العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)


001.0 سورة الفاتحة


ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا


001.1 التعريف بالسورة:

1) سورة مكية. 2) من سور المثاني. 3) عدد آياتها سبعة مع البسملة. 4) هي السورة الأولى في ترتيب المصحف الشريف. 5) والخامسة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد سورة المدّثر. 6) أسماء أخرى للسورة: اشتهرت هذه السورة الشريفة باسم الفاتحة في أيام النبوّة. وقال السيوطي في الإتقان أنه قد وقف لها على نيّف وعشرين اسماً وذلك يدل على شرفها فإن كثرة الأسماء دالّة على شرف المسمّى. وأسمائها كما أوردها هي: فاتحة الكتاب، فاتحة القرآن، أم الكتاب: لأنها محكمة و{المحكمات هنّ أمّ الكتاب}، أم القرآن: فهي أصله لانطوائها على جميع أغراضه ومقاصده، القرآن العظيم: لاشتمالها على المعاني التي في القرآن، السبع المثاني: فهي سبع آيات تثنى في كلّ ركعة وفيها ثناء ودعاء، الوافية: بما في القرآن من المعاني، الكنز: فقد روي عن علي رضي الله عنه أنها نزلت من كنز تحت العرش، الكافية: تكفي في الصلاة عن غيرها، الأساس: لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه، النور، الحمد، الشكر، الحمد الأولى، الحمد القصرى، الراقية، الشفاء، الشافية، الصلاة: لتوقف الصلاة عليها ولحديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين أي السورة، الدعاء: لاشتمالها عليه في قوله {اهدنا}، السؤال، تعليم المسألة: لأن فيها آداب السؤال حيث بدئت بالثناء قبله، المناجاة: قوله {إياك نعبد وإياك نستعين}، التفويض: لاشتمالها عليه في قوله {وإياك نستعين}.

7) أسماء الله وصفاته في السورة: الرحمن 2 مرّة، الرحيم 2 مرّة، لله 1 مرّة، رب 1 مرّة، مالك يوم الدين 1 مرّة. حول أسماء الله وصفاته ورحمته، انظر أيضاً فيما يلي:

001.1.7.1- كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.

001.1.7.2- كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: المبحث رقم 6.2.1: التعريف بالله الرحمن الرحيم وبالإنسان الذي خلقه الله برحمته ودين الله دين الرحمة للإنسان.

001.1.7.3- سورة الأنعام: 006.7.6- عناية الله بالإنسان ورعايته له ومعاملته بالرحمة.

001.1.7.4- سورة مريم: 019.7.4- سياق السورة في أن الله رحمن؛ 019.7.6- سياق السورة في بيان حاجة العباد لرحمة ربهم وأن الابتلاء رحمة؛ 019.7.7- سياق السورة في أن العبادة رحمة.

001.1.7.5- سورة الصافات: 037.6.4.4- {والحمد لله رب العالمين (182)}. الحمد لله: افتتح بها سبحانه الهداية في سورة الفاتحة، …إلخ.

001.1.7.6- سورة الأحقاف والحواميم: 046.8.1.3- السّور يملأها جوّ من الرحمة والمغفرة من الله الغفور الرحيم.

001.1.7.7- مقصد سورة الرحمن 055.4.1- وهو تعداد آلاء ونعم الله الرحمن على الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، وملخص موضوعها، الذي هو إثبات رحمة الله ترغيباً في إنعامه وإحسانه، وترهيباً من انتقامه.

001.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:

سمّيت الفاتحة صلاة فهي شرط لصحتها، ففي الصحيحين قال رسول الله عليه السّلام “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب”. ويقال لها الراقية لحديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما، حين رقى بها الرجل السّليم فقال له رسول الله عليه السلام “وما يدريك أنها رقية؟”. ويقال لها الشفاء لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا “فاتحة الكتاب شفاء من كلّ سم”. وهي نور حيث بشّر بها الملك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل قاعد عنده وقال “أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته” رواه مسلم. ويقال لها الحمد حين بدأ بها الله سبحانه كتابه {الحمد لله ربّ العالمين}.

أخرج البخاري وأحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي سعيد بن المعلّى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لأعلمنّك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال فأخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله، إنك قلت لأعلمنّك أعظم سورة في القرآن؟ قال نعم {الحمد لله ربّ العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته.

وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، ثمّ أخبره أنها الفاتحة. وأخرجه النسائي.

أخرج الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا قرأتم الحمد فاقرأوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني.

وفي صحيح مسلم قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي. أخبرنا سفيان بن عيينة عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج” ثلاثا، غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الأمام. فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله تعالى: قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الحمد لله ربّ العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال؛ {الرحمن الرحيم}. قال الله تعالى؛ أثنى عليّ عبدي. وإذا قال {مالك يوم الدّين}. قال: مجّدني عبدي، وقال مرّة: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين}. قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل”.

001.3 وقت ومناسبة نزولها:

هذه السورة هي واحدة من السور التي نزلت في وقت مبكّر جداً من العهد المكّي. وحسب الأحاديث الصحيحة فهي أوّل سورة نزلت كاملة، وما نزل قبلها كان فقط بعض الآيات المتفرّقة والتي هي أجزاء من سورة العلق والقلم والمزّمل والمدثر. انظر أيضاً كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن في المبحث: 1.5.5- مراحل نزول القرآن المكي.

001.4 مقصد السورة:

001.4.1- الثناء والدعاء وطلب الهداية من الله إلى الصراط المستقيم.

001.4.1.1- فالثناء عليه لأنه الله (وهو اسمه الأعظم المتضمن جميع أسمائه وصفاته) والرب (المربي)، وطلب الهداية بالاستعانة به، في استبقاء النعمة وهي الهداية إلى الصراط المستقيم (طريق النعمة التي أرادها الله للمهتدين). وهذا المقصد هو الذي يراه العبد المؤمن الذي سلك طريق الهدى، أو هي الرسالة التي يريد القرآن إيصالها إلى الفئة التي تريد الهدى وتتبعه، (انظر في تسهيل فهم وتفسير القرآن: 0.6.1.3- القرآن يعطي الإنسان بقدر توجهه وبقدر علمه وفهمه ….).

001.4.1.2- واستجابة الله للدعاء على الفور في نفس السورة: بالتعريف على ذاته العليّة، والارشاد بأن يبدأ كل شيء باسم الله؛ فهو الرحمن الرحيم خالق الخلق ليرحمهم وينعم عليهم؛ وأن يحمدوه ويثنوا عليه لكمال صفاته، وعلى أنه المربي لجميع خلقه، وعلى نعمه التي لا تحصى، ومن أعظمها: نعمة إقامة العدل والجزاء يوم الدين، ونعمة عبادته وحده، والاستعانة به وحده، في الدنيا. فالحمد لله على كمال صفاته وربوبيته ورحمته وعدله، واستحقاقه للعبادة، وأنه المعين.

001.4.2- مقصد السورة نجده في الآية السادسة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} وهو طلب الهداية من الله إلى الصراط المستقيم، أما باقي الآيات: فالتي قبلها حمد وثناء وتمجيد لله، والتي بعدها بيان صفة الصراط المستقيم المطلوب الاهتداء إليه. وهذه هي مقاصد القرآن الكريم كلها، أي التعريف بالله، والحمد والثناء وتمجيده، وعبادته والتفويض إليه وحده، لأنه المربّي والمحاسب يوم الدين؛ فهي بذلك هدت إلى صراطه المستقيم، وبينت طريق الهداية إلى الصراط المستقيم.

 

001.4.3- هذه السورة هي أعظم سورة في القرآن كما في الحديث الصحيح المذكور أعلاه، وهي صلاة ودعاء، ولا تصح الصلاة إلا بها كما في الحديث الآخر، وهي الشافية الراقية والنور والشفاء وغيرها من الصفات العظيمة المذكورة أعلاه. وهي نعمة من أعظم النعم التي يمنّ الله بها على الإنسان: فهي سورة هداية إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، وكل القرآن الكريم هو كتاب هداية للمؤمنين، يهديهم به الله إلى صراطه المستقيم، وهو الصراط الذي يأخذهم إلى النعيم في الدنيا والآخرة.

وفيها بيان أنواع عظيمة من نعم الله على الإنسان في الدنيا، فالناس تحتاج إلى شيئين في حياتها: الأولى العبادة: لأن الله فطر الناس على العبادة، فإن لم يعبدوا الله مالك الملك ورب كل شيء، عبدوا غيره من الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع. والثانية الإعانة: فالإنسان له حاجات كثيرة، ولا يمكن بمفرده أن يلبيها، فهو يحتاج إلى عون الله، ويحتاج إلى الجماعة، والجماعة أيضاً تحتاج إلى عون الله، فإذا استعان العبد بالله أعانه، وسخر كذلك أفراد الجماعة ليعينوه. والعبادة الحق التي ينتفع بها المؤمن، هي عبادة الله الذي لا إله إلا هو، والاستعانة الصحيحة والدعاء لا يكون إلا بالله الذي بيده كل شيء. فهذه السورة نعمة عظيمة لأنها تضع بيد الإنسان المفتاح إلى سعادته وهو الدعاء لله والاستعانة به، وترشده إلى باب النعيم وهو العبادة لله وحده الرحمن الرحيم، وترك ما دونه من الآلهة المخلوقة التي لا تملك لنفسها ضرّاً ولا نفعاً.

001.4.4- اعلم بأن أوّل ما بدأ الله به بعد خلق الإنسان هو أن عرّفه على نفسه بأنه هو الله الرحمن الرحيم المربي، قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰۛ شَهِدْنَا (172)} الأعراف، واعلم أنه قد هدى الإنسان قبل أن يطلب الهداية، ثم علّمه ووفّقه لطلب الهداية إلى الصراط المستقيم، ثمّ استجاب له فهداه الصراط المستقيم، فمنهم من اتبع فأفلح وفاز، ومنهم من ضل فهلك وخسر. وقد أقام عليهم الحجة والدليل بهذا الكتاب المنزل والرسول المرسل. هكذا هو الله تعالى، يثبت للإنسان بالدليل العملي الملموس والمشاهد أنه الرحمن الرحيم، وانه لا يظلم أحداً أبداً ، قال تعالى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)} الكهف، حتى إذا جاء أحدهم الموت، وكشف الغطاء عن عقله وسمعه وبصرة، وعلم أنه الحق، عندئذ لن يجد عذراً أبداً إلا أن يقول رب ارجعون لعلّي أعمل صالحاً، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ (100)} المؤمنون.

ولم تذكر هذه السورة الجامعة موضوع النعمة والرزق في الدنيا، لأنها لم تخاطب الإنسان إلا وهو غارق في نعم الله، نعمة الإيجاد والفطرة والتعريف والتنشئة والتعليم والهُدى وغيرها، فالله يعطي أولاً ثم بعد ذلك يأمر بطاعته، لكي تدوم بطاعته النعمة والعطاء، فهو سبحانه لا يمنع أو يعذّب ثم يشترط الطاعة قبل أن ينعم، ولا يربط بالطاعة أولاً ثم النعمة والرزق تالياً، حاشاه ذلك. أما عدم ذكر الرزق ففيه دلالة على أن تحصيل الرزق ليس مقصد وجودهم، وهو غير مطلوب منهم، بل هو تبعاً لمقصد وجودهم، لأن الرزق من عند الله في السماء، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)} الذاريات، وقد رزقهم في بطون أمهاتهم، وبعد ولادتهم، وقبل أن يقدروا على تحصيل رزقهم بأنفسهم. إن مقصد وجودهم هو العبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} الذاريات، المطلوب هو معرفة الله والثناء عليه وعبادته، والاستعانة به لكي يهدي إلى الصراط الذي به تحفظ النعمة التي أنعمها عليهم بدون سابق عمل منهم يستوجبها. فالله خلق الناس ليسعدوا بعبادته ونعمته. يعرّفهم بأنه الله المنعم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} الذاريات، فينعموا ويسعدوا بمعرفته بأسمائه وصفاته، ويهديهم صراطه المستقيم الذي يبقيهم في النعيم، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً (12)}.

001.4.5- جَمَعت هذه السورة مقاصد القرآن، وبنيت على إجمال ما يحتويه مفصّلا، وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة. فهي لخصت ما لله وما للإنسان، فهما طرفي الأحداث في مواضيع القرآن: أي أنها لخصت ما لله من الألوهية الجامعة لصفات الكمال والملك والربوبية والحمد والثناء والمجد هذا من ناحية، وفي المقابل لخصت بأن ليس للإنسان سوى عبادة الله والاستعانه به والتفويض إليه في كلّ أموره. وقد جمع هذا المعنى الحديث النبوي الشريف المذكور أعلاه “قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، …. إلى قوله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل”.

001.4.6- وقال الإمام جلال الدين السيوطي: افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة لأنها جمعت مقاصد القرآن، فصارت كالعنوان وبراعة الاستهلال، انتهى. أي أنها في القرآن كالمقدمة التي لخصت أغراض القرآن، ثم عُرضت بعد ذلك في جميع القرآن تفصيلاتها من بدئها إلى نهايتها. وقريب من هذا الأسلوب في الاستهلال، أو يشبهه، قصة موسى وفرعون في سورة القصص: فالسورة تبين عاقبة القصة ومغزاها بأن فرعون علا في الأرض وأن الله يريد أن يمكّن للذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة، في أول ست آيات منها، ثم تبدأ بعد ذلك بسرد تفصيلاتها. وأيضاً قصة يوسف، فهي تبدأ بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيم، ثم تسير القصة بعد ذلك، وكأنما هي تأويل للرؤيا، ولما توقعه يعقوب من ورائها. فكأن هذا التلخيص كان مقدمة مشوقة للتفصيلات، وإطار عام يحدد المعاني ويشير إلى ما ستحويه الموضوعات.

001.4.7- وقال البقاعي ما مفاده أن الغرض الذي سيقت له الفاتحة هو استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال، واختصاصه بملك الدنيا والآخرة، وباستحقاق العبادة، واستعانة العباد به بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ من طريق الهالكين، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم، لإفراده بالعبادة، فهو مقصود الفاتحة بالذات وغيره وسائل إليه، انتهى. أي معرفة الله لأجل عبادته.

001.5 ملخص موضوع السورة:

001.5.1- كل كلمة من كلمات السورة تحمل بحراً من المعاني والعلوم التي لا تنتهي؛ لذلك فلا يمكن تلخيص موضوعات هذه السورة، فهي نفسها تلخيص، قد جمعت كل مقاصد رسالة الله تعالى السهلة البسيطة إلى الناس، والتي مفادها أنه خلقهم برحمته ليرحمهم وينعم عليهم فيسعدوا بعبادته وعونه وهديه لهم في الدنيا، ويسعدوا بنعيم الجنة الخالد المقيم في الآخرة. والسورة كذلك بشارة عظيمة للناس بأن الله خلقهم لينعم عليهم وأنه يريد أن يسعدهم ويُسلّمهم من غضبه والضلال؛ وهي بنفس الوقت إنذار شديد لمن يفعل فعل اليهود المغضوب عليهم أو النصارى الضالين؛ كما يلي:

001.5.1.1- الآية (1) افتتحت بالتعريف على نفسه، والارشاد بأن يُبدأ كل شيء باسم الله، فهو الرحمن الرحيم خالق الخلق ليرحمهم وينعم عليهم.

001.5.1.2- الآية (2) بالبدء بالحمد بشارة وإشارة إلى نعمة الخلق والإيجاد، وفيض رحماته وإنعامه عليهم بما لا يكافئه إلا الحمد؛ ثم له الحمد على نعمة كمال صفاته المشمولة في قوله {لله} الاسم الجامع لكل أسماءه وصفاته؛ ثم له الحمد والثناء على نعمة ربوبيته في قوله {رب العالمين} أي اليد الحانية المربية لهم.

001.5.1.3- الآية (3) وثنّى من أسمائه بالرحمن الرحيم، وهي نعمة لأن رحمته سبقت جميع صفاته.

001.5.1.4- الآية (4) مالك يوم الدين وهي نعمة العدل والبشارة بالجزاء العادل وإعادة الحقوق لأصحابها يوم الدين.

001.5.1.5- الآية (5) وقوله إياك نعبد وإياك نستعين إشارة إلى نعمة العبادة وإلى نعمة الإعانة.

001.5.1.6- الآيات (6، 7) وقوله اهدنا الصرط المستقيم إلى آخر السورة بشارة بنعمة الهداية الصراط المستقيم، فقد أمرنا أن نطلبها منه، وقد استجاب فهي في هذا القرآن، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم.

001.5.2- يقول الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب: أن هذه السورة مشتملة على مباحث لا نهاية لها وأسرار لا غاية لها، ويقول أيضاً: اعلم أن علوم ومواضيع هذه السورة ومعانيها وفوائدها، لا نهاية لها، ويمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرات الألوف من المسائل. وهذه المسائل تتعلق بمعرفة أسماء الله الحسنى ومعانيها وثبوتها، وبالاستعانة بها على أداء الأعمال والطاعات؛ وتتعلق بحمد الله على نعمه، ولا يمكن هذا إلا بعد معرفة أقسام تلك النعم، وهي خارجة عن التحديد والإحصاء كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها (34)} إبراهيم؛ وتتعلق بربوبيّة الرحمن للإنسان وحكمته في خلقه؛ وبربوبيته للعالمين وكلماته فيهم {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله (27)} لقمان، و{العالمين}: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى؛ وتتعلق بالرحمة وهي إيصال الخير وإبعاد الشر: وقد عددت سورة الرحمن أمهات نعم الله على خلقه في الدارين؛ وتتعلق بملك يوم الدين: وما فيه من مسائل المعاد والحشر والنشر والخلود في الجنة أو في النار؛ وتتعلق باستحقاق الله للعبادة: وما يتبعها من معرفة أقسام العبادات والتكاليف والأوامر والنواهي وغيرها مما اشتملت عليها كتب الأحاديث والتفاسير والفقه والأخلاق إلخ وهي كالبحر المحيط. (منقول بتصرف).

001.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:

001.6.1- {بسم الله الرحمن الرحيم (1)} الاستعانة باسم الله الأعظم {الله}، الجامع لجميع صفات الكمال، وهو أخص أسماء الله تعالى، ولا يسمى به غيره سبحانه. {الرَّحْمَنِ} ذي الرحمة العامة، {الرَّحِيمِ} بالمؤمنين، وهما اسمان من أسمائه تعالى.

001.6.2- {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} الحمد والثناء على الله بكمال صفاته، وبنعمه التي لا تحصى، فهو سبحانه المنشئ للخلق جميعاً، القائم بأمورهم، المربي لهم بنعمه، وللمؤمنين بالدين والعمل الصالح.

001.6.3- {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} الرحمن الذي وسعت رحمته جميع الخلق، الرَّحِيمِ بالمؤمنين.

001.6.4- {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} مالك يوم القيامة، وهو يوم الحساب والجزاء على الأعمال.

001.6.5- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} إنّا نعبدك وحدك لا شريك لك، ونستعين بك وحدك في جميع أمورنا.

001.6.6- {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} ندعوك أن تدُلَّنا، وترشدنا، وتوفقنا إلى الطريق المستقيم، الموصل إلى السعادة برضوانك وإلى جنتك.

001.6.7- {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)} طريق الذين أنعمت عليهم، لا طريق المغضوب عليهم، الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به، كاليهود؛ ولا طريق الضالين الذين لم يهتدوا، فضلّوا الطريق، كالنصارى.

ويستحب للقارئ أن يقول في الصلاة بعد قراءة الفاتحة: (آمين)، أي: اللهم استجب. وهي ليست من سورة الفاتحة باتفاق العلماء، فلم تكتب في المصاحف.

001.7 الشكل العام وسياق السورة:

001.7.1- إسم السورة: سميت هذه السورة بالفاتحة، لأنه يفتتح بها القرآن العظيم، وتسمى المثاني، لأنها تقرأ في كل ركعة، ولها أسماء أخرى. ومعنى الفاتحة: هو أوّل ما من شأنه أن يفتتح به، ثمّ أطلقت على أول كلّ شيء كالكلام، فسميت هذه السورة فاتحة الكتاب لكونه افتتح بها، إذ هي أوّل ما يكتبه الكاتب من المصحف، وتصلح لأن تبدأ قبل كل سورة أو مقطع من القرآن، وأول ما يتلوه التالي من الكتاب، وإن لم تكن أول ما نزل من القرآن. ولأنها الفاتحة فجميع كلماتها سهلة النطق ليس فيها من أحكام التجويد الصعبة من المدود أو الغنّة أو الإدغام أو القلقلة أو غيرها. والاسم يشير إلى مفتتح أمر العبد الذي يتحسس الإيمان، يبحث عن الحقيقة، لا يدري من أين يبدأ وكيف يهتدي في هذا العالم المجهول والملك العظيم فيقف ليطلب من خالق الكون الهداية. وهي دعاء افتتاح علّمه الله لمن يطلب الهداية، يفتتح به قراءته للقرآن وصلواته المفروضة.

001.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعاتها:

001.7.2.1- هذه السورة على إيجازها قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمّنت توحيد الله تعالى بأنّه: {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}. وتضمنت إثبات النبوّة في قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة، وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} وأن الجزاء يكون بالعدل، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل، وتضمّنت إثبات القدر وأنّ العبد فاعل حقيقة في قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} لأنه معرفة الحق والعمل به، وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى: عبادة واستعانة في قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}. فالحمد لله رب العالمين.

001.7.2.2- تبدأ بأحد أساليب الثناء {الحمد لله} ولم يذكر لفظ الجلالة إلا مرة واحدة وفي الآية الأولى. وهي بذلك تعلمنا آداب الدعاء والطلب من الله، إذ لا بد أن يبتدئ المحتاج بالثناء على المالك للعطاء، قبل الدعاء وقبل طلب حاجته. فافتتحت باستحقاق الله للحمد، قبل أن يخلق الإنسان والعالمين وأنه الرب المتصرف بالعالمين وأنه رحمن رحيم بمخلوقاته لذلك جعل يوماً للدين. وافتتحت بإقرار الإنسان بوجوب العبادة لربه وبلزوم الاستعانة به، ثم ختمت بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم. وبافتتاح القرآن الكريم بهذه السورة، فقد ابتدئ فيها بذكر الصراط المستقيم الذي سيسلكه طالب الهداية في هذه الحياة وسوف يكمل عليه المشوار إلى النهاية، أي على الصراط المستقيم في الآخرة.

 

001.7.3- سياق السورة باعتبار معاني كلماتها:

001.7.3.1- معنى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}:

001.7.3.1.1- ومعنى {الحمد}: الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد: أن تذكر محاسن الغير، سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية كالعلم والصبر والرحمة والشجاعة، أم على عطائه وتفضله على الآخرين. ولا يكون {الحمد} إلا للحي العاقل. ومعنى {الحمد لله}: استحقاق الله للحمد، أي أن الحمد والثناء حق لله وملكه فإنه تعالى، هو المستحق للحمد بسب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. وهي عبارة مُطلقة غير مقيدة بزمن معين، ولا بفاعل معين، فالحمد فيها مستمر ثابت غير منقطع. انظر صفحة 11 و14 و 15 من كتاب لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرّائي. وجاء في تفسير الرازي: لما قال: {الحمد لله} فقد أفاد ذلك، أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين، وقبل شكر الشاكرين. فهؤلاء سواء حمدوا، أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا، فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.

001.7.3.1.2- وجاء مع الحمد باسمه العَلَم، فقال: {الحمد لله}، ولم يأت بوصف آخر بدله، فلم يقل مثلاً: الحمد للخالق، أو الرازق، أو للحي، أو للقادر، ونحو ذلك من نعوت الله وصفاته، ذلك أنه لو جاء بأي وصف بدل لفظ الجلالة، لأفهم ذلك أن الحمد إنما استحقه بهذا الوصف دون غيره، فلو قال الحمد للعليم، لأفهم أن الحمد إنما استحقه بوصف العلم، وهكذا بقية أوصافه الحسنى، فجاء بالذات ليدل على أن الحمد إنما استحقه لذاته هو، لا بوصف دون وصف، فكان ذلك أولى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن اسم {الله} مناسب لقوله: {إياك نعبد}، فإن لفظ {الله} مناسب للعبودية، لأن هذا اللفظ على أشهر الأقوال مأخوذ من لفظ الإله، أي: المعبود. وألِهَ معناه: عبدَ فكان لفظ {الله} مناسباً للعبادة. فقد اقترنت العبادة أكثر ما اقترنت بلفظ {الله} في القرآن الكريم، فقد اقترنت به أكثر من خمسين مرّة، وذلك نحو قوله: {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66)} الزمر، {أمرت أن أعبد الله (36)} الرعد، {قل أفغير الله تأمروني أعبد (64)} الزمر، وغير ذلك. انظر صفحة 23 من كتاب لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرّائي.

001.7.3.1.3- ولفظ الجلالة {الله} هو الاسم الأعظم، الجامع لجميع صفاته الحسنى سبحانه وتعالى، قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم (22) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون (23) هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (24)} سورة الحشر، وورد في غيرها من السور.

انظر سورة الحديد: 057.8.6- إسم الله الأعظم {الله}: وهذا الاسم جامع لجميع صفات الله الحسنى سبحانه وتعالى.

001.7.3.1.4- الربُّ: المالك، والسيد، والمربي، والقيّم، والمنعم. وربُّ العالمين: مالكُهم، وسيدهم، ومربيهم، والمنعم عليهم. ودخل تحت قوله: {رب العالمين} كثير من صفات الله تعالى كالعليم والسميع والبصير والقيوم والمريد والملك وما أشبه ذلك، لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات، يطلب ما يقع عليه.

001.7.3.1.5- و{العالمين}: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى. إن (العَالم) يُجمع على العوالم وعلى العالمين: فالعوالم يطلق على جميع العوالم من المكلفين، وغيرهم من جمادات وحيوانات وغير ذلك، والعالمين لا تطلق إلا على ذوي العلم خاصة، أو على ما اجتمع فيه العقلاء وغيرهم، فيغلب العقلاء. ولا يطلق العالمون على غير العقلاء وحدهم، فلا يقال للحشرات والطيور عالمين بل عالم أو عوالم، ولكن يقال للبشر أو لجماعة من البشر أو لجيل من البشر، أو للمكلّفين من خلق الله من الإنس والجن على مرّ العصور عالمين كما ورد ذلك في القرآن الكريم. ذلك أن الجمع بالياء والنون خاص بالعقلاء. فعلى هذا يكون قوله: {الحمد لله رب العالمين} إما أن يعني: رب البشر أو المكلفين أو رب الخلق كلهم، وغلّب العقلاء منهم. ولهذا التخصيص أو التغليب سببه، ذلك أن الكلام في سورة الفاتحة خاص بالعقلاء، فالعبادة والاستعانة وطلب الهداية إلى {الصراط المستقيم}، وتصنيف الخلق إلى مُنعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالين، هو خاص بالمكلفين. فكان هذا الاختيار أنسب شيء، ولو قال: رب العالم أو رب العوالم، لم يحسن هذا الحسن لأنه يشمل غير المكلفين. انظر صفحة 24 و25 و 27 من كتاب لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرّائي.

001.7.3.2- {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}: {الرحمن} تفيد الدلالة على الحدوث والتجدد، ولا تفيد الدلالة على الثبوت، وتفيد أيضاً الامتلاء بالوصف. {الرحيم} تدل على الثبوت في الصفة. فجاء بالوصفين للدلالة على أن صفته الثابتة والمتجددة، هي الرحمة، فإنه لو وصف نفسه بأنه {رحيم} فقط لوقع في النفس أن هذا وصفه الثابت، ولكن قد يأتي وقت لا يرحم فيه كالكريم والخطيب، ولو قال: {رحمن} فقط لظُنَّ أن هذا وصف غير ثابت، كالغضبان والعطشان وهذا الوصف يتحول فيذهب الغضب ويزول العطش، وكذلك الرحمة فجمع بينهما ليدل على أن وصفه الثابت والمتجدد هو الرحمة، فرحمته دائمة لا تنقطع وهو من أحسن الجمع بين الوصفين، ولا يؤدي الوصف بأحدهما ما يؤدي اجتماعهما. انظر صفحة 34 من كتاب لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرّائي.

001.7.3.3- {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}: أي مالك يوم الجزاء، فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال يوم القيامة من ابتداء النشور، إلى السرمد الدائم بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها. ثم أن {الدين} له معان عدة، كالجزاء والحساب والطاعة والقهر، فيجمعها في المعنى، فذلك اليوم هو يوم الدين كله، فهو يوم الحساب، وهو يوم الجزاء، وهو يوم الطاعة والخضوع لله، وهو يوم يعزُّ فيه أهل طاعته، ويقهرُ أهل معصيته.

001.7.3.4- {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} واقتران الحمد بهذه الصفات أحسن اقتران وأجمله، فالله محمود بذاته وصفاته، فإن الله اسم للذات العلية المتصفة بالصفات العليا، فقولك: {الحمد لله} معناه: أنه المستحق للحمد بذاته وجميع صفاته، وأنه محمود بربوبيته للعالمين، فإن من الأرباب من لا تحمد ربوبيته، أما الله سبحانه فهو محمود بكل معاني الربوبية، وهو محمود في كونه رحمان رحيماً. وليست كل رحمة محمودة، فإذا وضعت الرحمة في غير محلها، كانت عيباً في صاحبها، أما الله فمحمود في رحمته يضعها في محلها، ويكتبها لمستحقيها، ولذلك كان من الناس صنف منعَماً عليهم وصنف مغضوباً عليهم. وهو محمودٌ يوم الدين محمودٌ في مالكيته وملكه لذلك اليوم كله. وقد استغرق هذا الحمد الأزمنة كلها، فقد استغرق الحمد حين كان الله ولم يكن معه شيء وهو قوله: {الحمد لله}. واستغرق الحمد حين خلق العالم وربَّه وأنشأه وذلك قوله: {رب العالمين}، واستغرق الحمد وقتَ كانت الرحمة تنزلُ وهي لم تنقطع، ولا تنقطع وهو قوله: {الرحمن الرحيم}، واستغرق الحمد يوم الجزاء كله، ويوم الجزاء لا ينتهي لأن الجزاء لا ينتهي، فأهل الجنة خالدون فيها وأهل النار خالدون فيها، وجزاء كل منهم فيها غير منقص، فذلك هو يوم الدين. جاء في (حاشية الجرجاني على الكشاف) في قوله: {مالك يوم الدين} فإن الجزاء يتناول جميع أحوال الآخرة إلى السرمد. فاستغرق الحمد الزمان كلّه من الأزل إلى الأبد، ولم يترك منه شيئاً، فكان كقوله: {له الحمد في الأولى والآخرة (70)} القصص. وشمل ذلك قوله: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75)} الزمر. وقوله: {وَءَاخِر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (10)} يونس. فلم يترك شيئاً من الحمد إلا ذكره، ولم يترك وقتاً منذ الأزل إلى الأبد حيث لا ينقطع الزمن إلا استغرقه فكانت هذه السورة جديرة بأن تسمى أم الكتاب. جاء في (التفسير القيم): في ذكر هذه الأسماء بعد الحمد، وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ربُّ محمود، ورحمن محمود. انظر صفحة 40 و 41 من كتاب لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرّائي.

001.7.3.5- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}: أي نخصُّك بالعبادة ونخصُّك بالاستعانة، فلا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، إذ لا تصلح العبادة إلا لله، ولا تجوز الاستعانة إلا به. ثم انظر كيف أطلق فعل الاستعانة {وإياك نستعين}، وذلك أنه أراد إطلاق الاستعانة لتشمل كلّ شيء يريده الإنسان، ولا يخصها بشيء، فهو يستعين بالله على العبادة، وعلى طلب الرزق، وعلى النصر على الأعداء، وعلى أن ييسر له أموره، وعلى أن يقضي له حوائجه، فتشمل كل أمور الدنيا والآخرة. وقرنت العبادة بالاستعانة ليدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله وتوفيقه، ولا ينهض بها إلا بالتوكل عليه، فهو إقرار بالعجز عن حمل هذه الأمانة الثقيلة، إذا لم يُعنه الله على ذلك، فالاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه. وقدّمت العبادة على الاستعانة لعدة وجوه منها: أن العبادة علّة خَلق الإنس والجن {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)} الذاريات، وأنها الغاية من خلقهم، وأن الاستعانة إنما هي وسيلة للقيام بها، فكانت العبادة أولى بالتقديم لأن الغاية مقدمة على الوسيلة. ومنها أن العبادة حق الله وقسمه والاستعانة قسم العبد، وحق الله أولى بالتقديم. ومنها أن {إياك نعبد} متعلق بألوهيته واسمه {الله}، و{وإياك نستعين} متعلق بربوبيته واسمه الرب، فقدم {إياك نعبد} على {وإياك نستعين} كما تقدم اسم الله على الرب في أول السورة. انظر صفحة 41 – 46 من كتاب لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرّائي.

001.7.3.6- {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}: أي عرّفنا الطريق الحق، وردّنا أليه رداً جميلاً إذا ما ضللنا أو انحرفنا، وثبّتنا على الهدى وزدنا هدى. ومعنى الهداية الإرشاد والدلالة والتبيين والإلهام. إن الله سبحانه وتعالى لا يهدي إلى الحق فقط، بل يعرّفنا إياه ويبينه لنا، ويبلّغنا إياه. والإنسان إن ضل احتاج من يهديه إلى الطريق، وإن وصل احتاج من يعرفه بالطريق، وإن سلك الطريق احتاج الوصول إلى الهدف، وإن قطع الطريق احتاج إلى من يبلغه غايته. وقد جاء بكلمة الصراط مفرداً معرّفاً، وموصوفاً بالاستقامة، مما يدل على أنه صراط واحد، ليس ثمة صراط غيره، فإنه ليس بين النقطتين أكثر من مستقيم واحد. فالصراط المستقيم هو طريق الإسلام وهو دين الله، ووصفه بالاستقامة ليدلّ على أنه أقصر الطرق وأقربها إلى المطلوب فلا يشق على السالك. ثم زاد هذا الصراط بياناً وتوضيحاً، فقال: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} فذكر أنه صراط الذين أنعم الله عليهم، وسلموا من الغضب والضلال. وقد جمع الله أصناف المكلفين في هذه الآية وانتظمهم كلهم. فهم إما أهل السعادة، وهم الذين أنعم الله عليهم. وإما أهل الشقاوة وهم صنفان: صنف عرف الحق، وخالفه فلم يعمل بمقتضاه وهم المغضوب عليهم. وصنف لم يعرف الحق، وهم الضالون، لأن من لم يعلم الحق ضال. فجمعهم أحسن جمع وأوجزه. وجاء في الحديث الصحيح أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى. انظر صفحة 48 – 59 من كتاب لمسات بيانية للدكتور فاضل السامرّائي.

001.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:

001.8.1- تناسبها مع كل ما جاء في القرآن:

001.8.1.1- تصلح هذه السورة لأن تفتتح بها جميع سور القرآن ويظل التناسب قائماً فيما بينهما سواء من حيث احتوائها على صفات الله سبحانه واستحقاقه للحمد والعبادة، أو لبيانها الصراط المستقيم، أو لإثباتها {يوم الدين} الذي فيه الحساب. هذه السورة هي أمّ القرآن باحتوائها على ملخّص وجوهر تعاليم القرآن، وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال رسول الله عليه السلام “{الحمد لله رب العالمين} أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم”، وهو يعني أن الفاتحة بذكرها لوحدها تقابل باقي ما نزل من القرآن الكريم.

001.8.1.2- قال الإمام جلال الدين السيوطي: افتتح سبحانه كتابه بهذه السورة لأنها جمعت مقاصد القرآن، ولذلك كان من أسمائها: أم القرآن، وأم الكتاب، والأساس، فصارت كالعنوان وبراعة الاستهلال؛ قال الحسن البصري: إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصّل، ثم أودع علوم المفصّل في الفاتحة فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة، أخرجه البيهقي في شعب الإيمان؛ وقيل أن جميع معاني الفاتحة أودعت في آية واحدة هي {اهدنا الصراط المستقيم}؛ وبيان اشتمالها على علوم القرآن قرره الزمخشري، باشتمالها على الثناء على الله بما هو أهله، وعلى التعبد، وعلى الأمر والنهي، وعلى الوعد والوعيد، وآيات القرآن لا تخرج عن هذه الأمور؛ قال الإمام فخر الدين: المقصود من القرآن كله تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر، فقوله: {الحمد لله ربّ العالمين} يدل على الإلهيات، وقوله {مالك يوم الدّين} يدلّ على نفي الجبر، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وقوله: {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة يدل على إثبات قضاء الله، وعلى النبوات، فقد اشتملت السورة على المطالب الأربعة، التي هي المقصد الأعظم من القرآن؛ وقال البيضاوي: هي مشتملة على الحكم النظرية، والأحكام العملية، التي هي سلوك الصراط المستقيم، والاطلاع على مراتب السعداء، ومنازل الأشقياء؛ وقال الطيبي: هي مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين: أحدها: علم الأصول، ومعاقدة معرفة الله عز وجل وصفاته، وإليها الإشارة بقوله: {رَبِ العالمين الرحمن الرحيم} ومعرفة المعاد، وهو ما إليه بقوله: {مالكِ يومِ الدين}، وثانيها: علم ما يحصل به الكمال، وهو علم الأخلاق، وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية، والالتجاء إلى جناب الفردانية، والسلوك لطريقة الاستقامة فيها، وإليه الإشارة بقوله: {أَنعمتَ عَليهِم غَيرِ المعضوبِ عليهم ولا الضالين}، قال: وجميع القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة، فإِنها بنيت على إجمال ما يحويه القرآن مفصلاً، فإنها واقعة في مطلع التنزيل، والبلاغة فيه: أن تتضمن ما سيق الكلام لأجله، ولهذا لا ينبغي أن يقيد شيء من كلماتها ما أمكن الحمل على الإطلاق؛ وقال الغزالي في (خواصّ القرآن): مقاصد القرآن ستة، ثلاثة مهمة، وثلاثة تتمة الأولى: تعريف المدعو إليه، كما أشير إليه بصدرها، وتعريف الصراط المستقيم، وقد صرح به فيها، وتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى، وهو الآخرة، كما أشير إليه بقوله: {مالكِ يومِ الدين} والأخرى: تعريف أحوال المطيعين، كما أشار إليه بقوله {الذينَ أَنعمتَ عَليهِم} وتعريف منازل الطريق، كما أشير إليه بقوله: {إِياكَ نَعبُدُ وإِياكَ نَستَعين}.

001.8.1.3- الحمد لله في القرآن: وكما اختار {الحمد لله} مع الاسم {رب} ههنا، فقد اختار اسماءاً أخرى في مواطن أخرى من الكتاب العزيز، فقد قال: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض (1)} الأنعام، وقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً (1)} الكهف، وقال: {الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض (1)} سبأ، وقال: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض (1)} فاطر، وكل اختيار يناسب سياق السورة التي ورد فيها، غير أن الملاحظ أن هذه الافتتاحات متكاملة ففي سورة الأنعام {الحمد لله} على نعمة الخلق فالله هو الخالق الموجد للسماوات والأرض على غير مثال سابق، وفي السورة التي تليها في ترتيب المصحف وهي الكهف {الحمد لله} على نعمة إنزال الكتاب لهداية الخلق وهي أعظم نعمة، أعظم من نعمة الرزق ومن تسخير السماوات والأرض للإنسان، وفي سورة سبأ التي تليها {الحمد لله} على نعمة ملك الله للسماوات والأرض وملك ما فيها، وفي سورة فاطر {الحمد لله} على نعمة كونه فاطرها أي حافظها ومصلحها ومربيها بعد إيجادها. وهكذا تكون كل آية مكملة للآيات الأخرى. قالوا: وقوله: {رب العالمين} عمّ ذلك كله، فالرب يشمل كل ما ذكر من صفات الله من ملك وخلق. و{العالمين} تشمل كل ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما، فهي حقيقة بأن تسمى أم الكتاب.

001.8.2- تناسبها مع سورة البقرة:

001.8.2.1- بعد إدراك المؤمن أن الله هو ربّ العالمين، وأنّه المالك، الرحمن، الرحيم وهو الوحيد القادر على الهداية وهو المصدر الوحيد للمعرفة. يفيض قلبه بحمد الله. يعبده كما أمر ويستعين به بطلب الهداية، إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى النعيم.

يستجيب الله الرحمن الرحيم لدعاء المؤمن في الحال ويبيّن له في أوّل آيتين من سورة البقرة أنّ طريق الهداية موجود في ذلك الكتاب {الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين (2)}. فأوائل البقرة مناسبة لأواخر الفاتحة، لأنه لما ذكر أن الحامدين طلبوا الهدى قال الله تعالى‏:‏ قد أعطيتكم ما طلبتم‏:‏ هذا الكتاب هدى لكم فاتبعوه، وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسئول، ثم إنه ذكر في أوائل سورة البقرة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة‏:‏ فذكر الذين على هدى من ربهم وهم المنعم عليهم والذين اشتروا الضلالة بالهدى وهم الضالون‏:‏ والذين باءوا بغضب من الله.

001.8.2.2- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: قد ذكر الناس كيفية تضمنها مجملا لما تفصل في الكتاب العزيز بجملته، وهو أوضح وجه في تقدمها سورَهُ الكريمة. ثم هي مما يلزم المسلمين حفظه، ولابد للمصلي من قراءتها، ثم افتتاحها بحمد الله سبحانه، وقد شرع في ابتداءات الأمور، وأوضح الشرع فضل ذلك، وأخذ به كل خطيب ومتكلم، وفيها تعقيب الحمد لله سبحانه بذكر صفاته الحسنى، والإشارة إلى إرسال الرسل في قوله، {اهدنا (6)} الفاتحة، وقوله {صراط الذين أنعمت عليهم (7)} الفاتحة، وقد قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ (90)} الأنعام، وذكر افتراق الخلق بذكر المهتدين، وذكر المغضوب عليهم ولا الضالين، وإن ملاك الهدى بيده، {وإياك نستعين (5)} الفاتحة، وهذا كله أشفى شيء في بيان التقديم.

001.8.3- تناسبها مع سورتي الفلق والناس:

إن بدء السورة بذكر العالمين، والعالمين لا تطلق إلا على ذوي العلم خاصة، أو على ما اجتمع فيه العقلاء وغيرهم، فيغلب العقلاء. والعقلاء هم الجنّة والناس المكلّفين المذكورين في سورة الناس. فهذا يشير إلى الترابط بين السورتين وعلى أن آخر هذا القرآن يرجع على أوله في حلقة كاملة لا تنقطع. وكذلك ختام القرآن بالمعوذتين وابتداء قراءته بالاستعاذة {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98)} النحل.

001.8.4- انظر سورة البقرة (002.8.1) حيث تناسب سورة الفاتحة مع سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة. وانظر (114.8) تناسب سورة الناس مع غيرها من السور.

– انظر 4.2.4.18.2.0- جدول يبيّن تناظر نصفي القرآن، ويلخص تناسب مقاصد سوره حول أن الإيمان واتباع طريق الهدى نعمة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.

– انظر الجدول 7.4.9: وفيه تلخيص مقصد القرآن: وهو الهدى إلى طريق السعادة والزكاة بثلاثة أشياء مجتمعة هي: العقل والقلب والجسد، وأن الناس فريقين شقي وسعيد.

أعلى الصفحة Top