العودة إلى فهرس السور: اضغط هنا (تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن)
059.0 سورة الحشر
ملاحظة: قبل البدئ بهذه السورة، يجب الاطلاع على ما يلي:
– المقدّمة والتمهيد: اضغط هنا
– تسهيل فهم وتدبّر القرآن: اضغط هنا
059.1 التعريف بالسورة:
1) سورة مدنية. 2) من المفصّل. 3) عدد آياتها 24 آية. 4) التاسعة والخمسون من حيث الترتيب في المصحف. 5) والأولى بعد المائة حسب ترتيب النزول، نزلت بعد “البينة”. 6) أسماء أخرى للسورة: وتسمى سورة بني النضير. 7) أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في السورة:
7.1- {الله} 27 مرة، {لله} 2 مره، {رب} 3 مرات، {هو} 7 مرات، {وهو} 2 مرة. مقارنة بعدد آيات السورة وهي 24 آية. انظر أيضاً في كتاب تسهيل فهم وتدبّر القرآن: الفصل رقم 1.7: أسماء الله وصفاته وبعض الكلمات المكررة في القرآن.
وردت الأسماء: (3 مرّات): العزيز؛ (2 مرّة): الحكيم، شديد، الرحيم؛ (1 مرّة): قدير، رؤوف، خبير، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، الرحمن، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور. والمجموع = 24 مره بعدد آيات السورة. + (1 مرّة): شاهد، مخرج، كتب.
7.2 – السورة الوحيدة التي ذكرت فيها الكلمات: (2 مرّة): {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، حصون؛ (1 مرّة): الجلاء، لينة، أوجفتم، ركاب، دولة، خصاصة.
أكثر سورة تكرر فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: أفاء 2 مرة.
تكررت فيها الكلمات التالية ومشتقاتها: رسول 7 مرّات، نصر 5 مرات؛ (4 مرات): آمن، كفر 4؛ (3 مرّات): سبح، اتقوا، شديد، نار، أصحاب، ديار؛ (2 مرّة): شاق، هاجر، عقاب، جنة، أيدي، سماوات، أرض، عقاب، قبلهم، صدور، فاسق، كمثل؛ (1 مرّة): يوق، شح، نافق، بعدهم، يخزي، سلط، جزاء، ظالم.
وتكرر الاسم العزيز أكثر ما ذكر في الشعراء 9 مرّت، لكن بالنسبة لعدد الآيات فأكثر ما تكرر في الحشر 3 مرّات، وكذلك الرحيم 9 مرات في الشعراء 2 مرة الحشر.
انظر تحت مزيد من التفصيل عن اسم الله العزيز والحكيم (059.8.3 و 059.8.4).
059.2 فضائلها وما ورد عنها من الأثر:
أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر قال: قل سورة بني النضير. قال ابن حجر: كأنّه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أنّ المراد يوم القيامة وإنما المراد به هاهنا إخراج بني النضير.
059.3 وقت ومناسبة نزولها:
أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم في ناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من الأمتعة والأموال إلا الحلقة يعني السلاح فأنزل الله فيهم {سبّح لله ما في السموات وما في الأرض (1)} إلى قوله {لأوّل الحشر ما ظننتم أن يخرجوا (2)}، فقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى صالحهم على الجلاء وأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب ذلك عليهم، ولولا ذلك لعذبهم الله في الدنيا بالقتل والسبي، وأما قوله {لأول الحشر} فكان جلاؤهم ذلك أول حشر في الدنيا إلى الشام.
059.4 مقصد السورة:
059.4.1- مقصدها: تنزيه الله تعالى نفسه لا إله إلا هو العزيز الحكيم: نزّه وينزّه الله سبحانه ما في السماوات وما في الأرض عن قول الكافرين، وأن الكون كلّه ينزهه، وأنه يجب على الناس (المكلفين) أن يسبحوه وينزهوه لأنه يستحق ذلك بجلاله وكماله وأسمائه الحسنى، فمن كان يريد العزة والسلامة فليطلبها بطاعة الله، فإن طلبها من غير الله ذلّ وخسر. وباختصار فإن مصلحة الإنسان هي في الطاعة وفي أن ينزّه الله مختاراً فيفلح في الدنيا ويفوز في الآخرة، فإن عصى وخالف حشر وعذّب في الدنيا وهو في الآخرة من أصحاب النار. قررت بذلك السورة بذكر أسماء الله الحسنى وكمال صفاته، وأمرت به وأثبتته بسرد القصص والأمثلة.
ركزت السورة على أنه لا شيء مخلوق قائم بذاته إلا بإذن الله العزيز الحكيم، وقد تكررت فيها {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مرتين، بالإضافة إلى 20 من أسمائه الحسنى. وهذه الأسماء تشير إلى صفات الكمال والتنزيه عن كل نقص أو عيب، من العزة في الملك، والعلم والخبرة والحكمة في تصريف شؤونه، فهو الخالق، البارئ، المصور يلزم مخلوقاته على الطاعة بالترغيب رأفة وسلام ورحمة، وبالترهيب فهو مهيمن أي رقيب على كل خلقه بأعمالهم، جبار، متكبر، لا إله الا هو المعبود بحق، لا تملك المخلوقات إلا الإذعان له وتسبيحه. لذلك لم تتكرر الأسماء السلام، المؤمن، المهيمن، الجبار، المتكبر، إلا في هذه السورة.
059.4.2- ومقصد السورة نجده في الآية الأولى بقوله تعالى: {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم (1)} وفي الآية الأخيرة بقوله تعالى: {يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (24)}. وسنجد أن مقصد السورة وموضوعاتها في وحدة موضوعية واحدة هي تنزيه السماوات والأرض لله مع دعوة المؤمنين للإيمان والتقوى والخشوع وذكره وتدبر أسمائه وصفاته لأنه:
059.4.2.1- العزيز: أي بكمال صفاته وأسمائه الحسنى، ليس كمثله شيء بل هو وحده العزيز، وكل الكائنات خاضعة لعظمته منقادة لإرادته.
059.4.2.2- الحكيم: اي في صنعه وتدبيره خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، ثمّ شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدوه، لإن عبادته أعظم نعمة، فلا تصلح أمور الدنيا والآخرة إلا بها.
059.4.3- الإنسان مخيّر في أن يسلك أو لا يسلك هذا الطريق المستقيم الذي فيه صلاح الدنيا، ثم هو محاسب على مقدار التزامه، وسوف توزن عليه أعماله، ويجزيهم ربهم أيهم أحسن عملاً، المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه. صحيح أن الإنسان مخيّر، لكنه اختيار امتحان وابتلاء، والأصلح له أن يختار ما اختاره له الله، إن كان عاقلاً عليه أن يختار ما تفعله جميع الخلائق جبراً، وهو تسبح الله وتنزيهه لكي ينال رضى الله العزيز الحكيم، وإن اختار المخالفة فقد اختار ما هو ضد مصلحته ومصلحة ما حوله، أي اختار الفساد وما لا تصلح به الحياة، فشقي وأشقى غيره جهلاً لأنه لم يعقل الصواب.
059.4.4- والقصّة في السورة تبين عظيم الذل والخسران لمن خالف أمر الله ورسوله، وفيها تحذير لكلّ الناس بأن ينتبهوا لنهاية بني النضير: وهم قبيلة كبيرة عددهم كعدد المسلمين مع الفرق الكبير في الثروة والممتلكات وآلات الحرب التي يملكونها والحصون المحصّنة التي أعدّوها لتحميهم. مع هذا فلم يصمدوا أمام حصار المسلمين لهم سوى أيام قليلة، فإذا بهم حتى قبل أن يقتل أو يجرح منهم أحد يستسلمون ويقبلون بالعقاب الذي أوقعه عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلاء عن ديارهم. أخرجهم الله بالرعب الذي قذفه في قلوبهم، ففتحوا حصونهم بأيديهم، وليس بقوّة المسلمين {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله فإن الله شديد العقاب (4)}. ولأن هذه أوّل حادثة يغنم فيها المسلمون ديار عدوهم المهزوم وممتلكاتهم، فالآيات تبين كيفيّة التصرّف بها. وفيها الحث على الإيثار واتقاء البخل.
059.4.5- وقال الإمام البقاعي: مقصودها بيان ما دل عليه آخر المجادلة من التنزه عن شوائب النقص بإثبات القدرة الشاملة بدليل شهودي على أنه يغلب هو ورسله، ومن حاده في الأذلين، لأنه قوي عزيز، المستلزمة للعلم التام المستلزم الحكمة البالغة المستلزمة – للحشر المظهر لفلاح المفلح وخسار الخاسر على وجه الثبات الكاشف أتم كشف لجميع صفات الكمال، وأدل ما فيها على ذلك تأمل قصة بني النضير المعلم بأول الحشر المؤذن بالحشر الحقيقي بالقدرة عليه بعد إطباق الولي والعدو على ظن أنه لا يكون، فلذا سميت بالحشر وببني النضير لأنه سبحانه وتعالى حشرهم بقدرته من المدينة الشريفة إلى خيبر والشام والحيرة ثم حشرهم وغيرهم من اليهود الحشر الثاني من خيبر إلى الشام الذي هو آية الحشر الأعظم إلى أرض الحشر لقهر هذا النبي الكريم أهل الكتاب المدعين لأنهم أفضل الناس وأنهم مؤيدون بما لهم من الدين الذي أصله قويم بما لوحت به الحديد كما قهر أهل الأوثان الذين هم عالمون بأنهم بدلوا الدين الصحيح فثبت – بظهور دينه على كل دين على حد سواء كما وعد به سبحانه صدقه في كل ما جاء به بعد التوحيد – الإيمان بالبعث الآخر لأنه محط الحكمة وموضع إظهار النقمة والرحمة.
059.5 ملخص موضوع السورة:
نزلت في السنة الرابعة للهجرة بمناسبة إجلاء بني النضير الذين نقضوا عهدهم وتآمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلّم. واستهلّت بتنزيهه تعالى لنفسه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)}، وختمت به. وهي أكثر سورة باعتبار عدد آياتها تكرر فيها اسم {العزيز}: وهو الذي عزّ كل شيء فقهره وغلبه، والعزيز من أكثر الأسماء وروداً في القرآن (89 مرّة)، وأكثر ما اقترن به الحكيم (47 مرّة)، فسبحانه عزّ فحكم. وهي الوحيدة التي ذكر فيها {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} مرّتين، وتكرر لفظ الجلالة {الله} سبعاً وعشرين (27) مرّة، ومثلها أسماء ربوبيّته وكماله وعزّته وعلمه إلخ منها: السلام، المؤمن، المهيمن، الجبار، المتكبر لم تذكر إلا هنا. ووحدها بدأت وختمت: بتسبيحه وتنزيهه سبحانه ليس كمثله شيء وكل الكائنات محتاجة إليه، هو خالقها لا حول لها خاضعة له منفذة لإرادته وتسبّحه {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}.
و”الحشر” من أسماء يوم القيامة، ويشبهه ما حصل لبني النضير وإخراجهم من حصونهم وأموالهم بسبب حربهم لله ورسوله ليكونوا عبرة {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)}. وهم قبيلة كبيرة عددهم كعدد المسلمين مع الفرق الكبير في الثروة والممتلكات وآلات الحرب التي يملكونها والحصون المحصّنة التي أعدّوها لتحميهم، فإذا بهم يستسلمون دون قتال ويقبلون بالجلاء عن ديارهم، أخرجهم الله بالرعب الذي قذفه في قلوبهم، ففتحوا حصونهم للمسلمين بأيديهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}. ولأن هذه أوّل حادثة يغنم فيها المسلمون ديار عدوهم المهزوم وممتلكاتهم، فالآيات تبين كيفيّة التصرّف بها، وفيها الحث على الإيثار واتقاء البخل، وقد تضمنت أربع مجموعات من الآيات، كما يلي:
(الآيات 1-6) الإعلام بأن كل المخلوقات تسبح الله وتعظّم أسماءه وتنزهه عن كل عيب ونقص، ثم قصّة إخراج بني النضير من ديارهم وقد ظنّوا أن حصونهم تدفع عنهم بأس الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وألقى في قلوبهم الرعب يُخْربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ولهم في الآخرة عذاب النار. فاتعظوا يا أصحاب البصائر، ذلك لأنهم خالفوا أمر الله ونهيه وحاربوا رسوله، وبما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلّم من أموالهم دون قتال {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)}.
(الآيات 7-17) أخذ الله المال من المشركين الذين يحتكرونه وأفاء به على المؤمنين الذين ينفقونه على الفقراء والمساكين، حتى لا يكون دولة بين الأغنياء. والإعلام بأن الناس ثلاثة فئات: مؤمنون يحبون إخوانهم المؤمنين ويؤثرونهم على أنفسهم ويدعون ربهم لهم بالمغفرة، ومنافقون مخادعون يخافون المؤمنين ولا يخافون الله، وكفار لا يقاتلون إلا في قرى محصنة، وعداوتهم فيما بينهم شديدة فهم لا يعقلون، مثلهم ومثل الذين من قبلهم كمثل الشيطان حين دعا الإنسان إلى الكفر، فلما كفر قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها جزاء ظلمهم.
(الآيات 18-21) أمر المؤمنين بتقوى الله، فهو سبحانه خبير بما يعملون، وألا يكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم بخروجهم عن طاعة الله، فإنه لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة الذين فازوا. ثم ضرب مثلاً بأنه لو خاطب جبلاً بالقرآن لتصدّع الجبل من خشية الله {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}.
(الآيات 22-24) ختمت بثلاث آيات كريمة ذكر فيها التوحيد والتسبيح مرّتين، مع أسماء عظيمة عزيزة حكيمة وهي: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)}، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبّر الخالق البارئ المصوّر {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}.
ولمّا هزم الكفار وأخذت أموالهم بغير قتال، وقد حسبوا حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل أنفسهم {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ (2)}، ولمّا ختم بالأسماء التي يعرف بها صنع الله، وبالتسبيح، فاتعظوا يا ذوي العقول والبصائر وافهموا: فمن كان يريد العزة والسلامة والفوز فليطلبها بتقوى الله وطاعته واتباع دينه، فإن خالف وعصى ذلّ وعذب في الدنيا وخسر في الآخرة. والحشر واحدة من عشر سور مدنيّة متتالية ومتناسبة، من الحديد إلى التحريم، افتتحت خمسة منها بالتسبيح. وقد جاء التسبيح في القرآن في سبعة وثمانين (87) موضعاً، وافتتحت به سبع سور سميت (المسبحات) وهي: الإسراء والحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن والأعلى، وختمت به أربع سور هي: الحجر والطور والواقعة والحاقة.
نسألك اللهم فهماً لكتابك وعملاً بهديك وخشية منك ونصراً وتوفيقاً من عندك.
059.6 بعض التفاصيل عن موضوع السورة:
موضوعاتها باعتبار ترتيب آياتها:
059.6.1- الآية (1) ابتدأت الآية بذكر مقصد السورة وهو أن كل المخلوقات تنزه الله الذي لا إله إلا هو وتعظّم صفاته وأسمائه. والآيات (22-24) بعد أن تذكر أسماء الله الحسنى وصفاته العظمى الكاملة تختم السورة بتسبيحه وتنزيهه سبحانه عن كل عيب ونقص.
أي أن سورة الحشر بدئت بقوله تعالى: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} وختمت بقوله تعالى: {يسبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم}. ومنه نجد أن مقصد السورة وموضوعاتها في وحدة موضوعية واحدة هي تنزيه السماوات والأرض لله لعظيم أسمائه وكمال صفاته.
059.6.2- الآيات (2-6) ولتسهيل فهم مقصد السورة ذكرت قصّة حادثة حقيقية تثبت كيف أن الله منزّه عن كل نقص، كامل الصفات، شديد العقاب لمن خالف أمره، وهو على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء: وتدور القصة حول إخراج يهود بني النضير الذين كفروا من ديارهم أذلاء رغم شدة بأسهم وقوة منعتهم وظن المؤمنين بأنهم لن يخرجوا، وقد ظن المشركون أن حصونهم تدفع عنهم بأس الله، فأتاهم الله من حيث لم يخطر لهم ببال، وألقى في قلوبهم الخوف والفزع الشديد، يُخْربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاتعظوا يا أصحاب البصائر السليمة والعقول الراجحة بما جرى لهم، وبما أفاءه الله على رسوله من أموالهم دون قتال. وفيما يلي المواعظ والعبر المستفادة من القصة:
059.6.2.1- آية (2) ظن اليهود أن حصونهم تدفع عنهم بأس الله، ولا يقدر عليها أحد، فأتاهم الله من حيث لم يخطر لهم ببال، وألقى في قلوبهم الخوف والفزع الشديد، يُخْربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين.
059.6.2.2- الآيات (3، 4) ذلك الذي أصاب اليهود في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة، كان لأنهم خالفوا أمر الله وأمر رسوله، والله شديد العقاب لمن يخالفه.
059.6.2.3- الآيات (5، 6) بإذن الله وأمره يسلط المطيعين ليعزهم، على الكافرين المخالفين ليذلهم، ويخيفهم بقطع نخيلهم، ويغنموا أموالهم بغير قتال والله على كل شيء قدير.
059.6.3- الآيات (7-8) حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء، أخذه الله من المشركين الذين يحتكرونه وأفاء الله به على المؤمنين الذين ينفقونه على الفقراء والمساكين. فالمال هو مال الله ابتلى به الناس لكي يقوموا بأداء حقه ويختبرهم بما هم فاعلون فيه.
059.6.4- الآيات (9-14) الناس ثلاثة أصناف الأول يحب إخوانه المؤمنين ويؤثرونهم على أنفسهم ويدعون ربهم لهم بالمغفرة. والثاني كاذب منافق يتخندق خلف كلامه الكاذب وخداع الآخرين يخاف من المؤمنين ولا يخاف من الله. والثالث الكفار لا يواجهون المؤمنين بقتال إلا في قرى محصنة بالأسوار، وعداوتهم فيما بينهم شديدة فهم لا يعقلون أمر الله، يريدون أن يصدوا الناس عن الإيمان هم يعلمون أنهم على باطل، ويتحصنون وراء الجدر خوفاً وفراراً من الحق الذي هزمهم.
059.6.5- الآيات (15-17) مثل اليهود فيما حلَّ بهم من عقوبة الله كمثل الذين من قبلهم قريباً (كفار قريش يوم “بدر”، ويهود بني قينقاع) ذاقوا سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم. ومثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال ووَعْدهم بالنصر، كمثل الشيطان حين دعا الإنسان إلى الكفر، فلما كفر قال: إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبة أمر الشيطان والإنسان الذي أطاعه فكفر أنهما في النار خالدين فيها جزاء ظلمهم.
059.6.6- الآيات (18-20) الخلاصة والدرس المستفاد من الآيات السابقة أن الله منزه عن كل عيب، يجازي الناس بما كسبت أيديهم وعلى مقدار التزامهم بالحق وسيرهم على الصراط المستقيم. لذلك فهو هنا يأمر المؤمنين بأن يخافوا الله ويحذروا عقابه، فهو سبحانه خبير بما يعملون، مجازيهم قدر أعمالهم. ويأمرهم أن لا يكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم بخروجهم عن طاعة الله، فأضاعوها في الدنيا وفي الآخرة، ولا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة الذين فازوا.
059.6.7- الآية (21) لو خاطب الله بهذا القرآن جبلاً أصم لذاب من شدة ما فيه من الوعيد والتخويف، وذلك أن الجبال والصخور وكل ما في السماوات والأرض من جمادات ونباتات ناهيك عن الأحياء تسبح لله وقد جعل فيها إدراكاً ومعرفة في الله عز وجل وتخاف منه. وهذا يدل على أن قلب الإنسان قد يقسوا ويكون أشد قسوة من الجبال فلا يتفكر ولا يتأثر بكلام الله سبحانه وتعالى.
059.6.8- الآيات (22-24) فيها أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وحده الرحمن الرحيم لا شريك له عزيز حكيم: الآية (22) تقرر أنه وحده الرحمن الرحيم، إله الرحمة: لا إله إلا الله، وحده عالم السر والعلن، هو الرحمن بكل شيء، الرحيم بكل مخلوقاته. والآية (23) تقرر بأنه لا شريك له، لا إله إلا هو، كامل الصفات: هو الملك القدوس السلام المؤمن، ويقابلها المهيمن العزيز الجبار المتكبّر. تنزَّه الله تعالى عن كل ما يشركونه به في عبادته. والآية (24) هو الله الخالق، المنشئ على مقتضى حكمته، المصوِّر خلقه كيف يشاء، له سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العلى، يسبِّح له جميع ما في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم في تدبيره أمور خلقه.
059.7 الشكل العام وسياق السورة:
059.7.1- إسم السورة هو أحد أسماء يوم القيامة. سميت بهذا الاسم لأن الله الذي حشر اليهود وجمعهم خارج المدينة، هو الذي يحشر الناس ويجمعهم يوم القيامة للحساب. ويشير إلى أن الكفار حشروا وعذبوا في الدنيا قبل الحشر النهائي والعذاب المقيم في النار.
الحشر: هو الذي حصل لبني النضير وإخراجهم من حصونهم بسبب حربهم لله ورسوله، وأنه لا مفرّ من جبروت الله ولا يستعصي عليه شيء. أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، ففتحوا حصونهم بأيديهم، وقد حسبوا حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل أنفسهم. أتاهم من داخل أنفسهم لا من داخل حصونهم {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب (2)}، فإن في هذا معتبراً يعرف به صنع الله {فاعتبروا يا أولي الأبصار (2)}.
059.7.2- سياق السورة باعتبار موضوعات آياتها والقصص والأمثال الموجودة فيها:
باعتبار القصص وموضوعات آيات السورة يمكن تقسيمها إلى نصفين متساويين:
– نصف فيه قصّة حقيقية تبين قدرة الله على هزيمة الكافرين بدون قتال، ووقوف الله مع المؤمنين ونصرهم على الكافرين وأخذهم أموالهم، وفيه إشارة إلى هزيمتين للكفار قبلها، وإشارة إلى تخلي المنافقين والشيطان عمن سمع كلامهم وأطاعهم. الآيات (2-9، 15-17، 21) = 12 آية
– والنصف الآخر فيه بيان أن كل المخلوقات تنزه الله الذي لا إله إلا هو وتعظّم صفاته وأسمائه، وبيان أصناف الناس بالنسبة للإيمان، وبيان أن مقصد خلق الإنسان هو الإيمان بالله وصفاته وأسماءه ووعده، وذكر أسماء الله وصفاته ووجوب تسبيحه. الآيات (1، 10-14، 18-20، 22-24) = 12 آية
059.7.2.1- النصف الأوّل: قصّة وعبرة فيها أن أطع الله العزيز الحكيم لكي ينصرك ويعزّك فتفلح وتفوز، ولا تعصيه وتطلب العزة من غيره فتذل وتخيب وتخسر. الآيات (2-9، 15-17، 21) = 12 آية
059.7.2.1.1- الآيات (2-9) قصة حقيقة تشرح وتسهل فهم مقصد السورة وهو وجوب تنزيه الله تعالى لأن الله عزيز في ملكه وقدرته وكمال صفاته حكيم في تدبير أمور مخلوقاته بما فيه صلاحهم جميعاً، سلّط عباده المؤمنين المطيعين المتحابين فيه، ونصرهم على أعدائهم الكافرين المخالفين المختلفين (قلوبهم شتى)، بدون قتال ليخزيهم ويعذبهم بسوء أعمالهم، وجعل أموالهم وأملاكهم فيئاً يقسم بين المؤمنين المحتاجين والمهاجرين في سبيل الله الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم. والأنصار يحبون المهاجرين ولا يحسدونهم على ما أعطوا من الفيء ويقدمونهم على أنفسهم ولو كان بهم حاجة وفقر أولئك هم الفائزون. 8 آيات = ثلث عدد آيات السورة.
059.7.2.1.2- الآيات (15-17) أمثال تبين أن سبب كفر هؤلاء أولاً: أنهم لا يستخدمون عقولهم فهم لا يعقلون، كمثل كفار قريش يوم بدر، ويهود بني قينقاع الذين أجلوا عن المدينة، حيث ذاقوا سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم موجع. وثانياً: مخالفة المنافقين وتعديهم وظلمهم أنفسهم وغيرهم، مثل تحالفهم مع اليهود وإغراءهم على القتال ثم خذلانهم، وهو كمثل الشيطان حين قال للإنسان اكفر فلما كفر قال: إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبة أمر الشيطان والإنسان الذي أطاعه، أنهما في النار.
059.7.2.1.3- الآية (21) مثال آخر عن قساوة قلب الإنسان وعدم تدبره لكلام الله في القرآن، الذي لو خاطب الله به الجبل الأصم لذاب من شدة ما فيه من الوعيد والتخويف، لكن قلب الإنسان قد يقسوا ويكون أشد من الجبال فلا يتفكر ولا يتأثر بكلام الله سبحانه وتعالى.
059.7.2.2- النصف الثاني: بيان أن مقصد خلق الإنسان هو الإيمان بالله وأسماءه وتصديق وعده ووعيده، وبيان أصناف الناس بالنسبة للإيمان والتصديق: الآيات (1، 10-14، 18-20، 22-24) = 12 آية
059.7.2.2.1- الآية (1) بيان أن كل المخلوقات تنزه الله الذي لا إله إلا هو وتعظّم صفاته وأسمائه.
059.7.2.2.2- الآيات (10-14) بيان أصناف الناس وأنهم ثلاثة (وقد جاء وصف حال الفئات الثلاث على شكل قصص أيضاً): الأول آمن بالله ويحب إخوانه المؤمنين ويدعون ربهم بالمغفرة لهم ولإخوانهم وألا يجعل في قلوبهم حسداً وحقداً لأحد من أهل الإيمان. والثاني كاذب منافق ويخدع الآخرين ويخاف من المؤمنين ولا يخاف من الله. والثالث الكفار لا يواجهون المؤمنين بقتال إلا في قرى محصنة خوفاً وفراراً من الحق، وعداوتهم فيما بينهم شديدة فهم لا يعقلون أمر الله.
059.7.2.2.3- الآيات (18-20) هذه الآيات تلخص أن الغاية من خلق الناس هو أن الله خلق ليعبد وأن الفلاح والفوز بطاعته وأن الناس مخيرون ومحاسبون. بطريقة أخرى: أي أن الله تعالى يأمر الناس بأن يتقوا الله بأن يعملوا لآخرتهم وأن يتقوه بأن ينزهوه ويعظموا صفاته ويطيعوه فهو خبير بما يعملون فهم لا يملكون أن يخفوا أفعالهم عنه، ولا يكونوا كالذين تركوا أداء حق الله وخالفوا ما أوجبه عليهم، فأنساهم بسبب ذلك أنفسهم وما ينجيهم من عذاب يوم القيامة، فإنه لا يستوي أصحاب النار المعذبون، وأصحاب الجنة المنعمون الفائزون.
059.7.2.2.4- الآيات (22-24) فيها أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وحده الرحمن الرحيم لا شريك له عزيز حكيم كما تم بيانه أعلاه:
059.7.2.2.4.1- الآية (22) تقرر أنه وحده الرحمن الرحيم، إله الرحمة: لا إله إلا الله، وحده عالم السر والعلن، هو الرحمن بكل شيء، الرحيم بكل مخلوقاته.
059.7.2.2.4.2- الآية (23) تقرر بأنه لا شريك له، لا إله إلا هو، كامل الصفات: هو الملك القدوس السلام المؤمن، ويقابلها المهيمن العزيز الجبار المتكبّر. تنزَّه الله تعالى عن كل ما يشركونه به في عبادته.
059.7.2.2.4.3- الآية (24) هو الله الخالق، المنشئ على مقتضى حكمته، المصوِّر خلقه كيف يشاء، له سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العلى، يسبِّح له جميع ما في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم في تدبيره أمور خلقه.
059.7.3- الإشارة إلى عدد آيات القصص والأمثال والآيات وباقي الموضوعات في السورة:
059.7.3.1- آيات القصص (2-14) = 13 آية
059.7.3.2- آيات الأمثال (15-17، 21) = 4 آيات
059.7.3.3- الآيات التي فيها مقصد السورة وموضوعاتها: (1، 18-20، 22-24) = 7 آيات
059.7.4- سياق السورة باعتبار ما جاء فيها من تشريعات:
تكرر اسم الله الحكيم مرّتين في الآيتين الأولى والأخيرة، شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدوه، لأن معرفة أسمائه وعبادته نعمة عظيمة لو لم يكن في وشرعه إلا هذه النعمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة والنار، لكانت كافية شافية.
وكشأن سائر السور المدنية اعتنت السورة بجانب التشريع، فهي تتطرّق لبعض أحكام الغزوات والجهاد والفيء والغنائم. وبرهنت بالقصّص والأمثلة على حكمة الله في جعل هذه التشريعات التي فيها صلاح البشريّة، وتستوجب أن يسبحوه وينزهوه عن أي نقص أو عيب، كما يلي:
059.7.4.1- إخراج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم: والخذلان والذل الذي حصل للكفار جرّاء احتماءهم بالحصون وتصديقهم كلام المنافقين ووسوسة الشياطين بأنهم سيناصرونهم إذا حاربوا الله ورسوله. ثم ما أفاءه الله على رسوله من أموال المشركين، يُصْرف في مصالح المسلمين، وذي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
059.7.4.2- أمرت بتوزيع الفيء على مستحقيه من المهاجرين (الذين سبق وأن ضحّوا بأموالهم وديارهم في سبيل الله حين تركوها في مكّة مهاجرين إلى المدينة) ليستغنوا بها عن أموال الأنصار، الذين استقبلوهم مرحبين بهم إخوة في الله يقاسمونهم أموالهم وبيوتهم. فلمّا أفاء الله على رسوله، قسّم الفيء على المهاجرين وتقبل الأنصار لتلك القسمة. وكذلك قبل المهاجرون والأنصار أن يكونوا متحابين ومجاهدين في سبيل الله مطيعين لله كما أمرهم.
059.7.4.3- إنفاق المال وعدم ابقاءه دولة بين الأغنياء، وكلها تسير في نفس السياق والمقصد الذي يدعوا الناس إلى طاعة لله وحده لا شريك له ففيه وحده السعادة والفوز وتنزيه الله عن كل نقص وعيب لكمال صفاته وأسمائه التي أثبتت السورة أنه عزيز لا ندّ له وحكيم في تدبير أمور خلقه يزيل الظلم وينشر العدل ويوزع الفيء على مستحقيه بعد أن كان مخزناً عند أغنياء اليهود يستخدمونه في الظلم والعدوان. وأثبتت قدرته على نصر المؤمنين على أعدائهم حتى بدون قتال.
059.8 تناسب وتناسق السورة مع غيرها من السور:
059.8.1- قال الإمام جلال الدين السيوطي: آخر سورة المجادلة نزل فيمن قتل أقرباؤه من الصحابة يوم بدر {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله…(22)}. وأول الحشر نازل في غزوة بني النضير وهي عقبها وذلك نوع من المناسبة والربط. وفي آخر المجادلة: {كتب اللَه لأَغلبن أَنا ورسُلي (21)} وفي أول الحشر: {فأَتاهم اللَهُ مِن حيثُ لم يحتسبوا وقذفَ في قلوبهم الرعب (2)}. وفي آخر المجادلة ذكر من حاد اللَه ورسوله وفي أَول هذه ذكر من شاق اللَه ورسوله.
059.8.2- وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لا خفاء باتصال آيها بما تأخر من آي سورة المجادلة، ألا ترى أن قوله تعالى {ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم (14)} المجادلة، إنما يراد به يهود فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم ثم قال في آخر السورة {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله (22)} المجادلة، فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين عنهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبيح ما انطووا عليه وشنيع ما ارتكبوه، فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر أتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم وإخراجهم من ديارهم وأموالهم وتمكين المسلمين منهم، جرياً على ما تقدم الإيماء إليه سوء مرتكبهم، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه، وتناسج الكلام، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم {أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل (60)} المائدة، وقال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78)} المائدة، فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم، وقد فصل اعتداءهم أيضاً في مواضع، فلما كان الغضب مشيراً إلى ما ذكر من عظيم الشرك، أتبعه سبحانه وتعالى تنزيه نفسه جل وتعالى فقال: {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض (1)} الحشر، وإنما يرد مثله من التنزيه أثر جريمة تقع من العباد وعظيمة يرتكبونها وتأمل ذلك حيث وقع، ثم عاد الكلام إلى الإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل بما تقدم، ثم تناسجت الآي – انتهى.
059.8.3- اسم الله (العزيز) في القرآن:
من أكثر الأسماء وروداً في كتاب الله عز وجل: العزيز، وأكثر ما اقترن به: الحكيم، فسبحان الله العزيز الحكيم، عز، فحكم. والعزيز في اللغة هو: الذي قل وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه والنيل منه، وهو عكس الذليل. واقترن اسم الله العزيز بأسماء أخرى: فقد ورد اسم العزيز في القرآن 89 مرة، واقترن اسم العزيز باثنا عشر اسماً حسنى، هي:
الحكيم 47 مرة: في سورة البقرة منها 6 مرات، وآل عمران 4 مرّات، والأنفال 4 مرات، والنساء 3 مرات؛ ومرتين في المائدة والتوبة والعنكبوت ولقمان والجاثية والفتح والحشر والجمعة؛ ومرة في إبراهيم والنحل والنمل والروم وسبأ وفاطر والزمر وغافر والشورى والأحقاف والحديد والممتحنة والصف والتغابن. واقترن بالرحيم 13 مرة: استأثرت سورة الشعراء بتسع منها، ومرة في كل من الروم والسجدة ويس والدخان وكلها سور الحروف المقطعة. واقترن بالقوي 7 مرّات: مرتين في الحج، ومرّة في كل من الحديد والمجادلة وهود والأحزاب والشورى. واقترن بالعليم 6 مرّات: في الأنعام والنمل ويس وغافر وفصلت والزخرف. واقترن بذو انتقام 4 مرّات: في آل عمران والمائدة وابراهيم والزمر. واقترن بالحميد 3 مرات: في ابراهيم وسبأ والبروج واقترن بالغفار 3 مرات: في ص والزمر وغافر. واقترن مرتين بالغفور: في الملك وفاطر. ومرّة بالجبار في الحشر، والمقتدر في القمر، والوهاب في ص، والكريم في الدخان. وجاء اسم العزيز متقدما في الترتيب على جميع الأسماء الأخرى في كافة الآيات ما عدا اسم القوي جاء متقدما في الترتيب على الاسم العزيز في كافة الآيات السبعة التي اقترن بها.
ومن اقتران هذه الصفات نعلم أن الله العزيز بكمال صفاته الواحد الأحد الصمد الذي ليس كمثله شيء، وأن كل الكائنات ناقصة محتاجة إليه، هو خالقها لا حول لها خاضعة له منفذة لإرادته. ومع صفة العزّة هذه القاهرة القادرة اختار لنفسه دائماً الحكمة والعلم والرحمة والحمد والمغفرة والكرم والوهاب في خلق وتدبير شؤون مخلوقاته، واختار أسماء الاقتدار والجبروت والانتقام لمعاقبة من يخالف أمره، واختار اسم القوي قبل العزيز فقط في حالة نصره لرسله والمؤمنين ودفاعه عنهم ورزقه لهم.
059.8.4- اسم الله (الحكيم) في القرآن:
ورد اسم حكيم والحكيم في القرآن الكريم كإسم من أسماء الله الحسنى 91 مرة، واقترن الحكيم بسبعة أسماء حسنى أخرى هي:
العزيز الحكيم 47 مرّة؛ العليم الحكيم 29 مرّة، الحكيم العليم 7 مرات، بمجموع 36 مرّة؛ الحكيم الخبير 4 مرّات؛ ومرة واحدة مع كل من: تواب وحميد وعلي وواسعاً.
جاء اسم العزيز متقدما في الترتيب على الاسم الحكيم في كافة الآيات السبعة وأربعون، ولم يتقدم ترتيب الحكيم على العزيز ولا لمرة واحدة. أما اسم الحكيم مع اسم العليم فقد تقدم ترتيبه معه تسع وعشرون مرة وتأخر عنه سبع مرات. أما الحكيم مع الخبير فقد تقدمه في كل الحالات الأربعة. وجاءت صفة: حكيم مرّة واحدة مع: تواب حكيم، حكيم حميد، علي حكيم، واسعاً حكيماً. وهذه التقديمات والتأخيرات يمكن فهم أسرارها حسب موقع الاسم والصفة في سياق الآية، أي أنه مثلاً في اقتران وتقديم العزيز على الحكيم يظهر لعباده أنه مع قدرته وقهره لكل شيء بعزته وباسمه العزيز اختار لنفسه الحكمة واسمه الحكيم في خلق وتدبير شؤون مخلوقاته، وهكذا.
هو الله الحكيم: الموصوف بكمال الحكمة والحكم بين المخلوقات، حكمة مقترنة بالعزة والخبرة والتوب والعلم والحمد والسعة والعلى. فالحكيم هو واسع العلم والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة، يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره. وحكمته نوعان:
أحدهما: الحكمة في خلقه، فإنه خلق الخلق بالحق ومشتملاً على الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصاً، ولا فطوراً، وقد تحدى عباده وأمرهم أن ينظروا ويكرروا النظر والتأمل هل يجدون في خلقه خللا أو نقصاً، وأنه لا بد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته.
النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره، فإنه الله شرع الشرائع، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل ليعرفه العباد ويعبدوه، فأن معرفة الله وعبادته وحده لا شريك له أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية والنعيم الدائم في الآخرة. ومن حكمة الشرع الإسلامي أن فيه صلاح القلوب، والأخلاق، والأعمال، والاستقامة على الصراط المستقيم، وفيه صلاح الدنيا، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحاً حقيقياً إلا بالدين الحق.
الله هو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، والفرق بين أحكام القدر وأحكام الشرع أن القدر هو ما قدّره سبحانه من الخير والشر لكل مخلوقاته، وهو من منظور الناس خير أو شر، لكنه كلّه خير من الله، وبما يحقق مصلحة المخلوقات، وتسخير بعضهم لبعض، بتفاوت الدرجات، والابتلاء، وغيره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ (165)} الأنعام، (انظر أيضاً حول موضوع القضاء والقدر: في الفصل رقم 006.6.4 من سورة الأنعام في كتاب تسهيل فهم وتدبّر سور القرآن). وأحكام الله الشرعية، هي دين الله الإسلام جعله الله ليختبر به الناس، يقيم عليهم الحجّة البالغة بأعمالهم، فيُعلم منهم الكافر من المؤمن، ثمّ يفاضل بينهم بالدرجات: من إسلام ثم إيمان ثم إحسان ثم محبة الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (54)} المائدة، وغيرها من الآيات التي تدل على أن الله جعل الشرع والدين ليقيم الحجة على الناس بأعمالهم ويفاضل بينهم. والإنسان لا يخلو منهما معاً، فسواء اتبع الإنسان الحكم الشرعي (وهو اتباع دين الله الإسلام) أو لم يتبع فقد اجتمع على الفريقين المؤمن والكافر الحكمان، القدري والشرعي، وترتب على فعل كلّ منهما جزاء ونتائج أفعاله واختياره بالأسباب التي جعلها الله وقدّرها، فكل ما يفعلوه من خير أو شرّ فهو واقع بقضاء الله وقدره، وعلى كلّ عامل يقع جزاء عمله، بالمقادير القدرية والشرعيّة الثابتة، وبالأسباب وفي الدارين، الدنيا والآخرة، ولا يخرج أحدهم من قدر الله إلا إلى قدر الله، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} الزلزلة. انظر كذلك تسهيل فهم وتدبّر القرآن: 7.3.7- تكامل الأسباب المادية والمعنوية.