العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


004.0 سورة النساء


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


004.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مدنية. 2) من سور الطول. 3) عدد آياتها 176 آية. 4) هي السورة الرابعة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والخامسة والتسعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة الممتحنة. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

004.1.7.1- تكرر لفظ الجلالة {الله} 219 مرّة، {لله} 10 مرّات، إله 1 مرة، مقارنة بعدد آيات السورة 176 آية. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

أما مجموع أسماء وصفات الله الأخرى المكررة في السورة فهي: عليماً 14 مرّه، عليم 3 مرات، فضل 14 مرّة، حكيماً 11 مرّه، حكيم 1 مرّه، غفوراً 9 مرّات، غفور 1 مرّه، رحيماً 10 مرّات، رحيم 1 مرّه، أنزل 9 مرّات، رب 6 مرّات، خبيراً 4 مرات؛ وتكررت (3 مرّات): شهيداً، سميعاً، وكيلاً، عزيزاً، عفواً، خلق، يريد؛ (2 مرّة): حسيباً، بصيراً، محيطاً، قديراً، تواباً، أعلم، يهدي، يغفر، جامع، يبين، كتب؛ (1 مرّة): رقيبا، ولياً، نصيراً، علياً، كبيراً، مقيتاً، غنياً، حميداً، شاكراً، واسعاً، حليم، هو، يحكم، يَعْلَم، يُعَلّم، واحد، شاهد، أنعم.

وقد ختمت الكثير من آيات السورة بأسماء الله الدالة على العلم والحكمة والمغفرة والرحمة مثل: عليماً حكيماً تكرّرت 7 مرّات، وغفوراً رحيماً تكرّرت 7 مرات. وهذا يشير إلى مقصد السورة وعلى أهمية العدل والرحمة في سورة النساء لأن العلم والحكمة والمغفرة والرحمة هي من دلائل العدل. (وقدرة الله وإحاطته)

هي من أكثر السور التي تكررت فيها كلمة رسول ومشتقاتها 31 مرة، بعد سورة التوبة 35 مرة. وفيه دلالة على ضرورة تنبّه الناس لخلق الله ونعمه ومعجزاته لأخذ العبر وإحداث تغييرات حاسمة في حياتهم نحو الأحسن.

أكثر سورة تكررت فيها: سبيل 26 مرة، سبيل الله 11 مرة. والأسماء الحسنى: غفور 10 مرات، رحيم 11 مرّة، حكيم 12 مرة، مقيتاً 1 مرّة، حسيبا 2 مرّة.

هذه من السور التي تكرر فيها اسم الجلالة {الله} كثيراً مما يدل على احتوائها على الكثير من الأحكام والأوامر والنواهي، التي تطلب من العباد العمل أو اجتنابه. ولفظ الله هو الاسم الجامع الذي يتضمن صفات الترغيب بالإنعام، والترهيب بالعذاب وسلب النعم. فكثرة تكراره يتناسب مع محتويات السورة. وكذلك تكرار كلمة “الرسول” ومشتقاتها، ففيها إشارة إلى ضرورة التوبة وإحداث تغيير للأحسن بأخذ العبر من نعم الله وآياته ومعجزاته، وهذا أيضاً يتناسب مع محتويات السورة ومقصدها.

004.1.7.2- كلمات مكررة في السورة تؤكد مقصدها وموضوعها:

004.1.7.2.1- السورة الوحيدة التي تكررت فيها الكلمات التلية ومشتقاتها: تميلوا 6 مرّات، سدس 3 مرّات؛ (2 مرّة): ربع، أركسوا؛ (1 مرّة): مقيتاً، مذبذبين، الأمانات، ثمن.

004.1.7.2.2- هي أكثر سورة تكررت فيها هذه الكلمات التالية ومشتقاتها: أوتوا 35 مرّة من أصل 549 مرّة موجودة في القرآن كله، سبيل 27 مرّة من أصل 176 مرّة، استغفر 20 مرّة من أصل 234 مرّة، يضل 17 مرّة من أصل 192 مرّة، تجد 16 مرّة من أصل 107 مرّات، أموال 14 مرّة من أصل 86 مرّة، فضل 14 من 105 مرّة، سيئه 14 من 167 مرّة، حسن 13 من 194 مرّة هي والبقرة، نصيب 12 من 21 مرّة، ترك 12 من 43 مرّة، وصيه 11 من 32 مرّة، أطيعوا 10 من 77 مرّة، ولي 10 من 88 مرّة، أصاب 9 من 75 مرّة، الشيطان 8 من 71 مرّة، لعن 7 من 40 مرّة، ميثاق 5 من 23 مرّة هي والمائدة، نصف 4 من 7 مرّة، المستضعفون 4 من 5 مرّات، أيمانكم 4 من 14 مرّة، ورث 4 من 35 مرّة هي ومريم، ضعيف 3 من 11 مرّة، قسط 3 من 22 مرّة، حذر 3 من 21 مرّة هي والمائدة، ثلث 2 من 3 مرّه، ثلثين 2 من 3 مرّه، الطاغوت 2 من 6 مرّات، طعناً 1 من 2 مرّة.

004.1.7.2.3- وتكررت فيها هذه الكلمات ومشتقاتها: يؤمنون 62 مرّة من أصل 860 مرّة تقريباً موجودة في القرآن كله، كفروا 38 من 523 مرّة، قتل 29 من 170 مرّة، رسول 31 مره، الذين آمنوا 17 مرّة من 220 مرّة، الكتاب 16 من 230 مرّة، مبينا 16 من أصل 257 مرّة، شهيدا 14 من 160 مرّة، ظلم 14 من 314 مرّة، يتوب 12 من 87 مرّة، حكم 10 من 97 مرّة، سلم 10 من 150 مرّة، يا أيها الذين آمنوا 9 من 89 مرة، خشيه 7 من 57 مرة، إثم 7 من 48 مرة، طريق من 7 مرات، اتقوا 6 من 253 مرة، بالحق 6 من 287 مرة، شرك 6 من 168 مرة، نافقوا 6 من 38 مرة، معروف 6 من 36 مرة، جناح 5 من 25 مرة، عدل 4 من 27 مرة، يملك 4 من 45 مرة، يا أيها الناس 3 من 20 مرة، مجاهد 3 من 41 مرة، حدود الله 2 من 9 مرات، رقيب 1 من 5 مرات، نساء 1 من 5 مرات، يحسدون 1 من 5 مرات.

004.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

أخرج أحمد وابن الضريس في فضائل القرآن ومحمد بن نصر في الصلاة والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أخذ السبع فهو حبر”.

وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعطيت مكان التوراة السبع الطول. والمئين، كل سورة بلغت مائة فصاعدا. والمثاني كل سورة دون المئين وفوق المفصل”.

عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس وغربت. {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب الله عليكم والله عليم حكيم (26)}، {والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27)}، {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28)}، {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)}، {إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40)}، {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (48)}، {لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيماً (64)}، {من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110)}.

أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب قال: من قرأ البقرة وآل عمران والنساء كتب عند الله من الحكماء.

004.3 وقت ومناسبة نزولها:

004.3.1- نزلت في الفترة ما بين نهاية السنة الثالثة إلى بداية السنة الخامسة هجريّة في مناسبات متنوّعة. منها توزيع المواريث وحقوق الأيتام. الآيات (1-28) نزلت بعد معركة أحد واستشهاد 70 من المسلمين وذلك أواخر السنة الثالثة هجريّة. صلاة الخائف الآية (102) نزلت في غزوة ذات الرقاع السنة الرابعة هجريّة. الإنذار الأخير لليهود الآية (47) كان قبل خروج بني النضير من المدينة في شهر ربيع الأوّل من السنة الرابعة هجريّة. مشروعيّة التيمم الآية (43) نزلت في سرية بني المصطلق السنة الخامسة هجريّة. وتقول بعض الروايات إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة وحين نزلت مقدمة سورة الممتحنة، وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة. وبهذا يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية إلى ما بعد نزول سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك.

004.3.2- وقت نزول السورة في ما بين نهاية السنة الثالثة من العهد المدني وامتداد نزول آياتها على فترة زمنية طويلة إلى أن تحقق الفتح المبين الذي بدأً بصلح الحديبيّة في السنة السادسة للهجرة ثم النصر للمسلمين في فتح مكة في رمضان السنة الثامنة للهجرة، يتناسب مع مقصد السورة وموضوعاتها التي تنص على أن الدين حق وأنه جاء بالعدل، وعلى أن تطبيق حكم الله يتحقق به مصالح الناس جميعاً، واتباع حكم الطاغوت يحصل بسببه ظلم وتدمير للعلاقات الإنسانية. ويتناسب كذلك مع نزولها بعد سورة البقرة، التي نزلت في السنتين الأوليين من العهد المدني، والتي وضعت وأسست قواعد الدين والإيمان، ومع نزولها قبل سورة المائدة، التي نزلت في أواخر السنة السادسة وبداية السنة السابعة للهجرة والتي تأمر بالوفاء بالعقود.

004.3.3- وبينما تأمر سورة النساء (وقد نزلت في المدينة) بضرورة تطبيق دين الله، ولو بالقوة، وقتال المشركين والمنافقين. انظر كم حاولت (السور المكية) إيصال هذا الدين بالحجة والبرهان ودون قتال. ومن أجل ذلك انظر كم حاولت سور الحواميم السبعة (السور رقم 40-46) من قبل جاهدة أن تبين للناس أن الكون مخلوق لغرض وحكمة، وأن هناك هدف للوجود، وقد كانت نزلت سور الحواميم أيام ضعف المسلمين في قبل الهجرة بقليل حين كان الكفار يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه ويتآمرون لقتله عليه السلام، فكانت هناك معركة بالحجة والبرهان لمن أراد الإيمان. فلما لم يؤمنوا نزل الأمر في النساء بالقتال والدفاع عن الحق ودين الله العادل.

004.4 مقصد السورة:

004.4.1- مقصدها الأمر بتقوى الله ومراقبته في كل الأفعال والأعمال (فإنك محاسب عليها)، فإن لم تكن تراقب الله فإنه يراقبك.

الله خلقك فهو قادر عليك، وهو ربك فحدّ لك حدوداً تهتدي بها، وهو رقيب عليك، فلا ينبغي أن تنافق، أو تتردد، ولا أن تظلم، ولا أن تتعدى حدوده، بل يجب أن تطيع، وتتقي، وتجاهد في سبيله بالنفس والمال.

وغالباً ما يفعل الناس نقيض هذا المقصد، لأن الكثير منهم يتبع الدين رياءاً فإذا خلى بالمحارم وأمن المراقبة انتهك حدود الله، وهو ما لفتت إليه قصص السورة، من أجل التنبيه، بأن احذر عمل المنافقين، وترَدُّدْ أهل الكتاب، فلا تتردد ولا تنافق أحد ولا تتعدى حدود الله، بل احرص على تقوى الله ومراقبته أثناء العمل، وختمت السورة بقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)} أي أن الله بين لكم في هذه السورة بيان كامل شامل سبيل الهدى فاتبعوه ولا تضلّوا، فليس لكم بعده عذر.

004.4.2- مقصد السورة نجده في الآية الأولى من السورة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}، فهي آية كافية ووافية، ذكر فيها اسمه الأعظم الله، وثلاثة من صفاته تعالى وأفعاله وهي: خلقكم، ربكم، رقيباً. أي: أن الله خلقنا وهو أعلم بما يصلحنا ويسعدنا، وبما يفسدنا ويشقينا؛ وهو ربنا الذي يربينا فينبغي أن نطيعه؛ وهو يراقبنا، وسيحاسبنا، فعلينا أن نتقيه، بأن نفعل ما أمرنا به وننتهي عما نهانا عنه، وبذلك نكون على هدى من ربنا، فنكون من المفلحين. ولو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لكفتْنا، لأنه يكفي أن نعلم أن الله خالقنا يراقبنا ثم يحاسبنا لكي نرتدع ونتقيه ونطيعه ولا نعصيه. ثم إن باقي السورة في تفصيل هذه الآية، فاحتوت الشرائع للأعمال التي غالباً ما يتعدى فيها الناس حدود الله، وضربت الأمثلة على تعدي أهل الكتاب والمنافقين على حدود الله، وحذرت المؤمنين من سوء فعلهم وأمرتهم بقتالهم.

 

004.4.3- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، {وَاتَّقُوا اللَّهَ}، ومعنى التقوى المأمور بها مرّتين في آية الافتتاح هو: يا أيها الناس احذروا ربكم الذي رباكم وأحسن إليكم، واتقوا مخالفته لأنه الله (وهذا هو اسمه الأعظم الذي فيه صفات المغفرة والرحمة لمن يطيع، والقهر والعقاب لمن يعصي، وفيه جميع الأسماء والصفات الأخرى). قال تعالى {اتقوا ربكم (1)} أي الذي ربّاكم وأحسن إليكم، ثم {واتقوا الله (1)} إي اخشوه فهو قادر عليكم غفور رحيم وشديد العقاب. وتتحقق التقوى بعبادة الله واتباع أوامره واجتناب نواهيه وتطبيق حكمه وشرعه، كما فصلته، سورة البقرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} البقرة، وقال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} البقرة. ومعاني التقوى التي وردت في القرآن تشمل: الإيمان بالله، وطاعته، والإخلاص له، وترك المعصية، وخشيته، والتوبة إليه، وقد ذكر المتقين في سورة البقرة في معرض المدح، لأنهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا بالكتاب. (انظر أيضاً في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 4.1.2- والتقوى هي أولى مراحل الإيمان واتباع الدين، ثم يرتقي المؤمن بالتقوى، إلى درجة الإحسان؛ وانظر 5.0- الباب الخامس: ملخص مواضيع القرآن الكريم).

 

004.4.4- {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146)} الأمر بالعمل وإخلاص الدين لله: ومن معاني الدين الحساب الذي يستلزم المراقبة والتقوى، ومن معانيه العمل بالشرع الذي قرره الله وأنزله لحماية الإنسان والمجتمع، وهو ثلاثة مجموعات من الأعمال متكاملة ومتتالية، يمكن تمثيلها بثلاثة دوائر تحيط ببعض: دائرة خارجية كبرى هي الإسلام، في داخلها دائرة وسطى هي الإيمان، وفي داخلها دائرة صغرى هي الإحسان، أو تمثيلها على شكل هرمي قاعدته العريضة هي الإسلام ثم يليها الإيمان ثم الإحسان، كما في حديث جبريل عليه السلام “أتاكم يعلمكم دينكم”. وبالإسلام يرتقي المسلم إلى الإيمان {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (14)} الحجرات، ثم بالإسلام والإيمان يرتقي المؤمن إلى الإحسان، فالمحسن مؤمن ومسلم وليس العكس. وقد جاء تفصيل جميع هذه الأعمال أي الإسلام والإيمان والإحسان، في سورة البقرة، والتي مقصدها بيان طريق الهدى إلى دين الله الإسلام؛ ثمّ في سورة آل عمران التي كان التركيز فيها على أن الدين عمل وليس كلام، وجاء تفصيل اصطفاء الله للمؤمنين بالعمل والاتباع والدعاء والابتلاء وغيره، وكان مقصدها الأمر باتباع طريق الهدى إلى دين الله بتطبيق الإسلام؛ ثم في سورة النساء جاء تفصيل الأعمال التي تتطلب تقوى الله ومراقبته دائماً، وهي المعاملات وحقوق العباد فإن فعلها المؤمن وهو يعلم أن الله يراقبه وصل إلى درجة الإحسان، وهي أحسن الدين، وأعلى درجات الإيمان، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125)}.

004.4.5- {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ (13)} فأطيعوا الله ورسوله تفوزوا، ولا تتعدّوا حدوده فتخسروا:

004.4.5.1- آية الافتتاح {رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} تشير إلى أن الرب والخالق واحد لا شريك له، وإلى أن أصل الإنسان واحد {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، مما يستوجب تقوى الله وحده، وطاعته باتباع دينه الذي أنزله تكريماً للإنسان ورحمة به، واجتناب الطاغوت، حتى لا يضل فيشقى؛ وتقوى الله هو معيار الاختيار والتفاضل بين الناس، وهو الفيصل في كل علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان وسائر مخلوقات الله. يريد سبحانه بهذه التكاليف التي ملأت السورة أن يبين للإنسان ويهديه، ويريد أن يتوب عليه ويغفر له ويدخله الجنة. وقد تكرر أمره سبحانه للإنسان بالطاعة، وتكرر أمره له باجتناب المعاصي، وعدم الضلال عن السبيل، أو التحاكم إلى الطاغوت واتخاذ الكافرين أولياء.

004.4.5.2- {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} الناس سواسية في حقوقهم ومسئولياتهم وحرياتهم: فقد خلق الله كل الناس من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً، فكانوا بذلك سواسية وأخوة في إنسانيتهم وأصل خلقتهم، من ذكر وأنثى، لا فرق لأحد على أحد، فأباهم واحد وأمهم واحدة، وهذا دليل على تساوي الحقوق والمسئوليات والحريات، مما يستلزم أن يتعاملوا فيما بينهم بالعدل والقسط وتقوى الله، وأن ينزجروا عن ظلم بعضهم وتطاول بعضهم على بعض. خلقوا في أصل فطرتهم ليكونوا شعوباً كثيرة وقبائل متمايزة، كل واحد له إسم وعشيرة وقبيلة، فضّل بعضهم على بعض، كما هو مشاهد، ثم ليتعارفوا بينهم، من أجل أن تتحقق بذلك مصالحهم، فالإنسان كائن اجتماعي يعيش في جماعة ولا يعيش منفرداً. فمنهم الحاكم، والمحكوم، والبائع، والمشتري، والصانع، والموظف، وغيره، لأن تعدد المصالح، وتنوّع أبواب الرزق سوف يضطرهم لأن يحتاج، وأن يخدم بعضهم بعضاً، ولا تقوم حياتهم إلا بهذا الاجتماع والتفاضل والتمايز. ومن أجل حماية مصالح الفرد والجماعة، حدّ الله للناس حدوداً، وشرع لهم الدين، يعبدونه لا يشركون به شيئاً، ولا يعبدون غيره من المخلوقات التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، ويخشونه ولا يخشون الناس، ويتقونه فلا يكفرون ولا ينافقون، فتنصلح بذلك حياتهم ويعمّها الخير والسلام، بكل فئاتها: الفرد والأسرة، ثم الأقارب والأرحام، والعائلة، والعشيرة، والقبيلة، والشعوب في الدول المختلفة كما هو حاصل حقيقة عند تطبيق الدين. ثم أنه ومن الطبيعي أن يتشكّل من هذا التنوّع في الروابط بين الناس، وفي الأعمال، وفي التفضيل والتميّز، تشكيلات هرميّة أعلاها القائد المسئول، وأدناها باقي الناس، ثم تتدرج المسئوليات بين الأعلى والأدنى، لتتكامل بينها الأدوار والمسئوليات وتتباين فيها الوظائف والأعمال وتتحقق المصلحة العامّة للناس، فيكمل بعضهم بعضاً، فالفرد يحتاج إلى الأسرة ثم العائلة ثم العشيرة والقبيلة والدولة.

004.4.5.3- الناس سواسية، متحدين في أصل خلقتهم وفي ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ثم هم على صعيد واحد ومخلوقين لهدف واحد، الشيطان عدوهم والطاغوت مسلط عليهم، ثم أن إلههم الذي خلقهم ليبتليهم واحد، أنزل الدين ليتوب عليهم، ويخفف به عليهم، لكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن يميلوا ميلاً عظيما. فكان أن افترق الناس إلى ثلاثة فئات منهم من أنعم الله عليهم بالإيمان وهم القليل، وأكثرهم الكافرون والمنافقون. فالقرآن كما أنه هدى للمتقين ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى دينه وصدق رسوله، فهو أيضا دلالة للكافرين، إلا أن الكافرين لم يهتدوا ولم ينتفعوا به.

004.4.6- جميع ما ورد في هذه السورة من الأحكام، والتشريعات، والقصص، والأسماء، والصفات، والكلمات المكررة هي ذات صلة بمقصدها الذي هو تقوى الله ومراقبته (كما في باقي سور القرآن)، كما يلي:

004.4.6.1- الأحكام الواردة في السورة هي مسؤوليات وحقوق جعلها الله للإنسان بين يدي أخيه الإنسان المأمور بالتقوى. هي أحكام معاملات تستوجب مراقبة الخالق وتحكيم شرعه العادل، وتتعلق بمصائر أناس آخرين ابتلى الله بها بعضهم ببعض، بأن قسم بينهم معيشتهم، وجعل لكل واحد نصيبه، وحظه من الدنيا، جعل القوامة لفئة منهم دون الأخرى، وفضل بعضهم على بعض بالهداية والدين والرزق والإنفاق والسكن والقوة والمتاع والصحة والجهاد وغيره لتستمر الحياة وتدوم خلافة الإنسان في الأرض. قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون (32)} الزخرف.

004.4.6.2- التشريعات الجديدة في السورة، والتي لم تذكر في غيرها من السور، لها علاقة بالاستقامة على السبيل والتزام حدود الله. والقصص فيها هي قصص مراقبة وحساب. وكشفت أفعال المنافقين الذين هم في الظاهر على السبيل لكنهم مخالفين. وذكرت أكثر الأشياء التي يمكن أن يتعدى فيها الإنسان حدود الله فيظلم الناس بعضهم بعضاً بسببها وهي: أموال اليتامى، وصداق المرأة، والخوف على الأبناء، والميراث، وتقسيمه، والنكاح الحلال والحرام، وأكل أموال الناس بالباطل، وتمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض، والنشوز في الزواج، والإحسان إلى الوالدين، والأقرباء، والجيران، وابن السبيل، وما ملكت اليمين، والكبر، والفخر، وكتمان فضل الله، والرياء في الإنفاق. وذكرت الهجرة في أرض الله، وصلاة الخائف. وذكرت الأعمال التي لا يحبها الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36)}، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)}، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ (148)}، فالله لا يحب من كان مختالاً فخوراً، خواناً أثيماً، الجهر بالسوء، بينما في آل عمران ذكرت الأعمال التي يحبها الله والتي تفضي إلى محبته.

004.4.6.3- الأسماء، والصفات، والكلمات المكررة، هي ذات صلة بمقصدها: فأسماء الله وصفاته: الله، رقيب، حسيب، عليم، حكيم، غفور، رحيم وغيرها. والكلمات التي لم تذكر إلا في هذه السورة مثل: أركسوا، مذبذبين، الأمانات، ثمن، سدس، ربع، تميلوا. والكلمات التي تكررت في هذه السورة أكثر من باقي السور، مثل: سبيل، مقيتاً، حسيباً، أموال، فضل، نصيب، أصاب، ثلث، المستضعفون، أطيعوا، وغيرها من الكلمات المذكورة أعلاه، وتتناسب مع مقصدها.

004.4.7- للمزيد من الفائدة والإيضاح فيما يلي بعض التفاصيل والتعريفات حول المقصد:

قال الفخر الرازي: يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه، لأنه تعالى خلقنا، وبيان ذلك من وجوه: الأول: أنه لما كان خالقاً لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا، والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده، والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق، الثاني: أن الايجاد غاية الانعام ونهاية الاحسان، فإنك كنت معدوما فأوجدك، وميتا فأحياك، وعاجزا فأقدرك. وجاهلا فعلمك، كما قال إبراهيم عليه السلام: {الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين} فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم بإظهار الخضوع والانقياد، وترك التمرد والعناد، وهذا هو المراد بقوله: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحيـاكم ثم يميتكم ثم يحييكم (28)} البقرة، الثالث: وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقا وإلها وربا لنا. وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه، ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجبا ثوابا البتة، لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب، لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئا آخر، هذا إذا سلمنا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء، فكيف وهذا محال، لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة، وخلق الداعية على الطاعة، ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد، وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده، والمولى إذا خص عبده بإنعام لم يصر ذلك الإنعام موجبا عليه إنعاما آخر، فهذا هو الاشارة إلى بيان أن كونه خالقا لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه.

004.5 ملخص موضوع السورة:

اسمها سورة “النساء” لكثرة ما ورد فيها من الأحكام التي تتعلق بهنّ بدرجة لم توجد في غيرها من السور. ونصف عدد آياتها عبارة عن قصص تتحدث فئتين ضالّتين من الناس وهما: ربع عن المنافقين والربع الآخر عن الكافرين. وقد نزلت بعد معركة أحد في أواخر السنة الثالثة هجريّة إلى صلح الحديبية في السنة السادسة هجريّة، الذي منع فيه المسلمون من الحج، خلافاً لما هو متعارف عليه في دين الجزيرة العربيّة، على أن يسمح لهم بذلك في العام المقبل وما بعده. واعتبر الصّلح بالفتح المبين بدأ بعده يستقيم أمر العرب وأمر المنافقين للمسلمين ولم يبق في عناد الإسلام إلا اليهود والنصارى. وامتازت السورة باتساع نطاق المجادلة مع اليهود والمنافقين لقربهم وشدّة عداوتهم وتحريضهم، واختصارها مع النصارى لبعدهم عن المسلمين في تخوم الجزيرة إلى ما بعدها. والنصف الثاني عبارة عن بيان شرع الله وحدوده في المعاملات التي تخص فئتين من الناس وهما: ربع عن الأسرة المسلمة والربع الآخر عن باقي الناس على وجه الأرض مؤمنهم وكافرهم. والأمر بضرورة تطبيق دينه القائم على الحق والعدل، ولو بالقوة، وقتال المشركين والمنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت وقتلوا الأنبياء وأكلوا الربا.

مقصد سورة النساء نجده في الآية الأولى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}. فذكر فيها اسمه تعالى الأعظم “الله”، وثلاث من صفاته وأفعاله وهي: أنه خلقنا، فهو أعلم بما يصلحنا ويسعدنا، وبما يفسدنا ويشقينا؛ وهو ربنا الذي يربّينا، فينبغي أن نطيعه؛ ويراقبنا وسيحاسبنا، فعلينا أن نتقيه بأن نفعل ما أمرنا به وننتهي عما نهانا عنه، وبذلك نكون على هدى من ربنا ونكون من المفلحين.

 

004.5.1- مقصد السورة كما أشرنا إليه أعلاه (أنظر 004.4.2)، نجده في الآية الأولى، ثم إن باقي موضوعات آياتها في تفصيل معنى هذه الآية. وتنقسم السورة باعتبار ترتيب آياتها إلى خمسة مواضيع رئيسية، موضوعان مكرران يكمل بعضهما بعضاً، وموضوع أخير غير مكرر، كما يلي:

004.5.1.1- الأول (الآيات 1-43): الأمر بتطبيق حكم الله واتباع دينه القائم على الحق والعدل. فالله خلق الناس من نفس واحدة، وجعل لكل منهم نصيبه في الدنيا، وجعل لهم الدين ينظّم حياتهم.

004.5.1.2- الثاني (الآيات 44-70): الأمر بطاعة الله والرسول وأولي الأمر، والتحذير من اتباع اليهود والنصارى والمشركين الذين يؤمنون بالجبت ويعبدون الشيطان والنفس والهوى.

004.5.1.3- الثالث (الآيات 71-104): أمر المؤمنين بالخروج لقتال أعدائهم وأعداء الدين، وأولياء الشيطان الذين يتحاكمون إلى الطاغوت، والدفاع عن المستضعفين. ويتخللها بيان آداب وأحكام وحدود القتال في سبيل الله والهجرة إلى بلاد المسلمين.

004.5.1.4- الرابع (الآيات 105-135): وجوب تطبيق حكم الله ودينه الإسلام الحنيف، واجتناب أوامر الشياطين ووعودهم وضلالاتهم، وأنّ المطلوب من الإنسان هو العمل لا التمني.

004.5.1.5- الخامس (الآيات 136-176): وجوب الإيمان بالله وإخلاص الدين له، وعدم اتباع الكافرين والمنافقين أو موالاتهم، لأنهم غَلو في الدين وفرّقوا بين الرسل وافتروا عليهم وقتلوهم.

004.5.1.6- وبدمج الموضوعات المتشابهة يصبح عدد الموضوعات ثلاثاً: الأول والرابع (الآيات 1-43، 105-135) عن الأمر بتطبيق حكم الله واتباع دينه القائم على الحق والعدل، وأنّ المطلوب من الإنسان العمل لا التمني؛ والثاني والخامس (الآيات 44-70، 136-176) عن الأمر باتباع الله والرسول، والتحذير من الغلوّ في الدين، ومن فعل الأعداء أو موالاتهم ومجالستهم؛ والثالث (الآيات 71-104) عن الأمر بقتال أعداء الله والدين، والاستعداد والنفير العام وعدم التباطؤ، والدفاع عن المستضعفين، والترغيب بالشهادة وطلب ما عند الله.

004.5.2- أما باعتبار موضوعاتها، فتنقسم سورة النساء إلى أربعة أرباع متساوية في عدد الآيات تقريباً (انظر تفصيله في الشكل العام وسياق السورة أدناه)؛ تتداخل الثلاثة أرباع الأخيرة حول نفس مقصد الربع الأول، لتبيّن كيف حارب أهل الكتاب والمنافقون أحكام الله، وكيف كان سبحانه يوجّه المسلمين للتصدي لهاتين الفئتين، كما يلي:

004.5.2.1- الأول: يتحدث عن أنه لا خيار أمام الإنسان سوى التقوى والتزام حدود الله. لقد قسم لكل إنسان نصيبه في هذه الحياة الدنيا، وفضل سبحانه بعضهم على بعض، بعلمه وحكمته. فمن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها. لهذا فقد جاء فيها الأمر بتقوى الله، وتطبيق شرعه، القائم على أساس التكافل والتراحم، والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل، والمودة، والطهارة. وهي الفيصل في علاقات الإنسان، مع أخيه الإنسان، في الأسرة، والمجتمع، ومع سائر مخلوقات الله. فأصل الخلق واحد، وشرع الله يجب أن يطبق على الجميع بالعدل.

004.5.2.2- الثاني: قصص حقيقية حصلت في حياة الأمة الخاتمة، وأمثلة عايشوها لحظة بلحظة مع الكافرين من أهل الكتاب وهم يتخذون الشياطين أولياء، ويتحاكمون إلى الطاغوت ويناصبون دين الله والذين آمنوا العداء. وفيها فضح كذب اليهود وحسدهم وتحريفهم وتحاكمهم إلى الطاغوت وإلى غير شرع الله.

004.5.2.3- الثالث: قصص أخرى حقيقية وأمثلة واقعية عايشها المؤمنون مع المنافقين الذين أضلهم الشيطان. يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، مترددون بين الكفر والإيمان، ويتربصون بالمؤمنين. وفيها فضح لهؤلاءِ المنافقين وتخاذلهم وتخذيلهم وخشيتهم للناس، وبثهم الشائعات وصدهم عن سبيل الله وتحاكمهم إلى الطاغوت وتذبذبهم واتخاذهم الكفار أولياء.

004.5.2.4- الرابع: أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، وأداء الأمانات والثبات على الحق والعدل، وبيان أحكام وصفات المؤمنين المتقين، وحدود علاقاتهم مع إخوانهم في الإنسانية والنسب والرحم والقربى، والتحريض على الهجرة إلى دار الإسلام، وعلى القتال في سبيل الله، لاستنقاذ المستضعفين وهزيمة أعداء الدين من الكفار والمشركين والمنافقين حتى يعودوا عن ضلالتهم إلى حكم الله، والترغيب في طلب ما عند الله من الأجر والثواب، وبيان أحكام الجهاد.

004.5.2.5- المواضيع الأربعة السابقة يمكن اختصارها إلى المواضيع الثلاثة الرئيسية التالية:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمِ (1)}: أي اخشوه وانتفعوا بكتابه واهتدوا بهداه، لأنه خلقكم ويعلم ما فيه سعادتكم، وهو يحب أن يراكم حيث أمركم. فاحتوت السورة على:

004.5.2.5.1- الأمر بتقوى الله وطاعته، واتباع رسوله، وتطبيق دينه وشرعه القائم على أساس التكافل والتراحم، والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل، والمودة، والطهارة.

004.5.2.5.2- النهي عن التحاكم إلى الطاغوت، أو اتباع المشركين والمنافقين الذين يتحاكمون إلى غير ما شرعه الله، وفضح أعمالهم، والتحذير من الغلو في الدين ومن فعل الأعداء أو موالاتهم ومجالستهم.

004.5.2.5.3- الأمر بقتال أعداء الله والدين، لكف بأسهم، والاستعداد، والنفير العام وعدم التباطؤ، والدفاع عن المستضعفين، والترغيب بالشهادة وطلب ما عند الله.

نسأل الله الهدى والتقى، والثبات على الحق والعدل، والعمل بما يرضيه تعالى عنّا.

004.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

افتتح سبحانه السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقاداً لتكاليف الله سبحانه، محترزاً عن مساخطه، ثم شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف، ثم تبعها تفصيل لأنواع الناس الثلاثة المؤمنون والكافرون والمنافقون الذين جاء تصنيفهم في السور الثلاثة السابقة، وكيف استقبلوا هذه التكاليف، وجاء التركيز فيها على الذين كفروا ونافقوا، ثم أنه سلط عليهم عباده المؤمنين في الدنيا وينتظرهم العذاب الأليم في الآخرة. واشتملت على أحكام تخص تنظيم شؤون الأسرة، وتقوية روابطها، وحمايتها من الاختلاف والفاحشة والاستهتار بالحرمات، وتوجيهات في العلاقات المالية والاجتماعية والإنفاق داخل الأسرة وخارجها في نطاق المجتمع المسلم. وأن المشركين والمنافقين تحاكموا إلى غير حكم الله وشرعه. وتنقسم السورة باعتبار ترتيب آياتها إلى خمسة مواضيع رئيسية، منها اثنان مكرران يكمل بعضهما بعضاً، وواحد غير مكرر، كما أشرنا إليه أعلاه.

004.6.1- موضوعات السورة باعتبار ترتيب آياتها، هي كما يلي:

الآيات (44-57) بيان محاولات أهل الكتاب والمشركين التشويش على الأعمال الصالحة للمسلمين بالضلالات، وكشف أهدافهم الخبيثة ونياتهم الماكرة بالمسلمين ليضلوا السبيل، وتهديدهم بسوء المصير والعذاب الأليم. الآيات (58-59) الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل وطاعة الله ورسوله. الآيات (60-73) المنافقون يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عن حكم الله ورسوله، ويبطئون، ولا ينفرون إلى القتال. الأمر بالحكم بالعدل، والطاعة والاتباع والتلقي من الله وحده، والتحاكم إلى شرع الله وحده، واتباع حكم رسوله وطاعته. الآيات (74-76) الحث على القتال في سبيل الله والترغيب فيه، وبيان أن من أهداف القتال استنقاذ الضعاف من المؤمنين. الآيات (77-83) بيان أن المنافقون يخشون الناس كخشية الله، ويفزعون من الموت ومن أن تصبهم مصيبة، وبيان حقيقة الأجل والقدر، لتطهير القلوب من الخوف والفزع. الآيات (84-87) أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمضي إلى الجهاد، وتحريض المؤمنين على ذلك. الآيات (88-91) المنافقين يودّون لو يكفر المؤمنين فيكونوا سواء، ومنهم من يكون مع المؤمنين يريدون أن يأمنوهم ويأمنوا قومهم. الآيات (92-106) أحكام في القتل الخطأ الجهاد والهجرة في سبيل الله، وبيان ثواب المجاهدين، وأحكام قصر الصلاة وصلاة الخائف، وتحريض المؤمنين على متابعة الأعداء. الآيات (107-113) عدم الجدال عن المنافقين وأصحاب الآثام، والأمر بالحكم بالعدل. الآيات (114-122) من رحمة الله أنه يغفر جميع الذنوب إلا الشرك به. الآيات (123-126) تقرير الجزاء على أساس العمل لا الأماني والأوهام. وتوكيد أن الإسلام هو وحدة الدين، وهو ملة إبراهيم عليه السلام. الآيات (127-134) إجابه على تساؤل عن النساء واليتيمات. وعلاج نشوز الزوج وتحذير أن من يعتدون على قانون الله وسننه في الكون يذهبهم و{يأت بآخرين}. الآية (131) وصيّة أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم بتقوى الله. الآيات (135-136) الأمر بالعدل والإيمان وذم الكفر والنفاق. الآيات (137-147) تنديد بالنفاق والمنافقين، ودعوة المؤمنين إلى الإيمان الجاد الواضح المستقيم، وتحذيرهم من الولاء لغير المسلمين، ومن التهاون والتراخي في دينهم مجاملة أو مراعاة للكافرين. فالله سبحانه لا حاجة له إلى عقاب الناس لو آمنوا وشكروا. الآيات (148-152) تطهير النفس والمجتمع من بعض التصرفات السيئة. وإشاعة الثقة بين المسلمين، واستبعاد قالة السوء فيها، مع الانتصاف من الظلم، والحض على العفو والسماحة، وتقرير أن الله لا يحب الجهر بالسوء، إلا من مظلوم ينتصف لظلمه، ومع هذا فإنه سبحانه يحب العفو عن السوء {فإن الله كان عفواً قديراً}. الآيات (153-170) جرائم اليهود بكفرهم وقتلهم الأنبياء. وحكمة الله من إرسال الرسل: كشف تعنت اليهود مع نبيهم ومنقذهم موسى عليه السلام، وعن طبيعة السوء فيهم. وموقفهم من عيسى عليه السلام وأمه، وتبجحهم بقتله، وتقرير القرآن الأمر على حقيقته. وكيف عاقب الله اليهود على ظلمهم وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل. بحرمانهم من بعض الطيبات التي أحلت لهم في الدنيا، وبالعذاب الأليم الذي ينتظرهم في الآخرة. إن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، أمر طبيعي مألوف، جاء على سنة الله في إرسال الرسل للبشر، من لدن نوح عليه السلام، ثم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود وغيرهم ممن يقر اليهود برسالة بعضهم. والله سبحانه وملائكته يشهدون {وكفى بالله شهيدا}. الآيات (171-173) نفي ألوهية عيسى وبيان كفر النصارى. إنما الألوهية لله وحده، وأن عيسى والملائكة لن يستنكفوا عن عبادته. الآيات (174-175) قد جاء للناس برهان من ربهم ونور مبين، فمن آمن فقد اهتدى الصراط المستقيم. الآية (176) وتختم السورة بآية تحتوي بقية في أحكام المواريث في حالة الكلالة، وهي من بقية الأحكام التي ابتدأت بها السورة.

004.6.2- السورة باعتبار موضوعاتها تتحدث عن أربعة مواضيع رئيسية، تقسم السورة إلى أربعة أرباع متساوية في عدد الآيات تقريباً. تتداخل الثلاثة أرباع الأخيرة من السورة حول نفس مقصد الربع الأول، لتبين كيف حارب أهل الكتاب والمنافقون أحكام الله وكيف كان سبحانه يصدر التعليمات والتوجيهات للمسلمين للتصدي لهاتين الفئتين، كما يلي:

004.6.2.1- الآيات (1-43) تبدأ السورة بتقرير أن: ربكم واحد، وأصلكم واحد، وأنتم متساوون؛ حدّ الله لكم حدوداً فلا تعتدوها، جعلكم أزواجاً، وشعوباً كثيرة، وأقامكم في مجتمعات على قاعدة الأسرة، هي ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي، وحماية الضعفاء فيه عن طريق التكافل بين الأسرة الواحدة، ذات الخالق الواحد، وحماية المجتمع من الفاحشة والظلم والفتنة، وتنظيم الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، والمجتمع الإنساني كله، على أساس تقوى الله الواحد والبشرية الواحدة: وآية الافتتاح تمثل قاعدة أصيلة تقوم عليها الحياة الجماعية. ويترتب عليها أحكام وتشريعات كثيرة في السورة، كلها تفريعات على هذا الأصل الكبير:

الآيات (1-14) الوصية بالأقارب والأرحام والأيتام، وبيان حدود الله في المواريث. الآيات (15-28) بيان سنّة الله في التعامل مع الفاحشة ووجوب المعاشرة بالمعروف وتحديد المحرمات. الآيات (29-43) من أحكام تنظيم الأسرة والمجتمع والعلاقات المالية والإنفاق.

004.6.2.2- الآيات (44-176) إلى آخر السورة فيها دروس وعبر وتوجيهات عن ضرورة تقوى الله واتباع أوامره، وأن الأمم السابقة، عوقبوا على تركهم أمره ومحاربتهم دينه، هم ومن قلّد أعمالهم ووالاهم من المنافقين.

إن قصة أهل الكتاب، وبالأخص الذين هادوا، وتحاكمهم إلى الطاغوت ومحاولاتهم التشويش على للمسلمين ليضلوا السبيل الآيات (44-57)، وإشراكهم بالله الآيات (116-122)، وطلبهم رؤية الله، واتخاذهم العجل بعد أن جاءتهم البينات، ونقضهم ميثاقهم، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وافترائهم على مريم، وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل، وغلوهم في دينهم، وقول النصارى عن عيسى أنه ابن الله الآيات (153-173). تبين هذه المقاطع من حياة أهل الكتاب كيف أن الأمم السابقة تركوا أمر الله، وحادوا عن الصراط المستقيم، باتباعهم الضلالة وتحاكمهم إلى الطاغوت. فمنهم من فرّط في دينه وتهاون فاشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ومنهم من غالى فيه فجعل الأنبياء آلهة. وأنهم بفعلهم هذا لعنهم الله وعاقبهم على شنيع أعمالهم في السابق، ولا يزالون تحت العقاب وقد أمرت أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بمواصلة جهادهم وتتبعهم {ولا تهنوا في ابتغاء القوم (104)} حتى يعودوا عن ضلالتهم إلى حكم الله. وفي هذا أيضاً رسالة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن الله بين لكم كيفية طاعته، وعرفكم {سنن الذين من قبلكم (26)} أنهم لما تركوا أمري كيف عاقبتهم.

004.7 الشكل العام وسياق السورة:

004.7.1- اسم السورة “النساء”: لكثرة ما ورد فيها من الأحكام التي تتعلق بهنّ بدرجة لم توجد في غيرها من السور ولذلك أطلق عليها “سورة النساء الكبرى” يقابلها “سورة النساء الصغرى” التي عرفت في القرآن بسورة الطلاق. ثمّ إن ارتباط الزوجين عِمادُه المودة والرحمة، وهذه لا تكتمل إلا بتقوى الله ومراقبته الذي أمرت به السورة، ثم ما ينشأ عنه من النفقة والعدل في تربية الأبناء واجتماع العائلات وحصول الأرحام وتواصلها. وجميع أحكام السورة وموضوعاتها نشأت بسبب وجود النساء في الجنس البشريّ وما يترتب على ذلك من علاقات بين البشر أنفسهم والتي من مصلحتهم أن تقوم على تقوى الله الذي خلقهم وأوجد بينهم الصّلات التي تحفظ حقوقهم وتديم بقاء جنسهم.

004.7.2- سياق السورة باعتبار ترتيب الآيات:

بتأمل تقسيم السورة حسب ترتيب الآيات نجدها تتحدث عن خمسة مواضيع رئيسية، اثنين منها مكرره تكمل بعضها بعضاً، وواحد غير مكرر. وسنلاحظ أن هذه المواضيع الرئيسية والمكررة (هي في النهاية)، تلخص السورة إلى ثلاثة موضوعات متمايزة كما يلي:

004.7.2.1- الآيات (1-43) أحكام تبين حدود الله في تعامل الناس مع بعضهم، وأنه خلقهم من نفس واحدة وجعل لكل إنسان منهم نصيبه في الدنيا. ثم يأمرهم بالحلال الذي فيه فوزهم وسعادتهم وتنهاهم عن الحرام الذي فيه عذابهم وشقاؤهم. وأن هذه الأحكام هي من دين الله الذي جعله رأفة بحال الناس ورحمة بضعفهم.

004.7.2.2- الآيات (44-70) الأمر بطاعة الله والرسول وأولي الأمر، والتحذير من أعداء دين الله الذي جعله الله لصلاح الناس ولإقامة العدل بينهم. هؤلاء الأعداء هم أهل الكتاب من اليهود الذين لعنهم الله وغضب عليهم، والنصارى الضالين، والمنافقين الذين يصدون عن دين الله. وهم الذين يؤمنون بالجبت ويعبدون من دون الله الشيطان واتباعه، والنفس وهواها.

004.7.2.3- الآيات (71-104) أمر المؤمنين بالحذر والاستعداد، والخروج لقتال أولياء الشيطان الذين يتحاكمون إلى الطاغوت، قتال أعدائهم وأعداء الدين، والدفاع عن المستضعفين. هنا يمحص الإيمان ويظهر المنافقون الذين يخافون الموت ولا يؤمنون بالآخرة، فتحذر الآيات من موالاتهم وتأمر بقتالهم. وتحرض على طلب ما عند الله من الأجر والجزاء في الدنيا والآخرة، تبين الآيات أنه أينما تكونوا يدرككم الموت، وأن كل ما أصاب الإنسان فهو من عند الله. وباختصار تبين هذه المجموعة من الآيات آداب وأحكام وحدود ذات صله بالقتال في سبيل الله والهجرة إلى بلاد المسلمين.

004.7.2.4- الآيات (105-135) وجوب تطبيق حكم الله، ودينه الإسلام الحنيف، واجتناب أوامر الشياطين ووعودهم وضلالاتهم. وأن الأمر ليس بالأماني، بل أن من يعمل سوء يجز به، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً.

004.7.2.5- الآيات (136-176) وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. والكتاب الذي أنزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل. ووجوب إخلاص الدين لله، وعدم اتباع الكافرين والمنافقين أو مجالستهم، وعدم الغلو في الدين أو التفريق بين الرسل أو الافتراء عليهم وقتلهم، كما فعل اليهود والنصارى.

004.7.2.6- المواضيع الخمسة السابقة التي استطعنا تمييزها من ترتيب السورة: (وهي تطبيق الدين، ثم تحذير من فعل الكفار، ثم حرب الكفار، ثم تطبيق الدين، ثم تحذير من فعل الكفار) يمكن اختصارها إلى المواضيع الثلاثة الرئيسية التالية:

004.7.2.6.1- المواضيع الأول والرابع في الآيات (1-43) والآيات (105-135) تتحدث عن الأمر بتطبيق حكم الله واتباع دينه القائم على الحق والعدل وأن المطلوب من الإنسان هو الأعمال لا الأمنيات.

004.7.2.6.2- الموضوع الثالث في الآيات (71-104) عن الأمر بقتال أعداء الله والدين، والاستعداد، والنفير العام وعدم التباطؤ، والدفاع عن المستضعفين، والترغيب بالشهادة وطلب ما عند الله.

004.7.2.6.3- المواضيع الثاني والخامس في الآيات (44-70) والآيات (136-176) عن الأمر باتباع الله والرسول وتحذير من الغلو في الدين ومن فعل الأعداء أو موالاتهم ومجالستهم.

004.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعاتها:

كل أحكام السورة مترتبة على أن الله خلق كل الناس من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، أي أن الناس كلهم سواسية لا فرق بينهم في أصل الخلقة والخصائص والتكوين، ووجود الذكر والأنثى كطرف أساسي في تكوين العلاقات بين الشعوب والقبائل {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)} الحجرات. وبالنظر في موضوعات السورة والقصص الموجودة فيها نستطيع تمييز أربعة مجموعات من الآيات تقسمها إلى أربعة أرباع متساوية تقريباً: الربع الأول يتحدّث عن تنظيم شؤون الأسرة، وتقوية روابطها، وحمايتها من الاختلاف والفاحشة، والعلاقات المالية، والميراث، والأمر بالبذل، وتقبيح البخل، واعتبار الخمر حاجب للعقل مانع من الامتثال لتعاليم الدين. الربع الثاني يتحدّث عن أهل الكتاب والمشركين ويكشف عن ضلالهم وتحريفهم للحق وتحاكمهم إلى الطاغوت وكيدهم ومكرهم بالمؤمنين، والثالث عن المنافقين وتذبذبهم بين الكفر والإيمان والتنديد بهم وتقبيح أفعالهم، والرابع عن الجهاد بالنفس والمال لحماية تعاليم الدين واستنقاذ المستضعفين، والتنديد بالمعوقين والمبطئين والقاعدين، وإحباط محاولات أهل الكتاب والمشركين التشويش على تعاليم الإسلام، والحث على الاتباع والتلقي من الله وحده، والتحاكم إلى شرع الله وحده، وطاعة رسوله، وعلاج نشوز الزوج، وتحذير من يعتدون على قانون الله وسننه في الكون. بدأت السورة بالربع الأول كاملاً ماعدا آية واحدة ختمت بها السورة، أما الأرباع الثلاثة الأخرى فقد جاءت متداخلة لما يقتضيه البيان والحجة والدفاع عن دين الله وشرعه: تبدأ ببيان كيد أهل الكتاب ومكرهم وتحريفهم ثم ترد عليهم بأمرهم بطاعة الله والرسول الوفاء بالأمانات إلخ، ثم تعود وتبدأ بالمنافقين وتحاكمهم إلى الطاغوت فتعظهم بالعودة إلى حكم الله وإلى طاعة الله ورسوله. ثم تستمر السورة على هذا الأسلوب إلى آخرها.

004.7.3.1- الربع الأول وعدد آياته أربع وأربعون آية في الأحكام وهي أوّل ثلاث وأربعون آية (1-43) مع آخر آية (176) في السورة، وفيها:

الآيات (1-25) والآية (176)، تبين حدود الله {تلك حدود الله (13)}، من صلة رحم، وآتوا اليتامى أموالهم، القسط في اليتامى، وانكحوا ما طاب لكم، وآتوا النساء صدقاتهن، أموال اليتامى، تقسيم التركات، الوراثة، إتيان الفاحشة، المعاشرة بالمعروف، والنكاح المحرّم. وكذلك الآيات (29-43) بينها الله لتحقيق مصلحة للناس ليهديهم ويخفف عنهم، {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً (28)} عن: أموال الناس، وتفضيل بعضهم على بعض، والموالي، والقوامة، والتحاكم، والإنفاق، والإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين والجيران، وغيره. كلها مترتبة على هذا الأصل الواحد الذي خلق من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وما نشأ عنه من تكوين الأسرة والجماعة، ووجوب تقوى الله وتطبيق حكمه العادل في التعامل {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً (40)}.

004.7.3.2- الربع الثاني: يبدأ من الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ (44)} النساء. فيحكي قصة أهل الكتاب والمشركين الذين سبق وأن بدأت قصتهم في سورتي البقرة وآل عمران: الذين كفروا ونبذوا {كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101)} البقرة، {فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً (187)} آل عمران. أهل الكتاب هؤلاء في هذه السورة هم الذين: اشتروا الضلالة، ويحرفون الكتاب، ويطعنون في الدين، ويكفرون، ويشركون، ويزكون أنفسهم، ويفترون الكذب، ويحسدون الناس، ويتخذون الشياطين أولياء، ويؤمنون بالجبت والطاغوت، ويتحاكمون إلى الطاغوت، واتخذوا العجل، ونقضوا ميثاقهم، وقتلوا الأنبياء، وافتروا على مريم، وصدوا عن سبيل الله، وأخذوا الربا، وغيره. كما في الآيات (44-57، 116-121، 150-173) مجموعها 44 آية).

004.7.3.3- الربع الثالث يبدأ من الآية ستون (60) فيقص علينا قصص المنافقون، ويكشف لنا خداعهم وتربصهم بالمؤمنين: فقد أضلهم الشيطان، وهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، مترددون بين الكفر والإيمان، يخشون الناس، اتخذوا الكافرين أولياء، ويتربصون بالمؤمنين، يختانون أنفسهم، يخادعون الله، يتكاسلون في الصلاة، ودّوا لو تكفرون، وغيره. كما في الآيات (60-68، 71-73، 75-83، 88-91، 107-115، 137-146 مجموعها 44 آية).

004.7.3.4- الربع الرابع يبدأ بالآيات (58، 59) يحث على وجوب أداء الأمانات، وطاعة الله ورسوله والحكم بالعدل، والتحاكم إلى شرع الله وحده، واتباع حكم رسوله. ثم الآيات (69، 70، 74) تحث على طاعة الله والرسول والقتال في سبيل الله، (84-87) الأمر بالقتال لكف بأس الكفار، والحث على الشفاعة الحسنة، ورد التحية بأحسن منها، (92- 106) تتحدث عن القتل الخطأ، والقتل العمد، وآداب وشروط القتال في سبيل الله، والترغيب فيه، والهجرة في سبيل الله، وصلاة الخوف، والحكم بين الناس بالحق، (122- 136) جزاء الأعمال الصالحة والسيئة، وإسلام الوجه لله، وبيان حقيقة الأجل والقدر، والقيام لليتامى بالقسط، والإصلاح بين الزوجين، والعدل بين النساء، والقوامة بالقسط، والشهادة لله، وإقامة أركان الإيمان (147-149) شكر الله، عدم الجهر بالسوء، والعفو (174، 175) قد جاءتكم حجة من الله وهذا القرآن فيه الهدى فمن آمن فقد فاز برحمة الله وفضله، كما في الآيات (58، 59، 69، 70، 74، 84-87، 92-106، 122-136، 147-149، 174، 175 مجموعها 44 آية).

004.7.3.5- المواضيع الأربعة السابقة التي استطعنا تمييزها من مواضيع الآيات: (وهي تطبيق الدين، ثم فعل أهل الكتاب وتحذير من فعلهم، ثم فعل المنافقين وتحذير من فعلهم، ثم تطبيق الدين وحرب الكفار والمنافقين) يمكن اختصارها إلى المواضيع الثلاثة الرئيسية التالية:

004.7.3.5.1- الموضوع الأول: يتحدث عن الأمر بتطبيق حكم الله واتباع دينه القائم على الحق والعدل.

004.7.3.5.2- الموضوع الثاني: فضح أعمال المشركين والمنافقين، والتحذير من الغلو في الدين ومن فعل الأعداء أو موالاتهم ومجالستهم.

004.7.3.5.3- الموضوع الثالث الأمر بقتال أعداء الله والدين، والاستعداد، والنفير العام وعدم التباطؤ، والدفاع عن المستضعفين، والترغيب بالشهادة وطلب ما عند الله.

004.7.4- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:

سياق السورة يشير إلى وجوب تطبيق حكم الله القائم على العدل، ووجوب تقوى الله وعدم الظلم في تعامل الناس بعضهم مع بعض، فالناس سواسية أصلهم واحد، خلقوا من نفس واحدة، وربهم الذي خلق هذه النفس وخلق منها زوجها واحد. وأغلب الأحكام إن لم تكن جميعها في السورة مترتبة على هذا الأصل، مع وجود النساء في المجتمع الإنساني كونهن لبنة أساسية أولى في بناء الأسرة، ومن ثم المجتمع المليء بالرجال والنساء.

وباعتبار القصص الموجودة فيها سنجد أن نصف عدد آيات السورة يتحدث عن قصص فئتين ضالّتين من الناس وهما المنافقون والكافرون من أهل الكتاب والمشركون العرب. والنصف الثاني فيه بيان شرع الله وحدوده في المعاملات بين الناس وما يحفظ لهم حقوقهم وأموالهم وأعراضهم وحرّياتهم، ثمّ أوامره ونواهيه للمؤمنين بأن يطيعوا الله ورسوله فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، وأن يحاربوا العصاة المفسدين من الكفار والمنافقين.

004.7.4.1- النصف الأول: نبدأ بالنصف الذي يتحدث عن قصص فئتين ضالتين من الناس وهما المنافقين، والكافرين: من أهل الكتاب اليهود والنصارى، والمشركين العرب.

لعنهم الله بكفرهم وغضب عليهم لأنهم جعلوا له شركاء بغير حق، لم يرضوا بقسمته ولم يحتكموا لحكمه العادل، فاتخذوا الشياطين والطواغيت أولياء لهم من دون الله. وهاتين الفئتين من الناس تعملان أعمالاً لا يرضاها الله، مخالفة لأعمال الفئة التي اصطفاها، واعتمدتها سورة آل عمران كنموذج صالح هداه الله. لن يحتاج الإنسان الأمي ناهيك عن المتعلم إلى الكثير من التفكير ليكتشف حجم الضياع والخسارة التي ستلحق بمن يخالف دين الله في الدنيا ناهيك عن خسارة الآخرة. هؤلاء الذين لم يرضوا بحكم الله خسروا: اليهود حاربوا الأنبياء فاستبدلهم الله وسلط عليهم عباده المؤمنين، النصارى عبدوا العبيد فأضلهم الله، والمنافقون لم يرضوا بحكم الله أركسوا فضاعوا، مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. اختارت السورة هذه الفئات الخاسرة من الناس ليكونوا عبرة ونموذجاً سيئاً لمن تساوره نفسه ويغريه شيطانه بالخروج عن الحق وعن صراط الله المستقيم.

نصف عدد الآيات يتحدث عن هؤلاء النماذج الخاسرة من الكفار والمنافقين: ربع عن الكفار والربع الآخر عن المنافقين، لفضح حربهما الشعواء ضد دين الله، ومؤامراتهما التي لا تنقطع ضد المسلمين، وتحذير المؤمنين المتقين من موالاتهم أو الميل نحو ضلالاتهم ودسائسهم. فئتين ملئت قلوبهما بالحسد، لم ترضيان عن قسمة الله في خلقه، تُصرّان على الضلالة والتحريف والطعن في الدين الصحيح وعداء المتقين وحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، والصد عن سبيله، وقد رضوا بحكم الطاغوت. بينما أمر الله سبحانه بالعدل وأداء الأمانات إلى أهلها، وقسم لكل نصيبه، وبين بأن هناك حدود للحريات، تنتهي عندما تبدأ أو تتقاطع مع حريات الآخرين، وأن هناك روابط وتشريعات اجتماعية تنظم روابط الأسرة والمجتمع مبنية على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

004.7.4.1.1- قصص الكافرون (ويشمل أهل الكتاب والمشركون العرب): الآيات (44-57، 116-121، 150-173) = مجموعها 44 آية.

الآيات (44-57) يشترون الضلالة، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون سمعنا وعصينا، ويزكون أنفسهم، ويشركون بالله، ويؤمنون بالجبت والطاغوت، ويحسدون الناس، فهم في النار، (116-121) يشركون بالله، ويدعون من دون الله إناثاً، ويدعون شيطاناً مريداً، يضلهم ويعدهم ويمنيهم غروراً، فمأواهم جهنم، (131) يكفرون، (150-173) يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، يسألون أن ينزل عليهم كتاب كما أنزل على موسى، ينقضون الميثاق ويكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء، يقولون على مريم بهتاناً عظيماً، وأنهم قتلوا المسيح وما قتلوه ولكن شبه لهم، فبظلمهم حرم الله عليهم بعض الطيبات، وأخذهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وهم يكفرون بخاتم الرسل، ويصدون عن سبيل الله، وقد ضلّوا وظلموا، ويقولون على الله غير الحق.

004.7.4.1.2- قصص المنافقون: الآيات (60-68، 71-73، 75-83، 88-91، 107-115، 137-146) = مجموعها 44 آية.

(60-68) يزعمون أنهم آمنوا، ويريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ويصدون عنك، ويحلفون بالله كذباً، ولا يطيعون الرسول، ولا يقاتلون، ولا يفعلون ما يوعظون به، (71-73) لا يأخذون حذرهم، ويبطئون، (75-83) ما لهم لا يقاتلون في سبيل الله للدفاع عن المستضعفين؟ لكنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت، يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، لا يفقهون حديثاً، يقولون طاعة ويبتون غير ما يقول الرسول، لا يتدبرون القرآن، ويذيعون الأمن أو الخوف، (88-91) الله أركسهم بما كسبوا، وأضلهم، ودّوا لو تكفرون مثلهم، يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، (107-115) يختانون أنفسهم، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، همت طائفة منهم أن يضلوك، لا خير في كثير من نجواهم، يشاقون الرسول، ويتبعون غير سبيل المؤمنين، (137-146) آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً، يتخذون الكافرين أولياء، يتربصون بالمؤمنين، يخادعون الله، يراؤون الناس ولا يذكرون الله، مذبذبين، فهم في الدرك الأسفل من النار.

004.7.4.2- والنصف الثاني يتحدث عن حدود الله وأحكام دينه التي تخص فئتين من الناس وهما الأسرة وما ينشأ عنها من الأبناء والأرحام والأقارب، المذكورين في الآية: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36)}؛ والفئة الثانية هم باقي الناس على وجه الأرض مؤمنهم وكافرهم. ولا شك بأن السورة بهذا الطرح تكمل ما بدأته سورة آل عمران بخصوص التطبيق العملي للدين لكن هناك كان الأمر اختيارياً فمن أحب الله فليتبع الله ورسوله، فيحببه الله، أما في سورة النساء فالأمر إجبارياً يجب أن يطبق على كل الناس مؤمنهم وكافرهم، لأن الأمر يخص الجماعة لا الأفراد أولاً، ثم لأن الأحكام هنا تخص الأمور التي يحبها الناس وفضّل الله بها بعضهم على بعض، من والأموال والأولاد والأزواج والنعم والإنفاق، التي يكثر اعتداء الناس على حدود الله فيها، لأنه يصعب عليهم التساهل أو التنازل عنها لصالح الجماعة. ولأنها محببة، والنفس شديدة الحرص عليها، لذلك يكثر تعدى ضعفاء الإيمان على حدود الله فيها؛ لكن المؤمن يعلم أن الله رقيب عليه فيتق الله ويلتزم بشرعه، ومن يعص فالعلاج مذكور في السورة وإن لم ينفع العلاج فالعقاب أيضاً مذكور، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}

004.7.4.2.1- أحكام الأسرة وما ينشأ عنها من الأبناء والأرحام والأقارب: الآيات (1-43، 176) = مجموعها 44 آية.

هذه الأحكام والتشريعات هي مسؤولية وأمانة وحقوق للغير، لا بد أن يحكم فيها بالعدل؛ جعل الله لكل إنسان نصيباً من الحقوق والواجبات، قسمها بين خلقه بعلمه وحكمته وميزان عدله. فليتق الإنسان ربه في أخيه الإنسان، فلا يحسده ولا يكتمه حقه، فالله رقيب أعمالهم جميعاً يجازيهم بها. معظم الأحكام الواردة في السورة تحدد علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، المسلم والكافر والمنافق، تأمره بأن يفعل أو لا يفعل، وتخط له حدود حريته، ومكان تقاطعها مع حرية غيره، أفراد وجماعات، والتي لا بد أن يتقي الله، فلا يعتدي عليها. افتتحت بدعوة الناس جميعاً إلى عبادة الله عز وجل وتقواه والوصية بالأرحام ثم بيان الحقوق والفروض الواجبة للورثة والوصية باليتامى والمساكين، وختمت مؤكدة ما ورد في مطلعها من بيان حقوق الورثة والضعفاء. وأن هذا التقسيم الذي ذكر تفصيله في ثنايا السورة بيانه من عند الله عز وجل الذي هو بكل شيء عليم. ومعظم محتويات السورة مليئة بالأحكام التشريعية التي تنظم الشئون الداخلية والخارجية للمسلمين على أساس الشرع الرباني القويم.

004.7.4.2.2- أحكام تخص باقي الناس على وجه الأرض مؤمنهم وكافرهم: الآيات (58، 59، 69، 70، 74، 84-87، 92-106، 122-136، 147-149، 174، 175) = مجموعها 44 آية.

قص سبحانه علينا فعل أهل الكتاب وتعديهم حدود الله، وتردد المنافقين بين التطبيق من عدمه، وقص علينا مصيرهم، لنستفيد من هذا الدرس العملي الذي يتكرر، فالناس لا يختلفون، لنختار لأنفسنا المصير الذي نريده، أي هل نتبع سبيل أهل الكتاب أم المنافقين أم المؤمنين، فيكون مصيرنا أحد المصائر الثلاثة التي ذكرتها الآيات. في هذا الربع من السورة نجد آيات من الخطاب موجهه للناس كلهم، وآيات موجهة للمؤمنين، وأخرى لأهل الكتاب خاصة، لكيلا يشركوا، بل يخلصوا العبادة لله إيماناً وسلوكاً ليكونوا من المتقين، وبعضها خاص باليهود، وأخرى خاصة بالنصارى، وكذلك آيات موجهة للمنافقين. فالسورة موجهة لكل فئات الناس، تقرر لهم وجه الحق، كل في موقعه الذي هو فيه، تخاطبه بلغته، وتدعوه ليختار، دون إكراه، ويختار بعقله، بعيداً عن الهوى وأماني الشيطان، وتبين له عاقبة اختياره. تدعوهم إلى تطبيق حكم الله والدعوة إليه والقتال دونه، وتحذرهم من الميل واتباع الهوى، أو تقليد أهل الكتاب اليهود والنصارى، وتصحح معتقداتهم وتقرر وجه الحق في انحرافاتهم، وتحذر من اتباع الشيطان، فالشيطان قرين ومحرك لأعمال الكفار والمنافقين يأمر ويضل ويمني وهم يطيعون ويتبعون.

004.7.4.2.2.1- أمر المؤمنين بالطاعة: الآيات (58، 59) تأمر المؤمنين بأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل وبطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم. وكأنها تقصد تطبيق الأحكام المذكورة في الآيات (1-43، 176)

الآيات (69، 70، 74) جزاء المطيع لله ورسوله والمقاتل في سبيل الله، هو أن يدخل الجنّة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

004.7.4.2.2.2- قتال المشركين والمنافقين: الآيات (84-87) كتب على المؤمنين القتال ليكف بأس الذين كفروا. ثم أمرتهم بالشفاعة الحسنة، ورد التحية بأحسن منها.

الآيات (92- 106) ثم بينت قوانين القتال وما يتعلق به من أحكام وآداب مثل القتل الخطأ، والقتل العمد، وفضل المجاهدين على القاعدين، والهجرة في سبيل الله، وقصر الصلاة، وصلاة الخائف، وذِكر الله، والحكم بما أنزل الله، والاستغفار. وكأن هذه الآيات تقصد تطبيق حكم الله، علاجاً وحلاً لعداوة الكافرين والمنافقين المذكورين في آيات القصص.

004.7.4.2.2.3- جزاء الأعمال: الآيات (122-136) من يعمل السوء يجز به، ومن يعمل الصالحات يدخل الجنة، كمثل اتباع ملة إبراهيم حنيفاً، والقسط في اليتامى، والإصلاح بين الزوجين. الله بيده كلّ شيء إن يشأ يستبدل أناس بآخرين وهو على ذلك قدير. عنده ثواب الدنيا والآخرة. يأمركم بالقيام بالقسط، وعدم اتباع الهوى، والإيمان بالله ورسوله والقرآن والكتب التي أنزلت من قبل.

004.7.4.2.2.4- الله ليس بحاجة إلى عذاب الناس، إن هم آمنوا وشكروا: الآيات (147-149) لا يحب الله الجهر بالسوء، ويحب الخير والعفو.

004.7.4.2.2.5- أيها الناس قد جاءكم الرسول من ربكم وأنزل إليكم القرآن فآمنوا واعتصموا بالله فسيدخلكم في رحمته ويهديكم صراطه المستقيم. الآيات (174، 175).

ويصح أن يقال هنا كما قيل في سياق سورة آل عمران أن السورة استخدمت التجريب وسيلة للوصول إلى النتيجة التربوية المرجوّة، إذ سلطت آل عمران الأضواء على المصطفين من المؤمنين باعتبارهم موضع الدرس، ليزداد المؤمنون إيماناً، وليعتبر الكفار والمنافقون بأن لا نجاة لهم إلا أن ينضموا إلى فئة المؤمنين. أدارت سورة النساء وجهها نحو الفئة الخاسرة من الكفار والمنافقين، لتبين كيف أن الله سبحانه، لهم بالمرصاد لأنهم على الضلال والخسران المبين، وصار الكفار والمنافقون هنا هم موضع الدرس، ليعلموا أن وعد الله حق، وبأن لا نجاة لهم إلا أن ينضموا إلى فئة المؤمنين، وفي نفس الوقت، ليحذر المؤمنون من الميل إليهم أو من ارتكاب أفعالهم وأعمالهم. والحقيقة أن السورة هنا أيضاً، موجهة إلى الفئات الثلاثة التي بينتهم سورة البقرة المؤمنون والكافرون والمنافقون، وكل فئة من هذه الفئات ترى أن السورة موجهة لها بالذات تحاورها وتبين لها طريق الهدى ونتائج أفعالها في الدنيا وفي الآخرة فيما لو استمرت على ما هي عليه من الإيمان أو الكفر أو النفاق، أو اختارت الطريق الآخر المقابل. هي أيضاً سيف مسلط على المشركين والمنافقين تعرّي وتفضح افتراءاتهم ودسائسهم، وتسلط المسلمين عليهم، وهي للمسلمين رحمة تريهم موجبات توبة الله عليهم وغفرانه لذنوبهم، وأنه ناصرهم ومعز دينهم، ومثيبهم في الدنيا والآخرة.

004.7.4.3- بالإضافة إلى الإشارة إلى آيات القصص أعلاه، فيما يلي آيات فيها من أنباء الغيب عن قصص يوم القيامة وبعض آيات الله في خلقه وفي السماوات والأرض:

– آيات الله في خلق الإنسان وفي السماوات والأرض في الآيات: (1، 126، 130-133) = 6 آيات.

– قصص الآخرة ويوم القيامة في الآيات: (13-18، 30 ،31، 40-42، 69، 70، 93، 96، 97، 122) = 17 آية.

004.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

كنا قد ذكرنا في المقدمة بأن الإشارة هنا إلى عدد آيات القصص عند إحصائها ضمن سياقها قد يختلف قليلاً عن العدد الذي ذكرناه أعلاه، والسبب هو وجود بعض الآيات المختلفة في السياق الواحد، أو أن الآية قد تحتوي على أكثر من موضوع في نفس الوقت فتصنف هنا أو هناك. فالقصص لا تقتصر على بيان أحداث وتجارب مجرّدة عما حولها، فأبقيناها في سياقها الذي قد يتضمن أيضاً قصص يوم القيامة وبيان نعم الله وآياته في السماوات والأرض أو في غيرها من المخلوقات، وكذلك بعض الصفات والأوامر والنواهي أو غيرها من الأشياء المذكورة ضمن السياق.

004.7.5.1- آيات القصص: (44-57، 60-84، 88-125، 137-146، 150-173) = 111 آية.

004.7.5.2- قصص يوم القيامة في الآيات: (40-42، 97) = 4 آيات

004.7.5.3- الأمثال في الآيات: (2، 10) = 2 آية.

004.7.5.4- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (1، 126، 130-134) = 7 آيات.

004.7.6- سياق السورة باعتبار العدل والمساواة:

ذكرت الآية الأولى أن الناس أصلهم واحد، وطبيعة خلقتهم وجبلّتهم واحدة، وهم سواسية، وما ينطبق على فرد ينطبق على الجميع، فلا يجوز أن يستثني أحد نفسه من القوانين والسنن والشرائع التي وضعها الله من أجل صلاحنا وسعادتنا، لأن من يفعل هذا فقد أفسد خلق الله وسننه وقوانينه. قد تختلف القدرات لكن التكوين والفطرة والصبغة والخاصيّة واحدة. لذلك فمن العدل أن تأمر بالتقوى والتزام حدود الله، ويجب على الجميع الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه. لقد قسم لكل إنسان نصيبه في هذه الحياة الدنيا، وفضّل سبحانه بعضهم على بعض، بعلمه وحكمته. فمن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها.

من يتدبر السورة سيشد انتباهه وجود خيط من العدل والمساواة وعدم الظلم ينظم آيات السورة ومواضيعها من بدايتها إلى نهايتها، وهذا الخيط تميزه الكثير من التعبيرات والتي منها ما يلي:

انظر مثلاً: ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة. وءاتوا اليتامى أموالهم. ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم. وإن خفتم ألا تقسطوا. وآتوا النساء صدقاتهن. ولا تؤتوا السفهاء أموالكم. فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها. للرجال نصيب. وللنساء نصيب. وإذا حضر القسمة، فارزقوهم منه. انظر كذلك فيما ذكر عن قسمة المواريث في الآيات (9-12، 176). انظر أيضاً: ومن يطع الله يدخله جنات، ومن يعص الله يدخله ناراً. واللاتي يأتين فاستشهدوا، واللذان بأتيانها فآذوهما. إنما التوبة، وليست التوبة. لا يحل لكم، ولا تعضلوهن، وعاشروهن بالمعروف. انظر كذلك فيما ذكر عن الحلال والحرام في النكاح والأموال في الآيات (20-35). انظر أيضاً: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل. وأنفقوا مما رزقهم الله. إن الله لا يظلم مثقال ذرة. الذين كفروا نصليهم ناراً، والذين آمنوا سندخلهم جنات. أن تحكموا بالعدل. تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول. لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم. فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم، ولئن أصابكم فضل ياليتني كنت معهم. أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها. الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت. إن تصبهم حسنة، وإن تصبهم سيئة، قل كل من عند الله. من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها. لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون. إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون. ولا تكن للخائنين خصيماً. ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه. من يعمل سوءاً يجز به، ومن يعمل من الصالحات لا يظلمون نقيرا. وأن تقوموا لليتامى بالقسط. والصلح خير. أن تعدلوا بين النساء. كونوا قوامين بالقسط. فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً. لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم. ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم. إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم، وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم.

004.7.7- الكفار يسعون جاهدين إلى الظلم ومنع تحقيق العدل والمساواة:

من يتدبر السورة سيشد انتباهه وجود خيط آخر ينظم آيات السورة يسعى فيه الكفار والمنافقون جاهدين إلى الظلم ومنع تحقيق العدل والمساواة، وهذا الخيط تميزه الكثير من التعبيرات والتي منها ما يلي:

تتبدلوا الخبيث بالطيب. تأكلوا أموالهم إلى أموالكم. تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا. يأكلون أموال اليتامى ظلماً. يعص الله ورسوله ويتعد حدوده. يأتين الفاحشة. يفعل ذلك عدواناً وظلماً. مختالاً فخوراً. يبخلون ويأمرون الناس بالبخل. ينفقون أموالهم رئاء الناس. يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل. يحرفون الكلم عن مواضعه. طعناً في الدين. افترى إثماً عظيماً. يزكون أنفسهم. يفترون الكذب. يؤمنون بالجبت والطاغوت. لا يؤتون الناس نقيراً. يحسدون الناس. يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت. يصدون عنك صدوداً. ما فعلوه إلا قليل منهم. يقاتلون في سبيل الطاغوت. يخشون الناس كخشية الله. بيت طائفة منهم غير الذي تقول. وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به. ودّوا لو تكفرون كما كفروا. كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها. يفتنكم الذين كفروا. يميلون عليكم ميلة واحدة. يختانون أنفسهم. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله. يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً. لهمت طائفة منهم أن يضلوك. لا خير في كثير من نجواهم. يشاقق الرسول. يتبع غير سبيل المؤمنين. إن يدعون من دونه إلا إناثاً. الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا. يتخذون الكافرين أولياء. يتربصون بكم. يخادعون الله وهو خادعهم. مذبذبين بين ذلك. يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله. اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات. نقضهم ميثاقهم وكفرهم. قولهم على مريم بهتاناً عظيما. قولهم إنا قتلنا المسيح. وبصدهم عن سبيل الله كثيراً. وأخذهم الربا. وأكلهم أموال الناس بالباطل. كفروا وصدّوا عن سبيل الله. كفروا وظلموا. لا تقولوا على الله إلا الحق. استنكفوا واستكبروا.

 

004.7.8- سياق السورة باعتبار موضوع القتال والجهاد في سبيل الله:

ليس الدين الإسلامي مقصوراً على أركان الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج، ولكنه أيضاً جهاد في سبيل الله، للدفاع عن المستضعفين، والكف عن محارم الله، ومعاداة أعداء الله، وإنكار ما هم عليه، وغيره، مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلـم: “رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد”. وفي هذه السورة حوالي ربع عدد آيات السورة، وهي الآيات (66-106، 141، 155، 157، 158) تتحدث عن القتال أو موضوعات ذات صلة بأحكام القتال والجهاد في سبيل الله. والجهاد في الإسلام نوعين رئيسيّين، هما: جهاد طلب، وجهاد دفع، أمّا جهاد الطلب فهو أن ينبري جماعةٌ من المسلمين لغزو المشركين في عقر دارهم، وهو فرض كفاية، أمّا جهاد الدفع فهو فرض عين في حالة اعتداء المشركين على المسلمين أو جزءٍ من ديار المسلمين أو احتلالها، وهنا يتعيّن الجهاد على جميع المسلمين القادرين على مواجهة العدو.

004.7.8.1- وقد أمر بالجهاد في هذه السورة للأسباب التالية:

004.7.8.1.1- القتال واجب كتبه الله على المسلمين ليبتلي به طاعتهم، وعمل يتنافسون به في التقرب إلى الله، الآيات (66-70، 95-100).

004.7.8.1.2- وكذلك يبتليهم بالخروج من ديارهم والهجرة، كما أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، الآيات (66-70، 95-100).

004.7.8.1.3- النفير لقتال الظالمين من أجل الدفاع عن المستضعفين، وإخراجهم من العذاب، الآيات (71-76).

004.7.8.1.4- قتال الطاغوت وأولياء الشيطان، الآية (76).

004.7.8.1.5- القتال من أجل أن يكفّ بأس الذين كفروا، الآيات (77-84).

004.7.8.1.6- قتال المنافقين من أجل كف أذاهم وحماية الدين، الآيات (88-91).

004.7.8.1.7- إقامة الأحكام المذكورة في السورة وتطبيقها على الناس، الآيات (104-106).

004.7.8.1.8- قتال المشركين بسبب قتلهم الأنبياء والمرسلين بغير حق، الآيات (155، 157).

004.7.8.2- وفي سياق الآية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال، فالوعد لمن أجاب، والوعيد لمن أبى؛ حثت الآيتين التي تلتها على الشفاعة، لأنها تشبها في الوعد والوعيد على شفاعة الناس بعضهم لبعض، وعلى أدائهم التحية والرد بأحسن منها، الآيات (85، 86).

004.7.8.3- وفي سياق آيات الجهاد ذكرت أيضاً بعض الأحكام التي يحتاجونها، وتخفف على المسلمين في جهادهم وهجرتهم: فلإن الجهاد والهجرة يلزمان السفر فذكر صلاة السفر، ولأن الخوف يقع في الجهاد ذكر صلاة الخوف، الآيات (101-103).

004.7.8.4- وفي سياق أحكام الجهاد، يذكر أحكاماً أخرى تتعلق بالنساء والأيتام والضعفاء: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن (127)}، {يستفتونك قل الله يفتيكم (176)}. لأن الجهاد فرض لقتال الظالمين، والدفاع عن المستضعفين، ولإقامة العدل، وهو حكم الله في الأرض، ولا يتحقق معنى الجهاد الصحيح الذي أراده الله تعالى منكم، إلا إذا كنتم مقسطين منصفين مخلصين لله عز وجل، ملتزمين بحدوده ومطبقين لأحكامه وشرائعه التي شرعها لكم. كذلك لا بد لتحقيق أهداف الجهاد السامية من الروابط الوثيقة بين أفراد المجتمع، فلا يُظلم الضعيف والفقير والمسكين ولا تـهضم حقوق اليتامى والنساء ولا يبغي أحد على أحد ولا يأكل أحد مال أحد بغير حق إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم.

004.7.8.5- آيات القتال ذكرت في سياق متداخل مع آيات الكافرين والمنافقين، فهي بهذا الأسلوب بذلك تؤدي غرضين مهمّين، كما يلي:

004.7.8.5.1- تسهل فهم مقصد السورة الذي ينص على وجوب تقوى الله ومراقبته والخشية من حسابه، بينما الكفار المشركون يؤمنون ويدعون إلى الجبت والطاغوت ويتحاكمون إليها، كالآية: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلاً (51)}، والمنافقون يخشون الناس ويستخفون منهم: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً (77)}، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ (108)}، وغيرها من الآيات. لذلك عندما تأمر السورة بضرورة تطبيق دين الله، ولو بالقوة، وقتال المشركين والمنافقين، يكون عُرف السبب وراء ذلك، أي أنهم لا يخشون الله ولا يحكّمون شرعه.

004.7.8.5.2- أن الإسلام لم يبدأ بالحرب على الكفار والمنافقين إلا بعد أن بدأوا هم ذلك أولاً كما في الآيات: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)}، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)}، {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91)}، وغيرها من الآيات.

004.7.8.6- وحول موضوع القتال في سبيل الله انظر ما يلي:

تسهيل فهم وتدبّر القرآن (7.2.5.2- القتال في سبيل الله)

كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن:

سورة آل عمران 003.7.6- موضوعات أخرى مهمة، وهي الإنفاق والقتال في سبيل الله.

سورة التوبة (009.7.6- لماذا فرض الجهاد والقتال في سبيل الله، كما بينته السورة؟؛ 009.7.7- إفساد الإنسان وتعطشه للظلم وسفك الدماء؛ 009.8.6- القتال في الإسلام)

سورة محمد 047.7.4- سياق السورة باعتبار موضوع القتال ومناسبة نزولها.

سورة الممتحنة 060.8.4- القتال (الجهاد) في الإسلام: تشريع القتال في الإسلام مرّ بأربعة مراحل.

004.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

004.8.1- تناسب البقرة وآل عمران والنساء:

004.8.1.1- لقد هدت سورة البقرة إلى الإيمان والإسلام والمعاملات، ديناً قيماً وصراطاً مستقيماً للمتقين أفراداً وجماعات. وهدت سورة آل عمران إلى نماذج من المسلمين المتبعين دين الله والمؤمنين به والملتزمين طاعته والإخلاص له وترك معصيته وخشيته والتوبة إليه أفراداً وجماعات. وهدت سورة النساء إلى أن الناس سواسية، وأن تقوى الله ومراقبته في تطبيق شرعه هي مقياس العدل والتفاضل بين الناس أفراداً وأسراً وشعوباً وقبائلاً وأمماً، وأن أكرمهم عند الله أتقاهم أي أخشاهم له. فقد مدح الله المتقين في بداية سورة البقرة لأنه بالتقوى ينتفي الكفر والنفاق. وهدت سورة آل عمران إلى نماذج من المؤمنين المتقين ليقتدى بهم، وهدت سورة النساء إلى نماذج من الكفار والمنافقين (أي غير المتقين) للحذر من تقليدهم واقتراف أعمالهم.

004.8.1.2- سورة البقرة أمرت بالإيمان بشكل عام، أي بالسير على الصراط المستقيم الذي تبينه السورة وبالنهي عن اتباع سبل الضلال كما فعل اليهود؛ وسورة آل عمران هي سورة الإيمان بالمحبة لله وطاعته، فقد أمرت بعد الإيمان بمعرفة الله ومحبته واتباع الله ورسوله حباً بالله ليحبهم الله؛ وسورة النساء سورة الإحسان بالحذر والمراقبة، أمرتهم أن اتقوا الله لأن الله يراقبكم، فالإيمان دليله الحذر من الله لا من الناس، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ (108)}.

004.8.1.3- مواضيع هذه السّورة مكمّلة للمواضيع التي جاءت في سورتي البقرة وآل عمران التي قبلها، ففي حين تركّز الحديث عن اليهود في سورة البقرة وعن النصارى في سورة آل عمران، في دروس تاريخية للمسلمين تحذرهم عواقب مخالفة سنن الله وهديه، وفي تجارب حقيقية عملية تعلمهم الوجه المثالي لتطبيق شرع الله. أظهرت هذه السورة النوع الثالث من الناس وهم المنافقين، بيّنت قبائحهم، وركزت في الحديث عنهم، في بيان مفصل لحقيقتهم وحقيقة نواياهم وذلك إكمالاً لتعريف المسلمين بكل النماذج السيئة للكفار والتحذير من تقليدهم وبالتالي تجنبهم ومحاربتهم. وفي حين كانت سورة البقرة تجمع كل النظم والقوانين التشريعية التي يحتاج إليها المسلمون في حياتهم الاجتماعية، وسورة آل عمران حول موضوع لا إله إلا الله وما يقتضيه هذا التوحيد من استسلام المسلمين لله واحتكامهم إلى قوانينه وشرائعه، جاءت سورة النساء لتصل سائر التشريعات بصاحب الحق، وتربط الإنسان وغيره من المخلوقات بالله خالق الكون وخالق كل هذه الأشياء، فتقوى الله هو الفيصل في كل علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان وسائر مخلوقات الله. أما أهل الكتاب ومن والاهم من المنافقين فتكشف أهدافهم الخبيثة ونياتهم الماكرة، وتبين طبيعة كيدهم ومكرهم، وتفضح أمرهم، وعداوتهم للمسلمين. لذلك فهي تحذر منهم وتوجه المسلمين لحماية هذا الدين بالقتال دونه، ولاستنقاذ الضعاف من المؤمنين من دار الكفر إلى دار الإسلام، وتندد بالمعوقين والمنافقين الذين يبطئون عن الجهاد.

004.8.1.4- وجه الترابط بين آخر سورة آل عمران وأول سورة النساء: أن كليهما مشترك في الأمر بالتقوى، إذ انتهت سورة آل عمران على قوله تعالى: {واتقوا الله لعلكم تفلحون} وابتدأت سورة النساء بقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم}. ولما كثر ذكر الجهاد في السورتين السابقتين، ذكر في هذه السورة مسألةً هامةً لا يتحقق الجهاد بدونـها هذه المسألة تتعلق بالعدالة الاجتماعية وهي إنصاف المرأة وإعطاؤها حقها ورعاية حقوق اليتامى والأرامل والمساكين والرأفة بـهم والعطف عليهم وعدم ظلمهم، إذ الجهاد المشروع والنتيجة المرجوة منه لا يتحقق ما لم يكن المسلمون يداً واحدةً على العدو. انظر سورة البقرة (002.8.1). حول وجوه مناسبتها.

004.8.2- وقال الإمام برهان الدين البقاعي: وقد جعل سبحانه الأمر بالتقوى مطلعاً لسورتين: النساء وهي رابعة النصف الأول، والحج وهي رابعة النصف الثاني، وعلل الأمر بالتقوى في هذه بما دل على كمال قدرته وشمول علمه وتمام حكمته من أمر المبدأ، وعلل ذلك في الحج بما صور المعاد تصويراً لا مزيد عليه، فدل فيها على المبدأ والمعاد تنبيهاً على أنه محط الحكمة، ما خلق الوجود إلا لأجله، لتظهر الأسماء الحسنى والصفات العلى أتم ظهور يمكن للبشر الاطلاع عليه، ورتب ذلك على الترتيب الأحكم، فقدم سورة المبدأ على سورة المعاد لتكون الآيات المتلوّة طبق الآيات المرئية. وقال أيضاً بما معناه: أن من مقاصد سورة آل عمران المجادلة في أمر عيسى، وأن مثله كمثل آدم عليهما السلام، وكانت حقيقة حاله أنه ذكر تولّد من أنثى فقط بلا واسطة ذكر، بيّن في هذه السورة بقوله {وخلق منها زوجها} أي مَثله في ذلك كمثل حواء: أمه فإنها أنثى تولدت من ذكر بلا واسطة أنثى، فصار مثله كمثل كل من أبيه وأمه: آدم وحواء عليهما الصلاة والسلام، وصار الإعلام بخلق آدم وزوجته وعيسى وأمه عليهم الصلاة والسلام {بعضكم من بعض (195)}، {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً (1)} حاصراً للقسمة الرباعية العقلية التي لا مزيد عليها وهي: بشر لا من ذكر ولا أنثى، بشر منهما، بشر من ذكر فقط، بشر من أنثى فقط. ولذلك عبر في هذه السورة بالخلق، وعبر في غيرها، بالجعل لخلو السياق عن هذا الغرض، وأيضاً: فالسياق هنا للترهيب الموجب للتقوى، فكان بالخلق الذي هو أعظم في إظهار الاقتداء، لأنه اختراع الأسباب وترتيب المسببات عليها، أحق من الجعل الذي هو ترتيب المسببات على أسبابها وإن لم يكن اختراع.

004.8.3- قال الإمام جلال الدين السيوطي: هذه السورة أيضاً شارحة لبقية مجملات سورة البقرة فمنها‏: أنه أجمل في البقرة قوله‏: {‏اعبدوا ربَكُم الذي خلَقَكُم والذينَ مِن قبلِكُم لعلَكُم تتقون‏} وزاد هنا‏: ‏{‏حلَقَكُم مِن نفسٍ واحدة وخلقَ مِنها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً‏}‏ وانظر لما كانت آية التقوى في سورة البقرة غاية جعلها في أول هذه السورة التالية لها مبدأ. ومنها‏: ‏أنه أجمل في سورة البقرة: {أَسكُن أَنتَ وزوجك الجنَّة‏}‏ وبين هنا أن زوجته خلقت منه في قوله ‏{‏وخلقَ منها زوجها‏}. ومنها‏: أنه أجمل في البقرة آية اليتامى وآية الوصية والميراث والوارث في قوله‏: ‏{وعلى الوارث مثل ذلك‏}‏ وفصل ذلك في هذه السورة أبلغ تفصيل. وفصل هنا من الأنكحة ما أجمله هناك فإنه قال في البقرة‏: {‏ولأمة مؤمنةٌ خيرٌ من مشركة‏} ‏فذكر نكاح الأمة إجمالاً وفصل هنا شروطه. ومنها‏: ‏أنه ذكر الصداق في البقرة مجملاً بقوله‏: ‏{‏ولا يحلُ لكُم أَن تأَخذوا مما آتيتموهن شيئاً‏}‏ وشرحه هنا مفصلاً. ومنها‏: أنه ذكر هناك الخلع وذكر هنا أسبابه ودواعيه من النشوز وما يترتب عليه وبعث الحكمين. ومنها‏: أنه فصل هنا من أحكام المجاهدين وتفضيلهم درجات والهجرة ما وقع هناك مجملاً أو مرموزاً. وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة‏: ‏تفسير‏: ‏{‏الذينَ أَنعمتَ عليهم‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏}‏. وأما وجه اعتلاقها بآل عمران فمن وجوه‏: منها‏: ‏أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى وافتتحت هذه السورة به وهذا من وجوه المناسبات في ترتيب السور. ومنها أن سورة آل عمران ذكر فيها قصة أحد مستوفاة وذكر في هذه السورة ذيلها وهو قوله‏: ‏{‏فما لكُم في المنافقين فئتين‏}‏ فإنها نزلت لما اختلف الصحابة فيمن رجع من المنافقين من غزوة أحد كما في الحديث. ومنها‏: أن في آل عمران ذكرت الغزوة التي بعد أحد بقوله‏: ‏{‏الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أَصابهُم القرح‏}‏ وأشير إليها هنا بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإِنَهُم يأَلمونَ كما تأَلمونَ‏}‏ وبهذين الوجهين عرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل ما في آل عمران ولاحقه وتابعه فكانت بالتأخير أنسب. ومنها‏: ‏أنه ذكر في آل عمران قصة خلق عيسى بلا أب وأقيمت له الحجة بآدم وفي ذلك تبرئة لأمه خلاقاً لما زعم اليهود وتقرير لعبوديته خلاقاً لما ادعته النصارى وذكر في هذه السورة الرد على الفريقين معاً‏: فرد على اليهود بقوله‏: {‏وقولِهِم علىَ مريم بهتاناً عظيماً‏} وعلى النصارى بقوله‏: {لا تغلو في دينكُم ولا تقولوا على الله إِلا الحق إِنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته أَلقاها إِلى مريم ورح منه‏} إلى قوله: {لن يستنكف المسيح أَن يكون عبداً لله‏}. ومنها‏: ‏أنه لما ذكر في آل عمران‏: {إِني متوفيك ورافعك إِلي‏} رد هنا على من زعم قتله بقوله‏: {وقولِهم إِنَّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإِن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إِلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إِليه‏}. ومنها‏: ‏أنه لما قال في آل عمران في المتشابه‏: {‏والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا‏} ‏قال هنا‏: ‏{لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزل إِليك‏}‏. ومنها أنه لما قال في آل عمران‏:‏ ‏{‏زُينَ للناسِ حُبَّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا‏}‏ فصل هذه الأشياء في السورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية ليعلم ما أحل الله من ذلك فيقتصر عليه وما حرم فلا يتعدى إليه لميل النفس إليه فقد جاء في هذه السورة أحكام النساء ومباحاتها للابتداء بها في الآية السابقة في آل عمران ولم يحتج إلى تفصيل البنين لأن تحريم البنين لازم لا يترك منه شيء كما يترك من النساء فليس فيهم مباح فيحتاج إلى بيانه ومع ذلك أشير إليهم في قوله‏:‏ ‏{‏وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً‏}‏ ثم فصل في سورة المائدة أحكام السراق وقطاع الطريق لتعلقهم بالذهب والفضة الواقعين في الآية بعد النساء والبنين ووقع في سورة النساء إشارة إلى ذلك في قسمة المواريث ثم فصل في سورة الأنعام أمر الحيوان والحرث وهو بقية المذكور في آية آل عمران. أن سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضاً لأنه لما أخبر بحب الناس لهم وكان من ذلك إيثارهم على البنات في الميراث وتخصيصهم به دونهن تولى قسمة المواريث بنفسه فقال‏: {يوصيكم اللَهُ في أَولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين‏} ‏وقال‏: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب‏} فرد على ما كانوا يصنعون من تخصيص البنين بالميراث لحبهم لهم فكان ذلك تفصيلاً لما يحل ويحرم من إيثار البنين اللازم عن الحب وفي ضمن ذلك تفصيل لما يحل للذكر أخذه من الذهب والفضة وما يحرم. ومن الوجوه المناسبة لتقدم آل عمران على النساء‏: اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب وفي الافتتاح ب ‏{‏الم‏} وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة كيونس وتواليها ومريم وطه والطواسين و ‏{‏الم‏}‏ العنكبوت وتواليها والحواميم وفي ذلك أول دليل على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءاً به سوى بين الأعراف ويونس اجتهاداً لا توقيفاً والفصل بالزمر بين ‏{‏حم‏}‏ غافر و {‏ص‏}‏ وسيأتي “‏اقرءوا الزهراوين‏:‏ البقرة وآل عمران‏”‏ فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس المشتركتين في التسمية بالمعوذتين.

004.8.4- وقال أبو جعفر ابن الزبير: لما تضمنت سورة البقرة ابتداء الخلق وإيجاد آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، وأعقبت بسورة آل عمران لتضمنها – مع ما ذكر في صدرها أمر عيسى عليه السلام وأنه كمثل آدم في (عدم) الافتقار إلى أب، وعلم الموقنون من ذلك أنه تعالى لو شاء لكانت سنة فيمن بعد آدم عليه السلام، فكان سائر الحيوان لا يتوقف على أبوين، أو كان يكون عيسى عليه السلام لا يتوقف إلا على أم فقط، أعلم سبحانه أن من عدا المذكورين عليهم السلام من ذرية آدم سبيلهم سبيل الأبوين فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً”. ثم أعلم تعالى بكيفية النكاح المجعول سببا في التناسل وما يتعلق به، وبين حكم الأرحام والمواريث، وتضمنت السورة ابتداء الأمر وانهاءه فاعلمنا بكيفية الناكح، وصورة الاعتصام واحترام بعضنا لبعض كيفية تناول الإصلاح فيما بين الزوجين عند التشاجر والشقاق، وبين لنا ما ينكح وما لا ينكح وما أبيح من العدد، وحكم من لم يجد الطول وما يتعلق بهذا إلى المواريث، فصل ذلك كله، إلا الطلاق لأن أحكامه قد تقدمت، ولأن بناء هذه السورة على التواصل والائتلاف ورعي حقوق ذوي الأرحام، وحفظ ذلك كله إلى حالة الموت المكتوب علينا وناسب هذا المقصود من التواصل والألفة ما افتتحت به السورة من قوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} بالالتئام والوصلة، ولهذا خصت حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والعدل إبقاء لذلك التواصل، فلم يكن الطلاق ليناسب هذا فلم يقع له هنا ذكر ولا إيماء {وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته} ولكثرة ما يعرض من رعى حظوظ النفوس عند الزوجية ومع القرابة ويدق ذلك ويغمض، لذلك ما تكرر كثيرا في هذه السورة الأمر بالاتقاء، وبه افتتحت {اتقوا ربكم} {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} ثم حذروا من حال من صمم على الكفر، وحال اليهود والنصارى والمنافقين وذوى التقلب في الأديان بعداً عن اليقين، وكل ذلك تأكيد لما أمروا به من الاتقاء، والتحمت الآيات إِلى الختم بالكلالة من المواريث المتقدمة.

004.8.5- انظر سورة العصر (103.8.1). التي أوجزت فيها مضامين أربع سور: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، باحتوائها على أربع صفات: الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top