العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


005.0 سورة المائدة


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


005.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مدنية. 2) من السور الطول. 3) عدد آياتها 120 آية. 4) هي السورة الخامسة من حيث الترتيب في المصحف. 5) والثانية عشرة بعد المائة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة الفتح. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمّى أيضاً العقود والمنقذة لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:

تكرر اسم الجلالة {الله} في السورة كثيراً، 142 مره، ومرة واحدة {اللهم}، ومرة واحدة {إله}، و {لله} 5 مرّات مقارنة بعدد آيات السورة وهي 120 آية. وهو يتناسب مع احتواء السورة على الكثير من الأوامر والنواهي وأحكام الحلال والحرام، مما يتطلب وجود صفة الإله التي تتضمن كل صفات الترغيب والترهيب والبشارة والنذارة. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

وتكرر فيها الأسماء والصفات التالية: أنزل 18 مرّة، رب 17 مرّة، أنعم 7 مرّات، غفور 6 مرّات، رحيم 5 مرات؛ وتكررت (4 مرّات): عليم، قَدِيرٌ، يحب، عزيز؛ (3 مرّات): يريد، كتب؛ (2 مرّة): شديد العقاب، حَكِيمٌ، عَلَّامُ الْغُيُوبِ، يَعْلَم، يهدي، خلق، يغفر، كفّ، رضي، نبلو، بعث؛ (1 مرّة): حليم، سَرِيعُ الْحِسَابِ، خَبِيرٌ، ذُو انْتِقَامٍ، وَاسِعٌ، السَّمِيعُ، بَصِيرٌ، شَهِيدٌ، الرقيب، الولي، الواحد، هو، أعلم، يُعَلّم، يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، رزق، خير الرازقين، جامع، يبين، طَهَّرَ، فضل، سخط، فتن، خير الرازقين، مخرج.

هي من أكثر السور التي تكررت فيها كلمة رسول ومشتقاتها 22 مرة، بعد التوبة 35 مرة والنساء 31 مرة والأعراف 30 مرة. وهو دلالة على ضرورة تنبه الناس لما تدعوهم إليه الرسل: من التفكر في خلق الله ونعمه ومعجزاته لأخذ العبر والإيمان به وإحداث تغييرات حاسمة في حياتهم نحو الأحسن. وهي أكثر سور تكررت فيها الاسم ابن مريم 10 مرات من أصل 23 مرة في القرآن؛ عيسى 6 مرّات من أصل 25 مرة في القرآن.

تكرر النداء {يا أيها الذين آمنوا} في هذه السورة ست عشرة مرة في الآيات (1، 2، 6، 8، 11، 35، 51، 54، 57، 87، 90، 94، 95، 101، 105، 106) من أصل 89 مرة وردت في القرآن كله، وهي تنادي المؤمنين بأن يوفوا بعقودهم، فيحلّوا الحلال ويحرّموا الحرام. وقد ورد هذا النداء 11 مرة في سورة البقرة، 7 مرات في سورة آل عمران، 11 مرة في سورة النساء، أي ما مجموعه 45 مره في الأربع سور أي أكثر من نصف عددها في القرآن، وقد ورد هذا النداء في السور المدنية فقط، ولم يرد في السور المكية.

هي أكثر سوره في القرآن وردت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: يحكم 17 مرّة من أصل 113 مرة في القرآن؛ الحرام 13 مرّة، بعد البقرة 14 مرّة، من أصل 83 مرة في القرآن؛ أحلّ 12 مرّة من أصل 51 مرة في القرآن؛ العداوة 12 مرّة، بعد البقرة 20 مرّة، من أصل 103 مرة في القرآن؛ فاسقين 8 مرات من أصل 50 مره في القرآن؛ طعام 8 مرّات؛ طيبات 6 مرّات؛ ميثاق 6 مرات من أصل 26 في القرآن، وفي النساء 6 مرات، والبقرة 5 مرات، وآل عمران 2 مره؛ سواء السبيل 3 مرات؛ العقود 2 مرّة؛ تعاونوا 2 مرّة؛ شنئان 2 مرة.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: أنزل 23 مرّة، علم 23 مرّة، الذين آمنوا 22 مرّة، العذاب 15 مرّة، الشهادة 12 مرة، العداوة 11 مرة، حق 10 مرّات، عدل 5 مرّات، يطهركم 3 مرّات، العالمين 3 مرّات، فتنة 3 مرّات، البلاغ 2 مرّة، العقاب 2 مرّة، يبلوكم 2 مرّة.

005.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

عن جبير بن نفير قال حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت نعم فقالت أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه.

عن أسماء بنت يزيد قالت إنّي لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدقّ عضد الناقة.

عن عبد الله بن مسعود قال إذا سمعت الله يقول {يا أيّها الذين آمنوا} كما بدأت السورة، فارعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شرّ ينهى عنه.

005.3 وقت ومناسبة نزولها:

005.3.1- نزلت هذه السّورة في أواخر السنة السادسة وبداية السنة السابعة للهجرة أي بعد صلح الحديبيّة الذي منع فيه المسلمين من الحج وفي نفس عام الصلح. وقد منع المسلمون من الحج خلافاً لما هو متعارف عليه في دين الجزيرة العربيّة، على أن يسمح لهم بذلك في العام المقبل وما بعده. لذلك فهي تشير إلى تلك الأمور التي نشأت عن هذا الصلح بين المسلمين في المدينة وقريش في مكّة، وتبين بعض المباحات والمحظورات في الحج، وكذلك افتتحت بآيات تتحدث عن شعائر الحج إلى مكة، وأيضاً في الآيات (101-104). لكن الأحداث التي تشير إلى أن أجزاء من السورة نزلت بعد صلح الحديبية وأخرى بعد الفتح وأخرى بعد حجة الوداع، لا تعني أن جميع آيات السورة نزلت في هذه الفترة الزمنية، لأن الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر في السنة الثانية الهجرية، كانوا على علم بموقف بني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه السلام، عندما عصوا أمره لهم بدخول الأرض المقدسة؛ ففي رواية عن سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، ورواية أخرى عن المقداد بن عمرو، حين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذن والله لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (24)}. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون”.

005.3.2- وقال ابن عاشور: أن هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء، وفي ذلك ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق في عناد الإسلام إلا اليهود والنصارى. أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها، وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام. وفي حديث عمر في صحيح البخاري: وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا. وقد امتازت هذه السورة باتساع نطاق المجادلة مع النصارى، واختصار المجادلة مع اليهود، عما في سورة النساء. مما يدل على أن أمر اليهود أخذ في تراجع ووهن، وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل. وفي سورة النساء تحريم السكر عند الصلوات خاصة، وفي سورة المائدة تحريمه بتاتا، فهذا متأخر عن بعض سورة النساء لا محالة. وليس يلزم ألا تنزل سورة حتى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدة واحدة. وهي، أيضا، متأخرة عن سورة براءة: لأن براءة تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلا مرة، وذلك يؤذن بأن النفاق حين نزولها قد انقطع، أو خضدت شوكة أصحابه. وإذ قد كانت سورة براءة نزلت في عام حج أبي بكر بالناس، أعني سنة تسع من الهجرة، فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع، وحسبك دليلا اشتمالها على آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (3)} التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة، عام حجة الوداع، كما في خبر عن عمر بن الخطاب. وفي قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ (3)} وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم” انتهى.

005.4 مقصد السورة:

005.4.1- أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها وإتمامها، وعدم نقصانها. أهمّها عقدهم مع الله، يعبدونه لا يشركون به شيئاً، والنهي عن أن يحلّوا ما حرّم الله أو يحرموا ما أحله؛ والأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان؛ فإن لم يوفوا فالهلاك والعذاب مصيرهم، وإن أوفوا فالنجاة والفوز والفلاح مصيرهم. إن الله يحكم ما يريد، قد أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة.

005.4.2- ومقصد السورة نجده في الآية الأولى وهو نداء المؤمنين وأمرهم بالوفاء بالعقود، وأولها وأهمها عقدهم مع الله، بما التزموا به من حمل الأمانة، والخلافة في الأرض، يعبدونه لا يشركون به شيئاً، وقد أشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا (172)} الأعراف. والأمر بالوفاء يشمل كل العقود بدليل أنه قد أتبع تفاصيل العقود في كل آياتها إلى آخر السورة: ومنها ما احتوته من النهي عن أن يُحلّوا ما حرّم الله أو يحرموا ما أحله من بهيمة الأنعام، من الإبل، والبقر، والغنم، وغيرها، وما سخّر لهم مخلوقاته؛ والأمر بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان في تعامل الناس بعضهم مع بعض، في الأسرة والمجتمع، ومع الأمم الأخرى؛ فإن لم يوفوا فالهلاك والعذاب مصيرهم، وإن أوفوا فالنجاة والفوز والفلاح مصيرهم. إن الله يحكم ما يريد، قد أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة، وسيبتلي سبحانه وفاءهم بعهودهم، فإن لم يفعلوا وارتدّوا، استبدلهم بقوم يحبهم ويحبونه، كما يلي:

005.4.2.1- من العقود التي أمر الله بالوفاء بها، هي تلك التي أعقبت ذلك النداء والأمر للمؤمنين المكرر ستة عشرة مرّة. وفي كل مرة يأمر سبحانه بالوفاء بعقد مختلف، أخذاً أو تركاً، ويحذر المؤمنين من عدم الوفاء ونقض العهود. أمرهم بالوفاء بها، لحصول مصالحهم ودفع المضار عنهم. فبشّر وأنذر، ووعد وأوعد، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}.

005.4.2.2- {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}، الآية الأولى تنتهي بتقرير، أنه: يا من آمنتم بالله، وبأنكم مخلوقاته، وعبيده، وبأنه هو الآمر الناهي، وأن الأمر بيده، وأن الله هو الذي يحكم ما يريد، فمهما أراده تعالى من شيء، حكم به حكما موافقا لحكمته، وَفَعَله وفق إرادته. ثم الآية الثانية تبدأ بلا تحلّوا، أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور، وتنتهي ب {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}. والآية الثالثة تبدأ بالتحريم، وتنتهي بالمغفرة لمن اضطر: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3)}. والآية الرابعة تبدأ بأن الله أحلّ لهم الطيبات، وتنتهي بالتحذير {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}. فالله هو الحاكم بما يريد، شديد العقاب، غفور رحيم، سريع الحساب، فاتقوه. وقال تعالى متوعداً وموعداً في أواخر السورة: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (98)}.

005.4.2.3- {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} والذي يريده الله هو أن يطهرهم وليتمّ نعمته عليهم، ويريد أن يأتي بقوم يحبهم ويحبونه، فإذا لم يكونوا كذلك، أو إذا آمنوا ثم ارتدوا، فسوف يستبدلهم بقوم يحكمون بما أنزل ويوافقون إرادته، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)}. لأن من لا يحكم بما أنزل الله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}. أما الذين ذكروا في السورة بأن الله يحبهم فهم المحسنين والمقسطين. (وقد ذكر في القرآن سبع صفات أخرى للذين يحبهم الله، وهي: المتقين، والتوابين، والمتطهرين، والمطهرين، والصابرين، والمتوكلين، والذين يقاتلون في سبيل الله صفاً) انظر المزيد عن حب الله في سياق السورة أدناه.

005.4.2.4- أما لماذا يحكم الله ما يريد؟ فذلك لأن له ملك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وأنه يخلق ما يشاء، وعلى كلّ شيء قدير، وأن إليه المصير، وتكرار هذه الحقيقة أربعة مرّات، في الآيات (17، 18، 40، 120)، وختمت به السورة في الآية الأخيرة بقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}.

005.4.2.5- وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ (2)} …. إلى قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}، فشعائر الله هي مناسك حجّه، والمعالم التي أمر بالقيام عليها. لقد خلقنا الله تعالى لكي يسعدنا في الدنيا وفي الآخرة بإقامة شعائره، وطاعته بكل ما أمر، وبالتعاون على البر والتقوى؛ وخلقنا للخلود في جنّة عرضها السموات والأرض؛ خلقنا لكي يحبنا ونحبه، ويتحقق هذا بالوفاء بالعقود، بطاعة أوامر الله وباتباع دينه الذي أكمله لنا في هذه السورة وأتمّ علينا نعمته، ونعمة الله في الدنيا ليست في غرفة واحدة ندخل إليها ونأخذ منها ما نشاء، إنما هي نعمة بالعمل وإعمار الأرض، وبإقامة دينه وإتمام شعائره، الذي يتطلب التعاون ونبذ العدوان؛ هذا ما تأمرنا به السورة، فالتعاون واجب وفرض كالصلاة والزكاة والصيام والحج يعاقب تاركه. أما النعيم بلا عمل فهو في الآخرة وفي الجنّة فقط. إذا كنت تريد الخير لنفسك فأحب الخير وقد أتاك الله بالخير وأتم عليك نعمته، وإذا كنت تكره أن يعتدى عليك فانبذ العدوان واتق الله واحذر لأن الله شديد العقاب. إذا كنت تريد لنفسك أن تنال البرّ الذي يشمل كلّ خير ديني ودنيوي وأخروي فألزم نفسك به وتعاون على تحقيقه، وإذا كنت تكره الإثم فانبذه ولا تتعاون عليه واتق الله. إذا أردت أن يحببك الله فلا ترتد عن دين الله، لأنك إن ارتددت استبدلك الله وأتى بقوم غيرك يحبهم ويحبونه.

من يقرأ تاريخ الإنسان يجده مليء بالعداوات والحروب والقتل، ويظن الكثير ممن يجهلون الحق أن الدين هو سبب هذه العداوات. لكنّ هذه الآية تأمر بالتعاون وتنهى عن العدوان. ثم يبين سبحانه وتعالى أن سبب العداوات بين الناس هو البعد عن الدين ونسيانه، وكذلك مسارعتهم إلى الكفر والعدوان، قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}، {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}، فهي إذاً سنة ثابتة لا تتغير، نسيان المواثيق والبعد عن الدين والكفر تعني العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وأن الله لا يحب المعتدين.

005.4.2.6- وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً (3)}، قال ابن كثير: هذه أكبر نعم الله عز وجل، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف، كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا (115)} الأنعام، أي: صدقا في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم. {ورضيت لكم الإسلام دينا}، أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه، انتهى.

005.4.2.7- ولأنها أشارت إلى تمام الشرع وكمال الدين، فقد أمرت بالوفاء بالعقود، ووجوب الالتزام بالتكاليف التي كلفهم الله بها، من حلال وحرام، واتباع للشعائر، وتعاون بينهم، وإباحة الطيبات، والتزام حدود العلاقات مع أهل الكتاب، وإباحة ذبائحهم، وحل نسائهم؛ ثم واصلت بالحديث عن الصلاة والوضوء وطهارة البدن، وعقبت بأن الله تعالى لا يريد بهذه العبادات أن يجعل عليهم الضيق والحرج، ولكن يريد ليطهرهم وليتم بها نعمته عليهم، فتكتمل نعمة الدنيا والدين.

005.4.2.8- وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}، وهو أن الله خلق الناس مختلفين، وأنعم عليهم، ليبتليهم، وأمرهم أن يستخدموا ما أنعمه عليهم للتسابق في الخيرات، فإن هم فعلوا ما يأمرهم به وينهاهم عنه نالوا الخير وفازوا في الدنيا والآخرة، وإن عصوا هلكوا وخسروا في الدنيا والآخرة. وهي سنة من سنن الله الثابتة، لا تتغير، بدليل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)} فهذا هو الخير وفوزهم في الآخرة، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} فهو الخير وفوزهم في الدنيا.

005.4.2.9- ونكتفي بهذا البيان عن أن مقصد السورة نجده في كل آياتها، وحتى في نداءاتها وكلماتها، فهي أكثر سورة تكررت فيها كلمات مثل: يحكم وأحل وحرّم ومشتقاتها وغيره كما هو مبين أعلاه، وباقي الآيات فهي في أغلبها قصص غرضها تسهيل فهم هذه المعاني، وأنه بالوفاء بالعقود تتحقق سعادة الإنسان وصلاح حياته ومحبة الله له، وبنقضها وعدم الوفاء بها يحصل شقائه وهلاكه واستبداله، كما سيأتي تفصيله أدناه في سياق السورة باعتبار مقصدها، وفي سياقها باعتبار القصص الموجودة فيها.

005.4.3- وقال الإمام برهان الدين البقاعي (بتصرف): ومقصدها الوفاء بما هدى إليه الكتاب من الدين والإسلام (في سورة البقرة)، ودلّ عليه ميثاق العقل من توحيد الخالق (في سورة آل عمران)، ورحمة الخلائق شكراً لنعمه واستدفاعاً لنقمه (في سورة النساء)، وقصّة المائدة أدل ما فيها على ذلك (فهم ملزمون بالوفاء بعد أن رأوا الآية). وقال أيضاً: وتسميتها بالعقود دليل على مقصودها.

005.4.4- وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير ما خلاصته: لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً، قال تعالى لعباده المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (1)} المائدة، لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين. وقال أيضاً: ثمّ أراهم جلّ وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته، فقال تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس… (116)} إلى قوله {هذا يوم ينفع الصادقين…} إلى آخرها. فيحصل من جملتها الأمر بالوفاء، وحال من حاد ونقض، وعاقبة من وفى، وأنهم لصادقون.

005.5 ملخص موضوع السورة:

سُميت “بسورة المائدة” وهي أحد معجزات سيدنا عيسى عليه السلام إلى الحواريين عندما طلبوا منه أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء يأكلوا منها وتطمئنّ قلوبهم. وقد استجاب سبحانه لطلبهم فأنزل المائدة، وصار لزاماً عليهم أن يوفوا بعقدهم، بأن يؤمنوا ويكونوا من الشاهدين كما وعدوا، لكن الحقيقة أنهم أخلفوا ونقضوا عهدهم، وانتهى أمر النصارى بأن اتخذوا عيسى عليه السلام وأمه إلاهين. فهم بذلك كفروا وظلموا وفسقوا، فليحذر المؤمنون من أن يأتوا فعلهم أو أن يرتكبوا مرتكبهم. ثلثي عدد آيات السورة ثمانون آية (80) قصص، والثلث الباقي أربعون آية (40) أوامر ونواهي عن الحلال والحرام وغيره.

 

005.5.0- مقصد سورة المائدة هو الأمر بالوفاء بالعقود، باتباع دين الله، مالك الملك، وخالق الخلق، والتزام شرعه. جعل الدين ليطهّرهم وليتمّ نعمته عليهم، فإن لم يفعلوا، فأحلّوا الحرام وحرّموا الحلال واعتدوا، فالله على كلّ شيءٍ قدير وسيستبدلهم بغيرهم. إن أكبر نعم الله عزّ وجلّ عليهم هو أن أكمل لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره؛ فليرضوه لأنفسهم، فإنه الدين الذي رضيه الله لهم، وأحبّه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه.

ومقصد وجود الإنسان على الأرض وهو الابتلاء بالوفاء بالعقود، فإن فعلوا فأوفوا أفلحوا وفازوا، وإن لم يوفوا خابوا وخسروا، واسمها دليل على ذلك فقد سألوا المائدة كدليل على أن الله قادر ويستطيع فعل كل شيء فلما أنزلت عليهم المائدة كفروا واتخذوا عيسى بن مريم وأمه آلهة. وكل آيات السورة تَحُومُ حَوْلَ هذا المقصد في الابتلاء.

005.5.1- وباعتبار ترتيب آيات سورة المائدة، نستطيع تمييز أربع مجموعات من الآيات تدور حول موضوعين هما: أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود، وقصص للعبرة تبين جزاء الوفاء وعقاب من لم يوف، كما يلي:

005.5.1.1- أولاً: (الآيات 1-11) الأمر بالوفاء بالعقود والالتزام بالميثاق والعدل والإنصاف. وتتضمّن تشريعات وأحكام الإحرام والصيد والذبح والطعام والزواج والوضوء والتيمم؛ فمن آمن وأطاع فله أجر عظيم، ومن كفر فهو من أصحاب الجحيم.

005.5.1.2- ثانياً: (الآيات 12-86) قصص عن قتل ابن آدم لأخيه، وعن أهل الكتاب وتحريفهم لدينهم. فيها تحذير من اتباع أفعالهم وكيدهم، وأمر بعدم اتخاذهم أولياء حتى لا يردوكم عن دينكم. وكلّ القصص هي نماذج عن أناس اختارهم الله واصطفاهم بنعمة الدين والرسالة والإيمان، فأكرمهم بسبب اهتدائهم وإيمانهم ووفائهم لعهدهم، ثم هم نسوا نعمة ربّهم فنقضوا ميثاقهم، فغضب الله عليهم ولعنهم وجعل قلوبهم قاسية واستبدل بهم قوماً غيرهم، وجعلوا عبرة لمن بعدهم على طريقيّ الهدى والضلال.

005.5.1.3- ثالثاً: (الآيات 87-108) بيان ما تبقّى من العقود والتشريعات والحلال والحرام، كتحريم الخمر والقمار، وعدم تحريم الطيبات، وأحكام الصيد والوصية والشهادة، وإبطال ما تبقّى من تقاليد الجاهلية وشرائعها في بعض أنواع الأنعام والذبائح، مع تقرير المصدر الوحيد الصحيح للتشريع في أمور الحياة كلّها، وردّ الأمر إليه وحده، فالله وحده مالك حقّ التشريع بالحلّ والحرمة، فتجب الطاعة والالتزام بشرعه، والانتهاء عن نهيه والحذر من مخالفة أمره، اتقاء لعذابه الأليم وانتقامه.

005.5.1.4- رابعاً: (الآيات 109-120) تختم بوقوف النصارى مع نبيّهم أمام الله يوم القيامة للحساب، وربهم يذكرّهم بنعمه عليهم وعلى رسوله عيسى عليهِ السّلام، وكيف أنهم نقضوا عقودهم واتخذوا عيسى وأمّه إلاهين من دون الله، ثم تبرّؤ عيسى من زعمهم وتفويض أمرهم ومصيرهم لربّهم. وهذه هي المواجهة التي ستواجهها كلّ الأمم مع رسلها يوم الحساب.

005.5.2- أمّا باعتبار موضوعاتها، فلسورة المائدة موضوع وحيد عرضته بطريقتين مختلفتين، الأولى نظريّة والثانية عمليّة.

005.5.2.1- الجانب النظريّ، ويتضمن ثلث عدد آياتها، فيه أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود، مع تفصيل هذه العقود، وبيان جزاء من أوفى فآمن وعمل الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم، ومن لم يوف فكفر وكذّب بالجحيم. مع تكرار الأمر بتحليل ما أحلّه الله، وتحريم ما حرّمه، وفي كل مرّة يأمر سبحانه بالوفاء بعقد مختلف، عن إباحة الطيبات، وعن الشعائر التعبدية، والتشريعات الاجتماعية، حيث أتمّ الله هذا الدين، فلزم الوفاء.

وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين وربه، من التزام عبوديته والقيام بها أتم قيام وعدم الانتقاص من حقوقها شيئاً والتزام حدوده بعد أن فصّل لهم الحلال والحرام، والتي بينه وبين الرسول، بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب ببرهم وصلتهم وعدم قطيعتهم، والتي بينه وبين اخوته في الدين بالتناصر والتآلف والقيام بحقوقهم في الغنى والفقر واليسر والعسر، والتي بينه وبين إخوته في الإنسانية من عقود المعاملات كالبيع والإجارة وغيرها، والتي بينه وبين ما أباحه له من الأنعام فلا يأكلها إلا بعد ذبحها وذكر اسم الله عليها ولا يحرم طيبات ما أحل الله، وكل العقود التي أمر الله بالقيام بها وهذا شامل لأصول الدين وفروعه فكلها داخلة فيه.

005.5.2.2- والجانب العمليّ، ويتضمن ثلثي عدد آياتها، يحكي تجربة أمّة محمّد صلى الله عليه وسلّم في وفائهم بعقودهم وتبليغهم هذا الأمر لأهل الكتاب والكفار، وتجارب أفراد وجماعات من أهل الكتاب والأمم السابقة، مع بيان جزائهم بداية حين أوفوا بعقودهم، ثمّ عقابهم بعد أن ارتدّوا فلم يوفوا. إنّ جزاء الوفاء بالعقود هو التوفيق والنعيم في الدارين الدنيا والآخرة، ويقابله نقضها وجزاؤه العقاب في الدارين الدنيا والآخرة.

تبين السورة بالأدلة أنّ من أراد الفلاح فعليه الوفاء بعهده مع ربّه، بالسمع والطاعة وإقامة الدين، والابتعاد عن أعمال الفئات التي فسقت ونقضت عقودها، فلم تؤمن بالكتاب، ولم تهتد، بل مارست الضلال جهاراً نهاراً فكانت قدوة إلى الفسق والضلال ونقض المواثيق. ويظن الكثير ممن يجهلون الحق أن الدين هو سبب العداوات والحروب والقتل. لكنّ العكس هو الصحيح فهذه االسورة تأمر بالتعاون وتنهى عن العدوان، وتبيّن أن سبب العداوات بين الناس هو البعد عن الدين ونسيانه، وكذلك مسارعتهم إلى الكفر والعدوان، وأن الله لا يحب المعتدين.

وقد تكرر النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في هذه السورة ست عشرة (16) مرّة من أصل تسع وثمانون (89) مرّة وردت في القرآن كلّه، وهي تنادي المؤمنين بأن يوفوا بعقودهم، فيحلّوا الحلال ويحرّموا الحرام. وبذلك تتناسب مع السور التي قبلها، وكأنها تقول: يامن هدتكم سورة البقرة إلى الدين وهو الإسلام، ثمّ آل عمران إلى الإيمان، ثم النساء إلى الإحسان ومراقبة الله تعالى، عليكم بما تأمركم به سورة المائدة من الوفاء، ففيه نجاتكم وفوزكم وفلاحكم، وإن لم تفعلوا، يستبدلكم ربكم بقوم غيركم.

اللهم ارزقنا الوفاء والإخلاص في القول والعمل.

005.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

موضوعات السورة باعتبار ترتيب الآيات:

005.6.1- ابتدأت السورة بأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالوفاء بعقودها في الآيات (1-11) ثم تلته بعرض ما فعله أهل الكتاب بمواثيقهم، ثم كيف أنه صلى الله عليه وسلم جاء ليبين لهم انحرافهم عن دين ربهم، ثم أنهم تلي عليهم نبأ ابني آدم ليعلموا أنهم محاسبون على أعمالهم، ثم وجه النداء إلى المؤمنين يأمرهم بالتقوى {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله (35)}. بعد ذلك تكرر العرض بأنه سبحانه أنزل {التوراة فيها هدى ونور (44)} وكذلك {الإنجيل فيه هدى ونور (46)}، وأنه أنزل القرآن مصدقاً لهذه الكتب ومهيمناً عليها، لكن أهل الكتاب اتبعوا أهواءهم واستهزأوا بالدين وفتنوا الناس وقتلوا أنبياءهم فغضب الله عليهم ولعنهم، ثم أمر المؤمنين أن لا يتخذوهم أولياء وبين لهم ضلالهم وعداوتهم لله والمؤمنين، وهكذا تتداخل الدروس المستفادة من قصص نقض أهل الكتاب لمواثيقهم التي جاءت في كتبهم مع نقضهم لما جاء في القرآن، خاتم الرسالات وعداوتهم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، مع الدروس التي بينتها الآيات أثناء تعليقها وتقييمها لأعمالهم بأسلوب معجز لا يدع مجالاً لأحد يريد السلامة والنجاة لنفسه إلا أن يلتزم بعقوده مع ربه وأن يتبع بدينه. في الآيات (87-108) تعود السورة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم تبين لهم الحلال والحرام وما بقي من العقود، وتختم بالآيات (109-120) بوقوف النصارى يوم القيامة أمام الله وأمام نبيهم للحساب، وربهم سبحانه يذكرهم بنعمه عليهم وعلى رسوله عيسى عليه السلام، وكيف أنهم نقضوا عقودهم واتخذوا عيسى بن مريم وأمه إلاهين من دون الله، ثم تبرؤ عيسى من زعمهم وتفويض أمرهم ومصيرهم لربهم. وهذه هي المواجهة التي ستواجهها كلّ الأمم مع رسلها يوم الحساب.

 

005.6.2- وباعتبار ترتيب آياتها نستطيع تمييز أربعة مجموعات من الآيات، تدور حول موضوعين هما: أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود، وقصص للعبرة: تبين جزاء الوفاء، وعقاب من لم يوفي، كما يلي:

005.6.2.1- الآيات (1-11) الأمر بالوفاء بالعقود والالتزام بالميثاق والعدل والإنصاف. وتتضمن تشريعات وأحكام الإحرام والصيد والذبح والطعام والزواج والوضوء والتيمم. فمن آمن وأطاع فله أجر عظيم، ومن كفر فهو من أصحاب الجحيم.

تضمنت الآيات أوامر بأعمال ثمرتها صلاح الأرض وعمارتها، ونواهي تمنع من خرابها وفسادها؛ وأوامر كلها وفاء وطهارة وتعاون على الخير والصلاح والحفاظ على النعمة، ونواهي عن تحليل الحرام وتحريم الحلال وعن التعاون على الإثم والعدوان؛ فإذا ما صلحت الأرض وطهرت، عاش الناس في سلام وأمان وسعادة، فهذا هو نعيم الدنيا؛ ثم تلاه الأمر بالطهارة عند القيام للصلاة ومناجاة الله، لتتم نعمة الله عليهم بالعمل للآخرة؛ فإن أوفوا وأطاعوا يكتمل بذلك ما خلقوا لأجله وهو عمارة الأرض والعبادة لعلهم يشكرون. فالحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء، وذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدّوا المسلمين عن المسجد الحرام في هذه الآيات هو لفته إلى طيبات الروح، إلى جانب طيبات الجسد، يجد فيه قلب المؤمن من اللذة ما لا يجده في سائر المتاع، إنه متعة المناجاة لمالك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، وسماع كلامه، في جو من السلام والطهر والخشوع والنقاء. كما أن أحكام الطهارة والصلاة، كأحكام الطعام والنكاح، كأحكام الصيد في الحل والحرمة، كأحكام التعامل مع الناس وكبقية الأحكام التالية في السورة كلها عبادة لله، وكلها دين الله. ولا يتصور إمكان انفصال أيّة جُزئية من حياة الإنسان المسلم في سعيه اليومي عن الدين والإسلام.

005.6.2.2- الآيات (12-86) الحديث عن قصص أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وتحريفهم لدينهم، بالإضافة إلى قصتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم وهو يبين لهم ما أخفوه من كتبهم، تحذر فيها محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من أفعال أهل الكتاب وكيدهم، وأمر المؤمنين بعدم اتخاذهم أولياء حتى لا يردوهم عن دينهم، وذكر قصة قتل ابن آدم لأخيه، كما يلي:

005.6.2.2.1- الآيات (12-26) قصة نقض اليهود والنصارى لميثاقهم وتحريفهم لدينهم، وعقابهم وتيه بني إسرائيل. يتخللها خمس آيات (15-19) تبين قصتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم وهو يبين لهم ما أخفوه من كتبهم.

005.6.2.2.2- الآيات (27-40) قصة ابني آدم إذ قربا قرباناً، ثم قتل أحدهما الآخر. والإشارة إلى شناعة ما فعله أهل الكتاب والكفار من المعصية والقتل والفساد، وبيان أن جزاؤهم الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة؛ يليه أحكام القصاص والحرابة وقطع الطريق وحد السرقة والتوبة وعاقبة الكفر: وفي هذه الآيات مثال تاريخي عن ابني آدم وهما نموذجين من نماذج البشر، يوضّح طبيعة الفطرة البشرية الشريرة بعيدة عن الدين، ويبين ضرورة وجود الشريعة العادلة الرادعة لحماية البشر أنفسهم. جاء المثال تقدمة للأحكام المتعلقة بحماية النفس في الشريعة الإسلامية، وحماية المال وملكية الأفراد في المجتمع، الذي يقوم نظامه الاجتماعي كله على شريعة الله.

005.6.2.2.3- الآيات (41-50) وجوب الحكم بشرع الله ورفض حكم الهوى والجاهلية: إن شرائع الله التي سنها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها، هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس، ويقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من أولياء الأمور، قال تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم (49)}، والمسألة في هذا كله مسألة إيمان أو كفر، حكم الله أو حكم الهوى والجاهلية، شرع أو هوى، لا وسط في الأمر، فالمؤمنون هم يحكمون بما أنزل الله لا يبدلون منه شيئا، والكافرون الظالمون الفاسقون هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله، قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) … الظالمون (45) … الفاسقون (47)}.

005.6.2.2.4- الآيات (51-67) أمر المؤمنين بعدم اتخاذ اليهود والنصارى أولياء لكيلا يردوهم عن دينهم. وبين لهم ضلال أهل الكتاب وعداوتهم لله والمؤمنين، وأنهم اتبعوا أهواءهم واستهزأوا بالدين وفتنوا الناس وقتلوا أنبياءهم فغضب الله عليهم ولعنهم، ثم أمر المؤمنين أن لا يتخذوهم أولياء، وإنما وليهم الله ورسوله والذين آمنوا.

فالآيات تحرم موالاة اليهود والنصارى لنقمتهم على المسلمين وتلاعبهم بالدين وبيان أثر تطبيق شرع الله في الحياة: من سنن الله تعالى أن إقامة دينه في الأرض: معناه الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء. لا افتراق بين دين ودنيا، ولا افتراق بين دنيا وآخرة. فهو شرع واحد للدنيا وللآخرة، للدنيا وللدين، قال تعالى: {ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم، ولأدخلناهم جنات النعيم} هذا جزاء الآخرة، وقال: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وهذا جزاء الدنيا.

005.6.2.2.5- الآيات (68-81) قصص طغيان أهل الكتاب وكفرهم، وقتلهم الأنبياء وتأليههم ونقضهم العقود بعد أن أخذت عليهم المواثيق وأرسلت إليهم الرسل، ثم تكذيبهم وكفرهم وشركهم وقولهم إن الله ثالث ثلاثة، واتخاذهم الكافرين أولياء، ثم لعنهم على لسان أنبيائهم، بما عصوا وكانوا يعتدون.

005.6.2.2.6- الآيات (82-86) ثناء على النصارى الذين آمنوا ودخلوا الإسلام.

005.6.3- الآيات (87-108) تعود السورة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم تبين لهم الحلال والحرام وما بقي من العقود. وفيها تشريعات عدم تحريم الطيبات وتحريم الخمر والقمار وأحكام الصيد والوصية والشهادة: تبين الآيات عن أن الله وحده يملك حق التشريع بالحل والحرمة، مع التنبيه المتكرر إلى وجوب الالتزام والطاعة لما يشرعه الله سبحانه وما يأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم والنهي والتحذير من المخالفة، والتهديد بالعذاب الأليم، والانتقام من الله. وفيها إبطال ما تبقى من تقاليد الجاهلية وشرائعها، في بعض أنواع الأنعام والذبائح مع تقرير المصدر الوحيد الصحيح للتشريع في أمور الحياة كلها، ورد الأمر في هذا إلى الله وحده.

005.6.4- وتختم بالآيات (109-120) بوقوف النصارى يوم القيامة أمام الله وأمام نبيهم للحساب، وربهم سبحانه يذكرهم بنعمه عليهم وعلى رسوله عيسى عليه السلام، وكيف أنهم نقضوا عقودهم واتخذوا عيسى بن مريم وأمه إلاهين من دون الله، ثم تبرؤ عيسى من زعمهم وتفويض أمرهم ومصيرهم لربهم. وهذه هي المواجهة التي ستواجهها كلّ الأمم مع رسلها يوم الحساب.

005.7 الشكل العام وسياق السورة:

005.7.1- إسم السورة: سُميت” بسورة المائدة” وهي أحد معجزات سيدنا عيسى عليه السلام إلى قومه عندما طلبوا منه أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء يأكلوا منها وتطمئن قلوبهم. وقد استجاب سبحانه لطلبهم فأنزل المائدة، وصار لزاماً عليهم أن يوفوا بعقدهم: أي بأن يؤمنوا ويكونوا من الشاهدين كما وعدوا، لكن الحقيقة أنهم أخلفوا ونقضوا عهدهم، وانتهى أمر النصارى بأن اتخذوا عيسى عليه السلام وأمه إلاهين. هذا هو الجو العام والإطار المناسب للأوامر الحاسمة بالوفاء بالعقود والحكم بما أنزل الله في السورة، لأنه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.

وقد يكون في ذكر الطعام وغيره من منافع الإنسان التي أحلّها الله له أو حرّمها عليه، مع ذكر المائدة، دليل على فعل الله وقدرته واستجابته لدعاء المؤمنين، لأنه وعدهم بوفائهم أن تتحقق سعادتهم وصلاح حياتهم ومحبته لهم، وبشارة ببداية غلبة المسلمين وتمتعهم بما سيبسطه الله أمامهم من النّعم والأمان، فكلّ ما في السّورة هو تتميم وإكمال لشروط التعاقد الذي سيترتب عليه تميّز هذه الأمّة واستحقاقها لهذا التمتّع بنعم الله.

005.7.2- سياق السورة باعتبار مقصدها:

005.7.2.1- تقديم عن مقصد سوره المائدة، والسور التي سبقتها: أي مقاصد السور الأربعة الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، بالإضافة إلى مقصد سورة الفاتحة:

سورة الفاتحة هي سورة قائمة بذاتها بما احتوته من حقائق الوجود وبما فيها من البيان لدين الله. وهي أم الكتاب والقرآن العظيم، وقد بينت آياتها أن الهداية إلى الصراط المستقيم هي مقصد الوجود والرسالات، نطلبها من رب العالمين. ثم تلتها أربعة من السور الطوال أوضحت وشرحت مقاصد سورة الفاتحة ومقاصد الوجود، وفصلت تفصيلاً شافياً وافياً للصراط المستقيم وكيفية الاهتداء إليه، وبينت أسباب الهداية والضلال. أول هذه السور الشارحة المفصلة المبينة هي سورة البقرة والتي هي فسطاط القرآن أي مدينته الجامعة لكل مقاصده ومواضيعه، ثم تلتها سورة آل عمران زادت التفصيل تفصيلاً بنماذج من المهتدين لنتبع خطاهم، ثم سورة النساء بنماذج عن الكفار والمنافقين لاجتناب أعمالهم، ثم المائدة بنماذج عن أناس اختارهم الله واصطفاهم بنعمة الدين والرسالة والإيمان، فأكرمهم بسبب اهتدائهم وإيمانهم ووفائهم لعهدهم، ثم نسوا نعمة ربهم فنقضوا ميثاقهم فغضب الله عليهم ولعنهم وجعل قلوبهم قاسية. هؤلاء النماذج من الناس الذين ذكرتهم سورة المائدة هم نفسهم وقد سلكوا الطريقين: لنرى كيف كان حالهم عندما اختاروا طريق الهدى (وهو كحال الذين اصطفاهم الله في آل عمران)، ثم كيف انقلب هذا الحال بعد أن ارتدوا واختاروا طريق الضلال (فصار كحال الكفار والمنافقين في النساء). فالمائدة هي التي أكملت بيان ما جاء لأجله الدين، ففيها نماذج عن أناس اهتدوا ثم ضلّوا، وكيف كان حالهم حين اهتدائهم ثم كيف صار عند ضلالهم. وبذلك تكون قد ختمت بل وأتمت تفاصيل الهداية إلى الصراط المستقيم، وبينت أن أسباب الهداية هي باتباع أوامر الله، وأن أسباب الضلال هي بالابتعاد عن دين الله والفسوق عن أمره وباتخاذ الكافرين أولياء. وقد استغرقت هذه السور حوالي سبعة أجزاء ونصف الجزء تقريباً من أصل أجزاء القرآن الثلاثون أي شكلت هذه السور الخمسة (الفاتحة والبقرة وآل عمران والنساء والمائدة) ربع القرآن.

005.7.2.2- مقصد السورة هو الأمر بالوفاء بالعقود باتباع دين الله والتزام شرعه، لأن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهما، فإن عُدِم الوفاء وحصل الاعتداء، أي فإذا لم توفوا فأحللتم الحرام وحرمتم الحلال واعتديتم، فالله على كل شيء قدير وليس عليكم فقط. فحياة الإنسان كلها عقود مع الله ممثلة في دينه، ودين الله كامل. وقد قلتم سمعنا وأطعنا، فتحمّلوا نتائج قراركم، فإما الأجر العظيم أو عذاب الجحيم، وقد حصلتم على جزء من الأجر في الدنيا إذ كفّ أيدي الناس عنكم. لا تكونوا كبني إسرائيل والنصارى في نقضهم مواثيقهم، مع رسلهم ومع خاتم الرسل، وقد قدم لهم سبحانه من نعمه في الدنيا وأنار لهم الطريق، لكن ضلّوا فعوقبوا في الدنيا قبل عذاب الآخرة الذي ينتظرهم.

005.7.2.3- سوف نلاحظ كثرة النداءات والأوامر في هذه السورة وقد احتوت على تشريعات كثيرة تنبئ بأنها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام، وهي حقاً كذلك، وقد ذكر فيها آية إكمال الدين وتمام النعمة على المؤمنين، وجميع النداءات هي من أجل تبليغ أوامر الله، التي فيها تحقيق سعادة الإنسان وصلاح حياته، والتي أقصى غاياتها الوصول إلى محبة الله له وغفرانه للذنوب ورحمته الواسعة، كما يلي:

005.7.2.3.1- تكرر النداء {يا أيها الذين آمنوا} في هذه السورة ست عشرة مرة في الآيات (1، 2، 6، 8، 11، 35، 51، 54، 57، 87، 90، 94، 95، 101، 105، 106) من أصل 89 مرة وردت في القرآن كله، وهي تنادي المؤمنين بأن يوفوا بعقودهم، فيحلّوا الحلال ويحرّموا الحرام، كما يلي:

005.7.2.3.1.1- الآيات (1، 2، 6، 8، 11، 35) فيها أوامر عن الوفاء بالعقود، وهو اتباع حكم الله؛ والتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان؛ والتطهر، وقد جعل الله الدين للطهارة وتمام النعمة؛ والقيام بحقوق الله بالعدل والقسط؛ وذكر نعمة الله، والتوكل على الله؛ والأمر بالتقرب إلى الله بالطاعة والعمل والجهاد. ولا يخفى على أحد حاجة الناس أفراد وجماعات إلى الالتزام بهذه الأخلاق التي تجلب رضا الله، تنشر الخير والسلام والأمان والعدل بين الناس.

005.7.2.3.1.2- الآيات (51، 54، 57) فيها الأمر بعدم اتخاذ اليهود والنصارى أولياء؛ والنهي عن الردة عن الدين؛ والنهي اتخاذ الذين يهزؤون ويلعبون بالدين أولياء.

005.7.2.3.1.3- الآيات (87، 90) وفيها النهي عن تحريم الطيبات وعن العدوان؛ والأمر باجتناب الخمر والميسر وكل أرجاس الشيطان.

005.7.2.3.1.4- الآيات (94، 95) وفيها تدريب المؤمنين على الخوف من الله بالغيب (وهو الإحسان)، بالابتلاء بشيء من الصيد؛ وتدريبهم على تقوى الله وخشية عقابه وطلب مغفرته بالجزاء أو الكفارة عن الذنب.

005.7.2.3.1.5- الآيات (101، 105) وفيها النهي عن كثرة السؤال عن أشياء عفا الله عنها تخفيفاً على المؤمنين؛ وبيان أن كل إنسان مسئول عن نفسه ومحاسب أمام الله على أعماله فقط، ولن يضرّه ضلال الآخرين.

005.7.2.3.1.6- الآية (106) وفيها الوصية والإشهاد عليها، حفظاً للحقوق ومنعاً من الاعتداء عليها.

005.7.2.3.2- الآيات (41، 67)، وتكرر فيها نداءان للرسول صلى الله عليه وسلم، تفضح فيهما مكر أهل الكتاب، ومسارعتهم إلى الكفر، وسماعهم الكذب، وتحريفهم كلام الله، وتحذره من ألاعيبهم، وبأن الله سيخزيهم في الدنيا ويعذبهم في الآخر، ثم تأمره بالوفاء بتبليغ رسالة ربه لهم، بالرغم من كل ما فعلوه من اعتداء وإثم وتجرؤ على الله عز وجل بقولهم يد الله مغلولة إلى آخر ما هم عليه من أوصاف ذميمة، فتبليغهم عسير وصعب جداً ولكن بالرغم من ذلك يأمره تعالى بتبليغهم.

005.7.2.3.3- الآيات (15، 19، 59، 68، 77) وتكرر فيها خمسة نداءات لأهل الكتاب، تأمرهم باتباع الرسول، فقد جاءهم بشير ونذير، وتنهاهم الكذب على الله وإخفاء دينه، وعن الكيد بالمسلمين، وتأمرهم باتباع ما أمرتهم به كتبهم، وتنهاهم عن الغلو في دينهم.

005.7.2.4- وتعليل هذا الأمر، أي أمر الوفاء بالعقود، وأن الله يفعل ما يريد، وذلك لأن لله ملك السماوات والأرض، وما فيهن، وما بينهما، يخلق ما يشاء، ويرسل المرسلين مبشرين ومنذرين، وإليه المصير، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهو على كل شيء قدير، ونجده في الآيات الخمسة التالية:

قال تعالى: {… وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) … وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)}.

وتكررت العبارة التي تدل على أن الله {على كلّ شيء قدير} بما يتناسب مع مقصد السورة في ثلاث سور من القرآن: في سورة البقرة ست مرات في الآيات (20، 106، 109، 148، 259، 284) لتبين قدرته سبحانه على أن ينزل ما يهدي به الناس ويحيي به قلوبهم في الدنيا ويتمم لهم نورهم في الآخرة، وفي سورة آل عمران أربع مرات في الآيات (26، 29، 165، 189) لتؤكد قدرته على يؤتي أو أن يمنع، وفي سورة المائدة أربع مرات في الآيات (17، 19، 40، 120) لتؤكد أن له سبحانه ملك السماوات والأرض، يفعل ما يشاء، ينعم أو يهلك، {يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء (40)} المائدة، ولم تذكر في سورة النساء، لأنها تخاطب المؤمنين بأن يعدلوا، وأن يقيموا العدل، ولم تكرر في باقي السور، بل ذكرت مرة واحدة في بعضها بما يتناسب مع مقصدها.

005.7.2.5- قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}: قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه. فأوفوا، أيها المؤمنون، له بما عقدَ عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرّم عليكم، وغير ذلك من عقوده، فلا تنكثوها ولا تنقضوها.

005.7.3- سياق السورة باعتبار موضوعاتها:

عدد آيات السورة التي تخاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم لوحدهم 33 آية، وهي (1-11، 87-108) أي حوالي ربع عدد آيات السورة. عدد الآيات التي تتحدث عن قصص أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وتحريفهم لدينهم 41 آية (12-14، 20-26، 32، 44-47، 68-81، 109-120)، أي حوالي ثلث السورة، بالإضافة إلى 5 آيات (15-19) تبين قصتهم مع محمد صلى الله عليه وسلم وهو يبين لهم ما أخفوه من كتبهم، و 6 آيات (41-43، 48-50) تحذر فيها محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من أفعال أهل الكتاب وكيدهم، فيكون المجموع = 52 آية أي قريباً من نصف عدد آيات السورة. عدد الآيات المشتركة التي يفهم منها أنها تخاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم بنفس الوقت تخاطب أهل الكتاب هو 30 آية (33-40، 51-67، 82-86) أي حوالي ربع السورة، بالإضافة إلى 5 آيات (27-31) تحكي قصة ابني آدم. فيكون المجموع = 35 آية.

نستنتج من هذا أن السورة تتكون من أربعة أجزاء تقريباً، نصف السورة (ربعين) يحكيان قصص أهل الكتاب مع أنبيائهم، ونقضهم لعقودهم وتحريفهم لدينهم، والربع الثالث يحكي قصتهم مع خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وأمته، وهو يبين لهم حقيقة دينهم وما أضاعوه أو أخفوه منه. أما الربع الرابع فهو موجه إلى أمة محمّد صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالوفاء بالعقود، وبأن لا يكونوا مثل أهل الكتاب في نقضهم لعقودهم. فمن أجل إيضاح وتفهيم مقصدها استخدمت السورة القصص كأداة، روت من خلالها أمثلة حيّة عما فعله اليهود والنصارى بمواثيقهم، كي تستفيد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أخطائهم وصوابهم، مع التعليق على أفعال أهل الكتاب كوسيلة تأكيد وتلخيص لبيان المعاني المقصودة، وقد استغرق هذا ثلاثة أرباع السورة.

005.7.4- سياقها باعتبار القصص الموجودة فيها:

005.7.4.1- لاحظنا أن مقصد السورة هو إكمال لمقاصد السور التي سبقتها: أي بيان طريق الهدى وأركان الدين (أركان الإسلام وأركان الإيمان وأحكام الشريعة). وأن مصدرها هو الله وحده لا شريك له، وهو مالك السماوات والأرض ومشرع الحلال والحرام، نزّل عليهم الكتاب والحكمة ليهديهم. والسورة اختارت نماذج من الناس بطريقة مغايرة لما حصل في سورتي آل عمران والنساء، إذ أن آل عمران سلطت الضوء على نماذج من الناس اصطفاهم الله ليكونوا قدوة صالحة إلى طريق الهدى، والنساء سلطت الضوء على نماذج من الناس أعلنوا الحرب على الدين وعلى الذين آمنوا، أما سورة المائدة فاختارت نماذج من الناس أفراد (ابني آدم) وجماعات (اليهود والنصارى والذين أشركوا)، هداهم الله في أول الأمر، ثم هم فسقوا ونقضوا عقودهم، فخسروا دنياهم وآخرتهم. فكانوا قدوة إلى الهدى باهتدائهم، وإلى الضلال بضلالهم، فلعنهم الله وغضب عليهم باختيارهم طريق الضلال، بعد أن هداهم الله باتباعهم الهدى. وقد استبدل بهم قوماً غيرهم، وجعل منهم عبرة لمن أراد أن يعرف الفرق بين الحق والضلال.

السورة تبين بالدليل أن من أراد الفلاح فعليه الوفاء بعهده مع ربه، بالسمع والطاعة وإقامة الدين، والابتعاد عن أعمال الفئات التي فسقت ونقضت عقودها، وكانوا نماذج سيئة، عن أناس لم يؤمنوا بالكتاب، ولم يهتدوا، بل مارسوا الضلال جهاراً نهاراً فكانوا قدوة إلى الفسق والضلال ونقض المواثيق. وهي أنجح وسيلة استخدمتها لكي تسهّل على المؤمنين فهم مقصدها وموضوعها الرئيسي، بأسلوب ضرب الأمثال عن تجارب حقيقية وقصص حصلت في الأمم السابقة، فجاءت ثلثي عدد آياتها، 80 آية، على شكل قصص، والثلث الباقي، 40 آية، أوامر ونواهي عن الحلال والحرام وغيره، كما يلي:

005.7.4.1.1- الآيات التي تتحدث عن قصص أهل الكتاب: (12-26، 32، 41-50، 58-66، 68-86، 109-120) = 66 آية.

005.7.4.1.2- الآيات التي تتحدث عن قصص الذين آمنوا: (6، 11، 51-53، 101-104) = 9 آيات.

005.7.4.1.3- الآيات التي تحكي قصة ابني آدم: (27-31) = 5 آيات.

005.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

قد يختلف عدد الآيات هنا عن عددها أعلاه في الشرح عن سياق السورة، والسبب وجود بعض الآيات المختلفة في نفس السياق، أو أن الآية قد تحتوي على أكثر من موضوع في نفس الوقت فتصنف هنا أو هناك. فأبقيناها في سياقها الذي قد يتضمن أيضاً موضوعات أخرى.

005.7.5.1- آيات القصص: (11-32، 41-86، 99-105، 109-120) = 87 آية.

 

005.7.6- سياق السورة باعتبار قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)}:

السورة تكررت فيها كلمة يحب ومشتقاتها 8 مرّات من أصل 83، وفي البقرة 11 مرّة وفي آل عمران 16 مرّة وفي النساء 3 مرات وفي التوبة 6 مرات.

والسورة فيها آية عجيبة تؤكد بأن الله تعالى خَلَق الناس لكي يحبهم ويحبونه، فأي شيء أعظم من هذه النعمة وهذا الفضل بحب الله لعباده، وأن طريق هذا الحب وعلامته هو اتباع الدين، بدليل أن من يرتد عن الدين، فسوف يستبدله الله بقوم يحبهم ويحبونه؛ وفيها وعد ووعيد بأن الأمر بأيديهم، فارتدادهم عن الدين يخرجهم من هذا الحب، ويستبدل الله بسبب ردتهم قوماً غيرهم، يحبهم الله بطاعتهم إيّاه واتباع دينه، وهم يحبونه بصفاته وفضله، ويجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}، وهي النتيجة النهائية، ونهاية المطاف لما أمرت به الآية التي تقدمت في آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} آل عمران. ولم يَرِد الربط بين اتّباع الدين وحب الله إلا في هذين الموضعين من القرآن.

أما كلمة الحب فقد تكررت في القرآن 83 مرّة منها، 4 مرّت التي ذكرناها هنا عن حب الله للمؤمنين وكرهه للكافرين: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)} المائدة، {تُحِبُّونَ اللَّهَ … يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ … (31)} آل عمران؛ وأربعون مرّة منها: سبعة عشرة مرّة عن الصفات التي يحبها الله في عباده، وثلاث وعشرون مرّة عن الصفات التي لا يحبها، ويبقى تسع وثلاثون مرّة هي عن الأشياء التي يحبها الناس أو حببت إليهم، كما يلي:

005.7.6.1- الصِفات التي يحبها الله هي ثمان صفات في سبعة عشرة موضعاً هي: أن الله يحب: المحسنين، خمس مرّات: في الآية 195 البقرة، والآيتين 134 و 148 آل عمران، والآيتين 13 و 93 المائدة. ويحب المتقين: ثلاث مرات في الآية 76 آل عمران، والآيتين 4 و 7 التوبة. التوابين: في الآية 222 البقرة. المتطهرين / المطهرين: في الآية 222 البقرة، والآية 108 التوبة. الصابرين: في الآية 146 آل عمران. المتوكلين: في الآية 159 آل عمران. المقسطين: ثلاث مرات في الآية 42 المائدة وفي الآيتين 9 الحجرات و 8 الممتحنة. الذين يقاتلون في سبيل الله صفاً: في الآية 4 الصف.

005.7.6.2- الصفات التي لا يحبها الله هي أربعة عشرة صفة في ثلاث وعشرون موضعاً هي أن الله لا يحب: المعتدين في الآيات 190 البقرة، 87 المائدة، 55 الأعراف. الظالمين: في الآيتين 57 و 140 آل عمران، 40 الشورى. المسرفين: في الآيتين 141 الأنعام و 31 الأعراف. المفسدين: في الآيات 64 المائدة، 77 القصص. الفساد: في الآية 205 البقرة. الكافرين: في الآيات 32 آل عمران و 45 الروم. كفار أثيم: في الآية 276 البقرة. كلّ مختال فخور: في الآيتين 18 لقمان و 23 الحديد. من كان مختالاً فخوراً: في الآية 36 النساء. الخائنين: في الآية 58 الأنفال، خواناً أثيماً: في الآية 107 النساء. كل خوان كفور: في الآية 38 الحج ، الجهر بالسوء: في الآية 148 النساء. المستكبرين: في الآية 23 النحل. الفرحين: في الآية 76 القصص.

005.7.6.3- الأشياء التي يحبها الناس أو حببت إليهم، والتي لا يحبونها، ذكرت تسع وثلاثون مرّة، ونجدها في الآيات التالية: يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله في الآية 165 البقرة، وآتى المال على حبه في الآية 177 البقرة، تحبوا شيئاً وهو شر في الآية 216 البقرة، حب الشهوات في الآية 14 آل عمران، تنفقوا مما تحبون في الآية 92 آل عمران، تحبونهم ولا يحبونكم الآية 119 آل عمران، أراكم ما تحبون الآية 152 آل عمران، يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا في الآية 188 آل عمران، أبناء الله وأحباؤه في الآية 18 المائدة، لا أحب الآفلين في الآية 76 الأنعام، لا تحبون الناصحين الآية 79 الأعراف، استحبوا الكفر على الإيمان في الآية 23 التوبة، أحب إليكم في الآية 24 التوبة، يحبون أن يتطهروا في الآية 108 التوبة، أحب إلى أبينا منا في الآية 8 يوسف، شغفها حباً في الآية 30 يوسف، السجن أحب إلي في الآية 33 يوسف، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة في الآية 3 إبراهيم، استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في الآية 107 النحل، ألقيت عليك محبة مني في الآية 39 طه، يحبون أن تشيع الفاحشة في الآية 19 النور، ألا تحبون أن يغفر الله لكم الآية 22 النور، لا تهدي من أحببت في الآية 56 القصص، أحببت حب الخير في الآية 32 ص، استحبوا العمى على الهدى في الآية 17 فصلت، حبب إليكم الإيمان في الآية 7 الحجرات، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاُ في الآية 12 الحجرات، يحبون من هاجر إليهم في الآية 9 الحشر، تحبونها نصر من الله وفتح قريب في الآية 13 الصف، تحبون العاجلة الآية 20 القيامة، الطعام على حبه في الآية 8 الإنسان، يحبون العاجلة في الآية 27 الإنسان، وتحبون المال حباً جماً الآية 20 الفجر، لحب الخير لشديد في الآية 8 العاديات.

005.7.6.4- انظر إلى المزيد عن حب الله في مقصد سورة آل عمران في الفصلين: (003.4.3- الفرق بين الحب والعبادة؛ 003.4.4- الإرشاد إلى التطبيق العملي للدين من أجل الوصول إلى حب الله). وانظر في تسهيل فهم وتدبّر القرآن: (المبحث: 7.3.6- سعادة الإنسان بمحبة الله، والخاتمة، 00.1- محبة الله).

005.7.7- سياق السورة باعتبارها مكملة لبيان طريق الهدى والصراط المستقيم الذي ابتدأته السور السابقة، وممهدة لما سيأتي بعدها من السور التي تصف نعم الله التي لا تحصى على الناس في الدنيا والآخرة:

005.7.7.1- يطالبنا ربنا، ابتداءاً، بالوفاء بالعقود ويرينا ما يدخل في هذه العقود، من الحلال والحرام والشعائر والعبادات، ثمّ ويأمرنا أن نتذكر عهده علينا ومواثيقه إذ قلنا سمعنا وأطعنا. ويقرر سبحانه أنه قد أتم نعمته على عباده الذين آمنوا، مما يستوجب أن يتمّوا عهود الله الموثقة، من الإيمان بشرائع الدين، والانقياد لها. فإكمال الدين نعمة، ما بعدها نعمة، فقد خلق الله الإنسان لهذا المقصد، أي إقامة الدين والعبادة، بإقامة الصلاة وغيرها من العبادات والتكاليف. ثم يلي نعمة الدين، نعمة تسخير الدنيا والأنعام. فقد أحلّ الله البهيمة من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، أكلاً بعد الذبح، إلا ما بيّنه من تحريم الميتة والدم وغير ذلك. وأحل لنا الطيبات، والصيد، وطعام الذين أوتوا الكتاب. وأحل لنا المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب.

005.7.7.2- الأنعام من مخلوقات الله، بدأ الحديث عنها مع إكمال الدين، أحلها، سبحانه، للإنسان لينتفع بها في الأكل واللبس والجمال. فعلاقة الإنسان مع الأنعام علاقة انتفاع. وفي السور الثلاث السابقة بين الخالق الكريم علاقة الناس بعضهم ببعض، وفي هذه السورة بين علاقة الإنسان بالأنعام وأن الله قد سخرها لهم. فبعد أن اكتمل الدين صار لزاماً أن يبين سبحانه كيف يتعامل الإنسان مع مخلوقات الله الأخرى التي سخرها الله له. والتي أباح له ذبحها وأكلها والانتفاع بها. من صيد البر والبحر. وقد صار الوقت مناسباً أن يأتي تفصيل الحلال والحرام في المأكل والمشرب في هذه السورة مع بيان حدود الله وشرعه القويم في إباحة تملكها عن طريق الصيد وابتغاء الأسباب التي بينها الشرع، وذبحها بذكر اسم الله عليها، وتفصيل سبل تداولها بين الناس بالأخذ بالأسباب التي أحلها الله والتحاكم إلى شرعه العادل: أي بالتعاون والهبة والتراضي والوصية، فلا تؤخذ بالسرقة أو قطع الطريق وغيره. ويجب أن يعلم الإنسان بأن هذه الأنعام هي جزء من الابتلاء، قال تعالى: {ليبلوكم فيما آتاكم} وأن الله هو الذي قسمها بين الناس فأعطى كل فرد وكل جماعة منهم بعدله، رزقاً حلالاً طيباً، فليرضى الإنسان بالطيب ولو أعجبه كثرة الخبيث فهما لا يستويان.

005.7.7.3- هذه السورة إسم على مسمى هي مائدة الله لعباده أكمل لهم الدين وأتم عليهم نعمته وأحل لهم الطيبات من الرزق وأحل لهم المحصنات من المؤمنات. وهي المكملة بما فيها من الأوامر والنواهي لأحكام الحلال والحرام في ما سبقها من السور. وهي الممهدة بما أحله الله فيها لعباده من بهيمة الأنعام، لسورة الأنعام وما وصف فيها من نعيم لا نهاية له ولما بعدها من السور التي تتحدث عن نعم الله في الأولين ولما بعد بعدها من السور التي تتحدث عن نعم الله في الآخرة. فبعد أن نزلت المائدة في سورة المائدة، بسطت النعم التي في سورة الأنعام. سورة المائدة لا يمل منها ولا من نعمها المؤمنين، لولا فضول وعدوان الكافرين التي سعت لأن تفسدها، بالقتل والسرقة وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وقولهم بأن يد الله مغلولة، غلت أيديهم، ولعنوا بما قالوا.

وسط هذا الإنعام الواسع والخير العميم يطالبنا ربنا بالوفاء بالعقود وبأن نتعاون على البر والتقوى ويخوّفنا من عقابه الشديد، فلا نتعاون على الإثم والعدوان: ومعنى البر كما في المفردات للراغب الأصفهاني: أي التوسع في أعمال الخير، وينسب ذلك إلى الله تعالى تارة: نحو: {إنه هو البر الرحيم (28)} الطور، وإلى العبد تارة فيقال بر العبد ربه أي توسع في طاعته فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة وذلك ضربان: ضرب في الاعتقاد وضرب في الأعمال وقد اشتمل عليه قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم (177)} البقرة، الآية.

 

005.7.7.4- والوفاء بالعقود المطالب به في السورة هو سبب من أسباب التوفيق والنعيم في الدارين في الدنيا وفي الآخرة، ويقابله نقضها فجزاؤه العقاب في الدنيا وفي الآخرة. وهذه قاعدة وسنة كونية سنها الله لعباده المؤمنين، وغير المؤمنين. ومن الأمثلة على الوفاء بالعقد، ونقض العقد سردت السورة علينا ثلاث قصص تبين تطابق أحوال الناس مع مدى التزامهم بدين الله وشرعه القويم، وأن هذه السنن الإلهية تنطبق على الناس سواء كانوا أفرادا كما في قصة ابني آدم أو جماعات كما في قصتي اليهود والنصارى. وفيما يلي بيان القصص الثلاث وهي عن أفراد وأمم ابتلاهم الله بالدين والعبادة، فأوفوا بالعقود في أول الأمر، ثم عادوا ونقضوها في النهاية:

005.7.7.4.1- قصة ابني آدم: فقد هداهما الله، وهما في الطاعة، إلى الحق والعدل بأن عهد إليهما أن يقربا قرباناً ليحكم بينهما. فلما نقض الذي لم يتقبل الله منه قربانه، وطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. كانت العاقبة أن أصبح من النادمين الخاسرين.

005.7.7.4.2- وفي قصة اليهود: فقد جعل منهم أنبياء وملوكاً وآتاهم مالم يؤت أحداً من العالمين، وكان هذا حالهم وهم في الطاعة. كما أمهلهم ربهم الله على نقضهم ميثاقهم وتكذيبهم وتاب عليهم، فظنوا أن الله لن يأخذهم بالعذاب، فمضوا على نقضهم، فعموا عن الهدى وصموا عن سماع الحق. فأنزل الله بهم بأسه، وغضب عليهم، وجعل قلوبهم قاسية، سماعون للكذب، أكالون للسحت، يسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين.

005.7.7.4.3- وفي قصة النصارى: طلبوا الآيات فكلمهم نبيهم في المهد وخلق لهم من الطين طيراً بإذن الله، وأبرأ لهم الأكمه والأبرص بإذن الله، وأحيا لهم الموتى بإذن الله، ثم حين طلبوا المائدة لتكون لهم آية، أنزلها الله عليهم، كل ذلك وهم في الطاعة، وحذرهم من المعصية والمخالفة. ثم عندما نسوا ميثاقهم، جعل الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، واتبعوا أهوائهم كما اتبع اليهود أهوائهم، يسارعون في الإثم ويأكلون السحت، وقد اتخذوا عيسى بن مريم عليه السلام وأمه إلهين، فعذبهم الله بذنوبهم.

005.7.7.5- وفي القصص الثلاث السابقة درس بليغ وموعظة جامعة للأمة الخاتمة لكي يوفوا حتى يفوزوا ولا ينقضوا فيكونوا من الخاسرين أصحاب النار. فالسورة تطالب المؤمنين بأن يوفوا بالعقود (ميثاق الله) وقد بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (7)}، وتبين لهم بأن الله قد أكمل لهم دينهم، وأحل لهم الأنعام، وأحل لهم الطيبات، ووعد بالمغفرة، وكف أيدي الناس عنهم. وتنذرهم بألا يعتدوا، ولا يحلوا شعائر الله، ولا يرتدّوا، لا يحرموا الطيبات، وألا يحملنهم بغض قوم على أن لا يعدلوا. وقد رأوا ما حصل للأمم من قبلهم، فلا يصيبنهم ما أصابهم.

005.7.7.5.1- ومن نعم الله المرغّبة في التوبة وإحداث تغيير في حياة الناس نحو الإيمان، وهو الأحسن والأصلح لهم في حياتهم، نجد أن القصص المذكورة احتوت على أن: الإيمان جلب للنصارى المائدة. والإيمان جعل في بني إسرائيل الأنبياء وجعلهم ملوكاً وآتاهم مالم يؤت أحد من العالمين، وكتب الله لهم الأرض المقدسة. وقد صرحت السورة بأن الإيمان يجلب الرزق للإنسان، كما في الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)}، والفوز بالجنة، كما في الآية: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)}، والإيمان يهدي للأعمال التي فيها رضى الله ومغفرته والفوز بالنعيم المقيم (كما في الآيات 9، 12، 16، 27، 35، إلخ )، وعدمه إلى الأعمال التي فيها سخط الله وعذابه (كما في الآيات 18، 32، 33، 41، 49، إلخ).

وهذا مشابه لما حصل للذين اصطفاهم الله في سورة آل عمران. أي احتواء سورة المائدة على نماذج عن أناس اختارهم الله (كما في آل عمران) بعد أن قبلوا الابتلاء وأوفوا عقودهم.

005.7.7.5.2- ثم بعد أن غيروا: فنقضوا عقودهم / عهودهم. غضب الله عليهم ولعنهم وجعل قلوبهم قاسية، حتى يكونوا عبرة للذين آمنوا، وهذا من الأمور التي يخوف الله بها الناس حتى لا يستمرّوا في ضلالهم. بينت السورة: أن الله يلعن الذين ينقضون ميثاقهم ويقسي قلوبهم {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين (13)}.

وهذا مشابه لما حصل للمشركين والمنافقين في سورة النساء. أي احتواء سورة النساء على نماذج من الناس غضب الله عليهم ولعنهم بسبب شركهم وكفرهم.

005.7.7.5.3- فسورة المائدة بينت الطريقين: طريق الهدى، وطريق الضلال. وأعطت نماذج وقصص حقيقية عن مصائر الفريقين: الفريق الفائز الذي اتبع طريق الهدى، والفريق الخاسر الذي اتبع طريق الضلال.

005.7.7.6- من كل ما سبق نستنتج درساً بليغاً شاملاً كاملاً، وضعته السورة بين يدي الأمة الخاتمة تبين لهم طريقي الهدى والضلال، بقصص وأمثلة حقيقية وواقعية وليس بنظريات أو افتراضات. ومن يتأمل أسلوب السورة يجد أن في هذه القصص من العبر والدروس مالا تستطيع بيانه الكثير وسائل البيان والتعبير، ومالا يستطيع استيعابه الكثير من المجلدات. والمختصر المفيد لهذا الدرس في السورة هو كما يلي:

005.7.7.6.1- أن الله سبحانه وتعالى يأخذ العقود والمواثيق على كل الأمم قبل أن يحاسبها على ما آتاها:

005.7.7.6.1.1- النصارى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم (آية 14)

005.7.7.6.1.2- اليهود: لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل (آية 12)، لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل (آية 70)، فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم (آية 13)

005.7.7.6.1.3- المسلمين: اذكروا نعمة الله وميثاقه الذي واثقكم به (آية 7)

005.7.7.6.2- أن هذه العقود سيتبعها حساب: وفي هذا تحذير شديد عن خطر يوم القيامة يوم يسأل الله الرسل ماذا أجبتم، قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ (109)}.

005.7.7.6.3- أن جزاء السمع والطاعة وعمل الصالحات هو المغفرة والأجر العظيم في الدنيا والآخرة. وجزاء الفسوق والكفر والتكذيب هو الغضب واللعنة والعذاب والجحيم في الدنيا والآخرة.

005.7.7.6.4- لو تأملنا السورة بعيون المؤمن الباحث عن الحق والهداية: فسنجد أن الدين كامل لا نقص فيه، فليس هناك سبب للخجل منه أو اللجوء إلى دين غيره أو نقض عقوده. وأن أعداءهم مغتاظون ينقمون عليهم إيمانهم. وسنجد فيها البيان الواضح والتعريف بالأعداء والتحذير تلو التحذير منهم: فيا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين كفروا، ولا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. فاليهود سماعون للكذب أكالون للسحت، يسعون في الأرض فساداً، كلما أوقدوا ناراً أطفأها الله. والنصارى اتبعوا أهوائهم كما اتبع اليهود أهوائهم، يسارعون في الإثم وأكلهم السحت. والمنافقين في قلوبهم مرض ويتولون الذين كفروا.

005.7.7.6.5- وفي المقابل لو تأملنا السورة بعيون الكفار الباحثين عن الباطل والضلالة: فسنجد التحذير الشديد من العاقبة: بأن عليهم اللعنة وغضب الله إلى يوم القيامة، وأن الله مطفئ كل النيران والحروب التي يوقدونها، وبأنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. وأن مصيرهم إلى النار يوم القيامة.

005.7.7.6.6- ولو تأملنا ما جاء في السورة من طرف محايد، شخص من خارج الأرض مثلاً، ليحكم فيما يرى بالعدل: فسيعجب كل العجب من عناد الكفار وإصرارهم على نقضهم لميثاقهم. وسيرى بأن حكم الله عليهم باللعنة والقلوب القاسية {فبما نقضهم ميثاقهم} هو حكم عادل يستحقونه، ووحيد لا ثاني له ولا بديل. إذ كيف يستطيع أحد أن يعذر أو يبرر قتل الأخ لأخيه {فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله} بغير أن يكون سببه طاعة النفس وشهواتها. وكيف نستطيع أن نفهم شرك أهل الكتاب {قالوا إن الله هو المسيح بن مريم} بغير العمى عن الحق والضلال الذي يستحق العقاب. وكيف نبرر المعصية حين قالوا {إنا لن ندخلها}، {إن فيها قوماً جبارين} بغير الفسوق الذي يستحق عقاب الضياع والحرمان. ذلك أن جزاءهم بما فعلوا {خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}، إلا الذين تابوا فإن الله غفور رحيم.

إن المنصف الذي ينظر بمنظار الحق سوف يعجب (كما عجبت الملائكة من قبل) من عظيم فساد الإنسان: لماذا يقتل الناس بعضهم بعضاً بينما أصلهم واحد، وهم أخوة من أب واحد وأم واحدة، ربهم واحد، وعدوهم الشيطان واحد، يعيشون في مكان واحد، ويأكلون من طعام واحد، أحلامهم واحدة ومصيرهم واحد؛ لماذا لا يتواصوا بالحق ولا يتعاونوا على البر حتى لا يهلكوا جميعاً؟ ولكي يصل بهم المركب إلى بر الأمان. لماذا يأكل الناس أموالهم بالباطل وقد وعدهم ربهم بأنهم لو أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم؟ لماذا يشرك الناس بربهم ويتخذون من دونه آلهة، ولله ملك السماوات والأرض، وقد خلقهم لعبادته وهو على كل شيء قدير؟

005.7.8- سياق السورة باعتبار مقصدها وهو الأمر بالوفاء بالعقود:

005.7.8.1- افتتحت السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، وتحليل ما أحله الله وتحريم ما حرم سبحانه فإن الله {يحكم ما يريد (1)} ولا معقب لحكمه، ثم ختمت ببيان مصير الذين يوفون بعقودهم والذين لا يوفون يوم القيامة، قال تعالى: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم (119)}، وقال: {لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير (120)}، ولكونه مالك السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير، فهو يحكم ما يريد، ألا له الخلق والأمر فقد ارتبط المطلع بالختام. ختام يتناسق مع المشهد العظيم الذي يتفرد الله فيه بالعلم، ويتفرد بالألوهية، ويتفرد بالقدرة، وينيب إليه الرسل، ويفوضون إليه الأمر كله، ويفوض فيه عيسى بن مريم أمره وأمر قومه إلى العزيز الحكيم. الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن، وهو على كل شيء قدير. وختام يتناسق مع السورة التي تتحدث عن “الدين” وتعرضه ممثلا في اتباع شريعة الله وحده، والتلقي منه وحده، والحكم بما أنزله دون سواه. إنه المالك الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن، والمالك هو الذي يحكم.

005.7.8.2- هذه السماوات والأرض هي ملك لله وحده أوجدها منذ مليارات السنين الضوئية وهي قائمة كما أقامها الله، ما ترى فيها من تفاوت ولا فطور، مطيعة لأمره وتسبح بحمده وتسجد له، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (44)} الإسراء، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ (18)} الحج، ثم خلق الناس قبل بضعة آلاف من السنين فقط، وكان مقصد وجودهم هو الابتلاء بالوفاء بالعقود، وسخر لهم هذه المخلوقات العظيمة، يتدبرون آيات الخالق فيها فيعلموا عظمة خالقها، ثم يمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزق الله فيشكروه على نعمه، فيعلموا أن الله هو الحق، ويعلموا أنهم لم يخلقوا عبثاً، وأن لوجودهم حكمة، وأنه عليهم قدير، وأنهم إليه راجعون، فإذا أمرهم بالوفاء والعبادة واتباع دينه أطاعوه، فهو القدير، قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}.

005.7.8.3- هذه العقود والمواثيق جُعلت من أجل سلامة الناس ومن أجل راحتهم وسعادتهم، هي موازين وقوانين تضبط أفعال الناس، كما ضبطت حركات المخلوقات الأخرى، من أجل حفظ النظام بين الناس والتوازن على الأرض، وكما علِمنا فكل المخلوقات ملتزمة طوعاً، إلا الإنسان (والجان) اختار أن يلتزم حباً ورغبة بما عند الله من النعيم الغير منقطع والخلود. وهذا ما تثبته هذه السورة فتأمر بالوفاء بالعقود لينالوا النعيم والسعادة، كما وعدهم الله، لأن الله لا يخلف وعده، فإن لم يوفوا، وارتدّوا، واعتدوا، فسوف يهلكهم الله ويستبدل قوماً غيرهم، فهو غني عنهم، ولن يضرّوه شيئاً، وإنما يضرّوا أنفسهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}. ومحبة الله لعبده: حفظه ورعايته، وتقريبه واصطفاؤه لحضرته، ومحبة العبد لله هي طاعته. وقال السعدي: فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه، وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه، وإذا أحب الله عبداً يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير، ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه، بالمحبة والوداد.

005.7.8.4- أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود ابتلاءاً: والعقود هي أوامر بفعل أشياء فيها صلاح حياتهم ونواهي عن أشياء فيها فساد حياتهم. ابتلاهم بالخير والشر، ابتلاء بسيط جداٌ يختبر انضباطهم ووفاءهم بما وعدوا به من حمل الأمانة، أمانة التكليف. يختبر إرادتهم وإيمانهم بالله كما اختبر آدم في الجنة، بأن لا يقرب الشجرة، فعصى آدم ربه فترك جنة عرضها السماوات والأرض فيها من الأشجار والثمار مالا عين رأت ولا أذن سمعت ليأكل من شجرة واحدة، نهاه الله عن الاقتراب منها. العقود هي افعل أو لا تفعل من أجل مصلحة الإنسان؛ وهي تدريب وترقية عن طريق الوفاء بهذه التعليمات فإن فعلوا أفلحوا وفازوا وإن أعرضوا خابوا وخسروا. ومن الإعجاز في هذه السورة أن اختارت قصص أقوام أطاعوا ورأوا ثمرة طاعتهم، ثم عصوا في الابتلاء البسيط فهلكوا ليكونوا عبرة لمن بعدهم. وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم، قال تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)}.

005.7.8.5- بعد صلح الحديبية، الذي فتح الله فيه على المؤمنين بدخول الناس في دينه أفواجا، وبشرهم بفتح مكة. وبعد ذكر ثلاثة من السور الطوال التي بينت دين الله (وهي البقرة وآل عمران والنساء). تنادي السورة الذين آمنوا ليوفوا بالعقود، وأن لا يحلّوا شعائر الله. وتؤكد لهم بموضوعاتها أنه سبحانه أكمل للناس دينهم، وتبين بقصصها، ثبات سنن الله العادلة وشعائره القائمة على القسط. تذكرهم بماضيهم القريب أيام يأسهم وضعفهم، إذ همّ قوم أن يبسطوا إليهم أيديهم فكف أيديهم عنهم، ثم كيف انقلبت الأمور بنعمته العظيمة التي أتمها عليهم، وثبات شرعه القويم في حياتهم. فقد عايشوا هذه الأحداث بأنفسهم، ورأوا بأم أعينهم نصر الله، وصدق وعده، وإكماله الدين، وإتمام نعمته على المؤمنين، فليوفوا بالعقود، ولا يكفروا بالإيمان. ثم تزيد في البيان عن ثبات قوانين الله وسننه، فتعيد تأكيده بالقصص عن بني اسرائيل، إذ أخذت عليهم المواثيق فنقضوها، فلعنهم الله وجعل قلوبهم قاسية. وكذلك النصارى أخذت عليهم المواثيق فنسوها فأوقع الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. وفي قصص هؤلاء وهؤلاء دروس وعبر عن ثبات سنة الله في استبدال الكافرين بالمؤمنين، وفي نصره لرسله والذين آمنوا. نصرهم في الحياة الدنيا ويوم القيامة، سنة الله ثابتة في كل الأمم فليسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.

005.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

005.8.1- هذه السورة، كما في السور الثلاث الطوال قبلها، يربطها مع تلك السور مقصد واحد هو بيان الصراط المستقيم، الذي هو طريق الهدى، وهو سبيل الله سبحانه وتعالى الذي خطّه وبيّنه للناس كي يتبعوه، رحمة بهم، وكي لا يشقوا باتباعهم لهوى النفس وضلالات الشياطين. الكون كلّه مطيع ومتبع للنظم والسنن التي خلقها الله والقائمة على أساس إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية، وتلقي منهج الحياة وشريعتها ونظامها وموازينها وقيمها منه وحده بلا شريك. إن الله هو الذي جاء بالناس إلى هذا العالم وخط لهم طريقهم فيه ومنحهم القدرة على التعامل معه، وهو وحده صاحب الحق والقادر على أن يشرّع لهم ويدبر أمرهم خير تدبير.

 

005.8.2- لقد احتوت سورة البقرة على سائر أحكام الدين بما يحتويه من إسلام وإيمان وشرائع، واحتوت سورة آل عمران على ربط هذا الدين بربه ربطاً كاملاً لا يحتاج بعدها المسلم إلى البحث عن شريك ولا إلى موالاة أحد غير الله ورسوله والذين آمنوا. واحتوت سورة النساء على التشريعات الاجتماعية التي تنظم روابط الأسرة والمجتمع والقائمة طاعة الله وطاعة الرسول، واحتوت سورة المائدة على ما يكمل هذه التشريعات بطابع تقريري صارم في التعبير، بغرض تقوية وتدعيم هذه العلاقات في المجتمع وأهمّها أن يتميّز المسلمون بتعاليم دينهم وأخلاقهم وإتمامهم لعهودهم وعقودهم عن أصحاب الديانات الأخرى، إلى جانب التشريعات التي تحلل وتحرم ألوانا من المآكل والمشارب والمناكح، أو ألوانا من الأعمال والمسالك. كل هذه الشرائع والشعائر هي دين الله الإسلام، تكمل بعضها بعضاً في السور الأربعة، وتأتي أيضاً مكتملة في السورة الواحدة، وفي أماكن أخرى من سور القرآن لتمثل طريق الهدى {الصراط المستقيم} كما أراده الله سبحانه وتعالى ورضيه للمسلمين. وبعد أن بينت هذه السور الأربعة دين الله وأكملته في سورة المائدة، قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، يأتي أمره سبحانه لعباده في سورة المائدة بالوفاء بالعقود أي: بإكمالها وإتمامها وعدم نقضها ونقصها، وهذا شامل للعقود التي بين العبد وربه، والتي بينه وبين الخلق كما بينتها السورة.

005.8.3- الدروس التاريخية من قصص الأمم السابقة التي وردت في كلّ سورة من هذه السور الأربعة جاءت من ذلك التاريخ بالمقطع الذي يتناسب مع الموضوع الغالب الذي تحتويه كلّ سورة: أي أن سورة البقرة اختارت الأحداث التي فيها تجرؤ بني إسرائيل على الشعائر التعبدية. وآل عمران اختارت اصطفاء آل عمران، واصطفاء الجيل الأول من أمّة محمّد لتكون نموذجاً حقيقياً وعملياً على تطبيق دين الله في الأرض، تهتدي به الأمم اللاحقة، وتفضح به ضلال النصارى وإضاعتهم لدين التوحيد. والنساء فيها المؤامرات التي لا تنقطع من اليهود ضد المسلمين، بالاتفاق مع المنافقين والمشركين، وعدم طاعتهم لربهم، ومحاولات أهل الكتاب والمشركين التشويش على الأعمال الصالحة للمسلمين بالضلالات، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل وما إلى ذلك، وكشف أهدافهم الخبيثة ونياتهم الماكرة بالمسلمين وتهديدهم بسوء المصير والعذاب الأليم. والمائدة اختارت أخذ المواثيق على بني اسرائيل والنصارى وبينت كفرهم وطغيانهم ونقضهم مواثيقهم ولعن الله لهم وقسوة قلوبهم وتحريفهم، ونسيانهم وغيره.

005.8.4- قال الإمام جلال الدين السيوطي: هذه السورة أيضاً شارحة لبقية مجملات سورة البقرة: فإِن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة. وكذا ما أخرجه الكفار تبعاً لآبائهم في البقرة موجز وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله‏:‏ ‏{‏ما جعل اللَهُ مِن بحيرة ولا سائبة‏}‏. وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى وهنا ذكر أول من سن القتل والسبب الذي لأجله وقع وقال‏:‏ ‏{‏من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأَرض فكأَنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً‏} ‏وذلك أبسط من قوله في البقرة‏:‏ ‏{‏ولَكُم في القِصاص حياة‏}. وفي البقرة‏:‏ ‏{‏وإِذ قلنا ادخلوا هذه القرية‏}‏ وذكر في قصتها هنا‏:‏ ‏{‏فسوفَ يأَتي اللَهُ بقومٍ يحبهم ويحبونه‏}‏. وفي البقرة قال في الخمر والميسر‏:‏ ‏{‏فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإِثمهما أَكبر من نفعهما‏}‏ وزاد في هذه السورة ذمها وصرح بتحريمها. وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة‏: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله‏:‏ ‏{‏قل هل أَنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قد ضلوا من قبل وأَضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل‏}. وأما اعتلاقها بسورة النساء: فقد ظهر لي فيه وجه بديع جداً وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحاً وضمنا، فالصريح‏:‏ عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف في قوله‏:‏ ‏{‏والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم‏}‏ وعقد الأيمان في هذه الآية وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله‏:‏ ‏{‏إِلا الذينَ يصلون إِلى قوم بينَكُم وبينَهُم ميثاق‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإِن كانَ مِن قومٍ بينكُم وبينهم ميثاق فدية‏}، ‏ والضمني‏:‏ عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة وغير ذلك من الداخل في عموم قوله‏:‏ ‏{‏إِن اللَهُ يأَمُركُم أَن تؤدوا الأمانات إِلى أَهلها‏}‏ فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل في المائدة‏:‏ ‏{‏يا أَيها الذين آمنوا أَوفوا بالعقود‏}‏ التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط. ووجه آخر في تقديم سورة النساء وتأخير سورة المائدة وهو‏:‏ أن تلك أولها‏:‏ ‏{‏يا أَيها الناس‏}‏ وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المكي وتقديم العام وشبه المكي أنسب. ثم إن هاتين السورتين النساء والمائدة في التقديم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران فتلكما في تقرير الأصول من الوحدانية والكتاب والنبوة وهاتان في تقرير الفروع الحكمية. وقد ختمت المائدة بصفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء فكأنما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى. ولما وقع في سورة النساء‏:‏ ‏{‏إِنا أَنزلنا إِليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس‏}‏ الآيات فكانت نازلة في قصة سارق سرق درعاً، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين. ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار وكرر قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏}. فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات وحسن ترتيبها وتلاحمها وتناسقها وتلازمها وقد افتتحت بالبقرة التي هي أول ما نزل بالمدينة وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها كما في حديث الترمذي.

005.8.5- وقال ابن الزبير: لما بين تعالى حال أهل الصراط المستقيم، ومن تنكب عن نهجهم، ومآل الفريقين من المغضوب عليهم والضالين، وبين لعباده المتقين ما فيه هداهم وبه خلاصهم أخذاً وتركاً، وحصل طيّ ذلك الأسهم الثمانية الواردة في حديث حذيفة رضي الله عنه في قوله: “الإسلام ثمانية أسهم: الإسلام سهم، والشهادة سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له”، وقال صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس” وقد تحصلت، وتحصل مما تقدم أن أسوأ حال المخالفين حال من غضب الله عليه ولعنه، وأن ذلك ببغيهم وعدوانهم ونقضهم العهود {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم (13)} وكأن النقض يشمل كل مخالفة، قال الله تعالى لعباده المؤمنين: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود (1)}، لأن اليهود والنصارى إنما أتى عليهم من عدم الوفاء ونقض العهود، فحذر المؤمنين، ولهذا الغرض والله أعلم ذكر هنا العهد المشار إليه في قوله تعالى {أوفوا بعهدي (40)} البقرة، فقال تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل (12)} إلى قوله {فقد ضل سواء السبيل (12)}. ثم بيّن نقضهم، وبناء اللّعنة وكل محنة ابتلوا بها عليه، فقال {فبما نقضهم ميثاقهم (13)} وذكر تعالى عهد الآخرين، فقال: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم (14)}، ثم ذكر تعالى للمؤمنين أفعال الفريقين ليتبين لهم فيما نقضوا، ثم بين تفاوتهم في البعد عن الاستجابة، فقال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة … (82)}. ثم نصح عباده، وبين لهم أبواباً، منها: دخول الامتحان، وهي سبب في كل ابتلاء، فقال تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا (87)}، فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم شارعين لأنفسكم وظالمين، وأعقب ذلك بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر … (90)}، ثم قال تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام … (97)}، فنبه على سوء العاقبة في تتبع البحث عن التعليل، وطلب الوقوف على ما تعليله مما استأثر الله بعلمه، ومن هذا الباب أتى على بني إسرائيل في أمر البقرة وغير ذلك، وجعل هذا التنبيه إيماء، ثم أعقب بما يفسره {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم … (101)}، ووعظهم بحال غيرهم في هذا، وأنهم سألوا فأخبروا، ثم امتحنوا، وقد كان التسليم أولى لهم، فقال تعالى {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (102)}، ثم عرّف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم (105)}، فلما طالب تعالى المؤمنين بالوفاء فيما نقض به غيرهم، وذكّرهم ببعض ما وقع فيه النقض وما أعقب ذلك فاعله، وأعلمهم بثمرة التزام التسليم والامتثال، أراهم جل وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته، فقال تعالى {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس (116)} إلى قوله: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم (119)} إلى آخر السورة. فحصل من جملتها الأمر بالوفاء فيما تقدمها، وحالُ من حاد ونقض، وعاقبة من وفى، وأنهم الصادقون، وقد أمرنا أن نكون معهم فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119)} التوبة.

005.8.6- انظر سورة العصر (103.8.1). التي أوجزت فيها مضامين أربع سور: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، باحتوائها على أربع صفات: الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top