العودة إلى فهرس القرآن: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر القرآن)


7.1 سياق القرآن في بيان طريق الهدى من زوايا مختلفة وبكلّ اللغات التي يفهمها الناس


ملاحظة 1: لقد تمّ تأليف هذه الكتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن، كما ذكرنا في المقدّمة والتمهيد على ثمانية أبواب، (انظر: 0.3- لقد أنشأنا هذا الكتاب على ثمانية أبواب).

ملاحظة 2: هذا الكتاب مكوّن من مقدّمة وخاتمة وجزأين متكاملين، كما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– الجزء الأول: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن” ويتناول القرآن كاملاً وبشكل عام. انظر الفهرس هنا
– الجزء الثاني: اسمه “كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن” ويتحدث عن كل سورة من سور القرآن منفردة وبنفس الأبواب الرئيسية الثمانية المشار إليها أعلاه. انظر الفهرس هنا
– الملخص والخاتمة: اضغط هنا


7.1- سياق القرآن في بيان طريق الهدى من زوايا مختلفة وبكلّ اللغات التي يفهمها الناس: ونبدأ بالإشارة إلى أسمائه والتي تشكّل الإطار العام أو الخلفيّة المناسبة المعبرة عن محتويات القرآن، ثم الإشارة إلى سياق السور وتناسبها في تفصيل طريق الهدى في سور القرآن، ثمّ الإشارة إلى القصص والأمثال والآيات التي سهّلت فهم القرآن وتدبّره، كما يلي:

7.1.1- أسماء القرآن: وللقرآن أسماء كثيرة، وهو الوحي المنزل من رب العالمين على محمد صلى الله عليه وسلم، مجموع ومحفوظ في كتاب واحد، وعد الله بحفظه، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80)} الواقعة، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} الحجر؛ ولفظ “القرآن” هو أشهر أسمائه وأكثرها ذكرا في آياته، وقد تكررت كلمة قرآن 70 مرّة، منها 11 مرّة في سورة الإسراء. ويقول الإمام النووي: “واعلم أن كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى كما في أسماء الله تعالى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم”. ومعرفة أسماء القرآن وصفاته تسهّل فهم مقصده وموضوعاته كما ذكرناه في الباب الأول أعلاه، وأشرنا إليه كثيراً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، وتعين على تدبر آياته والعمل به، وتَعظُم شأنه ومكانته في قلوبنا. ويمكننا كذلك تصنيف أسماء ووصفات وحقيقة القرآن كما عبّر عنها القرآن الكريم نفسه، كما يلي:

7.1.1.1- صفاته وأسمائه: هو كلام الله، وأمره، والقرآن، والبلاغ المبين، والنبأ العظيم، والصراط المستقيم، والحبل المتين، والعروة الوثقى، والصحف المطهّرة، والعلم، والحق، والصدق، والعدل، وجاء عربيّاً، ومنادياً، وفرقاناً، وبشيراً، ونذيراً، وكتاب، وعزيز، وكريم، وحكيم، وعليّ، وقيّم، ومهيمن، ومجيد، ومبارك، وروح، وعجيب، ونور، وهدى، وموعظة، وبصائر، ورحمة، وبشرى، وشفاء، وفيه آيات محكمات، وأخر متشابهات، وقول فصل، وما هو بالهزل، وذي الذكر؛ وتنزيله: تنزيل من رب العالمين، من لدن حكيم عليم، عزيز حميد؛ وحقيقته: إنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر، ولا بقول كاهن، وما هو بقول شيطان رجيم، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما كان له أن يفترى من دون الله، ولم يجعل له عوجا، هو روح من أمر الله، ونزل بالحق والميزان، ولا ريب فيه، ويسّره الله للذّكر، ويعلّم الحكمة، ويحكم بين الناس، ويهدي للتي هي أقوم؛ ومقصده: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً؛ وموضوعاته: أن فيه هدى للمتّقين، وهدى ورحمة للمؤمنين وللمحسنين، وفيه أحسن القصص، وضرب الله للناس فيه من كلّ مثل، وهو تبيانا لكل شيء، ويقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وتصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب؛ ودعوته هي: لينذر بأسا شديدا، ولينذر الغافلين وليدّبروا آياته، ولينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً، وليبين لهم الذي اختلفوا فيه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير والأجر الحسن، وليتذكر أولو الألباب، وتذكرة لمن يخاف وعيد.

 

7.1.1.2- وخلاصة ما في القرآن، هي أن الله سبحانه وتعالى هو خالق هذا الكون بكل تفاصيله؛ وأن الكون كله مطيع لله ويسبح بحمده. وفي مرحلة متأخرة من مراحل نشأة الكون الموجود، أظهر الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأعطاه من الإمكانيات والحواس، ما مكّنه من إدراك كلِ ما يمكنُ للإنسان إدراكه من هذا الوجود، وأعطاه من العقل ما مكّنه من أن يميّز به بين ما هو صالحٌ وغيرُ صالِح، لبقاء هذا الكون الموجود على فطرته كما خلقه الله من قبل. وأمر الله الإنسان أن يطيع خالقَه وألا يفسدَ ما صنعه سبحانه وتعالى. ثمّ أنزل سبحانه القرآن للإنسان يهديهِ ويبشُرهُ بنعمته الدائمة وغير المنقطعة، إن هو عاش بانسجام مع سنن الله في الكون ولم يفسدْ في الأرض، وينذرُهُ بالعذاب الشديد إن هو فعل عكسَ ذلك. وبين له في هذا القرآن كلَّ سبُلِ الهداية، وكل سبل الضلال، وحذره تحذيراً متكرراً بأن له عدواً هو الشيطان، يحاول أن يضلّه، وأن له نفساً أمّارةً بالسّوء عليه ألا يطيعها، وبين له كلَّ ذلك بالحجج القويّة، والأمثلة القريبة الواضحة، والدروس العملية الحقيقية، من حياة الأمم السابقة، وبالمعجزات، ولم يترك له أيَّ منفذ يشك من خلاله بهذه الحقيقة، وبأن هذا القرآن حق من عند الله خالق الكون. ثم بيّن له نتيجةَ كل حادث حدث، وما سيحدث، وما كان وما سيكون، سواء أكان هذا الحادثُ ضمن الهدي المرسل ومنسجمٌ مع طبيعة الوجود أو هو غير ذلك، قال ابن كثير في التفسير: (وَاللَّهُ سبحانه وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) انتهى. أي إذا آمن الإنسان بأن الله هو خالقه ورازقه، وأن الهدي الذي أنزله في القرآن هو المرشد والدليل إلى مستقر سعادتِه أو شقائه، وأن الكون كلّه قائم على طاعة الله وتسبيحه، فهو حتما من الفائزين برضوان الله ونعيمه. أما إذا اتبع الشيطان وأطاع نفسه الأمارةَ بالسوء، وأشرك مع الله غيرَه، وكفر بالقرآن الذي أنزله لهدايته، فهذا هو الإفساد لما بني عليه الكون، فحتماً سيقع في سخط الله وعذابه.

7.1.2- سياق القرآن باعتبار ترتيب سوره في القرآن الموجود بين أيدينا (المسمى بالإمام أو المعلم) وباعتبار ترتيب النزول للسور:

 

7.1.2.1- سياق القرآن الموجود بين أيدينا (كما بيناه في الباب الأوّل): يبدأ بسورة الفاتحة وهي السورة الأولى في القرآن الكريم، والتي لا تصحّ صلاة المسلم بدونها، حيث على المسلم أن يقرأها في كل ركعة من صلواته. وهي أمُ الكتابِ والسبعِ المثاني والقرآنِ العظيم باحتوائِها على ملخّصِ وجوهرِ تعاليمِ القرآن. بدأت باسمِ الله، وبالتعريفِ باللهِ تعالى بأنه الرحمنُ الرحيم، ثم بتعليمِ الإيمانِ بالله مالك يوم الدين، ثم الإشارةِ إلى صفاتِ الرحمن في السورة وهي، قال تعالى: {بسم الله الرحمنِ الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمنِ الرحيم، مالك يوم الدين…}، ثم الاستعانةِ بالله بطلبِ الهدى، قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}، غيرِ طريقِ المغضوبِ عليهم والضالين، فجمعتْ بهذا مقاصدَ القرآنِ وموضوعاتِه. ثم في سورة البقرة ببيان طريق الهدى للمتقين (وهو الإسلام)، ثم في آل عمران الأمرُ باتباع طريق الهدى (وهو الإيمان)، ثم في النساء الأمرُ بتقوى اللهِ ومراقبتهِ في الأقوال والأفعال (وهو الإحسان)، ثم المائدة وفيها تمام الدين والوفاء بالعقود (وهي الأخلاق والصدق في العمل)، ثم الأنعام وفيها بيان نعمة اتباع الهدى والسير على الصراط المستقيم. وبالوصولِ إلى سورةِ الأنعام يكونُ قد اكتملَ ربعُ القرآن وتمَ فيهِ بيانُ طريقِ الهدى، وهو تقوى اللهِ وطاعتهِ والتدرجِ في اتباعِ سُلّم الدينِ والإيمانِ ابتداءً من الإسلامِ إلى الإيمانِ إلى الإحسان لغايةِ الوصولِ إلى قمّة الدين وهو التخلقُ بأخلاقِ القرآن، وقد اكتمل ذلكَ في السورِ الخمسِ الأولى، ثم في السورةِ السادسةِ وهي الأنعام يأتي بيانُ نعمِ اللهِ على الإنسان، وأعظمُها نعمةُ اتباعِ الهدى والدين. أما الربعُ الثاني من القرآن فيتكون من اثنتا عشرة سورة، تبدأ بست سور هي: الأعراف، الأنفال، التوبة، يونس، هود، يوسف، وفيها التطبيقُ العملي، وبيانُ نتائجِ الأمر باتباعِ الهدى، بذكرِ قِصصٍ عن هلاكِ الأولينَ وأخبارِهم وتجارُبهم، وقد برهنتْ بذلكَ بالتجرُبة على أن اتباعَ الهدى والدينِ هو نعمة، وصلاحُ كلُ شيءٍ في الدارين. ثم ستُ سورٍ أخرى، وهي: الرعد، إبراهيم، الحجر، النحل، الإسراء، الكهف، فيها بيانُ نعمةِ اتباعِ الدينِ ومعرفةِ قيمةِ الحقِ والأمانِ والرزقِ والإيمانِ والرسالاتِ والمرسلينَ وكلِ ما يصلحُ حياةَ الناسِ ويسعدُهم. وباكتمال الثماني عشرةَ سورةً الأولى نكونُ قد وصلنا إلى نصفِ القرآن ويكونُ طريقُ الهدى قد اكتملَ بيانُهُ بالنصوصِ المُبينة الصادقة، وبالتطبيقِ العملي، والتجارُبِ الحقيقية، وببيانِ نعمِ اللهِ التي لا تحصى على الإنسان والتي أعظمُها نعمةُ معرفةِ الله الواحدِ الرحمنِ الرحيمِ ونعمةِ اتباعِ الدين. ثم وفي النصفِ الثاني من القرآن، وعددُ سوره ستٌ وتسعون (96) سورة، تعودُ وتتكررُ نفسُ الموضوعاتِ وبنفسِ السياق، أي الهدى إلى الصراطِ المستقيم، ببيانِ طريقِ الهدى وهو تقوى الله وطاعتِه، والتدرجِ في اتباع تعاليم الدين من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان حتى الوصولِ إلى قمّة الدين وهي التخلقُ بأخلاق القرآن الكريم، ثم بيانِ نعم الله على الإنسان وأعظمُها نعمةُ اتباع الهدى والدين، ولكن بأسلوبٍ مختلف، كما فصّلناه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن. ونكتفي بذلك هناك فلا نكرره.

 

7.1.2.2- سياق القرآن باعتبار تسلسل الوحي وترتيب النزول الزمني:

سياق القرآن باعتبار تسلسل الوحي وترتيب النزول، بدأ بسورة العلق والتي مقصِدُها الأمرُ بالقراءةِ وطلبِ العلمِ، مستعينين بالله على تدبر آياته، وسننه في مخلوقاته، ونعمه وكتبه ورسالاته. فبالقراءة وطلب العلم يهتدي الإنسان، ويرتقي، ويتقرب من ربه، ويتقيه ويطيعه ويعبده، وأن الله علّم الإنسان بالقلم. ثم تلاها في سورة القلم، والتي مقصِدها الدفاع عن عظيم خُلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن نعمة الله عليه بالرسالة والقرآن، وإبطال اتهام الكفار له بالجنون؛ وقد ابتدأت بالقسم بالقلم دلالة على عظيم شأنه، للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه على خُلق عظيم، وافتتاح السورة بالقلم يتناسب مع ذكره في سورة العلق، قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)}. ومن هاتين السورتين نعلم أن رسالة السماء ابتدأت بمحاربة الآفتين العظيمتين التين ابتلي بهما الإنسان، وهما الجهل والظلم. فسورة العلق حاربت الجهلَ بالأمر بالقراءة والتعلم، وسورة القلم حاربت الظلم بالدفاع عن الخلق العظيم الذي اتصف به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبالدفاع عن حقوق العباد بالتحذير من حرمان المساكين من نعمة الله التي أنعمها على أصحاب الجنّة، كما بيّنته القصة التي في السورة. ثم تلتهما سورتين أخريين هما المزمل، والتي مقصِدُها الأمرُ بقيامِ الليلِ وترتيلِ القرآن والتبتل إلى الله، والصبرِ على تحمل ثقلِ الوحي وأعباءِ الدعوة إلى دين الله، والصبرِ على أذى المشركينَ وتكذيبِهم دين الله، الذي هو صلاة وزكاة وعمل خير وإصلاحٌ في الأرض؛ وسورة المدثر التي مقصِدُها الأمرُ بالإنذارِ بأنهم محاسبون على أعمالهم وعلى النعمة التي استخلفهم الله عليها، والتذكيرُ بالقرآنِ بأن مصيرَهم مرهونٌ بما كسَبوا، فإما الجنةُ أو النار. ثُم أن هذه السورُ الأربعُ بأوامرها الجامعة: بالعلم والتعلم وبالتخلق بالأخلاق العظيمة، وتقاسم النعمة بين الأغنياء والمساكين، والاستعانة بالله، وقيام الليل، والصبر على تبليغ أمر الله، والبشارة بالجنة، والنذير من النار، هي بمثابة التقديم الشامل والجامع لكل مقاصد القرآن. وهي مقدمة مشوّقة لمحتويات السور التي ستنزل بعدها، وقد لخّصت ما لله وما للإنسان، لذلك تلتها باعتبار ترتيب النزول سورة الفاتحة وهي: فاتحة القرآن، وتصلحُ لأن تبدأَ قبلَ كلِ سورةِ أو مقطعٍ من القرآن، وعنواناً ومقدمة لكلّ سُوَرِهِ، وأم القرآن، لانطوائها على جميع أغراضه ومقاصده، وهي القرآن العظيم لاشتمالها على المعاني التي في القرآن، والوافية بما في القرآن من المعاني، وغيرُها من مميزات هذه السورة التي ذكرناها في مكانها في السورة في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن. وبهذا الكلام القليل والمباشر والموجز في غاية الإيجاز، علَّمَ الله الناسَ كلّ شيء عن الإسلام، أي: في أولِ خمسِ سورٍ نزولاً، والتي لا تتعدى عدد صفحاتها السبعُ صفحات (1%) من أصل ستمائةٍ وأربعةِ صفحات مجموعُ صفحات القرآن كاملاً؛ لأن المقصود في بداية الرسالة والله أعلم أن يظهر الإسلام كاملاً وواضحاً، لا لبس فيه، في سور قصيرة لا عذر لأحد بالإعراض عن قراءتها أو سماعها. واكتمالُ أصولِ الدينِ في هذه السورِ التي عددها خمسةٌ من قصارِ السور بحسب التنزيل يتناسب مع اكتماله بحسب القرآن الإمام في سور عددها خمسة من طوال السور، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)} المائدة.

 

بعد نزول تلك السور الخمسة الأولى من القرآن (وهي: العلق، والقلم، والمزمل، والمدثر، والفاتحة) التي جمعت كلَّ أصول الدين في غاية الإيجاز والوضوح، نتحدّثُ هنا عن السورِ التي تلتها، باعتبارِ ترتيبِ النزول، وهي سورتي المسد والتكوير، وفيهما ترهيبٌ وإنذارٌ بالهلاكِ والخسرانِ لمن يعارضُ ويخالفُ أوامرَ الله الواضحةِ أو يحاربُها. سورة المسد والتي مقصدها الإنذار بالهلاك والخسران في الدنيا والآخرة لمن يستضعف أهل الحق ويحتقرهم ويصد عن دين الله، فلن يغني عنه ماله وما كسب، ولن تشفع له قرابته لأولياء الله، ويشترك معه في العقاب كل من أعان على مثل هذا الفعل اللئيم الخسيس؛ وسورة التكوير والتي مقصدها الإنذار بأهوال يوم القيامة، حتى إذا ما قامت علمت كل نفس ما أحضرت من خير أو شر فتحاسب عليه. ثمّ خمسَ عشرةَ سورة وهي: الأعلى، والليل، والفجر، والضحى، والشرح، والعصر، والعاديات، والكوثر، والتكاثر، والماعون، والكافرون، والفيل، والفلق، والناس، والإخلاص، تبينُ نعمَ اللهِ على الناسِ وعظيمِ رعايتهِ ورحماتهِ بهم، وتحثُ على مكارمِ الأخلاقِ وتنهى عن مساوِئها، ويبدو والله أعلمْ أن أسلوبَ القرآنِ في بيانِ الطريقِ المستقيمِ باعتبار نزول الوحي، هو نفسُ الأسلوب الذي كنّا رأيناهُ باعتبارِ الترتيبِ في القرآن الإمام، أي أن يبدأ ببيانِ الدين كاملاً، ثم بيانِ النعمِ العظيمةِ التي يجلبها اتباعُ الدينِ للناس. كذلك الأسلوبُ هنا، أي بعد بيان الدين كاملاً في السور الخمسِ الأولى، تأتي سورتان عن أهوال القيامة، (ويشبه هذا هنا ويتناظر مع نهاية سورة المائدة في قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ (109)}، وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ (116)} إلى آخر السورة، في بيان المصير النهائي والمصير يوم القيامة). ثمّ خمسَ عشرة سورة تبين نعم الله وهي سورة الأعلى: تأمرُ المؤمنينَ بأن يسبحوا اللهَ وينزّهوهُ عن كلِ ما لا يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ ونعمته عليهم في الدنيا وعدله في الآخرة، وتأمرهم بالتذكير بما أعدّه من الخير والنعيم لمن تزكى والعذاب الدائم في النار لمن آثر الحياة الدنيا؛ ثمّ الليل: تؤكد هديَ اللهِ وسنتَه في إنفاقِ المالِ لتزكيةِ النفس، وسعي الناس المختلف والمتباعد في ذلك، فمنهم ساع بالعطاء والتقوى مصدق بالوعد بالجزاء، فسعيه ميسر لليسرى، ومنهم ساع بالبخل والإعراض عن الله وبالتكذيب بالحسنى فسعيه ميسر للعسرى؛ ثم الفجر: تأمرُ بالإنفاقِ على الفقراءِ والمساكينِ لأن فيه الإصلاحَ والفوزَ في الدنيا والآخرة، والنهي عن البخل لأنه يؤدي إلى الطغيان والفساد والهلاك في الدنيا والآخرة؛ ثم الضحى: تؤكد على أن الله خلقَ الإنسان ليُعطيهِ ويواصلُ ترقيتهُ وتكريمَهُ حتى يرضِيه، لا ليتركه، فلا يتعجل الإنسان عطاء ربه فإن لم يرض في الدنيا فسيرضى في الآخرة وهي خير من الدنيا؛ ثم الشرح: تأمرُ بمواصلةِ عبادة اللهِ والتقربِ إليه وحده، فيشرحَ لك صدرَك، ويزيلَ عنكَ همك وحرجَك، ويرفعَ لك ذكرك، ويجعلَ لك مع العسرِ يسرين؛ ثم العاديات: تهددُ وتتوعدُ الناسَ بإيثارهِم الدُنيا وإهمالهِم الاستعدادَ للآخرة، وأن ربهم بهم لخبير سيخرج ما في صدورهم ويحاسبهم على النعم التي أنعمها عليهم؛ ثمّ الكوثر: وبشارةِ النبي صلى الله عليهِ وسلم بأنه أ ُعطي الخيرَ الكثيرَ في الدنيا والآخرة، وبالخزيِ لأعدائه؛ ثم التكاثر: تؤكدُ على أن سببَ هلاكِ الإنسانِ يوم القيامة هو التهاؤه بالتكاثرِ وانشغالهِ به عن العلمِ العبادةِ والعملِ للآخرة؛ ثم الماعون: تبشّعُ على الذين يؤذونَ اليتيمَ ولا يحاضونَ على طعامه؛ ثم الكافرون: بأنَ كلَ فردٍ له دينُه الذي سيحاسبُ عليهِ أمامَ الله؛ ثم الفيل: تبينُ عظيَم قدرةِ الله بالدفاعِ عن حرماته؛ ثمّ المعوذتان الفلق والناس: تأمرانِ بالاستعاذةِ بالله من كلِ الشرور؛ ثم الإخلاص: التي تأمرُ بتوحيدِ اللهِ وتوحيدِ صفاتهِ وصمدِ الحوائجِ إليهِ وحدَه. وسورةُ الإخلاصِ هي آخرُ سورةٍ نزلتْ في المرحلةِ الأولى، وهي المرحلةُ السرّيةُ من الدعوةِ وتبليغِ الرسالة ومدتُها ثلاثُ (3) سنوات، (لأن بعد هذه السور تأتي سورة النجم التي نزلت في شهر رمضان من السنة الخامسة من بدئ النبوّة، كما بيّناه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)؛ فاكتملت بذلكَ، في المرحلة السرّية، مقاصدُ الدينِ وأغراضُهُ بسورٍ قصيرةٍ جامعة، فلا عذرَ، ولا يصعبُ، على أحدٍ بعدَ نزولهِا فهمَ الإسلامِ بتمامِه. فهو دينُ الفطرة، ولأنَ الرسولَ صلى الله عليهِ وسلم بُعِث للناسِ جميعاً، فالعالمُ والجاهلُ والذكرُ والأنثى والحضريُ والبدويُ لا يسِعُ أحدٌ جهلُهُ. بل وإنَ في أقصرِ هذهِ السورِ القصيرة، التي نزلتْ في هذهِ المرحلةِ السرّيةِ من الدعوة، ما في أطولِ السورِ من المعاني والمقاصِد، فنجدُ أن في سورةِ العصر، معاني سورةِ البقرةِ كاملة، فهيَ كالعنوانِ لها، بل إن سورةَ العصر، اشتملتْ على معانيْ أكبرِ أربعِ سورٍ في القرآن: البقرة، وآلِ عمران، والنساء، والمائدة؛ وكذلكَ سورةُ الكافرون تقومُ مقامَ سورةِ براءة، وسورةُ الكوثر مقابلَ سورةِ الإسراء، وهكذا.

ولو أحصينا كذلك عدد السور التي نزلت في الخمس سنوات الأولى من بدئ الوحي، فإن عددها 53 سورة، أي قريباً من نصف عدد سور القرآن، انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.

عندما كان ينـزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات كان الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر بعض من يكتب الوحي بوضعها في مواضع محددة من السور التي لم تكن قد اكتملت بعد، وبمجرد وضع الآية أو الآيات في موضعٍ ما فإنـها تبقى ثابتةً في موضعها الذي أمر عليه الصلاة والسلام بوضعها فيه من السورة دون أن يطرأ على ذلك الوضع تصحيحٌ أو تعديل، وهذا أكبر دليلٍ وأسطع برهانٍ على ربانية هذا الكتاب، قال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193)} الشعراء، وقال: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً (106)} الإسراء. لقد نزل القرآن نجوماً، الآية والآيتان والعشر، وفي مناسبات مختلفة، إما جواباً عن سؤال أو بياناً لواقعة أو إصداراً لحكم شرعي أو إثر حادثة، أو غير ذلك، خلال ثلاث وعشرين سنة، إلا أن هذه الأجزاء رتبت ترتيباً لا مثيل، فلم ترتب حسب موضوعاتها، ولا حسب زمن نزولها، ولكنها وضعت في القرآن في تناسق معجز وعلى وتيرة واحدة من الفصاحة والبلاغة وحسن والتناسق بين سوره وآياته، فهو ليس من قول البشر. بل هو كلام الله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً (82)} النساء.

ولأن الترتيب الزمني للنزول لا يمكن القطع فيه الآن بشيء. اللهم إلا من ناحية أن هذا قرآن مكي وهذا قرآن مدني على وجه الإجمال، مع بعض اليقين حول زمن نزول آية أو مجموعة من الآيات أو بعض السور، نجدها في الأحاديث الصحيحة، أو تتوافر بشأنها الروايات، فإنه من المتعذر أن نتتبع سياق هذه السور بالترتيب الزمني للنزول كما فعلنا في الترتيب الموجود في القرآن المقروء والمحفوظ. فنكتفي بهذه الإشارة هنا، مع التنويه إلى أن في ترتيب النزول الزمني ترابط وتناسب عجيب، وتكامل شامل يلبي حاجة طالب الهدى، أشرنا إلى بعضه أعلاه، وأشرنا إليه في مكانه في كل سورة في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن.

 

7.1.2.3- والخلاصة عن سياق القرآن باعتبار تسلسل الوحي وباعتبار ترتيب سوره، هو أنه يجب أن يعرفَ الناسُ الآمرَ، وهو الله تعالى، قبل أن يعرفوا الأمرَ، وهو الدين. وأن يعرفوا أن المطلوبَ النهائيَّ هو الأخلاق، قبل أن يعرفوا الطريق إليها. والنبي عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة بما نزل عليه من الوحي، عرَّف الناس بالله عز وجل، وبأنه الخالقُ، والمربّي، والمعلم، وأنه يدعوهم إلى الخلق العظيم. وأنهم محاسبون على أعمالهم، وأن الجزاء إما الجنة أو النار، وكان يقول للناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فلما عرفوه جاءهم التشريع، فإذا عكسنا الآية حقّقنا فشلاً ذريعاً، أي: إذا علَّمنا الناس أحكام الدين قبل أن نعرّفَهم بالله عز وجل ومقصِد وجودِهم احتالوا عليها، كحديث البخاري عن عائشة: “إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لاَ تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لاَ تَزْنُوا، لَقَالُوا: لاَ نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا”. فهكذا بدأت تتنزل السور المكيّة، بالتركيزِ على التعريف بالله وأسمائه وصفاته، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} العلق، ثم الأمرُ بالعلم، ثم بالتحلي بمكارم الأخلاق، وبالترغيب بعطاء الله ونعيمه والترهيب من غضبه وعذابه. والتذكير بآيات الله في السماوات والأرض وفي الأنفس، وأن الفلاح في الدنيا والآخرة لمن أعطى واتقى وتزكى، والخيبة لمن بخل واستغنى واتبع هوى نفسِه ودساها. وغيرُها الكثير من القصص والأمثال ووسائل وأدوات الهداية كالابتلاء بالأموال والأنفس والثمرات، وكاستجابة الدعاء، ونزول المطر من السماء، وإخراج الثمرات، وكالتربية بالمكافأة على الشكر، والعقابِ على الكفر، وغيرِها من الوسائل والأسباب التي أشرنا إليها. حتى إذا ما قرأ الناس، وقاموا، وتعلموا، واستبشروا، وخافوا فأطاعوا واتبعوا، جاءتهم التعاليم والأوامر والنواهي بتفاصيلِ العبادات والإيمان والأخلاق.

 

7.1.3- القصص في القرآن:

7.1.3.1- تمهيد حول لغة القرآن والحكمة من كثرة آيات القصص في القرآن، وأسباب ذلك:

7.1.3.1.1- العرب ولغة القرآن: لقد كان العربُ في القرونِ الأولى، قبلَ وأثناءَ وبعدَ نزولِ القرآنِ الكريم، يعرفونَ ويتقنونَ اللغةَ العربيّة، ويفهمونَ بلاغَتَها وجميعَ أساليبِها وفنونِها في التعبير. وكانوا يستوعبونَ مرامي كلماتِها وأدقِ تفاصيلِها، فهيَ لغَتُهُم التي خاطَبَهُم القرآنُ بها؛ بكلامٍ علموا منهُ مرادَ ربِهِم، وعلموا أنهُ كلامٌ عظيمٌ معجز، لا بدَّ إلا أن يكونَ من ربِ العالمين، خالقِهم، وبارئِهم. عجز الكفارُ عن مواجهَتِه بكلامِ مثله، بعد أن ظنوا أنهم قادرون، قال تعالى: {وقالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا (31)} الأنفال، ولم يقولوا مثل القرآن، بل استسلموا، واستسهلوا الدفاعَ عن كفرهم بالدماء والحروب، لأنهم عجزوا عن المواجهة بالكلام. وقد كانوا في بدايات نزوله يتجنّبون سماعَه ويوصون بعضهم بذلك، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} فصلت، كي لا يؤثر فيهم سماع بعضِ آياته. وقد أسلم بسماعِ بعضِ آياتهِ المشركون، ولم يكن نزلَ منهُ إلا القليلُ من الآياتِ وقصارِ السور، كما حدثَ في قصِةِ إسلامِ عمر بنِ الخطاب رضي الله عنهُ حينَ دخلَ الإسلامَ بسماعه، مرةً واحدة، آياتٍ من سورةِ طه. وكذلك تأثرَ به من دخلَ منهُم في الإسلام، وتعلّموا من قِصَصِه دروساً بليغةً ومهمّة، ففي أولِ معركةٍ لهم مع المشركينَ في غزوةِ بدر، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حينَ طلبَ منهم المشورة والرأي: “يا رسول الله، والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون”. بينما نحن نسمعُه ونقرأه كاملاً، مرّاتٍ عديدة، ولا نكادُ نعي من قراءَتِنا له بعضاً مما وعُوه، أو نرى أيَ أثرِ مما كان يحُصل لهم حين سماعِهم له، ندعو الله أن يشرحَ صدورَنا بفهم كتابه.

 

7.1.3.1.2- أما اليوم وفي عصرنا هذا، فإن عدد العرب الذين يتقنون اللغة العربية بين العرب أنفسهم، قليلون جداً، لأن ما يتقنونه هو لهجات عاميّة بعيدة عن اللغة الفصحى، ناهيك عن قلّة عدد اللذين يتحدثون اللغة العربية بالمقارنة إلى مجموع أمة الإسلام على الأرض، فالعرب يشكلون أقل من عشرين بالمئة (20%) من مجموع عدد المسلمين في العالم، والمسلمون هم ربع عدد الناس على الأرض، وفي المحصلة فالذين يتحدثون العربية العامية (أي غير الفصحى) ربما لا يتعدّون الخمسة بالمئة (5%) من سكان الأرض، ناهيك عن الذين يتقنونها فهم قليل جداً. وقد ابتعد العرب عن لغتهم بسبب الحروب المتواصلة من الاستعمار على اللغة العربية في الوطن العربي، وبسبب ما فرض عليهم من الانغلاق وانتشار الجهل والتخلف بينهم ابتداءً من أواخر الحكم العثماني، إلى يومنا هذا، وكذلك بعد أن اسْتُبدلت لغة التعليم والتجارة والمعاملات في بلادهم بلغات أجنبية أخرى غيرِ العربية. لا شك أن الله سبحانه خالقُ الناسِ ومنزلُ الكتاب، عليهم كافّة، أميُّهم ومتعلمُهم، وأبيضُهم وأسودُهم، وعربيُهم وأعجميُهم، ليكون فيه هداهم، علم أن الغالبيةَ العظمى من الناسِ في آخر الزمان لن يكونوا على علم باللغة العربية، التي نزل بها القرآن، ولا بدقائقها، فأنّى لهم ببعدهم عن هذه اللغة أن يفهموا كلامه في كتابه، ويعلموا إعجازَه في طرحه للحق، وبيانَه ورسالته العظيمة، فيتيقنوا صدقه، ويؤمنوا بما جاءهم به من النور والهدى من عند ربهم؛ فلأجل هذا جَعَل لهم في القرآن من وسائل التعليم الأخرى، وأدوات الفهم السهلة ما يحقق ذلك، ويسهّل ترجمته لسهولته إلى اللغات الأخرى، ومن ذلك ما نلاحظه من غزارة وجود القصص والأمثلة في القرآن، والتي تؤدّي، لمن يتأملها، نفس الغرض، إن لم يكن أفضل من، الذي تؤديه اللغة والكلمات في إيصال رسالة السماء إلى أهل الأرض. وقد نص القرآن على أن القصص والأمثال حقّ، وأن إيرادَها في القرآن مقصودٌ لغرضِ التعريفِ باللهِ والبيانِ والعبرةِ والحثِ على التفكر، حيث قال تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله (62)} آل عمران، وقال: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176)} الأعراف، وقال: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن (3)} يوسف، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (111)} يوسف. انظر أيضاً التمهيد: 0.2.2- قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (3)} إبراهيم.

 

7.1.3.1.3- إذاً فما هي اللغة التي خاطب بها القرآن الناس في زماننا هذا وبلغاتهم التي يعقلونها؟ مصداقاً لقولهِ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (3)} إبراهيم. إنها لغة القَصَصِ، والتعلمِ بالتجربةِ والتطبيقِ العملي الذي تبيِنهُ القِصَصُ الحقيقية، أي لغةُ التعلمِ من الخطأ والصوابِ بالممارسةِ والتجربةِ بالأعمالِ والأفعال، التي ترويها القَصَصْ عن حياةِ أفرادٍ وعائلاتٍ وأممٍ وجماعات، مارسوا أعمالاً وحصلوا على نتائج، ورأينا نتائج أعمالهم في الدنيا، وأنبأنا القرآنُ عن ثمرتها في الآخرة، بدليلِ أن خمساً وستين بالمئةِ (65%) من آياتِ القرآن هي عبارةٌ عن قصص، كما بينّاه في كتاب التسهيل. والسببُ والله أعلم أن الإنسانَ يتعلمُ ويراكم علومَهُ وخِبراتَهُ بالتجرُبةِ والمُمارسة. كما بيناه هنا وفي كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن: عن وسائل التعليم باستجابة الدعاء وبالابتلاء وبالثواب والعقاب وبالترغيب والترهيب والإيمان والكفر وغيرها.

7.1.3.1.4- القصة في القرآن: إن أكثر الأساليب استخداماً في تسهيل فهم معانيْ ومقاصِدْ القرآن هي القصص. والسببُ واللهُ أعلم هو أن الإنسان، يراكمُ علومَهُ وخبراتَهُ بالتجربةِ العملية، والتي هي قِصَصُ نجاحٍ أو فشل؛ فقد ابتدأ وجودَهُ على الأرضِ بحياةٍ بدائيةٍ تعتمدُ على وسائلَ بدائيةٍ في الاتصالِ والمعيشة، ثم أخذَ يتعلم ويُطوّر هذهِ الوسائلَ والأدواتَ جيلاً بعد جيل، حتى وصل إلى عصر الثوَراتِ في الصناعةِ والزراعةِ والمعلوماتِ والمعرفةِ والمواصلاتِ والاتصالاتِ والفضاءِ وغيرِه، كما نعلم. ثم أنه من أجلِ الحفاظِ على ذلكَ التطورِ، وتلك العلومِ والاختراعاتِ، كانَ يجبُ أن تترافقَ مع الحفاظِ على الأخلاقِ والقوانينِ والشرائع، التي تحافظُ للناسِ على حقوقِها وحدودِها، عن طريقِ اتباعِ الهدى والصراطِ المستقيم، الذي جاء به المرسلون، وبتقوى اللهِ وطاعته. لذلكَ فالقرآنُ يقصُّ علينا بعضاً من تلك الأحداثِ الفارقة، والمحطاتِ المهمّةِ من مسيرةِ حياة ِالإنسان، ليكون فيها التثبيتُ والدرسُ والعبرةُ والموعظةُ والذكرى، قال تعالى: {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)} هود، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} يوسف. فهي قِصَصٌ حقيقيةٌ تُروى من تاريِخ الإنسان منذُ أن خلقَهُ الله، ثم حياتَه على الأرضِ ثم موتَه وبعثَه. ولأنَ اللهَ خَلَقَ الإنسانَ ليبتلِيهِ بالعملِ واتباعِ دينه، فقَصَصَهُ يغطي مختلفَ مراحلِ وجودِه، من أجلِ بيانِ أحداثِ ونتائجِ هذا الابتلاء. فهو البيانُ الحقيقي أو التطبيقُ العملي للدين، فيهِ بيانُ مصيرِ الأممِ والقرونِ التي آمنتْ فأفلحت، ثمّ غيرتْ وبدّلتْ أو أعرضتْ عنِ اتباعِ الدينِ فأُهلِكَت، واستُبدِلت. وربما لا نبالغ لو قلنا أن القرآنَ كلَّه قصةٌ واحدةٌ تحكي وجودَ الإنسان، ماضيهِ وحاضرهِ ومستقبلهِ، بدليل:

7.1.3.1.4.1- قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} الأنبياء، وفي التفاسير: أي فيه شَرَفُكُم، لِمَنْ اِتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، وحديثُكُمْ لأنه بِلُغَتِكُم، ودينُكم، وأحكامُ شرعِكم، ومكارِمُ أخلاقِكُم، ومحاسِنُ أعمالِكُم، وما تصيرون إليه من ثواب وعقاب؛ أفلا تعقلونَ هذه الأشياء التي ذكرناها؟! وقال مجاهد {فيه ذكركم} أي حديثكم.

7.1.3.1.4.2- القرآن كلّه قصّة واحدة تروي رواية واحدة: هي أن الله تعالى أرسل المرسلين إلى الناس مبشرين ومنذرين، وبالهدى الذي وُعد به آدمُ عليهِ السلامُ حينَ أهبطهُ اللهُ من الَجنة، وأهبَطَ معهُ الشيطانَ ليكونَ لهُ عدوّاً، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)} البقرة، وقال: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124)} طه؛ وتُبَينُ كذلكَ كيفَ أنَ القليلَ منَ الناسِ أطاعُوا واتبَعوا الهُدى، وأنَ أكثرَ الناسِ أعرضُوا فضلّوا وغضِبَ اللهُ عليهِم، وغيرُها منَ الأدلّةِ التي ذكرناها في كتابِ التسهيل.

7.1.3.1.4.3- قصّة القرآن الكاملة لخصتها سورة الفاتحة، وهي أم الكتاب، وأم القرآن: فهي أصله لانطوائها على جميع أغراضه ومقاصده، والقرآن العظيم: لاشتمالها على المعاني التي في القرآن؛ وهي حوار بين العبد وربه، فيها آداب السؤال حيث بدئت بالثناء، تلاه مناجاة العبد المحتاج إلى الهدى من الله رب العالمين الرحمن الرحيم، حيث يُثني الإنسان على ربه بعد أن علم أنه الله الرب الرحمن الرحيم، ثم يَعرض عليه حاجته ويفوض إليه أمره، ففي الحديث الصحيح: “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل “رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة. فالله سبحانه وتعالى له نصف الحمد والثناء والتمجيد، والعبد له نصف الدعاء والطلب والمسألة. والقرآن بكل قصصه وآياته لا يخرج عن هذا الثناء والتمجيد والتفويض لله، والاستجابة للعبد بكل ما سأل (أي من سأل الخير والهداية هداه الله، ومن اتبع الشر وأعرض أعرض عنه الله)، كما بيناه من خلال شرح تناسب سياق سور القرآن وموضوعاته، وكأنها جميعها كالسورة واحدة.

7.1.3.1.4.4- القرآن هو رسالة الإله الحق الواحد للإنس (والجان)، رسالة الخالق لمخلوقاته، أرسلها لأناس يسمعون ويعقلون ويفقهون، كتاب يخاطب أناس أحياء، وليسوا أموات، كلّه قصص واقعية تروي حكايتهم، فيه قصة الإنسان وما حوله {فيه ذكركم}، وفيه إرشادات لهم، كقوله: {لا جناح عليكم …، فإن خفتم …، يوصيكم …، لعلكم تذكرون …، ليبلوكم …، جعل لكم …، … وغيرها}؛ كتاب فيه قصة الإنسان قبل الخلق وأثناء الحياة وبعد الموت، وفيه ماضيه وحاضره ومستقبله وبعد المستقر، قصة لماذا خلق الإنسان وماذا يفعل الآن، وحوار ما قبل الخلق ثم حوار ما بعد المستقر، حوارات وتعليمات كلها حيّة تفاعلية، وأوامر ونواهي نافذة، وليست أوامر أو نواهي جامدة كقوانين الناس، تسمع الحوار أو الأمر وكأنه قصّة حيّة (وهو كذلك)، كقوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى …، ربنا لا تؤاخذنا …، يا أيها النبي جاهد …، يا أيها الناس إنا خلقناكم …، يا أيها الذين آمنوا لا يسخر …، قل سيروا في الأرض ثم انظروا …، فانظروا …، … وغيرها ….}؛ ولأن أمر الله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فلا يهم كم سيستغرق من الوقت ليكون، ويتحقق حصوله، لكنه حاصل لا محالة، وفي طريقة التي هداه الله إليها، فليأخذ وقته وليسير في مساره، فالله تعالى لا يحكمه زمان ولا مكان، الزمان والمكان من مخلوقات الله، لذلك فكلام الله يحكي قصة حدث شاءه الله فقال له كن فكان، هو قصص الناس يقصه تعالى عليهم، فتاريخ الإنسان قصّة بعضها اكتمل وبعضها الآخر قادم، ومستقرّه عند اكتمال القصّة.

 

7.1.3.1.4.5- لقد قرّبت القصص فهم المعاني وسهّلت فهم موضوعات القرآن التي تدور حول مقصده الرئيسي وهو بيان طريق الهدى و {الصراط المستقيم}، فباعتماد القرآن على القصص الحقيقية كما بيّنا أعلاه والأمثال المألوفة والآيات (كما هو مبين أدناه) واستِفادةِ الناس من الدروس الحقيقية مرويّة بقصص من سبقهم من الأمم وراكموا عليها خبراتهم، ورأوا نتائج أعمالهم، وأخذهم بالأسباب وتطبيقهم العملي وتجاربهم. وأهم موضوعات القرآن وتطبيقاته هي: أركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة وأحكام (المعاملات في) الشريعة وهي الأخلاق والآداب كما سنبينه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن.

7.1.3.1.4.6- إن استخدام القصص الحقيقيّة التاريخية من قصص الأمم السابقة فيه تبسيط وتسهيل إيصال معلومات ومفاهيم القرآن الصعبة والغزيرة المعاني للإنسان: أي مقاصده وأغراضه في إثبات وحدانية الله، وإثبات الوحي والرسالة، ووحدة الدّين من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، ومظاهر قدرة الله، والإنذار والتبشير، وعاقبة الخير والشر، والصبر والجزع، والشكر والبطر، والكثير من المفاهيم الدينية.

7.1.3.1.4.7- وإثبات الوحي والرسالة. وأن الدين واحد وقديم وأنه كله من عند الله. وبيان وسائل الأنبياء في الدعوة، والأصل المشترك بين الأديان. وبيان أن الله ينصر أنبياءه في النهاية ويهلك المكذبين. وتصديق التبشير والتحذير. وبيان نعم الله على أنبيائه وأصفيائه. وتنبيه أبناء آدم إلى غواية الشيطان. وإثبات وحدة الله ووحدة الدين ووحدة الرسل ووحدة طرائق الدعوة ووحدة المصير الذي يلقاه المكذبون.

 

7.1.3.1.5- إن من يتدبر قصص الإنسان، عبر الأزمان والقرون السابقة، التي ذكرت في القرآن، ستدهشه النتيجة المأساوية والمحزنة التي ينتهي إليها دائماً الإنسان، والأخلاقُ الذميمة، والصفاتُ السيئة، والأعمالُ الظالمة التي يتناقلها الأبناء عن الأجداد، وعن صفاتِ هذا الإنسانِ الذي يمارسها، بما يناقضُ ويخالف ما خلقه الله له، ونفخَ فيهِ من رُوحِه وحمّلهُ الأمانة وجعله خليفته في الأرض، وسيستخلصُ أن في الإنسان ثلاثَ صفات قاتلة هي سبب هلاكه عبر مراحل تاريخه، كما يلي:

7.1.3.1.5.1- الإنسان مفسد ظالم، فقد حمل الأمانة ولم يقدر عليها، وخرج من الجنة بعد أن أدخله الله فيها، ليعود ويفسِدَ في الأرض ويسفِكَ الدماء، مصداقاً لسؤال الملائكة في قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ (30)} البقرة.

7.1.3.1.5.2- الإنسان جاهل، لا يسمع كلام الله، بل يتبع الهوى ويعرض عن الهدى، ويهمل ما مَنّ الله به عليه من العقل وهيأه له من الزكاة وتعلم الحكمة، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب.

7.1.3.1.5.3- الإنسان مجرم قاتل: قال تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)} المائدة، وقال: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72)} البقرة، وقال: {وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ (155)} النساء، وقال: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)} الأعراف، وغيرها.

7.1.3.1.5.4- هذا نقيض ما خلق الإنسان لأجله، من الخلافة في الأرض واستعماره فيها، والكرامة والسعادة والنعيم والزكاة والشكر والعبادة والمحبّة، الذي سنبينه في المباحث والفقرات التالية، وقد جعل الله علاج هذه الآفاتِ الثلاثةِ بالعلم والإصلاح والزكاة والشكر والإنفاق، وكذلك بالعبادات، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر (45)} العنكبوت، وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها (103)} التوبة، وغيرها من الآيات التي تبين أن الله ميّز الإنسان بالرقي بأعماله، وكما بيناه في المباحث والفقرات التي ستأتي.

 

7.1.3.2- إحصاء عدد آيات القصص في القرآن:

7.1.3.2.1- بإحصاء عدد آيات القصص في القرآن، فإننا سنجد أن مجموعها يبلغ حوالي 65% من مجموع عدد آيات القرآن: منها 50% قصص عاشها الإنسان منذ أن خلقه الله إلى أن نزل القرآن، و 15% هي قصص وأحداث من عالم الغيب وقصص ستحصل بعد الموت في اليوم الآخر، كما يلي:

7.1.3.2.2- أكثر من 50% من عدد آيات القرآن جاءت بأسلوب قصصي (كما بيناه وفصلناه في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن) وهي كما يلي: في سورة البقرة 143 آية، آل عمران 160، النساء 111، المائدة 87، الأنعام 90، الأعراف 169، الأنفال 57، التوبة 99، يونس 69، هود 86، يوسف 98، الرعد 16، إبراهيم 25، الحجر 67، النحل 50، الإسراء 59، الكهف 75، مريم 71، طه 104، الأنبياء 66، الحج 14، المؤمنون 58، النور 15، الفرقان 26، الشعراء 203، النمل 59، القصص 64، العنكبوت 36، الروم 11، لقمان 6، السجدة 6، الأحزاب 45، سبأ 27، فاطر 6، يس 21، الصافات 121، ص 64، الزمر 0، غافر 36، فصلت 16، الشورى 6، الزخرف 44، الدخان 22، الجاثية 2، الأحقاف 20، محمد 28، الفتح 29، الحجرات 12، ق 9، الذاريات 29، الطور 8، النجم 48، القمر 45، الرحمن 0، الواقعة 0، الحديد 4، المجادلة 10، الحشر 13، الممتحنة 13، الصف 6، الجمعة 3، المنافقون 8، التغابن 3، الطلاق 4، التحريم 9، الملك 6، القلم 30، الحاقة 9، المعارج 5، نوح 21، الجن 28، المزمل 3، المدثر 15، القيامة 0، الإنسان 5، المرسلات 9، النبأ 0، النازعات 12، عبس 10، التكوير 0، الانفطار 0، المطففين 5، الانشقاق 2، البروج 8، الطارق 0، الأعلى 4، الغاشية 0، الفجر 9، البلد 0، الشمس 5، الليل 0، الضحى 3، الشرح 4، التين 0، العلق 6، القدر 0، البينة 2، الزلزلة 0، العاديات 0، القارعة 0، التكاثر 0، العصر 0، الهمزة 0، الفيل 5، قريش 4، الماعون 0، الكوثر 0، الكافرون 0، النصر 0، المسد 3، الإخلاص 0، الفلق 0، الناس 0 = 3124 ÷ 6236 = 50.10%.

7.1.3.2.3- حوالي 15% من عدد آيات القرآن جاءت تتحدث عن أنباء الغيب وتصف أحداث الآخرة ويوم القيامة بأسلوب قصصي، وهي كما يلي: في سورة البقرة 4 آيات، آل عمران 4، النساء 4، الأنعام 12، الأعراف 21، الأنفال 2، هود 5، الرعد 5، إبراهيم 9، الحجر 6، النحل 12، الإسراء 2، الكهف 18، مريم 15، طه 14، الأنبياء 10، الحج 12، المؤمنون 16، النور 2، الفرقان 18، الشعراء 15، النمل 3، القصص 8، الروم 8، السجدة 1، الأحزاب 5، سبأ 10، فاطر 5، يس 22، الصافات 47، ص 16، الزمر 30، غافر 26، فصلت 10، الشورى 5، الزخرف 15، الدخان 25، الجاثية 9، الأحقاف 3، محمد 2، ق 24، الذاريات 4، الطور 22، القمر 8، الرحمن 24، الواقعة 72، الحديد 4، المجادلة 5، التغابن 2، التحريم 3، الملك 7، القلم 2، الحاقة 25، المعارج 13، المزمل 6، المدثر 20، القيامة 23، الإنسان 15، المرسلات 25، النبأ 22، النازعات 17، عبس 10، التكوير 14، الانفطار 12، المطففين 17، الانشقاق 11، البروج 7، الطارق 3، الأعلى 4، الغاشية 16، الفجر 10، العلق 4، الزلزلة 6، القارعة 11 = 924 ÷ 6236 = 14.82%.

 

7.1.3.2.4- عند إحصائنا لعدد آيات القصص في القرآن قد يختلف قليلاً العدد كما ذكرناه هنا (أعلاه) من شخص إلى آخر، والسبب هو وجود بعض الآيات المختلفة مواضيعها في السياق الواحد، أو أن الآية قد تحتوي على أكثر من موضوع في نفس الوقت فتصنف هنا أو هناك، أي قد تتحدث الآية الواحدة عن صفة الله وعن الكتاب وعن الرسول وعن المؤمنين والمنافقين والآيات المحكمات والمتشابهات والفتنه والتأويل والراسخون والتذكرة وأولو الألباب؛ وكذلك نجد موضوع واحد في عدّة آيات. ويجب أن نشير هنا إلى أنّ نفس آيات القصص عند إحصائها ضمن سياقها، قد تتضمن أيضاً قصص يوم القيامة وبيان نعم الله وآياته في السماوات والأرض وفي غيرها من المخلوقات؛ فالقصص لا تقتصر على بيان أحداث وتجارب الأمم السابقة مجرّدة عما حولها، بل قد تتنقل بين كل مراحل وجود الإنسان بلا انقطاع، أي: ما بين القصص عن بداية الوحي، إلى ذكر قبول الناس أو إعراضهم عن رسالة ربهم، إلى ضرب الأمثال، إلى بيان آيات الله في مخلوقاته، إلى الجزاء والعقاب في الدنيا، إلى البعث والحساب والجزاء ثم إلى القرار والمصير النهائي في الآخرة، إلى غيرها من موضوعات القرآن؛ وينتقل الحديث في القصص ما بين كل مراحل وجود الإنسان، وفي كل مكان في الدنيا والآخرة، فكلّه ماض وكأنه قد كان، فالأمر في قدر الله تعالى قد انتهى وكان، لأنه خالق كلّ شيء وخالق الزمان والمكان، أمّا الإنسان فقد يعجب من هذا الانتقال العجيب بين المراحل، لأنه مخلوق محدود المدارك والأفهام. وقد يختلف تعداد الآيات هنا أيضاً مع العدد المذكور في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، حين النظر في سياقه، وذلك بسبب اختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى موضوعات هذه الآيات، سواء من أجل تدبرها ودراستها، أو بسبب اختلاف المقصد من إعادة ترتيبها بقصد الدراسة كما فعلنا في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، وقد يختلف احصائها أيضاً باختلاف الناس ومقاصدهم واختلاف الزاوية التي ينظرون منها إلى القصّة، وهو اختلاف إحصائي وتنوّع في البحت فقط، وليس اختلاف في موضوعات الآيات، أو مقاصدها. (انظر أيضاً سورتي: آل عمران: 003.7.5.8، ولقمان: 031.7.3.5)

 

7.1.3.3- ما الفائدة أو الدروس التي نتعلمها من القصص الكثيرة الموجودة في القرآن:

7.1.3.3.1- احتواء القرآن على حوالي خمسٍ وستين بالمئة (65%) من آيات القَصص، لا بد أن يكون وراءه حكمة عظيمة، وإعجاز كبير، وسبب قائم يجب أن يتأمله ويعلمه المؤمنون. فكل آية من آيات القرآن معجزة، فلا عجب أن تحتوي الخمسُ وستون بالمئة (65%) من آياته على معجزات ودلائل وآيات لا تحصى. وأول معجزات القصص ودلائلها، هي أنها تبرهن لنا، وكأنه رؤيا العين، أن بالقراءة والتعلم لكلام الله ورسالاته، وتطبيق ذلك، يفلح الإنسانُ، وبالجهل والاعراض عن الهدى، يخسر. فأول كلمة نزلت من القرآن هي كلمة اقرأ، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وهو الذي {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، فالقلم نعمة عظيمة تحفظ بها العلوم، وقال تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. وميّز الله الإنسان على المخلوقات الأخرى بالقدرة على التعلم، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (31)} البقرة، فقد جعل له عقلاً يقرأ في الكون فيتعلم من آياته، ويراكم علومه بالتجربة والخبرة، ويكتب بالقلم، ثم يرقى بالأعمال الصالحة التي تعلمها. ولأن الإنسان يتعلم بالقلم والتجربة والقياس، ويراكم خبراته مستفيداً من علوم الأمم السابقة، التي راكموها بدورهم بالممارسة منذ آلاف السنين، وبالدراسة والتدبر، فهو ليس كالمخلوقات الأخرى التي لا ترتقي، لأنها فقط تكتسب علومها بالفطرة والغريزة لا بالتجربة والتعلم، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ (44)} الفرقان، وقال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (5)} الجمعة. فلذلك قد جاءت رسالة السماء بقصص وأمثال وآيات كانت حَدَثَت في الأمم في الزمان الغابر، لكنها قد ضاعت بهلاك تلك الأمم، كما وجهلها الإنسان بسبب عدم نضجه وقلّة معرفته وضعف إدراكه بضرورة حفظ تلك العلوم بالكتابة، فلم يكتبها السابقون فانمحت من الذاكرة، أو حرّفت؛ فجاء كلام الله تعالى ليعيد لنا ذاكرتنا الصحيحة، وزبدة تلك الدروس والعبر، في كتاب مليء بالقَصَص الحق والأمثال والآيات، التي قال عنها بأنها أحسنُ القصص، قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ (3)} يوسف. ثم بعد هذه القصص الحسنة، وبعد تلك الآيات المبثوثة في كل شيء، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ (53)} فصلت. يأمر الله تعالى العقل ليتفكر، والقلب ليحب ويكره، والجوارح لتقترف الحسنات أو السيئات، ثمّ قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} الزلزلة. فالحمد لله على نعمته ورحمته، التي أنعم على بني آدم بأن حفظ لهم ثمرة تجاربهم فقصّها عليهم، وأرشدهم إلى آياته ليتأملوها ويتفكروا فيها، ولم يأت كلامُه على شكلِ قواعدَ محكمة، وأحكامٍ نظريةٍ صارمة، وقوانينَ ملزِمة، أو تعاليمَ قائمة على الأمرِ والنهي، قد يعجز الإنسان عن استيعابها وتطبيقها، كما سيلي.

7.1.3.3.2- القَصَص وسيلة تعليميّة سهلة ومهمّة يفهمها كلّ الناس، فاعتمد عليها القرآن قصداً بغرض التسهيل، لأنه كتاب حق، فيه هدى وموعظةٌ ورحمةٌ وبشرى وشفاءٌ للمؤمنين؛ فيجب أن يَسهُل فهمه على كل الناس، ليستفيدوا مما اشتمل عليه من كل علم نافع: من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ (89)} النحل. فيقص علينا بالتجربة حقيقةَ أننا في نعيم يجب ألا نضيعه؛ فالحياة نعمة وسعادة، ونعم الله سعادة، ومعرفتُه قمةُ النعمة والسعادة. وبهذا الدين، وهذا الأمر، سهل الله أمرنا، لأنه يريد أن تسعد عقولنا بمعرفته، وأن تسعد قلوبنا بحبه، وأن تسعد أجسادنا بالتمتع بنعمه.

 

7.1.3.3.3- لا يستطيع مخلوق على وجه البسيطة أن يفعل ما يريد إلا بقدر من الله، وفي إطار دائرة مكّنه الله من العمل فيها، ولا أن يتحرك إلا بأسباب وسنن وموازين أقام الله عليها هذه الحياة. فالحياة البشرية لا تمضي اعتباطاً بلا ضابط ولا دليل، إنما تحكمها سنن ثابتة كتلك التي تحكم الكون، غير أنّا كثيراً ما نغفل هذه الحقيقة، لأننا نرى السنن والموازين التي يدار بها الكون مطّردة واضحة ومنضبطة، ونرى الحياة البشرية عشوائية دائمة التقلب، فنظن لأول وهلة أن الكون وحده هو المنضبط، أما البشر فلا. من أجل ذلك أمرنا الله تعالى في القرآن بدراسة القَصَص والنظر في آثار ومصائر الأمم؛ لأن الذي مضى هو تجربة تامة منتهية، مُستقرّة المعالم، واضحة الدلالة، ثم أمرنا الله أن نتدبر الحاضر في سياق دراسة تلك القَصص، فتكتملَ صورة سنن الله وموازينِه التي تحكم حياة الإنسان في مختلف مراحل وجوده، لذلك يتكرر في القرآن ورود هذا المعنى في صور شتى، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)} آل عمران، وقال: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل (42)} الروم. وبذلك يتضح تاريخ ومصائر الأمم على ضوء سنن الله، فيُرى موقعه من مجرى الأحداث، فحين يقول لنا القرآن {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41)} الروم، وحين يقول {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (96)} الأعراف، فنعلم أن هذه هي الموازين والأسباب التي تجري بها حياة البشر على الأرض في دقة كاملة وانضباط كالسنن الكونية سواء. وعلى ضوئها نستطيع أن نقرأ الماضي والحاضر والمستقبل، قال تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً (62)} الأحزاب. لذلك نستطيع القول: أنه إذا سارت الأمور واستمرت على هذا الاتجاه، فإن النتيجة بحسب سنن الله ستصل إلى كذا؛ ومن ذلك السنن المذكورة هنا في الآيات عن هلاك الأمم، وظهور الفساد بما كسبت أيدي الناس، وبركات السماء والأرض بسبب الإيمان والتقوى.

7.1.3.3.4- نحن الآن نعيش حقيقة في عصرٍ المسلمون فيه ضعاف مضطهدون في كل بقاع الأرض، يعيشون على هامش الحياة، لا تكاد تسمع لهم صوتاً سوى الصراخ والعويل من شدّة الألم الذي ألمّ ويلم بهم بسبب الظلم الواقع عليهم من غيرهم من الأمم، ومن الأذى والبأس الشديد الذي يذيقونه بعضهم بعضاً، وكل الأمم ضعيفها قبل قويّها مشغولون في استباحة بلاد ودماء وخيرات المسلمين، والمسلمون أيضاً يستبيحون دماء وأعراض بعضهم البعض، جوع وتشريد ونهب وتعذيب ودمار وأسلحة كيماويّة وفتاكة ومحرّمة وفظائع وتنكيل وتجويع، حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون. المسلمون يقتّل بعضهم بعضاً، والأمم الأخرى من حولهم تقتل فيهم. في مثل هذه الظروف الصعبة والقاهرة والمحيّرة، لا بد للمسلم من أن يرى سنن الله عبر القرون في الأمم كما بيّنها القرآن ليعلم أن الزمان يدور وأن الله يستبدل الظلم والقهر بالعدل والحرّية، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)} القصص، وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (1)} النحل، وقال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)} الأنبياء، وغيرها من الآيات، وكما كان يراها رسولنا صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: “قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ” البخاري.

 

7.1.3.4- تسهيل فهم القرآن بالقصص:

7.1.3.4.1- كلام الله مع سهولة فهمه، فهو غزير المعاني، لا تنقضي عجائبه. يحتاج إلى فهمٍ بصيرٍ واعٍ (ليس سطحي)، وتدبّرٍ متكرّرٍ عشرات بل مئات المرّات، ليس لنقص في تعبير القرآن، لكن بسبب قصور فهم الإنسان ومحدودية مداركه. ففي كلّ تدبّر جديد يظهر له فهم جديد، وعلم غزير راقٍ، كيف لا وهو كلام الله خالق الإنسان وخالق عقله وفهمه ونفسه. الله تعالى يعلم أن أكثر الناس لا يتدبرون آياته، لذلك يحملهم على تدبرها حملاً، ويغمسهم فيها غمساً، لا يخرجون منه إلا وقد أصابهم منه صائب، بل يمطرهم بآيات وحُجج وقصَص وأمثال تبيّن لهم الحق الذي فطروا عليه، فيسحرُ عقلهم وقلبهم ومداركهم التي يعلقُ بها أثر من كلام الله لا يزول. الإنسان يعلم بفطرته وأصل خلقته أن في هذه الآيات التي تقرأ عليه ويسمعها ويبصرها، السعادة والسلام والأمان الخالد الأبدي. سور القرآن احتوت على قَصَصٍ بديعٍ سهلِ الفهمِ، جامعٌ مانعٌ بليغٌ كاملٌ شاملٌ، لا يدع جاهلاً إلا علّمه، ولا تساؤلاً إلا أجابَ عليه، ولا حاجةً ماديّةً أو روحيةً إلا لبّى حاجتها كاملةً بلا نقص. جميعُ قصَصِ القرآنِ سهلةُ الفهمِ واسعةُ المعاني، تقول اعبدوا الله فتحقق لكم كل حاجاتكم، لكنكم تعبدون الأوثان، فتخسرون كل شيء وتعذبون بخطاياكم. وفي القصَص المروية والآثار الباقية والبيوتِ الخاوية والآبار المعطلة، الدليل على مصائر الأمم. وتقول القَصَص أيضاً، أن العبادة حاصلة، لا مفرّ منها لأنها حاجة فطريّة، فالكل يعبد إلهاً، إما عبادة الله أو عبادة الأوثان؛ فاعبدوا الإله الذي ينفعكم ويحميكم ويغفر لكم ويدخلكم الجنة، لكن المأساة الحاصلة أن أكثر الناس يعبدون الآلهة المخلوقة التي لا تضر ولا تنفع.

7.1.3.4.2- إن مقصِد القرآن هو بيان طريق الهدى وهو {الصراط المستقيم}، وفيه البشائر بفوز سالكيه وفلاحهم ترغيباً باتباعه؛ وفيه بيان طرق المغضوب عليهم والضالين ومصائرهم تحذيراً من اتباع أفعالهم؛ وفيه بيان اختلاف الناس باعتبار الإيمان إلى ثلاث فئات: مؤمنون وكافرون ومنافقون. وبرحمة من الله بالناس، وبسبب اختلاف مستوياتهم في التعليم، ومن أجل تسهيل فهم آيات القرآن للإنسان العادي، كما للمتخصص والمتعلّم، استخدم فيه القصص، من تجارب الإنسان، والمثل المألوف، وآيات الله في الكون: فذكر قصص وأمثلة وأحداث حقيقية تحكي حقيقة أفعال ومصائر هذه الفئات الثلاثة، من تجارب الإنسان نفسه، وكأنها رأي العين، لمن أراد أن يعتبر، وإذا أضفنا إليها استخدامها المثل المألوف، في الموضوع التالي مباشرة، (انظر 7.1.4 من هذا الباب) لتقريب المعنى، وكذلك الإشارة إلى آيات الله في الكون (انظر 7.1.5 من هذا الباب) لبيان وحدانية الله وكمال صفاته، فإن أكثر من ثلاثة أرباع عدد آيات القرآن هي قصص وأمثال وآيات. وقد بيناّه كلّه مفصلاً في سياق كل سورة على انفراد في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن.

7.1.3.4.3- هذا الإعجاز العظيم في استخدام القصص كوسيلة في البيان والتعليم، جعله الله ليناسب جميع أفهام الناس على مختلف مستوياتهم اللغوية والثقافية والعلمية؛ لأن ذكر قصة واحدة أو مثال واحد من كلمات قليلة قد يغني في بيانه عن ذكر آلاف الكلمات والتعابير النصية والخبرية؛ فالقِصة (على عكس الكلام النصي الذي يخاطب عقل الإنسان فقط) تجعل الإنسانَ يتفاعلُ بكل حواسه، فيرى الأحداث ويسمع الأصوات ويشعر بما يشعر به الأشخاص في القصّةِ، كأنه معهم ويعيش بينهم، فهي تخاطب وجدانه، عقله وقلبه ومشاعرة وكل حواسه، يسمع حواراتهم وجدالهم، ويرى أفعالَهم، ويعلم مصائرَهم، كأنه معهم يعيش ظروفهم وأحوالهم ويتعلم منهم؛ فيضيفُ بما تعلّمهُ من قصَصهم إلى سنين عمره من أعمارهم وأزمانهم، مع فارق أنه لم يحاسبْ على تلك الأعمال، ولم تمسّه أحوالهم. أي أننا بسماعنا لقصص أقوام نوح وعاد وثمود وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ممن قصّ علينا القرآن قصصهم الحقيقي، نكون قد أضفنا من أعمارهم إلى أعمارنا، وأضفنا سنيناً وقرونا من سنين أعمارهم وخبراتهم وتجاربهم إلى خبراتنا وتجاربنا القليلة والمحدودة في الزمان والمكان. فالحمد لله أن جعلنا من آخر الأمم نعيش قصصهم، فنتفكر ونتدبر ونتعلم الكثير، ونعتبر من أحوالهم ومما صاروا إليه.

7.1.3.5- وفيما يلي بعض التفاصيل عن كيف استخدم القرآن أسلوب القصص في تسهيل فهم مقاصده وموضوعاته:

 

7.1.3.5.1- القرآن رسالة بسيطة سهلة، لكن فهم الإنسان لها يختلف لأن استيعابَهُ و رغباتهِ وتوجهاته مختلفة؛ لذلك يريهم سبحانه هذا الاختلافَ بالقصَصِ من أخبارهم، أي بحقائِقِ وتجارُبِ مَنْ سبقهم من الأمم، فمن هؤلاء الأمم من استخدم فقط نعمة العقل بالتفكر بالأسباب الظاهرة والمصلحة العاجلة، فجعلها مسألةَ ربح وخسارة بلا عواطف وانتهى، ومنهم من استخدم نعمة القلب بالحب والكره بلا منطقٍ ولا أسباب وانتهى، ومنهم من اتبع الشهوات بلا رادع من عقل ولا وازع من قلب أو ضمير، والله تعالى يريدها كلها؛ فبالقصص وضرب الأمثال والترغيب والترهيب والابتلاء بالخير والشر يبين لنا اختلاف الناس، من تجارب الذين سبقوا، فهؤلاء سعدوا لأنهم اتقوا واتبعوا طريق التزكية والسعادة، وهؤلاء شقُوا لأنهم فجروا وساروا طريق التدسية والشقاء، فالإنسان يرى ويسمع ويلمس بحواسه، فيكره أو يحب بقلبه، فيفكر ويختار بميزان عقله (انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد). لكن أكثر الناس يغرق في النعم، فيحبها وينشغل بها، ويستخدم عقله بالمكر في الاستيلاء عليها، وكنزها وتخزينها بشتى الوسائل والسبل، ومنع الناس منها كما فعل قارون، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (76)} القصص. قد سخر الله تعالى لهم الدنيا وابتلى الناس بعضَهُم بِبَعض، وجعل بعضَهُم لبَعضٍ سخريا، لتُعمُرَ بهِمُ الحياةُ لمقصِدٍ واحدٍ هو: أن يمايَزَ بينهم بالدرجات فيكونون فئتين، فئة زكّت نفسها فأفلحت، وفئة دسّت نفسها فخابت، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس. كيف يكون ذلك؟ لا نحتاج إلى إتقان لغة ولا إلى شهادات ولا إلى فلسفات لفهمه، أنظر ماذا جرى للأمم من قبلنا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)} الفجر، عاد كلها هلكت، وهلك غيرُها من الأمم العظيمة لأنهم طغوا وكذبوا بالدينِ ولم يكرموا اليتيمَ ولم يتحاضّوا على طعام المسكين. هذا في الدنيا لكن ماذا عن الآخرة؟ قال تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} الفجر. فقد قصّ علينا القرآن عن الأمم، قصَصِها وأنبائِها، وذكر لنا بكلامِهِ ورسالاتِهِ عن الموتِ والحياة، وأشار إلى آياتهِ في السماوات والأرض، وإلى البراهين الدالّة عليها.

7.1.3.5.2- وقصص القرآن لم يقتصر على أخبار الدنيا فقط، بل تعداه إلى ما قبلَ الوجود على هذه الدنيا وما بعدها، فمثلاً: بإيراد قصة الحوار مع الملائكة وإبليس، المذكورة في سورتي البقرة في الآيات (30-39) والأعراف في الآيات (11-27) وفي أماكن أخرى في القرآن، ومع الملائكة وخلق آدم، ورفض إبليس السجودَ لآدم، وهو حوار بسيط، وأحداث واضحة التفاصيل، وكلماتٌ قليلة، لكن في طياتها معانٍ عظيمة، ومقاصدُ خطيرة، ومواضيعُ عريضة: عن تكريم الله للإنسان بصفةِ التعلُّمِ التي تميّز بها على الملائكة، وعلم الله لا نهاية له، والمعرفةُ المتناميةُ بالتجربة، والتي لا تنتهي، وعن الهدى، والاتباع، والإعراض، والأعمال التي ترقى بالإنسان إلى أعلى الدرجات أو تهوي به أسفل الدركات، والطاعة، والمعصية، والتوبة، والمغفرة، والفساد، والعداوة، والعناد، والكبر، وغيرها من الموضوعات التي لا تنتهي ولن تنتهي أبداً إلا بانتهاء وجود الإنسان، ووجودُ الإنسان لا ينتهي لأن الله خلقه ليبقى خالداً أبداً، إما في الجنة أو في النار.

7.1.3.5.3- أما أنباء الآخرةِ وقَصَصُ يومُ القيامة ونعمُ الله التي لا يراها الإنسان: فالله سبحانه وتعالى لا يحده زمان ولا مكان، فهو خالق الزمان والمكان، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} يس؛ فالمستقرُّ النهائي لكلِّ مخلوقٍ قد استقرَّ بأمر الله في مكانهِ وزمانهِ الذي لا يتغير حين قال تعالى له كن فكان. إن قَصَصَ يومِ القيامة وبيان نعم الله وآياته في السماوات والأرض وفي غيرها من المخلوقات، كلّه قَصَصٌ حقيقي؛ فالقصص لا تقتصر على بيان أحداث وتجارب الأمم السابقة فقط، بل قد تتنقل ما بين القصص عن بداية الوحي، إلى ذكر قبول الناس أو إعراضهم عن رسالةِ ربهم، إلى ضرب الأمثال، إلى بيان آيات الله في مخلوقاته، إلى الجزاء والعقاب في الدنيا، إلى البعث والحساب والجزاء، ثم إلى القرار النهائي في الآخرة، إلى غيرها من موضوعات القرآن، كلّه قصص واقعي وحقيقي هادف، يحكي قصة حياة الإنسان كما يرويها الله تعالى الذي يعلم السرّ وأخفى، بغرض البيان والهداية والتثبيت للمؤمنين، وإقامة الحجة على المكذبين؛ فهو ليس كقصَص الخيال عند الناس، بل هو قصَص الحق، والقصَص الحقيقيُّ من عندِ رب الناس، فيه بيان مسارِ الحكمة والهدى إلى الصراط المستقيم.

7.1.3.6- أخيراً: تكرار القصص:

7.1.3.6.1- القرآن هو باختصار في غالبه قصص وأمثال، ويتداخل فيه أيضاً كل وسائل وأساليب تفهيم مقاصد ومواضيع القرآن (المذكورة أدناه)، لكن القصص تأخذ الحيز الأكبر من عدد آياته، لأنها هي التي تسرد الأحداث والتطبيق العملي للدعوة إلى الهدى كما حصلت في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الأمم والقرون الأولى؛ كما أن القرآن اختار بعض القصص وأكبرها قصة موسى عليه السلام وظل ينتقي منها ما فيه موضع الفائدة والعبرة والهدى، أما جسم القصة كلّه فلا يكرر إلا نادراً، ولمناسبات خاصة، بأن يعرض من القصة بالقدر الذي يكفي لأداء الغرض، الذي هو تسهيل فهم السورة.

 

7.1.3.6.2- بالتأكيد أنه لم يحصل تكرار للقصص والأمثال في القرآن، بدون أن يكون لذلك سبباً يستدعي التكرار كما سنراه مفصّل في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، ومشار إليه في مكانه من كل سورة، (انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن 026.8.4- القصص وتسهيل فهم السور)، لقد اختار سبحانه المقاطع المناسبة لسياق السورة والتي تؤدي إلى فهم المقصد ومواضيع السورة، إذ اقتصر المقطع على ذكر الوقائع التي تلتقي مع هذا الغرض دون أن يعرض التفصيلات الأخرى للأحداث. لو أراد سبحانه أن يورد القصة لمجرد القصص لفعل، كما فعل ابن كثير مثلاً أو غيره من العلماء الذين كتبوا عن قصص الأنبياء في القرآن. إذ بدأوا بقصّة آدم، ثم إدريس، ثمّ نوح، ثم هود، ثم صالح، وهكذا إلى خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام جميعاً، في تسلسل تاريخي وقصصي؛ ثم ذكروا مثلاً الأحداث التي وقعت لموسى عليه السلام، حين سردوا قصته، فبدأوا بمولد موسى عليه السلام ثم نشأته قبل أن يتطرقوا لرسالته. بينما بدأ القرآن في سورة البقرة بأحداث رسالة موسى عليه السلام بعد أن آمن به بنو إسرائيل وبعد نجاتهم من آل فرعون، ثم انتقل إلى قصتهم وهم مع طالوت في طريقهم إلى الأرض المقدسة، ثم الإشارة الى ما فعلوه بالأنبياء من بعد موسى إلى أن انتهى بهم المطاف، بعد أن استبدلهم ربهم بقوم غيرهم، ودخولهم في مواجهة وصراع متواصل ومحموم مع أمّة خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام انتهى بانتهائهم وخروجهم من جزيرة العرب، قال تعالى: {تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون (141)} البقرة. وذلك بما يناسب مقصد السورة وهو الهداية، ليبيّن لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم، بمثال عملي وقصّة حقيقية كيف يكون الهدى والإيمان، وكيف تعامل بنو إسرائيل مع هدي ربهم ونعمته عليهم، وماذا كان جزاء نبذهم لعهودهم ونقضهم ميثاقهم مع ربهم. ولم تأت قصة مولد موسى عليه السلام ثم نشأته إلا في الجزء العشرون، في سورة القصص والتي رقمها 28 في ترتيب سور القرآن، وذلك بما يناسب مقصد السورة وهو ردّ الأمر كلّه لله، وأن إرادة الله هي الغالبة، وأنه أنشأ نبيّه في بيت عدوّه رغم حذره وشدّ حرصه على قتله. وعندما تطلب البيان أن تأتي قصّة نبي كاملة متتالية، أتى بها القرآن في سورة يوسف عليه السلام لنتعلم منها كيف تأتي الفتن (أو تصيب الإنسان)، وكيف يكون الابتلاء، وأنه قد يطول ويستمر لعقود من الزمن، وأن فيه حكمة وخير وتمحيص وتدريب وغيره كما فصلناه في مكانه. ولم تذكر في القرآن وفاة موسى عليه السلام، لكن في سورة المائدة ذكرت نهاية بني إسرائيل الذين أنقذهم الله على يد نبيه موسى عليه السلام، وأغرق عدوهم فرعون وجنوده، وهو آخر ذكر لها (حسب تسلسل النزول)، بأن حرّم الله عليهم الأرض المقدسة، فتاهوا في الأرض أربعين سنة بسبب عصيانهم وعدم حفاظهم على النعمة، وعصيانهم أمر ربهم، وعصوا رسولهم حين أمرهم بدخولهم الأرض المقدسة، وهي نهاية يستحقونها وتتناسب مع ما فعلوه من العصيان وفسقهم عن أمر ربهم. ثمّ لمّا انقرض الجيل الأول الفاسق، وجاء الجيل الصالح بعد انقضاء الأربعين سنة في التيه، وهم الفئة الذين آمنوا ونشأوا على الإيمان وصبروا وأطاعوا أمر ربهم، نصرهم الله وفتح لهم الأرض المقدسة، كما هو مذكور في سورة البقرة، قال تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ، وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} البقرة، والسورة نزلت قبل المائدة (حسب تسلسل النزول). وسيعود بني إسرائيل إلى سابق عهدهم وفسقهم، فيرتدوا على أدبارهم، بعد أن نصرهم الله وأدخلهم الأرض المقدسة، فيعودوا كما بدأوا ويظلوا يسعون في الأرض فساداً إلى ما شاء الله، وقد حذر القرآن من دوام إجرام وإفساد بني إسرائيل في الأرض، في سورة الإسراء وهي سورة مكّية (هي السابعة عشرة من حيث الترتيب في المصحف، والخمسون حسب ترتيب النزول، نزلت قبل هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من مكّة إلى المدينة بسنة، ونزلت بعد سورة القصص التي ذكر فيها مولد موسى عليه السلام) وذكر فيها النبوءة بهلاكهم في آخر الزمان على أيدي عباد الله أولي البأس الشديد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذه النبوءة بنهاية بني إسرائيل جاءت في الإسراء، تنبئ بخلاص الأرض منهم خلاصاً أخيراً، بعد علوّهم الكبير وعظيم إفسادهم الذي يبدوا أنه لن ينتهي إلا بانتهائهم، وهذا متناسب مع مقصد الإسراء وهو تنزيه الله تعالى عن كل مالا يليق بكماله وجلاله وعظيم سلطانه، وشكر نعمه، وعبادته، واتباع دينه وشرعه الذي يهدي لما هو أقوم، (فله تسبح السماوات والأرض ومن فيهن).

وقد ذكر تبرؤ موسى عليه السلام من أفعال بني إسرائيل الذين لم يوفوا ما عاهدوا الله عليه، في سورة المائدة بما يتناسب مع مقصدها وهو أمر المؤمنين بالوفاء بالعقود وقد أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة (وهو آخر ذكر لقصته حسب تسلسل النزول)، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)}، كما تبرأ نبي آخر وهو عيسى بن مريم عليه السلام أيضاً من شرك النصارى في نفس السورة، قال تعالى: {ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا اللهَ ربي وربكم. وكنتُ عليهم شهيداً ما دُمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد (117)}، وقصّة مولد عيسى عليه السلام جاءت مفصّلة في الآيات (16-37) في سورة مريم، بما يتناسب مع مقصدها وهو بيان صفة الرحمن التي شمل بها جميع خلقه، ودل بها على وحدانيته وكمال صفاته. أما الأمة الخاتمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يتبرأ منهم رسولهم، لأنه قد تطوّر وعيهم ونضج فكرهم مما أهّلهم أن يستوعبوا كلام ربهم المعجز في القرآن، فآمنوا برسالته وتفكروا بآياته، وأخذوا العبرة من أخطاء وتجارب بني إسرائيل المبسوطة في سورة البقرة، فلم يفعلوا فعلهم، بل اهتدوا وآمنوا بما أنزل على رسولهم وعلى جميع المرسلين من قبله، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} البقرة.

انظر أيضاً سورة طه: 020.8.5- قصة موسى في القرآن. وسورة الأحقاف: 046.8.1.4- جميع سور الحواميم تحدثت عن موسى عليه السلام.

7.1.3.7- أخيراً، بقي أن نقول إنه في كل مكان ذكرت فيه القَصَصُ والأمثال في القرآن، كان استخدامها أسلوباً معجزاً في بيان طريق الهداية، وفي تسهيل فهم مقاصده وموضوعاته ومعاني آياته. وسوف يجد قارئ كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن كيف فعلت القصص هذا الفعل العجيب في تسهيل الفهم والتبسيط السحري لفهم معاني الآيات، وقد ركزنا على شرح كل هذا وبيانه كثيراً في كل سورة على انفراد، وجعلناه نصب أعيننا في فهمنا لكلام ربنا، وفصلنا فيه كثيراً. وفيما يلي نشير إلى بعض هذه الفوائد:

 

7.1.3.7.1- سهلت علينا فهم مقصود ربنا عن الهدى والعبادة والمعاملات: ففي سورة البقرة، مثلاً، فإن قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل أخذت حيّزاً كبيراً من السورة، وكانت هي المثال الحي الذي ينبض بالحياة، تعلّمنا من خلالها بالتجرُبةِ والمثال معنى قوله تعالى: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} مكررة ثلاث مرات في الآيات (40، 47، 122) عن ثلاث من النعم المختلفة: عن نعمة الرسالة والآيات، وعن نعمة النجاة والهداية والنصر، وعن نعمة التفضيل على العالمين. وفهمنا معنى أن نوفي بعهد الله حتى يوف بعهدنا {أوفوا بعهدي أوف بعهدكم (40)}، وعلمنا استحالة رؤية الله {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55)}، وفهمت أمة محمّد صلى الله عليه وسلم، صفة هؤلاء الذين {كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم (100)}، وأن {الذين آتيناهم الكتب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم (146)} وفهمت كل هذا وغيره، بأن رأت عرضاً حياً مليئاً بالجدال والشد والجذب، ومثلاً حقيقياً عن تجربة سابقة حول نفس الغرض ونفس المواضيع. وعرَفنا أنواعَ الناسِ: المؤمنينَ والكافرينَ والمنافقين، مع بيانِ الأسباب، وجزاءِ كلُ طائفةٍ في الدنيا، وجزاؤُهم في الآخرة؛ وعلمنا معنى عفوُ الله من عذابه، ورضاهُ من غضبه، ورحمتُه من أسفه، وتوحيدُه بصفاته من الإشراكِ به، والخشيةُ من الجدالِ في آياته. وبدونِ ذكرِ هذه القصّة لم تكُن أمّةُ محمّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلّم لتستوعبَ أو تتقبّلَ هذا الكمَ الهائلَ من الأحكامِ والشرائعِ والعباداتِ التي نزلت، لتنظيمِ ولتدبيرِ كلِ شؤونِها صغيرِها وكبيرِها، في أوامرَ وتعاليمَ رُصّت رصّاً عجيباً في سورةٍ واحدةٍ كسورةِ البقرة، فكانت المدينةَ الجامعةَ للأحكامِ والأمثال، واستحقتْ لقبَ “فسطاط القرآن”. لا شكَ أنَ في استخدامِ هذا التمهيدِ وهذه الوسيلة، أي القَصَص، في التعبيرِ وإيصالِ المعلومة، أي رسالةِ السماءِ، إلى الإنسان، إعجازٌ ما بعدهُ إعجاز.

7.1.3.7.2- لقد أوضح سبحانه بالقصص أكثر الأمور جدلاً وتعقيداً في تاريخ الأديان، وهو موضوع الإرادة عند الإنسان وهل أنه مخيّر في اختيار أعماله محاسب عليها، أم أنه مجبر، فقال تعالى في سورة المائدة: {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (29) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30)}، فأثبتت أن الإنسان مختارٌ محاسبٌ على أعماله، وبينت أيضاً أن من الناسِ من يبلغُ بهم الكفرُ والشرُ مبلغاً لا يفيد معه الوعظ ولا الإنذار، ومنهم من يبلغُ به الخيرُ والإيمانُ مبلغاً لا يبالون مقابلَهُ بفقد أرواحهم. وكما أنه وفي قصّة الغراب في الآية التي تليها، بيّن سبحانه كيف يعلّم الإنسان علوم المعاش والتصرف في الحياة، ومنها أنه علّم الإنسان كيف يواري سوأة أخيه بمثال عملي حقيقي أدّاه ومثّله الغراب أمامه، قال تعالى: {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه (31)} المائدة، ولو فعل ذلك بالكلمات لاحتاج للكثير منها ولن تؤدي نفس الغرض، ومن ناحية أخرى نعلم أن الله أيضاً يسخّر الحيَوان ليتعلّم منه الإنسان، في بعض الأمور الهامّة كدفن الموتى.

 

7.1.3.7.3- وكذلك في قصة موسى مع العبد الصالح العالم في سورة الكهف التي سهلت علينا فهم معنى الحكمة الإلهيةِ العليا، التي لا تُرتبُ النتائجَ القريبةَ على المقدماتِ المنظورة، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا يراها الإنسان المحدود. وقد جعلت ذلك ممكناً سرد قصة موسى مع فتاه، في رحلته مع ذلك العبدِ من عباد الله آتاه الله رحمة وعلماً في سورة الكهف، التي علّمتنا أن الكون يدار بقدر الله، وحكمته العجيبة التي تسيّر كل شيء، لكننا لا نستطيع فهمها، والآيات التالية واضحة لا تحتاج إلى شرح، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا، وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا، فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا، وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي. ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}.

 

7.1.3.7.4- وكذلك نجد أن في إيراد قصة واحدة كقصة موسى صلى الله عليه وسلم أكثر القصص وروداً في القرآن ما يغني عن مئات الوسائل التوضيحية والنماذج التعليمية في إيضاح معاني وموضوعات ومقاصد مختلفة في القرآن: ففي قصّة البقرة، مثلاً، المذكورة في الآيات (67-73)، حيث قتل شخص من بني إسرائيل ولم يعرفوا قاتله فعرضوا الأمر على موسى عليه السلام لعله يعرف القاتل فأوحى الله إليه أن يأمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن القاتل وتكون برهاناً على قدرة الله جل وعلا في إحياء الخلق بعد الموت، إلا أن جدال اليهود فيها وكثرة أسئلتهم عنها نبهت على شيئين: الأول هو النهي عن كثرة السؤال لأن الله تعالى بيّن أشياء مجملة (وقد يكون في تفصيلها المشقة)، وسكت عن أشياء رحمة بالناس من غير نسيان فلا يسألوا عنها، والثاني أن القصة شكّلت نموذجاَ عملياَ عن نوعيّات الناس الذين بيّنتهم السورة في الآيات الأولى (1-20) (المؤمن والكافر والمنافق) واختلاف طبائعهم ودرجات إيمانهم {صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)} البقرة. وشكلت هي وباقي مراحل القصّة مثل اتخاذهم العجل، ونبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وغيرها، القاعدة والخلفيّة المناسبة لبيان الأحكام وما يترتب على قبول الأحكام والأوامر والتشريعات التي تملأ السّورة، وباقي سور القرآن، كما تمّت الإشارة إليه أعلاه، وبيانه بالتفصيل، كلّ في مكانه الذي جاء فيه، وفي كلّ سورة.

انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، سورة الشعراء: 026.8.4- القصص وتسهيل فهم السور؛ وسورة الأحقاف: 046.8.1.4- جميع سور الحواميم تحدثت عن موسى عليه السلام.

 

7.1.4- ضرب الأمثال في القرآن:

لم يقتصر القرآن الكريم على استخدام القصص في تسهيل فهم مقاصد القرآن وموضوعاته فحسب، بل استخدم أيضاً وسيلة ضرب الأمثال، قال تعالى: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً (26)} البقرة، وقال: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل (58)} الروم، وقال: {كذلك يضرب الله الأمثال (17)} الرعد، وقال: {كذلك يضرب الله للناس أمثالهم (3)} محمّد، وقال: {وضربنا لكم الأمثال (45)} إبراهيم. وفي هذه الآيات إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وشتى العظات، وإلى أنه سبحانه سيضرب الكثير من الأمثال، التي تسهّل على الناس فهم ما في القرآن من الحكمة، وتقيم الحجة على ما عند الكفار والمشركين من الباطل والجهل وإتباع الهوى، وتنبئهم بالنتائج المترتبة على أعمالهم من الثواب أو العقاب، وغيرها، كما يلي:

7.1.4.1- ضرب الأمثلة من سير الأمم السابقة، ومعرفة أحوالهم، ومصائرهم، فبعضهم قد ضلّوا وبعضهم قد غضب الله عليهم، قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} الفاتحة.

7.1.4.2- بيان عاقبة الأعمال، وأنه في الآخرة لا يُغني أحد عن قريب ولا نسيب إذا فرق بينهما الدين، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} التحريم.

7.1.4.3- أهمية الكلمة وخطورتها على حياة الناس: فالكلمة الطيبة ترقى بها إلى أعلى عليين، والكلمة الخبيثة إساءة كبيرة جداً، يهوي بها إلى أسفل سافلين، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} إبراهيم.

7.1.4.4- أمثال تبين عجز الإنسان وضعفه، مقابل قوّة الله وعظيم صنعه وإعجازه في خلقه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا (26)} البقرة، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} الحج.

7.1.4.5- تسهيل المقارنة بين المؤمن والكافر، فالكافر كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، أمّا المؤمن فإنه يعمل كالحرّ بطاعة الله، وينفق في سبيله، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76)} النحل.

7.1.4.6- المقارنة بين شكر النعمة وكفرانها، وأسباب الأمان، وهلاك الأمم، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}.

7.1.4.7- الفرق بين المؤمن والمشرك، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} الزمر.

7.1.4.8- إقامة الدليل على الحياة الآخرة والبعث، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}.

7.1.4.9- والأمثلة كثيرة في القرآن، فنكتفي بهذه التي ذكرناها، والتي تبين كيف تسهّل الأمثلة على قارئ القرآن بكلمات قليلة فهم الكثير من المعاني التي تحتاج إلى الكثير الشرح والتفصيل؛ وحتى أنّ الكلمة الواحدة حين يضرب الله سبحانه وتعالى بها مثلاً، فهي تحمل معاني كثيرة، وتغني عن الكثير من الشرح والتفصيل لتسهيل فهمها على الناس؛ ففي بداية سورة البقرة مثلاً قال سبحانه عن الذين كفروا {أنهم لا يؤمنون (6)} لأنه {ختم (7)} على قلوبهم فلن تفتح، فالختم هو دليل على شدّة الإغلاق فلن يؤمنوا، أما سمعهم وأبصارهم فعليها {غشاوة (7)} فلن يخترقها الهدى، ثمّ قال عن المنافقون {في قلوبهم مرض (10)}، ثمّ {اشتروا الضلالة (16)} و {استوقد ناراً (17)} و {كصيب من السماء (19)}، وغيرها الكثير، فلم يكتفي القرآن بالقصص كوسيلة وحيدة لإيصال المعلومة للإنسان على مختلف مستويات فهمه، بل ضرب له أيضاً الأمثال المألوفة التي تقرّب له فهم المعاني الصعبة والواسعة في الآيات.

 

7.1.5- الإشارة إلى آيات الله في الكون وفي المخلوقات:

قال تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} الأنعام، فصراطُ الله واحِد، وأما ما عداهُ فهي طرقٌ كثيرة، وعلى كُلِ طريقٍ منها شيطان يدعو إلى الضلال، لذلك أرسل الله تعالى الرسول وأنزل الكتاب لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} النساء، وقال صلى الله عليه وسلم: “‏قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا ‏‏يَزِيغُ ‏عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ”. ولا تزال الآيات تظهر وتقام الحجج على الناس إلى قيام الساعة، فالله بعباده رؤوف رحيم. ويستخدم القرآن وسائل وأساليب مختلفة لتوصيل مقاصده ومعانيه وغيرها من الحقائق الإيمانية والآيات الكونيّة إلى مستويات فهم الإنسان وإدراكه، حتى يتبين للإنسان أنه الحق، قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)} فصلت، وقال: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} المؤمنون، وقال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)} الإسراء. لكن الإنسان جاحد رغم تيقنه من الحقيقة، قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم (14)} النمل، وقال: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)} الأنبياء، وغيرُها.

صحيح أن الإنسان يولد على الفطرة وهي الإسلام، وأنه بأصل فطرته يعلم أن له إلهاً يعبد، لكن هذه الفطرةَ تتغيّرُ بمرور الزمان وتعاقب الأجيال، وذلك بأسباب من الهوى وعداوة الشيطان وتقليد الآباء والأجداد وغيرها من الأسباب التي ذكرناها أدناه (انظر الفصل 7.3.5- لماذا يكفر الإنسان ولا يؤمن)؛ وكما أنّ الإنسان مفطور على الإسلام، فهو أيضاً في أصل فطرته مجبول على فعل الخير والشر يختار منهما ما يشاء، ويتعلّم بالتجربة كما بيناه أيضاً (انظر الفصل 7.3.1- السعادة بالتعلم بالتجربة والخطأ، والسعادة بالتعلم بالابتلاء والجزاء)؛ وصحيح أن الإنسان يولد وهو مفطور على معرفة المعروف وإنكار المنكر، لكن مع مرور الزمان وضلال الشيطان والهوى تختلط عليه موازين الحق، فيعود لا يعرف الحلال من الحرام، ولا يدري ما هو الحق ولا الإيمان، فيهديه الله تعالى بالوحي، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52)} الشورى، أي أوحينا إليك يا محمّد صلى الله عليه وسلّم، القرآن يهدي إلى الصراط المستقيم.

7.1.5.0- وكما أشرنا إليه في الباب الرابع، لقد جعلَ اللهُ تعالى آياتِ الهدى نوعين: مقروءةٌ ومشاهدة. فالمقروءةُ: هي آياتُ القرآنِ وفيها أسماءُ اللهِ تعالى وخبرُ السماءِ وعلمُ الغيبِ وأنباءُ الأممِ المنصوصِ عليها في القرآن، والآياتُ المشاهدة: هي آياتُ اللهِ في الأنفسِ والآفاق. فآياتُ اللهِ تعالى جُعلتْ في كتابين: كتابٌ عربيٍ يُقرأُ وهوَ القرآن، وكتابٌ كونيٌ حقيقيٌ مشاهدٌ في الأنفسِ والآفاق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} فصلت. فالآياتُ المقروءةُ فيها أسماءُ الله وصفاتهُ وأفعالهُ، ومقصدُ خلقِ الإنسان، وأمرُ التكليف، والحساب، وحملُ الأمانة، والأمرُ والنهي، والبشارةُ والنذارة، وغيرُه؛ والآياتُ المشاهدةُ في الآفاقِ والأنفسِ هي آياتٌ ثابتةٌ لا تتغيرُ في علمِ اللهِ وخلقِه، قد قالَ سبحانهُ وتعالى لها كٌوني، فكانَتْ، وستظلُ ثابتةً كثباتِ الكلماتِ المقروءةِ في القرآن، لكنْ هيَ متجددةٌ بالنسبةِ للإنسان: منها ما قد رآهُ وصارَ مألوفاً، ومنها ما سَيَراهُ بمرورِ الزمانِ وتراكمِ المعرفةِ والخبرات؛ وهي نوعين: آياتٌ نراها من سننِ اللهِ في السماواتِ والأرضِ وما فيهِما وما بينَهُما، وآياتُ صدقِ وعدهِ تعالى ووعيدهِ على أفعالِ الناس، ومعرفةِ القوانينِ والسننِ والأسبابِ التي جُبَلتْ عليها المخلُوقات، والأخذُ بها واتباعُها وظهورُ نتائِجِها في الناسِ أفراداً وجماعاتٍ وأمم. ومن أمثال هذه الآيات المشاهدة، ما يلي:

7.1.5.0.1- الأوّل، آيات الله وسننه في الأنفس: وهي سنن يرى صدقها الإنسان في نفسه وفي غيره من الناس وتظهر له مقدماتها وعواقبها، ويختبر أسبابها ونتائجها، فيهتدي بهداها، أو لا يهتدي، ومنها:

7.1.5.0.1.1- آثار رحمة الله وعنايته ومغفرته وعذابه في الإنسان وفي مجتمعه وفي أمته: وفي تجربته في الرخاء وفي الشدّة، وفي النعمة والابتلاء، وفي الخوف والرجاء، وفي البرّ والبحر، وفي الأمان والحياة الطيبة، وفي الخوف الشديد، وفي صلة الرحم، وفي الإنفاق، والإيمان والكفر وغيرها من التجارب الكثيرة التي فصلنا فيها كثيراً في هذا الباب. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن (6.2.5) حول الاغترار بالنعمة هي من أسباب الشرك والبغي والفساد في الأرض، وبالتالي زوال النعمة وتبدّل الأحوال.

7.1.5.0.1.2- القصص والأمثلة: في سِيَر الأمم ورؤية آثارهم، كقوم فرعون وغيرهم، وكذلك رؤية عظيم ما وصل إليه العرب والمسلمون من العلم والحضارة بسبب القرآن، وغيرها الكثير من القصص التي يصل عدد آياتها إلى 50% من عدد آيات القرآن.

7.1.5.0.1.3- سنن الله في المعاملات، ومعرفة عظيم عدل الله وحكمته في شرعه: في الأسرة وفي الزواج والميراث وقذف المحصنات وغيره. (انظر كذلك أعلاه، 7.1.3.7.1- سهلت علينا فهم مقصود ربنا عن الهدى والعبادة والمعاملات)

7.1.5.0.1.4- صدق وعد الله ووعيده، وفي نعمة تطبيق دينه: وأن السعيد هو من آمن بالله واتبع هداه، والشقي التعيس الذي حياته ضنك وشدة هو من أعرض عن ذكر الله.

7.1.5.0.2- الثاني، آيات الله وسننه في الآفاق: وهي ثلاثة أنواع أو تحتاج إلى ثلاثة مستويات من فهم الناس، كما يلي:

7.1.5.0.2.1- آيات تحتاج في فهمها إلى تعلّم وتخصص ودراسة وفقه، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} الأنعام، فهذه آيات تحتاج إلى علم وفقه وبحث ودراسة.

7.1.5.0.2.2- ونوع آخر من الآيات يراها كلّ الناس، تحتاج فقط إلى النظر والتفكّر البسيط من الناس العاديين، في نعم الله ومعرفتها وشكرها، قال تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)} النحل، ولاحظ التسلسل الدقيق: يتفكّرون بعقولهم، فيعقلون بقلوبهم، فيذّكرون فطرة الله التي فطر المخلوقات عليها، وتسخيرها لهم، فيشكرون.

7.1.5.0.2.3- ونوع ثالث ممارس في حياتهم اليوميّة ملموس يتعلمونه بالممارسة المتكررة، قال تعالى: {وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) النحل، أي لولا هذه الجبال والأنهار والسبل والعلامات التي جعلها لكم تهتدون بها في طلب المعايش رحمة بكم، لهلكتم، فهي من نعم الله التي لا تحصى، يجب أن نتذكرها.

إذاً، هذانِ النوعانِ من آياتِ الله، مقروءةٌ في كتابٍ ومشاهدةٌ في خلقِ اللهِ وأفعاله، تسيرُ في ثلاثةِ مساراتٍ متوازية، هي خلقُه وأفعالُه وكلامُه؛ فتؤديْ إلى معرفةِ الله، ومعرفةِ مقصدِ خلقِ الإنسانِ، ومصيرِه. في القرآنِ نقرأُ الخبرَ الحقَ واليقين، وفي خلقِ السماواتِ والأرضِ وما بينَهما نرى آياتِه، وباتباعِ سننِ اللهِ المذكورةِ في كتابِه نعلمُ صدقَ ربِنَا وصدقَ كتابِه وصدقَ رسولِه، ورحمتِه بنا، قالَ تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} ص، وقال: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} الأنعام.

انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن، سورة الحاقة: 046.8.1.5- وحدة هذا الكون وتكامل الأشياء فيه وترابطها.

 

7.1.5.1- كيف يفهم الإنسان حقيقة الحياة وهو لم يراها (من قبل) تحدث؟ وكيفَ يفهمُ حقيقةَ الموتِ وهُوَ لم يمت؟ كيفَ يفهمُ الكونَ وهُوَ لم يدرك بعدُ مداه؟ كيفَ يفهمُ الذرّةَ والخلية؟ كيفَ يفهمُ الكهرباءَ والجاذبية؟ كيفَ يفهمُ الزمانَ والسرعة؟ إن القوانينَ والسننَ الكونيّةَ والبشريةَ تستغرقُ أجيالاً عديدةً حتى تَتَحَقَق، وحياتُنا محدودَةٌ بأعمارِنا، فلا نرى ظاهرةً بتمامِها، فلا نلتفتُ إلى وجودِها. وأحياناً تكونُ المظاهرُ الخارجيةُ خادعةً مغايرةً للحقيقةِ الباطنية، فيزيدُنا هذا الأمرُ بعداً عن معرفةِ الحقيقةِ وإدراكِ قوانينِ الكونِ الثابتة. لا بدَ للإنسانِ من ملاحظةِ آثارِ هذهِ الحقائقِ في وجودِه، على كيانهِ وعلى الكونِ المحيطِ به، لا بدّ من تقريبِ أو تمثيلِ هذه الأشياءْ بشيءٍ يستطيعُ الإنسانُ فهمَهُ أو تخيُلَهُ لكي يتمكنَ من إدراكِ وجودِها والمقصِد من خلقها. على الإنسانِ أن يلاحقَ بخيالهِ حجمَ الأشياءِ وحركاتِها، فهو لن يستطيعَ فقط بالاعتمادِ على حواسِه وإمكانياتهِ المحدودةِ أن يفهمها على حقيقتها. إن خالق الإنسانِ يعلم أنه محدودُ الحواس محدودٌ في أدواتِ فهمهِ وتعلمه، لذلك ملئ القرآنُ بالمشاهدِ المحسوسة، والحوادثِ المنظورة، والأمثالِ والصورِ التي تقرّبُ فهم الأشياءِ وتلفتُ الانتباهَ إلى معرفتِها، من آثارِها في الإنسانِ والكون. لقد ملئَ القرآنُ بالأمثالِ والمشاهدِ الحقيقيّةِ البسيطةِ المحسوسةِ والمنظورة، ليقربَ إلى العقلِ الأشياءَ التي يعجَزُ عن استيعابِها، لخروجها عن مدى استيعابِهِ وطاقَةِ فهمِهِ، كمثلِ:

7.1.5.1.1- الدليل على وجود الخالق، فمن ذلك أن يستدل على الخالق من مخلوقاته، في قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (62)} غافر، وهو دليل على وجود الخالق ووحدانيته، كما في القول الذي رواه البيهقي عن قس بن ساعدة، قال: يا أيها الناس استمعوا، واسمعوا وعوا كل من عاش مات وكل من مات فات وكل ما هو آت آت ليل داج وسماء ذات أبراج ونجوم تزهر وبحار تزخر وجبال مرسية وأنهار مجرية، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا أرى الناس يموتون ولا يرجعون أرضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا، إلخ. وعنه أيضاً قال: سُئل أعرابي من أصحاب الفطر السليمة فقيل له: كيف تعرف ربك؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليلٌ داج، ونهارٌ ساج، وسماءٌ ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير.

7.1.5.1.2- الدليل على التوحيد، ومنه أن يستدل على انتفاء الشريك لله من الآية: {لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لَفسدتا. فسبحانَ اللهِ رَب العرش عما يصفون (22)} الأنبياء، والآية: {ما اتخذ اللهُ من ولد، وما كان معه من إله. إذن لذهَبَ كُلّ إله بما خَلقَ، ولعلاَ بعضُهم على بعض (91)} المؤمنون. هكذا بكل بساطة، لا ترى في السماوات والأرض فساداً، إنما ترى نظاماً محكماً، يوحي بأن المدبر واحد، قادر عالمٌ حكيمٌ.

7.1.5.1.3- الدليل على البعث، ومنه أن يستدل على حقيقة البعث كما في الآية: {أفعيينا بالخلق الأوّل، بل هم في لبس من خلق جديد (15)} ق، أي أن الله الذي خلق أول مرّة قادر على أن يخلق من جديد، وكذلك الآية: {كيفَ تَكفرُونَ باللّه وَكنتمْ أَموَاتاً فَأَحيَاكمْ ثمَّ يميتكمْ ثمَّ يحيِيكمْ ثمَّ إِلَيه ترجَعونَ (28)} البقرة، في آية واحدة قصيرة تعرض مراحل خلق البشرية، وهي في قبضة البارئ بين الموت والحياة، ثمّ إليه مرجعها في الآخرة. ومن الأمثلة كذلك: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95)} الأنعام،

7.1.5.1.4- وعن شمول علم الله: {وعنده مفاتح الغيب. لا يعلمها إلا هو. ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين (59)} الأنعام، وغيرها.

7.1.5.2- أيضاً كيف يدرك الإنسان ضعفه وعجزه إذا لم يضرب الله له مثل من القرآن مثل: {قل من ينجيكم من ظلمات البحر (63)} الأنعام، إلخ.

وفي مقابل هذا فإن من سنن الله التي لا ترى إلا عبر القرون هو التحوّل إلى نقصان الشيء إذا اكتمل، وقد روى الطبري عن هارون بن عنترة عن أبيه، قال: لما نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (3)} المائدة، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر رضي الله عنهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كَمُل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: صدقت.

7.1.5.3- الاستدلال بالآيات على وجوب طاعة الله: على قارئ القرآن ومتدبر آياته أن يرى آثار وجود الله في مخلوقاته، وأن يرى حسن تدبيره وتقديره في السنن الكونية المشاهدة، وفي حياته اليومية، وفي النظم السلوكية لمخلوقات الله، وعليه أن يكون على يقين بأن الله سبحانه له سنن في الكون تنطلي على جميع مخلوقاته وأن عليها أن تطيعها طوعاً أو كرهاً: {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون (83)} آل عمران، {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين (11)} فصلت. وعليه أن يعلم بأنه واحد من مخلوقات الله لا يملك إلا أن يطيع، فليطع لمصلحته. وعليه أن يعلم بأن مجال الحرية والاختيار التي أعطاه الله إياها هي أمانة في عنقه حملها ظلماً لنفسه وجهلاً منه بعواقب اختياره، وقد أبت السماوات والأرض أن يحملنها، وكأنها كانت أعقل منه وأرحم بنفسها من الإنسان، قال تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماواتِ والأرضِ والجبالِ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً (72)} الأحزاب. لم يشفق الإنسان على نفسه، فأشفق الله سبحانه وتعالى عليه.

7.1.5.4- الاستدلال بالآيات الكونية على تدبير الله: يستدل الله سبحانه ويقسم تعالى بالآيات الكونية التي يعرفها الخاص والعام من الناس، ويعرفون أنه لا يدبرها إلا الله تعالى، ويستدلون بها عليه سبحانه كما قال {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله (25)} لقمان، {… وسخر الشمس والقمر ليقولن الله (61)} العنكبوت. وهم يرون في كلّ ليلة كيف تغرب الشمس، وكيف يظهر الشفق بعدها ثمّ يغيب {فلا أقسم بالشفق (16)، والليل وما وسق (17)، والقمر إذا اتسق (18)…} الانشقاق، ويعلمون أن ذلك من صنع الله، ويعلمون أنه إذا غاب الشفق أتى الليل فتأوي الناس إلى بيوتهم فيستريحون من تعب النهار وطلب المعاش، ويرون القمر لا يضامون في رؤيته في ليالي البدر، حيث يراه الحضري والبدوي ومن في خيمته أو برّيته أو منزله، يرون حجمه، ويهتدون بنوره، وهذه أمور بدهيّة لا ينكرها عاقل، ويعلمون أنه لا يدبر هذه الآيات والمخلوقات العظيمة إلا الله تعالى. فيستدل سبحانه بهذه الآيات ويقسم بها لشدّة وضوحها على أنه سبحانه سينقلهم من حال إلى حال {لتركبن طبقاً عن طبق (19)} الانشقاق، شاءوا أم أبوا. ومن الآيات الكونية عملية الإحياء والإماتة، فقد كانوا أمواتاً ثم صاروا أحياء ثم يميتهم ثم يبعثهم، قال تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم، ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28)} البقرة، ولما كانت هذه الحقائق معلومة لديهم، وهم لا يكابرون فيها، فمالهم لا يؤمنون بالله وما أنزل من كتب، وأرسل من رسل، وأخبر بمغيبات، منها الحياة بعد الموت، فلذلك تستغرب الآيات هذه الحال منهم، لأن من سلّم بالمقدمات لا بد أن يسلّم بالنتائج، وإلا كان عدم تسليمه محض عناد وكبر؛ وكان الأجدر بهم أن لا يكابروا مع هذه الحقائق، بل يبادروا للإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويصدقوا بما أخبر من غيب ويذعنوا لهذا القرآن البليغ الذي لا طاقة لهم بمغالبته أو مقابلته، فيؤمنوا به ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه. ثم تأمل في هذا الآيات الأخرى: {أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلنا حطاماً فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون (70) أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها، أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين (73)} الواقعة. إنه حوار آخر يستهدف الوصول بالسامعين الى اليقين بوجود الله ووحدانيته، عن طريق لفت النظر والفكر الى بعض مظاهر الكون.

7.1.5.5- الاستدلال بالآيات ومن أجل تسهيل فهم مقاصد القرآن وموضوعاته، استخدم أسلوب الإشارة إلى الدلائل والبراهين في الآيات الكونية، لمن أراد اتباع الحق، ووفقه الله باتباع الهدى، فيرى انتظام المخلوقات الحيّة والجامدة بالسنن الثابتة والدقة في الحركة والتقدير واتزان الكون، فلا فوضى ولا اتباع للهوى، الكل مطيع، فلماذا الإنسان لا يطيع ولا يهتدي بهدى الله وصراطه المستقيم، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)} البقرة، وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} آل عمران، وغيرها من الإشارات، وتكرر كذلك الأمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات، وإلى الآيات في السموات والأرض وفى أنفسهم. ومن ذلك ما يبين آيات الله في الخلق، أي خلق الإنسان من العدم مروراً بكل مراحل حياته ابتداءاً بالطين وانتهاءاً بالموت، مع خلق السماوات والأرض ومن فيهن وتسخيرها للإنسان، وتسبيح كلّ شيء بحمد الله، وهم مع ذلك لا يفقهون تسبيحهم ولا يعلمون ذلك، فهم غافلون عن أكثر الأدلة على وحدانية الله وعظمته وقدرته وقهره. وأن جهلهم هذا بسبب حجب الله لكلامه عنهم، عقاباً لهم على كفرهم وإنكارهم وتكذيبهم بالقرآن، وهم إما أنهم يفرّون من سماعه، أو أنهم وإن كانوا يسمعونه فيحجبه عن عقولهم اتباعهم الهوى والشهوات، فهم كالأنعام يسمعون الكلام ولا يفقهون معانيه لانشغال قلوبهم بغيره من أمور الدنيا. وقد غفلوا عن أن الله الذي خلقهم وفطرهم أول مرة قادر على إعادتهم وبعثهم للحساب والجزاء وهو أهون عليه.

7.1.5.6- لغة الإعجاز العلمي، أو الحقائق العلمية في القرآن:

ونود أن ننوّه هنا أن من الآيات المهمّة التي في القرآن (أو اللغات التي لا يفهمها إلا أصحاب الاختصاص وأولو العلم)، يخاطب فيها أهل الاختصاص والعلماء، وهي من معجزاته ويدخل بسببها أناس كثير في الإسلام، هي الحقائق العلميّة التي يكتشفها العلماء بمرور الزمان، ويتبين لهم أنها كانت قد ذكرت في القرآن منذ أكثر من 1400 عام، مصداقاّ لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} الصافات، فإن أكثر من 15% أو ما يعادل حوالي ألف آية من آيات القرآن تتحدث عن حقائق علمية اكتشفها العلم الحديث، ومنها ما يلي:

7.1.5.6.1- اكتشاف بداية الكون، أو نظرية الانفجار العظيم، في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (30)} الأنبياء.

7.1.5.6.2- توسع الكون، قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} الذاريات.

7.1.5.6.3- نهاية الكون، قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين (104)} الأنبياء.

7.1.5.6.4- الثقوب السوداء والتي تعمل على امتصاص الغازات الضارة الناتجة عن الانفجارات التي تحدث في الكون، قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)} التكوير.

7.1.5.6.5- النجوم النابضة، قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)} الطارق.

7.1.5.6.6- النسيج الكوني، قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)} الذاريات.

7.1.5.6.7- البناء الكوني، قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء (22)} البقرة، وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} الشمس.

7.1.5.6.8- الدخان الكوني، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ (11)} فصلت.

7.1.5.6.9- المادة المظلمة، قال تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)} النبأ.

7.1.5.6.10- طرق في المادّة المظلمة تتحرك عليها المجرات والنجوم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)} المؤمنون.

وغير هذه الآيات الكثير، ولكنّا لم نتطرّق لها بتاتاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن وسوره لأنها خارجة عن موضوعة؛ فالمقصد من الكتاب هو تسهيل فهم وتدبّر القرآن الكريم لكل فئات الناس، لكن الحقائق العلمية كالأمثلة المذكورة أعلاه تحتاج إلى تخصص ومعرفة علمية؛ هذا عدا أنه بات موجوداً في المكتبات الكثير من المؤلفات التي تتحدث وتبين هذا الإعجاز العلمي في القرآن، وكذلك في الحديث النبوي الشريف باستفاضة، وبكل اللغات، والحمد لله.

7.1.5.7- حقائق علمية وكونية يذكرها القرآن ولكنها لم تزل مجهولة لم يكتشفها الإنسان:

يحتوي القرآن على الكثير من الحقائق العلمية والكونية كالتي ذكرناها أعلاه، والكثير عن عالم الغيب، لكن الإنسان لا يزال يجهلها، وربما سيكتشفها أو يكتشف بعضها العلماء في المستقبل، فالله تعالى يظهر للناس آياته شيئاً فشيئاً، وجيلاً بعد جيلاً، لكي يشبع فضول الإنسان وحبه في البحث عن المجهول، لأن الإنسان فضولي توّاق إلى الكمال، كما بيناه أعلاه، فيبقى يبحث في المجهول، ويكتشف المزيد، ويرى الآيات في كل مكان، فيكشف الله له بعضها، مصداقاّ لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا (53)} الصافات، فيجعل الله بهذا عقل الإنسان دائم البحث والعمل فيظل يرى المزيد والجديد، فلا يكلّ أو يملّ، وفي نفس الوقت يرى عظمة الله وإحاطته وقيومته واتساع علمه، فيتقي الله ويقر بعجزه أمام الإحاطة بعلم الله اللانهائي وحسن تدبيره، قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} الكهف، فيظل يتعلّم ويسعى إلى تحقيق العلم، لأن الله خلقه منهوماً توّاقاً إلى المعرفة والمعالي والكمال الذي لن يبلغه، لأن الكمال لله وحده، ومن هذا الحقائق العلمية والكونية والآيات التي يذكرها القرآن: ما يلي:

7.1.5.7.1- احتمال وجود الحياة ومخلوقات أو دوابّ أخرى غير الإنسان قد بثها الله وتسجد له في السماوات، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)} الشورى، وقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} النحل، غيرها من الآيات في: الآية (18) الحج، و (44) الإسراء، و (41) النور، و (1) الحديد، و (24) الحشر، و (1) الجمعة، و (1) التغابن.

وتشير هذه الآيات إلى وجود الماء في السماوات، لأن كلّ هذه الدوابّ التي خلقها الله وبثّها في السماوات والأرض، مخلوقة كلّها من ماء، وهذه الدواب تحتاج الماء لبقائها، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)} النور.

7.1.5.7.2- حقائق وتفاصيل عن كيفيّة نهاية العالم ، قال تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} القمر، وقال: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)} التكوير، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} التكوير، {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)} التكوير، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)} الانفطار، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} الانشقاق.

7.1.5.7.3- تغيّر أحوال الناس ومنازلهم، قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ (19)} الانشقاق.

7.1.5.7.4- تبدل الأرض بغير الأرض، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} إبراهيم.

7.1.5.7.5- إثبات حقيقة العودة بعد الموت والبعث والجنة والنار، قال تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)} الرعد، وغيرها من الآيات عن الجنة والنار والحياة الآخرة لم يثبتها العلم، هي كثيرة جدّاً في القرآن.

7.1.5.7.6- تسبيح السماوات السبع ومن فيهن وكلّ شيء لله تعالى، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)} الإسراء، وقال: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ (13)} الرعد.

7.1.5.7.7- ما هي وأين هي السماوات السبعة، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ (29)} البقرة، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)} المؤمنون، {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15)} نوح، {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12)} النبأ.

7.1.5.7.8- طبقات الأرض السبعة، وكيف يكون التواصل بينها وبين السماوات السبعة، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)} الطلاق.

7.1.5.7.9- عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، ففهمت جميعها قول ربها لها، بمن فيها الأحياء والجمادات من مخلوقات الله، وعلمت أن الله يخيّرها، فأجابته واختارت لنفسها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب.

7.1.5.7.10- عالم الذر وحمل الأمانة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)} الأعراف.

7.1.5.7.11- خلق الناس من نفس واحدة، ثم خلق منها زوجها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءاً (1)} النساء، وأول إنسان خلقه الله هو آدم وأول مكان عاش فيه هو وزوجه الجنة قبل أن يهبطا إلى الأرض، قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)} الأعراف.

7.1.5.7.12- حقيقة أن بعض الكائنات (إن لم تكن كلّها) تعي وتميز بين الخير والشر، ففي قصة الهدهد، استطاع أن يميز بين المؤمن والمشرك، وعبادة الله وعبادة الشمس، وتزيين الشيطان، وعلم الكثير عن أسماء الله وصفاته، واستطاع أن يعبر عن ذلك بكل وضوح وعَلم من هي الملكة، وأين مكان الملكة، قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)} النمل؛ وأن لهذه الطيور كلام تتواصل به ومنطق، قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)} النمل.

7.1.5.7.13- وحتى الحشرات تفهم ما يدور حولها، وتعرف الناس بأسمائهم وتميز الجند من غيرهم وتعلم حدود تفكيرهم وقدراتهم وتعبر بطريقة واضحة {حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا (19)} النمل.

7.1.5.7.14- بعض المخلوقات لها قدرات خارقة على نقل الأشياء بدقّة، وبسرعات هائلة، كالمخلوق الذي نقل عرش الملكة بطرفة عين، قوّة تحريك قويّة هائلة سريعة محكمة معجزة، أبقت عرش الملكة بقواعده وزيتنه وكل تفاصيله كما هو، قال تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ۚ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)} النمل.

7.1.5.7.15- حالات انعدام الزمان والمكان والحواجز والمسافات، كمثل سرعة وصول جدال وتحاور المرأة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث وصل إلى الله تعالى بلا زمن، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} المجادلة؛ الله تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد فأين المكان؟ ويعلم ما توسوس به النفس، قال تعالى: {َلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} ق؛ وكذلك حادثة الإسراء والمعراج، حيث لا زمان ولا مكان ولا حواجز كالتي نعرفها، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} الإسراء.

7.1.5.7.16- تعطيل خواص الأشياء، كتعطيل خاصية الإحراق في النار، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69)} الأنبياء؛ وانشقاق القمر تم التصاقه، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1)} القمر، ووقوف الماء كالطود، قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)} الشعراء.

7.1.5.8- عالم الغيب، أو العوالم الخفيّة، والمخلوقات التي لها تأثير مباشر على الناس وسيرة حياتهم، ولكن الناس لا يرونها ولا يسمعونها ولا يشعرون بها وأهمها الملائكة والجن:

لقد خلق الله تعالى مخلوقات لا يراها الإنسان ولكنها تؤثر فيه، وفي كل لحظة من لحظاته، وتشاركه في كل تفاصيل حياته، فالملائكة والجن هما قرينان ملازمان للإنسان لا يتركانه ولا لحظة واحدة، لا في النوم ولا في اليقظة، أحدهما قرين شر وهو الشيطان (خلقه الله من نار)، قال تعالى: {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً (38)} النساء، والآخر قرين خير وهم الملائكة (خلقهم الله من نور)، قال تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)} ق، وقد بين لنا القرآن الكثير من التفاصيل عنهما، وكأننا نراهما رأي العين، لكي نحذر من شرّ الشيطان فكلّه شرّ ولا يأتي منه إلا الشر والهلاك، ونستجلب عون ومدد واستغفار وصلوات الملائكة فلا يأتي منهم إلا الخير والحفظ والغوث للعبد الصالح، بأمر الله، ولولا الوحي لما عرفنا أي شيء عن صفات وأفعال هذين العالمَين، ولا علمنا بوجودهما لشدّة خفائهما، كما يلي:

 

7.1.5.8.1- الملائكة في القرآن:

7.1.5.8.1.1- تكرر لفظ الملائكة في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرّة، كما تكرر لفظ ملك ثلاث عشرة مرّة. والإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان ومن جحدهم فقد كفر، قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)} النساء.

7.1.5.8.1.2- وللملائكة مكانة خاصة وتكريم خاص عند الله سبحانه وتعالى، فهم مكرمون في السماء: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} عبس، كما كرّم الله الأنسان في الأرض، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} الإسراء، والملائكة يعبدون الله بلا انقطاع: {وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} الأنبياء، وقد شهدوا بوحدانية الله، قال تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} آل عمران، واصطفى الله منهم رسلاً كما اصطفى من الناس رسلاً: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)} الحج، أمرهم بالسجود لآدم تشريفاً له: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} البقرة، وقد جعل سبحانه الإيمان بوجودهم مقترناً بالإيمان به: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)} البقرة، وحين أخبرهم بأنه {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (30) البقرة، ولا يتصور أن تعصي الملائكة الله في شيء: {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} التحريم.

7.1.5.8.1.3- خلق الله الملائكة قبل أن يخلق البشر، وأعلمهم عند خلق آدم أنه خالق بشر من طين، يعطيه حرّية الاختيار، ويجعله على الأرض خليفة، فعلمت الملائكة بأن هذا المخلوق سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، وربما علموا والله أعلم، لأن الجن أعطي حرّية الاختيار من قبل، فأفسد وسفك الدماء {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ (27)} الحجر، أي قبل الإنسان؛ وامتدّت هذه الصلة من تلك اللحظة إلى الدنيا ثم الآخرة ثمّ إلى مالا نهاية، وقصة الملائكة مع نشأة الإنسان يرد في مواضع شتى، كالذي جاء في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} البقرة.

7.1.5.8.1.4- لقد كان العرب يعرفون الملائكة، وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكاً يدعو معه ويصدقه، ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله، فكانوا يظنون أن الملائكة بنات الله، وأن لها شفاعة عند الله لا ترد، وقد صحح لهم القرآن خطأ معلوماتهم، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23) أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَىٰ (25) وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنثَىٰ (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} سورة النجم، وقال: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9)} الأنعام.

7.1.5.8.1.5- الملائكة هم عالم غيبي غير محسوس، خلقهم الله من نور، قال صلى الله عليه وسلم “خُلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم” رواه مسلم، فهم ليس لهم وجود بدني يدرك بالحواس، إنما هم من عالم آخر غير منظور لنا، ولا يعلم حقيقتهم وهيئتهم إلا الله سبحانه وتعالى. والملائكة خلق عظيم عددهم عظيم لا يحصيه إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم: “أطّتِ السماءُ وحُق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى”، خلقهم الخالق من النور، وطبعهم على الخير، فهم لا يعرفون الشر ولا يفعلونه ولا يأمرون به، لا يفعلون إلا ما يأمرهم الله به، مجبولون على طاعة الله، وفعل الله وأمره كلّه خير، قال تعالى: {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} التحريم؛ وهم لا يأكلون ولا يشربون وإنما طعامهم التسبيح والتهليل قال تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} الأنبياء، ولا يسأمون من عبادة الله عز وجل، {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)} فصلت؛ منزهون عن الشهوات وعن الآثام لا يأكلون ولا يشربون، قريبون من الله، لا ندري كيف، ولا ندري نوع القرب، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} الأنبياء. وفي الحديث أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه تمثال أو صورة أو كلب قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة” رواه مسلم.

7.1.5.8.1.6- والملائكة كما قلنا خلق عظيم، وطوائف كثيرة، لا يعلمهم إلا الله، ولهم أعمال متعددة، ويتعاملون مع أهل الأرض في صور شتى، كما يلي:

7.1.5.8.1.6.1- حملة العرش: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)} غافر؛ وكذلك يحفون به يوم القيامة، لكن لا ندري كيف، فلم يكشف الله لنا في هذا الغيب، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} الزمر.

7.1.5.8.1.6.2- النزول بالوحي على الرسل، عن طريق جبريل عليه السلام، الذي نزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194)} الشعراء، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)} النحل. وقد أعلمنا الله سبحانه أن جبريل عليه السلام هو الذي يقوم منهم بهذا العمل، {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (97)} البقرة.

7.1.5.8.1.6.3- الملك ميكائيل الموكل بالقطر والنبات، والملك إسرافيل الموكل بالنفخ بالصور عند قيام الساعة؛ ولم يرد اسمهما نصاً في القرآن الكريم بل ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر في القرآن ملك الموت {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} السجدة، لم يرد اسمه في القرآن ولا في الحديث اسمه، ولكن عرف اسمه: عزرائيل، لاحقاً من الأثر والإسرائيليات.

7.1.5.8.1.6.4- الحفظة الموكلون بحفظ بني آدم وأعمالهم، يحفظونهم بأمر الله، ويتابعونهم ويسجلون عليهم كل ما يصدر عنهم، ثمّ ويتوفونهم إذا جاء أجلهم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} الانفطار، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً (61)} الأنعام. {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ (11)} الرعد، {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} ق.

7.1.5.8.1.6.5- الملائكة الموكلون بكتابة الأعمال كلها خيراً كانت أو شراً: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} ق.

7.1.5.8.1.6.6- الملائكة الموكلون بقبض أرواح المؤمنين: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} النحل.

7.1.5.8.1.6.7- الملائكة الموكلون بقبض أرواح الكافرين في تعذيب وتأنيب ومهانة، ويستقبلونهم في جهنم بالتأنيب والوعيد: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)} الأنفال، {وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)} الأنعام، {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)} محمد.

7.1.5.8.1.6.8- خزنة الجنة، يستقبلون أهل الجنة بالسلام والدعاء ويخدمون أهل الجنة: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} الرعد، {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} الزمر.

7.1.5.8.1.6.9- خزنة جهنم، يستقبلون أهل النار بالتأنيب والوعيد: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)} الزمر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} التحريم، { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً (31)} المدثر.

7.1.5.8.1.6.10- تثبيت المؤمنين وقتال الأعداء معهم: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) } الأنفال، {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (124)} آل عمران، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)} فصلت.

7.1.5.8.1.6.11- الملائكة التي تنزل في ليلة القدر من شهر رمضان، ليشهدوا الخير مع المسلمين: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4)} القدر.

7.1.5.8.1.6.12- الملائكة المشغولون بأمر المؤمنين، يسبحون ربهم، ويستغفرون للذين آمنوا من ذنوبهم، ويدعون ربهم لهم بالمغفرة والنجاة ودخول الجنّة، فالملائكة أهل خير ويحبون من يعمل الخير والصلاح، ويبشرون المؤمنين بالجنة عند قبض أرواحهم، ويستقبلونهم بالبشرى في الآخرة ويسلمون عليهم في الجنة: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} غافر، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} النحل، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)} الرعد.

 

7.1.5.8.2- الجنّ في القرآن:

من الأشياء الغيبية التي يجب على الإنسان معرفتها والإيمان بها، بعد الإيمان بالله تعالى وأسمائه الحسنى، هي الإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقضاء والقدر، وهي أركان الإيمان الستة التي ذكرت في حديث جبريل الذي ذكرناه في بداية الباب الأول أعلاه: “أَنْ تُؤْمِن بِاللَّهِ وملائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، والْيومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ” وأركان الإيمان هي فرض عين على كل مسلم أن يؤمن بها، يضاف إليها الإيمان بالجن لأنه مذكور في القرآن. فوجود الجن من الأمور المعلومة في دين الإسلام، ومن أنكره كفر؛ لأنه أنكر شيئا ثابتاً في القرآن الكريم، فإن من سور القرآن سورة كاملة اسمها سورة “الجن” تتحدّث عنهم وعن سماعهم للقرآن وفهمهم لرسالته وتأثرهم وتصديقهم وإيمانهم وتوحيدهم. والجن خلقه الله تعالى من النار، لعبادته، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذريات، فيه من أطاع وآمن، ومن عصى وخالف وكفر، قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} الجن، وقد بعث نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس جميعاً.

والشيطان هو نوع من أنواع الجن، وربما هما اسمين لشيء واحد، بدليل الحديث الذي سيأتي هنا، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان، فالشيطان اسم لما كفر من الجن، فلا يقال لمؤمن الجن: شيطان، وإنما يقال ذلك لكافرهم، قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} الكهف، وهو من الجن كالإنسان المجرم من الناس؛ وفي تفسير ابن كثير: الشيطان مشتق من البعد على الصحيح، ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانا، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا (112)} الأنعام. وثبت في الصحيحين ما يدل على أن الشياطين من الجن، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتْ الشَّيَاطِينُ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ؟ فَقَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. قَالَ: مَا حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلَّا مَا حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا فَانْظُرُوا مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَدَثَ؟ فَانْطَلَقُوا فَضَرَبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا يَنْظُرُونَ مَا هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلَةَ، وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ، تَسَمَّعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، فَهُنَالِكَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} رواه البخاري ومسلم.

والجن خلق آخر غير الإنس وغير عالم الملائكة والأرواح؛ لكن الجن والإنسان يشتركان بصفات العقل والإرادة والقدرة على اختيار طريق الشر والخير، وفي التكليف بالعبادة؛ وأنهم مكلفون مأمورون، ومكلفون منهيّون، مجازون بأعمالهم، وهذا ما تؤكده قصّة الشيطان في الآيات والحديث أعلاه، وحادثة إقرار الجن بالإيمان المذكورتان في سورتي الأحقاف والجن؛ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجن والإنس، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (32)} الأحقاف، وأن الجن له عقل يعرف الحق من الباطل، وذكي، حيث كان شديد الحرص على الاستماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بالقرآن وأبلغوا قومهم؛ وحسن أدبهم في خطابهم حين نسبوا الخير لله والشر للمجهول في الآية: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} الجن. فإذاً يوجد غرض من خلق الجن وهو العبادة وأنها مخلوقات خفيّة مختلفة كلياً عن الإنسان.

وبسبب تكوين الجن الغامض، وخفاءه، كوّن الناس عنهم في العصر الجاهلي وعن قوّتهم افكار وتصورات مبالغ فيها وصلت بهم إلى حد عبادتهم، وكانوا يعتقدون أن للجن سلطاناً في الأرض، ويخبرنا القرآن أن العرب ما قبل الإسلام والمشركون اعتقدوا أن بين الله والجنة شراكة لذلك عبدوهم، واعتقدوا أن بينه وبينهم نسباً، قال تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)} الأنعام، وقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)} سبأ، {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)} الصافات؛ إلا أنّ القرآن أوضح الحقيقة كاملة عنهم، وبين من هم وما ليس فيهم، بحيث لم يبقى أي غموض عن هذه المخلوقات من ناحية طبيعتها وصفاتها وجبلتها ومقصد وجودها وعلاقتها بالإنسان إلا بينه، كما يلي:

7.1.5.8.2.1- صفاتهم المذكورة في سورة الجن:

7.1.5.8.2.1.1- أنهم مخلوقات موجودة حقاً، عاقلون مكلّفون قابلون للهداية من الضلال مستعدون لإدراك القرآن سماعاً وفهماً وتأثراً وتصديقاً وإيماناً وتوحيداً: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} الجن.

7.1.5.8.2.1.2- وأن منهم الضالون المضلون ومنهم البسطاء الطيبون الذين ينخدعون: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)} الجن.

7.1.5.8.2.1.3- وأنهم لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم بل يرهقونهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} الجن.

7.1.5.8.2.1.4- وأن الجن فرقاً متعددة وأجناس ومذاهب شتى مختلفون، وهم كما يصفون أنفسهم بأن منهم صالحون ودون ذلك، وأنهم يقرّون بأن لا قوة لهم مع قوة الله ولاحيلة: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12)} الجن.

7.1.5.8.2.1.5- وأنهم يعلمون أنهم محاسبون على أعمالهم، ومجازون، يعقلون سنن الله في الإيمان والكفر، والثواب والعقاب، وفيهم من أطاع وآمن، ومن عصى وخالف وكفر، قال تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} الجن

7.1.5.8.2.2- وردت في الجن آيات كثيرة توضح حقيقتهم في هذا العالم، ومنها الأشياء المشتركة بين الجن والإنس، ما يلي:

7.1.5.8.2.2.1- الجن والإنس في التكليف ونزول الآيات والعمل والحساب والجزاء في الآخرة سواء، قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130)} الأنعام، {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} السجدة.

7.1.5.8.2.2.2- الجن والإنس إمكانياتهما محدودة: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)} الرحمن.

7.1.5.8.2.2.3- الوسوسة في صدور الناس: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} الناس.

7.1.5.8.2.2.4- الجن مخلوق مكلف بعبادة الله اختياراً كالإنسان؛ كان مع الملائكة يتعبد معهم، وعندما ابتلاه الله وأمره بأن يسجد هو والملائكة لآدم، فسجدت الملائكة كلهم أجمعين، وعصى إبليس استكباراً، فعاقبه الله باللعنة والطرد بسبب عصيانه لأمر الله له بالسجود، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} الكهف.

7.1.5.8.2.3- الاختلافات والفروقات بين الجن والإنس:

7.1.5.8.2.3.1- الإنسان مخلوق من طين والجن مخلوق من نار: الأعراف آية (12)، الحجر الآيات (26، 27)، الرحمن الآيات (14، 15).

7.1.5.8.2.3.2- يكرر القرآن وبوضوح بانّ الجن والإنسان مخلوقين مختلفين، وأُمّتين مختلفتين، أمة الجن وأمة الإنس: الأعراف آية (38)، هود الآيات (118، 119)، فصلت الآيات (25، 29)، الأحقاف آية (18)، الذاريات آية (56)، وسورة الرحمن كاملة.

7.1.5.8.2.3.3- الجن خلق قبل الإنس: الحجر آية (27)، نفس الشيء تؤكده قصة آدم مع إبليس والتي ذكرت في سبعة أماكن مختلفة في القرآن وتذكر أن إبليس كان موجود في الجنة عند خلق آدم عليه السلام، وقد أمره الله تعالى بالسجود لآدم فأبى، في الآيات (34 البقرة، 11 الأعراف، 31 الحجر، 61 الإسراء، 50 الكهف، 116 طه، 74 ص). وسورة الكهف آية (50) تذكر أن إبليس كان من الجن.

7.1.5.8.2.3.4- الجن يرى الإنسان، لكن الإنسان لا يرى الجن: ولقد سُمّوا جنا في لغة العرب لاستتارهم عن العيون، فهم يرون الناس ولا يستطيع الإنسان رؤيتهم، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)} الأعراف؛ والمقصود إن الإنسان لا يرى الجن على صورتهم الحقيقية التي خلقوا عليها ولكن قد يراهم بصور أخرى متجسدين لها، كما سيأتي بيانه.

7.1.5.8.2.3.5- للجن قدرات تختلف الإنسان، حيث يستطيع الجن الصعود إلى السماوات ولكن ضمن حدود معينة لا يسمح له تجاوزها: الحجر الآيات (16-18)، الصافات الآيات (6-10)، الملك آية (5)، لذلك فإن الجن لا يعلمون الغيب: سبأ الآية (14).

7.1.5.8.2.3.6- أن الله أعطى الأمانة على هذه الأرض للإنسان: البقرة الآيات (30-34)، الكهف آية (50). وما أعطاه الله من قوّة ومقدرة غير عاديّة للجن لم تجعله أعلى شأناً من الإنسان: النمل الآيات (39، 40). وهذا يشبه ما أعطاه الله للحيوانات من قوى أكبر مما عند الأنسان لكنه لم يفضلها عليه.

7.1.5.8.2.3.7- أن إبليس عند بداية خلق آدم قرر أن يضلّ الإنسان، ومنذ ذلك والجنّ الشيطاني يحاول بكل إصرار أن يضلّ الإنسان. وعلى الرغم من أنهم لم يُعطوا القدرة على إجبار الإنسان، إلا أنهم عن طريق الوسوسة لهم بالشر، والأماني، والغواية بتزيين الباطل استطاعوا فعل الكثير: النساء الآيات (117-120)، الأعراف الآيات (11-17)، ابراهيم آية (22)، الحجر الآيات (30-42)، النحل الآيات (98-100)، الإسراء الآيات (61-65).

انظر أيضاً سورة الأعراف، في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن في سورة الأعراف، الفصل: 007.7.10- الشيطان لا يتورع عن استخدام الكذب وشتى أنواع المكر والخداع لكي يوقع بابن آدم؛ وانظر أيضاً سورة الحجر في الفصل: 015.8.3-… قصة خلق آدم وعداوة إبليس في القرآن.

7.1.5.8.2.4- الاتصال المباشر بين الإنس والجان:

7.1.5.8.2.4.1- يستطيع الجن أن يتشكّل فيراه الإنسان ويتحدث معه، بدليل ما ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمسك بالعفريت الذي تفلت عليه ليفسد صلاته وخنقه حتى سال لعابه على يد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وبدليل الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنْ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ فَقُلْتُ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَذَكَرَ الْحَدِيثَ – فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ”. رواه البخاري.

7.1.5.8.2.4.2- مشاركة الشيطان الناس في الأموال التي يكسبوها من الحرام، والأولاد من الزنى، قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)} الإسراء.

7.1.5.8.2.4.3- مشاركة الشيطان الناس في الطعام والشراب والمبيت في البيوت (وهي من الأموال) لمن ترك التسمية، قال صلى الله عليه وسلم: “إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء”، صحيح مسلم.

7.1.5.8.2.4.4- يستطيع الجن أن يلبس الإنسان ويسيطر عليه، أو أن يدخل جسد الإنسان ويصيبه بالأذى، ويمكن أن يستأنس في ذلك بعموم قوله تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس (275)} البقرة، وقيل إن من معاني الاستمتاع في الآية {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا (128)} الأنعام، الاستمتاع الحسي الحقيقي. وقد ذكر العلماء أشياء تساعد على الحفظ من مس الجن، منها الاستعاذة بالله، قال سبحانه وتعالى: {وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله من إنه سميع عليم (200)} الأعراف، ومنها قراءة المعوذتين وقراءة آية الكرسي وسورة البقرة والآيتين الأخيرتين منها، وأول سورة غافر مع آية الكرسي وقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير (مائة مرّة) وكثرة الذكر والوضوء والصلاة. ويقوم بعض المتخصصين بالقراءة من القرآن على أشخاص مسهم أو تلبَّسهم الجن لإخراجهم ويحدث في ذلك مخاطبة الجني ومجادلته حسب ما يقوله المتخصصين.

 

7.1.5.8.3- البدايات والنهايات في الدين وفي الإنسان:

كثيرة جداً هي العلومُ والمواهبُ والمهاراتُ والقدراتُ والأشياءُ الموجودةُ في بناءِ أو جبلّةِ الإنسان بالفطرة، في عقله وقلبه وكلِّ خليّة فيه، فالذاكرةُ مثلاً موجودةٌ في كل مكوناتِه، في العقل والقلب والخلايا (انظر 7.4.9.5)، يعرِفُها وينمّيها ويزداد تمرّسُهُ فيها مع مرور الزمان، وبالممارسة والخبرة، فتكبر بذلك أدواتُ التعلمِ عندَه، وقدراتُه وإمكانياتُه على الفهم والاستيعاب. وكثيرة أيضاً الأشياءُ التي كان يجهلها الإنسان، لكنه تعلمها بأدواتِ العلمِ الثلاث التي وهبها إياهُ الله، وهي: العقلُ، والتجربةُ، والخبر الصادق؛ تعلمها بالمعرفةِ الحسيّةِ والتجربةِ، أي بحواسه الخمس (السمع، والبصر، والشم، والتذوق، واللمس)، وببصيرة قلبهِ وصدق مشاعره، وتعلمها بعقله بالخبر الصادق من الوحي واستنبطها من تجاربه. وكثيرة جداً أيضاً الأشياء التي لا يزال يجهلها الإنسان، فعلمُ اللهِ لا نهايةَ له، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ (255)} البقرة، وقال: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} الكهف. فقد خلقَ اللهُ الإنسانَ متعلماً، قادراً على اكتسابِ العلمِ والمعرفة، علّمهُ بالفطرة، وتركَ له البابَ مفتوحاً لينهلَ من العلمِ ما يشاءُ وبالقدرِ الذي يريد. خلقَ له العقلَ ليفكّر، وخلق له الحواسَ الخمسَ والقلبَ ليبصر بها، ويتعلم بالتجربة، وخُلق له الجسدُ ليمارسَ ما تعلمه بعقله، وأبصره بحواسه وقلبه؛ فيخطئُ ويصيب، ويراكمُ علومَه بالتعلم والعمل والتجربة، فعندما كان صغيراً، كان يتمنى ويشتاق ويتطلع للوصولِ إلى أشياءَ صغيرة على قدَرِ إدراكه، وعندما كبُر، كبُرت معه أمنياتُه وأشواقُه وتطلعاتُه، فالإنسانُ هكذا، خُلِقَ منهوماً لا يشبع.

 

7.1.5.8.3.1- إن أشياء كثيرة أخفاها الله العليم الحكيم عن الإنسان، كما بيناه في الفروع والفقرات أعلاه، لتبقى مجهولةً إلى حينٍ والله أعلم، لأن هذا يصبُ في مصلحةِ الإنسان، وفيه سعادتُه. ولهذه المجاهيلِ الكثيرةِ، كعوالمِ الملائكةِ والجان، والروح، والقدر، والغيب، والحقائق والعلوم العلمية والكونية، التي لم تزَل مجهولةً ولم يكتشفها الإنسان، لا بد أن لها في تقديرِ الله دوراً هاماً في سعادةِ الإنسانِ وفلاحِه، فالله تعالى لم يخلق شيئاً لعباً أو عبثاً، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} الأنبياء، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)} المؤمنون، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (26)} ص، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)} الدخان، وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)} القيامة. فهذه الأشياءُ الخفيةُ عن الإنسان، أو الآياتُ غيرُ المكتشفة، والتي وردت في القرآن، لم ترد عبثاً أو لعباً حاشا لله، بل هي الحق، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقّ ُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29)} الكهف، وسيأتي يومٌ يكتشفها الإنسانُ وتكونُ واضحةً جلية له، وسيكون بمقدورِ الأجيالِ القادمةِ معرفةَ أسرارها؛ ودليل هذا واضحٌ بالقياس على صدقِ جميع سننِ الله التي ذكرها القرآن. وكذلك فإن من الحقائقِ العلميةِ والأمثلة وبعض المجاهيل التي في الدين، أخفاها الله ولم يبيّنها لنا أو يطلعنا عليها، أو قدّر لها أن تكتشف وتُعلم، بالقدر الذي قدّرَه وأراده. أخفاها تعالى لكي يجتهد الإنسان في البحث عنها، لأن في عملية البحث هذه قرارَه وسعادتَهُ وتحفيزٌ له على العمل، وبها تحصل عمليةُ طهارتِه وزكاته، أو خيبتِه وتدسيته. وهو مخيّرٌ بين أن يرقى إلى أعلى عليين أو يهبطَ إلى أسفلِ سافلين، فهو الذي أراد أن يكون مختاراً ويحملَ الأمانة، فخلقَ الله الموت والحياةَ ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ولو لم يخترْ الإنسانُ حملَ الأمانة، ربما لم يخلقِ اللهُ الموتَ والحياة، لأنها خلقت ليبلو الناس، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} الملك. وقد أخفى سبحانهُ أشياءَ أخرى في الدين لذاتِ السبب، مثل: اسمُ الله الأعظم، وتعيينُ الأسماء الحسنى، والسبعُ المثاني، والمتشابهاتُ في القرآن، وليلةُ القدر، والصلاةُ الوسطى، وساعةُ الاستجابة يومَ الجمعة، وأولياءُه الصالحون، والكبائر، وساعةُ الإجابة في الثلثِ الأخيرِ من الليل، وأخفى رضاهُ في الطاعات، وغضَبَهُ في المعاصي، وأخفى دعوتَه في إجابتِه، وقبولَ الأعمال، وعدمَ قبولها، والخاتمةَ ساعةَ الموت؛ فلابدّ أن يكون لكلِّ هذه الخفايا من دورٍ مقصودٍ ومقدّر في سعادةِ الإنسان، طالما أن الله تعالى خلقهُ ليسعدَه لا ليعذبَه.

أضف إلى ذلك، فإن من الأشياء التي يجهلها الإنسان، تكرارُ عمليةِ الموتِ والحياةِ التي تحصُل كلّ َ يومٍ عند النوم، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} الزمر، ومنها رؤى الأحلامِ الصادقةِ التي تقع كفلق الصبح، قال تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ (27)} الفتح، ومنها تحققُ الأمنياتِ دونَ تخطيطٍ منك، قال تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ (34)} إبراهيم، أو حصولُها بعكسِ تخطيطِك، لحكمةٍ يعلمها الله، كما في القصص التي في سورة الكهف، وكذلك المبشراتُ والإنذاراتُ فقد يأتيك إنذار مباشر من شخص، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)} القصص، أو حادثٌ عرضيٌ يجنّبكَ ما هو أكبرُ منه، وقد يأتيكَ حدْسٌ بأن افعل أو لا تفعَل، فيكونُ الحدْسُ في مكانه، قال تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ (152)} آل عمران، وقال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)} الأنفال، وقد تشعرُ بأحدٍ سيتصلُ بك أو يأتيك، فيحصلُ كما شعرت، وهكذا. وفي كلِّ ذلك مصلحةٌ بائنةٌ للإنسان.

7.1.5.8.3.1.1- والحقيقة أن هذا صحيح فيما يخص طبيعةَ وتطلعاتَ الإنسانِ اللانهائيةَ في عقلهِ وقلبهِ وبدنِه، فلا بدّ من وجودِ خفايا ومجاهيلَ في حياتِه يبحثُ عنها، ويجتهدُ في الوصول إليها واكتِشافِها، ولابدّ من استمرارِ التعلّمِ بأدواتِ العلمِ الثلاث (الخبر الصادق والتعلم والممارسة)، ثم العملْ لتدومَ سعادتُه، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} البقرة؛ فلو حصلَ الإنسانُ على كلِّ شيءٍ يريده، فستتحوّل حياتُه إلى جحيم، ولو صارَ الناسُ على مستوىً واحدٍ من المعيشة والرفاهيّة، لأصابهم المللُ ولصارَ الموتُ أحبَّ إليهِم من الحياة، فلا هدفَ ولا أمنيةَ ولا أمل يعيشون لأجلِه. والإنسانُ يحب التغيير والانتقال من حال إلى حال، حتى في الأعمال الصالحة، قال صلى الله عليه وسلّم: “ولَكن يا حنظلَةَ ساعَةٌ وساعَةٌ” رواه مسلم، وقال: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ” رواه البخاري ومسلم. فلا بدّ من التغييرِ والتجديدِ حتى لا يملَ الإنسان، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)} سبأ، فكانَ أهلُ سبأَ آمِنِينَ لا يخافون جوعاً ولا ظمأً، إنما يغدون فيَقِيلُون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية، في نعيمٍ كريمٍ وخضرةٍ دائمة وأمنٍ ورخاءٍ وقرىً متواصلةٍ فملّوا ما هم فيه، فبَطروا نعمةَ الله وسألوه تبديلَ هذه النّعمة، فمُزقوا كلَّ مُمَزق وجُعلوا أحاديث؛ وقال تعالى في قومِ موسى حين ملّوا ما أنعم عليهم من المن والسلوى، وتذكروا عيشَهُم الأولَ  في مصر: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} البقرة.

 

7.1.5.8.3.1.2- فالإنسان لا نهائي في تطلعاته، ملول من رتابة العيش، ضَجُورٌ، لا يرضيه دوام فقر ولا دوام غنى، ولا دوام خوف أو أمان، ولا حرّ أو برد، ولا صيف أو شتاء، وهكذا، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} المعارج؛ ولا يرضيه أن يكون كلّ الناس من حوله على حال واحدة متساوين أو متشابهين، لذلك خلقهم الله مختلفين، لأن في ذلك الاختلاف والله أعلم كمال سعادتهم، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} هود، وقال: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا} الزخرف.

7.1.5.8.3.1.3- كذلك مقتضى الحكمة وجود الاختلاف، لتظهر مقتضيات أسماء الله في عالم الشهادة، فاسمه الرحيم يقتضي وجودَ من يستحق الكرم والرحمة، واسمه المنتقم والقهار يقتضي وجودَ من يستحق الانتقام والقهرية. الله أعطاهم حرية الاختيار، ولو ألغى هذه الحرية لما اختلفوا، فاختلافهم دليل حريتهم، لأنهم مخيّرون، واختاروا أشياء متفاوتة، يشهد لذلك القرآن والتجربة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)} الشمس. أهل الفلاح هم الذين سلكوا طريق التزكية إلى مالا نهاية باختيارهم، وأهل الخيبة هم الذين اتخذوا سبل التدسية الى مالا نهاية باختيارهم. أما نتائج الاختيار على الدنيا، فنراها في جميع الناس وفي أنفسنا، أي أن اتباع الدين يجلب الخير والسعادة للإنسان، لأنه يمدّه بحبل الله الموصول إلى الخلود وإلى النور وكنوز الله في أعلى عليين. وأما الكفر فيجلب الشر والشقاء على الناس، لأنه يهديهم إلى سبل الضلال، التي تهوي بهم إلى الأوحال والظلام في أسفل سافلين. لقد وصل الإنسان باتباع الحق والصراط المستقيم إلى مكان لم تصله الملائكة في أعلى عليين عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى ممثلة برسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء، ووصل الإنسان باتباع الشيطان إلى أسفل سافلين، فذاق العذاب الأليم، من فوقه ومن تحته، وغرق في اليم، وهلك، ودُمّر، وخسف به، وصار عاليه سافله، إلى ما نراه من آثارهم المتبقية في مساكنهم التي لم تسكن بعدهم في كل أرجاء المعمورة، كما حصل عبر العصور، وبينّاه كثيراً في مكانه، عند حديثنا عن نعمة اتباع الدين.

7.1.5.8.3.1.4- ولو شاء الله سبحانه لجمع الناس على الهدى، قال تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} الأنعام، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} السجدة، لكن حق القول من الله، لحكمته البالغة، وحجته الدامغة، فأدخل من عصاه وخالف أمره وأشرك به النار، بسبب ظلمه لنفسه، وتعديه حدود ربه، واتّباعه الهوى ومخالفة ما جاءت به الرسل. ولحكمته البالغة وفضله الواسع أدخل من أطاع أمره، واتبع شريعته، ووقف عند حدوده الجنة، فجازاه أحسن الجزاء، وكذلك النظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم، فضلاً منه وإحساناً؛ فقد خلقهم ليرحمهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143)} البقرة، فيدخلهم الجنة وينجيهم من النار، إذا قاموا بحقه، واستقاموا على دينه، فإن خرجوا عن طاعته وخرجوا عمّا أمرهم به فقد توعدهم بالنار جزاءً وفاقاً لأعمالهم القبيحة، واتباعهم لأهوائهم، قال تعالى: {َفَأَمَّا مَن طَغَىٰ (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (41)} النازعات، فهم مؤاخذون بأعمالهم القبيحة من كفرٍ ونفاق ومعاصي، كما أن أهل الجنة مجزيون بأعمالهم الطيبة، وطاعتهم لربهم، وإحسانهم في أعمالهم؛ نسأل الله العافية، قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46)} فصلت.

 

7.1.5.8.3.1.5- الله تعالى خلق الناس مختلفين وساعين إلى التغيير، ارتفاعاً إلى الكمال، أو هبوطاً إلى أسفل سافلين. هكذا هي جبلّتُهُم، ضَجرون من البقاء على حال واحدة؛ ونحن نلمَسها واضحة، ونرى ذلك في أنفسنا، أن الفرد منا يتمنى الشيء لنفسه، فإذا تحقق له ذلك الشيءُ الذي تمناه، ينتقل فوراً إلى ما هو أكبر من الأماني، فكل نهاية أو إنجاز للإنسان هي أو هو بداية جديدة لأشياء جديدة، على كل المستويات العقلية والقلبية والجسدية. فأماني الإنسان لا نهائية، لا تنتهي، فلذلك يذكرها القرآن، ولذلك أيضاً عرفناه بنص القرآن والحديث الشريف، وبالتجربة في أنفسنا ومما عَلِمناه من غيرنا في الحاضر وعبر التاريخ. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على ثلاثة أشياءَ مهمّةٍ جداً موجودة ٍفي جبلّة الإنسان يجب أن يتنبّه لها كل عاقل، لأن فيها فلاحُه أو شقاؤُه، وفوزُه أو هلاكُه:

7.1.5.8.3.1.5.1- أولاً: أن سعادة الإنسان لا تأتي إلا بدوام العمل والبحث والزكاة والنماء، وهذا هو ما جاء به الإسلام؛ ويجب أن يعلم الإنسان أن زكاته ونماءه لا نهائي، كما بيّناه.

7.1.5.8.3.1.5.2- ثانياً: الإنسان السعيد هو من يُقبل على سماع كلام الله تعالى ذي الجلال والكمال، الأحد الذي ليس له كفؤاً أحد، ويتّقه بفعل الخيرات، وترك المنكرات، ويتواضعُ للحق بالتذلل وإظهار الحاجة، لأن كل ما يريده موجود عند الله فقط، وأن يُقبل على كلامه وطاعته، واحترام الناس والمحافظة على حقوقهم، وأن يكف عن الطمع بما في أيديهم، ولا يحقرن فعل غيره من الناس، فالناس كلهم سواسية كأسنان المشط، لا فرق لأحد على أحد إلا بالتقوى. وكما أنه يسعى إلى النماء والزكاة إلى الأحسن، فإن غيره يفعل نفس الفعل كذلك. وأن الله تعالى هو المعطي، والقادر على كلّ شيء، وعنده كلُّ شيء، وفي الحديث القدسي قال صلى الله عليه وسلم: “يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِــي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مـِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُــلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِـيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ” رواه مسلم.

7.1.5.8.3.1.5.3- ثالثاً: الإنسان الشقي هو من يعرض عن سماع كلام الله الحق، لأن هذه من صفات المغرورين الذين يرون أنفسهم خيراً من غيرهم، المتعصبين لجنسهم فقط، والمتكبرين على خلق الله، وهي صفات الشيطان التي جلبت له غضبَ الله، واللعنةَ والخروجَ من رحمتِه، قال تعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} الأعراف. والغرور والتعصّب والكبر هما من أسباب إعراض قريش عن سماع الحق مع يقينهم بأنه هو الحق من ربهم، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} الزخرف، فأجابهم سبحانه بقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)} الزخرف، وأن الاختلاف مقصود في الدين وهو من ضرورات الحياة والبقاء بين الناس وكل المخلوقات، ليتخذ بعضهم بعضاً سخريّاً، فلا يجوز الحسد والتحاسد بين المخلوقات، لأنه كلّه من الله، يقسم بينهم معيشتهم ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)} الزخرف.

 

7.1.5.8.3.2- لكن في ضوء ما سبق ما هي مصائر الناس والنهايات التي تنتظرهم في الدنيا وفي الآخرة؟ ماذا يفعل الإنسان لكي يجتاز الابتلاء وينجو ويفوز في الدارين؟ ما هو الطريق؟ إلى أين يتجه الإنسان لكي يحصل على ما يريد؟ الإجابة بسيطة، وهي أن كل إنسان هو الذي يقرر لنفسه ماذا يريد أن يكون، فالنهايات بأيدي الناس أنفسهم، أفراداً أو جماعات أو أمم، أعطاهم الله الحريّة في اختيار مصائرهم، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20)} الشورى، أي: من كان يريد بعمله الآخرة نـزد له في حرثه، أي: نـزد له في عمله الحسن، فنجعل له بالواحدة عشراً، إلى ما شاء ربنا من الزيادة، ومن كان يريد بعمله الدنيا ولها يسعى لا للآخرة، نؤته منها ما قسمنا له منها، وقال تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} الإسراء، عطاء الله واسع يشمل جميع الناس على اختلاف تطلّعاتهم، ويشمل الدارين الدنيا والآخرة، عطاء غير محظور ولا ممنوع، إن أردت الدنيا أعطاك الدنيا وإن أردت الآخرة أعطاك الآخرة، وإن أردتهما معاً أعطاك إياهما معاً، بحكمته وتقديره.

7.1.5.8.3.2.1- الإنسان هو الذي يختار نهايته ويحدد خواتيم عمله ومصيره. وهذه حقيقة مجرّبة، جرّبتها بنفسي، ورأيتها في غيري؛ أفرادٌ وجماعات، حققوا مرادَهم وأمنياتَهم في الدنيا، سواءٌ كانت أمنياتَ خيرٍ أو أمنياتَ شرّ، فلا يوجد أحدٌ إلا وحققَ الله لهُ ما أرَاد. وبعد أن حققَ الله له ذلك، اعترف بنفسهِ بالصوتِ والصورة، أن تحقيقَه لأمانِيه ليس بجدارتِه بل بتوفيقٍ من الله، أو بشيء خارجٍ عن سيطرتِه، منهم من يقولُ أنّه من الله، ومنهم من يقولُ أنه الحظُ أو الصدفة. إلا أنّ لكلِ نجاحٍ أو فشلٍ أسبابٌ هيّأها الله له، بحكمتهِ وتقديره، ليُقيمَ عليهِ الحُجّةَ البالغةَ يوم القيامة، فالله تعالى فِعله فِعلُ الحق وليسَ العبث. أما على مستوى الأمم، فكلّ أمةٍ كذلك حقق الله لها ما أرادتهُ من الخيرِ أو الشر، فالقرآنُ شهيدٌ، وكُتب التاريخ شهيدة، على ظلم الأممِ وانتشارِ الفساد، وعلى فعل الله في نُصرةِ المظلومينَ والمستضعفين. فلو سألتَ جميعَ الذين حققوا أمنياتِهم في الدنيا والذين لم يُحققوها، لوجدتَ أن الجواب واحد، سواء كانوا أفراداً أو أمماً أو جماعات: وهو أن الجميعَ قد وصلوا حقّاً إلى ما سَعوا إليه، فالذي أراد الخيرَ وسعى إليه وصل، والذي أراد الشرَّ وسعى إليه أيضاً وصل، تماماً كما نصّت عليه الآياتُ أعلاه، مع فارقِ أن الفردَ يصلُ إلى مرادِه في حياتِه، لكن الأمم قد تحتاج إلى تعاقُب الأجيال. والعجيبُ أن كل الذين وصلوا إلى مرادِهم الدنيوي (وليس الديني)، سواءٌ المالُ أو الشهرةُ أو المنصبُ أو الرياسةُ أو غيرُها، كانوا هم أشقى الناسِ وأتعسَهم باعترافاتِهم الكثيرةِ الموجودة على الشبكة المعلوماتية، لأنهم اعتقَدوا أن في الدنيا السعادةَ الأبديةَ النهائية، وهي ليست كذلك، فلو ملك الإنسانُ الدنيا بما فيها، فسيظلُ يتطلعُ لما بعدَها، فهو يسعى إلى الكمال، والكمالُ ليس في الدنيا أوّلاً، ثمّ أنه سوفَ يموتُ ويتركُ كلّ شيء خلفَه، لمن بَعدَه ثانياً. لكن الذين حققوا أمنياتِهم في الخيرِ نجِدُهم في سعادةٍ غامرةٍ ويتمنونَ فعلَ المزيدِ من الخير. والخيرُ بابُه واسعٌ لا ينتهي في الدنيا، بل جزاؤه الأكبر في الآخرة، وقد حبب الله إلى الناسِ حبَّ الخيرِ وكَرَّه إليهِم الكُفر، قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ (7)} الحجرات.

 

7.1.5.8.3.2.2- إذاً فنهاية الإنسان هو الذي يحدّدها، وهي التي يريدها ويختارها بنفسه، وينوي فعلها بكل حرّيته وبدون تدخّل من أحد، ويجني ثمرتها نتيجة فعله، باتباع سبيلها وباتخاذ أسبابها، وقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ” متفق عليه، وهذا الحديث أصل عظيم في الدين، وموضوعه الإخلاص في العمل وبيان اشتراط النية وأثر ذلك، وبه صدر البخاري كتابه الصحيح وأقامه مقام الخطبة له إشارة إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا والآخرة؛ وهو أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها، قال الشافعي هذا الحديث ثلثُ العلمِ ويدخلُ في سبعينَ باباً من الفقه، وقال أحمد أصلُ الإسلام على ثلاثةِ أحاديث: حديثُ عمرَ الأعمالُ بالنيات، وحديث عائشة من أحدثَ في أمرِنَا هذا، وحديث النعمان بن بشير الحلال بيّن والحرام بيّن؛ ونَصُّ الحديثين الآخرين هو: الأول: قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ” رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: “مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ”؛ والثاني: قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْب” متفق عليه.

 

7.1.5.8.3.2.3- الخلاصة أن كلّ إنسان يحقق الله له نواياه وأمنياته كاملة مصداقاً للآيات والأحاديث أعلاه، وقال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ (5)} الضحى. لكن الإشكالَ الذي يقعُ فيه معظمُ الناسِ، هو ظنهُم أن تحقيقَ الأماني يكون بالتمني فحسب، قال تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)} النساء. فتحقيقُ الأماني لا يكون بالتمني فقط، وإنما يتطلب مع القولِ فعلاً. وقد ساقت لنا الآياتُ والسيرُ أمثلةً على تحقيق النوايا والأماني، خيرِها وشرِّها، وفي الدارينِ الدنيا والآخرة. كما يلي:

7.1.5.8.3.2.3.1- أولاً: في حياة الناس كأفراد:

– ومثالٌ من الصالحين، أميرُ المؤمنين عمرُ بن عبد العزيز، قال: إن نفسي تواقَة، وإنها لم تُعطَ من الدنيا شيئاً إلا تاقَت إلى ما هو أفضلُ منه، فلما أُعطيت ما لا أفضلَ منه في الدنيا، تاقت إلى ما هو أفضلُ منه، يعني الجنة.

– ومن المرسلين، إبراهيمُ عليه السلام، كان أمة قانتاً، شاكراً لنعمة ربه، فاجتباه ربه وهداه، وآتاه في الدنيا حسنة، وجعله للناس إماماً، وفي الآخرة من الصالحين. لكن إبراهيمَ أرادَ أن يبقى الخيرُ في ذريته من بعده، فاستجيب له، وجعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت من بعد إبراهيمَ نبيٌّ إلا من أهل بيته.

– ومن الكفارِ قارون، أراد العلوّ فخُسف به وبداره الأرض، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ (81)} القصص.

7.1.5.8.3.2.3.2- ثانياً: في سير الأمم كجماعات:

– اليهودُ أرادوا الفسادَ في الأرض فأُعطوها، قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} المائدة. وقد حققَ الله لهم مرادَهم بحبلٍ من الله وحبلٍ من الناس، فالله مُعطي كلّ إنسان ما يريد، حتى يرى ما هو فاعل فيما منحه إياه.

– والنصارى أرادوا رهبانية ابتدعوها، قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا (27)} الحديد.

– وكذلك جميعُ الأمم السابقة: فرعونُ، وعادٌ، وثمود، وقوم نوح، والمؤتفكةُ، ومدينُ، ولوطٌ وغيرُهم من الأمم، هداهم الله فاستحبوا العمى على الهدى فأهلكهم أجمعين. ولا تزال آثارُهُم قائمةً ماثلةً لتكون آيةً لمن جاء بعدهم.

7.1.5.8.3.2.3.3- وأخيراً: في أصناف المخلوقات:

– بنو آدمَ أرادوا حملَ الأمانةِ فأعطاهَم سبحانه ما اختاروا، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب، ولم يتركهم تعالى لأنفسهم، بل أنزلَ عليهم الكتابَ والحكمة، وأرسل لهم المرسَلين مُبلغين، وبيّن الآيات، وضرَب الأمثالَ، وعلّمهم، وحذرَهم وأنذرَهم.

– والشيطانُ أراد أن يُغوِي بني آدم فاستُجيب له، وأعطَاه الله مُراده رغمَ معصيتِه وطردِه من رحمته، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} الحجر.

– والسماواتُ والأرضُ والجبالُ أبت أن تحملَ الأمانةَ فلم تحملها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا (72)} الأحزاب.

والخلاصةُ أن الله يخلق بالحقِ مخلوقاتٍ لتعيش بسعادةٍ وسلام، لكنها تختارُ لنفسها الشقاءَ فتشقى، فيهلكُها الله ويخلقُ غيرَها، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)} إبراهيم. والله هدى الناسَ إلى الحق، وأراد لهم الصلاح، ولكنهم أرادوا لأنفسهِم الفساد، فأعطاهم ما أرادوا ، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44)} الأنعام. فالله تعالى يُعطي الأفراد والأمم ما شاؤوا حتى يقيمَ عليهم الحجة، فإذا أقام عليهِم الحجةَ أهلكَهم، وسنة الله هي الغالبة، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)} القصص.

انظر مزيداً من التفصيل والتوسّع حول تحقيق النوايا والأمنيات، في سورة آل عمران في كتاب تسهل فهم القران الفصل (007.7.9- السورة تحض كثيراً على الذكر والتضرع والدعاء، وأن الدعاء هو العبادة).

 

7.1.5.8.3.2.4- إن سنن الله في تحقيق الأماني لمخلوقاته، يراها المؤمن الذي ينظر بنظر الله، ويراقب حصولها في نفسه وفيمن حوله وفيمن سبق من الأمم، وينكرها الكافر المطموس على بصيرته، فهو كالأموات، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22)} فاطر، وقال {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ (53)} الروم؛ عطاءُ الله لا نهائي، فقد خلق الناسَ ليعرفوه، ويُقبلوا على كلامه، فيعرفُوه بعطائه وكمال أسمائه، فيعبُدوه ويحبهم ويحبونه، فيُعطيهم حتى يصل العطاءُ مداه، برضاهُ تعالى عنهم في الدنيا والآخرة، قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في الحديث القدسي: “إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لأهْلِ الجنَّةِ: يَا أَهْلَ الجنَّة، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يا رَب وَأَيُ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً” متفق عليه. ولي تجربة شخصية مع تحقيق الأماني ومع استجابة الدعاء أشرت إليها في خاتمة الكتاب أدناه، انظر: (00.2.4.2- استجابة الدعاء؛ 00.2.5.5- نعمة الدعاء واستجابة الدعاء؛ 00.2.5.6- نعمة تحقيق الأمنيات والأحلام).

 

7.1.5.8.3.3- إن اللهَ تعالى لا يرضى الظلمَ لعباده، ولا الضلالَ ولا الصغار: يريدُ لهم أن يخرجوا من الظلماتِ إلى النور، فهو بهم رؤوفٌ رحيم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9)} الحديد؛ ولأن الله سبحانه هو الحق، وقوله الحق، وله دعوة الحق، وعبادته هي الحق، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ (62)} الحج، يريدُ لهم أن يعبدوهُ وحده، لأنه لا معبود بحق إلا هو، ولأنه هو ربُهم الحق، وما سواه باطل، فلا يرضى لهم بأن يعبدوا غيرَه، أو أن يَدْعوا مخلوقاً مثلَهُم لا يضرُّهُم ولا ينفعُهُم، قال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)} يونس؛ فمن حق الله على عباده أن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً، فهو الخالق الرازق المنعم المتفضل على عباده بكل ما لديهم من نعم وخيرات، قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (53)} النحل، إن الله تعالى ليس بحاجة لأحد من خلقه، بل إنّ الناسَ وجميعَ المخلوقاتِ بحاجةٍ إليه، سخَّرَ لهم السماواتِ والأرض، ويجيبُ المضطرَّ إذا دعاه، ويكشفُ السوءَ، ويهدي، ويرزق، ويفعلُ كلَّ شيء خير. الله تعالى يريدُهم أن يعبدوه وحدَهُ لا شريك له، لأن مقامَ العبوديةِ هو أعلى وأشرفْ مقامٍ، جعلَهُ لكلّ مخلوقاته، قد خاطبَ به خاتمَ النبيينَ وسيّدَ المرسلينَ محمداً صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى (1)} الإسراء، وامتدح به أقواماً، فقال تعالى: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} الأنبياء؛ وليسَ من العدلِ أن يعبدَ المخلوقُ الذي كرّمَه وخلقَه بيديه ونفخ فيه من رُوحه، مخلوقاً من المخلوقاتِ التي لا تضر ولا تنفع، ولا أن يتخذَها أولياء من دونه، ولا أن يتقرّبَ بها إليه، فهو أغنى الشركاء عن الشرك، كما في الحديث القدسي: “أَنا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِيَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ” رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى، أنْ يَأْتِيَ الْمَرْءُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ” متفق عليه، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (48)} النساء.

7.1.5.8.3.3.1- الله عزوجل لم يخلق الخلق عبثاً ولا هملاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فكلُّ ما سوى الله مخلوق له، مربوبٌ، مدبّرٌ، مخيرٌ، مسيّرٌ، مكوّنٌ بعد أن كان لا شيء. جميعُ الخلقِ مُلكُه وعبيدُه، وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريف مشيئته، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} الزمر؛ وما من شيء إلا يعبد الله، ولكن لا يعلم ذلك إلا الله، قال تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)} الإسراء.

الخطورةُ هي أن أكثرَ الناسِ لا يؤمنون، كما بيناه أدناه في المبحث (7.3.5- لماذا يكفر الإنسان ولا يؤمن)؛ وقد انشغلوا بالعاجلِ عن الآجل، وبالطريقِ عن المستقر، والأخطرُ أن الذين آمنوا باللهِ أكثرُهُم آمنوا وهم مشرِكُون، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)} يوسف، يعلمونَ أن اللهَ هو خالقُهُم ورازقُهُم ولكنَّهم يعبُدُون غيرَه ليتقربُوا بهِم إلى الله زُلْفى، قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} الزمر، يتقرّبونَ إلى الله في عبادَتِهِم الأوثانَ والأصنام، واتخاذِهِم من دونه أرباباً، وزعمهم أنَّ له ولداً، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيراً؛ فإذا سئلوا عن الله وعن صفته، وصفوه بغير صفته، وجعلوا له ولدًا، وأشركوا به، والعياذ بالله.

 

7.1.5.8.3.3.2- إن أكثر الناس لا يعرفون الطريق إلى الله، يولد الإنسان على الفطرة فيرى آباءه على أمّة فيتبع آثارهم، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23)} الزخرف، وهذه أكثرُ حجّةٍ اتخذها الكفار، ومكرّرةٌ عبر تاريخهم إلى يومنا هذا، اتخذوها سبباً لكيلا يتبعوا المرسلين، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170)} البقرة، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (104)} المائدة. ما من نبي إلا وقيلت له هذه الكلمة، فهي تكاد تكون العذرَ الأوحد الذي تحججَ به الكفار لتبرير كفرهِم وشركهم، وإعراضِهم عن رسالات ربهم. فالله لا يريد لنا أن نكون مقلدين تقليداً أعمى كما فعلوا، لأن من الآباءِ من لا يعقل شيئاً ولا هم يهتدون، قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170)} البقرة، وقال: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (104)} المائدة. فالله لم يميز الإنسان بالعقل كي يكون من المقلدين، فكان سبب هلاكهم هو التقليد، وسوء استدلالهم هذا، هو الفعل الذي هلكت بسببه الأمم ودمّر الناسَ عبر تاريخهم، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} لقمان، وقال: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} غافر.

7.1.5.8.3.3.3- الله ميّز الإنسان بالعقل، كما بينّاه، وهبهم الله عقولاً تميز الخبيث من الطيب، فيلغون عقولهم ويضعونها جانباً، ويتبعون ما يرثون عن آبائهم من عبادة باطلة، قال تعالى: {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)} هود. ولا يزال يتكرر هذا التقليد، والسبب أن الإنسان يتبع هواه فيستسهل حكم الهوى والضلالَ الذي سلكُه آباؤه على حكم العقل، فالدين فيه تغيير إلى الأحسن وإلى الحق والصراط المستقيم، وفيه ترك للهوى وترك لما يعبد الآباء، وهذا التغيير صعب، لأنه يخالف الهوى، ولأن التقليد أسهل. لقد جعل الله العبادة طريقاً إلى معرفة أسمائه، وسبيلاً إلى الوصول إلى محبته، وجعل المال وسيلة لتسهيل تبادل المصالح، كما بينّاه في حديثنا عن الإنفاق، فيتخذون الشركاء وسطاء بينهم وبين الله بغير حق، يعبدونهم ليقربوهم من الله، فيغرقون في الضلال، ويكنزون أموالهم ويجعلونها مقصداً وآلهة من دون الله، ويتسلّط ويستعبد بها بعضهم بعضاً، ويعطلون مصالحهم، ويفسدون بقاء الحياة في مجتمعاتهم، قال تعالى: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)} هود.

 

7.1.5.8.3.3.4- لقد سبق في علم خالق الناس أن التقليد سيكون فيهم من الأمراض المزمنة، والمستعصية على الحل، والمتواصلة التأثير، يتّبعه أكثر الناس لهوى في نفوسهم ولسهولته، كما بيناه أدناه في المبحث (7.3.5- لماذا يكفر الإنسان ولا يؤمن). ولذلك ركّز القرآن كثيراً على بيان ضلال المقلدين، وبطلان اتباعهم ما كان يعبد الآباء، لأن فعل الآباء ليس دليلاً على أنهم على الهدى، قال تعالى: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (74)} الشعراء، وقال: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54)} الأنبياء. وهذا تشخيص صحيح، ففي أيامنا هذه نجد أن أكثر الناس متعصبون: لبلدانهم وقومياتهم ولغاتهم وأديانهم وأحزابهم وديمقراطياتهم ورأسماليتهم وحرياتهم وإباحياتهم، وغيرِها من الأديان المصطنعة التي ورثوها عن آبائهم. فالمرض القديم متواصل، والخسران والهلاك كما حصل مع قديم الأمم، سيحصل في المستقبل، فسنن الله ثابتة لا تتغيّر. لكن الأخطر من كلّ هذا هو ما يحصل من التقليد الانتقائي لشيء في ظاهره صحيح، أو هو صحيح حقاً، لكنه أُخرِج من سياقه، ويتعامل معه وكأنه كل شيء، لكن منفصل، بعيداً عن سياقه، فيصبح مع صحته باطلاً وضلالاً؛ مثلا عند غير المسلمين: يقدسون الحريّة والإباحيّة على حساب حريّات والتزام الآخرين، ويقدسون الرأسمالية أو الديمقراطية أو الاشتراكية على حساب حقوق وحريات ومصالح الجماعات أو الأفراد، وهكذا. وكذلك يخربون العمران، ويدمرون البلدان ويقتلون الإنسان، كما نراه حاصلاً في كل البلدان، لأجل شعارات وضعت أصلاً من أجل البناء والحفاظ على حقوق الإنسان. أمّا عند المسلمين فهم مثلاً، في كثير من الأحيان ولقلة معرفتهم بحقيقة الدين ومقاصده، يتبعون وبنفس الأسلوب، الطريقة مقصداً، أو يتخذون الوسيلة هدفاً، ويخرجونها عن سياقها، مثلاً: التركيزُ على العبادة فقط، أو الأذكار، أو اتباعُ طريقةِ الشيخ الفلاني، أو الجهادُ في سبيل الله، أو السلام، أو الدعوةُ إلى الله أو الإسلام، أو إقامةُ دولة إسلامية، أو حوارُ الأديان، وهكذا. بينما هذه كلها وسائل للوصول إلى هدف واحد محدد، وهو الهدف الذي أراده الله تعالى للناس أن يبلغوه، ويستقرّوا إليه، وهو أنه يحبهم ويحبونه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} المائدة، فالدين بكلّ أركانه هو الطريق إلى محبة الله، انظر المبحث: 7.3.6- سعادة الإنسان بمحبة الله. فالدين هو كلّ هذه الأشياءِ مجتمعةٍ في سياق واحد، وفي صراط واحد مستقيم، وحبل متين، طرفه في يد الناس ونهايته إلى الله تعالى. ومن صفات المؤمنين مثلاً، قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} التوبة، هذه تسع من الصفات، والخطأ أن نفككها من بعضها، أو أن تُخرج بعض هذه الأشياءِ من سياقها، فالله تعالى لم يخلقنا لكي نعمل عملاً دون عمل، أو نركز على عمل أكثر من غيره، أو أن نتبع بعضاً من دينه دون بعض، كأن نكون مثلاً دعاة إلى دينه وانتهى، أو مقاتلين، أو ذاكرين، أو متبعين لطريقة، أو مدافعين عن مذهب، أو إلى ما هنالك من الأهداف الفرعيّة، فننشغلَ بالطريق عن الهدف الذي جعل له الطريق، وعن الوصول إلى نهايته، لأن هذا يشبه فعل بني إسرائيل في قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} البقرة. والأخطر من هذا كلّه، هو أن نأمر بالبر ولا نتبع، أو أن ندعو إلى الصلاح ونبقى في الضلال، كأن ندعو مثلاً إلى الإسلام بكل جدّ واجتهاد، ونبذل الوقت والمال في دعوة الناس إلى أبواب الخير، بينما ننسى أنفسنا، ونقصّر في واجباتنا، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)} البقرة. نعوذ بالله من الجهل والضلال.

 

7.1.5.8.3.3.5- الله تعالى لم يخلق الإنسان لينشغل بكل هذه الأسباب المتفرقات كهدف لوجوده، فهي وسائلُ وأدواتٌ يصلُ من خلالها إلى معرفة الله ومحبته وهذا هو المطلوب. ومحبة الله يجب أن تكون فوقَ كلِّ حبّ آخر يحبه الإنسان، قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} التوبة، فهذه هي الثمانية محاب التي يحبها الإنسان، لكن سعادته لا تتم إلا أن تكون محبة الله فوقها كلّها؛ الله تعالى لا يريدنا دعاة ولا مجاهدين ولا حفظة قرآن ولا متبعي سنّة ولا مذهب ولا مهندسين ولا أطباء ولا عمّال ولا موظفين ولا فنانين ولا رؤساء أو مرؤوسين، ولا متبعي طريقة من الطرق ولا متجهين إلى مشرق ولا إلى مغرب ولا غيره، ولكن يريدنا هذه الأشياء كلّها، أو من خلال هذه الأشياء كلّها أو بعضها أن نعرفه فنعبده فنحبه فيحبنا وانتهى؛ أكمل الله تعالى دينه يوم نزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3)} المائدة، فأركان الإسلام خمسة، وأركان الإيمان ستة، وحرمات الله منصوص عليها في القرآن، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ (151)} الأنعام، يربطها جميعاً تقوى الله، وأعظم التقوى أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا هو الدين وانتهى، وهذه هي الوسيلة إلى الله وانتهى؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} المائدة، أي اطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه؛ سئل الإمام الشافعي ما أعظم عمل يتقرب به العبد إلى الله؟ فبكــى رحمه الله ثم قال: “أن ينـظــر الله إلى قلبـك فيـرى أنـك لا تـريـد من الدنيــا والآخـرة إلا هـــو”، وقال ابن القيم: قال ابن تيمية: “إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه؛ فإن الرب تعالى شكور”. وقال تعالى: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} الإسراء، وقال الشنقيطي رحمه الله: اعلم أن جمهور العلماء على أن المراد بالوسيلة هنا هو القربة إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه على وفق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بإخلاص في ذلك لله تعالى؛ لأن هذا وحده هو الطريق الموصلة إلى رضى الله تعالى، ونيل ما عنده من خير الدنيا والآخرة. وأصل الوسيلة: الطريق التي تقرب إلى الشيء، وتوصل إليه وهي العمل الصالح بإجماع العلماء؛ لأنه لا وسيلة إلى الله تعالى إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالآيات المبينة للمراد من الوسيلة كثيرة جدّاً كقوله تعالى: {وَمَآ ءَاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ}، وكقوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى}، وقوله: {قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ}، إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول الذي روي عن ابن عباس فالمعنى: {وَٱبْتَغُواْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ}: واطلبوا حاجتكم من الله؛ لأنه وحده هو الذي يقدر على إعطائها، ومما يبين معنى هذا الوجه قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ}، وقوله: {وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ}، وفي الحديث: “إذا سألتَ فاسأل الله”. ثم قال الشنقيطي رحمه الله: التحقيق في معنى الوسيلة هو ما ذهب إليه عامة العلماء من أنها التقرب إلى الله تعالى بالإخلاص له في العبادة، على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفسير ابن عباس داخل في هذا؛ لأن دعاء الله والابتهال إليه في طلب الحوائج من أعظم أنواع عبادته التي هي الوسيلة إلى نيل رضاه ورحمته.

7.1.5.8.3.3.5.1- لقد خلق الله الناس ليعرفوه ويعبدوه، كما بيناه في أسماء الله الحسنى أعلاه، لكن من لم يعرف الله فكأنما عبد غيرَه، وهو الجهل والضلال الذي عليه أكثر الناس عبر العصور، وفي أيّامنا هذه، أكبر إله عند الناس هو المال والاقتصاد. الناس هذه الأيام تعتقد أن المال هو الحل الوحيد لكل مشاكلها، فالمال بالنسبة لهم هو الرزّاق، وهو المحيي وهو المميت، وهو مقياس الطبقاتِ، والتفاوتِ بين الناس، ومن المستحيل أن يستغني الإنسان هذه الأيام عن قرش واحد أو درهم أو دينار، إلا من رحم ربي، مصداقاً لما جاء في الحديث: “شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ”، بينما الصحيح أن ما عند الله هو الحلُ لكل احتياجات الناس، وأن الفرق بين الناس هو بالتقوى وليس بالمال. ومن ناحية أخرى نجد أن أكثر من نصف الناس في عصرنا هذا يعبدون الأوثان: كما في آسيا، جهلاً منهم بالإله الذي يستحق العبادة، فالمخلوقاتُ ليست آلهة، لكنّ هذا من تزيين الشيطان؛ فالإنسان بفطرته لا بد أن يعبد الله الحق، فإن لم يعبده، عبدَ أيَّ شيء غيرَه، فالإنسانُ لا يستطيعُ أن يعيش بدون إله، لأن هذه فطرته وجبلته، منهم من اتخذ إلهه هواه ومنهم من اتخذ المال أو السلطة أو الطريقة أو القبيلة أو الشمس ومنهم القمر، وغيرها من الآلهة الباطلة.

7.1.5.8.3.3.5.2- الناس تتنافس على الدنيا لجهلها بربها، فإذا جهلت صفات ربها، تسلط عليها العدوّين اللدودين الآخرين النفس والشيطان، (الذين بيناهما في المطلب 7.3.5.1- أعداء الإنسان التي تأمره بالكفر)؛ وقال تعالى عن عداوة الشيطان: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا (53)} الإسراء، وعن عداوة النفس الأمارة بالسوء: وأخطرها الحسد والغلِّ والحقد؛ فيحصل التنافس على الدنيا وترك الآخرة، قال صلى الله عليه وسلّم: “فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ” رواه البخاري ومسلم؛ والحسد داء عضال لعن الله بسببه الشيطان، وهلكت الأمم، ولو علم الحاسد بواسع كرم ربه وسعة فضله، وأنه يعطيه سؤله، ويعطي كذلك غيره سؤله، وأن يده ملأى، وما أعطى لعبده يعطيك بالأسباب أضعافه، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (60)} غافر، يغني الكل ولا ينقص ذلك من ملكه، جعل رزقهم في السماء، وأقسم عليه وأكده، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)} الذاريات، فلا يجوز الحسد والتحاسد بين المخلوقات، لأنه كلّه من الله، يقسم بينهم معيشتهم ويرفع بعضهم فوق بعض درجات، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32)} الزخرف.

 

7.1.5.8.3.3.5.3- وآتاكم من كل ما سألتموه، أعطاكم حتى أرضاكم:

بعد أن عصى آدمُ ربَّهُ في الجنة، أهبطه الله سبحانه وتعالى إلى الأرضِ، واستخلفه وذرّيته فيها، وأعطاهم من كلِّ ما يريدون، ومن كل ما سألوه، لينظرَ ما هم فاعلون، وليختبرَ إراداتَهم ونواياهم، أيشكرون أم يكفرون، فتركهم يفعلون ما يشاؤون، ومنحهم الحرّيةَ التامّة في الاختيار؛ ليقيم بذلك عليهم الحجّة البالغة بأعمالهم، قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (149)} الأنعام، وليرفع عنهم العذر، فالله كذلك يحبُّ العذر، قال صلى الله عليه وسلّم: “وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللهِ”، ثمّ يحاسبهم على أعمالهم بالعدل والميزان، قال تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} الكهف. ومن أجل هذا المقصِد هيّأ تعالى للإنسان المكان والزمان والوسائل، لكي يفعل ما يشاء حرّا مختاراً، بلا قيود، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} إبراهيم، فهذا ما هيّأه تعالى لهم من الظروف المناسبة والملائمة، والبيئة الصالحة للعمل، ثمّ قال: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ (34)} إبراهيم، أي: أعطاكم من كل ما تعلقت به أمانيكم وحاجتكم مما تسألونه إياه بلسان الحال، أو بلسان المقال، ولم يحرمكم شيئاً. أعطاكم حتى أرضاكم، قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} الضحى؛ وذلك لكيلا يكون للناس حجّة على الله تعالى: بعد أن أعطاهم كلَّ شيء، بأنه لم يعطهم، بل هو أعطاهم ما يشاؤون، وكلّ ما من شأنه أن يجعلهم أحراراً قادرين على فعل ما يشاؤون. ليقيم بذلك عليهم الحجّة البالغة المبينة متلبسين بمشيئتهم، وبما اختاروه لأنفسهم، فمن اختار الحق فهو من أهل الحق، ومن اختار الباطل فهو من أهل الباطل، قال تعالى: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ (42)} الأنفال.

إذاً أيها الإنسان ما هي نيتك؟ وما هي مشيئتك؟ ماذا تريد أن يعطيك الله حتى ترضى؟ أنت حرّ، ولك الخيار. إذا كنت تريد الله وأتيته ماشياً، فالله يأتيك هرولة، وإذا كنت تريد دنيا تُصيبُها، أو امرأةً تنكِحُها، فسيحققُ اللهُ لك مرادَك، حتى ترضى؛ لكن اعلم أن كلَ ما سوى الله فهو طريقٌ إلى الله، هذه الدنيا وما فيها كلها وسائلُ وليست المقصد. إن أنتَ انشغلتَ بالطريقِ عن الهدف، فلا تلومنّ أحداً إلا نفسَك، فأنت اخترت لنفسِك، وسيعطيك الله ما تريد، ويملي لك، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} الأعراف، ويسهل لك طريقك إلى ما نويت فعله، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} الليل، حتى يقيم عليك الحجة، ويجازيك بأفعالك، قال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ” متفق عليه.

 

7.1.5.8.3.3.6- الله سبحانه وتعالى يُعرّف الناس على نفسه في كتابه، فهو ربُّ الإنسان، الذي يستحقُّ العبادة. عرّف على نفسِه، وعرّف على الأسبابِ التي استحقَ فيها العبادة، فهو الخالقُ الضارُ النافع، وغيرُه لم يخلُقوا، ولا ينفعون ولا يضرّون. فإذا بحثت عن أسماء اللهِ وصفاتهِ في كتابٍ غيرِ كتابه فقد ضللت، فأسماؤه تعالى وصفاتُه ذكرت في القرآن وفي الحديث، وقد ظلَ القرآنُ يكررها ويكررها في كلِّ مكان فيه، وبما يتناسبُ مع مقاصدِ الآياتِ والسورِ وموضوعاتها، حتى تجاوزَ عددُ أسمائهِ تعالى عددَ آياتِ القرآن. فإذا عرفتَ اللهَ بأسمائه؛ وأهمُها بالنسبةِ للإنسانِ هو أنهُ الرزاقُ ذو القوّةُ المتين، وأنَ بيدهِ كلِّ شيء، وأن كلَّ ما تريدُه من هذه الدنيا سيُرضِيكَ به، عندئذ سيأتيكَ السؤال: ماذا يريدُ اللهُ مني؟ والجوابُ هو أنهُ يريدُكَ عبداً له، وأنّ هذه العبوديّةَ شرفٌ وسعادَة؛ فيهديكَ إلى صراطِهِ المستقيم، بكل اللغاتِ والوسائلِ والأدواتِ والقِصَصِ والتجارب، ويكررُ ويكررُ ويكرر، حتى لا يظلَ لبليدٍ أو قليلِ فهمٍ حجُّة. ثم يأتيك السؤال الذي يليه: ما الفائدةُ من هذا القولِ (يعني عن أسماء الله) والفعل (يعني العبادة والتزكية)؟ فيخبركَ القرآنُ، ويقيمُ عليكَ الحجة، بأن اللهَ خلقكَ ليُسعِدك، لأن في العلمِ بأسمائهِ سعادةُ العَقْل، وفي حبهِ سعادةُ القلب، وفي نعمهِ والمتعِ الحسيةِ سعادةُ الجسد. وأخيراً يأتيكَ السؤال: إلى متى سيظلّ هذا النعيم؟ فيخبركَ القرآنُ بأن تكريمَ وزكاةَ الإنسانِ بكلِ مكوناتهِ هو مقصِدُ وجوده؛ وتتمُ على أربعِ مراحل: أولهُا نعمةُ الحياةِ ومعرفةُ أسماءِ الله، ثمّ نعمةُ اتباعِ صراطِه المستقيم، ثمّ نعمةُ معرفةِ تكريمِ الله وتشريفِه، وعبادتِهِ وشكره، ثمّ زكاةٌ وخلودٌ وملكٌ لا يبلى؛ وهذهِ الأخيرةُ هيَ نقطةُ ضعفِ آدمَ التي استغلها الشيطانُ ليُضِله. هذهِ الأربعةُ أشياء هي حكمةُ وفلسفةُ وجودِ الإنسان، وفيها ملخصُ كلُّ بداياتهِ وحواضرهِ ونهاياته. والله أعلم.

7.1.5.8.3.4- هذه المجاهيل والخفايا فيها تحريض على دوام البحث والعمل والاجتهاد، ودوام الرقي والنماء والزكاة في طريق معرفة الله والتدرّج في معرفة كماله، وهي حرب على تقليد الآباء صفة الحيوانات الغير عاقلة، وعلى التحجّر صفة الجمادات، لولم يحمل الإنسان الأمانة ابتداءاً، لأجبره الله على الطاعة كرهاً كما هو الحال عند باقي المخلوقات، أعني السماوات والأرض والجبال، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب، وطاعة الله تشمل ما يلي:

7.1.5.8.3.4.1- توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات: قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)} سورة الإخلاص؛ فهو الله الذي لا يستحق أن يعبد أحد سواه، وهو الرب الصمد الذي تفتقر له كلّ المخلوقات، ويقصد لدفع الشدائد والمكروهات وحصول المطالب والحاجات، ولم يكن له كفوا أحد، لكمال صفاته لا أحد يكافئه أو يماثله أو يساويه؛ من آمن به وبأسمائه وصفاته تطهّر وزكى حتى يرضى عنه الله فلا يغضب أبدا، ومن شبه به وبصفاته دسى وخرج من رحمة الله.

7.1.5.8.3.4.2- ألا يعبد غيره، فمن عبد غير الله فإن له معيشة ضنكا ويحشر يوم القيامة أعمى. وعبادة الله هي الإسلام بأركانه الخمسة والإيمان بأركانه الستة والإحسان، قال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ۚ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ (127)} طه.

7.1.5.8.3.4.3- ولا أن يشرك به شيئاً، وأن الشرك هو إثم وظلم عظيم، وهو أعظم الذنوب، فمن أشرك بالله شيئاً تركه الله لشريكه، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (48)} النساء.

7.1.5.8.3.4.4- ولا أن يفسد في خلافته في الأرض فلا يظلم، بل يقيم العدل وصلة الرحم والإنفاق وقضاء حوائج الناس والجهاد في سبيل الله ونشر الدين، قال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} البقرة، وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} النساء

أعلى الصفحة Top