العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


065.0 سورة الطلاق


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


065.1 التعريف بالسورة:

1) مدنية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 12 آية. 4) الخامسة والستون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والتاسعة والتسعون حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “الإنسان”.  6) أسماء أخرى للسورة: وتسمى أيضاً سورة النساء القصرى وكذا سماها ابن مسعود أخرجه البخاري وغيره وقد أنكره الداودي فقال: لا أرى.

7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة: الله 24 مرّة، أنزل 3 مرّات، رب 2 مرّة؛ (1 مرّة): لله، هو، خَلق، قدير، أحسن، حاسب، مخرج، بالغ. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الآيات مرة واحدة: {قد جعل الله لكل شيء قدراً}، {قد أنزل الله إليكم ذكراً}، {قد أحسن الله له رزقاً}.

تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: أمر 9 مرات، يتق 5 مرات؛ (4 مرّات): يخرج، حمل، قد؛ (3 مرّات): معروف، عدة، ينفق، رزق، حدود؛ (2 مرّة): طلق، سكن، قدر، سعة، عسر، رضع، محيض؛ (1 مرة): أحصوا، يتوكل.

065.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

065.3 وقت ومناسبة نزولها:

ذكر عبد الله بن مسعود وهو ما تؤكّده الشواهد من داخل السورة، أنها نزلت بعد الآيات من سورة البقرة والتي نزلت فيها لأول مرّة أحكام إلهيّة تخص موضوع الطلاق. وعلى الرغم من صعوبة تحديد وقت النزول بالضبط، فإن الأحاديث تشير إلى أنها نزلت عندما بدأ الناس يخطئون في فهم ما جاء في سورة البقرة، وفي تطبيق نصوصها، فأنزل الله هذه السورة لتصحيحها.

065.4 مقصد السورة:

065.4.1- الأمر بتقوى الله في اتباع أوامره واجتناب نواهيه والتزام حدوده (أثناء الطلاق، وغيره من الأحكام في القرآن)، والوعظ بالتوكل عليه وبالعمل الصالح والإنفاق، لأن كل هذه من صفات المؤمن التي تخرجه من الظلمات إلى النور وتعود عليه وعلى المؤمنين بالخير العميم في الدنيا والفوز العظيم في الآخرة، ومن لا يفعل يعذب في الدنيا ويخسر في الآخرة.

065.4.2- ومقصدها أشير إليه في الآية الأولى {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ …. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ … (1)} لكن تفصيله جاء في آخرها وهو: اتقوا الله الخالق القدير المحيط بكل شيء علماً وأطيعوا أمره: فإذا قرأناها من آخرها فإن أن مقصدها هو اتقوا الله تعالى الذي أنزل إليكم ذكراً، وفي وسطها حد الله حدوداً وقدّر مقادير، وفي مطلعها الأمر بتقوى الله والتوكل عليه. بدأت بالأمر بالتقوى ليعلم قيمة وضرورة الالتزام به في الطلاق، وليعلم منه الحالجة إلى الحدود والمقادير والحاجة إلى الذكر المشار إليه في آخرها وهو: اتقوا الله الخالق القدير المحيط بكل شيء علماً وأطيعوا أمره. والتقوى شرعاً: هي أن تجعل بينك وبين ما يغضب الله تعالى وقاية، ولا يكون ذلك إلا بامتثالِ الأوامرِ واجتناب النواهي، أن يراك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك. والتقوى تجعل المؤمن في حالة خوف شديدة من معصية الله، وحرص شديد على أداء طاعته، ومراقبة دائمة أثناء اتباع أوامره واجتناب نواهيه والتزام حدوده.

صحيح أن السورة استكملت مراحل الطلاق كعمل، لكن المقصد الموازي هو الإيمان والتقوى، فأي عمل بلا هذين لا فائدة منه. فالإسلام هو استسلام الجوارح لأمر الله، ولمّا يدخل الإيمان في القلب يحتاج إلى مزيد من الطاعة والعمل، ثم مزيد من الإيمان وتقوى الله لكي يرتقي إلى مرحلة أعلى منهما وهو الإحسان، وأن يخالق الناس بخلق حسن. وهذه المعاني نجدها في حديث معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه: “اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ”.

065.4.3- وقال البقاعي: مقصودها تقدير حسن التدبير في المفارقة والمهاجرة بتهذيب الأخلاق، بالتقوى لاسيما في الإنفاق، لاسيما إن كان ذلك عند الشقاق، لاسيما إن كان في أمر النساء لاسيما عند الطلاق، ليكون الفراق على نحو التواصل والتلاق، واسمها الطلاق أجمع ما يكون لذلك، فلذا سميت به وكذا سورة النساء القصرى لأن العدل في الفراق بعض مطلق العدل الذي هو محط مقصود سورة النساء.

065.5 ملخص موضوع السورة:

نزلت بعد الآيات (228-234) من سورة البقرة حول الطلاق لإتمام ما جاء فيها من الأحكام، وليعلم أن استمرار الحياة الزوجيّة واستقرارها هي غاية يحرص عليها الإسلام. وقد حدّد الطلاق في البقرة بثلاث مرّات يمكن أن يرجع الزوج لزوجته خلال العدّة في المرّتين الأوليين بدون شروط أو بعدها بعقد ومهر جديدين، وفي الثالثة لا يحق للزوج الرجوع لزوجته إلا بعد أن تتزوّج من غيره زواجاً صحيحاً كامل الشروط وينتهي بموت الزوج الثاني أو بطلاق صحيح. وقد كان الرجل في الجاهليّة يطلّق زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارّتها طلقها، فإذا شارفت على انقضاء عدّتها راجعها، ثمّ طلقها، وصنع بها مثل ذلك أبداً، فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم.

واستهلّت بالأمر بتقوى الله وعدم الاعتداء على حدوده باعتبار الطلاق من {حُدُودُ اللَّهِ (1)}، ثمّ بشّرتهم بالخير والرزق والتيسير إن هم أتّبعوا واتقوا، وبالخسران إن اعتدوا، وختمت أيضاً بالأمر والتأكيد على تقوى الله الخالق القدير المحيط بكل شيء علماً، وقد جعل أمر الطلاق جزءاً من تدبير الكون تنزلت به السماء {أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)}، وتكرّرت كلمة “أمر، والائتمار، والأمر” تسع مرّات، {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ (5)} لإبقاء هذا الرباط المقدّس والميثاق الغليظ بين الزوجين سليماً من الأذى والعدوان.

وتضمّنت ثلاث مجموعات من الآيات: ابتدأت (3 آيات) بالأمر بإحصاء العدّة والتقوى والوعظ بعدم الاعتداء والتعامل بالمعروف ففيه الخير والمخرج والرزق، ثمّ (4 آيات) بيان فضل التعامل بالتقوى والإنفاق واتباع أمر الله الذي جعل بعد العسر يسراً، وختمت (5 آيات) بتنزيل الذكر: وهو الرسول والآيات المبينات والوعيد بالحساب، كما يلي:

(الآيات 1-3): الأمر بإحصاء العدّة في الطلاق زماناً ومكاناً ونفقة كما حددها الله، وهي مدّة من الزمن تبقى فيها الزوجة في بيتها، لعل الله يحدث خلالها أمراً يكون السبب في العدول عن الطلاق واستمرار الزواج، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ (1)} بأن عصى فيعاقبه الله، ثم خسر بأن تعجّل في الطلاق وتفرّقت العائلة. فإذا قاربت المطلقات نهاية عدتهن فراجعوهن أو فارقوهن بمعروف، ومن يتّق الله ويتوكّل عليه يجعل له مخرجاً من كل ضيق، وييسِّر له أسباب الرزق من حيث لا يخطر على باله ولا يكون في حسبانه {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}.

(الآيات 4-7): والمطلقات اللاتي انقطع عنهنَّ الحيض لكبر سنهنَّ والصغيرات اللاتي لم يحضن فعدَّتهنَّ ثلاثة أشهر، وذوات الحَمْل عدتهن أن يضعن حَمْلهن {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ}، ومن يتق الله بطاعته وباجتناب معاصيه يكفر عنه ذنوبه، ويجزل له الثواب. ويجب بقاء الزوجة في سكنها طوال فترة العدّة مع عدم المضارّة للتضييق على الزوجة، وعلى الزوج الإنفاق حتى نهاية العدّة، فإذا وضعت الحامل حملها فلها أجرة الرضاعة، أو ترضع له أخرى؛ لينفق الزوج مما أعطاه الله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}.

(الآيات 8-12): الكثير من القرى هلكت بسبب عصيانها لأمر الله ورسوله، وقد حوسبوا حساباً شديداً في الدنيا وكان عاقبة كفرهم هلاكاً وخسراناً، وأعدّ الله لهم عذاباً شديداً؛ فاتقوا الله يا أصحاب العقول الذين آمنوا وقد أنزل الله إليكم ذكراً: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ (11)}، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً. الله الذي خلق سبع سماوات وسبع أراضين، يتنزّل الأمر بينهن لتعلموا أنه على كل شيء قدير وأحاط بكل شيء علماً.

نسأل الله الهدى والتقى والعفاف والغنى وحسن التوكل عليه، ونسأله سعة الرزق وتيسير الأمور وتكفير السيئات ومغفرة الذنوب.

065.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

065.6.0- تقديم: جعل الله دينه الإسلام، الذي به استسلم وانقاد وخضع له كل من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وجعل للناس في هذا الدين العبادات رحمة بهم، لأن في تطبيقها صلاحهم وخيرهم وسعادتهم. ولأن الإنسان كان قد ظلم نفسه ابتداءاً، عندما حَمَل الأمانة جهلاً، بعد أن عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، والأمانة هي طاعة الإنسان لله باختياره، ولأن الإنسان بدون تقوى الله مفسد في الأرض ويسفك الدماء، وهذا من أصل تكوينه وطبعه وجبلته، بدليل نص القرآن وما وجدناه من سيرته وتاريخه. فلم يتركه الله الرحيم العليم الحكيم وحيداً يتخبط على الأرض بلا هداية، بل أنزل عليه الذكر فحذّره وأنار طريقه وأنذره وبشّره في كل خطوة خطاها وكل مكان وجد فيه وكل ثانية من ثواني عمره.

الله خلق الناس لا يعلمون شيئاً وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، فكان لا بدّ من تذكير الإنسان أولاً وتدريبه على الالتزام بالحق والعدل والفطرة، والتي هي دين الله وشرعه وسنته في خلقه، وفي الحياة التي بنيت على الأسباب. ثم من أجل إقامة الحجة عليه بأنه يتحمل مسئولية قراره بحمل الأمانة ونتائج أعماله، جعل الله دينه وشرعه هو الفطرة التي فطر عليها الإنسان وجعلها على شكل أوامر أفعل أو لا تفعل، من يلتزم بهذه الأوامر تصعد به إلى أعلى درجات الإيمان، ومن لا يلتزم بها يسقط في وادي النفاق والكفر والعياذ بالله. ومن رحمة الله الواسعة بالإنسان سيّره خطوة خطوة نحو الالتزام بالعبادات والإيمان التام: جعله يبدأ بالإسلام وهو استسلام الجوارح، ويتدرب من خلالها على الإيمان، ثم الإحسان، حتى يتخلق بخلق الحق والعدل والفطرة، فيصير عمله متساوق مع صلاح الكون والذي نقيضه الفساد. وكل ما جاء في القرآن والسنة من أمر بفعل ومعروف أو نهي منكر فهو من العبادات التي هي فطرة الإنسان، ينطلق من خلالها ليتعرف على خالقه الحق بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. وقد تكون العبادة في البداية عند كثير من الناس رياءاً أو نفاقاً، فيجب التدرب على أن تكون كل أعمالهم خالصة لله، بأن يروا منافعها الدنيوية كبشارة على صدق توجههم، فيواصلوا في طريق الحق والسعادة.

هذه السورة تبين حدود الله في الطلاق، التي يجب أن يلتزم الإنسان بها أمراً بفعل أو نهياً عن فعل، وسنرى من خلال تطبيق هذه الأوامر كيف يتعلم ويتدرج تدريب المؤمنين على الإيمان، وكيف يحصلون على الخير والبشارات من الله إن هم أطاعوا، أو يخسروا كل شيء إن هم عصوا:

065.6.1- الآية (1) من المعلوم أن مصلحة جميع الناس سواء الذين يهمهم الأمر أو الذين لا يهمهم هو بأن يدوم الزواج، من أجل ذلك فرض الله العدّة، وهي مدّة من الزمن يلتزم بها الطرفين قبل حصول الطلاق، لعل الله يحدث خلالها أمراً لم يتوقعوه يكون السبب في العدول عن الطلاق واستمرار الزواج؛ ومن لم يلتزم بهذه الحدود التي حدّها الله فقد ظلم نفسه بأن عصى الله الذي سيعاقبه على عصيانه، ثم خسر بأن تعجّل في الطلاق وتفرّقت العائلة.

065.6.2- الآيات (2، 3) فإذا قاربت المطلقات نهاية عدتهن فراجعوهن بمعروف، أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا على ذلك رجلين عدلين منكم، وليؤدي الشهود الشهادة خالصة لله لا لشيء آخر، ذلك الذي أمركم الله به يوعظ به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.

وقد جعل الله بشارات عديده لمن يعمل بما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، وهي: أنه مؤمن بالله واليوم الآخر، ويجعل له مخرجاً من كل ضيق، وييسِّر له أسباب الرزق من حيث لا يخطر على باله، ولا يكون في حسبانه.

ومن بعد تلك البشارات التي هي حقائق تحققت للمؤمن ولمسها في حياته، فسوف يتوكل على الله الذي هو كافيه ما أهمَّه في جميع أموره. ويؤمن بأن الله بالغ أمره، لا يفوته شيء، ولا يعجزه مطلوب، قد جعل الله لكل شيء أجلاً ينتهي إليه، وتقديراً لا يجاوزه.

065.6.3- الآيات (4، 5) والنساء المطلقات اللاتي انقطع عنهنَّ الحيض؛ لكبر سنهنَّ، إن شككتم في حكمهنَّ؟ فعدَّتهنَّ ثلاثة أشهر، والصغيرات اللاتي لم يحضن، فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك. وذوات الحَمْل من النساء عدتهن أن يضعن حَمْلهن.

البشارة في الدنيا لمن يتق الله، فينفذ أحكامه، أنه يجعل له من أمره يسراً (لأنه هنا في الطلاق ربما يظن الناس أن مدّة العدّة طويلة وخاصة عدّة الحامل فييسرها).

أما في الآخرة، فإن ذلك الذي ذُكِر من أمر الطلاق والعدة، هو أمر الله الذي أنزله إليكم لتعملوا به. ومن يتق الله بطاعته وباجتناب معاصيه، يكفر عنه ذنوبه، ويجزل له الثواب ويدخله الجنة.

065.6.4- الآيات (6-7) أسكنوا المطلقات في عدتهن مثل سكناكم وعلى قدر سَعَتكم وطاقتكم، ولا تلحقوا بهن ضرراً؛ لتضيِّقوا عليهن في المسكن، وإن كنّ ذوات حَمْل، فأنفقوا عليهن حتى يضعن حَمْلهن، فإن أرضعن لكم فوَفّوهن أجورهن، وأتمروا بينكم بمعروف، وإن لم تتفقوا في الإرضاع، فستُرضع له أخرى غير الأم المطلقة.

يبشر الله المطيع في السكن والإنفاق على مطلقته بالسعة والغنى بعد الضيق والشدّه: لذلك لينفق الزوج إذا كان ذا سَعَة في الرزق، مما وسَّع الله عليه، والفقير الذي ضُيِّق عليه في الرزق فلينفق مما أعطاه الله، لا يُكَلَّف الله نفساً إلا ما آتاها. سيجعل الله بعد عسر يُسراً.

065.6.5- الآيات (8-10) يعظنا ربنا في هذه الآيات (بعد أن علّمنا تلك الدروس من تجربة الطلاق)، أن كثير من القرى عصى أهلها أمر الله وأمر رسوله، فحاسبهم في الدنيا حساباً شديداً، وعذَّبهم عذاباً منكراً، فتجرَّعوا سوء عاقبة كفرهم، وكان عاقبة كفرهم خسراناً. وأعدَّ لهم في الآخرة عذاباً شديداً.

نتعلّم من تجربة تلك القرى التي خالفت أمر ربها وأمر رسوله، فعذبت وأهلكت، أن يزيد إيماننا بما نراه من صدق وعده، فنتقي الله ونخافه ونحذر سخطه، وهو خطاب موجه ويستفيد منه أصحاب العقول الذين آمنوا. وفي هذه التجربة ذكراً يذكرنا بتقوى الله وعدم مخالفة أمره، ويضاف إلى البشارات والدروس المستفادة من الطلاق والتي تزيد من إيمان المؤمنين.

065.6.6- الآيات (11-12) تعلّمنا من الآيات السابقة درسين إيمانيين: الأول من خلال البشائر والكرامات التي حصلت بسبب طاعة الله وعدم تعدّي حدوده في الطلاق، والثاني بالتخويف من هلاك القرى ومن أن يصيبنا ما أصابهم.

وقد أنزل الله إلينا ذكراً يذكرنا به، بأن أنزل الله إلينا رسولاً يتلوا علينا آياته مبينات لنا الحق من الباطل؛ كي يخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. ويبشرنا بأنه من يؤمن بالله ويعمل صالحاً، يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها ابداً، قد أحسن الله له رزقه في الجنة.

يعلمنا الله أنه وحده الذي خلق سبع سماوات، وسبع أرَاضين، وأنزل الأمر مما أوحاه الله إلى رسله وما يدبِّر به خلقه بين السماوات والأرض؛ لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً.

065.6.7- الخلاصة: أننا تعلمنا الإيمان من خلال طاعتنا والتزامنا بحدود الله في الطلاق، ومن معرفتنا بما حصل للقرى من قبلنا، ومن الذكر الذي نزل مع الرسول، وأننا الآن على يقين بأن أمر الله هو الحق، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته.

065.7 الشكل العام وسياق السورة:

065.7.1- سميت السورة بهذا الاسم لأنها تضمنت أحكام الطلاق (الطلاق السني، والطلاق البدعي). وتسمى النساء القُصرى. إسم السورة يدلّ على أهمية موضوعها، ويوحي بخطورة المشهد العسير المؤلم الذي يحدث فيه فسخ رابطة مقدسة أو فطرة فطرها الله.

حالة الطلاق هذه من أصعب الحالات الإنسانية، لأنها تفصل شخصين ارتبطا برباط مقدس نتج عنه روابط متعددة متشعبة مع الأبناء والأنسباء والأقارب من الطرفين، ولا يمكن فصل كل هذه الروابط بفصل الزوجين فقط، ولا يمكن إنهاء نتائجها، ولا حتى إنهاء وجودها كلّياً بسبب بقاء المسؤوليات الدينية من صلة الأرحام والالتزامات الأخلاقية بوجود الأسرار العائلية، والالتزامات المالية والأولاد والصلات التي بنتها أو نتجت عنها حالة الزواج ثم الطلاق.

تتحدث السورة عن الطلاق كموضوع يصعب جداً فيه اجتناب تعدي حدود الله، إلا إذا التزم الأطراف بتقوى الله ومراقبته، لأن في الطلاق تراكم عداوات وإشاعات وأمور نفسيّة ومادية ومعنوية ومصالح دنيوية ومسؤوليات جسام تتطلب تضحيات مالية وتحتاج إلى صبر وروية وتقوى دائمة لله وتوكّل ومراقبة. وقد استخدمت السورة موضوع الطلاق من أجل تسهيل فهم مقصدها المتعلق بالإيمان والتقوى واتباع أوامر الله عن طريق ربطه مع خلق السماوات والأرض وتنزيل الأمر بينهنّ من أجل أن يعلموا أن الله هو الخالق القدير المحيط بكل شيء علماً فيتقوه ويطيعوا أمره.

من سنن الله في خلقه أنه جعل من كل شيء زوجين {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49)} الذاريات، بما في ذلك الإنسان، فهو غير مستثنى من هذه القاعدة. لقد جعل الله الحياة الزوجية سكن للإنسان {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة (21)} الروم. كما أن استمرار الحياة الزوجيّة واستقرارها هي غاية يحرص عليها دين الإسلام بغرض السّكن للزوجين والتنشئة الصالحة للأولاد. ولما أراد الله سبحانه، رحمة بالزوجين والأبناء، بقاء الرابطة الزوجيّة التي سمّاها بالميثاق الغليظ {وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً (21)} النساء، فقد نظمها بحكمته وأدارها بدرايته. فأمر بتزويج من لم يتزوج وأمر بتسهيل الزواج وعدم تعقيده بقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم (32)} النور، وجاءت الأحكام الشرعيّة لا تبيح الانفصال الفوري للمطلقين إلا بعد أن تستنفذ كل وسائل الحلول الممكنة بين الطرفين. ويجب أن تستنفذ مدّة العدّة كما حددها الله. وقد جعل العدّة لعلّ أمر ما يحدث يعيد المياه إلى مجاريها. لأن الله سبحانه لم يشرّع الطلاق إلا إذا صار ضرورة ملحّة لا يمكن تجنبها. فرابطة الزواج مقدسة جعلها الله ولا يريد لها أبداً أن تنقطع. روى أبو داود والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق”.

هذا الحدث يتطلّب أخلاق فوق العادة وصفات يجب أن يتحلى بها أصحاب العلاقة، بيّنها الله تعالى في السّورة من الإيمان والتقوى وعدم الاعتداء على حدود الله وعدم المضارّة والتعامل بالمعروف والإنفاق. فقد علم سبحانه خطورة وصعوبة الطلاق على كل أطرافه، وانه قد يبدر من بعضهم ظلم أو قسوة أو مضارّة. فكان الأمر به مصحوباً بالترغيب والترهيب وبالحث على التقوى وعلى الائتمار بالمعروف وعلى الإنفاق وغيرها من الأخلاق العالية الغير عاديّة التي يحتاجها الموقف.

065.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها:

يمكن تقسيم سياقها باعتبار موضوعاتها إلى ثلاثة مجموعات متساوية من الآيات، كما يلي:

065.7.2.1- الآيات (1، 2، 4، 6) نتعلّم من نتائج التزام حدود الله في الطلاق، أن تقوى الله والتوكل عليه في العبادة والإنفاق هي لمصلحة المؤمن كفرد والمجتمع كجماعة فالكل مستفيد بعكس التعدي والشح فهما يضران بالمؤمن كفرد وبالمجتمع كجماعة. دين الله هو اسلام وعمل بالجوارح وإيمان في القلب وإحسان في العمل بتقوى الله ومراقبته، كما يلي:

هذه السورة تتناول أصعب عمل يمكن أن يلتزم به مؤمن دون اقتراف زلل أو وقوع في محظور، إلا أن تكون مراقبة الله حاضرة في نفسه طوال الوقت. أمّا ضعيف الإيمان فسوف يتعدى حدود الله ويقع في الإثم لأن الطلاق يمس أغلى الأشياء على نفسه وهو السكن مع شخص يبغضه والصبر على المكوث معه مده طويله من الزمن، وإنفاق المال. لذلك تطرّقت هذه السورة للطلاق وبينت طريقة وكيفية تعامل المؤمن معه، لكي يعلم المؤمن أن تقوى الله لها فوائد في الدنيا، وجاءت لصلاح الدنيا قبل الآخرة، فيلتزم بالتقوى في كل أعماله التي هي حتماً أسهل من الطلاق.

الآية (1) عدم تعدّ حدود الله: تفصل الآية في عملية الطلاق وأن له حدود حدّها الله يجب إحصاءها زماناً والالتزام بشروطها مكاناً لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً كالصلح واستمرار الزواج بفضل الالتزام بحدود الله، وتحرّم التعدي على حدود الله ومن يفعل فقد ظلم نفسه.

الآية (2) المخرج هو بالتعامل بالمعروف وحضور الشهداء: ثم بعد الالتزام بحدود الله، إن وقع الطلاق فيجب أن يتم الأمر بالمعروف وحضور الشهداء، وذلك من الإيمان وتقوى الله الذي يكافئ عليه بإيجاد المخرج من هذه المصيبة.

الآية (4) تقوى الله تيسر الأمور فلا تعود طول مدة العدة وزمان انتظارها صعب وثقيل: فقد حدد سبحانه وتعالى أن كبار السن من النساء عدتهن 3 أشهر، والحامل حتى تضع حملها ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً.

الآية (6) عدم المضارّة والائتمار بالمعروف في السكن والإنفاق: يجب التزام الزوجان في السكن مع بعض طوال فترة العدّة، مع عدم المضارة للتضييق على الزوجة، ويجب على الزوج الإنفاق حتى نهاية العدّة، فإذا وضعت الحامل حملها فلها أجرة الرضاعة، والائتمار بالمعروف فان لم ترضع المطلقة فسترضع له أخرى.

065.7.2.2- الآيات (3، 5، 7، 12) حد الله حدوداً وقدّر مقادير وأحدث أموراً يجب الالتزام بها، وتقوى الله في تطبيقها، لتكون دليلاً على الإيمان بأن الله على كل شيء قدير وأنه قد أحاط بكل شيء علماً:

جاءت هذه الآيات بين آيات الطلاق، وهو الحادث البغيض الذي عن طريقه سيهدم عقداً وجد ليبقى، وسنة من سنن الوجود، وآية من آياته، وميثاقاً غليظاً جعله الله لينشئ به لبنة تكون أساساً لسعادة الناس واستمرار وجودهم على الأرض وهو الزواج ثم وإذا حدث أن هدم هذا البناء فستظل جراحه العميقة وآثاره الهادمة، غائرة ودائمة، ولا تزول أبداً من حياة الزوجين والأبناء والأقارب والمجتمع وكل من كان له علاقة من قريب أو بعيد بالأسرة التي تفككت.

تكرار اسم الله الأعظم: جعل سبحانه اسمه الأعظم “الله” الذي يتضمن كل أسماءه الحسنى وصفاته العلى حاضراً مكرراً تكراراً لم يحصل في أي سورة أخرى غيرها في القرآن، لأن أحداث الطلاق تمس فطرة الله، وحين أحلّه الله وجعله بأيدي المؤمنين، فلا بد أن يستشعروا مراقبته لهم، ففي هذه السورة تكرر اسم الله 24 مرة أي ضعف عدد آياتها، وقد جاء مقروناً بالأمر بتقواه، وببيان حدوده، وتقديره لكل شيء، وبلوغ أمره، وتنزيل أمره، وبالإيمان به، والشهادة له، والتوكل عليه، وتكليفه، وتيسيره، وقدرته على كل شيء، وإحاطة علمه بكل شيء، وتنزيله للذكر، وتلاوة آياته، والإحسان، والرزق، والثواب، والعقاب.

وتكرر في السورة ذكر: أمر الله، وتقوى الله، وحدود الله، وهي تتحدث عن الطلاق الحدث أو الموضوع الذي يصعب جداً فيه اجتناب تعدي حدود الله، إلا من رحم ربّي، لأن فيه تراكم عداوات وإشاعات وأمور نفسيّة ومادية ومعنوية ومصالح دنيوية ومسؤوليات جسام تتطلب تضحيات مالية يحتاج من يقوم بتنفيذها أو القبول بها إلى صبر وروية وتقوى ومراقبة لله. فإذا اجتاز المؤمن هكذا ابتلاء أو اختبار بما يرضي الله فهو دليل على إيمانه الذي يستحق عليه الأجر العظيم.

جعل هذه الحدود الحاسمة بين الناس جاء ليحقق مصلحة جميع الأطراف، وأنه قدّر مقادير وأحدث أموراً تحاج في تطبيقها إلى تقوى الله، فإذا اجتنب المؤمن الوقوع في هذه الحدود، أثبت صدق إيمانه واستحق الأجر العظيم، وإذا اعتدى عليها استحق العذاب الأليم. فحين يضع الله هذه الحدود والقوانين فيجب الالتزام بها وهي دليل على الإيمان وتقوى الله. وعن طريق هذا الالتزام ورؤية نتائجه على الأرض يزداد إيمان المؤمن حتى يصل درجة الإحسان. كذلك بظهور نتائج الطلاق من خلال تطبيقه نتعلم أن الله على كل شيء قدير وأنه قد أحاط بكل شيء علماً وأن وعده حق، وما دونه الباطل. كما يلي:

الآية (3) المؤمن الذي يتق الله فيخافه ويجتنب ما نهاه عنه، يجعل الله له مخرجاً من كل ضيق، وييسِّر له أسباب الرزق من حيث لا يخطر على باله، ولا يكون في حسبانه. ومن يتوكل على الله فهو كافيه ما أهمَّه في جميع أموره. إن الله بالغ أمره، لا يفوته شيء، ولا يعجزه، قد جعل الله لكل شيء تقديراً لا يجاوزه.

الآية (5) ذلك (الذي ذُكِر من أمر الطلاق والعدة) أمر الله الذي أنزله إليكم، ومن يتق الله (بطاعته وباجتناب معاصيه) يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجره.

الآية (7) لينفق (الزوج على زوجته المطلقة، وعلى ولده) إذا كان الزوج مما وسَّع الله عليه في الرزق، وأما من ضُيِّق عليه في الرزق، فلينفق مما أعطاه الله، لا يُكَلَّف الله نفساً إلا بقدر ما رزقها، سيجعل الله بعد ضيق وشدة سَعَة وغنى.

الآية (12) الله وحده هو الذي خلق سبع سماوات، وخلق سبعاً من الأرَضين، ويتنزّل أمره بينهن مما يدبِّر به خلقه بين السماوات والأرض؛ لتعلموا أن الله على كل شيء قدير (لا يعجزه شيء) وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً (فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته).

065.7.2.3- الآيات (8-11) أنزل الله رسولاً ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، يتلوا عليهم ماضيهم من أنباء القرى، ويأمرهم في حاضرهم بالإيمان والعمل الصالح، وينبئهم عن مستقبلهم وبما هم مقبلون عليه من الابتلاء بالأعمال والحساب والجزاء:

الآيات (8-10) وكما هو معلوم من أسلوب القرآن أنه يقص على المؤمنين من أنباء من كان قبلهم لكي يتعلموا منهم بالتجربة، إذ تشير هذه الآيات إلى أنباء القرى وكيف أن الكثير منها هلكت بسبب عصيانها لأمر الله ورسوله، وقد حوسبوا حساباً شديداً في الدنيا على أعمالهم وعذبوا عذاباً عظيماً منكراً عقاباً على عتوهم وكفرهم، وكان عاقبة كفرهم هلاكاً وخسراناً لا خسران بعده. وأعدَّ الله لهم في الآخرة عذاباً بالغ الشدة، فاتقوا الله واحذروا سخطه يا أصحاب العقول الذين آمنوا وقد أنزل الله إليكم ذكراً يذكركم بالإيمان بالله والعمل بطاعته.

الآية (11) أنزل الله على المؤمنين ذكراً يذكرهم بالإيمان والعمل بطاعته، وهو الرسول يتلوا عليهم الآيات تبين لهم الحق من الباطل:

وهذا الذكر هو الرسول يتلوا عليكم آيات الله موضحات لكم الحق من الباطل؛ كي يخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً، يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها ابداً، قد أحسن الله له رزقه في الجنة.

 

065.7.3- سياق السورة باعتبار أحكام الطلاق:

باعتبار آيات الطلاق في السورة يمكن تقسيم السورة إلى مجموعتين من الآيات تتناول ثلاثة موضوعات: المجموعة الأولى هي الآيات (1-7) تناولت موضوعين لهما علاقة مباشرة بأحكام الطلاق، كما هو مفصل هنا، والمجموعة الثانية هي الآيات (8-12) وتتناول موضوع هلاك القرى لأنها خالفت أمر ربها، ثمّ بيان أن الله بعث الرسل وأنزل الآيات بهذه الأحكام  لإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الهداية بالحق والعمل الصالح لكي يعلموا قدرته وإحاطته وعلمه.

كان الطلاق في الجاهليّة، واستمرّ أوّل الإسلام، وهو أن يطلّق الرجل زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها، طلقها، فإذا شارفت على انقضاء عدتها، راجعها، ثمّ طلقها، وصنع بها مثل ذلك أبداً، فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم.

فأنزل تعالى في سورة البقرة في الآيات (228، 229، 230، 234) وسورة الأحزاب آية (49)، أن الطلاق مرّتان يمكن أن يرجع بعدهما الزوج لزوجته خلال فترة العدّة بدون شروط (أي من غير عقد جديد ومهر جديد ما دامت في عدتها، ويسمّى الطلاق الرجعي)، أو بعدها (ويسمّى الطلاق البائن بينونة صغرى) بعقد ومهر جديدين، أو يتطلقان بالمعروف. وطلاق للمرّة الثالثة لا يحق للزوج الرجوع لزوجته (ويسمى الطلاق البائن بينونة كبرى) إلا بعد أن تتزوّج من غيره زواجاً صحيحاً كامل الشروط وينتهي بموت الزوج الثاني أو بطلاق صحيح لا علاقة له بالزواج القديم.

العدّة وهي فترة الانتظار لمدّة ثلاثة شهور قبل أن يتم الطلاق فعليّاً، يظلّ خلالها الزواج قائماً وبإمكان الزوجين الرجوع لبعضهما في الطلقتين الأوليين بدون أية قيود. أما الطلقة الثالثة فليس لها فترة انتظار عند الزوج الذي طلّق للمرة الثالثة بل يتم الطلاق فوراً، ويجب على المرأة العدة الشرعية، ولا تحل له زوجته المطلقة بعد الطلقة الثالثة حتى تتزوج زوجاً غيره، وبعد أن يطلقها الزوج الآخر بمطلق رغبته وحريته. لا يستطيع الرجل الذي طلق زوجته الطلقة الثالثة استغلال فترة العدّة للإضرار بزوجته، كما كان سائداً في طلاق الجاهلية، فهي فترة انتظار قبل أن يسمح للمطلقة بالزواج من زوج ثاني. وأمّا المطلّقة قبل اتمام كل شروط الزواج أو قبل الدخول فلا عدّة لها، وبإمكانها الزواج إذا رغبت مباشرة فور تطليقها. ومدّة العدة لمن يتوفّى عنها زوجها هي أربعة أشهر وعشرة أيام.

لم تنزل سورة الطلاق لإلغاء أو تعديل أيّ من الأحكام السابقة في سورتي البقرة والأحزاب، بل جاءت لتبيّن ثلاثة موضوعات مهمّة كما يلي:

065.7.3.1- الآيات (1-3) يجب أن يعلم الرجل الذي أعطي له حق الطلاق أن استمرار الحياة الزوجيّة واستقرارها هي غاية يحرص عليها الإسلام بغرض السّكن للزوجين والتنشئة الصالحة للأولاد، وأن الأحكام الشرعيّة لا تبيح الانفصال الفوري للمطلقين إلا بعد أن تستنفذ كل وسائل الحلول الممكنة بين الطرفين، ويجب أن تستنفذ مدّة العدّة كما حددها الله. فلأن الله يحب بقاء الرابطة الزوجيّة التي سمّاها بالميثاق الغليظ، جعل العدّة لعلّ أمر ما يحدث يعيد المياه إلى مجاريها. لأن الله سبحانه لم يشرّع الطلاق إلا إذا صار ضرورة ملحّة لا يمكن تجنبها. فرابطة الزواج مقدسة جعلها الله ولا يريد لها أبداً أن تنقطع.

065.7.3.2- الآيات (4-7) إكمال أحكام الطلاق والإجابة على الأسئلة التي بقيت بدون إجابة في سورة البقرة. فأجيب عن سؤال مدّة العدة للمطلقات اللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن وهي ثلاثة أشهر. وعدّة الحامل حتى تضع حملها. والتي طلقت وتوفّى عنها زوجها. وترتيبات الإعالة والسّكن والإنفاق للحالات المختلفة من الطلاق والإرضاع حال وجود الأطفال.

065.7.3.3- الآيات (8-12) بيان إحاطة علم الله وقدرته وخطورة عدم تطبيق أحكامه {حدود الله} التي أنزلها في الطلاق، إذ يترتب على عدم التقيد بها الحساب الشديد والخسران في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، يقابله أن من يتق الله في هذا الأمر فإنه قد أعد له نور الإيمان في الدنيا وجنات تجري من تحتها الأنهار والرزق الحسن في الآخرة. (وقد فصلت هذه الآيات كثيراً أعلاه).

065.7.4- لقد جاء لفظ الجلالة {الله} الذي يتضمّن أسماء الله الحسنى، مكرراً في السورة أربع وعشرون مرّة أي ضعف عدد آياتها الاثنتا عشرة آية، وهي السورة الوحيدة التي يتكرر فيها هذا الاسم الأعظم بعدد مقداره ضعف عدد آياتها. وهذا يدل على مدى عناية الله سبحانه بأمر الطلاق، هذا الأمر الخطير لما فيه من الأمور والأحكام التي تحتاج أن يستشعر الإنسان حضور الله بكل صفاته فيها. انظر تناسب سورة الحديد مع غيرها من السور (057.8). حول موضوع: إسم الله الأعظم.

وقد جعل سبحانه أمر الطلاق جزء من تدبيره للكون. فهو أمر تنزلت به السماء. وقد تكررت كلمة “أمر، والائتمار، والأمر” التي تشير إلى استنفاذ الأسباب التي أنزلها سبحانه ليدبر بها الكون، تكررت تسع مرّات في الآيات التي عددها اثنتا عشرة آية مما يدل على عناية الله الكبيرة بمصالح العباد وتدخله كحكم عدل في أمورهم العصيبة التي قد تفضي إلى الشقاء والعداوات على عكس مقصود الدين الإسلامي.

065.7.5- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:

065.7.5.1- القصص (8-11) = 4 آيات

065.7.5.2- الآيات (12) = 1 آية

065.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

065.8.0- وهكذا لمّا استخدم الطلاق كتجربة وابتلاء يصعب جداً فيه اجتناب تعدّي حدود الله لتسهيل فهم مقصدها: وهو أن تقوى الله ومراقبته فيه نجاتهم وتيسير أمورهم، ولمّا كانت أكثر سورة تكرر فيها الاسم الأعظم “الله” ضعف عدد آياتها ليستشعروا مراقبته فيتقوه ويتوكّلوا عليه، ولمّا ارتبط الطلاق مع خلق السماوات والأرض وتنزيل الأمر بينهنّ ليعلموا أن الله على كلّ شيء قدير وأحاط به علماً، فقد تناسب هذا مع ما تقدّم في السور الخمس المسبّحات (الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن) من البشارات العظيمة للمؤمنين الذين التزموا بدين الله الإسلام واتبعوا شرعه القويم وسنته في خلقه، تماماً كما التزمت وسبّحت كل المخلوقات: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (1)} فالحمد لله.

065.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: لما وقع في سورة التغابن‏:‏ {إِنَّ مِن أَزواجِكُم وأَولادِكُم عدواً لَكُم (14)} وكانت عداوة الأزواج تفضي إلى الطلاق وعداوة الأولاد قد تفضي إلى القسوة وترك الإنفاق عليهم عقب ذلك بسورة فيها ذكر أحكام الطلاق والإنفاق على الأولاد والمطلقات بسببهم.

065.8.2- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم قوله {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله (9)} المنافقين، وقوله: {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم (14)} التغابن، وقوله تعالى {إنما أموالكم وأولادكم فتنة (15)} التغابن، والمؤمن قد يعرض له ما يضطره إلى فراق من نبه على فتنته وعظيم محنته، وردت هذه السورة منبهة على كيفية الحكم في هذا الافتراق، وموضحة أحكام الطلاق، وأن هذه العداوة وإن استحكمت ونار هذه الفتنة إن اضرمت لا توجب التبرؤ بالجملة وقطع المعروف {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً (1)} الطلاق، ووصى سبحانه بالإحسان المجمل في قوله: {أو تسريح بإحسان (229)} البقرة، وبين تفصيل ذلك وما يتعلق به، فهذا الرفق المطلوب بإيقاع الطلاق في أول ما تستعده المطلقة في عدتها وتحسبه من مدتها تحذيراً من إيقاع الطلاق في الحيض الموجب تطويل العدة وتكثير المدة، وأكد هذا سبحانه بقوله {واتقوا الله ربكم (1)} الطلاق، ثم نبه سبحانه على حقهن أيام العدة من الإبقاء في مستقرهن حين إيقاع الطلاق إلى انقضاء العدة فقال: {لا تخرجوهن من بيوتهن (1)} الطلاق، إلى ما استمرت عليه السورة من بيان الأحكام المتعلقة بالطلاق وتفصيل ذلك كله. ولما كان الأولاد إذا ظهر منهم ما يوجب فراقهم وإبعادهم غير مفترقين إلى ما سوى الرفض والترك بخلاف المرأة، لم يحتج إلى ما احتيج إليه في حقهن فقد وضح وجه ورود سورة الطلاق في هذا الموضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.

راجع تناسب سورة الحديد مع غيرها من السور (057.8). حول موضوعات: اسم الله الأعظم، والإنفاق في سبيل الله، والتسبيح في القرآن.

راجع تناسب سورة المجادلة مع غيرها من السور (058.8.1.4 و 058.8.1.5). حول ترابط السور المدنية العشرة مع بعضها، من الحديد إلى التحريم.

راجع تناسب سورة التحريم مع غيرها من السور (066.8). حول ترابط السور المسبحة مع بعضها، ومع ما تلاها من السور المدنية، ومع سورتي الإسراء والأعلى المكّيتين. ومع ما قبلها من بداية سورة الفاتحة حتى سورة الواقعة.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top