العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
049.0 سورة الحجرات
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
049.1 التعريف بالسورة:
1) سورة مدنية. 2) من المثاني. 3) عدد آياتها 18 آية. 4) التاسعة والأربعون من حيث الترتيب في المصحف. 5) و السادسة بعد المائة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “المجادلة”. 6) ليس لها أسماء أخرى. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
{الله} 27 مرّة، عليم 4 مرّت، رحيم 3 مرّات، غفور 2 مرّة، يَعْلَم 2 مرّه؛ (1 مرّة): سميع، حكيم، تواب، خبير، بصير، خلق، يحب.، يمن، فضل، أنعم، امتحن. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: (1 مرة) يلتكم هي والطور، الحجرات، تنابزوا، الألقاب، تجسسوا، يغتب.
تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: آمنوا 15 مرّة؛ (5 مرّات): اتقوا، رسول، بعض؛ (3 مرّات): أخوة، يحب، فاسق، قلوب، أصلحوا، قوم، يمنّ، إسلام؛ (2 مرّه): قاتل، بغت، فاءت، قسط، إخوة، ظن، كرّه، السماوات، الأرض؛ (1 مرّه): عنتم، كفر، عصيان، فضل، نعمة، تلمزوا، عدل.
049.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
049.3 وقت ومناسبة نزولها:
يتبيّن من الأحاديث النبويّة الشريفة ويساندها أيضاً موضوع السورة أنها نزلت على شكل تعليمات وأوامر من الله سبحانه وتعالى في أوقات ومناسبات مختلفة، ثمّ جمعت في هذه السورة بسبب العلاقة التي تربط بينها. كما تنصّ الأحاديث ايضاً على أنها نزلت في الفترة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة. على سبيل المثال الآية (4) نزلت في بني تميم حين وصل وفدهم في السنة التاسعة للهجرة إلى المدينة، وأتوا منزل رسول صلى الله عليه وسلم الله فنادوه من وراء الحجرات بصوت جاف: يا محمّد أخرج إلينا، يا محمّد أخرج إلينا، يا محمّد أخرج إلينا، فخرج إليهم رسول صلى الله عليه وسلم. والآية (6) نزلت في الوليد بن عقبة والذي بعثه رسول صلى الله عليه وسلم ليجمع الزكاة من بني المصطلق، ومعلوم أنه أسلم في فتح مكّة. أخرج ابن راهويه وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بعث النبي صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يصدق أموالهم فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلاً مصدقاً فسررنا لذلك وقرّت أعيننا ثمّ إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله ورسوله ونزلت {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا (6)} الآية.
049.4 مقصد السورة:
049.4.1- مقصدها تأكيد أن كل الناس خلقوا من نفس واحدة متساوون في حقوقهم وواجباتهم، ضمن تدبير إلهي يضمن الحرية والكرامة للجميع، ومن خلال سنن كونية ثابتة، وروابط إنسانية، وحدود أخلاقية جعلها الله لكي تنظّم حياتهم وحقوقهم وفطرتهم وتحقق لهم سعادتهم وفوزهم في الدنيا والآخرة. هذه السنن والروابط والتدابير جعلها الله منّة منه لتكريمهم وإسعاد حياتهم، مع الحفاظ على حقوق الله خالقهم ورسوله وبعضهم على بعض كإخوة من نفس واحدة وكإخوة مؤمنين، هذه التدابير هي كما يلي:
049.4.1.1- مع الله ورسوله: الأمر بتقوى الله (الذي خلق الناس ليعبدوه ويؤمنوا به) وعدم التعجل في أمور الدين دون الرجوع إلى الله ورسوله وطاعة رسوله الذي اختاره الله ليبلغهم كلماته (القرآن)، وليكون لهم قدوة في العبادة، وتمييزه عن باقي الناس. (وهذا تدبير فيه تقوى قلوبهم وإيمانهم بالله الذي خلقهم ليعبدوه، وفيه حفظ حقوق الرسول قدوتهم، وحفظ أسباب كرامتهم وحقوقهم).
049.4.1.2- الناس بعضهم مع بعض: الأمر بالحفاظ على حرّية وكرامة الناس في علاقاتهم مع بعضهم البعض كإخوة متساوون في الحقوق والواجبات لا يفرّقهم لون أو عرق أو جنس، لأنهم خلقوا من نفس واحدة.
049.4.1.3- المؤمنون بعضهم مع بعض ومع باقي الناس: تكريم المؤمنين في علاقاتهم مع بعضهم البعض كإخوة في الإنسانيّة خلقوا من نفس واحدة. ثم مزيد تكريم بتقوى الله ربهم وعلاقتهم كإخوة مؤمنون بالله متساوون في اتباع دينه وقبول شرعه، وفي حقوقهم الإيمانيّة التي مكانها القلب؛ يحبون من آمن لحبهم للإيمان ويكرهون من كفر لكرههم للكفر؛ ميّز الله بينهم بأن جعل أكرمهم عند الله أتقاهم.
049.4.2- الإيمان هو ممارسة حقيقية وليس أقوال: وفيه الأمر بتقوى الله وطاعة رسوله الذي جاءهم بالإيمان من عند ربهم يأمرهم بمكارم الأخلاق وينهاهم عن مساوئ الأخلاق. والإيمان هو طاعة الله ورسوله بتطبيق فطرة الله التي فطر الناس عليها وجاء بيانها في كتابه، فهو خير لهم وحببه إلى قلوبهم وفيه رشدهم، ولا يجوز التعجل خشية اتباع الكفر والفسوق والعصيان (دون التثبت بالرجوع إليهما) ففيه شر لهم فكرّهه إليهم. والسورة تأمر بكل ما فيه بناء واستقرار المجتمع وتنهى عن مساوي الأخلاق وكل ما من شأنه أن يؤذي أو يهدم هذا المجتمع الرائع المؤمن الذي بناه الله للمؤمنين.
عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان بما أعطاه الله تعالى من العقل والتفكير والتمييز. إن الإنسان بتحمله هذه الأمانة (التي هي تحمل المسئولية في العبادات التي أمر الله بها ورسوله وفي اجتناب المحرمات التي نهى الله عنها ورسوله) كان ظلوماً جهولاً لجهله بما يترتب على هذا التحمل ولظلمه نفسه بتحملها. والدليل على هذا الجهل والظلم هو ما رأيناه ونراه من هذا الظلم والإفساد العظيم في الأرض وسفك الدماء الحاصل في زماننا هذا وعبر تاريخ الإنسان، إفساد وسفك دماء استشفّته الملائكة من تكوين الإنسان قبل أن يهبط على الأرض خليفة وقرره القرآن انظر سورة البقرة (آية 30). ولأن الله تعالى رحمن رحيم بالإنسان منّ عليه بالهدى والتقى لكي ينتشل نفسه من هذين الوصفين الذميمين الظلم والجهل إذا آمن. فأنزل الله عليه من الكتب وأرسل إليه من الرسل، ليقيم عليه الحجة بعقله وبالوحي الذي أنزله إليه، فآمن قليل منهم وكان أكثرهم كافرين.
تبين هذه السورة أن الناس باعتبار إيمانهم أو كفرهم بالله ورسله والتنزيل ينقسمون إلى ستة فئات، ثلاثة منها كافرة (الآية 7) وثلاثة مؤمنة (الآيات 13، 14)، كما يلي:
049.4.2.1- الكافرين: كفروا وعبدوا غير الله (وأعظمهم كفراً هم المشركين)
049.4.2.2- الفاسقين: عرفوا الحق أو أمنوا وأقرّوا عبادة الله ثم انسلخوا من إيمانهم {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ (11)} الحجرات
049.4.2.3- العاصين: عرفوا الحق أو أن الإيمان هو الحق فكذبوا وجحدوا بها وظلّوا على عبادة غير الله وعلى معصيتهم فلم يتقوا ويتبعوا الهدى، كما في الآية {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)} النازعات.
049.4.2.4- المسلمين: أسلموا وعبدوا الله بجوارحهم دون أن يدخل الإيمان في قلوبهم.
049.4.2.5- المتقين: أسلموا وعبدوا الله بجوارحهم وبدأ يدخل الإيمان في قلوبهم بتقواهم لله، بأعمال يجعلونها زاداً ووقاية لأنفسهم {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (197)} البقرة، ولباساً يقيهم من المعاصي ويبقيهم في الطاعات {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ (26)} الأعراف.
049.4.2.6- المؤمنين: آمنوا وعبدوا الله بجوارحهم والإيمان يعمر قلوبهم (وأعلاهم إيماناً هم المحسنين).
والناس بين هذه الفئات في صراع دائم بين تحكيم شهواتهم وبين تحكيم عقولهم وقلوبهم، وبين استجابتهم لأماني الشيطان وبين وعد الرحمن. يتقلبون بمرور الزمان وتغير الأحوال بين الإيمان والكفر، مما يستدعي لمن يبتغي النجاة، الحذر الدائم والمبادرة إلى الأعمال لأن التقلّب قد يحصل بسرعة خاصّة عند استفحال الشدائد والفتن، قال رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنا كَقِطَعِ اللّيْلِ الْمُظْلِمِ. يُصْبِحُ الرّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِنا وَيُمْسِي كَافِراً. أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً. يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدّنْيَا». رواه الترمذي.
049.4.3- الدين هو قواعد وقوانين أساسها تقوى الله وطاعة رسوله تحفظ لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه وحريّاته، وهنا مكمن السعادة (أي بالحفاظ على الحقوق والحريّات بالعدل والقسط فلا ظلم لأحد). وعلى المؤمنين العمل معاً للحفاظ على هذه الحقوق والحريّات لمصلحة الجميع لأن هذا أمر فطري جاء به دين الله (دين الفطرة) الذي حبّب إلى الناس الإيمان وكرّه إليهم الكفر. وتؤكد الحجرات أن الناس سواسية في نظر الله الذي ينظر إلى قلوبهم التي في صدورهم لا إلى صورهم، وأن مقياس الإيمان هو باطن الإنسان وليس ظاهره. وكما أن الإسلام بني على العبادات التي تظهر على الجوارح، فإن الإيمان بني على تقوى الله وحسن الخُلُق التي مكانها القلب، في كل تعاملاتهم.
049.4.4- وقال الإمام البقاعي: مقصودها الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم بالأدب معه في نفسه وفي أمته، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر ليكون دليلاً على الباطن فيسمى إيماناً، كما أن الإيمان بالله يشترط فيه فعل الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون بينة على الباطن وحجة شاهدة له {ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2)} العنكبوت. فحاصل مقصودها مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم في الأدب معه لأنها أول المفصل الذي هو ملخص القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله، وابتدئ أول المفصل بحرف من الحروف المقطعة كما ابتدئ أول البقرة بالحروف المقطعة، واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما دلت عليه آيته.
049.5 ملخص موضوع السورة:
السورة نزلت في المدينة وفي أوقات ومناسبات مختلفة على شكل تعليمات وأوامر من الله سبحانه وتعالى تُعرّف المؤمنين بدينهم فتأمرهم بالتقوى والإيمان وتنهاهم عن العصيان والفسوق.
وحاصل الدين هو تقوى الله وطاعة رسوله والعمل بما يحفظ لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه وتمكنه من أداء واجباته، بالعدل والقسط والميزان، والدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها ففيه الفلاح السعادة للجميع. ثمّ أن الناس خلقوا من نفس واحدة فهم سواسية في نظر الله الذي ينظر إلى قلوبهم التي في صدورهم لا إلى صورهم، فجعل الدين درجات وهي: الإسلام الذي بني على العبادات التي تعملها الجوارح، والإيمان الذي بني على الإحسان وتقوى الله التي مكانها القلب، والنتيجة حسن الخُلُق ومراقبة مرضاة الله ورسوله في كل تعاملاتهم مع أنفسهم ومع إخوانهم في الإيمان والإنسانيّة ومع كل ما يحيط بهم. والتقوى هي الوقاية وزاد الطريق في الإسلام إلى الإيمان والإحسان، وأعمال يجعلها الإنسان وقاية لنفسه، ولباساً يقيه من المعاصي ويبقيه في الطاعات، ونقيض التقوى هو العصيان والفجور. والسورة تتضمّن ثلاث مجموعات متساوية من الآيات (6 آيات) كل منها تأمر المؤمنين بالتقوى وتنهاهم عن كل ما يفسد عليهم دينهم ويخرّب مجتمعهم المؤمن، كما يلي:
(الآيات 1-6) تنهى المؤمنين عن التعجل في أمور الدين دون الرجوع إلى الله ورسوله، وعدم رفع الصوت عند الرسول، وكذلك التثبت من الأنباء التي تصلهم وعدم التسرع باتخاذ القرار بشأنها.
(الآيات 7-12) إن أعظم الأشياء التي تَفَضّل الله بها على المؤمنين وأعظم النعم التي أنعم بها عليهم هي الإيمان، فالله الذي خلقهم وفطرهم على حب الإيمان وزينه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فمن الخير لهم أن يتّبعوا الإيمان وأن يبتعدوا عن الكفر والعصيان، فإن لم يفعلوا فسوف يدبّ بينهم الخلاف والاقتتال بدلاً من الأخوّة والحب والعدل والقسط والإصلاح الذي أراده الله لهم. ونهاهم عن الإتيان بأمور كريهة هي من الكفر وفيها معصية وفسوق وتسبب الفتنة والاقتتال والبغي بين المؤمنين، بدلاً من الإصلاح والعدل والقسط واتباع تعاليم الرسول.
(الآيات 13-18) تقرر أن الناس متساوون في أصل خلقتهم، لكنهم متفاوتون في إيمانهم وتقواهم لله، وأن الله أراد أن ترتبط سعادتهم أو تعاستهم بالإيمان وأن يكون التفاضل بينهم على مقدار تقواهم لله وإيمانهم به، لا باعتبار حسبهم وانتمائهم العرقي.
وهكذا فالدين والإيمان فيهما محافظة على كرامة الإنسان، سواء كان مؤمناً أو كافراً، فلا يجوز في التعامل مع هذا المخلوق الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكرّمه وحمّله الأمانة بشيء من العدوان والسخرية والإهانة والتجسس على عوراته أو الحط من قيمته، فقد رفعه الله بالعقل، وعلّمه الأسماء، وأسجد له ملائكته، وحمّله أمانة الدين، ولا يجوز الانتقاص من قدره والحط من مكانته التي جعلها الله له لأن في ذلك اعتراض على خلق الله وعلى حكمه. ولوجود الكفر والإيمان في جبلّته جاءت أوامر الدين في ثلاث حلقات أمرتهم في الأولى بالأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الثانية مع عباد الله المؤمنين، وفي الثالثة مع الحلقة الأوسع وهي جميع الناس.
إن حمل الأمانة وحرّية الاختيار مابين الكفر والإيمان جَعلت الناس مختلفين في إيمانهم وأعمالهم برغم وحدة أصلهم وتكوينهم ووحدة رسالة الهدى التي فيها أمر رشدهم وبيان مقصد خلقهم وكرامتهم، وغالب أسباب اختلافهم هو اتباعهم الهوى والظلم والجهل بإعراضهم عن الهدى والتقى والعلم الذي تميّزوا به عن سائر المخلوقات، ولإظهار اختلافهم وإقامة البيّنة عليهم بشهادة أنفسهم وأعمالهم، وبالتالي جزاؤهم، فقد جعلهم على الأرض شعوباً وقبائل متمايزة ليتعارفوا وتتحقق بذلك مصالحهم، فجعل الأسرة (تحتضن الطفل وتربيه)، ثم العائلة (تحتضن الأسرة بروابط القربى)، ثم الأفخاذ ثم البطون ثم العشيرة ثم القبيلة ثم الشعوب وذلك لضرورة الخدمة والحماية والتكامل وتحقيق المصالح كما هو حاصل حقيقة ومعلوم للجميع. ثمّ أن أكثر الناس اختاروا لأنفسهم التمايز والتفاضل والتفاخر بالأنساب والألوان والأموال والأعمال، بينما الله أرد لهم التمايز والتفاضل بالتقوى، فأساؤوا حين اختاروا ظلماً وجهلاً مصلحة عاجلة وتركوا الآجلة التي هداهم إليها وجعل لهم فيها المغفرة والأجر العظيم والمصلحة الدائمة والوعد بالفوز بالنعيم المقيم في الجنة خالدين.
نسألك اللهم الهدى والتقى والعفاف والغنى وأن تلهمنا رشدنا وتقينا شرور أنفسنا.
049.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
تنقسم السورة باعتبار ترتيب آياتها (كما هو مذكور أعلاه) إلى ثلاثة مجموعات متساوية من الآيات (6 آيات) كل منها تخاطب المؤمنين وتنهاهم عن كل ما يفسد عليهم دينهم ويخرّب مجتمعهم المؤمن:
049.6.1- المجموعة الأولى في الآيات (1-6): تأمر المؤمنين مخاطبة إياهم بِ {يَا أَيَّهَا الّذيِنَ ءَامَنُواْ} ثلاث مرات: بإتباع كلام الله ورسوله لأن فيه السلامة وعدم الابتداع، وباحترام الرسول وتمييزه عن الناس فهو القدوة، وعدم رفع الصوت عنده، وبالتثبت من كلام الفاسق حتى لا تقع الفتنة.
049.6.1.1- الآية (1) أمروا بأن لا يعجّلوا الأمر قبل سماع كلام الله أو دون والاقتداء برسوله وأن يتقوه ويتأدبوا معه سبحانه وتعالى باتباع كلامه: فيخافوا الله في قولهم وفعلهم أن يخالَف أمر الله ورسوله، إن الله سميع لأقوالهم، عليم بنيّاتهم وأفعالهم.
049.6.1.2- الآيات (2-5) أمروا بعدم رفع الصوت عند الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه وتمييزه عن الناس فهو القدوة: لا يرفعون أصواتهم فوق صوت نبيهم خشية أن تبطل أعمالهم. وأن الذين يبالغون في خفض أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحنهم الله واصطفاهم لطاعته.
049.6.1.3- الآية (6) أمروا بالتثبت من الأخبار والإشاعات قبل تصديقها خشية أن يُصيبوا خطئاً أو أن يجنوا على إنسان بريء.
049.6.2- المجموعة الثانية في الآيات (7-12): لأن ما جاء به رسول الله من الدين هو لأجل صلاح حياتهم، وهو يجنبهم العنت والشدة الذي يحصل بسبب اتباعهم لأنفسهم: فقد حبب الله الإيمان الذي هو إصلاح وكرّه الكفر والفسوق والعصيان الذي يتسبب بالعنت والإفساد. الدين يأمر بالإصلاح بين المؤمنين إن اقتتلوا أو بغى بعضهم على بعض، ومن الأسباب الوقائية التي تمنع حصوله: هو عدم السخرية من المؤمنين أو إيذاءهم، وعدم ظن السوء بالمؤمنين أو التجسس عليهم أو اغتيابهم. لذلك الآيات تنهى عن الإتيان بأمور منكرة وكريهة هي من الكفر وفيها معصية وفسوق وتسبب الفتنة والاقتتال والبغي بين المؤمنين، ثم والعمل على الإصلاح بين المؤمنين بالعدل والقسط واتباع تعاليم الرسول.
(آيتان عن اتباع الإيمان، وآيتان عما يسببه اتباع غير الإيمان، وآيتان تقضيان على الخلاف وتحولانه إلى حب)
049.6.2.1- الآيات (7، 8) تخاطبان المؤمنين بأن الله جعل فيهم رسوله، يأمرهم بطاعته لأنه ما جاء من عند الله فهو الصواب وهو الإيمان المطابق للفطرة، بدليل أن المؤمنين يحبون الإيمان فقد زينه الله في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان. ولو أن الرسول أطاع الناس وعمل بمرادهم واتبع هواهم لأصابهم العنت والشدّة بسببه. كل ذلك بفضل ونعمة من الله العليم الحكيم.
049.6.2.2- الآيات (9، 10) تؤكد هاتين الآيتين بأن الناس سيظلّون مختلفين {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)} هود، حتى لو صاروا مؤمنين، راجع سورة يوسف: 012.7.3.6- اختلاف الناس، وانظر كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.1.5.8.3- البدايات والنهايات في الدين وفي الإنسان؛ لذلك تدعوا هذه الآيات إلى الإصلاح بين المؤمنين والاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله والنصرة على الحق والعدل في الحكم حتى يرجع الجميع إلى حكم الله لأن الله يحب العادلين في أحكامهم القاضين بين خلقه بالقسط. وتؤكد بأن المؤمنين برغم اختلافهم وتقاتلهم يظلّون إخوة في الدين، فوجب الصلح بين الأخوة، وليتقوا الله رجاء أن يرحمهم.
049.6.2.3- الآيات (11، 12) بالإضافة إلى النداءات الثلاثة في بداية السورة التي أمرتهم بالأدب مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع عباد الله المؤمنين، تأمرهم هنا الآيات بالآداب السلوكية مع خلق الله أجمعين، بنداءين آخرين مخاطبة إياهم بِ {يَا أَيَّهَا الّذيِنَ ءَامَنُواْ} مرّتين: الأول بعدم ظلم الناس والسخرية منهم وأن لا يتنابزوا بالألقاب التي يكرهها أصحابها، ويشعرون في المناداة بها بشيء من الإهانة والتحقير، لأنه يولد الكره والكبر بينما الإيمان يدعو إلى الحب والتواضع لله، ومن لم يتب من هذه السخرية واللمز والتنابز والفسوق فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب هذه المناهي. والثاني نداء باجتناب الظن والابتعاد عن التجسس والبحث عن عورات الناس، فإن حصل الاطلاع عليها كف عن ذكرها وسعى إلى سترها لخوف الله فإن وقع في شيء من ذلك يبادر إلى التوبة رجاء الثواب.
فالدين والإيمان فيهما محافظة على كرامة الإنسان، سواء كان مؤمناً أو كان كافراً فلا يجوز في التعامل مع هذا المخلوق الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكرّمه وحمّله الأمانة بشيء من السخرية والإهانة أو الحط من قيمته، فقد رفعه الله بالعقل، وعلّمه الأسماء، وأسجد له ملائكته، وحمّله أمانة الدين، انظر كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 6.2.4.1- تكريم الله للإنسان وتحميله الأمانة، ولا يجوز الانتقاص من قدره والحط من مكانته التي جعلها الله له لأن في ذلك اعتراض على خلق الله وعلى حكمه.
049.6.3- المجموعة الثالثة في الآيات (13-18): بعد الانتهاء من خطاب المؤمنين يأتي خطاب الحلقة الأوسع وهي جميع الناس. فتوضح ثلاثة حقائق جوهرية يقوم عليها تمييز الناس وتصنيفهم على هذه الأرض، ثم توضيح أن هذا التمييز (الذي يتفاخر به الناس، وجعله الله لعمارة الأرض) للتعارف، أما التمييز العادل الذي أرده الله هو شيء آخر وهو التقوى، كما يلي:
الحقيقة الأولى هي أن الله خلق كل الناس ليكونوا سواسية وأخوة في إنسانيتهم وأصل خلقتهم (من ذكر وأنثى) لا فرق لأحد على أحد، لأن أباهم واحد وأمهم واحدة، وفي ذلك أكبر دليل على تساوي الحقوق والمسئوليات والحريات، وزاجر عن التفاخر بالأنساب وتطاول بعض الناس على بعض.
الحقيقة الثانية أنه جعل في أصل فطرتهم أن يكونوا شعوباً وقبائل متمايزة ليتعارفوا فيعرف بعضهم بعضاً (كل واحد له إسم وعشيرة وقبيلة) وتتحقق بذلك مصالحهم (لأن سنّة الله في الأرض، ولأن تنوّع أبواب الرزق سوف تضطرهم لهذا التعارف، حيث سيحتاج بعضهم إلى بعض)، ولا تقوم حياتهم إلا بهذا التمايز، وفي هذا التمايز لا بدّ من أن تكون الأسرة (تحتضن الطفل وتربيه) ثم العائلة (أو الفصيلة تحتضن الأسرة بروابط القربى) ثم الأفخاذ ثم البطون ثم العشيرة (أو العميرة) ثم القبيلة ثم الشعوب كما هو حاصل حقيقة؛ ومعلوم للجميع. وفي هذا دليل على قدرة الله وأنه وحده المدبّر لهذا النظام في هذا الكون. وبهذا التشكيل والتميّز يحصل تشكيل هرمي أعلاه القائد أو الرئيس وأدناه العمّال أو باقي الناس، فتتكامل فيه الأدوار والمسئوليات وتتباين فيه الوظائف والأعمال لتتكامل فيه وتتحقق المصلحة العامّة للناس أي يكمل بعضهم نقص بعض (منهم الحرّاث يحرث الأرض والمزارع ينتج القمح والطحان يطحنه والخباز يصنع الخبز والبائع يبيعه، وهكذا، ثم منهم المعلم والجندي والحداد والنجار والبناء والمهندس والطبيب والفندقي وغيرهم الكثير في ما لا يحصى من المهن والأعمال والخدمات). سنة الله في خلقه والله أعلم.
الحقيقة الثالثة هي أن الناس اختاروا لأنفسهم التمايز والتفاضل والتفاخر بالأنساب والألوان والأموال والأعمال، وهذا لا يجوز، لأن هذه الأشياء من تدبير الله ولا دخل للإنسان فيها (فلا أحد يختار لونه أو بلده أو جنسه أو رزقه). بينما الله أرد لهم التمايز والتفاضل بالتقوى وهي مخافة الله (واتقاء عذابه) باجتناب نواهيه واتباع أوامره وهذا التمايز يتم باختيار الناس أنفسهم، فهم بأعمالهم يتنافسون فيحددون مكانتهم، فأكرمهم عند الله أكثرهم تقوى.
وهذا كذلك هو الصحيح لأن الناس سيحتاج بعضهم بعضاً لكي يتساندوا ويتكاملوا، وهذا لا يحصل الا بضوابط وروابط تحدد لكل فرد حقوقه وواجباته، والحكم فيها يرجع إلى شرع الله العادل الذي أنزله إليهم في دينه الإسلام. وشرع الله قائم على مكارم الأخلاق المصحوبة بتقوى الله وطاعته، وفيها صلاح الدنيا والآخرة. فالإنسان يستطيع أن يختار بنفسه أن يدخل الإسلام واتباع دين الله فيرفعه عمله ويفوز بالجنة أو يكفر فيهوي به عمله ويعذب بالنار، وهذا كما في الحديث القدسي: “يقول الرب: جعلتُ لكم نسباً وجعلتم لأنفسكم نسباً، قلت: إن أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتُم، وقلتم: فلان بن فلان. فاليوم (يعني: يوم القيامة) أرفع نسبي وأضع أنسابكم”.
049.6.3.1- الآية (13) الخطاب للناس كافة المؤمن وغيره بأن أصلهم واحد فلا تمايز بين الأعراق ولا الأنساب إلا بالتقوى:
الخطاب هنا للناس كافة بأنهم سواسية أخوة قدَرَاً، مؤمنهم وكافرهم لأن أصلهم واحد (من آدم وحوّاء). وأن الله جعل من سننه في الناس اختلاف الشعوب والقبائل للتعارف أي يعرف بعضهم بعضاً وتترابط أواصرهم (عائلات وعشائر وقبائل وأنساب وأرحام وغيره) لا لتكريم شعب على شعب أو قبيلة على أخرى. وأن التكريم الذي أراده الله لا يأتي إلا بالتقوى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
التكريم والتفاضل بين الناس يتم باتباع دين الله وتقواه، وليس بالتعصّب للأنساب كما فعل اليهود لعنهم الله الذين حين علموا صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتبعوه لأنه نسبه إلى اسماعيل جد العرب وليس يعقوب جد اليهود، ولا كما فعل أبو جهل لعنه الله وقد علم صدق الرسول وأمانته فرفض الدخول بالإسلام لكي لا يرجح كفة بني هاشم على سائر بطون قريش؛ بل أن قريش كلها شهدت واعترفت بصدق محمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يؤمنوا به تقليداً لآبائهم، وخوفاً على مناصبهم وتجارتهم وأموالهم. أي أنهم حرّفوا الفطرة وقلبوا الوضع فجعلوا من “اختلاف الشعوب والقبائل” سبب للتناكر والتطاحن والعدوان، وليس لبناء الروابط والمجتمعات والحضارات بهذه الفطرة الحكيمة التي فطر الناس عليها. إنما كان أكرمهم عند الله أتقاهم لأن الله عليم بالكرامة الحق، وهم جعلوا المكارم فيما دون ذلك من البطش وإفناء الأموال في غير وجه، الله خبير بمقدار حظوظ الناس من التقوى فهي عنده حظوظ الكرامة، فلذلك الأكرم هو الأتقى.
049.6.3.2- الآيات (14-16) يوجد فرق كبير في دين الله بين الإيمان والإسلام، فالإسلام هو أداء أركان الإسلام الخمسة يؤديها الإنسان بجوارحه (وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) ولا يكتمل دين الله إلا بالإيمان بأركانه الستة ومكانها القلب (وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). والإيمان يزيد وينقص طرديّاً بالتقرب إلى الله وحده لا شريك له بالأعمال (وهي أركان الإسلام يؤديها بجوارحه) الخالصة لوجهه الكريم بالإيمان (بأركانه ومحلّها القلب)، أي يتقي الله بالإيمان بالله وحده لا شريك له وبأعماله خالصة لوجهه الكريم. ولا يصح إيمان مسلم لا يتقي الله في عبادته، كأن يُظهِر الإيمان وأعماله تشهد بخلاف ذلك، وكأن يتعلق قلبه في أشياء أخرى ليست من دين الله أي يكون غير حاضر القلب لاه في الدنيا ومتعلق بها، أو يكون مقلّد لغيره متخذ العبادات عادة بدون تفكر كالقطيع، أو يكون مشرك يعظّم مع الله غير الله، أو يسعى إلى تحقيق دنيا من خلال اتباع أمر الله واجتناب نهيه.
من هنا صرحت الآيات أن ليس في دين الله القول دون العمل، فليس كل من قال آمنت فهو مؤمن إيماناً كاملاً، بل جعل الله العبادات طريق إلى الإيمان، فالدين يبدأ بالإسلام وهي الحلقة الأوسع ثم بدوام طاعة الله ورسوله إلى الحلقة الأضيق يبدأ الإيمان بالدخول إلى القلب شيئاً فشيئاً فيصير المسلم مؤمناً، انظر سورة النور (024.7.3.1- مقدمة عن دين الله الإسلام). ويعد الله تعالى من يطيع من عباده بأنه لن ينقص من ثواب أعمالهم شيئاً فهو غفور لمن تاب مِن ذنوبه، رحيم به. إنما المؤمنون الذين صدَّقوا بالله وبرسوله وعملوا بشرعه، ثم لم يرتابوا في إيمانهم، وبذلوا نفائس أموالهم وأرواحهم في الجهاد في سبيل الله وطاعته ورضوانه، أولئك هم الصادقون في إيمانهم. الله لا يحتاج أن يخبره أحد (كهؤلاء الأعراب) بما في ضمائرهم، وهو بكل شيء عليم، يعلم ما في السماوات وما في الأرض ولا يخفى عليه ما في القلوب من الإيمان أو الكفر، والبر أو الفجور.
049.6.3.3- الآيات (17، 18) خلق الله الناس ليرحمهم ويكرمهم لا ليعذبهم، لذلك منّ عليهم بالإسلام لأنه دين الفطرة التي فطرهم عليها وفيه منفعتهم. فلا يجوز أن تعكس المفاهيم فيمنّوا (كهؤلاء الأعراب) على رسول الله بإسلامهم، فهو جهل في حق الله وفي حق أنفسهم كبير، لأن الله يعلم غيب السماوات والأرض، وقد خلقهم ليبتليهم بأعمالهم، وهو بصير بها وسيجازيهم عليها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
049.7 الشكل العام وسياق السورة:
049.7.1- اسم السورة: سميت سورة الحجرات لأن الله تعالى ذكر فيها بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الحجرات التي كان يسكنها أمهات المؤمنين الطاهرات رضوان الله عليهن. بدأت السورة بنهي المؤمنين عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي.
تؤكد السورة على حرمة بيوت النبي، وعلى حرمة كل بيت من بيوت الناس. وعلى الحق في الخصوصية للأفراد والجماعات وضرورة احترامها وإدراك حدود الله فيها. وتتحدث عن الآداب السلوكية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع عباد الله المؤمنين، ومع خلق الله أجمعين، ولذلك وصفها بعض المفسرين بوصف «سورة الأخلاق».
049.7.2- سياق السورة باعتبار خطابها الموجّه للناس:
تتكوّن السورة باعتبار خطابها الموجّه للناس إلى مجموعتين من الآيات، كما يلي:
– مجموعة تخاطب المؤمنين ليتمسكوا بأخلاق وآداب الدين الصحيح من عند الله الذي جاءهم به رسوله، الآيات (1-12)،
– ومجموعة تخاطب الناس ليدخلوا في الدين الصحيح الآيات (13-18).
049.7.2.1- الله سبحانه وتعالى لا يريد الشقاء والعنت للإنسان أبداً فهو لم يخلقه لهذا (آية 7) بل خلقه ليكرمه فيتفضّل عليه ويفيض عليه من نعمه (آية 8) ويفيض عليه من رحماته (آية 10). ومن أعظم ما منّ الله به على الناس هو أن هداهم للإيمان (آية 17)، لكن الإيمان درجات متفاوتة، لا يتساوى فيه جميع المؤمنين، وأن مكانه القلب، فامتحن هذا الإيمان بالتقوى (آية 3) أي أن درجة أيمان المؤمن (أو قوة إيمانه أو ضعفه) في الإيمان تتوقف على مقدار تقواه لله، أي في ما يجعل لنفسه من وقاية من عقاب الله، عن طريق اتباع ما أمره به واجتناب ما نهاه عنه، والتي هي في محصلتها اتباع دين الله (دين الفطرة) وما فيه من أوامر بعمل أشياء يحبها الإنسان وزينها الله في قلبه لأنها من الفطرة التي فطره عليها، ونواهي عن اقتراف أعمال يكرهها الإنسان لأنها تعاكس فطرته وتعاكس نظام الكون الذي خلقه الله (آية 7) .
من أجل تحقيق هذا المقصد جعل الله للناس على هذه الأرض نوعين أو صنفين من الأخوّة، وجعل لكل أخوّة من هاتين الأخوّتين آدابها وقوانينها الخاصة بها. ثم فرض عليهم الالتزام بآداب كل واحدة من الأخوّتين بالطريقة التي أرادها الله، وبينها في كتابه لكي يحصل للناس بذلك خيري الدنيا والآخرة، كما يلي:
049.7.2.1.1- أخوّة تكوينية جعلها الله تبعاً لخلق الناس من نفس واحدة ثم خلق منها زوجها (الزوجان يرتبطان بروابط الأسرة الواحدة) ثم جعلهم شعوباً وقبائل (تربطهم روابط الشعوب والقبائل والعشائر والعوائل كما هو معلوم) ليتعارفوا وتتكامل جماعاتهم في أمم تتعاون على تحقيق المصالح الدنيويّة. وهذه الأخوّة في الإنسانيّة هي شيء مفروض من الله على الإنسان ولا اختيار له فيها، لذلك فالفوارق فيها ليست مقياس للتكريم بين الناس، وكذلك غير داخلة في ثواب الله وعقابه.
049.7.2.1.2- أخوّة شرعية جعلها الله تَبَعاً لاختيار الإنسان في عالم الغيب حين خيره الله بحمل الأمانة (انظر سورة الأحزاب) وجعله الله خليفة له في الأرض، والغرض منها أولاً: هو ابتلاء الإنسان وتمحيصه لكي ينال الثواب أو العقاب في الدنيا وفي الآخرة تبعاً لاختياره وبمقدار عمله، وثانياً: أن يتم باختيار الإنسان (كخليفة الله في الأرض) تحقيق العدل والقسط ومكارم الأخلاق بين الناس لتحقيق سعادتهم وأمنهم وسلامتهم وحريتهم ورضاءهم، وفي المقابل منع الفساد في الأرض والاعتداء على حقوق العباد في الدنيا، وفق سننه وفطرته التي بينها في دينه وفي كتابه. وهذه الأخوّة قسّمت الناس إلى فئتين، فئة مؤمنة، تجمعها أخوّة الإيمان، من صفاتها أنها أوْفت ما عاهدت الله عليه من الإيمان بالله واتباع دينه وهو الإصلاح في الأرض باختيارها، وفئة نقضت عهدها مع الله فكفرت بدينه وأفسدت سنته وفطرته التي فطر الناس والوجود عليها. ثم إنّ تكريم الإنسان تابع هنا لاختياره وفعله: فله من الله التكريم والثواب إن هو آمن وأطاع أمر الله ونهيه، وعليه غضب الله وعقابه إن هو كفر وعصى.
049.7.2.2- ولا يجوز الخلط بين آداب وقوانين الأخوّتين، كأن نكرم الإنسان بسبب ماله أو لحسبه أو كأن لا نكرمه بسبب فقره أو لأنه من عامّة الناس. وكذلك كأن نقطع روابطنا الأسرية والاجتماعية مع قريب أو زميل لأنه يخالفنا في الدين والرأي، أو أن نكفر بالدين بسبب روابطنا الأسرية والعشائرية أو بسبب تقليدنا لما وجدنا عليه آباءنا. لأن ذلك سيؤدي إلى الفساد وشقاء الناس في الدنيا والآخرة.
049.7.2.2.1- الأخوّة الأولى تشريعية هي أخوّة الإيمان: قائمة على الحب في الله وحب الإيمان الذي حببه إليهم وزينه في قلوبهم، فهي أخوّة تنهل من معين واحد لا ينتهي كله أخلاق وآداب يحاسب عليها رب العباد إله واحد عادل تواب رحيم، أخوة الكل فيها سواء وفيها حب لا نهائي مصدره الكمال الإلهي، لا مجال فيه للتحاسد والتباغض، لأنه حب وأخوّة في الدين الذي تفضل الله به على عباده، لا ينتهي مدده لأنه يسعى إلى الكمال في محاسن الأعمال وجميل الصفات ومكارم الأخلاق التي بيّنها الله في كلامه في كتابه القرآن، والكلّ مدعو لأن ينهل منه ما يشاء فهو مأدبة الله التي لا تنفذ. ثم إن الله جعل التفاضل هنا بين الأخوة المؤمنين (كما أكدت عليه هذه السورة) هو تفاضل في التقوى والالتزام بأوامر الله ونواهيه وهي كلّها خير وصلاح وفوز في الدنيا والآخرة.
049.7.2.2.2- الثاني هو أخوّة الإنسانية: وهو أن أصل الناس واحد من ذكر وأنثى، كلهم سواسية في أفكارهم ومشاعرهم ورغباتهم وآمالهم، مهما اختلفت صورهم وألوانهم وأجسامهم، جعلهم الله شعوباً وقبائل وفاضل بينهم في حظوظ الدنيا لكي يتعارفوا وتتكامل بهم الحياة، وهي أخوّة جبرية لا دخل للإنسان فيها جعلها الله ليتعارف الناس فيما بينهم، وفيها تمايز مادّي تكويني لا دخل للإنسان فيه جعله الله لتتكامل الحياة فيخدم الناس بعضهم بعضاً ويحققوا مصالح بعضهم بعضاً لصالح الجميع على هذه الأرض.
049.7.3- سياق السورة باعتبار أن كل شيء هو من فعل الله وأمره وفطرته وتدبيره:
وأن كل ما يفعله الإنسان من خير أو شر لا يخرج عن هذا، وأنهم ليس لهم بفعلهم سوى كسب جزاء فعلهم الذي قضاه وقدّره الله فينالوا بفعلهم أجراً أو إثماً.
049.7.3.1- الله أعطانا الحياة وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأعطانا ومَنّ علينا وأسجد الملائكة لنا من دون سابق عمل عملناه له أو خدمة قدّمناها، وكرّمنا وجعلنا خلفاءه في الأرض، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ونعم أجر العاملين. نعمه وآلائه علينا لا تحصى، ولن نستطيع أن نؤديه حمده ولا شكره على هذه الآلاء والنعم لأن نعمته علينا بحمده وشكره تستوجب أيضاً الحمد والشكر.
نحن نعظّم الله خالقنا ونسبحه ونعبده ونحبّه لكمال صفاته وجمال مخلوقاته وجلال قدرته، ونحب رسول الله لأن الله قرن اسمه باسمه، ولتبليغه رسالة ربه ولعظيم أخلاقه فقد كان خلقه القرآن، ونحب من الناس ما التزموا به وما قاموا به من هذه الصفات والأخلاق. هذه السورة دليل على تكريم الله وحبّه لنا لأنها تصنع الأمن والأمان والطمأنينة في المجتمع، وفيها الحضارة والمدنية والقانون، تجعل الإنسان يطير طرباً على ما ورد فيها من عظيم تقدير الله للإنسان وعلى ما فيها من جمال الأخلاق واحترام الحقوق وخصوصيات الغير وحرياتهم وكرامتهم، وعدم السخرية منهم أو اللمز أو التنابز بالألقاب، والحث على حسن الظن وعدم التجسس وعدم الغيبة، وفيها الأمر على احترام حقوق الناس كإخوة في البشرية، فلكل شخص حدود في حريّته لا تتجاوز حرّية الآخرين، ولكل شخص فلكه الخاص الذي يدور فيه كما تدور الكواكب والنجوم والمجرات في أفلاكها التي لا تتقاطع في السماء.
كل ما في هذا الكون المنتظم والمتزن والجميل يدل على كمال الله وجماله وجلاله، جمال هذا الكون بأنه متوازن قائم على نظام وترابط دقيق واضح، وأنه ليس عشوائي، جماله أن كل مكون من مكوناته يعرف بفطرته فلكه الذي يجب عليه أن يدور فيه، ويعرف بفطرته فلك غيره الذي يجب عليه ألا يقترب منه، ويعرف مكانه الآمن والسليم الذي يحفظ له بقاءه، ويعرف مكانه الغير آمن الذي فيه فناءه. كلها موازين وسنن إلهية ونظام وروابط جعلها الله لكي يعمر الكون ويدوم إلى ما شاء الله له أن يدوم. لا توجد إرادة في الوجود سوى إرادة الله، أما إرادة المخلوقات فلها مجال ضيق جداً ومحدد جعله الله تبعاً لإرادته، كإرادة الإنسان بأن يفعل أو ألا يفعل: فإذا فعل أو لم يفعل ما أمره الله (وأراده الله له) أمن وسلم، وإن لم يفعل أو فعل ما نهاه الله عنه (وما لا يريده الله له) خاف وهلك.
049.7.3.2- الله تعالى خلق الإنسان ليكرمه، ولكن هذا الإكرام مرتبط بشرط واحد هو أن يتقي الإنسان ربه فيطيعه فلا يعصيه فوق أرضه وتحت سمائه، إذ أنه ليس من العدل يعصي الإنسان ربه ويفسد ويظلم الناس وفي نفس الوقت يحتفظ بتكريم الله له، بل لا بد أن يعاقب على ظلمه لغيره وإفساده.
الحقيقة التي يعقلها كل إنسان متدبّر على هذه الأرض أن الله خالق الكون له من صفات الكمال والجمال والجلال ما يجعله يتقن صنعته إلى حدّ الكمال والجمال الذي هو من صفته، ويجعله يزن أدق الأشياء وأعظمها، فلا يخلق شيئاً عبثاَ أو لهواً ولعباً، ولو تفكرنا بآلاء الله التي لا تحصى علينا وتدبيره لأدق شئوننا ونحن في بطون أمهاتنا ثم بعد ولادتنا وأثناء مسير حياتنا ثم في جعله يوماً للبعث والحساب لعلمنا عظيم تكريمه لنا وحبه لنا. لقد كنا ضعفاء فربّانا وكنا فقراء فأغنانا وكنا ضالين فهدانا ووعدنا بالرحمة يوم القيامة والجزاء العادل على أعمالنا. وأعظم تكريم من الله لنا كان أن هدانا للإيمان به وبرسوله (آية 17)، لأن كل منفعة أرادها الله لنا أو أردناها لأنفسنا لا تأتي إلا عن طريق هذا الإيمان، الذي هو أعظم نعمة أنعمها وحببها وزينها في القلوب الله العليم الحكيم.
049.7.4- سياق السورة باعتبار أن هناك فرق بين الإسلام والإيمان وأن الإيمان درجات:
لأن الله يحب الناس فقد شرع لهم دينه الإسلام وأمرهم باتباعه لكي يسعدوا، ودينه الإسلام هو دين الفطرة التي فطر الناس عليها، وبمقدار ما يلتزم الإنسان بالدين بمقدار ما تتحقق له السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة وبمقدار ما يخالف من الدين يحصل له العنت والشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذه هي الأمانة التي حملها الإنسان بعد أن ميّزه الله بالعقل، واختار الإنسان أن يكون مختاراً لبعض أفعاله، فيؤدي بعض أعماله باختياره، ولأن الناس غير متساوون ومختلفون في اختياراتهم، أراد الله أن يمايز بينهم ويجزيهم على مقدار أعمالهم، وذلك بأن يمتحن قلوبهم للتقوى (آية 3) وكما في الآية {يبلوكم أيكم أحسن عملاً (2)} الملك.
مصالح الناس الدنيوية تتحقق على أحسن أحوالها وأسمى معانيها وأمانيها إذا تم التعامل فيها على أساس دين الله خالق كل شيء وفاطره الذي أنزله إليهم بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم، دين يبدأ بالإسلام أي بعبادة الله واتّباع أوامره ونواهيه بجوارحه، ويتدرّج هذا الاتّباع ويتصاعد من خلال مراقبة المسلم لربه وتفاعله مع عظيم هديه، حتى يدخل الإيمان في القلب فيكتمل الدين. لأن الله يحبهم فقد هداهم للإيمان بمنّه وكرمه وفتحه على الإنسان فلا يضل ولا يشقى، ولولا أن هداهم الله لظلّوا في طغيانهم يعمهون.
دين الله هو الميزان الذي يقيس الإنسان عليه نفسه، ذلك ومن خلال مراقبته لما يفعل الله به: من انشراح في الصدر بسبب ايمانه وقربه من الله خالقه، ومن السعادة في الدنيا بسبب توفيق الله له وتأييده وتسهيل أمور حياته وهدايته إلى الصراط المستقيم؛ أو من عقاب الله له إذا كان على الضلال فالله لا يهديه إلى الإيمان بسبب ضلاله ويعاقبه بالضنك والشدة والشقاء في الدنيا بسبب مخالفته أمر الله ونهيه. فتولّد هذه المراقبة لفعل الله في الإنسان من معافاة وعقوبته بسبب أعماله إيماناً عظيماً بوجود الله في كل حركة وسكنة تجعل في قلب المؤمن تقوى لله متصاعدة تجعله يؤمن بأن كل ما أصابه أو أخطأه فهو من الله، إلى أن تصل هذه التقوى والإيمان إلى درجة من الإحسان في الطاعة تجعله يطيع الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.
ويمكن تقريب هذه التدرج في الإيمان برسم ثلاثة دوائر محيطة ببعضها: الدائرة الأولى هي الإسلام كلما زاد التزام المسلم بالعبادة والطاعة يزداد في تقوى الله حتى يدخل الإيمان إلى قلبه، فينتقل من دائرة الإسلام إلى الدائرة الأصغر وهي الإيمان، وكلما زاد إيمانه حتى يشعر بالله كأنه يراه ينتقل من دائرة الإيمان إلى الدائرة الصغرى وهي دائرة الإحسان، والعكس صحيح فقلب المؤمن بين يدي الله يقلبه كيف يشاء يصبح مؤمناً فيمسي كافراً ويمسي كافراً فيصبح مؤمناً، كما في الحديث: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ “يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ” فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ “نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ”.
049.7.5- أخوة الإنسانيّة وأخوّة الإيمان:
تقرر السورة أن الناس أصلهم واحد، أي مخلوقين من نفس واحدة وهي آدم، وقد خلقه الله ليكرمه {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13)} هو وذريته في البر والبحر ويرزقهم من الطيبات انظر كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 6.2.4.1- تكريم الله للإنسان وتحميله الأمانة. وفي هذا دلالة على أن الناس كلّهم لهم كرامة عند الله، لكن أكرمهم أتقاهم. ولكي يدوم هذا التكريم للناس وتصلح حياتهم الدنيويّة بتحقيق كل احتياجاتهم جعلهم شعوباً وقبائل، وكذلك لكي يحافظ على حقوقهم ويهذب من نزعة الفساد وسفك الدماء عند الإنسان جعل الدين. فالإنسان كإنسان له كرامة عظيمة عند الله، أحب الله أن تحترم هذه الكرامة ويدوم هذا التكريم، فجعل له الدين وحببه إلى نفسه وزينه في قلبه، وجعل في الدين كل ما يحقق كرامته ومصلحته وسعادته. وجعل في الدين كل الناس سواسية لهم حقوقهم البشرية الكاملة في الحياة الكريمة والاختيار الحر، لا فرق، الكافرين مثلهم مثل المؤمنين.
وكذلك أن يتعامل المؤمنين مع الكفار بأخلاق الإسلام فلا ينتقموا منهم لإصرارهم على الكفر (لأن الهداية بيد الله، وأنه لا إكراه في الدين)، تماماً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء عودته من الطائف، حيث قال: “… فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً” متفق عليه. وكان يقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” متفق عليه. كذلك حين فتح مكّة فلم ينتقم من قريش الذين عذّبوا المسلمين وقاطعوهم وهجّروهم من ديارهم وحاربوهم، ولم يكرههم على اتباع دينه، بل قال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
هذه الأخوّة الإنسانيّة والإيمانيّة أمر الله بها في القرآن في آية جامعة لمكارم الأخلاق، قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} الأعراف، وفي الآية التي تلتها أمر بالاستعاذة من شر الشيطان، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} الأعراف، قال ابن القيم رحمه الله: فأمره باتقاء شر الجاهلين بالإعراض عنهم، وباتقاء شر الشيطان بالاستعاذة منه. وقال الشيخ السعدي: هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، ثم قال: وأما ما ينبغي أن يعامل به العبد شياطين الإنس والجن، فهو في الآية الثانية.
فالمسلم والمؤمن تعني إنسان صادق وأمين وعفيف ومنضبط ورحيم، له عهد وله وعد، وهو لا يتجاوز حدود ما أمره الله به. ورد فيه ذلك آيات وأحاديث كثيره، منها:
{وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)} سورة الزخرف، أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً، وبالفعل بالصفح رأينا خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص وغيرهم من صناديد الكفر يصيرون قادةً في صفوف المسلمين. {فسوف يعلمون} هذا تهديد من اللّه تعالى لهم. لذلك تلتها سورة الدخان. وقال: {كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس 110)} آل عمران، أي لكلّ النّاس، وقال: {وقولوا للنّاس حسنا (83)} البقرة، {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ويخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين (8)} الممتحنة، {وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ (134)} آل عمران، {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} سورة فصلت.
049.7.6- قال الرازي: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق: وهي إما مع الله تعالى، أو مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس. وهم على صنفين؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو خارجاً عنها، وهو الفاسق. والداخل في طائفتهم، السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضراً عندهم، أو غائباً عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها – يتعلق بجانب الله.
وثانيها – بجانب الرسول.
وثالثها – بجانب الفسّاق.
ورابعها – بالمؤمن الحاضر.
وخامسها – بالمؤمن الغائب.
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات: {يَا أَيَّهَا الّذيِنَ ءَامَنُواْ}، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانياً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}، لبيان وجوب احترام النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ثالثاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ}، لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبيّن ذلك عند تفسير قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}.
وقال رابعاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} وقال: {وَلا تَنَابَزُوا} لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم، والإزراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامساً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وقال: {وَلا تَجَسَّسُوا} وقال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} لبيان وجوب الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضراً لتأذى. وهو في غاية الحسن من الترتيب.
فإن قيل: لِمَ لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة. الابتداء بالله، ورسوله، ثم بالمؤمن الحاضر، ثم بالمؤمن الغائب، ثم الفاسق؟
نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق، والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفاراً للصدور. وأما المؤمن الحاضر، أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدٍّ يفضي إلى القتال. ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق، آية الاقتتال فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}؟ انتهى.
049.7.7- سياق السورة باعتبار القصص الموجودة فيها:
احتوت السورة على ثمان آيات تشير فيها إلى أحداث وقصص نزلت بمناسبتها بعض آيات السورة، وبالإشارة إلى هذه القصص يسهل علينا فهم مقصد السورة وموضوعاتها. والآيات هي:
049.7.7.1- الآيات (3-5) نزلت في بني تميم كما ذكرناه أعلاه في مناسبة نزول السورة. وهي تصف حال الذين يكفون رفع أصواتهم عند رسول الله بأنهم متقون ولهم الأجر، وحال بعض الأعراب جاءوا ينادون رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم من وراء حجراته وأنهم بتصرفهم هذا لا يعقلون.
049.7.7.2- الآية (6) نزلت في الوليد بن عقبة والذي بعثه رسول صلى الله عليه وسلم ليجمع الزكاة من بني المصطلق، فأخبره أنهم قد ارتدّوا عن الإسلام، بينما هم لا يزالون مسلمين.
049.7.7.3- الآيات (14-17) وذُكر أنها نـزلت في أعراب من بني أسد بن خُزَيمة. وإنما أمر النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بذلك، لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم، ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم، فقيل لهم: قولوا أسلمنا، لأن الإسلام قول، والإيمان قول وعمل. وقال آخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بإسلامهم، فقال الله لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: قل لهم لم تؤمنوا، ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل.
049.7.8- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
049.7.8.1- آيات القصص: (1-8، 14-17) = 12 آية.
049.7.8.2- آيات الله في السماوات والأرض في الآيات: (13) = 1 آية.
049.7.8.3- مقصد السورة وموضوعاتها في الآيات: (9-12، 18) = 5 آيات.
049.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
049.8.1- بعد كل تلك الفتوحات والبشارات للمؤمنين في سورة الفتح، تأتي هذه السورة امتداداً لتلك المغانم والبشارات. بإيجاد البلد والمجتمع الآمن، وترسيخ الاحترام المتبادل والتعاون على رفع الظلم، مجتمع لا سوء نية فيه لا غيبة ولا نميمة الكل يرى غيره أحسن منه، ما الذي يريده المؤمنون في هذا المجتمع المسلم، بل ما أقصى ما يطمح إليه المؤمن في المجتمع المسلم أكثر مما جاء في هذه السورة: من مخافة مخالفة أمر الله، وتقديرهم لحق نبيهم، وعدم تصديق الإشاعات، والإصلاح بين المؤمنين، واجتناب السخرية والتنابز بالألقاب وظن السوء والغيبة فأصل الناس واحد وربهم واحد.
049.8.2- الله تعالى أحسن معاملة المؤمنين فرضي عنهم وأنزل السكينة عليهم وجعل يده فوق أيديهم وأكرمهم بالفتوحات والمغانم المعجلة والمؤجلة ووعدهم بأن يجعلهم مجتمعاً متراحماً ومتآزراً أشداء على الكفار رحماء بينهم لا يبتغون سوى رضى الله عنهم. وهو هنا في الحجرات يريد تتواصل منّته ونعمته عليهم فيبين لهم الأسباب ويحدد لهم الآداب التي إذا داوموا عليها دام رضاه ونعمته عليهم، وإذا خالفوها حبطت أعمالهم فأصبحوا نادمين. من ناحية ثانية يريد تعالى أن يمتد لهم حب نبيهم وحبهم لبعضهم فيكونون رحماء فيما بينهم أشداء على الكفار يتقون الله ولا يخافون سوى فقد رضى ربهم.
تتحدث عن المجتمع المؤمن بعد الفتح وتمام النعمة واكتمال أركانه بنعمة الدين والمغانم الدنيوية، فلا وجود بعد قيام هذا المجتمع للقتل ولا السرقة ولا التعدّي على حريات الآخرين ولا حقوقهم ولا أموالهم ولا أعراضهم (كما كان سائداً في عصر الجاهلية من العصبية وحميّة الجاهلية وكثرة الغزو والسلب والنهب والمجتمعات الظالمة التي تعبد الأوثان والقوي يأكل فيها الضعيف). لا حاجة الآن لأخلاق الجاهلية لأن الدين بات يحكم الإنسان بعلم الله الذي يعلم ما توسوس به نفسه، دين جاء بالعدل بين الناس وليكمل مكارم الأخلاق، وليس أجمل ولا أعظم ولا أسعد من مجتمع قائم على العدل وعدم الظلم، ينام فيه الفرد قرير العين أمناً على نفسه وماله وعرضه. هذه والله قمة الفتح والنعمة والغنيمة لأن كل فرد من المجتمع سواء كان صغيراً أو كبيراً قوياً أو ضعيفاً عربياً أو أعجمياً ضمن له الدين حقه وحريّته.
مجتمع ظاهره كباطنه معطاء قائم على الحق متعاون على إقامة شرع الله وخلافة الأرض، متراحم بين أفراده سعيد بنعمة الله عليه متحاب في الله لا وجود لسوء نية فيه لا غيبة ولا نميمة بل الكل يرى غيره أحسن منه يريد له الخير والسعادة.
049.8.3- قال الإمام جلال الدين السيوطي: لا يخفى تآخي هاتين السورتين الفتح والحجرات مع ما قبلهما لكونهما مدنيتين ومشتملتين على أحكام فتلك فيها قتال الكفار وهذه فيها قتال البغاة وتلك ختمت بالذين آمنوا وهذه افتتحت بالذين آمنوا وتلك تضمنت تشريفاً له صلى الله عليه وسلم خصوصاً مطلعها وهذه أيضاً في مطلعها أنواع من التشريف له صلى الله عليه وسلم.
049.8.4- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما وصف سبحانه عباده المصطفين صحابه نبيه والمخصوصين بفضيلة مشاهدته وكريم عشرته فقال {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم (29)} الفتح، إلى آخره، فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى بذلك في التوراة والإنجيل، وهذه خصيصة انفردوا بمزية تكريمها وجرت على واضح قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف (110)} آل عمران، إلى آخره، وشهدت لهم بعظيم المنزلة لديه، ناسب هذا طلبهم بتوفية الشعب الإيمانية قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً على أوضح عمل وأخلص نية، وتنزيههم عما وقع من قبلهم في مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل {يا موسى ادع لنا ربك (134)} الأعراف، إلى ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله (1)} الآية و {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول (2)} – إلى قوله – {والله غفور رحيم (5)} فطلبوا بآداب تناسب عليّ إيمانهم وإن اغتفر بعضه لغيرهم من ليس في درجتهم وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين فكأن قد قيل لهم: لا تغفلوا ما منح لكم في التوراة والإنجيل، فإنها درجة لم ينلها غيركم من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث في الخطاب، أو سوء قصد في الجواب، وطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم وليكن علنكم منبئاً بسليم سرائركم {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى (3)} ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4)} ثم أمروا بالتثبت عند نزغة الشيطان، أو تقول ذي بهتان {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ (6)} الآية، ثم أمرهم بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين العتاة وتحسين العشرة والتزام ما يثمر الحب والتودد الإيماني والتواضع، وأن الخير كله في التقوى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم (13)} وكل ذلك محذر لعلي صفاتهم التي وصفوا بها في خاتمة سورة محمد.
049.8.5- انظر أيضاً تناسب وتناسق سورة الأحقاف مع غيرها من السور؛ وتناسب سور الحواميم مع بعضها، ومع السورتين التي قبلها والتي بعدها (في 046.8.2)؛ وتناسب وتناسق الحواميم مع بعضها ومع قبلها وبعدها في (046.8.4).
انظر تناسب سورة الفتح مع غيرها من السور (048.8.1).