حرمه إبليس وبلعام، فكان منهما ما تقدم من اتباع الأهواء القاطعة لهم عن الرحمة، وقد تضمنت الآية حصول خير الدنيا والآخرة بنعمة الاتقاء، ثم أجمل الخيران معاً في قوله {والله ذو الفضل العظيم}. ووجه آخر وهو أنه تعالى لما قال {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له (204)} الأعراف، بيَّن لهم كيفية هذا الاستماع وما الذي يتصف به المؤمن من ضروبه فقال {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله (2)} الأنفال الآية، فهؤلاء لم يسمعوا بآذانهم فقط، ولا كانت لهم آذان لا يسمعون بها ولا قلوب لا يفقهون بها، ولو كانوا كذا لما وجلت وعمهم الفزع والخشية وزادتهم الآيات إيماناً، فإذن إنما يكون سماع المؤمن هكذا {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21)} الأنفال، ولما كان هؤلاء إنما أتى عليهم من اتباع أهوائهم والوقوف مع أعراضهم وشهواتهم {يأخذون عرض هذا الأدنى (169)} الأعراف، {ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه (176)} الأعراف، وهذه بعينها كانت آفة إبليس، رأى لنفسه المزيد واعتقد لها الحق ثم اتبع هذا الهوى حين قال {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون (33)} الحجر، فلما كان اتباع الهوى أصلاً في الضلال وتنكب الصراط المستقيم، أمر المؤمنين بحسم باب الأهواء، والتسليم فيما لهم به تعلق وإن لم يكن هوى مجرداً لكنه مظنة تيسير لاتباع الهوى، فافتتحت السورة بسؤالهم عن الأنفال وأخبروا أنها لله ورسوله، يحكم فيها ما يشاء {فاتقوا الله} واحذروا الأهواء التي أهلكت من قص عليكم ذكره {وأصلحوا ذات بينكم} برفع التنازع، وسلموا لله ولرسوله، وإلا لم تكونوا سامعين وقد أمرتم أن تسمعوا السماع الذي عنه ترجى الرحمة، وبيانه في قوله {إنما المؤمنون (2)} الآية. ووجه آخر وهو أن قصص بني إسرائيل عقب بوصاة المؤمنين وخصوصاً بالتقوى وعلى حسب ما يكون الغالب فيما يذكر من أمر بني إسرائيل، ففي البقرة أتبع قصصهم بقوله {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا (104)} البقرة، ولما كان قصصهم مفتتحاً بذكر تفضيلهم {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47)} البقرة، افتتح خطاب هذه الأمة بما يشعر بتفضليهم، وتأمل ما بين {يا بني إسرائيل (47)} و {يا أيها الذين آمنوا (104)} وأمر أولئك بالإيمان {وآمنوا بما أنزلت (41)} البقرة، وأمر هؤلاء بتعبد احتياطي فقيل {وقولوا انظرنا واسمعوا (104)} البقرة، ثم أعقبت البقرة بآل عمران وافتتحت ببيان المحكم والمتشابه الذي من جهته أتى على بني إسرائيل في كثير من مرتكباتهم، ولما ضمنت سورة آل عمران من ذكرهم ما ورد فيها، أعقبت بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100)} آل عمران، ثم أعقبت السورة بقوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة (1)} النساء، وعدل عن الخطاب باسم الإيمان للمناسبة، وذلك أن سورة آل عمران خصت من مرتكبات بني إسرائيل بجرائم كقولهم في الكفار {هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً (50)} النساء، فهذا بهت، ومنها قولهم {الله فقير ونحن أغنياء (181)} آل عمران، إلى ما تخلل هاتين من الآيات المنبئة عن تعمدهم الجرائم، فعدل عن {يا أيها الذين آمنوا} إلى {يا أيها الناس} ليكون أوقع في الترتيب وأوضح مناسبة لما ذكر، ولما ضمنت سورة النساء قوله تعالى {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات (160)} النساء – إلى قوله: {وأكلهم أموال الناس بالباطل (161)} النساء، أتبعت بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (1)} المائدة، ثم ذكر لهم ما أحل لهم وحرم عليهم ليحذروا مما وقع فيه أولئك، فعلى هذا لما ضمنت سورة الأعراف من قصصهم جملة، وبين فيها اعتداءهم، وبناه على اتباع الأهواء والهجوم على الأعراض، طلب هؤلاء باتقاء ذلك والبعد عما يشبهه جملة، فقيل في آخر السورة {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا (201)} الأعراف، ثم افتتحت السورة الأخرى بصرفهم عما لهم به تعلق وإليه تشبث يقيم عذرهم شرعاً فيما كان منهم، فكان قد قيل لهم: ترك هذا أعلم وأبعد عن اتباع الأهواء، فسلموا في ذلك الحكم لله ورسوله واتقوا الله، ثم تناسج السياق والتحمت الآي، وقد تبين وجه اتصال الأنفال بالأعراف من وجوه، والحمد لله – انتهى.
008.8.5- وقال العلامة شهاب الدين الألوسي: ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن فيها {وأمر بالعرف (199)} الأعراف، وفي هذه كثير من أفراد المأمور به. وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، وفي هذه ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه. وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم، وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى: {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب (52)}. وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى: {وإذ لم تأتهم بآية قالوا لولا إجتبيتها (203)} وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا: {وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين (31)}. وبين جل شأنه فيما تقدم إن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى، وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عز من قائل: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2)}. إلى غير ذلك من المناسبات والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات.
008.8.6- وجه التناسب بين آخر سورة الأعراف وأول سورة الأنفال: ختمت سورة الأعراف بعبادة الله وتسبيحه والسجود له {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)}. وبدأت الأنفال في الآية الأولى بالأمر بتقوى الله وإطاعة الرسول مقابل {لا يستكبرون}. والآية الثانية بالخوف {إذا ذكر الله} مقابل {ويسبحونه} كما في سورة الرعد {ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته (13)}. وفي الثالثة بالإنفاق وإقامة الصلاة مقابل {وله يسجدون}. وختمت سورة الأعراف بذكر الله في كل حال: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين}، وبدأت سورة الأنفال بترك الانشغال بحطام الدنيا والسؤال عن الغنائم: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}.