العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
066.0 سورة التحريم
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
066.1 التعريف بالسورة:
1) مدنية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 12 آية. 4) السادسة والستون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والسابعة بعد المائة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “الحجرات”. 6) أسماء أخرى للسورة: يقال لها سورة المتحرم وسورة لم تحرم.
7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 13 مرّة، رب 5 مرات؛ (مرتين): هو، مولاه، العليم؛ (1 مرّة): غفور، رحيم، الحكيم، الخبير، قدير. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: آمن 6 مرات، يا أيها 5 مرات؛ (4 مرّات): نبي، نبّأ، توبة، كفر؛ (3 مرّات): امرأة؛ (2 مرتين): مولاه، عسى، ضرب، عمل، نور، نار، عبد، أمر، نجني؛ (1 مرّة): صغت، طلق، فعل، جَنة.
066.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
066.3 وقت ومناسبة نزولها:
في الحديث الصحيح الثاني الذي سيأتي: كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية القبطيّة في بيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم. ومارية هذه أهداها له المقوقس القبطي صاحب الإسكندريّة ومصر في سنة سبع من الهجرة وولدت له إبراهيم في ذي الحجّة سنة ثمان من الهجرة. مما يعني أن هذه السورة نزلت في الفترة الواقعة ما بين السنة السابعة والثامنة من الهجرة.
أخرج ابن سعد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة إن أيّتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير، فدخل إلى إحداهما فقالت ذلك له، فقال: “لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود”، فنزلت: {يا أيها النبيّ لم تحرّم ما أحلّ الله لك (1)} إلى قوله: {إن تتوبا إلى الله (4)} لعائشة وحفصة. {وإذ أسرّ النبيّ إلى بعض أزواجه حديثاً (3)} لقوله: “بل شربت عسلاً”.
وأخرج البزار والطبراني – قال السيوطي: بسند صحيح – عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب: من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال عائشة وحفصة، وكان بدو الحديث في شأن مارية القبطيّة أم إبراهيم أصابها النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها، فوجدت حفصة فقالت: يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري على فراشي، قال: “ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها أبداً” قالت بلى، فحرّمها وقال: “لا تذكري ذلك لأحد” فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه، فأنزل الله “يا أيها النبيّ لم تحرّم” الآيات كلّها، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه وأصاب مارية. وأخرجه ابن سعد وابن مردويه وابن المنذر والطبراني والهيثم بن كليب في مسنده والضياء المقدسي في المختارة من طريق نافع عن ابن عمر.
فهذان سببان صحيحان لنزول الآية، والجمع ممكن بوقوع القصتين: قصّة العسل، وقصّة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعاً، وفي كلّ واحد منهما أنه أسرّ الحديث إلى بعض أزواجه.
066.4 مقصد السورة:
066.4.1- الله أحل الحلال وحرم الحرام، ولم يأذن بذلك لأحد من خلقه. ولأن الإنسان كثير الخطأ في اتباع الحلال والحرام {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)} ففرض الله تحلّة الأيمان بالكفارة {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}، أي: شرع الله العليم الحكيم له تحلّة الأيمان بالكفارة وحثّه على التوبة. فلا تأخذنا العاطفة في النساء والأموال والأولاد، ولا الخوف من مخلوق، ولا صعوبة الظروف، ولا الضعف، ولا إرضاء نفس أو شهوة أو وسوسة شيطان، في مخالفة أمر الله بتحريم حلال أو تحليل حرام، فنقع في العقاب، في يوم لا عذر فيه، إنما الجزاء على الأعمال. فإن أخطأ المؤمن أو خالف جهلاً فليسارع بالتوبة فالله غفور رحيم. (الحرام والحلال هو الحق فلا تساهل مع الحق).
066.4.2- ومقصدها نجده في الآيتين الأوليين (1-2) وفيهما عتاب من الله لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، أن الله وحده هو من يحدد ما هو حلال وما هو حرام ولم يفوّض بهذا الشيء أحداً من خلقه. فكلّ من حرّم حلالاً من طعام أو شراب أو غيره مراعاة لخاطر أحد أو يبتغي بذلك مرضاة أحد من الخلق فعليه كفارة ويصبح في حلّ من ذلك التحريم. وفي منتصفها أشارت إلى أن الله أحل الحلال ليدخل به بحسن عملهم المؤمنون الجنة.
066.4.3- وقال البقاعي: مقصودها الحث على تقدير التدبير في الأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع سائر العباد والندب إلى التخلق بالأدب الشرعي وحسن المباشرة لاسيما للنساء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في حسن عشرته وكريم صحبته وبيان أن الأدب الشرعي تارة يكون باللين والأناة، وأخرى بالسوط وما داناه ومرة بالسيف وما والاه، وكل من اسميها التحريم والنبي صلى الله عليه وسلم موضح لذلك.
066.5 ملخص موضوع السورة:
نزلت في الفترة الواقعة ما بين السنة السابعة والثامنة من الهجرة، ومقصدها هو الإعلام بأن الله هو وحده من أحلّ الحلال وحرّم الحرام، ولم يأذن بذلك لأحد من خلقه. ولأن الإنسان كثير الخطأ فقد شرع الله العليم الحكيم له تحلّة الأيمان بالكفارة وحثّه على التوبة. وتضمنت السورة ثلاث مجموعات من الآيات: ابتدأت (5 آيات) بالنهي عن تحريم ما أحل الله ابتغاء مرضات الناس، فمن فعل ذلك فعليه الكفارة والتوبة، ثم (4 آيات) الوعظ بأربعة أشياء هي: أن يقي المؤمنون أنفسهم وأهليهم النار، وأن الكفار سيجزون ما كانوا يعملون، وعلى المؤمنين التوبة النصوحة ليكفّر سيئاتهم ويدخلهم الجنة، وجهاد الكفار والمنافقين، ثم (3 آيات) ضرب الله مثلاً امرأتي عبدين صالحين خانتاهما فأدخلتا النار، وامرأتين صالحتين في بيئة الكفر والفتن أنجاهما الله، كما يلي:
(الآيات 1-5): عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم لمنعه عن نفسه الحلال الذي أحله الله له، يبتغي مرضات أزواجه {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)}. وقد فرض الله الكفّارة لتحليل الأيمان {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)}. إذ أسرَّ النبي إلى إحدى زوجاته حديثاً، فلما أخبرت به وأظهره الله {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ (3)}، وفي هذا العتاب وفرض تحلّة الأيمان وحثّ الزوجات على التوبة تنبيه على أن كل تصرّفات النبي صلى الله عليه وسلّم وزوجاته وأصحابه هي باتباع وحي الله، ولا دخل لبشر فيها. إن الله وليه وناصره، وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة أعوان له ونصراء، {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ….. ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}.
(الآيات 6-9): الوعظ بأربعة دروس (تضمنتها القصص) وهي، الأول: توجيه المؤمنين إلى وقاية أنفسهم وأهليهم من النار، وألا تأخذهم العاطفة في مخالفة أمر الله بتحريم حلال أو تحليل حرام فيقعوا في العقاب، الثاني: تحذير الكفار بأن الله قد أقام عليهم العذر في الدنيا ولا عذر لأحد يوم القيامة إنما يجزون بما كانوا يعملون، الثالث: أمر المؤمنين بالتوبة توبة خالصة لوجهه لا عودة لمعصية بعدها كي يغفر لهم ويدخلهم الجنة، الرابع: أمر النبي بأن يجاهد الكفار والمنافقين وأن يغلظ عليهم، فلم يمنعهم مانع من الإيمان بل أرادوا لأنفسهم الكفر والنفاق فمأواهم جهنم وبئس المصير.
(الآيات 10-12): يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين بالقصص عن امرأتين مؤمنتين هما: امرأة فرعون ومريم ابنة عمران، حافظتا على إيمانهما تحت أصعب الظروف والفتن، وامرأتان كافرتان هما امرأة نوح وامرأة لوط لم تؤمنا في أحسن الظروف الإيمانية وهما زوجات أنبياء مرسلين.
اللهم اجعلنا من المسلمين المؤمنين المصدقين القانتين التائبين العابدين السائحين، وكفّر عنّا سيّئانتا وأدخلنا برحمتك في جنّات النعيم.
066.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
تفاصيل عن الآيات باعتبار ترتيبها:
066.6.1- الآيات (1-2) يجب أن يعلم الجميع أن التحريم والتحليل هو من عند الله فقط، ولم يبيحه لنبيّه حتى يبيحه لأحد غيره. فمن فعل هذا الفعل إرضاءاً لغير الله وجهلاً فليرجع فليكفر عن يمينه، فقد فرض الله له كفارة اليمين.
066.6.2- الآيات (3-5) ذكرت الآيات قصّة حقيقية وقعت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، تُسهّل فهم المقصود من تحرّيم شخص ما أحل الله، أو تحليل ما حرّم الله. وهما القصتان المذكورتان في سبب النزول أعلاه. تؤكدان أن ما أحله الله فهو حلال وما حرمه الله فهو حرام، ولا يحل مخالفته من أجل إرضاء أحد غير الله.
066.6.3- الآيات (6-9) يأمر سبحانه النبي والمؤمنين بما فيه نجاتهم في الآخرة، وذلك بفعل ما أمرهم الله به وترك ما نهاهم عنه، ويحذر الكفار والمنافقين بأنه لا عذر لهم في الآخرة، وقد أقام عليهم الحجّة والعذر في الدنيا، وأنهم سيجزون بما كانوا يعملون، كما يلي:
066.6.3.1- يا أيها الذين آمنوا، احفظوا أنفسكم، بفعل ما أمركم الله به وترك ما نهاكم عنه، واحفظوا أهليكم بما تحفظون به أنفسكم من نار وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يخالفون الله في أمرهم وينفذون ما يؤمرون به.
066.6.3.2- ويقال للذين كفروا عند إدخالهم النار: لا تعتذروا اليوم، إنما تجزون الذي كنتم تعملونه في الدنيا.
066.6.3.3- يا أيها الذين آمنوا توبوا، أي ارجعوا عن ذنوبكم إلى طاعة الله رجوعا لا معصية بعده، عسى ربكم أن يمحو عنكم سيئات أعمالكم، ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه، نورهم يسير أمامهم وبأيمانهم، يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا ذنوبنا، إنك على كل شيء قدير.
066.6.3.4- يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين، بالحجة وبالسيف وإقامة الحدود وشعائر الدين، وأغلظ عليهم، ومأواهم جهنم وبئس المصير.
066.6.4- الآيات (10-12) يضرب الله الأمثال بالقصص عن امرأتين حافظتا على إيمانهما تحت أصعب الظروف، وأخريان فرّطتا في دينهما وهما في أحسن الظروف الإيمانية مع الرسل كما يلي:
066.6.4.1- ضرب الله مثلا لحال الكفرة (في مخالطتهم المسلمين وقربهم منهم ومعاشرتهم لهم، وأن ذلك لا ينفعهم لكفرهم بالله) بحال زوجة نبي الله نوح، وزوجة نبي الله لوط: حيث كانتا في عصمة عبدَين من عبادنا صالحين، فوقعت منهما الخيانة لهما في الدين، فقد كانتا كافرتين، فلم يغني هذان الرسولان عن زوجتيهما من عذاب الله شيئاً. وقيل للزوجتين: ادخلا النار مع الداخلين فيها. وفي ضرب هذا المثل دليل على أن القرب من الأنبياء، والصالحين، لا يفيد شيئا مع العمل السيِّئ.
066.6.4.2- وضرب الله مثلا لحال المؤمنين (الذين صدَّقوا الله، وعبدوه وحده، وعملوا بشرعه، وأنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين في معاملتهم) بحال زوجة فرعون المؤمنة التي كانت في عصمة أشد الكافرين بالله، حين قالت: رب ابْنِ لي بيتاً عندك في الجنة، وأنجني من فرعون وعمله في الشر، وأنجني من القوم التابعين له في الظلم والضلال.
066.6.4.3- وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم بنت عمران التي حفظت فرجها، أمر الله أن ينفخ فيه من رُوحِه، (فحملت بعيسى عليه السلام) وصدَّقت بكلمات ربها، وكتبه المنزلة على رسله، وكانت من المطيعين له.
066.7 الشكل العام وسياق السورة:
066.7.1- سميت بهذا الاسم لبيان شأن التحريم الذي حرّمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه من غير أن يحرّمه الله.
نهي النبي عليه السلام عن تحريم بعض الحلال عن نفسه يدلّ على أنّ كل ما جاء به من تصرّفات هي بوحي من الله، وأن هذه التصرفات هي جزء مكمل وموضّح لما نزل به القرآن، فكان كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “كان خلُقه القرآن”. وقد جعلت حياته الخاصّة والعامّة كتاباَ مفتوحاَ للمسلمين يعلمهم سبحانه من خلاله التصرف في حياتهم الخاصّة، على ضوء ما يقع في بيوت رسول الله، وبين أزواجه.
من طبع الإنسان أنّ يحرم ما أحلّ الله لإرضاء بعضهم البعض، ولا يحقّ لهم ذلك ولو كانوا من أنبياء الله. لكن على الإنسان ألا يجامل على حساب دينه. وأن يكون على يقين بأن اتصال الكافر بالمؤمن وقربه منه لا يفيده شيئاً، وأن اتصال المؤمن بالكافر لا يضر شيئاً مع قيامه بالواجب عليه.
066.7.2- سياق السورة باعتبار مناسبة النزول والقصص الموجودة فيها والعبر المستفادة منها:
066.7.2.1- الآيات (1-2) عتاب من الله لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، أن الله وحده هو من يحدد ما هو حلال وما هو حرام ولم يفوّض بهذا الشيء أحداً من خلقه. فكلّ من حرّم حلالاً من طعام أو شراب أو غيره مراعاة لخاطر أحد أو يبتغي بذلك مرضاة أحد من الخلق فعليه كفارة ويصبح في حلّ من ذلك التحريم.
066.7.2.2- الآيات (3-5) لأن الله جعل النبي قدوة المسلمين، وهو التفسير العملي للتعاليم التي جاء بها القرآن، فإن جميع حركاته صغيرها وكبيرها، لا بدّ أن تكون في الحق وبما يرضي الله سبحانه وتعالى. فقد صحح الله سبحانه حتى أصغر الاجتهادات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، حين حرّم على نفسه ما أحله الله له وإسراره لبعض أزواجه حديثاً، وتم تسجيل هذا التصحيح في القرآن مما يعني أن كل تصرفاته حتى في حياته الخاصّة هي في حدود ما أوحاه الله وأن اتباع تصرفاته ستقود حتما إلى الاهتداء لما أراده الله. ولكي تعلم الأمّة بأن الله لم يدع أي مجال للخطأ في حياة رسوله عليه السلام ولا في حياة زوجاته، ولا حتى في حياة أصحابه، ليكون المسلمون مطمئنون في اتباعهم لمن جعله الله قدوة لهم. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لكي لا يعتقد المسلمون بأن نبيّهم وزوجاته وأصحابه هم معصومون، فيرفعونهم فوق مقام البشر ويعتقدون أنهم ملائكة أو آلهة كما حصل مع الأمم السابقة.
ويفهم كذلك مما سبق أن الله سبحانه لم ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم القرآن فحسب، بل أوحى اليه أمور أخرى سجلها المسلمون على أنها الأحاديث النبوية من قول أو فعل أو تقرير. وهذا ما تؤكده الآية (3) حيث تخبرنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً فأفشت هذا الحديث الذي أخبره الله إياه بالسر {قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير (3)}، ونحن لا نجد هذا الحديث الذي أسرّ به في القرآن.
066.7.2.3- الآيات (6-7) صحيح أن العلاقة الزوجية قائمة على الأخلاق والتعامل بالمعروف وعدم المضارّة. إلا أنه لا يجوز إحلال الحلال أو تحريم الحرام إرضاءاً لأهله. بل يجب وقاية النفس والأهل بإلزامهم بأمر الله. وعلى الزوجة ألا تضطر زوجها لأن يعصي الله لإرضائها. ويوم القيامة لا يفيد الاعتذار عن التفريط في شرع الله، فقد ذهب وقته، والجزاء يكون على الأعمال، فمن قدّم الكفر فلينتظر النار.
066.7.2.4- الآية (8-9) إن الله القدير يريد أن يدخل النبي والذين آمنوا معه الجنة وأن يتمم لهم نورهم. أما من كفر ونافق سواء كان من الأهل أو من غيرهم، فلا يتعامل معهم المؤمنون إلا بالجهاد والغلظة ثمّ مأواهم جهنّم حيث الخزي والمصير البائس.
066.7.2.5- الآيات (10-12) ليس بالضرورة أن يكون الزوجان بنفس الدرجة من الإيمان بل ربما يكون الزوج صالحاً وتكون الزوجة غير صالحة أو العكس. وضربت السورة ثلاثة من الأمثلة على ذلك أولها أن امرأة نوح وامرأة لوط هما زوجتا نبيين، وكان من الممكن لو آمنتا أن تكونا مثل أو بمكانة امهات المؤمنين زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم. لكن بكفرهما، لم يغني عنهما كونهما زوجتا نبيين، من دخول النار. والمثال الثاني زوجة فرعون فبإيمانها، لم يمنع كون زوجها عدوّ الله، من أن يدخلها الله بعملها الصالح الجنّة. والمثال الثالث هي مريم ابنة عمران عليها السّلام فقد وصلت مرتبة رفيعة من الكمال مما جعلها من أفضل نساء الجنّة (كما ورد في مسند الإمام أحمد) باجتيازها الاختبار الإلهي الصعب.
وفي ذكر هذه الأمثلة تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده، لما ورد في التمثيل من ذكر الكفر.
أخرج أحمد والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت {ربّ ابن لي عندك بيتاً} الآية”.
066.7.3- سياق السورة باعتبار القصص المذكورة فيها:
ثلثي عدد آيات السورة هي عبارة عن قصص وأحداث تغطي موضوع تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله من جميع جوانبه، ثم الثلث الباقي عن العظات والعبر المستفادة من هذه القصص، كما يلي:
066.7.3.1- القصص:
066.7.3.1.1- الآيات (1-5) نجد قصص عن خاتم النبيين وهو أعظم الناس إيماناً ويقيناً وأعظمهم تقوى لله سبحانه وتعالى، يجتهد في شيء مما أحله الله له، فيجامل زوجاته ويحرمه على نفسه إرضاءاً لهن، وهن تحت حكمه وقوامته وأضعف من أن يجبرنه على أن يقبل أو يفعل هذا التحريم لو أراد ألا يفعل. فيعاتبه ربّه في قرآن يقرأ إلى آخر الزمان، ليعلم الناس أن الحلال والحرام هو من أمر الله، ولا يستطيع بشر مهما عظمت مكانته أن يخالف هذا الأمر.
066.7.3.1.2- الآية (10) قصة امرأتين هما زوجتين ضعيفتين تعيشان في كنف وتحت عصمة وقوامة نبيين صالحين، عاشتا في ظروف إيمانية حسنة وعظيمة، لكنهما شاءتا لنفسيهما المعصية والكفر وانتهاك ما حرّم الله، فلم يمنعهما وجودهما في بيت النبوة ومخالطتهما لأعظم الناس إيماناً في زمانهما، ولم يمنعهما ضعفهما لأنهما في عصمة هذين النبيين المتحكمين في أمرهما من أن يكفرا ويخالفاهما ويعملان الباطل والسوء. فتكونان من أهل النار.
066.7.3.1.3- الآية (11) قصّة امرأة ضعيفة عاشت أصعب الظروف الإيمانية تحت حكم أشد الناس كفراً بالله وتسلطاً على الضعفاء وهو فرعون. امرأت فرعون ضحّت بكل ما حولها من الملك والجبروت وآمنت عندما شاءت لنفسها الإيمان وطاعة الله وعدم معصيته، ولم يمنعها من ذلك الإيمان ضعفها وهي امرأة في عصمة رجل من أعتى عتاة الكفر والظلم. بل طلبت بقوّة إيمانها ويقينها، النصرة والنجاة من الله تعالى.
066.7.3.1.4- الآية (12) قصة مريم بنت عمران، حافظت على إيمانها في أصعب ظروف الفتنة، وهي بنت ضعيفة وحيده نذرتها أمها للعبادة، شاءت لنفسها الإخلاص لله وحفظ حُرُماته، فحفظت فرجها، وصدَّقت بكلمات ربها، وكتبه، وكانت من المطيعين له.
066.7.3.2- الآيات (6-9) العبر والدروس من القصص: نداء من الله للنبي والمؤمنين والكافرين لكي يأخذوا عبرة من هذه القصص، كما يلي:
066.7.3.2.1- اية (6) من القصّة الأولى يوجههنا رب العالمين إلى وقاية أنفسنا وأهلونا من النار وألا تأخذنا العاطفة في مخالفة أمر الله بتحريم حلال أو تحليل حرام فنقع في العقاب.
066.7.3.2.2- الآية (7) من القصة الثانية تحذير بأن الله قد أقام العذر على الناس في الدنيا ولا عذر لأحد يوم القيامة، إنما يجزون بما كانوا يعملون، وما هو العذر الأكبر والأوضح من أن تعيش امرأة في بيت نبوة وزوجة نبي تعرف ماضيه وحاضرة وصدق دعوته فتكفر به وتكذب دعوته.
066.7.3.2.3- اية (8) من القصّة الثالثة يأمرنا ربنا بالتوبة توبة خالصة لوجهه لا عودة لمعصية بعدها، كي يغفر لنا ويدخلنا الجنة. فنحن في أصعب أحوالنا وظروفنا أسهل من أحوال وظروف امرأة فرعون المؤمنة.
066.7.3.2.4- الآية (9) من القصة الرابعة رأينا بنت ضعيفة تحرص على نفسها وإيمانها فلا تكفر، فيأمر سبحانه النبي بأن يجاهد الكفار والمنافقين وأن يغلظ عليهم، فلم يمنعهم مانع من الإيمان، بل أرادوا لأنفسهم الكفر والنفاق فمأواهم جهنم وبئس المصير.
066.7.4- سياق السورة باعتبار ترتيب آياتها:
066.7.4.1- الآيات (1-5) تأمر الآيات وتخاطب النبي صلى الله عليه وسلم (وأمته من خلفه) لِمَ يمنع عن نفسه الحلال الذي أحله الله له، يبتغي مرضات أزواجه. الله غفور رحيم، وقد شرع لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة عنها، والله متولّي أموركم عليم بما يصلحكم حكيم في تشريعه لكم.
لا ينبغي المجاملة في الدين، ولا تحريم ما أحله الله، أو تحليل ما حرمه الله لأجل أي مخلوق كان، لأن الله هو مولاكم وشرع لكم الحلال والحرام بعلمه وحكمته.
ولأجل تسهيل فهم هذا الأمر أشارت الآيات إلى حادثة حقيقية حصلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، كان فيها قد حرم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له، فتبين أن لا ممالأة ولا تعاون إلا بما يرضي الله، لأن كل علاقات المحبة والنسب والقرابات تنتهي ولا يبقى لها أثر بعد الموت، ولا تكون إلا في الدنيا، ولا يبقى إلا العمل الصالح، وتبين في نهايتها الصفات الجميلة والمطلوبة للمرأة المسلمة.
إذ أسرَّ النبي إلى إحدى زوجاته حديثا، فلما أخبرت به، وأطلعه الله على إفشائها سرَّه، أعلمها بعض ما أخبرت به، وأعرض عن بعض، قالت: مَن أخبرك بهذا؟ قال: أخبرني به الله العليم الخبير. إن تتوبا إلى الله فقد مالت قلوبكما إلى إفشاء سرِّه، وإن تتعاونا عليه بما يسوئه، فإن الله وليه وناصره، وجبريل وصالح المؤمنين، والملائكة بعد نصرة الله أعوان له ونصراء. عسى ربُّه إن طلقكنَّ (أيتها الزوجات) أن يبدله زوجات مسلمات، مؤمنات، مطيعات لله، تائبات، عابدات، سائحات، منهنَّ الثيِّبات، ومنهن الأبكار.
066.7.4.2- الآيات (6-9) تخاطب هذه الآيات كل أصناف الناس وتأمرهم بما فيه مصلحتهم وفوزهم:
066.7.4.2.1- الأهل والرعية: كل مؤمن مسئول هو مسئول عن رعيته، عن وقاية نفسه أولاً ثم وقاية وحفظ أهله بما يحفظ به نفسه ومن نار وقودها الناس والحجارة.
066.7.4.2.2- الكافرون: خسروا بكفرهم وبما كانوا يعملون ولن ينفعهم أن يعتذروا يوم الحساب.
066.7.4.2.3- المؤمنون: مأمورون بالتوبة النصوحة لكي يغفر لهم ويفوزوا بالجنة.
066.7.4.2.4- النبي (وخليفته من بعده): مأمورون بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فهؤلاء مصيرهم إلى النار.
إن الله يمتحن عباده كامتحان امرأة نوح وامرأة لوط وقد حرمتا من رحمة الله مع وجود كلّ واحدة منهما في بيت نبي، وامرأة لوط عصمها الله مع وجودها في بيت فرعون المجترئ على الله والمنازع له في الألوهية والربوبية، ليعلم العاقل حيث يضع الأسباب، بأن عليه أن يقي نفسه النار، وأن يكون غليظاً بالحق في مجاهدة الكفار والمنافقين. ومن لم يفعل فليتوب إلى الله.
066.7.4.3- الآيات (10-12) من شاء الكفر فلن يؤمن ولو كان في بيت نبي مرسل وتحت قوامته وولايته. ومن شاء الإيمان فلن يكفر حتى لو كان في بيت أعتى الظالمين وجبابرة الأرض وتحت قوامتهم وولايتهم ومتحكمين فيهم، وحتى لو كانت أنثى ضعيفة لا تملك من أمرها ولا من أمر دنياها شيئاً.
على الإنسان أن يكون على يقين بأن اتصال الكافر بالمؤمن وقربه منه لا يفيده شيئاً، وأن اتصال المؤمن بالكافر لا يضر شيئاً مع قيامه بالواجب عليه.
066.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
القصص (1-5، 9-12) = 9 آيات
الآخرة (6-8) = 3 آيات
066.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
066.8.0- ولمّا اشتملت على تحريم الحلال باعتزال النساء (ويسمّى بالإيلاء) واشتملت قبلها الطلاق على طلاق النساء (أبغض الحلال) فبينهما من المناسبة مالا يخفى، وكذلك لمّا عاتب سبحانه نبيه في بداية التحريم {لم تحرّم (1)} ابتغاء مرضات أزواجك، وختمت الطلاق بالآية: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} أي: وأنت تعلم أن الله يدبّر ما بين السماوات والأرض، وقادر على سماع إسرارك وأحاط علمه بكلّ شيء، فلا يخفى شدّة اتصال السورتين وتناسبهما، وهما أقرب شيء وأشبه بسورة الأنفال والتوبة لتقارب المعاني والتحام المقاصد.
وقد خُتم بالتحريم مجموعة من عشر سور مدنية متتالية ومتناسبة (من الحديد إلى التحريم)، تضمنت جميعها بيان نعم الله العظيمة على الناس باتباع دينه، وحذرت من المخالفة والعصيان والنفاق. وجاءت خمس سور (الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن) افتتحت بالتسبيح وحملت البشارات للمؤمنين العاملين والملتزمين بشرع الله وسننه في خلقه، تماماً كما هو حال كل الأمم من المخلوقات الأخرى، فكلّ شيء يسبح الله ويعبده {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}، أعقبها خمس سور (المجادلة والممتحنة والمنافقون والطلاق والتحريم) تضمنت قصص وأحداث تؤكد صدق وحقيقة هذه البشارت ونقيضها، كما في التحريم ومقصدها الحث على التوبة والنهي عن تحريم ما أحلّ الله، وقبلها الطلاق ومقصدها الأمر بالتقوى والتحذير من تعدّي حدود الله، وسبقتها المنافقون تحذر المؤمنين من أفعال المنافقين الذين تخالف أفعالهم أقوالهم وإعراضهم عن الحق، سبقتها الممتحنة تأمر بالبر والقسط للمسالمين الذين لا يظهرون العداء والتبرؤ من أعداء الله، سبقتها المجادلة تأمر بالبرّ والتقوى وموالاة الله وتنهى عن الإثم والعدوان وموالاة الأعداء. ولمّا اكتملت هذه السور العشر المدنية أعقبتها سورة الملك بقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ (1)} إلى قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2)} أي تكاثرت بركات الله الذي بيده ملك كلّ شيء وخلق كلّ شيء ليبتليكم أيكم أحسن عملاً بهذا الدين.
066.8.1- ترايط السور المسبحة (الحديد، الحشر، الصف، الجمعة، التغابن؛ وهي كلّها مدنيّة) بعضها مع بعض، ومع ما تلاها من السور المدنية (المجادلة، الممتحنة، المنافقون، الطلاق، التحريم)، ومع سورتي الإسراء والأعلى المكّيتين:
066.8.1.1- العلاقة بين السور المسبحة الخمسة (الحديد، الحشر، الصف، الجمعة، التغابن؛ وهي كلّها مدنيّة) بعضها مع بعض:
066.8.1.1.1- تبدأ الآية الأولى بتسبيح الكون لله، أي إبعاده عن السوء وتنزيهه عما لا يليق بجلاله، وسبح تعني ذهب وبعد، وتنتهي الآية بأن الله “عزيز حكيم” عزيز في ملكه حكيم في تصريف شئونه، ما عدا التغابن والتي تنتهي بأنه على كل شيء قدير وذلك لجمعه الناس في يوم التغابن.
066.8.1.1.2- فهذه السور الخمسة تبيّن أن الكون كلّه يسبح لله وكأنها تدعوا الإنسان كي ينسجم مع الكون الذي يسبح الله، فكلّ شيء ملكه، يسبّحه ويعبده {سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}.
066.8.1.1.3- وبالتالي فهي تبيّن له ضآلة عقل الإنسان المغرور بنفسه، مقارنة مع الحكمة الإلهيّة المبني عليها الكون. وضآلة قيم الدنيا المفتون بها الإنسان والتي يعتمدها مقياساً لحياته إلى جانب قيم الله التي انزلها في كتبه إلى رسله، وحقيقة الوجود الكبرى التي تشتمل على الآخرة والملائكة وغيرها من مخلوقات الله.
066.8.1.1.4- لذلك فكل ما في هذه السور من أوامر ونواهي تخاطب الإنسان كجماعة من جماعات الوجود لها دور حدّده الله. وتطلب منه أن يفكّر بعقل الجماعة البشريّة ويستجيب بعمل جماعي كوني، يأخذ شكل الجماعة المميزة، كما هو مبين أدناه.
066.8.1.2- كذلك من أجل تسهيل فهم مقصود هذه السور (المدنية) المسبحة الخمسة، نلاحظ أنها اتبعت بخمسة سور (مدنية) أخرى فيها قصص حقيقية وأحداث حصلت في حياة المؤمنين، فيها أعمال توضح المعاني المقصودة في السورة المسبحة بالدليل العملي، كما يلي:
066.8.1.2.1- سورة الحديد اتبعت بسورة المجادلة:
ففي سورة الحديد: كما هو في السور المسبحة الأخرى، علِمنا أن كل المخلوقات تسبّح الله وتنزهه عما ليس فيه من النقص، (والإنسان ليس استثناء). كل شيء في هذا الوجود هو ملك لله، الذي إليه ترجع الأمور. كما أمَرَ الله الإنسان في السورة (كجماعة) بالإيمان لتصلح به حياته، وبالإنفاق لتصلح به حياة الجماعة، والقتال في سبيله للحفاظ على الدين والإيمان، وبالمبادرة والسباق إلى الفوز. وفي سورة المجادلة: تعريف المؤمنين بأن كل ما فرض عليهم من شرائع وحدود هو لأجل تحقيق صلاح حياتهم وسعادتهم، فعليهم (كأفراد) أن يتبعوا شرعه ولا يخالفوا أمره، وأن يوالوه ولا يوالوا أعداءه لأنه معهم، يسمع سرّهم وجهرهم، وأن يتعاملوا فيما بينهم بالبرّ والتقوى، وينهاهم عن الإثم والعدوان، لأنهم محاسبون على كل أعمالهم وأقوالهم، مجازون عليها في الدنيا والآخرة. (باختصار: في الحديد تنزه الله عن أن يصلح للناس الدنيا بدون الإيمان والقتال والإنفاق لأجل الإصلاح، وفي المجادلة مثال عملي عمّا ما فعله المجادلون بما يناقض مراد الله سبحانه، والذين يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول).
066.8.1.2.2- سورة الحشر اتبعت بسورة الممتحنة:
في سورة الحشر: بيان أن مصلحة الإنسان هي في الطاعة وفي أن ينزّه الله مختاراً فيفلح في الدنيا ويفوز في الآخرة، فإن عصى وخالف حشر وعذّب في الدنيا وهو في الآخرة من أصحاب النار. قررت بذلك السورة بذكر أسماء الله الحسنى وكمال صفاته، وأمرت به وأثبتته بسرد القصص والأمثلة، بقهر الله للكفار وحشرهم (كجماعة) بإخراج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم إلى أول حشر لهم، الله قادر على أن ينتصر لنفسه ولكنه يسلط رسله والمؤمنين على من يشاء. وفي سورة الممتحنة: وجوب تبرّؤ المؤمنين (كأفراد) من أعداء الله وأعداء المؤمنين (لا كما فعل حاطب بن أبي بلتعة)، وإظهار العداوة لمن بادر وأظهر العداوة منهم، ووجوب البر والقسط للذين لا يظهرون العداء ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم. (باختصار: في الحشر تنزه الله عن يقبل الإنفاق في الباطل وموالات أهل الباطل، وفي الممتحنة مثال عملي عما فعله المطلوب منا امتحانهم والتبرؤ من أفعالهم وإظهار العداوة لهم).
066.8.1.2.3- سورة الصف والجمعة أتبعتا بسورة المنافقون:
في سورة الصف: تطالب المسلمين بالإخلاص في العمل ونصرة الدّين بالأفعال لا بالأقوال وبالعمل الجماعي (كجماعة) باذلين أموالهم وأرواحهم في سبيل نشر الدّين الواحد الذي أراد الله أن يتمّه ويظهره وينصر حامليه. وفي سورة الجمعة: تطالب الأمّة المسلمة (كجماعة) أن تعيش في جماعة دائماَ، تلبي نداء الحكيم وتطّبق ما في كتابه في ترابط كمثل الجسد الواحد، ولا تنتشر أو تتفرّق إلا لغرض قضاء حاجاتها المعيشيّة الضروريّة. وهذه الجماعة الأميّة ومن سيلحق بهم إلى قيام الساعة، هي نفسها كما كانت أيام موسى عليه السلام مطلوب منها الانكباب على فهم كتابها وفعل ما جاء فيه من الخير والحكمة والالتزام بالجماعة. وفي سورة المنافقون: تقبيح حال المنافقين (كأفراد أو جماعة قليلة العدد)، وبيان تصرفاتهم ومواقفهم الكاذبة، ومخالفة أفعالهم لأقوالهم، من حيث إعراضهم عن الحق. وتحذير المؤمنين من هذه التصرفات لأنها تخرج من الدين وتؤدي إلى الخسران في الدنيا والآخرة، وليكون هذا التحذير سبباً في صدقهم مع ربهم، وعدم انشغالهم بالأموال والأولاد عن ذكر الله وعن الإنفاق، ومن ثمّ نجاتهم قبل أن ينتهي الأجل بالموت. (باختصار: في الصف تنزه الله عن أن يخلق ليتكلم الناس بالخير ثم يخالفونه في العمل، وفي الجمعة تنزه عن ينزل الحكمة لتحمل ولا يفهم ما فيها من العمل الجماعي كالجسد، وفي المنافقون مثال عملي بأن هذا تماماً ما فعله المنافقون بما يتناقض مع حكمة الله وإرادته).
066.8.1.2.4- سورة التغابن اتبعت بسورتي الطلاق والتحريم:
في سورة التغابن: فيها التنبيه على حقيقة أن الناس مجموعون (كجماعة) إلى يوم الجمع والتغابن، فتدعوهم إلى الإيمان وتأمرهم بالعمل الصالح والاستعداد ليوم الحساب والتغابن، وتحذرهم من الكفر والتكذيب، والاستغناء بالدنيا عن المصير في الآخرة. وفي سورة الطلاق تأمرهم (كأفراد) بتقوى الله في اتباع أوامره واجتناب نواهيه والتزام حدوده، وتعظ بالتوكل وبالعمل الصالح والإنفاق، لأن هذا يعود على فاعله بالخير، وعلى من لا يفعل بالعذاب. وفي سورة التحريم الله أحل الحلال وحرم الحرام، ولم يأذن بذلك لأحد من خلقه (كأفراد)، فمن يقع في مخالفة أمر الله بتحريم حلال أو تحليل حرام، فقد وقع في العقاب، في يوم لا عذر فيه، إنما الجزاء على الأعمال. (باختصار: في التغابن تنزه الله عن أن يخلق ناس ليكفروا ويهدموا شرعه وفطرته وسنته فيتساووا في المصير والجزاء مع الذين آمنوا وعملوا واستعدوا ليوم الحساب، وفي الطلاق مثال عملي عما يفعله المطلقون إذا اعتدوا على حدود الله أو لم يعتدوا، وفي التحريم مثال عملي عمّا يفعله المحرمون لإرضاء الناس أو إذا لم يخالف أمر الله بتحريم حلال أو تحليل حرام).
066.8.1.3- وابتدأت أيضاً سورتين مكيتين بالتسبيح وهما: سورة الإسراء والأعلى:
066.8.1.3.1- سورة الإسراء والتي يسبح الله تعالى فيها نفسه عن كل نقص وعيب، لأن عظيم عطاءه يستوجب هذا التسبيح، وموضوعات السورة تتحدث عن عظيم معجزة الإسراء وأنه مصدر العطاء والنعم العظيمة والمنن الجسيمة.
066.8.1.3.2- وسورة الأعلى التي يأمر فيها الله تعالى رسوله والمؤمنين بأن ينزهوه عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، لأنه يستوجب عليهم فعل ذلك بسبب عظيم نعمه عليهم، وموضوعاتها تتحدث عن عظيم نعم الله على الإنسان في الدنيا وبشارته له بالعلم والقراءة وتيسيره لليسرى، وبالفلاح في الآخرة لمن تزكى.
066.8.2- ترابط السور العشرة المدنية من الحديد إلى التحريم مع بعضها، ومع ما قبلها من بداية سورة الفاتحة حتى سورة الواقعة:
في السور السابقة ابتداءاً من الفاتحة إلى نهاية الواقعة، بلّغ القرآن (ذكّر) بأن الإنسان مكلّف بالخلافة مبتلى بعمله، وبيّن تفاصيل هذا التكليف، والجزاء عليه، وهدى إلى الصراط المستقيم، وبيّن طريق الحق والهدى، وأكثر من الترغيب بالاتباع والإنذار من المخالفة، بأساليب متنوعة تخاطب جميع فئات الناس على قدر فهمهم. ومن ذلك البلاغ بالآيات والحجج وضرب الأمثال وذكر تفاصيل الخلق وسنن الكون وقصص القرون السالفة والأمم الماضية والتعريف بمصائرها، والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، وغيرها. وحان الآن في السور العشرة القادمة، من الحديد إلى التحريم، موعد ذكر بعض صفات الجلال والكمال عنده، وبعض من عجيب عنايته ورعايته لعباده فهو معهم أين ما كانوا، كما يلي:
066.8.2.1- في هذه السور، من الحديد إلى التحريم، نزّه الله سبحانه نفسه عن قول الكافرين، وبين أن الكون كلّه ينزهه، وأنه يجب على الناس (المكلفين) أن يسبحوه وينزهوه لأنه يستحق ذلك بصفات الجلال والكمال عنده (سبّح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، له ملك …) فالله قريب من عباده يسمع ويرى ويبين لهم (بالدليل) حدود السعادة في الدنيا وموجبات الفوز والنجاة في الآخرة، ويحثهم على الخير حتى يغير ما بهم من حال إلى حال بحسب أعمالهم التي تشمل نواياهم وكلامهم وتصرفات جوارحهم (فهو سبحانه وتعالى مع الناس في كل تفاصيل حياتهم يمد ويؤازر المؤمنين ويحبط عمل الكافرين):
066.8.2.2- تخاطب هذه السور مجتمعة المؤمنين (تكرار يا أيها الذين آمنوا) بما هو مطلوب منهم لأجل تحقيق خير الدنيا والفوز في الآخرة، وترغبهم بالإيمان وتقوى الله ببيان منافع الإيمان وتحذرهم من الانحراف عن طريق الحق الذي خطه الله لهم ودعاهم إليه. أي بيان حسنات الإيمان ومساوئ الكفر والنفاق ومقارنة بينهما.
066.8.2.3- مقصد سورة الحديد دار حول القسط والميزان. والسورة لا تأمر بالإيمان كما فعلت السور السابقة بل تأمر بما يجب أن يكون عليه حال المؤمنين من الإيمان والالتزام بالحدود، على عكس السور التي قبل الحديد، فقد كان الخطاب عامّاً، وقد اكتمل البلاغ لكافة الناس بما هم مخلوقون لأجله وما هم مقبلون عليه، (عن طريق الترغيب والترهيب، وبيان الآيات والحجج والبراهين، والحوار، والتقريع والتبكيت). وكان لهم مطلق الخيار فمن رغب أو شاء الإيمان آمن ومن شاء الكفر كفر. وهي هنا تعظ كل هذه الفرق بما استقرّ عليه حالهم من الإيمان أو الكفر أو النفاق أو غيره. وسنلاحظ أيضا في هذ السور المدنية العشرة أن سورة الحديد ذكرت جميع فئات الناس مجموعين في سورة واحدة، أما السور التي تلتها فذكرت فئات معينه من الناس بما يلائم مقصد السورة كما يلي:
066.8.2.3.1- سورة الحديد: ذكرت المؤمنون، والمنافقون، وأهل الكتاب، والذين قست قلوبهم، والمفاخرون بالأموال والأولاد، والمنفقون، والمقاتلون، والذين غرتهم الأماني، والخاشعون، والمصدقون، والصديقون، والشهداء، والمهتدون، والرهبانيون، والذين كفروا، وكذبوا، ويبخلون، والفاسقون.
066.8.2.3.2- المجادلة: ذكرت المؤمنون حزب الله، يقابلهم حزب الشيطان الذين يحادون ويخالفون الله ورسوله، وتولوا قوماً غضب الله عليهم.
066.8.2.3.3- سورة الحشر: ذكر فيها المعاهدين من أهل الكتاب، فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا.
066.8.2.3.4- سورة الممتحنة: ذكر فيها المعاهدين من المشركين، وهم مشركي قريش بمكّة، الذين بعث إليهم حاطب بن أبي بلتعة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها النهى عن اتخاذ عدوّ الله أولياء.
066.8.2.3.5- سورة الصف: ذكر فيها أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وفيها الذم على المخالفة بين القول والفعل، وهي صفتهم يقولون مالا يفعلون.
066.8.2.3.6- سورة الجمعة: ذكر فيها المؤمنون، وفيها تحذيرهم من الإعراض عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
066.8.2.3.7- سورة المنافقون: ذكر فيها أضداد المؤمنون، وهم المنافقون.
066.8.2.3.8- سورة التغابن: ذكر فيها الكفار وسبب كفرهم ومصيرهم، وعداوة الأموال والأزواج والأولاد.
066.8.2.3.9- سورة الطلاق: ذكر فيها ضعفاء الإيمان يلجؤون إلى أبغض الحلال، والذين يخالفون أمر الله.
066.8.2.3.10- سورة التحريم: ذكر فيها مؤمنون يعملون السيئات يحلون ويحرمون لإرضاء أهليهم وأناس مثلهم.
066.8.3- وقال الإمام جلال الدين السيوطي: هذه السورة متآخية مع التي قبلها بالافتتاح بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وتلك مشتملة على طلاق النساء وهذه على تحريم الإيلاء وبينهما من المناسبة مالا يخفى ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولهذا ختمت بذكر امرأتين في الجنة: آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران.
066.8.4- لما ختمت سورة الطلاق بالآية {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهنّ لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماَ (12)}. عاتب الله سبحانه نبيه في بداية سورة التحريم {لم تحرّم (1)} ابتغاء مرضات الناس وأنت تعلم أن الله يدبّر ما بين السماوات والأرض، وأنه قادر على سماع إسرارك {وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً (3)}، أحاط علمه بمن يتعلل بالأعذار {لا تعتذروا اليوم (7)} وهو كافر، وبمن يتوب إلى {الله توبة نصوحاً (8)} فيكفر عنه سيئاته ويدخله الجنة.
066.8.5- وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لا خفاء بشدة اتصال هذه السورة بسورة الطلاق لاتحاد مرماهما وتقارب معناهما، وقد ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه حين اعتزل في المشربة حتى سأله عمر رضي الله عنه والقصة معروفة وتخييره صلى الله عليه وسلم إياهن أثر ذلك وبعد اعتزالهن شهراً كاملاً وعتب الله عليهن في قوله: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه (4)} التحريم، وقوله: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن (5)} التحريم، فهذه السورة وسورة الطلاق أقرب شيء وأشبه بسورة الأنفال وبراءة لتقارب المعاني والتحام المقاصد.